ج1.و2.الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى أبو العباس أحمد بن خالد بن محمد الناصري
ج 1.الاستقصا لأخبار دول
المغرب الأقصى
أبو العباس أحمد بن خالد بن محمد الناصري
سنة الولادة 22/ذو الحجة/ 1250هـ /1835م/ سنة الوفاة
كتاب الاستقصا لأخبار دول
المغرب الأقصى الشيخ أبو العباس الناصري 1
____________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الملك المعبود الرؤوف الرحيم الودود المخرج للخلق من ظلمة العدم إلى نور
الوجود الفاتح عليهم بمعرفته والتحقق بوحدانيته كل باب مسدود الدال لهم على باهر
حكمته وعظيم قدرته بالمعنى المعقول والحس المشهود فلا يرتاب في أنه الواحد القدير
العليم الخبير إلا الكفور الكنود خلق العباد وقدر آجالهم وأحصى أنفاسهم وأمالهم
وأوقفهم من شرعه على نهج سوي وحد محدود فمن وقف عنده وأطاع فقد فاز من ثمرة
الإيجاد بالمقصود ومن حاد عنه واستكبر فقد أورد نفسه الردى وبئس الورد المورود
نحمده تعالى على ما أسبغ من النعم البيض وكسا من البرود وأزاح من العلل ووقى من
النوب السود ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نتبوأ بها من الجنان
السدر المخضود
____________________
والطلح المنضود والظل الممدود
ونشهد أن سيدنا ونبينا ومولانا محمدا عبده ورسوله أكرم مبعوث وأشرف مولود صاحب
المقام المحمود واللواء المعقود والحوض المورود صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه
الذين هم في محافل السلم بدور وفي جحافل الحرب أسود ولهم في أتباعه ونصرته اليد
البيضاء والباع الممدود والدعاء لأمير المؤمنين مولانا الحسن ابن أمير المؤمنين
مولانا محمد ابن أمير المؤمنين مولانا عبد الرحمن كوكب السعود ومنبع الكرم والجود
والمنير بطلعته الغراء وإمامته البيضاء الأغوار والنجود لا زالت به ملة الإسلام
بحول الله في صعود تردي الكفر وتنفي البغي وتذود وتصول على الضلال وتسود آمين وبعد
فيقول مؤلفه أحمد بن خالد الناصري السلاوي عفا الله عنه هذا بعون الله كتاب
الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى كتاب جمعته لنفسي ولمن شاء الله من أبناء جنسي
ذكرت فيه دول هذا القطر المغربي من لدن الفتح الإسلامي إلى وقتنا هذا الذي هو آخر
القرن الثالث عشر سالكا فيما أنقله من ذلك سبيل الاختصار آتيا منه بما تسمو إليه
النفوس من حوادث الأعصار ملما بما لا بد منه من وفيات بعض الأئمة المقتدى بهم في
الدين متبركا أولا بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين متحريا من
القول أصحها ومن العبارات أفصحها والله تعالى المسؤول في بلوغ المأمول فمنه سبحانه
المنة والطول وبيده تعالى القوة والحول
____________________
مقدمة في فضل علم التاريخ
اعلم أن علم التاريخ من أجل العلوم قدرا وأرفعها منزلة وذكرا وأنفعها عائدة وذخرا
وكفاه شرفا أن الله تعالى شحن كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا
من خلفه من أخبار الأمم الماضية والقرون الخالية بما أفحم به أكابر أهل الكتاب
وأتى من ذلك بما لم يكن لهم في ظن ولا حساب ثم لم يكتف تعالى بذلك حتى امتن به على
نبيه الكريم وجعله من جملة ما أسداه إليه من الخير العميم فقال جل وعلا { تلك
القرى نقص عليك من أنبائها } وقال { وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به
فؤادك } وقال { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } وقد كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم كثيرا ما يحدث أصحابه بأخبار الأمم الذين قبلهم ويحكي من ذلك ما يشرح به
صدورهم ويقوي إيماناهم ويؤكد فضلهم وكتاب بدء الخلق من صحيح البخاري رحمه الله
كفيل بهذا الشأن وآت من القدر المهم منه ما يبرد غلة العطشان قال بعضهم احتج الله
تعالى في القرآن على أهل الكتابين بالتاريخ فقال تعالى { يا أهل الكتاب لم تحاجون
في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون } وحكى بدر الدين
القرافي رحمه الله إن الإمام الشافعي رضي الله عنه كان يقول ما معناه دأبت في
قراءة علم التاريخ كذا وكذا سنة وما قرأته إلا لأستعين به على الفقه
____________________
قلت معنى كلام الشافعي هذا أن علم التاريخ لما كان مطلعا على أحوال الأمم والأجيال
ومفصحا عن عوائد الملوك والأقيال ومبينا من أعراف الناس وأزيائهم ونحلهم وأديانهم
ما فيه عبرة لمن اعتبر وحكمة بالغة لمن تدبر وافتكر كان معينا على الفقه ولا بد
وذلك أن جل الأحكام الشرعية مبني على العرف وما كان مبنيا على العرف لا بد أن يطرد
باطراده وينعكس بانعكاسه ولهذا ترى فتاوي الفقهاء تختلف باختلاف الأعصار والأقطار
بل والأشخاص والأحوال وهذا السبب بعينه هو السر في اختلاف شرائع الرسل عليهم
الصلاة والسلام وتباينها حتى جاء موسى بشرع وعيسى بآخر ومحمد بسوى ذلك صلى الله
على جميعهم وسلم تم فائدة التاريخ ليست محصورة فيما ذكرناه بل له فوائد أخر جليلة
لو قيل بعدم حصرها ما بعد قال الجلال السيوطي رحمه الله من فوائد التاريخ واقعة
رئيس الرؤساء المشهورة مع اليهود ببغداد وحاصلها أنهم أظهروا رسما قديما يتضمن أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإسقاط الجزية عن يهود خيبر وفيه شهادة جماعة من
الصحابة منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فرفع الرسم إلى رئيس الرؤساء وعظمت
حيرة الناس في شأنه ثم عرض على الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي فتأمله وقال هذا
مزور فقيل له بم عرفته قال فيه شهادة معاوية وهو إنما أسلم عام الفتح سنة ثمان من
الهجرة وخيبر فتحت سنة سبع وفيه شهادة سعد بن معاذ وهو مات يوم بني قريظة وذلك قبل
فتح خيبر فسر الناس بذلك وزالت حيرتهم اه قال العلامة القادري في الأزهار الندية
وفي حدود صدر هذه المائة أعني المائة الحادية عشرة ظهر نحو هذا الكتاب المزور
بمعناه والرفع على خطوطه بتاريخ سبع وعشرين وسبعمائة
____________________
بالموحدة ثم ظهر أيضا بتاريخ
ست وثمانمائة ثم تعدد ظهوره مرارا آخرها سنة اثنتين وأربعين وألف مسمى فيه جماعة
ممن شهرتهم بالدين والعلم قاطعه بالتقول عليهم في ذلك انظر بقية كلامه
قلت وقد وقفت في بعض التقاييد المظنون بها الصحة على كلام للأديب أبي عبد الله
اليفرني المعروف بالصغير في هذا المعنى قال جرى بمجلس شيخنا قاضي الجماعة فلان
الفلاني ذكر علم التاريخ فقال إن علم التاريخ يضر جهله وتنفع معرفته لا كما قيل
إنه علم لا ينفع وجهالة لا تضر قال وانظر ما وقع في هذا الوقت في حدود عشر ومائة
ألف من أن نفرا من يهود فاس الجديد امتنعوا من أداء الجزية وأخرجوا ظهيرا قديما
مضمنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد لموسى بن حيي بن أخطب أخي صفية رضي الله
عنها ولأهل بيت صفية الأمان لا يطأ أرضهم جيش ولا عليهم نزل ولهم ربط العمائم فعلى
من أحب الله ورسوله أن يؤمنهم وكتب علي بن أبي طالب وشهد عتيق بن أبي قحافة وعبد
الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان وتاريخ شهادتهم في ذي القعدة سنة تسع من
الهجرة قال شيخنا فظهر لي ولعلماء العصر أن ذلك زور وافتراء لا شك فيه ولا امتراء
لأن التاريخ بالهجرة إنما حدث زمن عمر سنة سبع عشرة لأسباب
____________________
اقتضت ذلك كما في ابن حجر ولأن
أهل التاريخ لم يذكروا لصفية أخا اسمه موسى وإنما المروي في الأحاديث أنه عليه
الصلاة والسلام قتل أبا صفية وزوجها ولأن الظهير الذي استظهروا به نسخة من الأصل
الذي فيه خطوط الصحابة وقد أرخوا الاستنساخ من الأصل بسنة ثلاث وعشرين وسبعمائة
فقد تأخر خط الصحابة بزعمهم إلى المائة الثامنة وكيف يتوصل في المائة الثامنة إلى
أن ذلك خط الصحابة هذا خلاصة ما كتبه أهل فاس في إبطال الظهير ولما رفع ذلك إلى
السلطان المولى إسماعيل رحمه الله عاقب اليهود عقابا شديدا اه
وبالجملة ففضيلة علم التاريخ شهيرة وفائدته جليلة خطيرة ومادحه محمود غير ملوم
والحديث بفضله حديث بمعلوم ولله در ابن الخطيب إذ يقول
( وبعد فالتاريخ والإخبار ** فيه لنفس العاقل اعتبار )
( وفيه للمستبصر استبصار ** كيف أتى القوم وكيف صاروا )
( يجري على الحاضر حكم الغائب ** فيثبت الحق بسهم صائب )
( وينظر الدنيا بعين النبل ** ويترك الجهل لأهل الجهل )
وقال الآخر
( ليس بإنسان ولا عاقل ** من لا يعي التاريخ في صدره )
( ومن روى أخبار من قد مضى ** أضاف أعمارا إلى عمره )
____________________
ذكر رسول الله صلى الله عليه
وسلم وخلفائه الأربعة رضي الله عنهم
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب
بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك
بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن
أد بن أدد بن اليسع بن الهيميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيدار بن إسماعيل بن
إبراهيم عليهما السلام ابن تارح وهو آزر بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن
عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام ابن لامك بن متوشلخ بن حنوخ بن
يرد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيت بن آدم عليهما السلام فأما ما بين رسول
صلى الله عليه وسلم وبين عدنان فمتفق عليه عند علماء الإسلام وأما ما بين عدنان
وإسماعيل فمختلف فيه اختلافا كثيرا ما بين سبعة آباء إلى نحو الأربعين والمختار ما
ذكرناه تبعا لأبي الفداء وأما ما بين إسماعيل وآدم عليهما السلام فمتفق عليه عند
أهل الكتاب وهي أسماء أعجمية يكثر تغييرها لصعوبة النطق بحروفها والله أعلم
قال ابن خلدون ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل لاثنتي عشرة ليلة خلت
من ربيع الأول لأربعين سنة من ملك كسرى أنو شروان وقيل لثمان وأربعين ولثمانمائة
واثنتين وثمانين سنة لذي القرنين ومات أبوه عبد الله وأمه حامل به وكفله جده عبد
المطلب واسترضع له امرأة من بني
____________________
سعد بن بكر اسمها حليمة بنت
أبي ذؤيب السعدية فكان عندها نحو أربع سنين وشق صدره صلى الله عليه وسلم وهو عندها
في السنة الرابعة من مولده فخافت عليه وردته إلى أمه ثم ماتت أمه عقب ذلك واستمر
في كفالة جده عبد المطلب إلى أن توفي أيضا لمضي ثمان سنين من مولده صلى الله عليه
وسلم فأوصى به عبد المطلب إلى ابنه أبي طالب فكفله أبو طالب أحس كفالة وقام بشأنه
أتم قيام ونشأ صلى الله عليه وسلم نشأة طيبة يحفظه ربه ويكلؤه لما يريد به من
كرامته ويهيء له من نبوته ورسالته وتزوج خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن
قصي وهو ابن خمس وعشرين سنة وشهد بناء الكعبة وهو ابن خمس وثلاثين سنة ووضع الحجر
الأسود بيده الشريفة في موضعه بعد أن تراضت قبائل قريش عليه ثم آتاه الله الكتاب
والحكم والنبوة على رأس أربعين سنة من عمره صلى الله عليه وسلم
أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت أول ما بدىء به رسول الله صلى
الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة ولمسلم الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا
إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه والتحنث
التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة
فيتزود لمثلها حتى جاءه الوحي وفي رواية حتى فجئه الحق وهو في غار حراء فجاءه
الملك فقال اقرأ فقال ( ما أنا بقارىء قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم
أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقاريء فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم
أرسلني فقال ( اقرأ فقلت ما أنا بقارىء فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم
أرسلني فقال ) ( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي
علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف
بوادره حتى دخل على خديجة فال ( زملوني زملوني ) فزملوه حتى ذهب عنه الروع ثم قال
لخديجة ( أي خديجة مالي ) وأخبرها الخبر وقال ( لقد خشيت على نفسي ) قالت له خديجة
كلا أبشر
____________________
فو الله لا يخزيك الله أبدا
إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على
نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى وهو ابن
عم خديجة وكان امراءا تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني في كتب من
الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمى فقالت له خديجة أي
ابن عم اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى
الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى يا
ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (
أو مخرجي هم ) قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك
أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم يلبث ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله
عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال فكلما
أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال يا محمد إنك رسول الله حقا
فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه فيرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فيتبدى
له جبريل فيقول له مثل ذلك ثم نزل عليه بعد فترة الوحي سورة المدثر قال العلماء
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول الوحي عليه نبيا فقط ثلاث سنين لم يؤمر
فيها بإنذار ثم أتاه جبريل عليه السلام برسالة من ربه عز وجل فكان فيما أنزل عليه
في ذلك قوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين }
روى محمد بن إسحاق بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية
على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي
الأقربين فضقت بذلك ذرعا وعرفت أني متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره فصمت
عليها حتى جاءني جبريل فقال يا محمد إن لا تفعل ما تؤمر يعذبك ربك فاصنع لنا طعاما
واجعل لنا عليه رجل شاة واملأ لنا عسا من لبن ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى
أبلغهم ما أمرت به ) ففعلت
____________________
ما أمرني به ثم دعوتهم له
وكانوا يومئذ نحو أربعين رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة
والعباس وأبو لهب فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعت فجئت به فتناول رسول الله
صلى الله عليه وسلم جذبه من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ثم قال
( كلوا باسم الله ) فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة وايم الله إن كان الرجل
الواحد ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم ثم قال ( اسق القوم ) فجئتهم بذلك العس فشربوا
حتى رووا جميعا وايم الله إن كان الرجل الواحد ليشرب مثله فلما أراد رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب فقال سحركم صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فقال الغد يا علي إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما
سمعت من القول فتفرق القوم قبل أن أكلمهم فاعدد لنا من الطعام مثل ما صنعت ثم
أجمعهم ) ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا
وشربوا ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( يا بني عبد المطلب إني قد
جئتكم بخيري الدنيا والآخرة وقد أمرني الله عز وجل أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني
على أمري هذا ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ) فأحجم القوم عنها جميعا وأنا أحدثهم
سنا فقلت يا رسول الله أنا أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي ثم قال ( هذا أخي ووصيي
وخليفتي فيكم فا سمعوا له وأطيعوا ) فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك
أن تسمع لعلي وتطيع
وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس قال لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين } صعد
النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي ( يا بني فهر يا بني عدي ) لبطون
قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذ لم يستطع أن خرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو
لهب وقريش فقال ( أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم
مصدقي ) قالوا نعم ما جربنا عليك كذبا قال ( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد )
فقال أبو لهب تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت { تبت يدا أبي لهب وتب }
____________________
ما أغنى عنه ماله وما كسب ) ثم
مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ربه صابرا محتسبا فيما يناله من المحن
وضروب الأذى معلنا بالتذكير والإنذار داعيا إلى الله آناء الليل وأطراف النهار
وأسلم معه جماعة من السابقين إلى الإسلام كخديجة وعلي وأبي بكر وزيد بن حارثة
وعثمان وسائر العشرة سوى عمر بن الخطاب فإن إسلامه كان قد تأخر قليلا ونصبت قريش
العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وافترقت كلمتهم عليه وانحاز بنو هاشم وبنو
المطلب إلى أبي طالب وتعاهدت قريش على أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا ينفعوهم
بشيء ونال أصحاب رسول الله الذي آمنوا معه من الأذى فوق ما يوصف وهاجر جماعة منهم
إلى النجاشي بالحبشة فرارا بدينهم من الفتنة وحدب على رسول الله صلى الله عليه
وسلم عمه أبو طالب وقام دونه وذب عنه سفهاء قريش ومنعه منهم ما استطاع وكانت خديجة
رضي الله عنها توازره على أمره وتسليه وتهون عليه مايلقاه من قومه فكان صلى الله
عليه وسلم يرتاح لذلك ويخف عليه بعض ما يجد ثم توفي أبو طالب في شوال سنة عشر من
النبوة وتوفيت خديجة بعد ذلك بيسير وكانت وفاتهما قبل الهجرة بثلاث سنين فعظمت على
رسول الله صلى الله عليه وسلم المصيبة وتتابعت عليه المحن حتى كان يسمي ذلك العام
عام الحزن ونالت قريش منه ما لم تكن تطمع في نيله قبل ذلك فكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم في تلك الثلاث سنين إذا حضر الموسم خرج إلى قبائل العرب بمنى وطاف عليهم
قبيلة قبيلة يدعوهم إلى الله تعالى ويعرض عليهم نفسه ويسألهم النصرة له والقيام
معه حتى يبلغ رسالة ربه فإن قريشا قد عتت على الله وكذبت رسوله وردت عليه كرامته
ويقول فيما يقول ( يا بني فلان إني رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا
به شيئا وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد وأن تؤمنوا بي وتصدقوني )
ولقي صلى الله عليه وسلم في هذه المدة من الشدائد ما رفع الله به في عليين درجته
وأجزل به كرامته وشرف منزلته وحاز به في جوار الله تعالى أكرم نزل
____________________
وصار إمام أولي العزم من الرسل
صلى الله على جميعهم وسلم ولما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه خرج صلى الله
عليه وسلم في بعض المواسم يعرض نفسه على القبائل كما كان يصنع فبينما هو عند
العقبة بمنى إذ لقي ستة نفر من الخزرج من أهل مدينة يثرب وأهلها يومئذ قبيلتان
الأوس والخزرج ويجمعهم أب واحد وهم من عرب اليمن والنفر الستة هم أبو أمامة أسعد
بن زرارة وعوف بن الحارث وهو ابن عفراء ورافع بن مالك بن العجلان وقطبة بن عامر بن
حديدة وعقبة بن عامر بن نابي وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم فقال لهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ( من أنتم ) قالوا نفر من الخزرج قال ( أمن موالى يهود )
وكانوا يحالفون قريظة والنضير قالوا نعم قال ( أفلا تجلسون حتى أكلمكم ) قالوا بلى
فجلسوا معه فدعاهم إلى ألله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن قال ومما
كان صنع الله لهم في الإسلام أن اليهود كانوا معهم ببلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم
وهم أهل أوثان وشرك وكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا إن نبينا الان مبعوث قد أظل
زمانه سنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم
أولئك النفر ودعاهم إلى الله عز وجل قال بعضهم لبعض يا قوم تعلموا والله إنه النبي
الذي توعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه فأجابوه وصدقوه وأسلموا معه وقالوا إنا قد
تركنا قومنا وبينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى الله أن يجمعهم بك وسنقدم
عليهم وندعوهم إلى أمرك فإن يجمعهم الله عليك فلا أحد أعز منك ثم انصرفوا عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم فلما قدموا المدينة ذكروا لهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم فلم تبق دار من دور
الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان العام المقبل
وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا منهم خمسة من الستة الذين ذكرناهم آنفا عدى
جابر بن عبد الله فإنه لم يحضرها وسبعة من غيرهم وهم معاذ بن الحارث أخو عوف بن
الحارث المذكور وذكوان بن عبد القيس ويزيد بن ثعلبة البلوي وعبادة بن
____________________
الصامت والعباس بن عبادة بن
نضلة وهؤلاء العشرة من الخوارج ومن الأوس أبو الهيثم مالك بن التيهان وعويم بن
ساعدة فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة فبايعوه بيعة النساء أن لا
يشركوا بالله شيئا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم إلى آخر الآية فقال
صلى الله عليه وسلم ( فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم شيئا من ذلك فأخذتم بحده في
الدنيا فهو كفارة لكم وإن ستر عليكم فأمركم إلى الله عز وجل إن شاء الله عذبكم وإن
شاء غفر لكم ) قال وذلك قبل أن تفرض الحرب فلما انصرف القوم بعث معهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي ومعه
عمرو بن أم مكتوم الأعمى ليعلمهم القرآن وشرائع الإسلام ويفقهم في الدين فكان مصعب
بالمدينة يسمى المقرىء وكان منزله على أسعد بن زرارة فأسلم على يده كثير من الأوس
والخزرج منهم أسيد بن حضير وسعد بن معاذ سيدا الأوس وسعد هذا هو الذ ي يقول فيه
حسان بن ثابت رضي الله عنه
( وما اهتز عرش الله من أجل هالك ** سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو )
ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان من دار بني
أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف بطون من الأوس وكانوا في عوالي المدينة وكان فيهم
أبو قيس بن الأسلت الشاعر سيدا مطاعا فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق فأسلموا كلهم ثم إن مصعب بن عمير
رجع إلى مكة من العام المقبل وذلك سنة ثلاث عشرة من المبعث وخرج معه من الأنصار
الذين أسلموا ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان بعضهم من الأوس وبعضهم من الخزرج مع حجاج
قومهم من أهل الشرك فلما وصلوا إلى مكة واعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يجتمعوا به ليلا في أوسط أيام التشريق بالعقبة من منى وجاءهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن
يتوثق لابن أخيه فقال يا معشر الخزرج إن محمدا
____________________
منا حيث قد علمتم وقد منعناه
من قومنا ممن هو على مثل رأينا وهو في عز ومنعة من قومه وبلده وأنه قد أبى إلا
الانحياز إليكم واللحوق بكم فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه
ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه فمن الآن
فدعوه فقالوا قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك ولربك ما شئت فتكلم
رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله عز وجل ورغب في الإسلام
ثم قال ( أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم ) قال
فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنك مما نمنع منه
أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة ورثناهما كابرا عن كابر
فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الهيثم بن التيهان
فقال يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالا يعني عهودا وإنا قاطعوها فهل عسيت أن
فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا فتبسم رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثم قال ( بل الدم الدم والهدم الهدم أنتم مني وأنا منكم أحارب من حاربتم
وأسالم من سالمتم ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أخرجوا إلي منكم اثني عشر
نقيبا يكونون كفلاء على قومهم بما فيهم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم فأخرجوا
له اثنى عشر نقيبا ) وتسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس
قال عاصم بن عمر بن قتادة إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة يا معشر الخزرج هل تدرون على ما تبايعون هذا
الرجل إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم
مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن فهو والله خزي الدنيا والآخرة وإن كنتم
ترون إنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه فهو
والله خير الدنيا والآخرة قالوا فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف فما
لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا قال ( الجنة ) قالوا ابسط يدك فبسط يده
فبايعوه وأول من
____________________
ضرب على يده البراء بن معرور
ثم تتابع القوم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( انفضوا إلى رحالكم ) فقال
العباس بن عبادة بن نضلة والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن غدا على أهل منى
بأسيافنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إني لم أومر بذلك ولكن ارجعوا إلى
رحالكم ) ثم انصرف القوم راجعين إلى المدينة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه
بالهجرة إلى المدينة فخرجوا أرسالا وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر
الإذن من ربه في الهجرة وبقي معه أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب إلى أن أذن الله
لنبيه في الهجرة فهاجر كما هو معلوم في كتب الحديث والسير ولما استقر رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالمدينة أظهر الإسلام وشرع الأحكام وبين الحلال والحرام ونزل
عليه من القرآن السبع الطول سوى سورة الأنعام فإنها نزلت بمكة ونزل عليه قوله
تعالى ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من
ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ) فكانت هذه أول آية نزلت بالإذن في
القتال فجاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الله حق جهاده ونال من نصرة الدين
وإعلاء كلمة الله غاية مراده وانثالت عليه وفود العرب من كل ناحية ولبت دعوته من
أماكنها الدانية والقاصية وضرب الإسلام بجرانه في جزيرة العرب كلها وأجمع على
التمسك بدينه أهل عقدها وحلها قال القاضي عياض رحمه الله في كتاب الشفا فتح على
رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته بلاد الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب وما
دانى ذلك من الشام والعراق وجبى إليه من أخماسها وجزيتها وصدقاتها ما لا يجبى
للملوك إلا بعضه وهادته جماعة من ملوك الأقاليم فما استأثر بشيء منه ولا أمسك منه
درهما بل صرفه مصارفه وأغنى به غيره وقوى به المسلمين صلى الله عليه وسلم ولما حصل
المقصود من بعثته صلى الله عليه وسلم وأظهر دينه على الدين كله أنزل الله تعالى
عليه { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } قال
المفسرون نزلت هذه الآية يوم الجمعة بعد العصر يوم عرفة والنبي صلى الله عليه وسلم
واقف بعرفات على
____________________
ناقته العضباء فكادت عضد
الناقة تندق وبركت لثقل الوحي وذلك في حجة الوداع سنة عشر من الهجرة روي أنه لما
نزلت هذه الآية بكى عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ( ما يبكيك يا عمر )
فقال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص قال
صدقت فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بعدها إحدى وثمانين
يوما ومات صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول وقيل لاثنتي
عشرة ليلة قال الخازن في تفسيره وهو الأصح سنة إحدى عشرة من الهجرة فمجموع عمره
صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة على الصحيح
أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس قال أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
ابن أربعين سنة فمكث ثلاث عشرة سنة يوحى إليه ثم أمر بالهجرة فهاجر إلى المدينة
فمكث بها عشر سنين ثم توفي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة قال الشيخ
محي الدين النووي ورد في عمره صلى الله عليه وسلم ثلاث روايات إحداها أنه صلى الله
عليه وسلم توفي وهو ابن ستين سنة الثانية خمس وستون سنة والثالثة ثلاث وستون سنة
وهي أصحها وأشهرها اه وفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهر من أن يشرح ويبين
فهو حجة الله في الأرض وشهيده على الخلق ومصطفاه من البشر والمخصوص بمزية النبوة
وآدم بين الماء والطين ولله در ابن الخطيب إذ يقول
( يا مصطفى من قبل نشأة آدم ** والكون لم تفتح له أغلاق )
( أيروم مخلوق ثناءك بعد ما ** أثنى على أخلاقك الخلاق )
____________________
خلافة أبي بكر الصديق رضي الله
عنه
هو أبو بكر واسمه عبد الله وقيل عتيق بن أبي قحافة واسمه عثمان بن عامر بن عمرو بن
كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب التيمي المعروف بالصديق يجتمع مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم في مرة بن كعب ولي الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
بإجماع من الصحابة ومن تأخر عنها أولا رجع إليها ثانيا إلا ما كان من سعد بن عبادة
الأنصاري فإنه توقف عن بيعته وذلك أنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة وهموا بمبايعة سعد بن عبادة سيد الخزرج لأنهم
كانوا يرون أنهم أحق بالأمر لأنهم الذين آووا ونصروا وتبوأوا الدار والإيمان من
قبل المهاجرين ولما انتهى الخبر إلى أبي بكر وعمر أفزعهما ذلك وبادرا إلى السقيفة
ومعهما أبو عبيدة بن الجراح فوجدوا الأنصار بها على ما بلغهم من العزم على بيعة
سعد فحاجهم أبو بكر رضي الله عنه وقال نحن أولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعشيرته وأحق الناس بالأمر بعده فنحن الأمراء وأنتم الوزراء فقال الحباب بن المنذر
لا والله لا نفعل منا أمير ومنكم أمير وإن شئتم أعدناها جذعة أنا جذيلها المحكك
وعذيقها المرجب فقام بشير بن سعد الأنصاري فقال ألا إن محمدا صلى الله عليه وسلم
من قريش وإن قومه أحق وأولى بالأمر بعده ونحن وإن كنا أولي فضل في الجهاد وسابقة
في الدين فما أردنا بذلك إلا رضى الله وطاعة نبيه فلا نبتغي به من الدنيا عوضا ولا
نستطيل به على الناس ثم أشار أبو بكر بأن يبايعوا أحد الرجلين إما عمر بن الخطاب
وإما أبا عبيدة بن الجراح فكرها ذلك وبايعا أبا بكر وسبقهما إليه بشير بن سعد ثم
تناجى الأوس فيما بينهم وكان فيهم أسيد بن حضير أحد النقباء فكرهوا إمارة الخزرج
عليهم ومالوا إلى بيعة أبي بكر فبايعوه وأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر
حتى كادوا يطؤون سعد بن عبادة وهو مضطجع بينهم يوعك فقال رجل من أصحابه قتلتم سعد
بن عبادة فقال
____________________
عمر قتله الله فقال أبو بكر
مهلا يا عمر الرفق هنا أبلغ ثم لحق سعد بالشام فلم يزل هناك حتى توفي أيام عمر رحم
الله جميعهم وكانت بيعة أبي بكر يوم الثلاثاء الثاني من وفاة رسول الله صلى الله
عليه وسلم قبل دفنه ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت عامة العرب لأن
كلمة الإسلام لم تكن رسخت في قلوبهم على ما ينبغي ومنع آخرون منهم الزكاة وقالوا
نصلي ولا نؤدي الزكاة ظنا منهم أن ذلك كان واجبا عليهم في حياة النبي صلى الله
عليه وسلم فقط واضطرب أمر المسلمين عند وفاته صلى الله عليه وسلم لقلتهم وكثرة
عدوهم قالت عائشة رضي الله عنها لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت
العرب ونجم النفاق واشرأبت اليهودية والنصرانية ونزل بأبي بكر ما لو نزل بالجبال
الراسية لهاضها وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم وقال
أبو بكر بن عياش سمعت أبا حصين يقول ما ولد بعد النبيين أفضل من أبي بكر الصديق
لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردة
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
واستخلف ابو بكر وكفر من كفر من العرب قال عمر يا أبا بكر كيف تقاتل الناس وقد قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله ) قال
أبو بكر والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو
منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها
قال عمر فو الله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه
الحق
وحكى ابن خلدون أن أبا بكر رضي الله عنه لما عزم على قتال أهل الردة استخلف أسامة
بن زيد بعد رجوعه من بعثه الذي كان بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قبل
وفاته فبقي في المدينة حتى أنفذه أبو بكر بعد
____________________
وفاته صلى الله عليه وسلم فخرج
أبو بكر في جماعة من المسلمين إلى ذي حسي وإلى ذي القصة موضعين قرب المدينة ثم سار
حتى نزل على أهل الربذة بالإبريق وبها عبس وذبيان وبنو بكر بن عبد مناة بن كنانة
وثعلبة بن سعد وغيرهم فقاتلهم أبو بكر وهزمهم ورجع إلى المدينة ثم خرج إلى ذي
القصة ثانيا فعقد فيه أحد عشر لواء على أحد عشر جندا لقتال أهل الردة وأمر كل واحد
باستنفار من يليه من المسلمين من كل قبيلة وعقد للأمراء على تلك الأجناد منهم خالد
بن الوليد وخالد بن سعيد بن العاص وعمرو بن العاص وغيرهم وكتب لهم عهودهم بنص واحد
بسم الله الرحمن الرحيم هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم
لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام وعهد إليه أن يتقي الله ما
استطاع في أمره كله سره وجهره وأمره بالجد في أمر الله ومجاهدة من تولى عنه ورجع
عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يعذر إليهم فيدعوهم بدعاية الإسلام فإن
أجابوه أمسك عنهم وإن لم يجيبوه شن غارته عليهم حتى يقروا له ثم ينبئهم والذي
عليهم ولذي لهم فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الذي لهم لا ينظرهم ولا يرد المسلمين عن
قتال عدوهم فإن أجاب إلى أمر الله تعالى وأقر له قبل ذلك منه وأعانه عليه بالمعروف
وإنما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله فإذا أجاب الدعوة لم
يكن عليه سبيل كان الله حسيبه بعد فيما استسر به ومن لم يجب إلى داعية الله قوتل
وقتل حيث كان وحيث بلغ مراغمة لا يقبل الله من أحد شيئا مما أعطى إلا الإسلام فمن
أجابه وأقر به قبل منه وأعانه ومن أبى قاتله فإن أظهره الله عليه قتلهم فيه كل
قتلة بالسلاح والنيران ثم قسم ما أفاء الله عليه إلا الخمس فإنه يبلغناه ويمنع
أصحابه العجلة والفساد وأن لا يدخل فيهم حشوا حتى يعرفهم ويعلم ما هم لئلا يكونوا
عيونا ولئلا يؤتى المسلمون من قبلهم وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق بهم في السير
والمنزل ويتفقدهم ولا يعجل بعضهم عن بعض ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين
القول اه
____________________
وكتب إلى كل من بعث إليه الجنود من المرتدين كتابا واحدا أيضا وجعله في نسخ متعددة
بيد رسل تقدموا أمام الأمراء يأمرهم فيه بالتمسك بكلمة الإسلام وينهاهم عن
الارتداد ويحذرهم عاقبته وسوء أثره تركنا ذكره اختصارا وكان أول ما بدأ به خالد بن
الوليد رحمه الله من القتال قتال طليحة بن خويلد الأسدي أسد خزيمة وكان كاهنا
وادعى النبوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبعه أفاريق من قومه بني أسد
ومن غيرهم فوجه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرار بن الأزور ليقاتله فبينما
ضرار يريد مناجزته إذ ورد عليه الخبر بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت ذلك
في عضد ضرار وانكفأ راجعا بمن معه من المسلمين إلى المدينة وعظم أمر طليحة حينئذ
واستطار شرره وانضمت إليه غطفان وبعض طييء وأخلاط من العرب على ماء من مياه بني
أسد يقال له بزاخة فسار إليهم خالد رحمه الله فأوقع بهم وقعة شنعاء فل بها جمعهم
وقتل من قتل منهم ونجا طليحة إلى الشام برأس طمرة ولجام وبقي هناك إلى أن أسلم
وحسن إسلامه وكانت له في قتال فارس والروم زمان الفتح اليد البيضاء ثم تتبع خالد
رحمه الله أهل الردة قبيلة قبيلة وجمعا جمعا فقتل وحرق ورضخ بالحجارة ورمى من رؤوس
الجبال وأبلغ في النكاية بكل وجه فخشعت نفوس المرتدين وخامر قلوبهم الرعب وقوم اعواججهم
الطعن والضرب حتى راجعوا الإسلام كرها وكان من اعظمهم شوكة وأشدهم قوة بنو حنيفة
قوم مسيلمة الكذاب وكان موطنهم باليمامة وهي بلاد واسعة ذات نخل وزرع على أربعة
أيام من مكة وكان مسيلمة هذا قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فيوفد بني حنيفة
فأسلم ثم ارتد وادعى النبوة استقلالا ثم مشاركة مع النبي صلى الله عليه وسلم وشهد
له بذلك الرجال بن عنفوة أحد أشراف بني حنيفة وكان قد هاجر إلى النبي صلى الله
عليه وسلم وأقام عنده وقرأ القرآن وتفقه في الدين فلما ارتد مسيلمة بعثه النبي صلى
الله عليه وسلم معلما لأهل اليمامة ومشغبا عن مسيلمة فكان من أعظم الفتن على بني
حنيفة فإنه شهد لمسيلمة بالنبوة واتبعه على شأنه وصار مؤذنا له يشهد له بالرسالة
بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم شأنه
____________________
فيهم وكان مسيلمة ينتهي إليه
رأيه وكان يأتي بأسجاع كثيرة يزعم أنها قرآن ينزل عليه ويأتي بمخارق من الشعبذة
ويقول إنها معجزاته فتقع على خلاف المقصود إهانة من الله له فنهض خالد رحمه الله
بعد الفراغ من طليحة وغيره من أهل الردة إلى بني حنيفة وهم يومئذ كثير يقال كانوا
أربعين ألف مقاتل ولما سمعوا بدنو خالد منهم خرجوا وعسكروا في منتهى ريف اليمامة
واستنفروا الناس فنفروا معهم وأقبل خالد وعلى مقدمته شرحبيل بن حسنة ونازل بني
حنيفة وكان الرجال بن عنفوة على مقدمة مسيلمة فالتقوا واقتتلوا واشتدت الحرب
وانكشف المسلمون حتى دخل بنو حنيفة خباء خالد ثم تراجع المسلمون وكروا على بني
حنيفة وقاتل ثابت بن قيس بن شماس حتى قتل ثم زيد بن الخطاب أخو عمر كذلك ثم أبو
حذيفة بن عتبة بن ربيعة ثم مولاه سالم ثم البراء أخو أنس بن مالك وكان تأخذه عند
الحرب رعدة حتى ينتفض ويقعد عليه الرحال حتى يبول ثم يثور كالأسد فقاتل ذلك اليوم
وفعل الأفاعيل واستحر القتل في المسلمين خصوصا قراء القرآن وأهل السابقة
قال ابن خلدون قتل يوم اليمامة من الأنصار ما ينيف على الثلاثمائة وستين ومن
المهاجرين مثلها ومن التابعين لهم مثلها أو يزيدون وفشت الجراحات فيمن بقي ثم هزم
الله العدو وألجأهم المسلمون إلى حديقة كانت هناك وفيها مسيلمة فقال البراء بن
مالك ألقوني عليهم من أعلى الجدار فاقتحم وقاتلهم على باب الحديقة حتى دخل بعض
المسلمين عليهم واقتحم الباقون من أعلى الحيطان فقتل من بني حنيفة يومئذ سبعة عشر
ألف مقاتل فسميت الحديقة حديقة الموت وأما مسيلمة فقتله وحشي بالحربة التي قتل بها
حمزة بن عبد المطلب يوم أحد وشاركه في قتله رجل من الأنصار ثم صالح خالد بني حنيفة
في خبر طويل وهذه الوقعة من أعظم الوقعات التي كانت في زمن أبي بكر رضي الله عنه
وهي كانت السبب الداعي إلى جمع القرآن في المصحف واستمر كذلك إلى أن جمعه عثمان بن
عفان رضي الله عنه الجمع الثاني في المصحف
____________________
ففي الصحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال أرسل إلى أبو بكر مقتل أهل اليمامة
فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر رضي الله عنه إن عمر أتأني فقال إن القتل قد
استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن
فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قال أبو بكر قلت لعمر كيف أفعل
شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر هو والله خير فلم يزل عمر
يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري ورأيت الذي رأى عمر قال زيد بن ثابت وعمر عنده
جالس لا يتكلم فقال أبو بكر إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول
الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال
ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن قلت كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر هو و الله خير فلم أزل أراجعهم حتى شرح الله
صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكناف
والعسف واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم
أجدها مع أحد غيره { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم } حتى خاتمة
براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته حتى توفاه الله ثم
عند حفصة بنت عمر اه
ولما فرغ خالد من أمر اليمامة بعث إليه أبو بكر في المحرم سنة اثنتي عشرة يأمره
بالسير إلى العراق وذلك عندما أجمعت العرب على الإسلام واتفقوا على التمسك بكلمته
وأخلصوا الطاعة لله ولخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمت لأبي بكر رضي الله
عنه همة في قتال فارس والروم أهل الدولتين العظيمتين في العالم يومئذ فتوجه خالد
رحمه الله نحو فارس وكان عذابا من عذاب الله أرسله على أهل الكفر والضلال وما مثله
إلا قول المتنبي
( وما كان إلا النار في كل موضع ** يثير غبارا في مكان دخان )
____________________
فتوجه خالد رحمه الله وفتح الحيرة وما وراءها من أعمال العراق وفتح الأنبار وعين
التمر وأوقع الوقائع العظيمة بمسالح أهل فارس وجيوشهم حتى أخافهم في بلادهم وهم
بالاقتحام عليهم ومقاتلتهم في عقر دارهم وكتب إليهم بكتابين يتوعدهم ويتهددهم ثم
صرفه أبو بكر رضي الله عنه إلى الشام فشهد اليرموك مع جيوش المسلمين الذين كانوا
هناك ففي الأكنفاء عن عبد الله بن أبي أوفى الخزاعي وكانت له صحبة قال لما أراد
أبو بكر أن يجهز الجنود إلى الشام دعا عمر وعثمان وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن
عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وأبا عبيدة بن الجراح ووجوه المهاجرين
والأنصار من أهل بدر وغيرهم فدخلوا عليه وأنا فيهم فقال إن الله لا تحصى نعمه ولا
تبلغ جزاءها الأعمال فله الحمد كثيرا على ما اصطنع عندكم ثم جمع كلمتكم وأصلح ذات
بينكم وهداكم إلى الإسلام ونفى عنكم الشيطان فليس يطمع أن تشركوا بالله ولا أن
تتخذوا إلها غيره فالعرب اليوم بنو أم وأب وقد رأيت أن أستنفرهم إلى الروم بالشام
فمن هلك منهم هلك شهيدا وما عند الله خير للأبرار ومن عاش منهم عاش مدافعا عن
الدين مستوجبا على الله ثواب المجاهدين هذا رأيي الذي رأيت فليشر علي امرؤ بمبلغ
رأيه فأجاب كل من الحاضرين باستصواب رأيه وتقوية عزمه فجهز أبو بكر رضي الله عنه
جيوشا وأمر عليهم أمراء كخالد بن سعيد بن العاص وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل
والوليد بن عقبة ويزيد بن أبي سفيان وأمر أبا عبيدة بن الجراح على جميعهم وعين له
حمص وأوصى كل واحد منهم بما تنبغي الوصية به فكان بسبب تلك الجموع وقعة اليرموك
بين المسلمين والروم في رجب سنة ثلاث عشرة من الهجرة بعد وفاة أبي بكر رضي الله
عنه بنحو شهر لأن وفاته رضي الله عنه كانت مساء ليلة الثلاثاء بين العشاءين لثمان
بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة فكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر
وعشرة ليال وعمره ثلاث وستون سنة رضي الله عنه ونفعنا به
____________________
خلافة أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب رضي الله عنه
هو أول من دعي أمير المؤمنين وكان أبو بكر قبله يدعى خليفة رسول الله وهو أبو حفص
عمر بن الخطاب بن نفيل مصغرا بن عبد العزى بن رياح بكسر الراء وفتح المثناة
التحتية بن عبد الله بن قرط بضم القاف ابن رزاح بفتح الراء بن عدي بن كعب بن لؤي
يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كعب بن لؤي ولي الخلافة بعد أبي بكر رضي
الله عنه بعهد منه إليه قال ابن خلدون لما احتضر أبو بكر عهد إلى عمر رضي الله
عنهما الأمر من بعده بعد أن شاور عليه طلحة وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم
وأخبرهم بما يريد فيه فأثنوا على رأيه فأشرف على الناس وقال إني قد استخلفت عمر
ولم آل لكم نصحا فاسمعوا له وأطيعوا ودعا عثمان فأمره فكتب بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما عهد به أبو بكرخليفة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده
بالدنيا وأول عهده بالآخرة في الحال التي يؤمن فيها الكافر وينيب فيها الفاجر إني
استعملت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرا فإن صبر وعدل فذلك علمي به ورأيي فيه
وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب والخير أردت ولكل امرئ ما اكتسب { وسيعلم الذين
ظلموا أي منقلب ينقلبون } فكان أول ما أنفذه من الأمور عزل خالد بن الوليد عن
إمارة الجيوش بالشام وتولية أبي عبيدة وجاء الخبر بذلك والمسلمون مواقفون عدوهم
باليرموك فكتم أبو عبيدة الأمر كله حتى انقضى أمر اليرموك وكان فتح دمشق بعدها
فحينئذ أظهر أبو عبيدة إمارته وعزل خالد فسمع خالد وأطاع وقيل في هذا الخبر غير
هذا مما هو مبسوط في كتب الفتح ثم إن عمر رضي الله عنه سدد عزمه وأرهف حده لغزو
فارس والروم فتابع عليهم الجنود وعين لكل أمير عمله وعقد لأبي عبيد بن مسعود
الثقفي على جيش من المسلمين وبعثه نحو العراق فاستشهد أبو عبيد بموضع يقال له قس
الناطف على الفرات فولى مكانه المثنى بن حارثة
____________________
الشيباني وكان بطلا من الأبطال
نظير خالد بن الوليد في يمن النقيبة والجراءة على الأعداء فأوقع بأهل فارس عدة
وقعات منها وقعة البويب قتل فيها من الفرس مائة ألف أو يزيدون ثم إن عمر رضي الله
عنه استأنف الجد لجهاد فارس وقال والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب فلم يدع
رئيسا ولا ذا رأي ولا خطيبا ولا شاعرا إلا رماهم به فرماهم بوجوه الناس وكتب إلى
المثنى يأمره أن يخرج بالمسلمين من بين العجم ويتفرق بهم على المياه بحيالهم وأن
يدعو الفرسان وأهل النجدات من ربيعة ومضر ويحضرهم طوعا وكرها
ثم حج عمر سنة ثلاث عشرة ورجع إلى المدينة فوافته أمداد العرب بها فعقد عليهم لسعد
بن أبي وقاص رضي الله عنه وولاه حرب العراق وأوصاه وقال يا سعد بن أم سعد لا يغرنك
من الله أن يقال خال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله لا يمحو السىء بالسىء
ولكنه يمحو السىء بالحسن وليس بين الله وبين أحد نسب إلا بطاعته فالناس في دين
الله سواء الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة فانظر
الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزمه فالزمه وعليك بالصبر ثم سرحه
في أربعة آلاف ممن اجتمع إليه فيهم وجوه العرب وأشرافها وانضاف إليه في طريقة جموع
أخر فكانت له في هذا الوجه وقعة القادسية المشهورة دامت فيها الحرب بين المسلمين
والفرس أربعة أيام بلياليها وقتل فيها رستم زعيم الفرس وصاحب حربها واستلحمت جنوده
وكان الفتح الذي لم يكن له في الإسلام نظير وذلك في المحرم سنة أربع عشرة وقيل خمس
عشرة ثم كان بعدها فتح المدائن وجلولاء وسائر بلاد العراق وغيرها من بلاد فارس
الجبل وأرمينية وأذربيجان وسجستان وكرمان ومكران وخراسان وغير ذلك مما يطول ذكره
وكذا استولى جيوش المسلمين الذين بالشام على بلاد الشام والجزيرة وأنطاكية
____________________
وغيرها من بلاد الروم ومصر
والإسكندرية وبرقة وطرابلس الغرب وغير ذلك
وفي سنة أربع عشرة أمر عمر رضي الله عنه باختطاط البصرة والكوفة بعراق العرب لما
بلغه من وخامة البلاد وأن العرب قد تغيرت ألوانهم بالعراق فأذن لهم في اختطاط
المصرين وأن لا يتجاوزوا في بنائهما السنة ويقال إن اختطاط الكوفة كان في سنة سبع
عشرة
وفي سنة خمس عشرة وضع عمر الديوان وفرض العطاء للمسلمين ولم يكن قبل ذلك وروى
الزهري عن ابن المسيب أن ذلك كان في المحرم سنة عشرين
قال ابن خلدون يقال وضع عمر الديوان لسبب مال أتى به أبو هريرة من البحرين
فاستكثروه وتعبوا في قسمة فسموا إلى إحصاء الأموال وضبط العطاء والحقوق فأشار خالد
بن الوليد بالديوان وقال رأيت ملوك الشام يدونون فقبل منه عمر وقيل بل أشار عليه
به الهرمزان لما رآه يبعث البعوث بغير ديوان فقال له ومن يعلم بغيبة من يغيب منهم
فإن من تخلف أخل بمكانه وإنما يضبط ذلك الكتاب فأثبت لهم ديوانا فأمر عمر رضي الله
عنه عقيل بن أبي طالب ومخزمة بن نوفل وجبير بن مطعم وكانوا من كتاب قريش فكتبوا
ديوان العساكر الإسلامية مرتبا على الأنساب مبتدأ فيه بقرابة رسول الله صلى الله
عليه وسلم الأقرب فالأقرب بعد أن قال علي وعبد الرحمن بن عوف لعمر ابدأ بنفسك فقال
لا بل بعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدأ بالعباس ثم بالأقرب فالأقرب من رسول
الله صلى الله عليه وسلم وفرض لأهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف وفرض لمن بعدهم إلى
الحديبية أربعة آلاف أربعة آلاف ثم لمن بعدهم ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف ثم ألفين
وخمسمائة ثم لأهل القادسية وأهل الشام ألفين ألفين وفرض لمن بعد القادسية واليرموك
ألفا ألفا ولروادفهم خمسمائة خمسمائة ثم ثلاثمائة ثم مائتين وخمسين ثم مائتين
وأعطى نساء النبي صلى الله عليه وسلم لكل واحدة عشرة آلاف وفضل عائشة بألفين وجعل
النساء على مراتب فلأهل بدر خمسمائة ثم أربعمائة ثم ثلاثمائة ثم مائتين والصبيان
مائة مائة
____________________
والمساكين جريبين في الشهر ولم
يترك في بيت المال شيئا وسئل في ذلك فأبى وقال هي فتنة لمن بعدي ثم سأل رضي الله
عنه الصحابة في قوته هو من بيت المال فأذنوا له وسألوه في الزيادة على لسان ابنته
حفصة متكتمين عنه فغضب وامتنع
وفي سنة ست عشرة قدم جبلة بن الأيهم ملك غسان على عمر رضي الله عنه في جماعة من
أصحابه مسلمين فتلقاه المسلمون ودخل في زي حسن وبين يديه جنائب مقادة وعلى أصحابه
الديباج حتى تطاول النساء من خدورهن لرؤيته وأكرم عمر وفادته وأحسن نزله وأجله
بأرفع رتب المهاجرين ثم خرج عمر للحج في هذه السنة فحج معه جبلة فبينما جبلة يطوف
بالبيت إذا وطئ رجل من فزارة فضل إزاره فلطمه جبلة فهشم أنفه فأقبل الفزاري إلى
عمر وشكاه فأحضره عمر وقال له افتد نفسك وإلا أمرته بلطمك فقال جبلة كيف ذلك وأنا
ملك وهو سوقة فقال عمر إن الإسلام جمعكما وسوى بين الملك والسوقة في الحد فقال
جبلة كنت أظن أني بالإسلام أعز مني في الجاهلية فقال عمر دع عنك هذا فقال جبلة إني
أتنصر فقال عمر إن تنصرت ضربت عنقك فقال له أنظرني ليلتي هذه فأنظره فلما جاء
الليل سار جبلة بخيلة ورجله إلى الشام ثم منها إلى القسطنطينة وتبعه خمسمائة رجل
من قومه فتنصروا عن آخرهم وفرح هرقل به وأكرمه ثم ندم جبلة على فعلته تلك وقال
( تنصرت الأشراف من عار لطمة ** وما كان فيها لو صبرت لها ضرر )
( تكنفني فيها لجاج ونخوة ** وبعت لها العين الصحيحة بالعور )
( ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة ** وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر )
( ويا ليت لي بالشام أدنى معيشة ** أجالس قومي ذاهب السمع والبصر )
( أدين بما دانوا به من شريعة ** وقد يحبس العير الدجون على الدبر ) وكان قد مضى
رسول عمر إلى هرقل وشاهد ما هو فيه جبلة من النعمة
____________________
فأرسل جباة بخمسمائة دينار إلى
حسان بن ثابت وأمضاها له عمر فمدحه حسان بن ثابت بأبيات منها
( إن ابن جفنة من بقية معشر ** لم يغذهم آباؤهم باللوم )
( لم ينسني بالشام إذ هو ربها ** كلا ولا متنصرا بالروم )
( يعطي الجزيل ولا يراه عنده ** إلا كبعض عطية المذموم )
وفي سنة سبع عشرة جيء إلى عمر بالهرمزان ملك الأهواز أسيرا ومعه وفد فيهم أنس بن
مالك والأحنف بن قيس فلما وصلوا به إلى المدينة ألبسوه كسوته من الديباج المذهب
ووضعوا على رأسه تاجه وهو مكلل بالياقوت ليراه عمر والمسلمون على هيئته التي يكون
عليها في ملكه فطلبوا عمر فلم يجدوه فسألوا عنه فقيل هو في المسجد فأتوه فإذا هو
نائم فجلسوا دونه فقال الهرمزان أين هو عمر قالوا هو ذا قال فأين حرسه وحجابه
قالوا ليس له حارس ولا حاجب فنظر الهرمزان إلى عمر وقال عدلت فأمنت فنمت واستيقظ
عمر لجلبة الناس فقال الهرمزان قالوا نعم يا أمير المؤمنين فقال الحمد لله الذي
أذل بالإسلام هذا وأشباهه وأمر بنزع ما عليه فنزعوه وألبسوه ثوبا ضيقا فقال عمر
كيف رأيت عاقبة أمر الله فيك فقال الهرمزان لما خلى الله بيننا وبينكم في الجاهلية
غلبناكم ولما كان الله الآن معكم غلبتمونا
وفي سنة ثمان عشرة كانت مجاعة الرمادة وطاعون عمواس وحلف عمر لا يذوق السمن واللبن
حتى يحيى الناس واستسقى عمر بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فسقوا وهلك
بالطاعون أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل ويزيد ابن أبي سفيان والحارث بن هشام
وسهيل بن عمرو وابنه عتبة في آخرين أمثالهم وتفانى الناس بالشام وبالبصرة أيضا
ولما فحش أثر الطاعون بالشام أجمع عمر المسير إليه ليقسم مواريث المسلمين ويتطوف
على الثغور ففعل ورجع وكانت له خرجة أخرى قبل هذا لفتح بيت المقدس
وفي سنة عشرين فتح عمرو بن العاص مصر والإسكندرية وشهد الفتح
____________________
معه الزبير بن العوام وجماعة
من كبار الصحابة
وفي سنة اثنتين وعشرين سار عمرو بن العاص إلى برقة فصالحه أهلها على الجزية ثم سار
إلى طرابلس الغرب فحاصرها وفتحها عنوة
وفي سنة ثلاث وعشرين كانت وفاة عمر رضي الله عنه على ما سيأتي وفي الصحيح عن ابن
مسعود رضي الله عنه قال ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر وعنه أيضا قال لما أسلم عمر كان
الإسلام كالرجل المقبل لا يزداد إلا قوة ولما مات عمر كان الإسلام كالرجل المدبر
لا يزداد إلا ضعفا وعند ابن أبي شيبة رضي الله عنه قال كان إسلام عمر عزا وهجرته
نصرا وإمارته رحمة وفي الصحيح أيضا عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال ( بينا أنا نائم رأيتني على قليب وعليها دلو فنزعت
منها ما شاء الله ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف
والله يغفر له ثم استحالت غربا فأخذها عمر بن الخطاب فلم أر عبقريا من الناس ينزع
نزع عمر وفي رواية فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن ) قال
النووي رحمه الله قالوا هذا المنام مثال لما جرى للخليفتين من ظهور آثارهما
الصالحة وانتفاع الناس بهما وكل ذلك مأخوذ من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه صاحب
الأمر فقام به أكمل قيام وقرر قواعد الدين ثم خلفه أبو بكر فقاتل أهل الردة وقطع
دابرهم ثم خلفه عمر فطالت مدة خلافته عشر سنين وزيادة واتسع الإسلام في زمانه فشبه
أمر المسلمين بقليب فيه الماء الذي فيه حياتهم وصلاحهم وأميرهم بالمستقي لهم منها
وسعته هي قيامه بمصالحهم اه
قلت من تأمل أمر عمر رضي الله عنه علم أنه كان عجبا من العجب فإنه عمد إلى ثلاث
دول هي أعظم دول العالم في ذلك الوقت دولة الفرس ودولة الروم ودولة القبط فحاربهم
في نفس واحد وفرق جيوشه عليهم مع قلة المسلمين إذ ذاك وشظف عيشهم فغلبهم على
ممالكهم وأزال عزهم وكسر كراسيهم وأمات نخوتهم بحيث ضرب الجزية على رقابهم طول
أحقابهم
____________________
فلم يطالبوا بعدها بثأر ولا
عادوا إلى جماح ونفار بل أعطوا القادة وأسلموا أنفسهم للصغار ثم لم يكتف بذلك حتى
أغزى خيل المسلمين أطراف المعمور من خراسان والترك وبلاد النوبة وبلاد البربر
ولعمري ما أمر الإسكندر الذي تضرب الأمم به المثل في الغلبة والتمكن في الأرض إلا
دون أمر عمر بكثير فإن الإسكندر كان غازيا بجميع جيشه متوليا ذلك بنفسه جوالا في
الأرض غير مقيم ووجهته في حروبه وجهة واحدة كلما فرغ من مملكة انتقل إلى غيرها
تاركا للتي خلف وراءه غير ملتفت إليها وكأنه كان لا عرض له إلا في إظهار القوة
والبطش والغلبة على الأمم دون ما سوى ذلك من تصريف الممالك طوع الأمر والنهي ولذا
قال حمزة الأصبهاني في كتابه تواريخ الأمم وما رواه القصاص من إن الإسكندر بنى
بأرض إيران عدة مدن منها أصبهان ومرو وهراة وسمرقند فحديث لا أصل له لأن الرجل كان
مخربا لا عامرا اه فأما عمر رضي الله عنه فإنه لما استولت جيوشه على أكثر المعمور
صرف ممالكها طوع أمره حتى جبي إليه خراجها وثبتت استقامتها وزال اعوجاجها أقوى ما
كانوا شوكة وأشد قوة واكثر حامية ولم يمت رحمه الله حتى انتهت خيله في جهة الشرق
إلى نهر بلخ وفي جهة الشمال إلى البيضاء على مائتي فرسخ من بلنجر وفي جهة المغرب
إلى تخوم الروم وبلاد برقة وطرابلس الغرب كل ذلك في مدة يسيرة لم يجاوز معظمها
الثلاث سنين وهو مع ذلك في جوف بيته متردد فيما بين منزله ومسجده لم يستعمل لذلك
كثير أسباب ولا أجلب بنفسه بخيل ولا ركاب إنما هو الرأي الميمون والنصر المضمون
والأمر الجاري بين الكاف والنون والوعد المنجز بقوله تعالى { ليظهره على الدين كله
ولو كره المشركون } فأما وفاة عمر رضي الله عنه فروى ابن سعد بإسناد صحيح أن عمر
كان لا يأذن لمن احتلم من أولاد العجم في دخول المدينة حتى كتب إليه المغيرة بن
شعبة وهو على الكوفة فذكر له أن عنده غلاما صنعا وهو يستأذنه أن يدخله المدينة
ويقول إن له أعمالا تنفع
____________________
الناس إنه حداد نقاش نجار فأذن
له عمر وضرب عليه مولاه كل شهر مائة فشكى إلى عمر شدة الخراج فقال له ما خراجك بكثير
في جنب ما تعمل فانصرف ساخطا فلبث عمر ليالي فمر به العبد فقال عمر ألم أحدث أنك
تقول لو شئت لصنعت رحى تطحن بالريح فالتفت إليه عابسا فقال لأصنعن لك رحى يتحدث
الناس بها فأقبل عمر على من معه فقال توعدني العبد فلبث ليالي ثم اشتمل على خنجر
ذي رأسين نصابه في وسطه فكمن في زاوية من زوايا المسجد في الغلس حتى خرج عمر يوقظ
الناس للصلاة وكان عمر يفعل ذلك فلما دنا عمر وثب عليه فطعنه ثلاث طعنات إحداهن
تحت السرة قد خرقت الصفاق وهي التي قتلته
وفي صحيح البخاري عن عمرو بن ميمون قال رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب
بأيام بالمدينة وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف قال كيف فعلتما في أرض
السواد أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق يعني من الخراج قالا حملناها
أمرا هي له مطيقة ما فيها كبير فضل قال انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق
قالا لا فقال عمر لئن سلمني الله تعالى لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل
بعدي أبدا قال فما أتت عليه رابعة حتى أصيب قال عمرو بن ميمون إني لقائم ما بيني
وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب وكان إذا مر بين الصفين قال استووا حتى إذا
لم ير فيهن خللا تقدم فكبر وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة
الأولى حتى يجتمع الناس فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول قتلني أو أكلني الكلب حين
طعنه أبو لؤلؤة واسمه فيروز فطار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا ولا
شمالا إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلا مات منهم سبعة فلما رأى ذلك رجل من
المسلمين واسمه حطاب التميمي اليربوعي طرح عليه برنوسا فلما ظن العلج أنه مأخوذ
نحر نفسه وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى
وأما نواحي المسجد فإنهم لا
____________________
يدرون غير أنهم قد فقدوا صوت
عمر وهم يقولون سبحان الله سبحان الله فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة فلما
انصرفوا قال يا ابن عباس انظر من قتلني فجال ساعة ثم جاء فقال غلام المغيرة قال
الصنع قال نعم قال قاتله الله لقد أمرت به معروفا الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي
بيد رجل يدعي الإسلام قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة وكان العباس
أكثرهم رقيقا قال إن شئت فعلنا أي إن شئت قتلنا قال كذبت بعدما تكلموا بلسانكم
وصلوا إلى قبلتكم وحجوا حجكم فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه وكان الناس لم تصبهم
مصيبة قبل يومئذ فقائل يقول لا بأس وقائل يقول أخاف عليه فأتي بنبيذ فشربه فخرج من
جرحه ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جرحه فعلموا أنه ميت فدخلنا عليه وجاء الناس يثنون
عليه وجاء رجل شاب فقال أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك بصحبة رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقدم في الإسلام ما قد علمت ثم وليت فعدلت ثم شهادة قال وددت أن
ذلك كفاف لا علي ولا لي فلما أدبر الشاب إذا إزاره يمس الأرض قال ردوا علي الغلام
قال يا ابن أخي ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك يا عبد الله بن عمر انظر
ماذا علي من الدين فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا أو نحوه قال إن وفى له مال آل
عمر فأده من أموالهم وإلا فاسأل في بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم فاسأل في
قريش ولا تعدهم إلى غيرهم فأد عني هذا المال انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل يقرأ
عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا وقل يستأذن
عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي
فقال يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه فقالت كنت أريده
لنفسي ولأوثرنه به اليوم على نفسي فلما أقبل قيل هذا عبد الله بن عمر قد جاء قال
ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال ما لديك قال الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت قال
الحمد لله ما كان من شيء
____________________
أهم علي من ذلك فإذا أنا قضيت
فاحملوني ثم سلم فقل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فادخلوني وإن ردتني ردوني
إلى مقابر المسلمين وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها فلما رأيناها قمنا
فولجت عليه فبكت عنده ساعة واستأذن الرجال فولجت داخلا لهم فسمعنا بكاءها من
الداخل فقالوا أوص يا أمير المؤمنين استخلف قال ما أجد أحدا أحق بهذا الأمر من
هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض فسمى
عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن وقال يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له
من الأمر شيء كهينة التعزية له فإن أصابت الإمارة سعدا فهو ذاك وإلا فليستعن به
أيكم ما أمر فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة وقال أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين
الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم وأوصيه بالأنصار الذين تبوءوا الدار
والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم وأن يعفي عن مسيئهم وأوصيه بالأنصار خيرا
فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم
وأوصيه بالأعراب خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام أن يؤخذ من حواشي أموالهم
وترد على فقرائهم وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله أن يوفي لهم بعدهم وأن يقاتل من
ورائهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلم عبد الله بن
عمر وقال يستأذن عمر بن الخطاب قالت أدخلوه فأدخل فوضع هنالك مع صاحبيه فلما فرغ
من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم فقال
الزبير قد جعلت أمري إلى علي فقال طلحة قد جعلت أمري إلى عثمان وقال سعد قد جعلت
أمري إلى عبد الرحمن بن عوف فقال عبد الرحمن أيكما يتبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه
والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه فأسكت الشيخان فقال عبد الرحمن
أفتجعلونه إلي والله على أن لا آلو عن أفضلكم قالا نعم فأخذ بيد أحدهما فقال لك
____________________
من قرابة رسول الله صلى الله
عليه وسلم والقدم ما قد علمت فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن ولئن أمرت عثمان لتسمعن
ولتطيعن ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك فلما أخذ الميثاق قال ارفع يدك يا عثمان
فبايعه وبايع له علي وولج أهل الدار فبايعوه اه
وكانت وفاة عمر رضي الله عنه يوم السبت منسلخ ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين ودفن يوم
الأحد هلال المحرم سنة أربع وعشرين وكانت مدة خلافته عشر سنين وستة أشهر وثمانية
أيام كذا لأبي الفداء وفي حديث عائشة مما أخرجه أبو عمر بن عبد البر ناحت الجن على
عمر رضي الله عنه قبل أن يموت بثلاث فقالت
( أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ** له الأرض تهتز العضاه بأسوق )
( جزى الله خيرا من إمام وباركت ** يد الله في ذاك الأديم الممزق )
( فمن يسع أو يركب جناح نعامة ** ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق )
( قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ** بوائق من أكمامها لم تفتق ) خلافة أمير المؤمنين
عثمان بن عفان رضي الله عنه
هو أبو عمرو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي
يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف ولي الخلافة بعد عمر رضي الله
عنه باختيار أهل الشورى له وقد تقدم خبر ذلك مستوفى ولما بويع رقى المنبر وقام
خطيبا فحمد الله وتشهد ثم ارتج عليه فقال إن أول كل أمر صعب وإن أعش فستأتيكم
الخطب على وجهها إن شاء الله ثم نزل وأقر عمال عمر كلهم إلا ما كان من المغيرة بن
شعبة أمير الكوفة فإنه عزله واستبدل به سعد بن أبي وقاص لوصية عمر بذلك ثم بعد مدة
نحو سنة عزل من عزل من عمال عمر واستبدل بهم آخرين كان فيهم من هو من قرابته فعزل
سعد بن أبي وقاص عن الكوفة وولى عليها الوليد بن عقبة وكان أخا عثمان من أمه وعزل
عمرو بن العاص عن مصر وولى عليها
____________________
عبد الله بن سعد بن أبي سرح
العامري وكان أخاه من الرضاعة ثم عزل بعد ذلك أبا موسى الأشعري عن البصرة وولى
عليها عبد الله بن عامر بن كريز وهو ابن خاله واستكتب مروان بن الحكم بن أبي العاص
وهو ابن عمه كل ذلك كان لمصلحة اقتضاها الحال وضم حمص وقنسرين وفلسطين وغيرها من
بلاد الشام إلى معاوية بن أبي سفيان أمير دمشق ومضى رضي الله عنه على سنن عمر في
الجهاد وتجهيز الجيوش وتكتيب الكتائب حتى اتسعت خطة الإسلام اتساعا أعظم منه في
خلافة عمر رضي الله عنه وكان لأول خلافة عثمان قد انتقض بعض الثغور والجهات مثل
الإسكندرية وبعض بلاد العجم وفارس ونحو ذلك فتلاقاها بالغزو والبعوث حتى عادت إلى
الطاعة وأدت ما كانت تؤديه أيام عمر أو أكثر وفتح عليه بلاد أرمينية مثل تفليس
وقاليقلا وخلاط والسيرجان وعدة حصون وانتهى الفتح إلى مدينة الباب وكان ذلك على يد
سليمان بن ربيعة الباهلي سنة أربع وعشرين وغزا معاوية صاحب الشام أيضا بلاد الروم
حتى بلغ عمورية ووجد ما بين أنطاكية وطرطوس من حصون الروم خاليا فجمع فيها العساكر
حتى رجع وخربها وكذا استتم المسلمون في خلافة عثمان رضي الله عنه فتح مدن خراسان
والجوزجان والطالقان وطخارستان وما وراء النهر إلى فرغانة في الشرق وانتهى الفتح
أيضا إلى كابل وزابلستان وهي بلاد غزنة من ثغور الهند في الجنوب
____________________
فتح أفريقية وفتح في خلافة
عثمان رضي الله عنه إفريقية أيضا من بلاد المغرب وكان من خبرها أنه لما كانت سنة
ست وعشرين من الهجرة عزل عثمان رضي الله عنه عمرو بن العاص رضي الله عنه عن خراج
مصر واستعمل مكانه عبد الله بن سعد بن أبي سرح رضي الله عنه فلما قدم ابن أبي سرح
مصر كان على خراجها وعمرو بن العاص على حربها فكتب ابن أبي سرح إلى عثمان يشكو
عمرا فاستقدمه عثمان واستقل ابن أبي سرح بالخراج والحرب معا ثم أمره عثمان بغزو
إفريقية بعد أن كان عمرو بن العاص استشار عمر رضي الله عنه في غزوها فمنعه من ذلك
وقال له تلك المفرقة وليست بإفريقية أو كلاما هذا معناه ولما أمر عثمان بن أبي سرح
بغزوها قال له إن فتح الله عليك فلك خمس الخمس من الغنائم ثم عقد عثمان لعبد الله
بن نافع بن عبد القيس على جند ولعبد الله بن نافع بن الحارث على آخر وسرحهما
فخرجوا إلى أفريقية في عشرة آلاف وصالحهم أهلها على مال يؤدونه ولم يقدروا على
التوغل فيها لكثرة أهلها ثم إن ابن أبي سرح استأذن عثمان في ذلك واستمده فاستشار
عثمان الصحابة رضي الله عنهم فأشاروا به فجهز العساكر من المدينة وفيهم جماعة من
الصحابة منهم ابن عباس وابن عمر وابن عمرو بن العاص وابن جعفر والحسن والحسين رضي
الله عنهم وساروا مع ابن أبي سرح سنة ست وعشرين ولقيهم عقبة بن نافع فيمن معه من
المسلمين ببرقة ثم ساروا إلى طرابلس فنهبوا
____________________
الروم عندها ثم ساروا إلى
إفريقية وبثوا السرايا في كل ناحية وكان ملكهم جرجير يملك ما بين طرابلس وطنجة تحت
ولاية هرقل ويحمل إليه الخراج فلما بلغه الخبر جمع مائة وعشرين ألفا من العساكر
ولقيهم على يوم وليلة من سبيطلة دار ملكهم وأقاموا يقتتلون ودعوه إلى الإسلام أو
الجزية فاستكبر ولحقهم عبد الله بن الزبير مددا بعثه عثمان لما أبطأت أخبارهم وسمع
جرجير بوصول المدد ففت في عضده وشهد ابن الزبير معهم القتال وقد غاب ابن أبي سرح
فسأل عنه فقيل إنه سمع منادي جرجير يقول من قتل ابن أبي سرح فله مائة ألف دينار
وأزوجه ابنتي فخاف وتأخر عن شهود القتال فقال له ابن الزبير تنادي أنت بأن من قتل
جرجير نفلته مائة ألف وزوجته ابنته واستعملته على بلاده فخاف جرجير أشد منه ثم قال
عبد الله بن الزبير لابن أبي سرح الرأي أن تترك جماعة من أبطال المسلمين المشاهير
متأهبين للحرب وتقاتل الروم بباقي العسكر إلى أن يضجروا فتركبهم بالآخرين على غرة
لعل الله ينصرنا عليهم ووافق على ذلك أعيان الصحابة ففعلوا ذلك وركبوا من الغد إلى
الزوال وألحوا عليهم حتى أتعبوهم ثم افترقوا وأركب عبد الله الفريق الذين كانوا
مستريحين فكبروا وحملوا حملة رجل واحد حتى غشوا الروم في خيامهم فانهزموا وقتل
كثير منهم وقتل ابن الزبير جرجير وأخذت ابنته سبية فنفلها ابن أبي سرح ابن الزبير
ثم حاصر ابن أبي سرح سبيطلة حتى فتحها وكان سهم الفارس فيها ثلاثة آلاف دينار وسهم
الراجل ألفا وبث جيوشه في البلاد إلى قفصه فسبوا وغنموا وبعث عسكرا إلى حصن الأجم
وقد اجتمع به أهل البلاد فحاصره وفتحه على الأمان ثم صالحه أهل أفريقية على ألفي
ألف وخمسمائة ألف دينار وأرسل عبد الله بن أبي سرح عبد الله بن الزبير بخبر الفتح
وبالخمس إلى عثمان رضي الله عنه فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار ثم
وضعها عنه عثمان وأعطى ابن أبي سرح خمس الخمس من الغزوة الأولى ثم بعد تمام الصلح
رجع عبد الله بن أبي سرح
____________________
إلى مصر بعد مقامه بأفريقية
سنة وثلاثة أشهر ويقال إنه لما فتح إفريقية أمر عثمان رضي الله عنه عبد الله بن نافع
أن يسير إلى جهة الأندلس فغزا تلك الجهة وعاد إلى أفريقية فأقام بها واليا من قبل
عثمان ورجع ابن أبي سرح إلى مصر والله أعلم
وفي سنة ثمان وعشرين استأذن معاوية عثمان في غزو البحر فأذن له وقد كان معاوية وهو
بحمص أيام عمر رضي الله عنه كتب إليه في شأن جزيرة قبرص يقول إن قرية من قرى حمص
يسمع أهلها نباح كلاب قبرص وصياح ديوكهم فكتب عمر إلى عمرو بن العاص يقول صف لي
البحر وراكبه فكتب إليه عمرو يقول هو خلق كبير يركبه خلق صغير ليس إلا السماء
والماء إن ركد أقلق القلوب وإن تحرك أزاغ العقول يزداد فيه اليقين قلة والشك كثرة
وراكبه دود على عود إن مال غرق وإن نجا فرق فكتب عمر إلى معاوية والذي بعث محمدا
بالحق لا أحمل فيه مسلما أبدا وقد بلغني أن بحر الشام يشرف على أطول جبل بالأرض
فيستأذن الله كل يوم وليلة في أن يغرق الأرض فكيف أحمل الجنود على هذا البحر
الكافر وبالله لمسلم واحد أحب إلي مما حوت الروم فإياك أن تعرض لي في ذلك فقد علمت
ما لقي العلاء مني ثم لما كانت خلافة عثمان ألح معاوية عليه في غزو البحر فأجابه
على خيار الناس وطوعهم فاختار الغزو جماعة من الصحابة فيهم أبو ذر وأبو الدرداء
وشداد بن أوس وعبادة بن الصامت وزوجه أم حرام بنت ملحان واستعمل عليهم عبد الله بن
قيس حليف بني فزارة وساروا إلى قبرص وجاء عبد الله بن أبي سرح من مصر فاجتمعوا
عليها وصالحهم أهلها على سبعة آلاف دينار لكل سنة ويؤدون مثلها للروم ولا منعة لهم
على المسلمين ممن أرادهم من سواهم وعلى أن يكونوا عينا للمسلمين على عدوهم ويكون
طريق الغزو للمسلمين عليهم وكانت هذه
____________________
الغزاة سنة ثمان وعشرين كما
قدمنا وقيل غير ذلك وفيها توفيت أم حرام بنت ملحان سقطت عن دابتها حين خرجت من
البحر وكان النبي صلى الله عليه وسلم أخبرها بذلك وهو نائم عندها كما في الصحيح
وأقام عبد الله بن قيس على البحر فغزا خمسين غزوة لم ينكب فيها أحد إلى أن نزل في
بعض الأيام في ساحل المرفأ من أرض الروم فثاروا إليه فقتلوه ونجا الملاح وكان
استخلف سفيان بن عوف الأزدي على السفن فجاء إلى أهل المرفأ وقاتلهم حتى قتل وقتل
معه جماعة من المسلمين
وفي سنة ثلاثين جمع عثمان القرآن الجمع الثاني في المصاحف وفيها هلك يزدجرد كسرى
فارا من جيوش المسلمين بمدينة مرو من خراسان وهو آخر الأكاسرة وبموته انقرضت دولة
آل ساسان وكان من خبر جمع القرآن ما أخرجه البخاري عن ابن شهاب أن أنس بن مالك
حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية
وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان يا
أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى
فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك
فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص
وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين
الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما
نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة فأرسل
إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق
قال ابن شهاب وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أنه سمع أباه زيد بن ثابت قال فقدت آية
من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها
فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري { من المؤمنين رجال صدقوا ما }
____________________
عاهدوا الله عليه ) فألحقناها
في سورتها في المصحف
وفي سنة ثلاث وثلاثين تكلم جماعة من أهل الكوفة في عثمان بأنه ولى جماعة من أهل
بيته لا يصلحون للولاية ونقموا عليه أمورا أخر لا حاجة بنا إلى ذكرها مع أنه كان
فيها مجتهدا وذلك أن عثمان رضي الله عنه كان فيه مزيد حياء ورأفة وبرور بأقاربه
وكان عمر رضي الله عنه مرهوب الجانب عند الخاصة والعامة له عين كالئة على الرعية بصيرا
بما يأتون ويذرون محدثا في ذلك كما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم وكان من الحزم
والضبط على ما وصفته عائشة رضي الله عنها إذ قالت رحم الله عمر كان أحوذ به نسيج
وحده قد أعد للأمور أقرانها فكان عثمان ألين جانبا من عمر فتوسع الناس في زمانه في
أمور الدنيا أكثر مما كانوا عليه في زمان عمر واستعملوا النفيس من الملبس والمسكن
والمطعم واقتنوا الضياع والآثاث
قال المسعودي في مروج الذهب وفي أيام عثمان اقتنى الصحابة الضياع والمال فكان له
يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم وقيمة ضياعه بوادي القرى
وحنين وغيرهما مائة ألف دينار وخلف إبلا وخيلا كثيرة وبلغ الثمن الواحد من متروك
الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار وخلف ألف فرس وألف أمة وكانت غلة إلى طلحة من
العراق ألف دينار كل يوم ومن ناحية السراة أكثر من ذلك وكان على مربط عبد الرحمن
بن عوف ألف فرس وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم وبلغ الربع من متروكه بعد وفاته
أربعة وثمانون ألفا وخلف زيد بن ثابت من الفضة والذهب ما كان يكسر بالفؤوس غير ما
خلف من الأموال والضياع بمائة ألف دينار وبنى الزبير داره بالبصرة وكذلك بنى بمصر
والإسكندرية والكوفة وكذلك بنى طلحة داره بالكوفة وشيد داره بالمدينة وبناها بالجص
والآجر والساج وبنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق ورفع سمكها وأوسع فضاءها وجعل
على أعلاها شرفات وبنى المقداد داره بالمدينة وجعلها مجصصة الظاهر والباطن وخلف
يعلى بن منية خمسين ألف دينار وغير
____________________
ذلك مما قيمته ثلاثمائة ألف
درهم اه كلام المسعودي فاستحالت الأحوال في زمان عثمان كما ترى ولما رأى ذلك بعض
الناس ممن لم يكن له رسوخ في الفقه والدين ولا هو من أهل السابقة من فضلاء الصحابة
والمسلمين صاروا ينقمون على عثمان بأنه أهمل أمر الرعية وخالف سيرة العمرين مع ما
أنضاف إلى ذلك من تولية أقاربه وحاشاه من ذلك رضي الله عنه فإن الرجل كان مجتهدا
وهو أهل للاجتهاد وما تخيلوه من إهماله أمر الرعية حتى استحال أمرها إلى ما ذكر
تخيل باطل إذ ليس في طوقه ولا بسببه وإنما طبيعة العمران البشري تقتضي ذلك بسبب ما
فتح على المسلمين من الأقاليم والممالك والأقطار والنواحي والأمصار وترادف
الجبايات الفائقة الحصر وانثيال كنوز كسرى وقيصر وغيرهم من ملوك الأرض عليهم فأنى
يبقى الأمر على حاله مع هذا الفتح العجيب والنصر الغريب وقد قيل دوام الحال من
المحال والناس ليسوا على قدم واحد في الزهد في الدنيا فالحق الذي لا عوج فيه ولا
أمت أن عثمان رضي الله عنه كان على الحق حتى لقي ربه وما يعتدون به عليه من مخالفة
الشيخين رضي الله عنهما إن صح فمحله الاجتهاد كما قلنا ومعلوم أن أحكام الشرع تدور
مع المصالح والمفاسد وتختلف باختلاف الأزمان والأحوال كما لا يخفى على من له أدنى
مسيس بالفقه
قال ابن خلدون اختلاف الصحابة والتابعين إنما يقع في الأمور الدينية وينشأ عن
الاجتهاد في الأدلة الصحيحة والمدارك المعتبرة والمجتهدون إذا اختلفوا فإن قلنا إن
الحق في المسائل الاجتهادية في واحد من الطرفين ومن لم يصادفه فهو مخطئ فإن جهته
لا تتعين بإجماع فيبقى الكل على احتمال الإصابة والتأثيم مدفوع عن الكل إجماعا وإن
قلنا إن الكل حق وإن كل مجتهد مصيب فأحرى بنفي الخطأ والتأثيم ثم استمر أولئك
الناقمون على عثمان رضي الله عنه وتمادوا في طعنهم وتشغيبهم حتى تفاقم الأمر وشرى
الداء وأعوز الدواء واختلط المرعى بالهمل
____________________
( وكان ما كان مما لست أذكره ** فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر )
وآخر الأمر أنه لما كانت سنة خمس وثلاثين قدم من مصر جمع قيل ألف وقيل سبعمائة
وقدم من الكوفة جمع آخر ومن البصرة كذلك وحاصروا عثمان رضي الله عنه في داره وكانت
خطوب وقطعوا عنه الماء واستمر الحصار نحو أربعين يوما ثم تسور عليه جماعة من أهل
مصر داره فقتلوه وسال دمه على المصحف يقال أن الذي تولى قتله كنانة بن بشر التجيبي
وطعنه عمرو بن الحمق طعنات وجاء عمير بن ضابئ البرجمي وكان أبوه قد مات في سجن
عثمان فوثب عليه حتى كسر ضلعا من أضلاعه وكان قتله لثمان عشرة ليلة خلت من ذي
الحجة سنة خمس وثلاثين وكانت مدة خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوما وقيل
أنه قتل صبيحة عيد الأضحى من السنة المذكورة وهو الذي عند ابن الخطيب في رقم الحلل
وابن بدرون في شرح العبدونية ويؤيده قول حسان بن ثابت يرثيه
( ضحوا بأشمط عنوان السجود به ** يقطع الليل تسبيحا وقرآنا )
لتسمعن وشيكا في ديارهم ** الله أكبر يا ثارات عثمانا )
وقول الفرزدق بعده
( عثمان إذ قتلوه وانتهكوا ** دمه صبيحة ليلة النحر )
رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا به
____________________
خلافة أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب رضي الله عنه
هو أبو الحسن علي بن أبي طالب واسمه عبد مناف بن عبد المطلب جد النبي صلى الله
عليه وسلم واسمه شيبة وفيه يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم بويع بعد مقتل عثمان
رضي الله عنه باتفاق من يعتبر أهل الحل والعقد بعد امتناعه من ذلك
قال ابن خلدون لما قتل عثمان اجتمع طلحة و الزبير والمهاجرون والأنصار وأتوا عليا
يبايعونه فأبى وقال أكون وزيرا لكم خير من أن أكون أميرا ومن اخترتم رضيته فألحوا
عليه وقالوا لا نعلم أحق منك ولا نختار غيرك حتى غلبوه في ذلك فخرج إلى المسجد
وبايعوه وأول من بايعه طلحة ثم الزبير بعد أن خيرهما ويقال أنهما ادعيا الإكراه
بعد ذلك بأربعة أشهر وتخلف عن بيعة علي رضي الله عنه ناس من الصحابة وغيرهم فلم
يبغضهم وقال أولئك قوم قعدوا عن الحق ولم يقوموا مع الباطل ولما ولي الخلافة رضي
الله عنه أحيى السنة وأمات البدعة وأوضح منار الحق وأخمد نار الباطل ولم تأخذه في
الله لومة لائم
ولما دخلت سنة ست وثلاثين فرق عماله على النواحي فبعث إلى الكوفة عمارة بن شهاب
وكان من المهاجرين وولى على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري وعلى اليمن عبيد الله
بن عباس وكان من الأجواد وعلى مصر قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري وكان من أهل الجود
والشجاعة والرأي وعلى الشام سهل بن حنيف الأنصاري فلما وصل سهل إلى تبوك لقيته خيل
فقالوا من أنت قال أمير على الشام فقالوا إن كان بعثك غير عثمان فارجع فرجع إلى
علي ومضى قيس بن سعد إلى مصر فوليها واعتزلت عنه فرقة كانوا عثمانية وأبوا أن
يدخلوا في طاعة علي حتى يقتل قتلة عثمان ومضى عثمان بن حنيف إلى البصرة فدخلها
واتبعته فرقة وخالفته اخرى ومضى عمارة بن شهاب إلى الكوفة فلقيه طلحة بن خويلد
الأسدي الذي
____________________
كان ادعى النبوة زمان الردة
فقال له إن أهل الكوفة لا يستبدلون بأميرهم أحدا وكان عليها أبو موسى الأشعري من
قبل عثمان رحمه الله تعالى فرجع عمارة إلى علي ومضى عبيد الله بن عباس إلى اليمن
فوليها وكان العامل بها من قبل عثمان يعلى بن منية فأخذ ما كان بها من المال ولحق
بمكة ومعه ستمائة بعير وصار مع عائشة رضي الله عنها وذلك أن عائشة كانت خرجت إلى
مكة زمان حصار عثمان فقضت نسكها وانقلبت تريد المدينة فلقيها الخبر بمقتل عثمان
فأعظمت ذلك ودعت إلى الطلب بدمه ولحق بها طلحة والزبير وعبد الله بن عمر وجماعة من
بني أمية واتفق رأيهم على المضي إلى البصرة للاستيلاء عليها وكان عبد الله بن عمر
قد قدم مكة من المدينة فدعوه إلى المسير معهم فأبى وأعطى يعلى بن منية عائشة الجمل
المسمى بعسكر وكان اشتراه بمائة دينار فركبته وساروا فمروا في طريقهم بماء يقال له
الحوأب فنبحتهم كلابه فقالت عائشة أي ماء هذا فقيل ماء الحوأب فصرخت بأعلى صوتها
وقالت إنا لله وإنا إليه راجعون سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وعنده
نساؤه ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب ثم ضربت عضد الجمل فأناخته وقالت ردوني
أنا والله صاحبة ماء الحوأب وقامت بهم يوما وليلة إلى أن قيل النجاء فقد أدرككم
علي بن أبي طالب وغلبوها على رأيها فارتحلوا نحو البصرة فاستولوا عليها بعد قتال
مع أميرها عثمان بن حنيف ولما بلغ عليا رضي الله عنه مسير عائشة وطلحة والزبير إلى
البصرة سار نحوهم في أربعة آلاف من أهل المدينة فيهم أربعمائة ممن بايع تحت الشجرة
وثمانمائة من الأنصار وكانت رايته مع ابنه محمد بن الحنفية وعلى ميمنته الحسن وعلى
ميسرته الحسين وعلى الخيل عمار بن ياسر وعلى الرجالة محمد بن أبي بكر الصديق وعلى
مقدمته عبد الله بن العباس وكان مسيره في ربيع الآخر سنة ست وثلاثين
ولما وصل علي إلى ذي قار لقيه أمير البصرة عثمان بن حنيف وأخبره الخبر فقال علي إن
الناس وليهم قبلي رجلان فعملا بالكتاب والسنة ثم
____________________
وليهم ثالث فقالوا في حقه
وفعلوا ثم بايعوني وبايعني طلحة والزبير ثم نكثا ومن العجب انقيادهما لأبي بكر
وعمر وعثمان وخلافهما علي والله إنهما ليعلمان أني لست بدون رجل ممن تقدم ثم سار
علي يؤم البصرة فيمن معه من أهل المدينة وأهل الكوفة وانضم إلى عائشة وطلحة
والزبير جمع آخر والتقوا بمكان يقال له الخريبة عند موضع قصر عبيد الله بن زياد
يوم الخميس النصف من جمادى الآخرة من السنة المذكورة ولما تراءى الجمعان خرج طلحة
والزبير وجاءهم علي حتى اختلفت أعناق دوابهم فقال علي لقد أعددتما سلاحا وخيلا
ورجالا إن كنتما أعددتما عند الله عذرا ألم أكن أخاكما في دينكما تحرمان دمي وأحرم
دمكما فهل من حدث أحل لكما دمي قال طلحة ألبت على عثمان قال علي { يومئذ يوفيهم
الله دينهم الحق } فلعن الله قتلة عثمان يا طلحة أما بايعتني قال والسيف على عنقي
ثم قال الزبير أتذكر يوم قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لتقاتلنه وأنت له
ظالم ) قال اللهم نعم ولو ذكرت ذلك قبل مسيري ما سرت ووالله لا أقاتلنك أبدا
وافترقوا وكان علي رضي الله عنه قد بعث إليهم قبل اللقاء القعقاع بن عمرو التميمي
وأمره أن يشير بالصلح ما استطاع فقدم القعقاع على عائشة أولا وقال أي أماه ما
أشخصك قالت أريد الإصلاح بين الناس قال فابعثي إلى طلحة والزبير فاسمعي مني ومنهما
فبعثت إليهما فجاءا فقال لهما القعقعاع إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها فقالت
الإصلاح فقال طلحة والزبير كذلك هو قال القعقاع فأخبراني ما هو قالا قتلة عثمان
فإن تركهم ترك للقرآن قال فقد قتلتم منهم عددا من أهل البصرة يعني حين قتلوا
أميرها عثمان بن حنيف قال وغضب لهم ستة آلاف واعتزلوكم وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه
ستة آلاف فإن قاتلتم هؤلاء كلهم اجتمع ربيعة ومضر على حربكم فأين الإصلاح قالت
عائشة فماذا تقول أنت قال هذا الأمر دواؤه التسكين فإذا سكن الأمر اختلجوا أي
أخذوا على غرة فقالوا قد أصبت وأحسنت فارجع إلى علي فإن كان على مثل رأيك
____________________
صلح الأمر فرجع القعقاع إلى
علي فأعجبه وأشرف القوم على الصلح وعلم بذلك جماعة ممن كان سعى في قتل عثمان أو
رضي به فقالوا إن يصطلح هؤلاء فعلى دمائنا يصطلحون ثم تعاقدوا على أنهم إذا التقوا
بجيش عائشة وطلحة والزبير أنشبوا القتال حتى يشتغل الناس عما عزموا عليه من الصلح
فكان كذلك فإنه لما كانت صبيحة الليلة التي اجتمع فيها علي بطلحة والزبير علس
أولئك المتعاهدون على إنشاب الحرب وما يشعر بهم أحد وصمدت منهم مضرإلى مضر وربيعة
إلى ربيعة واليمن إلى اليمن فوضعوا فيهم السلاح على حين غفلة فثار الناس وتسابقوا
إلى خيولهم وزحف البعض إلى البعض واشتبكت الحرب فكانت الوقعة العظمى المعروفة
بوقعة الجمل يوم الخميس لعشر بقين من الشهر المذكور أعني جمادى الأخيرة سنة ست
وثلاثين وقتل طلحة في المعركة والزبير وهو راجع إلى المدينة وعقر الجمل الذي كانت
عليه عائشة وأمر علي رضي الله عنه بنقل هودجها إلى دار عبد الله بن خلف الخزاعي
ونادى منادي علي يوم الجمل وكذا يوم صفين الآتي أن لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على
جريح ولا تدخلوا الدور ثم صلى على القتلى من الجانبين وأمر بالأطراف فدفنت في قبر
عظيم وجمع ما كان في العسكر من الأثاث وبعث به إلى مسجد البصرة وقال من عرف شيئا
فليأخذه إلا سلاحا عليه ميسم السلطان وأحصى القتلى من الجانبين فكانوا عشرة آلاف
منهم من ضبة ألف رجل وبلغ عليا أن بعض الغوغاء عرض لعائشة رضي الله عنها بالقول
السىء فأحضر البعض منهم وأوجعهم ضربا ثم جهزها إلى المدينة بما احتاجت إليه وبعث
معها أخاها محمد بن أبي بكر في أربعين امرأة من نساء البصرة اختارهن لمرافقتها وجاء
يوم ارتحالها فودعها واستعتب لها واستعتبت له ومشى معها أميالا وشيعها بنوه مسافة
يوم وذلك غرة رجب فذهبت إلى مكة وأقامت بها حتى حجت تلك السنة ثم رجعت إلى المدينة
واستعمل علي رضي الله عنه على البصرة عبد الله بن عباس وسار إلى الكوفة فنزل بها
وانتظم له الأمر بالعراق ومصر
____________________
واليمن والحرمين وفارس وخراسان
ولم يبق خارجا عن طاعته إلا أهل الشام وأميرهم معاوية بن أبي سفيان فبعث إليه علي
رضي الله عنه جرير بن عبد الله البجلي يأمره بالدخول فيما دخل فيه المهاجرون
والأنصار فلما قدم جرير على معاوية ماطله حتى قدم عليه عمرو بن العاص من فلسطين
فاستشاره فأشار عليه بترك البيعة والطلب بدم عثمان وأن يقاتل معه على أنه ظفر ولاه
مصر فاجابه معاوية إلى ذلك ورجع جرير إلى علي رضي الله عنه بالخبر فسار علي من
الكوفة قاصدا معاوية ومن معه بالشام وقدم عليه عبد الله بن عباس ومن معه من أهل
البصرة فقال علي رضي الله عنه
( لأصبحن العاص وابن العاص ** سبعين ألفا عاقدي النواصي )
( مجنبين الخيل بالقلاص ** مستحقبين حلق الدلاص )
وسار معاوية ومعه عمرو بن العاص وأهل الشام من دمشق يريد عليا وتأنى معاوية في
مسيره
____________________
حرب صفين
وخرجت سنة ست وثلاثين ودخلت سنة سبع بعدها فاجتمع الجيشان بصفين وتراسوا وتداعوا
إلى الصلح فلم يقض الله بذلك وكانت حرب يسيرة بالنسبة لما بعدها ولما دخل صفر وقع
بينهما القتال فكانت وقعات كثيرة بصفين يقال إنها تسعون وقعة وكانت مدة مقامهم على
الحرب مائة يوم وعشرة أيام وعدد القتلى بصفين من أهل الشام خمسة وأربعون ألفا ومن
أهل العراق خمسة وعشرون ألفا منهم ستة وعشرون من أهل بدر وكان علي رضي الله عنه قد
تقدم إلى أصحابه أن لا يقاتلوهم حتى يبدؤوهم بالقتال وأن لا يقتلوا مدبرا ولا
يكشفوا عورة ولا يأخذو من أموالهم شيئا وقاتل عمار بن ياسر رضي الله عنه مع علي
قتالا عظيما وكان عمره قد نيف على تسعين سنة وكانت الحربة في يده ويده ترتعد فقال
هذه راية قاتلت بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وهذه الرابعة ودعا
بقدح من لبن فشرب منه ثم قال صدق الله ورسوله اليوم ألقى الأحبة محمدا وحزبه قال
لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إن آخر رزقي من الدنيا ضيحة لبن وروي أنه كان
يرتجز
( نحن قتلناكم على تأويله ** كما قتلناكم على تنزيله )
( ضربا يزيل الهام عن مقيله ** ويذهل الخليل عن خليله )
ولم يزل عمار يقاتل ذلك اليوم حتى استشهد رضي الله عنه
وفي الصحيح المتفق عليه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( ويح عمار تقتله
الفئة الباغية ) وبعد قتل عمار رضي الله عنه انتخب علي اثني عشر ألفا بعد أن روى
لهم حديث عمار وحمل بهم على عسكر معاوية فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتفض ثم نادى
يا معاوية على ما نقتل الناس بيننا هلم
____________________
أحاكمك إلى الله فأينا قتل صاحبه استقام له الأمر فقال له عمرو بن العاص أنصفك
فقال معاوية لكنك ما أنصفت ثم تقاتلوا ليلة الهرير شبهت بليلة القادسية وكانت ليلة
الجمعة واستمر القتال إلى الصباح وكان علي يسير بين الصفوف ويحرض كل كتيبة على
التقدم حتى أصبح والمعركة كلها خلف ظهره
وروي أنه كبر تلك الليلة سبعمائة تكبيرة وكانت عادته أنه كلما قتل قتيلا كبر ودام
القتال إلى ضحى يوم الجمعة وقاتل الأشتر النخعي قتالا عظيما حتى انتهى إلى معسكرهم
وقتل صاحب رايتهم وأمده علي بالرجال فلما رأى عمرو شدة الأمر قال لمعاوية مر الناس
يرفعون المصاحف على الرماح ويقولون كتاب الله بيننا وبينكم فإن قبلوا ذلك ارتفع
عنا القتال وإن أبى بعضهم وجدنا في افتراقهم راحة ففعلوا ذلك فقال الناس نجيب إلى
كتاب الله فقال علي يا عباد الله امضوا على حقكم في قتال عدوكم فإن عمرا ومعاوية
وابن أبي معيط وابن أبي سرح والضحاك بن قيس ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن وأنا أعرف
بهم منكم ويحكم والله ما رفعوها إلا خديعة ومكيدة فقالوا لا يسعنا أن ندعى إلى
كتاب الله فلا نقبل فقال علي إنما قاتلناهم ليدينوا بكتاب الله فإنهم نبذوه فقال
جماعة من القراء الذين صاروا خوارج يا علي أجب إلى كتاب الله وإلا دفعناك برمتك
إلى القوم أو فعلنا بك ما فعلنا بابن عفان فقال علي رضي الله عنه إن تطيعوني
فقاتلوا وإن تعصوني فافعلوا ما بدا لكم وآخر الأمر إنهم اتفقوا على أن يحكموا
رجلين من الجانبين وما حكما به عليهم صاروا إليه فاختار أهل الشام عمرو بن العاص
داهية العرب واختار أهل العراق أبا موسى الأشعري بعد مراجعات وقعت بين علي وبينهم
واجتمع الحكمان عند علي لتكتب القضية بحضوره فكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما
تقاضى عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فقال عمرو بن العاص إنما هو أميركم وليس
بأميرنا فقال الأحنف لا تمحوا اسم أمير المؤمنين وقال
____________________
الأشعث امحها فقال علي الله
أكبر سنة بسنة والله إني لكاتب القضية يوم الحديبية فكتبت محمدا رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقالت قريش لست برسول الله ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فأمرني رسول
الله صلى الله عليه وسلم بمحوه فقلت لا أستطيع قال فأرنيه فأريته فمحاه بيده فقال
لي إنك ستدعى إلى مثلها فتجيب ثم كتب الكتاب هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب
ومعاوية بن أبي سفيان قاضى علي على أهل الكوفة ومن معهم وقاضى معاوية على أهل
الشام ومن معهم إنا ننزل عند حكم الله وكتابه وأن لا يجمع بيننا غيره وإن كتاب
الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيى ونميت ما أمات فما وجد الحكمان في
كتاب الله وهما أبو موسى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عملا به وما لم يجدا في
كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن
الجندين العهود والمواثيق إنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما والأمة لهما أنصار على
الذي يتقاضيان عليه وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن
يحكما بين هذه الأمة ولا يورداها في حرب ولا فرقة وأجلا القضاء إلى رمضان من السنة
وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه وإن مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام
وشهد رجال من أهل العراق ورجال من أهل الشام ووضعوا خطوطهم في الصحيفة ودعي الأشتر
النخعي ليشهد فقال لا صحبتني يميني ولا نفعتني بعدها شمالي إن وضع لي فيها اسم
وكتب الكتاب في يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين وعينوا
موضع الحكم بدومة الجندل فوقع الاجتماع للأجل المذكور
وحاصل ما كان من ذلك أن الحكمين اتفقا على خلع علي ومعاوية ويكون الأمر شورى بين
الناس حتى يختاروا من يقدمونه للأمر وقدم عمرو بن العاص أبا موسى على نفسه في
الكلام فتكلم أبو موسى على رؤوس الناس بما اتفقا عليه من خلع علي ومعاوية حتى ينظر
الناس لأنفسهم فلما سكت أبو موسى قام عمرو فقال أيها الناس إن هذا قد خلع
____________________
صاحبه وقد خلعته كما خلعه
وأثبت معاوية فهو ولي ابن عفان وأحق الناس بمقامه فكذبه أبو موسى وتنازعا وتشاتما
ومرج أمر الناس ولم يحصلوا على طائل وانسل أبو موسى الأشعري إلى مكة فأقام بها ولم
يرجع إلى علي حياء منه ومضى عمرو بن العاص في أهل الشام فسلموا على معاوية
بالخلافة ولام علي أصحابه فيما كان منهم من عصيانه أولا وانخداعهم لأهل الشام آخرا
وقال فيما قال كأني وإياكم كما قال أخو جشم
( أمرتهم أمري بمنعرج اللوا ** فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد )
وقال إن هذين الحكمين اللذين اخترتموهما تركا حكم الله وحكما بهوى النفس واختلفا
في حكمهما فلم يرشدهما الله فتأهبوا للجهاد واستعدوا للسير وأصبح علي رضي الله عنه
غاديا يريد الشام في ثمانية وسبعين ألفا
وكانت الخوارج قد خرجوا عليه واعتزلوه وقالوا حكمت الرجال في دين الله ولا حكم إلا
لله وبلغه أن الخوارج قد اجتمعوا بالنهروان وتعاهدوا على حرب المسلمين ثم بلغه أن
الخوارج البصرة لقوا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا من
النهروان فعرفهم بنفسه فسألوه عن أبي بكر وعمر فأثنى خيرا ثم عن عثمان في أول
خلافته وآخرها فقال كان محقا في الأول والآخر فسألوه عن علي قبل التحكيم وبعده
فقال هو أعلم بالله وأشد توقيا على دينه فقالوا إنك توالي الرجال على أسمائها ثم
ذبحوه وبقروا بطن امرأته وقتلوا معهما ثلاث نسوة من طيء ومن عجيب أمرهم أنهم لقوا
مسلما ونصرانيا فقتلوا المسلم وقالوا احفظوا ذمة نبيكم في النصراني فسار إليهم علي
رضي الله عنه وأرسل إليهم أن ادفعوا قتلة إخواننا منكم فنكف عنكم حتى نلقى أهل
المغرب فلعل الله يردكم إلى خير فأرسلوا إليه كلنا قد قتلهم وكلنا يستحل دماءكم
فأتاهم علي رضي الله عنه
____________________
فقال أيتها العصبة التي أخرجها
المراء من الحق إلى الباطل وأصبحت في اللبس والخطب العظيم إني نذير لكم أن تصبحوا
تلقاكم الأمة غدا صرعى بأثناء هذا النهر بغير بينة منكم ولا برهان ألم تعلموا أني
قد نهيتكم عن الحكومة إلي وأخبرتكم أن القوم إنما طلبوها خديعة فعصيتموني
وحملتموني على أن حكمت ولما حكمت شرطت وأخذت على الحكمين أن يحيى يا ما أحيا
القرآن ويميتا ما أمات فانقلبا وحكما بغير حكم الكتاب فنبذنا أمرهما ونحن على
أمرنا الأول فما الذي أصابكم ومن أين أتيتم قالوا حكمنا وكنا بذلك كافرين وقد تبنا
فإن تبت كما تبنا فنحن قومك وإلا فاعتزلنا ونحن ننابذك على سواء إن الله لا يحب
الخائنين فقال علي رضي الله عنه صبحكم صاحب ولا بقي منكم وافد أبعد إيماني برسول
الله صلى الله عليه وسلم وجهادي في سبيل الله وهجرتي مع رسول الله أشهد على نفسي
بالكفر { قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين } وروي أنه لما كلمهم واحتج عليهم
تنادوا لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيؤوا للقاء الرب الرواح الرواح إلى الجنة فخرج علي
رضي الله عنه فعبأ الناس ميمنة وميسرة ووقف هو في القلب في مضر وجعل على الخيل ابا
أيوب الأنصاري وعلى أهل المدينة وكانوا سبعمائة قيس بن سعد بن عبادة وعبأت الخوارج
على نحو هذه التعبية ورفع علي رضي الله عنه مع أبي أيوب الأنصاري راية الأمان
فنادى أبو أيوب من أتى هذه الراية ولم يقاتل ولم يستعرض فهو آمن ومن انصرف إلى
الكوفة أو المدائن فهو آمن ومن انصرف عن هذه الجماعة فهو آمن فاعتزل فروة بن نوفل
الأشجعي في خمسمائة وقال أعتزل حتى يتضح لي الأمر في قتال علي فنزل الدسكرة وخرج
آخرون إلى الكوفة ورجع آخرون إلى علي رضي الله عنه وكانوا أربعة آلاف فبقي منهم
ألف وثمانمائة فحمل عليهم علي والناس وزحفوا هم إلى علي رضي الله عنه ينادون
الرواح الرواح إلى الجنة فاستقبلهم الرماة وعطفت عليهم الخيل من المجنبتين ونهض
إليهم الرجال بالسلاح فهلكوا
____________________
كلهم في ساعة واحدة كأنما قيل
لهم موتوا فماتوا وكان جملة من قتل من أصحاب علي رضي الله عنه سبعة نفر فطلب علي
رضي الله عنه المخدج في القتلى فلم يوجد فقام رضي الله عنه وعليه أثر الحزن لفقده
فانتهى إلى قتلى بعضهم فوق بعض فقال أفرجوا ففرجوا يمينا وشمالا فاستخرجوه فقال
الله أكبر والله ما كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لناقص اليد ما
فيها عظم طرفها مثل ثدي المرأة عليها خمس شعرات أو سبع رؤوسها معقفة ثم قال أئتوني
به فنظر إلى منكبه فإذا اللحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة عليها شعرات سود إذا
مدت اللحمة امتدت حتى تحاذي بطن يده الأخرى ثم تترك فتعود إلى منكبه فقال أصحاب
علي رضي لله عنه قد قطع الله دابرهم آخر الدهر فقال علي والذي نفسي بيده إنهم لفي
أصلاب الرجال وأرحام النساء لا تخرج خارجة إلا خرجت بعدها مثلها حتى تخرج خارجة
بين الفرات ودجلة يقال لهم الشمط فيخرج إليهم رجل منا أهل البيت فيقتلهم فلا تخرج
لهم بعدها خارجة إلى يوم القيامة
وفي الصحيح عن سويد بن غفلة قال قال علي رضي الله عنه إذا حدثتكم عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم حديثا فوالله لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه وإذا
حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول ( سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول
البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما
لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم
ثم إن عليا رضي الله عنه ندب أصحابه إلى غزو الشام فتثاقلوا عليه ولما وصلوا إلى
الكوفة تسللوا إلى بيوتهم وتركوا المعسكر خاليا ولما رأى علي ذلك دخل الكوفة ثم
ندبهم ثانيا فلم ينفروا ثم ثالثا فلم ينشط منهم إلا القليل فخطبهم وأغلظ في عتابهم
وأعلمهم بما له عليهم من الطاعة في الحق والنصح فتثاقلوا وسكتوا واستمر الحال إلى
أن استأثر به ربه وأراحه من
____________________
شغبهم وقبضه إليه ونقله إلى
كرامته وجنته سابق مضمار الإيمان والهجرة والنصرة والنجدة والصهر والقربى والقناعة
والجهاد والعلم والزهد رضي الله عنه
وكان من خبر وفاته أن ثلاثة من الخوارج ممن نجا من وقعة النهروان وهم عبد الرحمن
بن ملجم المرادي وعمرو بن بكر التميمي السعدي والحجاج بن عبد الله التميمي الصريمي
ويلقب بالبرك اجتمعوا بمكة فذكروا إخوانهم الذين قتلوا بالنهروان وقالوا ما نصنع
بالبقاء بعدهم فلو شرينا أنفسنا وقتلنا أئمة الضلال وأرحنا منهم الناس فقال ابن
ملجم وكان من مصر أنا أكفيكم عليا وقال البرك أنا أكفيكم معاوية وقال عمرو بن بكر
أنا أكفيكم عمرو بن العاص وتعاهدوا أن لا يرجع أحد منهم عن صاحبه حتى يقتله أو
يموت دونه وتواعدوا سبع عشرة ليلة تمضي من رمضان من هذه السنة أعني سنة أربعين
وانطلقوا فلقي ابن ملجم أصحابه بالكوفة فطوى خبره عنهم إلا أنه جاء إلى شبيب بن
شجرة الأشجعي ودعاه إلى الموافقة على شأنه فقال شبيب ثكلتك أمك فكيف تقدر على قتله
فقال أكمن له في المسجد عند صلاة الغداة فإن قتلناه وإلا فهي الشهادة قال ويحك لا
أجدني أنشرح لقتله مع سابقته وفضله قال ألم يقتل العباد الصالحين أصحاب النهروان
قال بلى قال فنقتله بمن قتله منهم فأجابه ثم لقي امرأة من تيم الرباب فائقة الجمال
اسمها قطام قتل أبوها وأخوها يوم النهروان فخطبها ابن ملجم فشرطت عليه ثلاثة آلاف
درهم وعبدا وقنية وأن يقتل عليا وقالت فإن قتلته شفيت النفوس وإلا فهي الشهادة قال
والله ما جئت إلا لذلك ولك ما سألت وفي ذلك قيل
( ثلاثة آلاف وعبد وقنية ** وضرب علي بالحسام المسمم )
( فلا مهر أغلى من علي وإن غلا ** ولا فتك إلا دون ابن ملجم )
ثم قالت سأبعث معك من يشد ظهرك ويساعدك وبعثت معه رجلا من قومها اسمه وردان
____________________
فلما كانت الليلة التي واعد ابن ملجم أصحابه فيها وكانت ليلة الجمعة جاء إلى
المسجد ومعه شبيب ووردان وجلسوا قبالة السدة التي يخرج منها علي للصلاة فلما خرج
ونادى للصلاة علاه شبيب بالسيف فوقع في عضادة الباب وضربه ابن ملجم على مقدم رأسه
وقال الحكم لله يا علي لا لك ولا لأصحابك وهرب وردان إلى منزله وهرب شبيب مغلسا
ونجا في غمار الناس وقبض على ابن ملجم فجيء به مكتوفا إلى علي وقد حمل إلى بيته
فقال أي عدو الله ما حملك على هذا ثم قال إن هلكت فاقتلوه كما قتلني وإن بقيت رأيت
فيه رأيي يا بني عبد المطلب لا تحرضوا على دماء المسلمين وتقولوا قتل أمير
المؤمنين لا تقتلوا إلا قاتلي يا حسن إن أنا مت من ضربتي هذه فاضربه بسيفه ولا
تمثلن بالرجل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( إياكم المثلة ) وقال
له جندب بن عبد الله أنبايع الحسن إن فقدناك فقال ما آمركم به ولا أنهاكم عنه أنتم
أبصر ولما حضرته الوفاة كتب وصيته العامة ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله حتى قبض
رضي الله عنه
ولما قبض أخرج عبد الرحمن بن ملجم من السجن فقطع عبد الله بن جعفر يده ثم رجله ثم
لسانه وكحلت عيناه بمسمار محمى وأحرق لعنه الله وأما البرك فوثب على معاوية تلك
الليلة وضربه بالسيف فوقع في إليته وأخذ البرك فقال لمعاوية عندي بشرى أتنفعني إن
أنا أخبرتك بها قال نعم قال إن أخا لي قتل عليا هذه الليلة فقال معاوية لعله لم
يقدر عليه فقال بلى إن عليا ليس معه من يحرصه فقتله معاوية وقيل قطع يده ورجله
وأقام إلى أيام زياد فقتله بالبصرة وأما عمرو بن بكر التميمي فإنه جلس تلك الليلة
لعمرو بن العاص فلم يخرج عمرو إلى الصلاة لمرض أصابه واستناب خارجة بن حذافة
العدوي في الصلاة فشد عليه عمرو بن بكر وهو يظن أنه عمرو بن العاص فقتله فلما
أخذوه وأدخلوه على عمرو قال فمن قتلت إذا قالوا قتلت خارجة بن حذافة فقال أردت
عمرا وأراد الله خارجة فأرسلها
____________________
مثلا وأمر به عمرو فقتل ويرحم
الله ابن عبدون إذ يقول
( وليتها إذ فدت عمرا بخارجة ** فدت عليا بما شاءت من البشر )
وكانت وفاة علي رضي الله عنه صبيحة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة أربعين
كما ذكرنا وكانت مدة خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر واختلف في موضع قبره فقيل دفن
مما يلي قبلة المسجد بالكوفة وقيل عند قصر الإمارة بها وقيل نقله ابنه الحسن إلى
المدينة ودفنه بالبقيع عند زوجه فاطمة رضي الله عنها
قال أبو الفداء والأصح وهو الذي ارتضاه ابن الأثير وغيره إن قبره هو المشهور
بالنجف وهو الذي يزار اليوم
وفضائل علي رضي الله عنه ومناقبه في العدل وحسن السيرة أجل من أن يحاط بها من ذلك
مشاهده المشهورة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤاخاته له وسبق إسلامه
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) وقوله صلى الله
عليه وسلم يوم خيبر ( لأبعثن الراية غدا مع رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله
) وقوله صلى الله عليه وسلم له ( أما ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى )
وقال صلى الله عليه وسلم ( أقضاكم علي ) والقضاء يستدعي معرفة أبواب الفقه كلها
بخلاف قوله عليه السلام ( أفرضكم زيد وأقرأكم أبي ) ولم يضع رضي الله عنه لبنة على
لبنة حتى لقي الله وكان يقسم ما في بيت المال كل جمعة حتى لا يترك فيه شيئا ودخل
مرة بيت المال فوجد الذهب والفضة فقال يا صفراء اصفري ويا بيضاء ابيضي وغري غيري
لا حاجة لي فيك
وروي ابن عبد البر في الاستيعاب بسنده إلى مجمع التميمي أن عليا رضي الله عنه قسم
ما في بيت المال بين المسلمين ثم أمر به فكنس ثم صلى فيه رجاء أن يشهد له يوم
القيامة
وروى أيضا بسنده عن عاصم بن كليب عن أبيه قال قدم على علي مال من أصبهان فقسمه
سبعة اسباع ووجد فيه رغيفا فقسمه سبع كسر وجعل على
____________________
كل جزء كسرة ثم أقرع بينهم
أيهم يعطي أولا قال ابن عبد البر وأخباره رضي الله عنه في مل هذا من سيرته لا يحيى
ط بها كتاب ويرحم الله من قال
( أحسن من عود ومن ضارب ** ومن فتاة ناهد كاعب )
( ومن مدام في قواريرها ** يسعى بها ساق إلى شارب )
( ومن جياد الخيل في مهمه ** وضارب يسطو على ضارب )
( أحسن من ذاك وهذا وذا ** حب علي بن أبي طالب )
( لو فتشوا قلبي لألفوا به ** سطرين قد خطا بلا كاتب )
( العلم والتوحيد في جانب ** وحب آل البيت في جانب )
( إن كنت فيما قلته كاذبا ** فلعنه الله على الكاذب )
ولما توفي علي رضي الله عنه بايع الناس ابنه الحسن رضي الله عنه وأول من بايعه قيس
بن سعد بن عبادة قال له ابسط يدك على كتاب الله وسنة رسوله وقتال الملحدين فقال الحسن
على كتاب الله وسنة رسوله ويأتيان على كل شرط ثم بعد ذلك نزل لمعاوية عن الأمر في
خبر طويل نذكر منه ما في الصحيح فعن الحسن البصري رحمه الله قال استقبل والله
الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال فقال عمرو بن العاص إني لأرى كتائب لا
تولي حتى تقتل أقرانها فقال له معاوية وكان والله خير الرجلين أي عمرو إن قتل
هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء فمن لي بأمور الناس من لي بنسائهم من لي بضيعتهم فبعث
إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز
فقال اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه فأتياه فدخلا عليه
فتكلما وقالا له وطلبا إليه فقال لهما الحسن بن علي رضي الله عنهما إنا بني عبد
المطلب قد أصبنا من هذا المال وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها قالا فإنه يعرض
عليك كذا وكذا ويطلب إليك ويسألك قال فمن لي بهذا قالا نحن لك به فما سألهما شيئا
إلا قالا نحن لك به فصالحه قال الحسن البصري رحمه الله ولقد سمعت أبا بكرة يقول
رأيت
____________________
رسول الله صلى الله عليه وسلم
على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول ( إن
ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين )
وها هنا فائدتان الأولى هذه الحروب التي وقعت بين الصحابة رضي الله عنهم محملها
الإجتهاد كما قدمنا والذب عن الدين وكان الناس من السذاجة في الدين والتمسك به على
ما عهد منهم فكانوا إذا رأوا ما يظنونه منكرا غيروه ولو بإتلاف مهجهم إلا أنهم كان
منهم المجتهد المصيب وهو ذو الأجرين كما في الحديث ومنهم المجتهد المخطىء وهو ذو
الأجر الواحد كما في الحديث أيضا وكان علي رضي الله عنه مصيبا في جميع أمره من
أوله إلى آخره فعلى العاقل المحتاط لدينه أن يظن بصحابة رسول الله صلى الله عليه
وسلم الظن الجميل ويعمل بوصيته فيهم إذ قال عليه الصلاة والسلام ( الله الله في
أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم )
الحديث وإياي وإياه أن يجرح من زكاهم الله تعالى بقوله { كنتم خير أمة أخرجت للناس
تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } وزكاهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم زمرتهم وأمتنا على سنتهم وطريقتهم يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين ربنا
اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا
ربنا إنك رؤوف رحيم
الفائدة الثانية أطبق السلف على أن ترتيب الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم في الفضل
على حسب ترتيبهم في الخلافة وذهب بعض السلف إلى تقديم علي على عثمان وممن قال به
سفيان الثوري لكن قيل إنه رجع عنه وقالت الشيعة وكثير من المعتزلة الأفضل بعد
النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والحق هو القول الأول وهل التفضيل بين
الخلفاء قطعي أو ظني فالذي مال إليه الأشعري هو الأول والذي مال إليه القاضي أبو
بكر الباقلاني واختاره
____________________
إمام الحرمين في الإرشاد هو
الثاني وعبارته لم يقم عندنا دليل قاطع على تفضيل بعض الأئمة على بعض إذ العقل لا
يدل على ذلك والأخبار الورادة في فضائلهم متعارضة ولكن الغالب على الظن أن أبا بكر
أفضل الخلائق بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ثم عمر أفضلهم بعده وتتعارض الظنون في
عثمان وعلي
وها هنا انتهى بنا القول فيما قصدناه من التبرك بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم
وذكر خلفائه الأربعة رضي الله عنهم ولنرجع إلى ما نحن بصدده من ذكر أخبار المغرب
الأقصى مقدمين القول أولا في نسب البربر وبيان حالهم قبل الإسلام وبعده على الجملة
لنتخلص بعده للمقصود والله تعالى يعصمنا من الزلل بمنه وكرمه
____________________
القول في نسب البربر وبيان
أصلهم
أعلم أن الناس اختلفوا في تحقيق نسب البربر وإلى أي اصل من أصول الخليقة يرجعون
فذكر صاحب كتاب الجمان في أخبار الزمان ونقله عن أهل العلم بالسير أن بني حام
تنازعوا مع بني سام فانهزم بنو حام أمامهم إلى المغرب وتناسلوا به واتصلت شعوبهم
من أرض مصر إلى آخر المغرب إلى تخوم السودان وكان بسواحل المغرب الأفارقة والإفرنج
فكانت ذرية حام في المداشر والخيام والأعاجم الأول في البلدان وبقي أكثر أولاد حام
في بلاد فلسطين من أرض الشام إلى زمن داود عليه الصلاة والسلام وكان ملكهم يسمى
جالوت فلما قتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء أمر بإجلائهم
من بلاد كنعان وفلسطين إلى أرض المغرب فساروا نحو إفريقية والزاب وانتشروا هنالك
حتى ضاقت بهم تلك البلاد وامتلأت منهم الجبال والكهوف والرمال وصاروا يتبعون مواقع
القطر بالإبل وبيوت الشعر ولم تقدر الفرنج على ردهم ودفاعهم فانحازت الأعاجم للمدن
وبقي البربر فيما عدى المدن وهم مع ذلك على أديان مختلفة يدين كل واحد منهم بما
شاء من الأديان الفاسدة فمنهم من تمجس ومنهم من تهود ومنهم من تنصر واستمروا على
ذلك إلى زمان الإسلام وكان فيهم رؤساء وملوك وكهان ولهم حروب وملاحم عظام مع من
قارعهم من الأمم
وقال الطبري وغيره إن البربر أخلاط من كنعان والعماليق وغيرهم فلما قتل داود جالوت
تفرقوا في البلاد
وقال الكلبي اختلف الناس فيمن أخرج البربر من الشام فقيل داود بالوحي قيل يا داود
أخرج البربر من الشام فإنهم جذام الأرض وقيل يوشع بن نون عليه السلام وقيل إفريقش
الحميري واختلف في إفريقش هذا فقال المسعودي هو إفريقش بن أبرهة ذي المنار أحد
التبابعة المشهورين
____________________
وقال ابن حزم هو إفريقش بن قيس بن صيفي أخو الحارث الرائش منهم وهو الذي ذهب
بقبائل العرب إلى إفريقية وبه سميت وساق البربر إليها من أرض كنعان مر بها عندما
غلبهم يوشع بن نون وقتلهم فاحتمل الفل منهم وساقهم إلى إفريقية فأنزلهم بها وقتل
ملكها جرجير ويقال إنه الذي سمى البربر بهذا الإسم لأنه لما فتح المغرب وسمع
رطانتهم قال ما أكثر بربرتهم فسموا البربر والبربرة في لغة العرب اختلاط أصوات غير
مفهومه ومنه بربرة الأسد وينسبون إليه في ذلك شعرا وهو قوله
( بربرت كنعان لما سقتها ** من بلاد الضنك للخصب العجيب )
( اي أرض سكنوها ولقد ** فازت البربر بالعيش الخصيب )
ولما قفل إفريقش من غزو المغرب ترك هنالك حامية من قبائل حمير صنهاجة وكتامة فهما
بها إلى الآن وليسوا نم نسب البربر قاله الطبري والجرجاني و المسعودي وابن الكلبي
والسهيلي وجميع النسابين من العرب
وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد له اختلف الناس في نسب البربر اختلافا
كثيرا وأنسب ما قيل فيهم أنهم من ولد قبط بن حام وأنه لما نزل مصر خرج بنوه يريدون
المغرب فسكنوا من آخر عمالة مصر وذلك فيما وراء برقة إلى البحر الأخضر مع بحر
الأندلس إلى منقطع الرمل متصلين السودان وقيل إن البربر صنفان البرانس والبتر وأن
البتر منهم من ولد بر بن قيس بن عيلان بن مضر واختلفوا في توجيه ذلك فقال الطبري
خرج بر بن قيس بن عيلان ينشد ضالة له بأحياء البربر فرأى جارية منهم فخطبها من
أبيها وتزوجها فولدت له
وقال في كتاب الجمان وأما تسميتهم بالبربر فإنه لما صار ملك مضر لقيس بن عيلان كان
له ولد اسمه بر فخرج مغاضبا لأبيه وإخوته إلى جهة المغرب فقال الناس بربر أي توحش
في البراري فسموا بربرا ونقل ابن
____________________
أبي زرع وابن خلدون عن
النسابين من البربر وحكاه أيضا البكري وغيره أنه كان لمضر بن نزار ولدان إلياس
وعيلان أمهما الرباب بنت حيدة بن عمرو بن معد بن عدنان فولد عيلان بن مضر ولدين
وهما قيس ودهمان ابنا عيلان أما دهمان فولده قليل وهم أهل بيت من قيس يقال لهم بنو
أمامة وأما قيس بن عيلان فولد أربعة بنين وجارية وهم سعد وعمرو وخصفة أمهم مزنة
بنت أسد بن ربيعة بن نزار ثم بر وأخته تماضر أمهما تمريغ بنت يجدول بن غمار بن
مصمود البربري اليجدولي
وكانت قبائل البربر إذ ذاك يسكنون الشام ويجاورون العرب في المساكن والأسواق
والمساعي ويشاركونهم في المياه والمسارح والمراعي ويصاهر بعضهم بعضا وكانت البهاء
بنت دهمان بن عيلان بن مضر من أجمل نساء زمانها وأكملهن ظرفا وأدبا فكثر خطابها من
سائر قبائل العرب فقال بنو عمها وهم عمرو وسعد وخصفة وبر لا يتزوج ابنة عمنا إلا
أحدنا ولا تخرج منا إلى غيرنا فخيروها فيمن شاءت منهم فاختارت برا وكان أصغرهم سنا
وأكملهم شبابا فتزوجها دون اخوته فحسدوه عليها وهموا بقتله من أجلها وكانت أمه
تمريغ من دهاة النساء فبعثت إلى أبيها دهمان وأعلمته الخبر وواطأته على الخروج
بولدها إلى أرض قومها من البربر حيث تأمن عليه ثم بعثت إلى قومها فأتوها سرا
فارتحلت معهم هي وولدها بر وكنتها البهاء بنت دهمان فلحقوا ببلاد البربر وهم يومئذ
مستوطنون فلسطين وأكناف الشام فنزل بر على أخواله واعتز بهم وبنى بابنة عمه البهاء
فولدت له هناك ولدين علوان ومادغيس ابني بر بن قيس بن عيلان فأما علوان فمات صغيرا
ولم يعقب وأما مادغيس فكان يلقب الأبتر وهو أبو البتر من البربر وإليه يرفعون
أنسابهم ومن ولده جميع زناته كما سيأتي ويزعمون أن تماضر أخت بر بكته بعد فرقته
بشعر تقول فيه
( لتبك كل باكية أخاها ** كما أبكي على بر بن قيس )
( تحمل عن عشيرته فأضحى ** ودون لقائه انضاء عنس )
____________________
ومما ينسب إليها أيضا قولها
( وشطت ببر داره عن بلادنا ** وطوح بر نفسه حيث يمما )
( وأزرت ببر لكنة أعجمية ** وما كان بر في الحجاز بأعجما )
( كأنا وبرا لم نقف بجيادنا ** بنجد ولم نقسم نهابا ومغنما )
وأنشد علماء البربر لعبيدة بن قيس العقيلي
( ألا أيها الساعي لفرقة بيننا ** توقف هداك الله سبل الأطايب )
( فأقسم أنا والبرابر إخوة ** تناولنا جد كريم المناسب )
( أبونا أبوهم قيس عيلان في الذرى ** له حومة تشفي غليل المحارب )
( وبر بن قيس عصبة مضرية ** وفي الفرع من أحسابها والذوائب )
( فنحن وهم ركن منيع وإخوة ** على رغم أعداء لئام المناقب )
في أبيات غير هذه وينشد أيضا ليزيد بن خالد يمدح البربر قوله
( أيها السائل عنا أصلنا ** قيس عيلان بنو الغر الأول )
( نحن ما نحن بنو بر الندى ** طارد الأزمة نحار الإبل )
( قد بنى المجد فأورى زنده ** وكفانا كل خطب ذي جلل )
( إن قيسا يعتزي بر له ** ولبر يعتزي قيس الأجل )
( فلنا الفخر بقيس إنه ** جدنا الأكبر فكاك الكبل )
( إن قيسا قيس عيلان هم ** معدن الخير على الخير دلل )
( حسبي البربر قومي إنهم ** ملكوا الأرض بأطراف الأسل )
في أبيات أخر
واعلم أن الخلاف في نسب البربر طويل وقد تركنا جله اختصارا وأشبه هذه الأقوال
بالصحة ما نقلناه أولا مما يدل على أن جيل البربر من ولد حام وأنهم جيل قديم قد
سكنوا المغرب عندما تناسلت ذرية نوح عليه
____________________
السلام وانتشرت الخليقة على
وجه الأرض ثم تلاحقت بهم بقية بني كنعان من الشام عندما أجلاهم يوشع بن نون عليه
السلام أولا ثم داود عليه السلام ثانيا
قال ابن خلدون بعد تزييف القول بأن البربر من ولد جالوت بالخصوص أو من العرب ما
نصه والحق الذي لا ينبغي التعويل على غيره في شأنهم أنهم من ولد كنعان بن حام بن
نوح عليه السلام وأن اسم أبيهم مازيغ اه
ومما يستملح من النوادر المقولة في نسب البربر قول خلف بن فرج السميسير من شعراء
الأندلس يهجو البربر
( رأيت آدم في نومي فقلت له ** أبا البرية إن الناس قد حكموا )
( إن البرابر نسل منك قال إذا ** حواء طالق إن كان الذي زعموا )
وهذا من ملح الشعراء وشيطنتهم وإلا فالبربر جيل معروف من أعظم الأجيال وأعزها ولهم
الفخر الذي لا يجهل والذكر الذي لا يهمل وقد تعددت فيهم الدول وكثرت فيهم الملوك
العظام وكان لهم القدم الراسخ في الإسلام واليد البيضاء في الجهاد ومنهم الأئمة
والعلماء والأولياء والشعراء وأهل المزايا والفضائل وستقف على كثير من ذلك عن قريب
إن شاء الله القول في تقسيم شعوب البربر على الجملة
اعلم أن أمة البربر أمة عظيمة قد ملأت ما بين برقة والبحر المحيط شرقا وغربا وما
بين بلاد السودان والبحر الرومي جنوبا وشمالا ومع عظمها فيجمعها شعبان عظيمان بحيث
لا يخرج بربري عنهما
قال ابن خلدون علماء النسب متفقون على أن البربر يجمعهم جدان عظيمان وهما برنس
ومادغيس ويلقب مادغيس بالأبتر فلذلك يقال لشعوبه البتر ويقال لشعوب برنس البرانس
وبين النسابين خلاف هل هما لأب واحد أم لا فعند ابن حزم أنهما لأب واحد والجميع من
نسل كنعان بن
____________________
حام وقال سابق بن سليمان
المطماطي وغيره من نساب البربر إن البرانس فقط من نسل كنعان وأما البتر فهم بنو بر
بن قيس بن عيلان بن مضر وهذا القول قد تقدم ما فيه فالحق أن الشعبين معا عريقان في
البربرية وأن الجميع من ولد مزيغ ومازيغ هو من ولد كنعان بن حام كما مر
فأما البرانس فتنقسم إلى سبع قبائل أوربة وصنهاجة وكامة ومصمودة وعجيسه وأوريغة
وأرداجة ويقال ورداجة بالواو بدل الهمزة وزاد سابق المطماطي وغيره ثلاث قبائل أخر
وهم لمطة وهسكورة وجزولة فتكون عشرا فأما أوربة فكان منهم كسيلة بن أغز الأوربي
قاتل عقبة بن نافع رضي الله عنه زمان الفتح ومنهم إسحاق بن محمد بن عبد الحميد
الأوربي القائم بدعوة إدريس بن عبد الله رضي الله عنه وأما صنهاجة فهم أكبر قبائل
البربر حتى زعم كثير من الناس أنهم مقدار الثلث منهم وكان منهم بنو زيرى بن مناد
ملوك إفريقية والملثمون ملوك مراكش والأندلس وأما كتامة فهم القائمون بدعوة
العبيديين بإفريقية ومصر وأما المصامدة فمنهم غمارة وكان منهم يليان النصراني صاحب
سبتة وطنجة أيام دخول عقبة بن نافع للمغرب الأقصى وهم القائمون أيضا بدعوة بني
إدريس في دولتهم الثانية بعد بني أبي العافية ومن المصامدة أيضا برغواطة أهل
تامسنا وما اتصل بها ومنهم أهل جبل درن القائمون بدعوة محمد بن تومرت مهدي
الموحدين
وأما باقي قبائل البرانس فلم يكن لهم ملك يذكر وقد تقدم لنا أن النسابين من العرب
يقولون إن صنهاجة وكتامة من حمير وأن إفريقش الحميري تركهم حامية بإفريقية
فتناسلوا بها واستحال لسانهم إلى البربرية لكن المحققون من نساب البربر كسابق
المطماطي وغيره ينكرون ذلك ويجزمون بأنهما قبيلتان عريقتان في البربر وأما البتر
وهم بنو مادغيس الأبتر فينقسم شعبهم إلى أربع قبائل وهم ضريسة ونفوسة وأداسة وبنو
لوي وهم لواتة فأما ضريسة فمنهم مكناسة ومن مكناسة بنو مدرار ملوك سجلماسة وبنو
أبي العافية ملوك فاس ومن
____________________
ضريسة أيضا زناتة كلها ومبن
زناتة جرواة قوم الكاهنة داهيا صاحبة جبل أوراس التي أوقعت بحسان بن النعمان عامل
الخليفة عبد الملك بن مروان ومن زناتة أيضا بنو خزر المغراويون ملوك تلمسان
والمغرب الأوسط ومنهم مغرواة ملوك فاس وبنو يفرن ملوك سلا وتادلا ومنهم بنو زيان
ملوك تلمسان وبنو مرين ملوك فاس أيضا فهؤلاء كلهم من زناتة وزناتة هو زانا بن يحيى
بن ضرى بن زجيك بن مادغيس الأبتر
وأما نفوسة وأداسة ولواتة فلم يكن لهم ملك يذكر
وأعلم أن كل قبيلة من هذه القبائل الأربع عشرة تشتمل على عمائر وبطون وأفخاذ
وفصائل لا حصر لها وفيما ذكرناه كفاية وبالله التوفيق الخبر عن حال البربر قبل
الإسلام وذكر بعض أمصار المغرب القديمة وما قيل في ذلك
قد تقدم لنا أن البربر أمة قديمة سكنوا أرض المغرب في قديم الزمان وأنهم لما عمروا
بلاده وملؤوا أكنافه انحازت الفرنج عنهم إلى السواحل والثغور وبقي البربر فيما سوى
ذلك من الضواحي والجبال والكهوف وهم مع ذلك على أديان مختلفة يدين كل واحد منهم
بما شاء من الأديان الفاسدة إلى آخر ما مر فهذا كان حالهم على الجملة
وقال ابن خلدون لم تزل بلاد المغرب إلى طرابلس بل و إلى الإسكندرية عامرة بهذا
الجيل ما بين البحر الرومي وبلاد السودان منذ أزمنة لا يعرف أولها ولا ما قبلها
وكان دينهم دين المجوسية شأن الأعاجم كلها بالمشرق والمغرب إلا في بعض الأحايين
يدينون بدين من غلب عليهم من الأمم فإن الأمم أهل الدول العظيمة كانوا يتغلبون
عليهم فقد غزتهم ملوك اليمن من قراهم مرارا على ما ذكر مؤرخوهم فاستكانوا لغلبهم
ودانوا بدينهم ذكر ابن الكلبي أن حميرا أبا القبائل اليمانية ملك المغرب مائة سنة
____________________
وانه الذي ابتنى مدائنه مثل
إفريقية وصقلية واتفق المؤرخون من العرب على غزو إفريقش الحميري من التبابعة أرض
المغرب اه وما نقله عن ابن الكلبي من غزو حمير أرض المغرب قد نقل أيضا إنكاره عن
الحافظين أبي عمر بن عبد البر وأبي محمد بن حزم وأنهما قالا ما كان لحمير طريق إلى
بلاد البربر إلا في تكاذيب مؤرخي اليمن ثم ذكر أن البعض من البربر كانوا قد دانوا
بدين اليهودية وأخذوه عن بني إسرائيل عند استفحال ملكهم لقرب الشام وسلطانه منهم
كما كان جراوة أهل جبل أوراس قبيلة الكاهنة وكما كانت نفوسة من برابرة إفريقية
وفندلاوة ومديونة وبهلولة وغياثة وبنو فازاز من برابرة المغرب الأقصى حتى محا
إدريس الأكبر جميع ما كان في نواحيه من بقايا الأديان والملل
وقال غير واحد من المؤرخين كان أهل المغرب الأقصى يضرون بأهل الأندلس لاتصال الأرض
بينهم ويلقون منهم الجهد الجهيد في كل وقت إلى أن أجتاز بهم الإسكندر فشكوا حالهم
إليه فأحضر المهندسين وأتى إلى الزقاق يعني زقاق سبتة فأمرهم بوزن سطح الماء من
البحر المحيط والبحر الرومي فوجدوا المحيط يعلو الرومي بشيء يسير فأمر برفع البلاد
التي على ساحل البحر الرومي ونقلها من الحضيض إلى الأعلى ثم أمر بحفر ما بين طنجة
وبلاد الأندلس من الأرض فحفرت حتى ظهرت الجبال السفلية وبنى عليها رصيفا بالحجر
والجيار بناء محكما وجعل طوله اثنى عشر ميلا وهي المسافة التي كانت بين البحرين
وبنى رصيفا آخر يقابله من ناحية طنجة وجعل بين الرصيفين سعة ستة أميال فلما كمل
الرصيفان حفر
____________________
من جهة البحر الأعظم وأطلق فم
الماء بين الرصيفين فدخل في البحر الرومي ثم ارتفع الماء فأغرق مدنا كثيرة وأهلك
أمما عظيمة كانت على الشطين وطما الماء على الرصيفين بإحدى عشرة قامة فأما الرصيف
الذي يلي بلاد الأندلس فإنه يظهر في بعض الأوقات إذا نقص الماء ظهورا بينا مستقيما
على خط واحد وأهل الجزيرة يسمونه القنظرة وأما الرصيف الذي يلي جهة العدوة فإن
الماء حمله في صدره واحتفر ما خلفه من الأرض بنحو اثني عشر ميلا وعلى طرفه من جهة
المغرب قصر المجاز وسبتة وطنجة وعلى طرفه من الناحية الأخرى جبل طارق بن زياد
وجزيرة طريف بن مالك والجزيرة الخضراء وما يين سبتة والخضراء هو عرض البحر المسمى
بالزقاق والبوغاز أيضا اه
وما ذكروه من أن أرض المغرب كانت متصلة بأرض الأندلس نحوه في تواريخ الفرنج
القديمة غير أنهم يسمون الملك الذي فتح الباغاز هرقل الجبار وعند ابن سعيد أنه كان
فيما بين قصر المجاز وطريف قنطرة عظيمة قد وصلت ما بين البرين يزعم الناس أن
الإسكندر بناها ليعبر عليها من بر الأندلس إلى بر العدوة والله تعالى أعلم بحقيقة
الأمر
وفي تواريخ الفرنج المقطوع بصحتها عندهم أن ملوك الروم الأولى حاربوا القرطاجنيين
من أهل إفريقية والمغرب وغلبوهم على البلاد وهدموا في بعض تلك الحروب مدينة
قرطاجنة الشهيرة الذكر قال الشيخ رفاعة في بداية القدماء ما نصه قرطاجنة مدينة
بأرض إفريقية هي إحدى مدن الدنيا الشهيرة وقد هدمها الروم قبل ميلاد المسيح عليه
السلام بمائة وست وأربعين سنة ثم أسست ثانية وخربها العرب حتى إنه لا يرى الآن شيء
من آثارها إلا بغاية الجهد وبقرب موضعها مدينة تونس اه
وقال ابن خلدون في كتاب طبيعة العمران حين تكلم على قيادة الأساطيل ما نصه وقد
كانت الروم والإفرنجية والقوط بالعدوة الشمالية من هذا البحر الرومي وكان أكثر
حروبهم ومتاجرهم في السفن فكانوا مهرة
____________________
إيقاع يحيى بن يغمور بأهل لبلة
وإسرافه في ذلك
لما كانت سنة تسع وأربعين وخمسمائة فتح الموحدون مدينة لبلة
وكان المتولي لفتحها بحيى بن يغمور والي قرطبة وإشبيلية حاصرها مدة ثم فتحها عنوة
وقبض على أهلها فخرج بهم إلى ظاهر المدينة وصفهم في صعيد واحد ثم عرضهم على السيف
أجمعين حتى خلص القتل منهم إلى الفقيه المحدث أبي الحكام بن بطال والفقيه الصالح
أبي عامر بن الجد
وكان عدد من قتل من أهل لبلة في ذلك الصعيد ثمانية آلاف و قتل بأحوازها نحو
____________________
بلادهم ورعاياهم وكان الفرنج
مجاورين للبربر في المغرب الأدنى والقوط مجاورين لهم في الأقصى ليس بينهم وبينهم
إلا خليج البحر فحملوا أهل السواحل منهم على الأخذ بذلك الدين فدانوا به أيضا ونظر
القياصرة يومئذ منسحب عن الجميع وأمرهم نافذ في الكل واستمر الحال على ذلك حتى جاء
الله بالإسلام وأظهره على الدين كله فدانت به البربر على ما نذكره إن شاء الله
فلهذا السبب كان كسيلة الأوربي ويليان الغماري وغيرهما من كبار البربر نصارى
وقال ابن خلدون كان للبربر في الضواحي وراء ملك الأمصار المرهوبة الحامية ما شاء
الله من قوة وعدة وعدد وملوك ورؤساء وأقيال وأمراء لا يرامون بذل ولا تنالهم الروم
والفرنج في ضواحيهم تلك بمسخطة ولا إساءة ثم قال وكانوا يؤدون الجباية لهرقل ملك
القسطنطينية كما كان المقوقس صاحب مصر والإسكندرية وبرقة يؤدي الجباية له وكما كان
صاحب طرابلس ولبدة وصبرة وصاحب صقلية وصاحب الأندلس من القوط لما كان الروم قد
غلبوا على هؤلاء الأمم أجمع وعنهم أخذوا دين النصرانية وكان الفرنجة هم الذين ولوا
أمر إفريقية ولم تكن للروم فيها ولاية وإنما كان كل من كان منهم بها جند للفرنج
ومن حشودهم وما يسمع في كتب الفتح من ذكر الروم في فتح أفريقية فمن باب التغليب
لأن العرب يومئذ لم يكونوا يعرفون الفرنج وما قاتلوا في الشام إلا الروم فظنوا
أنهم هم الغالبون على أمم النصرانية فإن هرقل هو ملك النصرانية كلها فغلبوا اسم
الروم على جميع أمم النصرانية ونقلت الأخبار عن العرب كما هي فجرجير المقتول عند
الفتح من الفرنج وليس من الروم وكذا الأمة الذين ماتوا بإفريقية غالبين على البربر
ونازلين بمدنها وحصونها كانوا من الفرنجة اه
____________________
القول في تحديد المغرب وذكر
حال البربر بعد الإسلام
اعلم أن لفظ المغرب يطلق في عرف أهله على ناحية من الأرض معروفة بعينها حدها من
جهة مغرب الشمس البحر المحيط المعروف بالكبير ومن جهة مشرق الشمس بلاد برقة وما
خلفها إلى الإسكندرية ومصر فبرقة خارجة عن بلاد المغرب بهذا الاعتبار وبلاد طرابلس
وما دونها إلى جهة البحر المحيط داخلة فيه وحدها من جهة الشمال البحر الرومي
المفرع عن المحيط ويعرف هذا الرومي بالصغير ومن جهة الجنوب جبال الرمل الفاصلة بين
بلاد السودان وبلاد البربر وتعرف عند العرب الرحالة هنالك بالعرق
ثم هذا المغرب يشتمل على ثلاث ممالك مملكة إفريقية وهي المغرب الأدنى وقاعدتها في
صدر الإسلام مدينة القيروان وفي هذا العصر مدينة تونس وسمي أدنى لأنه أقرب إلى
بلاد العرب ودار الخلافة بالحجاز ثم بعد إفريقية مملكة المغرب الأوسط وقاعدتها
تلمسان وجزائر بني مزغنة وهذه المملكة اليوم في يد فرنج إفرانسة ملكوها في سنة ست
وأربعين ومائتين وألف وأهلها مسلمون ثم بعد ذلك مملكة المغرب الأقصى وسمي الأقصى
لأنه أبعد الممالك الثلاث عن دار الخلافة في صدر الإسلام وحد هذا الأقصى من جهة
المغرب البحر المحيط ومن جهة المشرق وادي ملوية مع جبال تازا ومن جهة الشمال البحر
الرومي ومن جهة الجنوب جبل درن قاله ابن خلدون
وفي تقسيم الفرنج أن المغرب الأقصى يشتمل على خمس عمالات عمالة فاس وعمالة مراكش
وعمالة السوس وعمالة درعة وعمالة تافيلالت ودار الملك به تارة فاس وتارة مراكش وهو
في الأغلب ديار المصامدة
____________________
من البربر ويساكنهم فيه عوالم
من صنهاجة ومضغرة وأوربة وغيرهم لكنهم قليل بالنسبة إلى المصامدة ويساكنهم فيه
أيضا عالم من العرب أهل الخيام انتقلوا من جزيرة العرب إلى إفريقية ثم من إفريقية
إليه أواخر المائة السادسة أيام الخليفة يعقوب المنصور الموحدي وهم اليوم قبائل
عديدة يرجعون في نسبهم إلى رياح وجشم فأما رياح فهم من بني هلال بن عامر بن صعصعة
وأما جشم فهم بنو جشم بن معاوية بن بكر وكلهم ينتهي نسبهم إلى مضر ويضاف إليهم
قبائل أخر نحقق الكلام فيهم بعد هذا إن شاء الله
ثم قد علمت أن كلامنا بالقصد الأول في هذا الكتاب إنما هو على المغرب الأقصى لكنا
نتكلم أولا على أخبار المغرب مطلقا ونذكر أمراءه الموجهين من قبل الخلفاء بالمشرق
على التفصيل ما دام نظرهم منسحبا عليه وظلهم ممتدا إليه إذ كان أمر الخلافة في صدر
الإسلام متحدا وحكمها مجتمعا وكلمتها نافذة في جميع ممالك الإسلام شرقا وغربا بحيث
لا يخرج قطر من الأقطار ولا مصر من الأمصار فيما بعد أو دنا عن الأرض عن نظر
الخليفة الأعظم وقد كان ذلك دينا متبعا وحكما مجمعا عليه ولا تصح لأحد إمارة أو
ولاية إلا بالإستناد إليه حتى إذا طال العهد وضعف أمر الخلافة وتقلص ظلها من
القاصية تفرقت ممالك الإسلام البعيدة عن دارها وتوزعتها الثوار من بني هاشم وغيرهم
واستبد الأمراء النازحون عنها كل بما غلب عليه وسار أمر الوحدة إلى الكثرة وحكم
الإجتماع إلى الفرقة فلهذا نتكلم الآن على أخبار المغرب مطلقا ونذكر ولاته
الموجهين إليه من قبل الخلفاء واحدا بعد واحد إلى زمن إدريس بن عبد الله المستبد
بملك المغرب الأقصى والمقتطع له عما عداه من الممالك الإسلامية فحينئذ نفرد الكلام
عليه بخصوصه على ما شرطناه فأما الآن فلا يمكننا الكلام عليه وحده لأنه والحالة
هذه مندرج في غيره من ممالك المغرب إذ الوالي الموجه من قبل الخليفة في صدر
الإسلام كان يكون واليا على إفريقية وما بعدها من بلاد المغرب إلى البحر المحيط
وقد تضاف إلى نظره الأندلس بل كان الوالي
____________________
بمصر قد يكون نظره شاملا لجميع
بلاد المغرب حسبما نقف عليه فاعرف هذه الجملة ولتكن منك على بال
وأما حال البربر بعد الإسلام فيعرف من أخبار الولاة التي نسردها الآن وبالله
التوفيق ولاية عمرو بن العاص رضي الله عنه وفتحه برقة وطرابلس
لما كانت خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتح عمرو بن العاص مصر
والإسكندرية وفرغ منها سار في سنة إحدى وعشرين من الهجرة إلى برقة وكانت تسمى في
القديم إنطابلس فصالحه أهلها على الجزية ثم سار بعدها إلى طرابلس فحاصرها شهرا
وكانت مكشوفة السور من جانب البحر وسفن الروم في مرساها فحسر الماء في بعض الأيام
وانكشف أمرها لبعض المسلمين المحاصرين لها فاقتحموا البلد فيما بين البحر والبيوت
فلم يكن للروم ملجأ إلا سفنهم وارتفع الصياح فأقبل عمرو بعساكره فدخل المدينة ولم
يفلت الروم إلا بما خف في المراكب ثم عطف عمرو رضي الله عنه على مدينة صبرة وكانوا
قد أمنوا بمنعة طرابلس واشتغال المسلمين بحصارها فصبحهم في جيش المسلمين واقتحمها
عليهم عنوة وكمل الفتح ورجع عمرو إلى برقة فصالحه أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار
جزية وكان أكثر أهل برقة لواته وهم بنو لوي الأكبر وأكثر أهل طرابلس وصبرة نفوسة
وكلتا القبيلتين من البتر
ولما فرغ عمرو رضي الله عنه من أمر طرابلس وما معها استأذن عمر بن
____________________
الخطاب رضي الله عنه في التقدم
إلى إفريقية فمنعه وقال تلك المفرقة وليست بإفريقية أو كلاما هذا معناه فامتثل
وعاد إلى مصر فكان عمرو بن العاص أول أمير للمسلمين وطئت خيله أرض المغرب لكنه لم
يصل إلى إفريقية ولا كان من البرابر إسلام غير أن صاحب كتاب الجمان نقل أنه لما
كانت خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه واستفتحت مدينة مصر وكان عليها عمرو بن العاص
قدم عليه ستة نفر من البربر محلقين الرؤوس واللحى فقال لهم عمرو من أنتم وما الذي
جاء بكم قالوا رغبنا في الإسلام فجئنا له لأن جدودنا قد أوصونا بذلك فوجههم عمرو
إلى عمر رضي الله عنه وكتب إليه بخبرهم فلما قدموا عليه وهم لا يعرفون لسان العرب
كلمهم الترجمان على لسان عمر فقال لهم من أنتم قالوا نحن بنو مازيغ فقال عمر
لجلسائه هل سمعتم قط بهؤلاء فقال شيخ من قريش يا أمير المؤمنين هؤلاء البربر من
ذرية بر بن قيس بن عيلان خرج مغاضبا لأبيه وإخوته فقالوا بر بر أي أخذ البرية فقال
لهم عمر رضي الله عنه ما علامتكم في بلادكم قالوا نكرم الخيل ونهين النساء فقال
لهم عمر ألكم مدائن قالوا لا قال ألكم أعلام تهتدون بها قالوا لا قال عمر والله
لقد كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه فنظرت إلى قلة الجيش وبكيت
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا عمر لا تحزن فإن الله سيعز هذا الدين
بقوم من المغرب ليس لهم مدائن ولا حصون ولا أسواق ولا علامات يهتدون بها في الطرق
) ثم قال عمر فالحمد لله الذي من علي برؤيتهم ثم أكرمهم ووصلهم وقدمهم على من
سواهم من الجيوش القادمة عليه وكتب إلى عمرو بن العاص أن يجعلهم على مقدمة
المسلمين وكانوا من أفخاذ شتى اه والله أعلم
____________________
44 ولاية عبد الله بن سعد بن
أبي سرح وفتحه إفريقية
لما كانت خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه عزل عمرو بن العاص عن
مصر وولى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري أخاه من الرضاعة وأمره بغزو
إفريقية سنة خمس وعشرين من الهجرة وقال له إن فتح الله عليك فلك خمس الخمس من
الغنائم ثم عقد عثمان لعبد الله بن نافع بن عبد قيس على جند وعبد الله بن نافع بن
الحارث على آخر وسرحهما فخرجوا إلى إفريقية في عشرة آلاف وصالحهم أهلها على مال
يؤدونه ولم يقدروا على التوغل فيها لكثرة أهلها ثم إن عبد الله بن أبي سرح استأذن
عثمان في ذلك واستمده فاستشار عثمان الصحابة فأشاروا به فجهز العساكر من المدينة
وفيهم جماعة من الصحابة منهم ابن عباس وابن عمرو بن العاص وابن جعفر والحسن
والحسين وابن الزبير وقيل لحقهم مددا وساروا مع عبد الله بن سعد سنة ست وعشرين
ولقيهم عقبة بن نافع فيمن معه من المسلمين ببرقة ثم ساروا إلى طرابلس فنهبوا الروم
عندها ثم تجاوزوها إلى إفريقية وبثوا السرايا في كل ناحية وكان ملكهم جرجير
الفرنجي يملك ما بين طرابلس وطنجة تحت ولاية هرقل ويحمل إليه الخراج فلما بلغه
الخبر جمع مائة وعشرين ألفا من العساكر ولقيهم على يوم وليلة من سبيطلة دار ملكهم
وأقاموا يقتتلون ودعوه إلى الإسلام أو الجزية فاستكبر ولحقهم عبد الله بن الزبير
مددا بعثه عثمان رضي الله عنه لما أبطأت عليه أخبارهم وسمع جرجير بوصول المدد ففت
ذلك في عضده وشهد ابن الزبير معهم القتال وقد غاب ابن أبي سرح فسأل عنه فقيل له
إنه سمع منادي جرجير يقول من قتل ابن أبي سرح فله مائة ألف دينار وأزوجه ابنتي
فخاف وتأخر عن شهود القتال فقال له ابن الزبير تنادي أنت بأن من قتل جرجير نفلته
مائة ألف وزوجته ابنته واستعملته على
____________________
بلاده فخاف جرجير أشد منه ثم
أشار ابن الزبير على ابن أبي سرح أن يترك جماعة من أبطال المسلمين المشاهير
متأهبين للحرب ويقاتل الروم بباقي العسكر إلى أن يضجروا فيركبهم بالآخرين على غرة
قال لعل الله ينصرنا عليهم ووافق على ذلك أعيان الصحابة ففعلوا وركبوا من الغد إلى
الزوال وألحوا عليهم حتى أتعبوهم ثم افترقوا وأركب عبد الله الفريق الذين كانوا
مستريحين فكبروا وحملوا حملة رجل واحد حتى غشوا الروم في خيامهم فانهزموا وقتل
كثير منهم وقتل ابن الزبير جرجير وحيزت ابنته سبية فنفلها ابن أبي سرح ابن الزبير
ثم حاصر ابن أبي سرح سبيطلة ففتحها وخربها وكان سهم الفارس فيها ثلاثة آلاف دينار
وسهم الراجل ألفا وبث جيوشه في البلاد إلى قفصة فسبوا وغنموا وبعث عسكرا إلى حصن
الأجم وقد اجتمع به أهل البلاد فحاصره وفتحه على الأمان ثم صالحه أهل إفريقية على
ألفي ألف وخمسمائة ألف دينار
وأرسل ابن الزبير بخبر الفتح وبالخمس إلى المدينة فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمائة
ألف دينار وبعض الناس يقول أعطاه إياه عثمان رضي الله عنه ولا يصح وإنما أعطى ابن
أبي سرح خمس الخمس من الغزوة الأولى وانحاز الفرنجة ومن معهم من الروم بعد الهزيمة
والفتح إلى حصون إفريقية وانساح المسلمون في البسائط بالغارات ووقع بينهم وبين أهل
الضواحي من البربر زحوف وقتل وسبي حتى لقد أسروا يومئذ من ملوك البربر صولات بن
وزمار الزناتي ثم المغراوي جد بني خزر ملوك تلمسان فرفعوه إلى عثمان رضي الله عنه
فأسلم على يده فمن عليه وأطلقه وعهد له على قومه ويقال إنما وصله وافدا فأكرم
وفادته والله أعلم
ثم رغب الفرنج والبربر في السلم وسألوا الصلح وشرطوا لابن أبي سرح ثلاثمائة قنطار
من الذهب على أن يرحل عنهم بالعرب ويخرج من بلادهم ففعل ورجع المسلمون إلى المشرق
بعد مقامهم بإفريقية سنة وثلاثة أشهر ولما بلغ هرقل ملك الروم أن أهل إفريقية
صالحوا المسلمين بذلك المال
____________________
الذي أعطوه غضب عليهم وبعث
بطريقا يأخذ منهم مثل ذلك فنزل قرطاجنة وأخبرهم بما جاء له فأبوا وقالوا قد كان
ينبغي له أن يسعدنا فيما نزل بنا فقاتلهم البطريق وهزمهم وطرد الملك الذي ولوه عليهم
بعد جرجير فلحق بالشام وقد اجتمع الناس على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
فاستجاشه على إفريقية فبعث معه معاوية بن حديج السكوني على ما نذكره ولاية معاوية
بن حديج على المغرب
هو معاوية بن حديج بالحاء المهملة مصغرا الكندي ثم السكوني له صحبة وممن شهد مع عمرو
بن العاص فتح مصر وقدم بخبر الفتح على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولما قدم علج
إفريقية على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وشكا إليه ما ناله من صاحب قيصر بعث
معه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وشكا إليه ما ناله من صاحب قيصر بعث معه
معاوية بن حديج هذا في عسكر ضخم سنة خمس وأربعين فلما وصل إلى الإسكندرية هلك
العلج ومضى معاوية فقدم إفريقية في عشرة آلاف فنزل قمونية فسرح إليه البطريق
ثلاثين ألف مقاتل كان قيصر قد وجهها من القسطنطينية في البحر لمدافعة العرب عن
إفريقية فلن تغن شيئا وقاتلهم معاوية فهزمهم عند حصن الأجم ثم بث السرايا ودوخ
البلاد فبعث عبد الله بن الزبير إلى سوسة فافتتحها ثم بعث عبد الملك بن مروان إلى
جلولاء فافتتحها كذلك وقال ابن خلدون إن معاوية حاصر حصن جلولاء فامتنع عليه حتى
سقط ذات يوم سوره فملكه المسلمون وغنموا ما فيه
____________________
ثم وجه جيشا في البحر إلى صقلية في مائتي مركب فأثخنوا فيها ثم فتح بنزرت وظهر
الإسلام في البربر ثم عاد إلى مصر بعد أن خلد آثارا حسية وبنى بمحل القيروان آبارا
ثم عزله معاوية بن أبي سفيان عن إفريقية وأقره على مصر فقط ثم عزله عنها في خبر
ليس ذكره من غرضنا ولاية عقبة بن نافع الفهري على المغرب وبناؤه مدينة القيروان
هو عقبة بن نافع بن عبد القيس القرشي الفهري صحابي بالمولد وهو آخر من ولي المغرب
من الصحابة وكان عمرو بن العاص وهو أمير على مصر قد استعمل عقبة هذا وهو ابن خالته
على إفريقية فانتهى إلى لواتة ومزاتة فأطاعوا ثم كفروا فغزاهم وقتل وسبى ثم افتتح
سنة اثنتين وأربعين غدامس من تخوم السودان وفي السنة بعدها افتتح ودان وكورا من
كور السودان وأثخن في تلك النواحي وكان له فيها جهاد وفتوح فظهر غناؤه وعرفت نجدته
وكفايته فلما كانت سنة خمسين ولاه معاوية رضي الله عنه على إفريقية استقلالا وبعث
معه عشرة آلاف فارس فدخل عقبة إفريقية بعد رجوع معاوية بن حديج عنها وانضاف إليه
مسلمة البربر فكثر جمعه ووضع السيف في أهلها لأنهم كانوا إذا جاءت عساكر المسلمين
أسلموا فإذا رجعوا عنها ارتدوا ثم رأى عقبة رحمه الله أن يتخذ مدينة يعتصم بها جيش
المسلمين من البربر وتقام بها الجميع والأعياد فاستشار من معه فقالوا نحن أصحاب
إبل ولا حاجة لنا بمجاورة البحر فتسطو علينا الفرنج فانظر لنا ينظر الله
قال صاحب الجمان وكانت بقعة القيروان غيضة لا يأوى إليها إلا الوحوش والسباع فصاح
بها عقبة أن اخرجي أيتها الوحوش والهوام بإذن الله عز وجل فبقيت أرض القيروان
أربعين سنة لا يرى فيها شيء من الهوام
____________________
المؤذية ولا السباع العادية ثم
شرع في بنائها وقال هذه أوسع لأبلكم وآمن عليكم من روم القسطنطينية وإفرنج الجزيرة
وعن الليث بن سعد أن عقبة رحمه الله غزا إفريقية فأتى وادي القيروان فبات عليه هو
وأصحابه حتى إذا أصبح وقف على رأس الوادي فقال يا أهل الوادي أظعنوا فإنا نازلون
قال ذلك ثلاثا فجعلت الحيات تنساب والعقارب وغيرها مما لا يعرف من الدواب تخرج
ذاهبة وهم قيام ينظرون إليها من حين أصبحوا حتى أوهجتهم الشمس وحتى لم يروا منها
شيئا فنزلوا الوادي عند ذلك قال الليث فحدثني زياد بن عجلان أن أهل إفريقية اقاموا
بعد ذلك أربعين سنة ولو التمست حية أو عقرب بألف دينار ما وجدت اه
وفي الجمان لما شرع عقبة رحمه الله في بناء جامعها تنازعوا في القبلة فأتى عقبة آت
في النوم فوضع له علامة على سمت القبلة فلم انتبه أعلم الناس بذلك فأتوا إلى
الموضع فوجدوا العلامة كما قال فوقف عقبة ينظر إلى القبلة فسمع تكبيرة في الجو من
ناحية القبلة فنظر فرأى الكعبة عيانا ورآها كل من كان حوله وقال ابن خلدون اختط
عقبة رضي الله عنه القيروان وبنى بها المسجد الجامع وبنى الناس مساكنهم ومساجدهم
وكان دورها ثلاثة آلاف باع وستمائة باع وكملت في خمس سنين وكان يغزو ويبعث السرايا
للإغارة والنهب ودخل أكثر البربر في الإسلام واتسعت خطة المسلمين ورسخ الدين اه
وقال صاحب الخلاصة النقية اختط عقبة بن نافع القيروان سنة خمسين وجعل دور سورها
اثني عشر ميلا وبنى بها الجامع الأعظم وقاتل البربر وشردهم ثم عزله معاوية عنها
والله أعلم
____________________
ولاية أبي المهاجر دينار وفتحه
المغرب الأوسط
كان معاوية رضي الله عنه قد ولى على مصر وإفريقية مسلمة بن مخلد بوزن محمد
الأنصاري فاستعمل مسلمة على إفريقية مولاه أبا المهاجر المذكور ويقال مولى بني
مخزوم فقدمها سنة خمس وخمسين وأساء عزل عقبة واستخف به لشيء كان بينهما وكره نزول
القيروان فبنى مدينة قربها وأخلى قيروان عقبة فدعا عقبة الله تعالى أن يمكنه منه
وكان رجلا صالحا مجاب الدعوة فاستجيب له فيه على ما نذكره ثم إن أبا المهاجر بعث
حنش بن عبد الله الصنعاني صنعاء الشام إلى جزيرة شريك وهي المعروفة الآن بالجزيرة
القبلية وإليها يسلك من باب الجزيرة أحد أبواب تونس فافتتحها
وكان كسيلة بن أغز البرنسي ثم الأوربي من أهل المغرب الأقصى من عظماء البربر وكان
نصرانيا قد جمع الجموع من البربر والفرنج وزحف إلى المسلمين فزحف إليهم ابو
المهاجر فهزمهم حول تلمسان وتمكن من البلاد وظفر بكسيلة فأظهر الإسلام فاستبقاه
أبو المهاجر واستخلصه قال ابن خلدون لم أقف لتلمسان على خبر أقدم من خبر ابن
الرقيق من أن أبا المهاجر لما قدم إفريقية توغل في ديار المغرب ووصل إلى تلمسان
وبه سميت العيون القريبة منها عيون أبي المهاجر اه فهو أول أمير المسلمين وطئت
خيله المغرب الأوسط
ثم إن عقبة بن نافع لما قفل إلى المشرق شكا إلى معاوية رضي الله عنه
____________________
ما ناله من أبي المهاجر فاعتذر
إليه ووعده برده إلى عمله ثم ولاه ابنه يزيد على المغرب سنة اثنتين وستين
وذكر الواقدي أن عقبة ولي المغرب سنة ست وأربعين فاختط القيروان ثم عزله يزيد سنة
اثنتين وستين بأبي المهاجر فحينئذ قبض على عقبة وضيق عليه فكتب إليه يزيد يأمره
ببعثه فبعثه إليه ثم أعاده واليا على إفريقية والله أعلم ولاية عقبة بن نافع
الثانية وفتحه المغرب الأقصى ومقتله
لما توفي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وولي بعده ابنه يزيد بعث عقبة بن نافع
واليا على المغرب فقدمه في التاريخ المتقدم واعتقل ابا المهاجر وخرب مدينته وعمر
القيروان وعزم على الجهاد فاستخلف زهير بن قيس البلوي على القيروان ويقال ولاه على
مقدمة جيشه وخرج في جيش كثيف ففتح حصن لميس ومدينة باغانة المطل عليها جبل أوراس
وفتح بلاد الجريد فتحا ثانيا وصالح أهل فزان وسار إلى الزاب وتاهرت فشتت جموع
البربر ومن انضم إليهم من الفرنج ثم تقدم إلى المغرب الأقصى فأثخن في أهله إلى إن
وصل إلى البحر المحيط فكان عقبة رحمه الله أول أمير المسلمين وطئت خيله المغرب
الأقصى
وقال ابن خلدون قدم عقبة بن نافع المغرب في ولايته الثانية سنة اثنتين وستين
فاضطغن على كسيلة صحبته لأبي المهاجر ونكبه وتقدم أبو المهاجر إلى عقبة في اصطناعه
فلم يقبل ثم زحف إلى المغرب وعلى مقدمته زهير بن قيس البلوي فدوخه ولقي ملوك
البربر ومن انضم إليهم من الفرنجة بالزاب وتاهرت فهزمهم واستباحهم وأذعن له يليان
أمير غمارة ولاطفه وهاداه ودله على عورات البربر وراءه بمدينة وليلى وبلاد
المصامدة والسوس
____________________
وقال صاحب الجمان افتتح عقبة المغرب ونزل على طنجة فحاصرها واستنزل ملكها يليان
الغماري وكان نصرانيا فنزل على حكمه بعد أن أعطاه أموالا جليلة ثم أراد عقبة
اللحاق بالجزيرة الخضراء من عدوة الأندلس فقال له يليان أتترك كفار البربر خلفك
وترمي بنفسك في بحبوحة الهلاك مع الفرنج ويقطع البحر بينك وبين المدد فقال عقبة
وأين كفار البربر قال ببلاد السوس وهم أهل نجدة وبأس قال عقبة وما دينهم قال ليس
لهم دين ولا يعرفون إن الله حق وإنما هم كالبهائم وكانوا على دين المجوسية يومئذ
فتوجه عقبة نحوهم فنزل على مدينة وليلى بإزاء جبل زرهون وهي يومئذ من أكبر مدن
المغرب فيما بين النهرين العظيمين سبو وورغة وهذه المدينة هي المسماة اليوم في
لسان العامة بقصر فرعون فافتتحها عقبة وغنم وسبى ثم توجه إلى بلاد درعة والسوس
فلقتيه جموع البربر فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انهزمت البربر بعد حروب صعبة وقتلهم
المسلمون قتلا ذريعا وتبعوا آثارهم إلى صحراء لمتونة لا يلقاهم أحد إلا هزموه
ثم عطف عقبة على ساحل البحر المحيط الغربي فانتهى إلى بلاد آسفي وأدخل قوائم فرسه
في البحر ووقف ساعة ثم قال لأصحابه ارفعوا أيديكم ففعلوا وقال اللهم إني لم أخرج بطرا
ولا أشرا وإنك لتعلم إنما نطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين وهو أن تعبد ولا
يشرك بك شيء اللهم إنا معاندون لدين الكفر ومدافعون عن دين الإسلام فكن لنا ولا
تكن علينا يا ذا الجلال والإكرام ثم انصرف راجعا
وقال ابن خلدون أيضا وصل عقبة إلى جبال درن وقاتل المصامدة بها فكانت بينه وبينهم
حروب وحاصروه بجبل درن فنهضت إليهم جموع زناتة وكانوا خالصة للمسلمين منذ إسلام
مغراوة فأفرجت المصامدة عن عقبة وأثخن فيهم حتى حملهم على طاعة الإسلام ودوخ
بلادهم ثم أجاز إلى بلاد السوس لقتال من بها من صنهاجة أهل اللثام وهم يومئذ على
دين
____________________
المجوسية ولم يدينوا
بالنصرانية فأثخن فيهم وانتهى إلى تارودانت وهزم جموع البربر وقاتل مسوقة من وراء
السوس ودوخهم وقفل راجعا
وكان كسيلة الأوربي في جيش عقبة قد استصحبه في غزواته هذه وكان يستهين به ويمتهنه
فأمره يوما بسلخ شاة بين يديه فدفعها كسيلة إلى غلمانه فأراده عقبة على أن يتولاها
بنفسه وانتهره فقام إليها كسيلة مغضبا وجعل كلما دس يده في الشاة مسح بلحيته
والعرب يقولون ما هذا يا بربري فيقول هو أجير فيقول لهم شيخ منهم إن البربري
يتوعدكم وبلغ ذاك أبا المهاجر وهو معتقل عند عقبة فبعث إليه ينهاه ويقول كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يستأنف جبابرة العرب وأنت تعمد إلى رجل جبار في قومه
وبدار عزه حديث عهد بالشرك فستفسده وأشار عليه بأن يتوثق منه وخوفه غائلته فتهاون
عقبة بقوله فلما قفل من غزاته هذه وانتهى إلى طبنة من أرض الزاب وكسيلة أثناء هذا
كله في صحبته صرف العساكر إلى القيروان أفواجا ثقة بما دوخ من البلاد وأذل من
البربر حتى بقي في قليل من الجند فلما وصل إل تهودة وأراد أن ينزل بها الحامية نظر
إليه الفرنجة وطمعوا فيه فراسلوا كسيلة ودلوه على الفرصة فيه فانتهزوها وراسل بني
عمه ومن تبعهم من البربر فاتبعوا أثر عقبة وأصحابه حتى إذا غشوهم بتهودة ترجل
القوم وكسروا أجفان سيوفهم ونزل الصبر واستلحم عقبة وأصحابه فلم يفلت منهم أحد
وكانوا زهاء ثلاثمائة من كبار الصحابة والتابعين استشهدوا في مسرع واحد وفيهم أبو
المهاجر كان عقبة قد استصحبه في اعتقاله كما قلنا فأبلى رضي الله عنه في ذلك اليوم
البلاء الحسن
قال ابن خلدون واجداث الصحابة رضي الله عنهم أولئك الشهداء أعني عقبة وأصحابه
بمكانهم من أرض الزاب لهذا العهد وقد جعل على قبورهم أسنمة ثم جصصت واتخذ على
المكان مسجد عرف باسم عقبة وهو في عداد المزارات ومظان البركات بل هو أشرف مزور من
الأجداث في بقاع الأرض لما توفر فيهه من عدد الشهداء من الصحابة والتابعين الذين
لا
____________________
يبلغ أحد مد أحدهم ولا نصيفه
وأسر من الصحابة يومئذ محمد بن أوس الأنصاري ويزيد بن خلف العبسي ونفر معهما
ففداهم ابن مصاد صاحب قفصة وبعث بهم إلى القيروان
ثم زحف كسيلة بعد الوقعة إلى جهة القيروان إذ هي دار الإمارة بالمغرب يومئذ وبها
جمهور العرب ووجوده الإسلام فبلغهم الخبر وعظم عليهم الأمر فقام زهر بن قيس البلوي
فيهم خطيبا وقال يا معشر المسلمين إن أصحابكم قد دخلوا الجنة فاسلكوا سبيلهم أو
يفتح الله عليكم فخالف حنش بن عبد الله الصنعاني لما علم أنه لا طاقة للمسلمين بما
دهمهم من أمر البربر ورأى أن النجاة بمن معه من المسلمين أولى ونادى في الناس
بالرحيل إلى مشرقهم فاتبعوه إلا قليلا منهم وبقي زهير في أهل بيته فاضطر إلى
الخروج وسار إلى برقة فأقام بها مطلا على المغرب ومنتظرا للمدد من الخلفاء
واجتمع إلى كسيلة جميع أهل المغرب من البربر والفرنجة وعظم أمره وتقدم إلى
القيروان فاستولى عليها في المحرم سنة أربع وستين وفر منها بقية العرب فلحقوا
بزهير ولم يقم بها إلا أصحاب الذراري والأثقال فأمنهم كسيلة وثبتت قدمه بالقيروان
واستمر أميرا على البربر ومن بقي بها من العرب خمس سنين
وقارن ذلك مهلك يزيد بن معاوية وفتنة الضحاك بن قيس مع مروان ابن الحكم بمرج راهط
من أرض الشام وحروب آل الزبير فاضطرب أمر الخلافة بالمشرق واضطرم المغرب نارا وفشت
الردة في زناتة والبرانس إلى أن استقل عبد الملك بن مروان بالخلافة وأذهب آثار
الفتنة من المشرق فالتفت إلى المغرب وتلافى أمره على ما نذكره
____________________
ذكر من دخل المغرب من الصحابة
مرتبة أسماؤهم على حروف المعجم
فمنهم بلال بن حارث بن عاصم المزني أبو عبد الرحمن من أهل المدينة أقطعه النبي صلى
الله عليه وسلم العقيق وكان صاحب لواء مزينة يوم الفتح ذكره صاحب الخلاصة النقية
فيمن دخل المغرب
ومنهم جرهد بن خويلد الأسدي أو الأسلمي ذكر صاحب الإشراق أنه من جملة من دخل
إفريقية من أرض المغرب
ومنهم جبلة بن عمرو بن ثعلبة بن أسيرة الأنصاري أخو أبي مسعود البدري قال في
التجريد شهد أحدا وشهد فتح مصر وصفين مع علي وغزا إفريقية مع معاوية بن حديج سنة
خمسين وكان فاضلا من فقهاء الصحابة روى ابن منده ومحمد بن الربيع من طريق مالك بن
أبي عمران عن سليمان بن يسار أنه سئل عن النفل في الغزو فقال لم أر أحدا يعطيه غير
أن ابن حديج نفلنا من إفريقية الثلث بعد الخمس ومعنا من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم من المهاجرين الأولين ناس كثير فأبى جبلة بن عمرو الأنصاري أن يأخذ منه
شيئا
ومنهم الحسنان رضي الله عنهما على ما ذكره ابن خلدون وهما سيدا شباب أهل الجنة
وريحانتا الرسول صلى الله عليه وسلم أشهر من أن يعرف بهما
ومنهم الحارث بن حبيب بن خزيمة القرشي العامري ذكره خليفة بن خياط فيمن نزل مصر من
الصحابة قال وقتل بإفريقية مع معبد بن العباس بن عبد المطلب
ومنهم حمزة بن عمرو الأسلمي ذكره في الإشراق
ومنهم حبان بالكسر وموحده ابن أبي جبلة قال في الإصابة له إدراك قال ابن يونس بعثه
عمر بن الخطاب إلى أهل مصر يفقههم وذكره
____________________
ابن حبان في ثقات التابعين
وقال غيره مات بإفريقية
ومنهم خالد بن ثابت العجلاني الفهمي قال ابن يونس شهد فتح مصر وولي بحر مصر سنة
إحدى وخمسين وأغزاه مسلمة بن مخلد إفريقية سنة أربع وخمسين قال في الإصابة ذكرته
اعتمادا على أنهم كانوا لا يؤمرون في الفتوح إلا الصحابة
ومنهم ربيعة بن عباد الديلي ذكره الواقدي فيمن دخل مصر من الصحابة لغزو المغرب قال
مالك وأبوه بكسر المهملة وتخفيف الموحدة على الصواب ويقال بالفتح والتشديد ذكر
خليفة وابن سعد أنه مات في خلافة الوليد
ومنهم رويفع بن ثابت بن السكن الأنصاري ثم النجاري ولاه معاوية على طرابلس سنة ست
وأربعين فغزا إفريقية قال ابن يونس توفي ببرقة وهو أمير عليها من قبل مسلمة بن
مخلد سنة ست وخمسين
ومنهم زهير بن قيس البلوي أبو شداد الآتي ذكره بعد قال ابن يونس يقال له صحبة
ومنهم سفيان بن وهب الخولاني أبو أيمن له صحبة ورواية شهد حجة الوداع وفتح مصر
وإفريقية وسكن المغرب مات سنة إحدى وتسعين
ومنهم سلكان بن مالك قال محمد بن الربيع ذكره الواقدي فيمن دخل مصر لغزو المغرب
ومنهم سلمة بن الأكوع الأسلمي الصحابي المشهور ذكره الواقدي فيمن دخل مصر من
الصحابة لغزو المغرب مات بالمدينة سنة سبع وسبعين وهو ابن ثمانين سنة وكان شجاعا
راميا سابقا يسبق الفرس شدا على قدميه
ومنهم العبادلة الأربعة رضي الله عنهم
فمنهم عبد الله بن عباس ترجمان القرآن أشهر من أن يعرف به وهو الذي قسم غنائم
إفريقية يوم الفتح
____________________
ومنهم عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما من أعلام الصحابة وعبادهم وزهادهم
والمتمسكين بالسنة منهم رضي الله عنه
ومنهم عبد الله بن الزبير بن العوام الشجاع المشهور والبطل المذكور وهو أول مولود
ولد في الإسلام بعد الهجرة وهو قاتل جرجير يوم الفتح كما مر
ومنهم عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أحد أجواد الدنيا وأبطالها ذكر ابن خلدون إنه
ممن دخل إفريقية غازيا فهؤلاء العبادلة الأربعة
ومنهم عبد الله بن سعد بن ابي سرح الأمير المعروف وقد تقدم ذكره
ومنهم عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابي المشهور أسلم قبل أبيه وهو أكثر الناس
حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصواب أن يجعل أحد العبادلة بدل ابن جعفر
والله أعلم قال أبو هريرة رضي الله عنه ما كان أحد أكثر مني حديثا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب عده
ابن ناجي فيمن دخل المغرب مع ابن أبي سرح
ومنهم عبد الرحمن بن العباس بن عبد ا لمطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقتل بإفريقية
ومنهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب ذكره في الخلاصة النقية وكان صحابيا بالمولد قتل
يوم صفين مع معاوية
ومنهم أخوه عاصم بن عمر وصحبته بالمولد ذكره صاحب الخلاصة أيضا
ومنهم عبد الله بن نافع بن الحصين وجهه عثمان رضي الله عنه مع ابن أبي سرح لشدة
بطشه وإصابة رأيه
ومنهم عقبة بن نافع الفهري الأمير المشهور فاتح المغرب الأقصى وهو صاحب الترجمة
____________________
ومنهم عثمان بن عوف المزني على خلاف فيه
وأما عمرو بن العاص رضي الله عنه فقد تقدم أنه انتهى إلى طرابلس ولم يصل إلى
إفريقية
ومنهم مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي ولد بعد الهجرة بسنتين ولم تحصل له
رواية لأنه خرج مع أبيه إلى الطائف فأقام به ذكره صاحب الخلاصة فيمن دخل المغرب
ومنهم مسعود بن الأسود البلوي وقيل العدوي قال الذهبي بايع تحت الشجرة يعد في
المصريين وغزا إفريقية
ومنهم المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري له ولأبيه صحبة قال محمد بن الربيع دخل مصر
لغزو المغرب مات سنة أربع وستين
ومنهم المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي والد سعيد بن المسيب له ولأبيه صحبة
ورواية ذكره الواقدي فيمن دخل مصر لغزو المغرب
ومنهم المطلب بن أبي وداعة القرشي السهمي له ولأبيه صحبة وهما من مسلمة الفتح قال
محمد بن الربيع دخل مصر لغزو المغرب فيما ذكره الواقدي
ومنهم معاوية بن حديج السكوني أحد الأمراء وقد تقدم ذكره
ومنهم معبد بن العباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم قال الذهبي
ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم واستشهد بإفريقية شابا في زمن عثمان رضي
الله عنه وحكى المؤروخون أن معاوية بن أبي سفيان أغزى سعيد بن عثمان بن عفان
خراسان ومعه قثم بن العباس بن عبد المطلب فعبر سعيد النهر إلى سمرقند فاستشهد قثم
بها وكان أخوه الفضل بن عباس قد مات بأجنادين من أرض الشام وعبد الله الترجمان مات
بالطائف وعبيد الله الأصغر مات باليمن ومعبد بإفريقية فقال الناس لم ير مثل بني أم
واحدة أبعد قبورا من بني العباس
____________________
ومنهم المقداد بن الأسود الكندي وليس الأسود أبه وإنما تبناه الأسود بعد عبد يغوث
وهو صغير فعرف به وإنما اسم أبيه عمرو بن ثعلبة الكندي كان المقداد أحد السابقين
شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها ولم يثبت أن أحدا شهد بدرا فارسا سواه غزا إفريقية
مع ابن أبي سرح فلما رجعوا إلى مصر قال له ابن أبي سرح في دار بناها كيف ترى فقال
له المقداد إن كان من مال الله فقد أفسدت وإن كان من مالك فقد أسرفت فقال ابن أبي سرح
لولا أن يقال أفسدت مرتين لهدمتها
ومنهم المنيذر الأسلمي قال ابن يونس له صحبة وكان بإفريقية وقال عبد الملك بن حبيب
لم يدخل الأندلس من الصحابة إلا المنيذر الإفريقي
وأما المشتهرون بكنيتهم فمنهم أبو ذؤيب الهذلي الشاعر المشهور واسمه خويلد بن خالد
أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره وقدم المدينة يوم وفاته فشهد
السقيفة وبيعة أبي بكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ودفنه قال ابن كثير
توفي غازيا بإفريقية في خلافة عثمان رضي الله عنه
قلت وهلك له خمسة أولاد بمصر بالطاعون فقال قصيدته العينية يرثيهم وهي مشهورة
ومنهم أبو رمثة البلوي قيل اسمه رفاعة بن يثربي وقيل بالعكس له صحبة ورواية قال
الذهبي سكن بمصر ومات بإفريقية
ومنهم أبو زمعة البلوي قال الذهبي اسمه عبد وقيل عبيد بن أرقم بايع تحت الشجرة
ونزل مصر وغزا إفريقية مع ابن حديج روى حديث الذي قتل تسعة وتسعين نفسا وسأل هل من
توبة مات بإفريقية ودفنت معه شعرات من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبما هو
مشهور وهو صاحب المقام خارج القيروان
ومنهم أبو ضبيس البلوي قال الذهبي له صحبة وقال محمد بن الربيع الجيزي دخل مصر
لغزو المغرب
ومنهم أبو المبتذل خلف له صحبة ونزل إفريقية وقيل أبو المنيذر كذا
____________________
في التجريد وغير هؤلاء ممن لم
يحضرنا ذكرهم
أخرج ابن عبد الحكم عن سليمان بن يسار قال غزونا إفريقية مع ابن حديج ومعنا بشر
كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار اه رضي الله
عنهم ونفعنا بهم وحشرنا في زمرتهم آمين ذكر اختلاف العلماء في أرض المغرب هل فتحت
عنوة أو صلحا أو غير ذلك
قال الشيخ أبو الحسن القابسي رحمه الله في شرح الموطأ في كتاب الجهاد منه اختلف
الناس في أرض المغرب هل فتحت عنوة أو صلحا أو مختلطة اي البعض عنوة والبعض صلحا
على ثلاثة اقوال الأول وهو الذي يظهر من روايتة ابن القاسم عن مالك أنها فتحت
بالسيف عنوة لأنه جعل النظر في معادنها للإمام ولو صح ذلك لم يجز لأحد بيع شيء
منها كأرض مصر لأنها فتحت بالسيف الثاني إنها فتحت صلحا صالح أهلها عليها فإن كان
كذلك جاز بيع بعضهم من بعض الثالث إنها مختلطة هرب بعضهم عن بعض وتركوها فمن بقي
بيده شيء كان له وهو الصحيح والله أعلم
ويحكى أن أحد عمال المنصور بن أبي عامر صاحب الأندلس حين تغلب على أرض فاس قال لهم
أخبروني عن أرضكم أصلح هي أم عنوة فقالوا له لا جواب لنا حتى يأتي الفقيه يعنون
الشيخ أبا جيدة فجاء الشيخ المذكور فسأله العامل فقال ليست بصلح ولا عنوة إنما
أسلم أهلها عليها فقال خلصكم الرجل وأبو جيدة هذا هو دفين باب بني مسافر أحد أبواب
فاس المحروسة رحمه الله
____________________
ولاية زهير بن قيس البلوي على
المغرب ومقتل كسيلة وما يتبع ذلك
لما استقل عبد الملك بن مروان بالخلافة كان زهير مقيما ببرقة منذ مهلك عقبة بن
نافع كما مر فبعث إليه عبد الملك بالمدد وولاه حرب البربر وأمره بإستنقاذ القيروان
ومن بها من المسلمين من يد كسيلة المتغلب عليها وحضه على الطلب بدم عقبة فراجعه
زهير يعلمه بكثرة الفرنج والبربر فأمده بالمال ووجوه العرب وفرسانها فزحف زهير إلى
المغرب سنة تسع وستين في آلاف من المقاتلة وجمع له كسيلة البرانس وسائر البربر
ولقيه بممس من نواحي القيروان واشتد القتال بين الفريقين ثم انهزمت البربر بعد
حروب صعبة وقتل كسيلة ووجوه من معه من البربر ومن لا يحصى من عامتهم واتبعهم العرب
إلى مرماجنة ثم إلى وادي ملوية وفي هذه الوقعة ذل البربر وفنيت فرسانهم ورجالهم
وخضدت شوكتهم واضمحل أمر الفرنجة فلم يعد وخاف البربر من زهير والعرب خوفا شديدا
فلجؤوا إلى القلاع والحصون وكسرت شوكة أوربة من بينهم واستقر جمهورهم بديار المغرب
الأقصى وملكوا مدينة وليلى وكانت فيما بين موضع فاس ومكناسة بجانب جبل زرهون ولم
يكن لهم بعد هذه الوقعة ذكر إلى أن قدم عليهم إدريس بن عبد الله رضي الله عنه
فقاموا بدعوته على ما نذكره إن شاء الله
وأما زهير فإنه لما رأى ما منحه الله من الظفر والنصر وساق إليه من العز والملك
خشي على نفسه الفتنة وكان من العباد المخبتين فترك القيروان آمن ما كانت وارتحل
إلى المشرق وقال إنما جئت للجهاد في سبيل الله وأخاف على نفسي أن تميل إلى الدنيا
فلما وصل إلى برقة وجد
____________________
أسطول الروم على قتالها في
جموع عظيمة من قبل قيصر وبأيديهم أسرى من المسلمين فاستغاثوا به وهو في خف من
أصحابه فصمد إليهم فيمن معه وقاتل الروم حتى قتل وقتل معه جماعة من أشراف أصحابه
ونجا الباقون إلى دمشق فأخبروا الخليفة عبدا لملك بما وقع فآسفه ذلك ولاية حسان بن
النعمان على المغرب وتخريبه قرطاجنة
لما رحل زهير بن قيس إلى المشرق واستشهد ببرقة كما قدمنا واضطرمت بلاد المغرب بعده
واضطربت نار الفتن وافترق أمر البربر وتعدد سلطانهم في رؤسائهم وكان من أعظمهم هم
شوكة يومئذ الكاهنة داهيا الزناتية ثم الجراوية صاحبة جبل أوراس وكبيرة قومها
جراوة والبتر فبعث عبد الملك بن مروان إلى عامله على مصر حسان بن النعمان الغساني
وكان يقال له الشيخ الأمين يأمره أن يخرج إلى جهاد البربر وبعث إليه بالمدد فزحف
إليهم سنة تسع وستين في أربعين ألف مقاتل ولما دخل القيروان سأل الأفارقة عن أعظم
ملوكهم فقالوا صاحب قرطاجنة وهي المدينة العظمى قريعة رومة وضرتها وإحدى عجائب
الدنيا وكان با يومئذ من جموع الفرنج أمم لا تحصى فصمد إليها حسان وافتتحها وقتل
أكثر من بها ونجا فلهم في المراكب إلى صقلية والأندلس ولما انصرف حسان عنها دخلها
أقوام من أهل الضواحي والبادية وتحصنوا بها فرجع إليهم وقاتلهم أشد قتال فافتتحها
عنوة وأمر بتخريبها وإعفاء رسمها وكسر قنواتها فذهبت كأمس الدابر ولم يبق بها الآن
إلا آثار خفيفة تدل على ما كان بها من عجيب الصنعة وإحكام العمل وبأنقاضها عمرت
مدينة تونس كما في القاموس
ثم بلغ حسان أن البربر والفرنج قد عسكروا في جموع عظيمة ببلاد صطفورة وبنزرت فصمد
إليهم وهزمهم وشرد بهم من خلفهم وانحاز فلهم إلى باجة وبونة ورجع حسان إلى
القيروان فأراح بها أياما ثم سأل عن بقية الملوك المخالفة فدلوه على الكاهنة داهيا
وقومها جراوة وهم ولد جراو بن
____________________
الديديت بن زانا وزانا هو أبو
زناتة وكان لهذه الكاهنة بنون ثلاثة ورثوا رياسة قومهم عن سلفهم وربوا في حجرها
فاستبدت عليهم واعتزت على قومها بهم وبما كان لها من الكهانة والمعرفة بغيب
أحوالهم وعواقب أمورهم فانتهت إليها رياستهم ووقفوا عند إشارتها قال هانىء بن بكور
الضريسي ملكت عليهم خمسا وثلاثين سنة وعاشت مائة وسبعا وعشرين سنة وكان قتل عقبة
بن نافع وأصحابه في البسيط قبلة جبل أوراس بإغرائها برابرة الزاب عليه وكان
المسلمون يعرفون ذلك منها فلما قتل كسيلة وانفضت جموع البربر رجعوا إلى هذه
الكاهنة بمعتصمها من جبل أوراس وقد انضم إليها بنو يفرن ومن كان بإفريقية من قبائل
زناتة وسائر البتر فسار إليها حسان حتى نزل وادي مليانة وزحفت هي إليه فاقتتلوا
بالبسيط أمام جبلها قتالا شديدا ثم انهزم المسلمون وقتل منهم خلق كثير وأسر خالد
بن يزيد القيسي في ثمانين رجلا من وجوه العرب ولم تزل الكاهنة والبربر في إتباع حسان
والعرب حتى أخرجوهم من عمل قابس ولحق حسان بعمل طرابلس فلقيه هناك كتاب عبد الملك
يأمره بالمقام حيث يصله كتابه فأقام ببرقة وبنى قصوره المعروفة لهذا العهد بقصور
حسان ثم رجعت الكاهنة إلى مكانها من الجبل وأطلقت أسرى المسلمين سوى خالد فإنها
اتخذت عنده عهدا بإرضاعه مع ولديها وصيرته أخا لهما وأقامت في سلطان إفريقية
والبربر خمس سنين بعد هزيمة حسان ونفت العرب عن بلاد المغرب وقالت لقومها إنما
تطلب العرب من المغرب مدنه وما فيها من الذهب والفضة ونحن إنما نريد المزارع
والمراعي فالرأي أن نخرب هذه المدن والحصون ونقطع أطماع العرب عنها
قال ابن خلدون وكانت المدن والضياع من طرابلس إلى طنجة ظلا واحدا في قرى متصلة
فخربت الكاهنة ديار المغرب وعضدت أشجاره ومحت جماله وجاست بالفساد خلاله فشق ذلك
على البربر واستأمنوا إلى حسان وكان عبد الملك قد بعث إليه بالمدد فأمنهم ووجد
السبيل إلى تفريق أمرها ثم دس إلى خالد بن يزيد يستعلمه أمرها فأطلعه على كنه
خبرها واستحثه
____________________
فزحف إلى المغرب سنة أربع
وسبعين وبرزت إليه فأوقع بها وبجموعها وقتلها واحتز رأسها عند البئر المعروفة بها
لهذا العهد من جبل أوراس ثم اقتحم الجبل عنوة واستلحم فيه زهاء مائة ألف من البربر
واستأمن إليه باقيهم على الإسلام والطاعة وشرط عليهم حسان أن يكون معه منهم اثنا
عشر ألفا لا يفارقونه في مواطن جهاده فأجابوا وأسلموا وحسن إسلامهم وعقد للأكبر من
ولدي الكاهنة على قومه من جراوة وعلى جبل أوراس فقالوا قد لزمتنا له الطاعة وسبقنا
إليها وبايعناه عليها وكان ذلك بإشارة من الكاهنة لإثارة من علم كانت لديها بذلك
من شياطينها
وانصرف حسان إلى القيروان مؤيدا منصورا وثبت ملكه واستقام أمره فدون الدواوين وكتب
الخراج على عجم إفريقية ومن أقام معهم على النصرانية من البربر ثم أوعز إليه الخليفة
عبد الملك باتخاذ دار الصناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية حرصا على مراسم الجهاد
ومنها كان فتح صقلية أيام زيادة الله الأول من بني الأغلب على يد أسد بن الفرات
شيخ الفتيا وصاحب الإمام ابن القاسم بعد أن كان معاوية بن حديج أغزى صقلية أيام
ولايته على المغرب فلم يفتح الله عليه وفتحت على يد ابن الأغلب وقائده ابن الفرات
كما قلنا واستمر حسان واليا على المغرب إلى أن عزله عبد العزيز بن مروان صاحب مصر
وكان أمر المغرب إذ ذاك إليه فاستخلف حسان على المغرب رجلا من جنده اسمه صالح
وارتحل إلى المشرق بما جمعه من ذريع المال ورائع السبي ونفيس الذخيرة فلما انتهى
إلى مصر أهدى إلى عبد الله مائتي جارية من بنات ملوك الفرنج والبربر فلم يقنعه ذلك
وانتزع كثيرا مما بيده ولما قدم على الخليفة بدمشق وهو يومئذ الوليد بن عبد الملك
شكا إليه ما صنع به عمه عبد العزيز فغاظه ذلك وأنكره ثم أهدى إليه حسان من غريب
النفائس التي أخفاها عن عبد الله ما استعظمه الوليد وشكره عليه ووعده برده إلى
عمله فحلف حسان أن لا يلي لبني أمية عملا أبدا
وذكر البكري أن حسان بن النعمان هذا هو فاتح تونس وقال غيره بل
____________________
فاتحها زهير بن قيس البلوي ولم
تتوفر الدواعي على تحقيق ذلك لأنها لم تكن يومئذ قاعدة ملك وإنما عظم أمرها في
دولة الحفصيين فمن بعدهم والله تعالى أعلم ولاية موسى بن نصير على المغرب وفتحه
الأندلس
لما أرتحل حسان بن النعمان إلى المشرق اختلفت أيدي البربر فيما بينهم على إفريقية
والمغرب فكثرت الفتن وخلت أكثر البلاد حتى قدم موسى بن نصير فتلافى أمرها ولم
شعثها
قال الحافظ أبو عبد الله الحميدي في جذوة المقتبس ولي موسى بن نصير إفريقية
والمغرب سنة سبع وسبعين وقال غيره سنة سبع وثمانين
وقال ابن خلكان كان موسى بن نصير من التابعين وروي عن تميم الداري رضي الله عنه
وكان عاقلا كريما شجاعا ورعا متقيا لله تعالى لم يهزم له جيش قط ولما قدم المغرب
وجد أكثر مدنه خالية لاختلاف أيدي البربر عليها وكانت البلاد في قحط شديد فأمر
الناس بالصوم والصلاة وإصلاح ذات البين وخرج بهم إلى الصحراء ومعه سائر الحيوانات
ففرق بينها وبين أولادها فوقع البكاء والصراخ وأقام على ذلك إلى منتصف النهار ثم
صلى وخطب الناس ولم يذكر الوليد بن عبد الملك فقيل له ألا تدعو لأمير المؤمنين
فقال هذا مقام لا يدعى فيه غير الله عز وجل فسقوا حتى رووا
____________________
وقال ابن خلدون كتب الخليفة
الوليد بن عبد الملك إلى عمه عبد الله بن مروان وهو على مصر ويقال عبد العزيز أن
يبعث بموسى بن نصير إلى إفريقية وكان أبوه نصير من حرس معاوية فبعثه عبد الله فقدم
القيروان وبها صالح خليفة حسان فعزله ورأى أن البربر قد طمعت في البلاد فوجه
البعوث في النواحي وبعث ابنه عبد الله في البحر إلى جزيرة ميورقة فغنم وسبى وعاد
ثم بعثه إلى ناحية أخرى وبعث ابنه مروان كذلك وتوجه هو إلى ناحية فغنموا وسبوا
وعادوا وبلغ الخمس من المغنم سبعين ألف رأس من السبي
قال أبو شعيب الصدفي لم يسمع في الإسلام بمثل سبايا موسى بن نصير ونقل الكاتب أبو
إسحاق إبراهيم بن القاسم القروي المعروف بابن الرفيق أن موسى بن نصير لما فتح
سقوما كتب إلى الوليد بن عبد الملك أنه صار لك من سبي سقوما مائة ألف رأس فكتب
إليه الوليد ويحك إني أظنها من بعض كذباتك فإن كنت صادقا فهذا محشر الأمة
ثم خرج موسى غازيا أيضا وتتبع البربر وقتل فيهم قتلا ذريعا وسبى سبيا عظيما وتوغل
في جهات المغرب حتى انتهى إلى السوس الأدنى ثم تقدم إلى سبتة فصانعه صاحبها يليان
الغماري بالهدايا وأذعن للجزية وكان نصرانيا فأقره عليها واسترهن ابنه وأبناء قومه
على على الطاعة فلما رأى بقية البربر ما نزل بهم استأمنوا لموسى وبذلوا له الطاعة
فقبل منهم وولى عليهم
وقال ابن خلدون أيضا غزا موسى بن نصير طنجة وافتتح درعة وصحراء تافيلالت وأرسل
ابنه إلى السوس فأذعن البربر لسلطانه وأخذ رهائن المصامدة فأنزلهم بطنجة وذلك سنة
ثمان وثمانين وولى عليها طارق بن زياد الليثي قال وأنزل معه سبعة وعشرين ألفا من
العرب واثني عشر ألفا من البربر وأمرهم ان يعلموا البربر القرآن والفقه قال ثم
أسلم بقية البربرعلى يد إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر سنة إحدى ومائة أيام
عبد العزيز رضي الله عنه اه
____________________
ولما استقرت القواعد لموسى بالمغرب كتب إلى طارق وهو بطنجة يأمره بغزو الأندلس
فغزاها في اثني عشر ألفا من البربر وخلق يسير من العرب وعبر البحر من سبتة إلى
الجزيرة الخضراء وصعد الجبل المنسوب إليه المعروف اليوم بجبل طارق يوم الاثنين
لخمس خلون من رجب سنة اثنتين وتسعين للهجرة وذكر عن طارق أنه كان نائما وقت العبور
في المركب فرأى النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة يمشون على الماء حتى
مروا به فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء
بالعهد ذكر ذلك ابن بشكوال
وقال ابن خلدون في أخبار الأندلس إن أمة القوط ملكوا جزيرة الأندلس نحو أربعمائة
سنة إلى أن جاء الله بالإسلام والفتح وكان ملكهم لذلك العهد يسمى لذريق وهو سمة
ملوكهم كجرجير سمة ملوك صقلية وكانت لهم خطوة وراء البحر في هذه العدوة الجنوبية
خطوها من زقاق البحر إلى بلاد البربر واستعبدوهم وكان ملك البربر بذلك القطر الذي
هو اليوم جبال غمارة يسمى يليان وكان يدين بطاعتهم وبملتهم وموسى بن نصير أمير
العرب إذ ذاك عامل بإفريقية من قبل الوليد بن عبد الملك ومنزله بالقيروان وكان قد
أغزا لذلك العهد عساكر المسلمين بلاد المغرب الأقصى ودوخ أقطاره وأوغل في جبال
طنجة حتى وصل إلى خليج الزقاق واستنزل يليان لطاعة الإسلام وخلف مولاه طارق بن
زياد واليا بطنجة وكان يليان ينقم على لذريق ملك القوط بالأندلس فعلة فعلها زعموا
بابنته الناشئة في داره على عادتهم في بنات بطارقتهم فغضب لذلك وأجاز إلى لذريق
فأخذ ابنته منه
____________________
شغب العبيد على السلطان المولى
عبد الله وفراره ثانية إلى البربر
لما كان شهر ربيع الأول من سنة أربع وخمسين ومائة وألف شغب العبيد على السلطان
المولى عبد الله وهموا بخلعه والإيقاع به فنذرت بذلك أمه الحرة خناثى بنت بكار
ففرت من مكناسة إلى فاس الجديد ومن الغد تبعها ابنها السلطان المولى عبد الله ونزل
برأس الماء فخرج إليه الودايا وأهل فاس وأجلوا مقدمه واهتزوا له فاستعطفهم السلطان
وقال لهم أنتم جيشي وعدتي ويميني وشمالي وأريد منكم أن تكونوا معي على كلمة واحدة
وعاهدهم وعاهدوه ورجعوا وفي أثناء ذلك بلغه أن أحمد بن علي الريفي قد كاتب عبيد
مشرع الرملة وكاتبوه واتفق معهم على خلع السلطان المولى عبد الله وبيعة أخيه
المولى زين العابدين وكان يومئذ عنده بطنجة وأنهم وافقوه فوجم لها السلطان المولى
عبد الله ثم استعجل أمر المولى زين العابدين ففر المولى عبد الله إلى بلاد البربر
كما سيأتي إن شاء الله الخبر عن دولة أمير المؤمنين زين العابدين بن إسماعيل رحمه
الله
كان ابتداء أمر السلطان المولى زين العابدين أنه قدم مكناسة في أيام أخيه المولى
المستضيء فلما سمع به أمر بسجنه قبل أن يجتمع به فسجن مدة ثم أمر يوما بإخراجه
وضربه فضرب وهو في قيده ضربا وجيعا أشرف منه على الموت كما مر ومع ذلك فلم ينطق
بكلمة ثم رده إلى السجن ثم أمر ببعثه مقيدا إلى سجلماسة كي يسجن بها مع بعض
الأشراف المسجونين هنالك فلما سمع بذلك قواد رؤوسهم من العبيد بعثوا من رده من
صفرو إلى فاس ومن هنالك بعثوا به إلى القائد أبي العباس أحمد الكعيدي ببني يازغة
وأمروه أن يحتفظ به مكرما مبجلا
____________________
ألفا فالتقوا بفحص شريش فهزمه
الله ونفلهم أموال أهل الكفر ورقابهم وكتب طارق إلى موسى بالفتح والغنائم فحركته
الغيرة وكتب إلى طارق يتوعده إن توغل بغير إذنه ويأمره أن لا يتجاوز مكانه حتى
يلحق به واستخلف على القيروان ولده عبد الله وخرج معه حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة
بن نافع الفهري ونهض من القيروان سنة ثلاث وتسعين في عسكر ضخم من وجوه العرب
والموالي وعرفاء البربر فوافى خليج الزقاق ما بين طنجة والجزيرة الخضراء فأجاز إلى
الأندلس وتلقاه طارق فانقاد واتبع ويقال إن موسى لما سار إلى الأندلس عبر البحر
إليها من ناحية الجبل المنسوب إليه المعروف اليوم بجبل موسى وتنكب النزول على جبل
طارق وتمم الفتح وتوغل في الأندلس إلى برشلونة في جهة الشرق وأربونة في الجوف وضم
قادس في الغرب ودوخ أقطارها وجمع غنائمها وأجمع أن يأتي المشرق من ناحية
القسطنطينية ويتجاوز إلى الشام دروب الأندلس ودروبه ويخوض إليه ما بينهما من بلاد
الأعاجم وأمم النصرانية مجاهدا فيهم ومستلحما لهم إلى أن يلحق بدار الخلافة من
دمشق ونمى الخبر إلى الخليفة الوليد فاشتد قلقه بمكان المسلمين من دار الحرب ورأى
أن ما هم به موسى تغرير بالمسلمين فبعث إليه بالتوبيخ والانصراف وأسر إلى سفيره أن
يرجع بالمسلمين إن لم يرجع هو وكتب له بذلك عهده ففت ذلك في عزم موسى وقفل عن
الأندلس بعد أن أنزل الرابطة والحامية بثغورها واستعمل ابنه عبد العزيز لسدها
وجهاد غدوها وأنزله بقرطبة فاتخذها دار إمارة واحتل موسى بالقيروان سنة خمس وتسعين
وارتحل إلى المشرق سنة ست بعدها بما كان معه من الغنائم والذخائر والأموال على
العجل والظهر يقال إن من جملتها ثلاثين ألف رأس من السبي وولى على إفريقية ابنه
عبد الله واندرجت ولاية الأندلس يومئذ في ولاية المغرب فكان صاحب القيروان ناظرا
في الجميع وقدم موسى على سليمان بن عبد الملك وقد ولي الخلافة بعد الوليد فسخطه
ونكبه وثارت عساكر الأندلس بابنه عبد العزيز
____________________
فقتلوه لسنتين من ولايته
بإغراء الخليفة سليمان وكان خيرا فاضلا وافتتح في ولايته مدائن كثيرة وكان الذي
تولى قتله حبيب بن أبي عبيدة الفهري وكان سبب غضب سليمان على موسى أنه لما توجه
إلى المشرق وانتهى إلى مصر وصل أشرافها وفقهاءها وبلغة الخبر بمرض الوليد ووافاه
كتابه يستحثه على القدوم ووافاه كتاب آخر من أخيه سليمان يثبطه فأسرع موسى اللحاق
بالوليد فقدم عليه قبل وفاته بثلاثة أيام ودفع إليه ما معه من الذخائر والأموال
فغاظ ذلك سليمان وأساء مكافأته حين أفضى الأمر إليه فنكبه ونكب آل بيته أجمع وكانت
وفاة موسى رحمه الله بالمدينة المنورة سنة ثمان وتسعين وقيل غير ذلك
قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد القيرواني ارتدت البربر اثنتي عشرة مرة من طرابلس
إلى طنجة ولم يستقر إسلامهم حتى عبر موسى بن نصير البحر إلى الأندلس وأجاز معه
كثيرا من رجالات البربر برسم الجهاد فاستقروا هنالك فحينئذ استقر الإسلام بالمغرب
وأذعن البربر لحكمه وتناسوا الردة ثم نبضت فيهم عروق الخارجية بعد على ما نذكره ولاية
محمد بن يزيد على المغرب
لما ارتحل موسى بن نصير إلى المشرق ونكبه الخليفة سليمان كما قلنا عزل ابنه عبد
الله عن المغرب وولى مكانه محمد بن يزيد مولى قريش ويقال مولى الأنصار فقدم
القيروان سنة سبع وتسعين وكان سليمان قد أمره باستئصال آل موسى بن نصير واصطلام
نعمتهم فأتى على ذلك ثم لما قتل أهل الأندلس أميرهم عبد العزيز بن موسى ولوا عليهم
أيوب بن حبيب اللخمي وهو ابن أخت موسى فوجه محمد بن يزيد الحر بن عبد الرحمن بن
عثمان الثقفي واليا من قبله على الأندلس فقدمها واستقر أميرا بها سنتين وثمانية
أشهر قالوا وكان محمد بن يزيد هذا عادلا حسن السيرة قاتل المخالفين بثغور المغرب
وغنم وسبى ولم يزل واليا عليه حتى
____________________
مات سليمان فكانت ولايته سنتين
وأشهرا والله أعلم ولاية إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر على المغرب
لما توفي سليمان بن عبد الملك رحمه الله وولي الخلافة بعده عمر بن عبد العزيز رضي
الله عنه استعمل على المغرب إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر مولى بني مخزوم
فقدم القيروان سنة مائة وكان خير أمير وخير وال ولم يزل حريصا على دعاء البربر إلى
الإسلام حتى تم إسلامهم على يده وبث فيهم من فقههم في دينهم
وذكر أبو العرب محمد بن أحمد بن تميم في تاريخ إفريقية أن عمر بن عبد العزيز رضي
الله عنه أرسل عشرة من التابعين يفقهون أهل المغرب في الدين منهم حبان بن أبي جبلة
ولما توفي عمر بن عبد العزيز سنة إحدى ومائة وبويع يزيد بن عبد الملك وجه يزيد بن
أبي مسلم الثقفي واليا على المغرب على ما نذكره
____________________
ولاية يزيد بن أبي مسلم على
المغرب
هو يزيد بن أبي مسلم دينار مولى الحجاج بن يوسف الثقفي الظالم المشهور وكان يزيد
هذا كاتبه وصاحب شرطته قال ابن خلكان كانت فيه كفاية ونهضة قدمه الحجاج بسببهما
وكان من خبره أن الحجاج لما حضرته الوفاة استخلف يزيد هذا على خراج العراق فأقره
الوليد بن عبد الملك واغتبط به وقال ما مثلي ومثل الحجاج وابن أبي مسلم بعده إلا
كرجل ضاع منه درهم فوجد دينارا
ولما مات الوليد وولي بعده أخوه سليمان عزل ابن أبي مسلم وأمر به فأحضر بين يديه
في جامعة وكان رجلا قصيرا دميما قبيح الوجه عظيم البطن تحتقره العين فلما نظر إليه
سليمان قال أنت يزيد بن أبي مسلم قال نعم اصلح الله أمير المؤمنين قال لعن الله من
أشركك في أمانته وحكمك في دينه قال لا تفعل يا أمير المؤمنين فإنك رايتني والأمر
عني مدبر ولو رأيتني والأمر علي مقبل لاستعظمت ما استصغرت ولاستجللت ما احتقرت
فقال سليمان قاتله الله فما أربط جاشه وأعضب لسانه ودارت بينه وبين سليمان محاورات
غير هذه ثم كشف عنه فلم يجد عليه خيانة فهم باستكتابه فقال عمر بن عبد العزيز
أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تحيي ذكر الحجاج باستكتاب كاتبه فقال إني كشفت
عنه فلم أجد عليه خيانة يا أبا حفص فقال عمر أنا أوجدك من هو أعف عن الدينار
والدرهم منه فقال سليمان من هو قال إبليس ما مس دينارا ولا درهما قط وقد أهلك هذا
الخلق فتركه سليمان
وحدث جويرية بن أسماء أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة بلغه أن يزيد بن أبي
مسلم خرج في جيش من جيوش المسلمين فكتب إلى عامل الجيش برده وقال إني لأكره أن
أستنصر بجيش هو فيهم فلما توفي عمر رضي الله عنه وأفضت الخلافة إلى يزيد بن عبد
الملك عزل
____________________
إسماعيل بن عبيد الله عن
المغرب وولى مكانه يزيد بن أبي مسلم فأساء السيرة قالوا ووجه عنبسة بن سحيم الكلبي
واليا من قبله على الأندلس فاستقام على يده أمرها ثم ثار أهل المغرب بابن أبي مسلم
فقتلوه سنة ثنتين ومائة لشهر من ولايته
قال الطبري وكان سبب ذلك أنه كان قد عزم أن يسير في أهل المغرب بسيرة الحجاج في
أهل العراق فإن الحجاج كان وضع الجزية على رقاب الذين أسلموا من أهل السواد وأمر
بردهم إلى قراهم ورساتيقهم على الحالة التي كانوا عليها قبل الإسلام فلما عزم يزيد
على ذلك تآمر البربر فيه وأجمعوا على قتله فقتلوه وولوا عليهم محمد بن يزيد الذي
كان قبله فيما ذكره الطبري وكان غازيا بصقلية فلما قدم بمغانمه ولوه أمرهم
وقال ابن عساكر ولوا بعده إسماعيل بن عبيد الله والله أعلم
ثم كتب أهل المغرب إلى الخليفة يزيد إنا لم نخلع يدا من طاعة ولكن يزيد بن أبي
مسلم سامنا ما لا يرضى به الله ورسوله فقتلناه وأعدنا عاملك فكتب إليهم يزيد إني
لم أرض ما صنع ابن أبي مسلم وأقر محمد بن يزيد على المغرب وذلك في سنة اثنتين
ومائة كما قلنا
وحدث الوضاح بن أبي خيثمة وكان حاجب عمر بن عبد العزيز قال أمرني عمر بن العزيز
يعني في مرض موته بإخراج قوم من السجن وفيهم يزيد بن أبي مسلم فأخرجتهم وتركته
فحقد علي فلما مات عمر هربت إلى أفريقية خوفا منه قال فبينا أنا بإفريقية إذ قيل
قدم ابن ابي مسلم واليا فاختفيت فأعلم بمكاني وأمر بي فحملت إليه فلما رآني قال
طالما سألت الله أن يمكنني منك فقلت وأنا والله لطالما سألت الله أن يعيذني منك
فقال ما أعاذك الله والله لأقتلنك ولو سابقني فيك ملك الموت لسبقته ثم دعا بالسيف
والنطع فأتي بهما وأمر بالوضاح فأقيم عليه مكتوفا وقام السياف وراءه ثم أقيمت
الصلاة فتقدم يزيد إليها فلما سجد أخذته السيوف ودخل على الوضاح من قطع كتافه
وأطلقه فسبحان اللطيف الخبير
____________________
ولاية بشر بن صفوان على المغرب
لما كتب أهل المغرب إلى الخليفة يزيد بن عبد الملك بما كان منهم إلى ابن أبي مسلم
وما اعتذروا به في شأنه أقر عليهم محمد بن يزيد أو إسماعيل بن عبيد الله على
الخلاف المتقدم ما شاء الله ثم ولى عليهم بشر بن صفوان الكلبي وكان واليا على مصر
فقدم القيروان سنة ثلاث ومائة فمهد المغرب وسكن أرجاءه واستصفى بقايا آل موسى بن
نصير ثم وفد على يزيد بن عبد الملك فوجده قد مات وبويع هشام بن عبد الملك فرده
هشام إلى عمله من المغرب فاستقر بالقيروان واستدعى منه أهل الأندلس واليا يقوم
بأمرهم وذلك بعد مقتل عنبسة بن سحيم الكلبي شهيدا في بعض غزوات الفرنج فولى عليهم
يحيى بن سلمة الكلبي فقدم الأندلس آخر سنة سبع ومائة فأصلح شأنها ثم غزا بشر بن
صفوان صقلية بنفسه سنة تسع ومائة فأصاب سبيا كثيرا ورجع إلى القيروان منصورا فكانت
منيته عقب ذلك ولاية عبيدة بن عبد الرحمن على المغرب
لما توفي بشر بن صفوان وانتهى الخبر إلى الخليفة هشام بن عبد الملك ولى على المغرب
عبيدة بن عبد الرحمن السلمي وهو ابن أخي أبي الأعور السلمي وقيل ابن ابنه فقدم
القيروان سنة عشر ومائة ونظر في أمر المغرب والأندلس معا وولى من قبله على الأندلس
ولاة أربعة واحدا بعد واحد وهم عثمان بن أبي نسعة الخثعي وحذيفة بن الأحوص القيسي
والهيثم بن عبيد الكلابي ومحمد بن عبد الله الأشجعي وكان عبيدة بن عبد الرحمن قد
أخذ عمال بشر بن صفوان قبله وعذبهم فكتب بعضهم بذلك إلى الخليفة هشام فعزله لأربع
سنين وستة أشهر من ولايته
____________________
ولاية عبيد الله بن الحبحاب
على المغرب
عبيد الله هذا هو مولى بني سلول وكان رئيسا نبيلا وأميرا جليلا وخطيبا مصقعا ولاه
هشام بن عبد الملك على المغرب بعد عزل عبيدة بن عبد الرحمن عنه وأمره أن يمضي إليه
من مصر فاستخلف عبيد الله على مصر ابنه أبا القاسم وسار إلى المغرب فقدم القيروان
في ربيع الآخر سنة أربع عشرة ومائة واستعمل عمر بن عبيد الله المرادي على طنجة
والمغرب الأقصى واستعمل ابنه إسماعيل بن عبيد الله معه على السوس وما وراءه
واستعمل على الأندلس عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي فكانت له في الفرنجة وقائع
وأصيب جيشه في رمضان من السنة المذكورة في موضع يعرف ببلاط لشهداء وبه عرفت الغزوة
____________________
ثم ولى عبيد الله على الأندلس عبد الملك بن قطن الفهري ثم بعده عقبة بن الحجاج
السلولي فكان محمود السيرة وتمكن سلطان عبيد الله بالمغرب وبنى جامع الزيتونة
بتونس لكن صحح صاحب المؤنس أن أول مختط للجامع المذكور حسان بن النعمان وتممه عبيد
الله هذا واتخذ بها دار صناعة لإنشاء المراكب البحرية ثم بعث حبيب بن أبي عبيدة بن
عقبة بن نافع الفهري غازيا أرض المغرب فانتهى إلى السوس الأقصى وقاتل مسوفة ثم
تخطاهم إلى تخوم السودان وأصاب من مغانم الذهب والفضة والسبي شيئا كثيرا ودوخ بلاد
البربر وقبائلها ورجع ثم أغزاه ثانية جزيرة صقلية فركب البحر إليهم سنة اثنتين
وعشرين ومائة ومعه ابنه عبد الرحمن بن حبيب فنازل سرقوسة أعظم مدن صقلية وضرب على
أهلها الجزية وأثخن في سائر الجزيرة
وكان عمر بن عبيد الله في هذه المدة بطنجة قد أساء السيرة في برابرة المغرب الأقصى
وأراد أن يخمس من أسلم منهم وزعم أنه الفيء فنفرت قلوب البربر عنه وأحسوا بأنهم
طعمة للعرب وثقلت عليهم وطأة عمال ابن الحبحاب جملة بما كانوا يطالبونهم به من
الوظائف البربرية مثل الإدم العسلية الألوان وأنواع طرف المغرب فكانوا يتغالون في
جمع ذلك وانتخابه حتى كانت الصرمة من الغنم تهلك ذبحا لاتخاذ الجلود العسلية من
سخالها ولا يوجد فيها مع ذلك إلا الواحد وما قرب منه فكثر عيثهم بذلك في أموال
البربر فأجمعوا الانتقاض وبلغهم مسير العساكر مع حبيب بن أبي عبيدة إلى صقلية
فجرأهم ذلك على مرادهم وثار ميسرة المضغري بأحواز طنجة على ما نذكره
وكانت بدعة الخارجية يومئذ قد سرت في البربر وتلقنها رؤوسهم عن عرب العراق
الساقطين إلى المغرب نزعوا بها إلى الأطراف داعين أغمار
____________________
الأمم إليها عسى أن تكون لهم
دولة فاستحكمت صبغتها في طغام البربر ووشجت فيهم عروقها فكان ذلك من أقوى البواعث
والأسباب في خرق حجاب الهيبة على الخلفاء وانتقاض البربر على العرب ومزاحمتهم لهم
في سلطانهم
ولنذكر هنا أصل الخوارج وفرقهم على الجملة ثم نعود إلى موضوعنا الذي كنا فيه فنقول
قد تقدم لنا في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما كان من أمر التحكيم وما نشأ
عنه من خروج طائفة من القراء عليه وقالوا حكمت الرجال في دين الله ولا حكم إلا لله
وأن عليا رضي الله عنه استأصلهم بالنهروان فقال له بعض أصحابه قد قطع الله دابرهم
آخر الدهر فقال علي رضي الله عنه والذي نفسي بيده إنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام
النساء لا تخرج خارجة إلا خرجت بعدها مثلها فصدق الله قول علي ونبغت منهم طوائف
بالعراق وغيره وتكرر خروجهم على الخلفاء وشرى داؤهم وأعيى دواؤهم وتعددت فرقهم
ومذاهبهم
قال ابن خلدون افترقت الخوارج على أربع فرق
الأولى الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي وكان رأيه البراءة من سائر المسلمين
وتكفيرهم والاستعراض يعني القتل من غير سؤال عن حال أحد وقتل الأطفال واستحلال
الأمانة لأنه يراهم كفارا
الثانية النجدية ويقال لهم النجدات أصحاب نجدة بن عامر الحنفي وهو بخلاف الأزارقة
في ذلك كله
الثالثة الإباضية أصحاب عبد الله بن أباض التميمي ثم الصريمي وهم يرون أن المسلمين
كلهم يحكم لهم بحكم المنافقين فلا ينتهون إلى الرأي الأول ولا يقفون عند الثاني
ولا يحرمون مناكحة المسلمين ولا موارثتهم وهم عندهم كالمنافقين ومن هؤلاء البيهسية
أصحاب أبي بيهس هيصم بن جابر الضبعي
____________________
الرابعة الصفرية وهم موافقون للإباضية إلا في القعدة يعني الذين يقعدون عن القتال
معهم فإن الإباضية أشد على القعدة منهم وربما تشعبت هذه الآراء بعد ذلك
واختلف في تسمية الصفرية فقيل نسبوا إلى عبد الله بن صفار الصريمي وقيل اصفروا بما
نهكتهم العبادة وفي القاموس الصفرية بالضم وبكسر قوم من الحرورية نسبوا إلى عبد
الله بن صفار بن ككتان أو إلى زياد بن الأصفر أو إلى صفرة ألوانهم أو لخلوهم من
الدين اه
وقد كانت الخوارج من قبل هذا الافتراق على رأي واحد لا يختلفون إلا في الشاذ من
الفروع وفي أصل افتراقهم مكاتبات بين نافع بن الأزرق وأبي بيهس وعبد الله بن أباض
ذكرها المبرد في الكامل فلتنظر هنالك
وكانت خوارج المغرب إباضية وصفرية فلما كانت ولاية عبيد الله بن الحبحاب ونال
عماله من البربر ما نالوا من الجور والعسف انتقضوا عليه وثار ميسرة المضغري
المعروف بالخفير بأحواز طنجة ومضغرة بطن من بني فاتن بن تامضيت بن ضرى بن زجيك بن
مادغيس الأبتر وكانوا على رأي الصفرية وكان شيخهم ميسرة المذكور مقدما في ذلك
المذهب فحمل البربر على الخروج عن الطاعة وزحف إلى عمر بن عبيد الله بطنجة فقتله
سنة اثنتين وعشرين ومائة وولى عليها من قبله عبد الأعلى بن جريج الإفريقي رومي
الأصل ومولى للعرب كان إمام الصفرية في انتحال مذهبهم فقام بأمرهم مدة ثم تقدم إلى
السوس فقتله عاملها إسماعيل بن عبيد الله وكان ميسرة لما استولى على طنجة والمغرب
الأقصى قد بايعه البربر بالخلافة وخاطبوه بأمير المؤمنين إذ الخوارج لا يشترطون في
الإمام الأعظم القريشية محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم ( اسمعوا وأطيعوا وإن
استعمل عليكم عبد حبشي كأن
____________________
رأسه زبيبة ) وهو مؤول واضطرم
المغرب نارا وفشت نحلة الخارجية في جميع قبائله وانتقض أمره على خلفاء المشرق فلم
يراجع طاعتهم بعد
ثم إن ابن الحبحاب بعث إلى ميسرة خالد بن حبيب الفهري فيمن كان قد بقي عنده من
الجيش واستقدم أباه حبيب بن أبي عبيدة من صقلية فقدم فيمن معه من عساكر المسلمين
وبعثه في أثر خالد ونهض إليهم ميسرة في جموع البربر فلقيهم بأحواز طنجة فاقتتلوا
قتالا شديدا ثم تحاجزوا ورجع ميسرة إلى طنجة فساءت سيرته في البربر ونقموا عليه ما
جاء به فقتلوه وولوا عليهم مكانه خالد بن حميد الزناتي
قال ابن عبد الحكم هو من هتورة إحدى بطون زناتة فقام بأمرهم واجتمع إليه البربر فزحف
إلى العرب وسرح إليه ابن الحبحاب عساكر الخليفة هشام بن عبد الملك وعلى مقدمتها
خالد بن حبيب الفهري فكان اللقاء على وادي شلف فانهزم المسلمون وقتل خالد بن حبيب
ووجوه من معه من العرب فسميت الوقعة وقعة الأشراف وانتقض المغرب على ابن الحبحاب
من سائر جهاته وبلغ الخبر إلى أهل الأندلس فعزلوا عامله عقبة بن الحجاج السلولي
وولوا عليهم عبد الملك بن قطن الفهري ومرج أمر الناس وانتهى الخبر بذلك كله إلى
الخليفة هشام بدمشق فعزل ابن الحبحاب عن المغرب
وقال صاحب الخلاصة لما اختلت الأمور على ابن الحبحاب اجتمع الناس وعزلوه فبلغ ذلك
هشاما فغضب وكتب إلى ابن الحبحاب بالقدوم فخرج في جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين
ومائة والله أعلم
____________________
ولاية كلثوم بن عياض على
المغرب ومقتله
لما انتهى إلى الخليفة هشام ما كان من أمر خوارج البربر بالمغرب والأندلس وخلعهم
للطاعة شق ذلك عليه واستضعف ابن الحبحاب فكتب إليه يستقدمه وولى على المغرب كلثوم
بن عياض القشيري ووجه معه جيشا كثيفا لقتالهم كان فيه مع ما انضاف إليه من مجموع
البلاد التي مر بها سبعون ألفا على ما قيل
ولما انتهى كلثوم إلى القيروان أساء السيرة في أهلها فكتبوا إلى حبيب بن أبي عبيدة
وهو يومئذ بتلمسان مواقف للبربر يشكون منه إليه وكان لآل عقبة بالمغرب وجاهة لم
تكن لغيرهم فكتب إليه حبيب ينهاه ويتوعده فاعتذر كلثوم وأغضى له عليها ثم استخلف
على القيروان عبد الرحمن بن عقبة وسار يؤم المغرب في جموعه وعلى مقدمته ابن أخيه
بلج بن بشر القشيري فمر على طريق سبتة وانتهى إلى تلمسان فلقي حبيب بن أبي عبيدة
فاقتتلا ثم اصطلحا وزحفا جميعا إلى المغرب الأقصى فنهضت إليهم البربر وكان اللقاء
على وادي سبو من أعمال طنجة
وقال ابن خلدون في أخبار البربر إن الخليفة هشام ولى كلثوم بن عياض على المغرب سنة
ثلاث وعشرين ومائة سرحه في اثني عشر ألفا من أهل الشام وكتب إلى ثغور مصر وبرقة
وطرابلس أن يمدوه فزحف إلى إفريقية ثم إلى المغرب حتى بلغ وادي سبو فبرز إليه خالد
بن حميد الزناتي فيمن معه من البربر وكانوا خلقا لا يحصون فلقوا كلثوم بن عياض بعد
أن هزموا مقدمته فاشتد القتال بينهم وقتل كلثوم وحبيب بن أبي عبيدة وكثير
____________________
من الجند وافترقت العساكر فمضى
أهل الشام إلى الأندلس مع بلج بن بشر ومضى أهل مصر وإفريقية إلى القيروان
وما ذكره أن خالد بن حميد هو الذي هزم جيوش كلثوم في هذه الوقعة هو مقتضى ما سبق
من أن ميسرة قتل في ولاية عبيد الله بن الحبحاب وجزم ابن حيان بأن الذي هزم جيوش
كلثوم هو ميسرة الخفير واقتصر عليه ابن خلدون في أخبار بني فاتن قال انتهت مقدمة
كلثوم بن عياض إلى سبو من أعمال طنجة فلقيه البربر هنالك مع ميسرة وقد فحصوا عن
أوساط رؤوسهم وتنادوا بشعار الخارجية فهزموا مقدمته ثم هزموه وقتلوه وكان كيدهم في
لقائهم إياه أن ملؤوا الشنان بالحجارة وربطوها في أذناب الخيل ثم أرسلوها في جيش
العرب فكانت الحجارة تقعقع في شنانها وخيل العرب تنفر حتى اختل مصافهم وتمت
الهزيمة عليهم فافترقوا وذهب بلج مع الطلائع من أهل الشام إلى سبتة ورجع أهل مصر
وإفريقية إلى القيروان وظهرت الخوارج في كل جهة واقتطع المغرب عن طاعة الخلفاء إلى
أن هلك ميسرة وقام برياسة مضغرة من بعده يحيى بن حارث منهم اه كلام ابن خلدون
فاضطرب النقل في هذه الواقعة كما ترى والله أعلم بالصواب
قال ابن حيان إن كلثوم بن عياض لما انهزمت جيوشه نجا جريحا إلى سبتة في أهل الشام
ومعه ابن أخيه بلج بن بشر بن عياض وحاصرهم البربر بها ولما اشتد حصارهم بسبتة
وانقطعت عنهم الأقوات وبلغوا من الجهد الغاية استغاثوا بإخوانهم من عرب الأندلس
فتثاقل عنهم صاحبها عبد الملك بن قطن لخوفه على سلطانه منهم فلما شاع خبر ضررهم
عند رجالات العرب اشفقوا عليهم فأغاثهم زياد بن عمرو اللخمي بمركبين مشحونين ميرة
أمسكت من أرماقهم فلما بلغ ذلك عبد الملك بن قطن ضربه سبعمائة سوط ثم اتهمه بعد
ذلك بتضريب الجند عليه فسمل عينيه ثم ضرب عنقه وصلب عن يساره كلبا واتفق في هذا
الوقت أن برابرة الأندلس لما بلغهم ما كان من ظهور برابرة العدوة على العرب
انتقضوا على عرب الأندلس
____________________
واقتدوا بما فعله إخوانهم
بالمغرب وتفطنوا لما كانوا غافلين عنه قبل ذلك من الخلاف على العرب ومزاحمتهم في
سلطانهم وأصل ذلك كله النزعة الخارجية فاستفحل أمرهم بالأندلس وكثر إيقاعهم بجيوش
ابن قطن فخاف أن يلقى منهم ما لقيه العرب بالمغرب من إخوانهم وبلغه أنهم قد عزموا
على قصده فلم ير أجدى له من الإستعداد بصعاليك عرب الشام أصحاب بلج الموتورين
بسبتة فكتب إلى بلج وقد مات عمه كلثوم فأسرعوا إلى إجابته وكانت تلك أمنيتهم فأحسن
إليهم وأسبغ النعمة عليهم وشرط عليهم أن يقيموا عنده سنة واحدة حتى إذا فرغوا له
من البربر انصرفوا إلى مغربهم وخرجوا له عن أندلسه فرضوا بذلك وعاهدوه وأخذ منهم
الرهائن عليه ثم قدم عليهم ابنيه قطنا وأمية والبربر في جموع لا يحصيها غير رازقها
فاقتتلوا قتالا صعب فيه المقام إلى أن كانت الدبرة على البربر فقتلهم العرب بأقطار
الأندلس حتى ألحقوا فلهم بالثغور وخفوا عن العيون فكر الشاميون وقد امتلأت أيديهم
من الغنائم فاشتدت شوكتهم وثابت همتهم وبطروا ونسوا العهود وطالبهم ابن قطن
بالخروج عن الأندلس فتعللوا عليه وذكروا صنيعه بهم أيام انحصارهم بسبتة وقتله
الرجل الذي أغاثهم بالميرة فخلعوه وقدموا على أنفسهم أميرهم بلج بن بشر وتبعه جند
بن قطن وأغروه بقتله فأبى فثارت اليمانية وقالوا قد حميت لمضرك والله لا نطيعك
فلما خاف تفرق الكلمة أمر بابن قطن فأخرج إليهم وهو شيخ كبير كفرخ نعامة قد شهد
وقعة الحرة بالمدينة فجعلوا يسبونه ويقولون له أفلت من سيوفنا يوم الحرة ثم
طالبتنا بتلك الترة فعرضتنا لأكل الكلاب والجلود وحبستنا بسبتة محبس الضنك حتى
أمتنا جوعا فقتلوه وصلبوه في ذي القعدة سنة ثلاث وعشرين ومائة وصلبوا عن يمينه خنزيرا
وعن يساره كلبا واستولى بلج على الأندلس وكانت خطوب يطول ذكرها والله ولي العون
والتوفيق
____________________
ولاية حنظلة بن صفوان على
المغرب
لما سمع الخليفة هشام بما جرى على كلثوم وأصحابه قامت قيامته فوجه حنظلة بن صفوان
الكلبي وهو أخو بشر بن صفوان المتقدم واليا على المغرب فقدم القيروان سنة أربع
وعشرين ومائة فوجد هوارة وهم ولد هوار بن أوريغ بن برنس خوارج على الدولة ورئيساهم
عكاشة بن أيوب الفزاري وعبد الواحد بن يزيد الهواري وكانا على مذهب الصفرية
فلما استقر حنظلة بالقيروان لم يلبث إلا يسيرا حتى زحف إليه عكاشة وعبد الواحد في
هوارة ومن تبعهم من البربر فخرج إليهم حنظلة والتقوا على القرن من ظاهر القيروان
فهزمهم بعد قتال صعب واستلحمهم وقتل عبد الواحد وأخذ عكاشة أسيرا ولما جيء إليه
بعكاشة في رمته وبرأس عبد الواحد سجد شكرا لله تعالى على ما منحه من الفتح وأمر بعكاشة
فقتل وأحصيت القتلى في ذلك اليوم فكانوا مائة وثمانين ألفا وكتب حنظلة بذلك إلى
الخليفة هشام وسمعها الليث بن سعد فقال ما غزوة كنت أحب أن أشهدها بعد غزوة بدر
أحب إلي من غزوة القرن والأصنام
ثم وجه حنظلة أبا الخطار حسام بن ضرار الكلبي واليا من قبله على الأندلس فركب
إليها البحر من تونس سنة خمس وعشرين ومائة فدان له أهل الأندلس واستقام أمره بها
حينا من الدهر ثم ثار عليه الصميل بن حاتم الكلبي وخلعه في خبر طويل
____________________
ولم يزل حنظلة على المغرب في أحسن حال إلى أن طرق الخلل الخلافة بالمشرق وخفت
صوتها لما حدث في بني أمية من فتنة الوليد الفاسق وما كان من أمر الشيعة والخوارج
مع مروان الحمار آخر خلفائهم وأفضى الأمر إلى الإدالة منهم ببني العباس فأجاز عبد
الرحمن بن حبيب الفهري من الأندلس إلى المغرب وغلب حنظلة عليه سنة ست وعشرين ومائة
على ما نذكره ذكر صالح بن طريف البرغواطي المتنبي ومخرقته
وفي هذا التاريخ كان ظهور صالح بن طريف البرغواطي الذي ادعى النبوة بتامسنا من
بلاد المغرب الأقصى على ساحل البحر المحيط فيما بين سلا وآسفي وبرغواطة بطن من
المصامدة على ما حققه ابن خلدون وكان أبوه طريف يكنى أبا صبيح وكان من قواد ميسرة
الخفير القائم بدعوة الصفرية ولما انقرض أمر ميسرة بقي طريف قائما بأمر برغواطة
بتامسنا ويقال إنه تنبأ أيضا وشرع لهم الشرائع ثم هلك وولى مكانه ابنه صالح هذا
وقد كان شهد مع أبيه حروب ميسرة
قال ابن خلدون وكان من أهل العلم والخير ثم انسلخ من آيات الله وانتحل دعوى النبوة
وشرع لهم الديانة التي كانوا عليها من بعده وهي معروفة في كتب المؤرخين
قال في القرطاس كان الضلال الذي شرع لهم أنهم يقرون بنبوته وأنهم يصومون شهر رجب
ويأكلون شهر رمضان وفرض عليهم عشر صلوات خمسا بالليل وخمسا بالنهار وأن الأضحية
واجبة على كل شخص في الحادي والعشرين من المحرم وشرع لهم في الوضوء غسل السرة
والخاصرتين وأمرهم أن لا يغتسلوا من جنابة إلا من حرام وصلاتهم إيماء لا سجود فيها
لكنهم يسجدون في آخر ركعة خمس سجدات ويقولون عند تناول الطعام والشراب باسمك يا
كساي وزعم أن تفسيره بسم الله
____________________
وأمرهم أن يخرجوا العشر من
جميع الثمار وأباح لهم أن يتزوج الرجل من النساء ما شاء ولا يتزوج من بنات عمه
ويطلقون ويراجعون ألف مرة في اليوم فلا تحرم عليهم المرأة بشيء من ذلك وأمرهم بقتل
السارق حيث وجد وزعم أنه لا يطهره من ذنبه إلا السيف وأن الدية تكون من البقر وحرم
عليهم رأس كل حيوان والدجاجة مكروه أكلها وقدوتهم في الأوقات الديكة وحرم عليهم
ذبحها وأكلها ومن ذبح ديكا أو أكله أعتق رقبة وأمرهم أن يلحسوا بصاق ولاتهم على
سبيل التبرك فكان يبصق في أكفهم فيلحسونه ويحملونه إلى مرضاهم يستشفون به ووضع لهم
قرآنا يقرؤونه في صلواتهم ويتلونه في مساجدهم وزعم أنه نزل عليه وأنه وحي من الله
تعالى إليه ومن شك في ذلك فهو كافر والقرآن الذي شرع لهم ثمانون سورة سماها لهم
بأسماء النبيين وغيرهم منها سورة آدم وسورة نوح وسورة فرعون وسورة موسى وسورة
هارون وسورة بني إسرائيل وسورة الأسباط وسورة أيوب وسورة يونس وسورة الجمل وسورة
الديك وسورة الحجل وسورة الجراد وسورة هاروت وماروت وسورة إبليس وسورة الحشر وسورة
غرائب الدنيا وفيها العلم العظيم بزعمهم حرم فيها وحلل وشرع وفصل وتسمى فيهم بصالح
المؤمنين وقال أنا صالح المؤمنين الذي ذكره الله في كتابه الذي أنزله على محمد صلى
الله عليه وسلم كما حكاه البكري عن زمور بن صالح الوافد منهم على الحكم المستنصر
الخليفة بقرطبة من قبل ملكهم يومئذ أبي منصور عيسى بن أبي الأنصار سنة ثنتين
وخمسين وثلاثمائة وكان يترجم عنه بجميع خبره داود بن عمر المسطاسي قال وكان ظهور
صالح هذا في خلافة هشام بن عبد الملك سنة سبع وعشرين ومائة
وقد قيل إن ظهوره كان لأول الهجرة وأنه انتحل ذلك عنادا ومحاكاة لما بلغه من شأن
النبي صلى الله عليه وسلم والأول أصح ثم زعم أنه المهدي الأكبر الذي يخرج
____________________
في آخر الزمان وأن عيسى يكون
صاحبه ويصلي خلفه وأن اسمه في اللسان العربي صالح وفي السرياني مالك وفي العجمي
عالم وفي العبراني روبيل وفي البربري واربا ومعناه الذي ليس بعده نبي
ثم خرج إلى المشرق بعد أن ملكهم سبعا وأربعين سنة ووعدهم أنه يرجع إليهم في دواة
السابع منهم وأوصى بنيه بالتمسك بدينه فتوارثوا ضلاله من بعده إلى أواسط المائة
الخامسة وكان للدول فيهم ملاحم إلى أن جاءت دولة المرابطين فمحوا أثر بدعتهم
وسنعيد القول فيهم بأبسط من هذا عند الوصول إليها إن شاء الله الخبر عن تغلب آل
عقبة بن نافع على المغرب وولاية عبد الرحمن بن حبيب منهم
كان عقبة بن نافع الفهري رضي الله عنه واليا على المغرب كما مر وهو الذي افتتح
الأقصى منه ولما استشهد بالزاب بقي بنوه به فكانت لهم وجاهة معروفة بين أهله لمكان
أبيهم عقبة من جهاد العدو وما فتح الله على يده من الأقطار واختطاطه مدينة
القيروان إلى هي كرسي الإمارة فكان ما منح الله أهل المغرب من الإسلام والدين كله
في صحيفته فنالوا بذلك شرفا خاصا زيادة على شرف القرشية وعز الفهرية فكان يكون لهم
الشفوف في بعض الأحيان حتى على الولاة فضلا عن غيرهم
وقد تقدم لنا في أخبار موسى بن نصير أنه استعمل ابنه عبد العزيز على الأندلس فثار
عليه حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع وقتله بإغراء سليمان بن عبد الملك وتقدم
أيضا ما كان منه إلى كلثوم بن عياض عند قدومه القيروان من التوعد حتى أدى ذلك إلى
مقاتلتهما
ولما قتل حبيب هذا في وقعة كلثوم المتقدمة كان ابنه عبد الرحمن بن حبيب صاحب الترجمة
في جملة أصحاب بلج الناجين إلى سبتة ولما قتل أصحاب بلج عبد الملك بن قطن الفهري
وصلبوه كما مر فارقهم
____________________
عبد الرحمن هذا لما صنعوا بابن
عنه وعزم على الطلب بدمه فاجتمع إليه نحو مائة ألف من عرب الأندلس وبربرها وعمد
إلى بلج فقتله في خبر طويل
ثم حاول عبد الرحمن التغلب على الأندلس فلما قدم أبو الخطار واليا عليها من قبل
حنظلة بن صفوان أيس منها وركب البحر إلى المغرب فاحتل بتونس في جمادى الأولى سنة
ست وعشرين ومائة وقد توفي هشام وولي الخلافة بعده الوليد بن يزيد الفاسق فدعا عبد
الرحمن أهل تونس إلى نفسه فأجابوه وبلغ ذلك حنظلة صاحب القيروان فكره قتال
المسلمين وسفك دمائهم فبعث إليه جماعة من وجوه الجند يدعونه إلى الطاعة فلما وصلوا
إليه انتهز الفرصة وأوثقهم في الحديد وأقبل بهم إلى القيروان فيمن اجتمع إليه
وأرسل إلى أوليائهم يحذرهم قتاله ويقول إن رميتم ولو بحجرة قتلت من في يدي فأحجموا
عنه ضنا بأشرافهم عن القتل وعلم بذلك حنظلة فارتحل إلى المشرق سنة سبع وعشرين
ومائة ودخل عبد الرحمن القيروان فتمكن منها واستولى على المغرب وهو أول متغلب عليه
قالوا ولما ولي مروان بن محمد المعروف بالحمار الخلافة بعث إليه بعهده وكان أمر
البربر يومئذ قد تفاقم وداء الخارجية قد أعضل ورؤوسها قد نبغت في كل جهة فانتقضوا
من أطراف البقاع وتواثبوا على الأمر بكل مكان داعين إلى بدعتهم وتولى كبر ذلك منهم
صنهاجة فإنهم التفوا على كبيرهم ثابت الصنهاجي وتغلبوا على باجة وثارت هوارة
بطرابلس ملتفين على رئيسهم عبد الجبار والحارث وغير هؤلاء وكانوا على مذهب
الإباضية فقتلوا عامل طرابلس بكر بن عيسى القيسي لما خرج يدعوهم إلى السلم وعظم
الخطب فزحف إليهم عبد الرحمن بن حبيب سنة إحدى وثلاثين ومائة فظفر بالصنهاجي
والهواري وقتلهما وقل جموعهما ثم زحف إلى عروة بن الوليد الصفري وكان قد ثار بتونس
فقتله واستأصل الثوار وانقطع أمر الخوارج من
____________________
إفريقية ثم زحف سنة خمس
وثلاثين ومائة إلى جموع من البربر وكانوا قد تجمعوا بنواحي تلمسان فظفر بهم وفل
جمعهم ورجع ثم أغزى جيشا في البحر إلى صقلية وآخر إلى سردانية فأثخنوا في أمم
الفرنج حتى أذعنوا للجزية ودوخ عبد الرحمن أرض المغرب وأذل المعاندين إلى أن كان
ما نذكره
وأما أهل الأندلس فإنهم كانوا قد خلعوا أبا الخطار وولوا عليهم ثوبة بن سلامة
الجذامي قال ابن بشكوال لما اتفقوا عليه خاطبوا بذلك عبد الرحمن بن حبيب فكتب إليه
بعهده وذلك سلخ رجب سنة سبع وعشرين ومائة فضبط البلاد واستمر واليا سنتين أو
نحوهما ثم هلك وولى أهل الأندلس عليهم يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب وهو ابن صاحب
الترجمة ذكر الرازي أن مولده كان بالقيروان وأنه لما استولى أبوه على المغرب خرج
يوسف هذا مغاضبا له لأمر اقتضى ذلك فقدم الأندلس واستوطنها وساد بها فأقامه أهلها
واليا عليهم بعد أميرهم ثوابة وقد مكثوا فوضى أربعة أشهر وكان اجتماعهم عليه
بإشارة الصميل بن حاتم الكلابي فاستبد يوسف بالأندلس وضبطها إلى أن دخل عليه عبد
الرحمن بن معاوية الأموي المعروف بالداخل فانتزعها منه وأورثها بنيه كما سيأتي دخول
عبد الرحمن الأموي إلى إفريقية وجوازه إلى الأندلس وتأسيسه للدولة الأموية بها
ولما استقر قدم الدولة العباسية بالمشرق وانقرض أمر بني أمية سنة اثنتين وثلاثين
ومائة وذهبوا في كل وجه أفلت عبد الرحمن بن معاوية هذا وقصد
____________________
المغرب فاجتاز بالقيروان وبها
عبد الرحمن بن حبيب صاحب الترجمة فارتاب به وعزم على قتله فنجا الأموي إلى الأندلس
وكان من أمره ما كان
ذكر ابن حيان أن عبد الرحمن بن معاوية الأموي سار حتى أتى إفريقية فنزلها وقد سبقه
إليها جماعة من فل بني أمية وكان عند صاحبها عبد الرحمن بن حبيب يهودي حدثاني قد
صحب مسلمة بن عبد الملك فكان يتكهن له ويخبره بتغلب القرشي وملكه الأندلس ويرثها
عقبه من بعده وأن اسمه عبد الرحمن وهو ذو ضفيرتين ومن بيت الملك فاتخذ الفهري
ضفيرتين أرسلهما رجاء أن تناله الرواية فلما جيء إليه بعبد الرحمن الأموي ورأى
ضفيرتيه قال لليهودي هو هذا وأنا قاتله فقال له اليهودي إن قتلته فما هو به وإن
غلبت عليه فإنه لهو
وثقل فل بني أمية على ابن حبيب فطرد كثيرا منهم خوفا على ملكه ثم تجنى على ابنين
للوليد بن يزيد كان قد استجار به فقتلهما وأخذ مالا كان مع إسماعيل بن أبان بن عبد
العزيز بن مروان وغلبه على أخته فتزوجها غصبا وطلب عبد الرحمن الداخل فاختفى كذا
لابن حيان
وعند ابن خلدون أن الأخت المذكورة زوجها عبد الرحمن من أخيه إلياس بن حبيب ولما
قتل ابني عمها امتعضت لذلك وأغرت زوجها واستفسدته على أخيه حتى قتله كما نذكر وذلك
أنه لما انتظم أمر الدولة العباسية بالمشرق وبويع السفاح ثم المنصور بعده كتب إلى
عبد الرحمن بن حبيب يدعوه إلى الطاعة والبيعة فأجابه ودعا له وبعث إليه بهدية فيها
بزاة وكلاب وذهب قليل وذكر أن إفريقية اليوم إسلامية وقد انقطع السبي فغضب المنصور
وكتب إليه يتوعده وبعث إليه مع ذلك بخلعه الإمارة فنزع عبد الرحمن يده من الطاعة
ومزق الخلعة على المنبر فوجد أخوه إلياس بذلك السبيل إلى ما كان يحاوله عليه وداخل
وجوه الجند في الفتك به وإعادة الدعوة للخليفة المنصور ومالأه على ذلك أخوه عبد
الوارث بن حبيب وأحس عبد الرحمن منهما بالشر فأمر إلياس بالمسير إلى تونس
____________________
فأظهر الامتثال ثم جاء ليودعه
ومعه عبد الوارث وكان عبد الرحمن مريضا فدخلا عليه وقتله على فراشه آخر سنة سبع
وثلاثين ومائة لعشر سنين وسبعة أشهر من تغلبه على المغرب استيلاء إلياس بن حبيب
على المغرب
لما فتك إلياس بأخيه عبد الرحمن معتدا عليه بخلعه طاعة الخليفة فر ابنه حبيب بن
عبد الرحمن إلى تونس بعد أن طلبوه وضبطوا أبواب القصر ليأخذوه فلم يظفروا به وكان
عمه عمران بن حبيب واليا بتونس من قبل أبيه فلحق به وتم الأمر لإلياس واستولى على
القيروان ثم زحف إليه عمران وحبيب فيمن اجتمع إليهما وخرج إلياس للقائهم فالتقوا
واقتتلوا مليا ثم اصطلحوا على أن يكون لحبيب قفصة وقسطيلة وسائر بلاد الجريد
ولعمران تونس وسطفورة والجزيرة ولإلياس القيروان وسائر إفريقية والمغرب وتم هذا
الصلح سنة ثمان وثلاثين ومائة وسار حبيب إلى عمله من بلاد الجريد وارتحل إلياس مع
أخيه عمران إلى تونس ولما وصلا إليها غدر إلياس بعمران فقتله وقتل جماعة من
الأشراف معه وقيل غربه إلى الأندلس وعاد هو إلى القيروان فبعث بطاعته إلى أبي جعفر
المنصور مع قاضي إفريقية عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وصفا له أمر المغرب وثقل عليه
مكان حبيب فاحتال عليه حتى أركبه البحر إلى الأندلس وأركب معه أخاه عبد الوارث
فردهم قاصف من الريح إلى طبرقة وكتبوا بخبرهم إلى إلياس
____________________
فلج في طردهم
وتسامعت موالي عبد الرحمن وشيعته بابن مولاهم فتسارعوا إليه وأنزلوه من السفين
والتفوا عليه وزحفوا به إلى تونس فملكوها وخرج إلياس لقتالهم فخالفوه إلى القيروان
وملكوها عليه وفتقوا السجون فرجع إلياس لقتالهم وقد فر أكثر من معه إلى حبيب ولما
تراءى الجمعان حول القيروان برز حبيب فنادى يا عم لم نقتل أولياءنا وضائعنا وهم
جنتنا فهلم للبراز فأينا غلب ملك فصاح الجيشان بتصويب رأيه فبرزا وتضاربا حتى عجب
الناس من صبرهما ثم قتل حبيب إلياس ودخل القيروان فملكها آخر سنة ثمان وثلاثين
ومائة فكانت ولاية إلياس نحو سنة ونصف
وفي هذه السنة استولى عبد الرحمن بن معاوية الأموي على جزيرة الأندلس انتزعها من
يد أميرها يوسف بن عبد الرحمن الفهري وهو أخو حبيب المذكور آنفا
قال ابن حيان كان تغلب عبد الرحمن بن معاوية المرواني على سرير الملك بقرطبة يوم
الأضحى لعشر خلون من ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين ومائة واستقام أمره بالأندلس وبنى
المسجد الجامع والقصر بقرطبة وأنفق فيه ثمانين ألف دينار ومات قبل تمامه ووفد عليه
جماعة من أهل بيته من المشرق وكان يدعو للمنصور العباسي ثم قطع دعوته ومهد الدولة
بالأندلس وأثل بها الملك العظيم لبني مروان وخرجت الأندلس من يومئذ عن نظر صاحب
القيروان بل وعن نظر الخليفة بالمشرق والله غالب على أمره
____________________
استيلاء حبيب بن عبد الرحمن
على المغرب وفتنة عاصم بن جميل المتنبئ ومقتله لما قتل حبيب بن عبد الرحمن عمه
إلياس وتمكن من القيروان طلب عمه عبد الوارث لمشاركته في دم أبيه كما مر ففر عبد
الوارث إلى ورفجومة إحدى بطون نفزاو بن لوي من البرابرة البتر فنزل على كبيرهم
عاصم بن جميل وكان كاهنا يدعي النبوة فأجاره ثم نهض إليهم حبيب فأوقعوا به وهزموه
إلى قابس
واستفحل أمر عاصم وشايعه على شأنه من رجالات نفزاوة عبد الملك بن أبي الجعد
الورفجومي ويزيد بن سكوم الولهاصي وكانا على رأي الإباضية وانضمت إليهم سائر
نفزاوة واشتدت شوكتهم وكان قيامهم أولا بدعوة الخليفة المنصور
ولما بقي أهل القيروان فوضى بسبب فرار أميرهم إلى قابس كتب من بها من العرب إلى
عاصم هذا يدعونه للقدوم عليهم والقيام بأمرهم بشرط الدعاء للمنصور فأتى وقاتلهم
فهزمهم ودخل القيروان عنوة واستباح أهلها وخرب مساجدها وأهانها ثم سار إلى حبيب
بقابس بعد أن استخلف على القيروان ومن بقي بها من نفزاوة عبد الملك ابن أبي الجعد
فقاتل حبيبا وهزمه فلحق حبيب بجبل أورابن وأجاره أهله ثم زحف إليهم عاصم فهزموه
وقتلوه واستلحموا جماعة من أصحابه وقام بأمر ورفجومة والقيروان من بعده عبد الملك بن
أبي الجعد وأهل القيروان أثناء هذا كله في غاية المذلة والهوان مع البربر ثم زحف
حبيب إلى القيروان فبرز إليه عبد الملك وهزم حبيبا وقتله في المحرم سنة أربعين
ومائة فكانت ولايته نحو ثلاث سنين وانقرض بمقتله أمر آل عقبة من المغرب والبقاء
لله وحده
____________________
استيلاء عبد الملك بن أبي
الجعد على المغرب
لما قتل عبد الملك بن أبي الجعد الورنجومي حبيب بن عبد الرحمن الفهري رجع في جموع
البربر إلى القيروان فملكها وأمر أمر ورفجومة واستطالوا على أهل القيروان وقتلوا
من بها من قريش وسائر العرب حيث وجدوا وعاملوهم معاملة المكناسيين لآل إدريس
واستحلوا من الحرمات ما لم يستحله عاصم بن جميل قبلهم حتى لقد ربطوا دوابهم
بالمسجد الجامع واشتد البلاء على أهل القيروان وافترقوا في النواحي فرارا بأنفسهم
وشاع خبرهم في الآفاق فحينئذ قام أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح الغافري من رجالات
العرب وكان على رأي الإباضية بأحواز طرابلس منكرا لفعل ورفجومة ومغيرا عليهم حسبما
نذكر استيلاء عبد الأعلى بن السمح على المغرب وظهور الصفرية من آل مدرار
المكناسيين وبناؤهم مدينة سجلماسة
كان أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري من وجوه العرب وكان على رأي الإباضية
كما قنلا ولما بلغه ما ارتكبته ورفجومة من أهل القيروان امتعض لذلك وقام محتسبا
عليهم وشايعه على ذلك برابرة طرابلس
وتولى كبر ذلك هوارة منهم وهوارة إحدى بطون أوريغة من البرانس فاجتمعوا إليه وتقدم
بهم إلى طرابلس فملكها ثم زحف إلى القيروان سنة إحدى وأربعين ومائة فخرج إليه عبد
الملك بن أبي الجعد في جموعة فانخزل عنه أهل القيروان لما نالهم من عسفه وعسف قومه
فانهزم وقتل
واستولى أبو الخطاب على القيروان وأثخن في جموع عبد الملك من
____________________
ورفجومة وسائر نفزاوة ثم ولى
على القيروان عبد الرحمن بن رستم الفارسي وهو من أبناء رستم أمير الفرس يوم
القادسية كان عبد الرحمن هذا من موالي العرب ومن رؤوس هذه البدعة فاستخلفه أبو
الخطاب على القيروان ورجع هو إلى طرابلس للقاء العساكر القادمة من جهة الخليفة
المنصور على ما نذكره
ولما حصل هذا الاضطراب بالمغرب اجتمعت الصفرية من مكناسة بناحية المغرب الأقصى
فنقضوا طاعة العرب وولوا عليهم عيسى بن يزيد الأسود من موالي العرب ورؤوس الخوارج
واختطوا مدينة سجلماسة سنة أربعين ومائة من الهجرة ودخل سائر مكناسة من أهل تلك
الناحية فيدينهم واقتطعوا سجلماسة وأعمالها عن نظر الولاة بالقيروان
ومن هذا الاجتماع نشأت دولة بني مدرار ملوك سجلماسة فإن صفرية مكناسة لما بايعوا
عيسى بن يزيد أقام أميرا عليهم نحو خمس عشرة سنة ثم سخطوا إمرته ونقموا عليه بعض
أحواله فعمدوا إليه وأوثقوه كتافا ووضعوه على قنة حبل إلى أن هلك سنة خمس وخمسين
ومائة واجتمعوا بعده على كبيرهم أبي القاسم بن سمكو بن واسول المكناسي الصفري كان
أبوه سمكو من حملة العلم ارتحل إلى المدينة فأدرك التابعين وأخذ عن عكرمة مولى ابن
عباس قاله عريب بن حميد القرطبي في تاريخه وكان عكرمة بربري الأصل كما عند ابن
خلكان قال وقد تكلم الناس فيه لأنه
____________________
كان يرى رأي الخوارج وكان أبو
القاسم المذكور صاحب ماسية وهو الذي بايع لعيسى بن يزيد وحمل قومه على طاعته فلما
خلعوا عيسى بايعوا أبا القاسم من بعده وقام بأمرهم إلى أن هلك سنة سبع وستين ومائة
وكان يخطب في عمله للمنصور ثم للمهدي من بني العباس ولما هلك ولوا عليهم ابنه
إلياس بن أبي القاسم وكان يدعى بالوزير ثم انتفضوا عليه سنة أربع وسبعين ومائة
فخلعوه وولوا مكانه أخاه اليسع بن أبي القاسم وكنيته أبو منصور وكان صفريا وعلى
عهده استفحل ملكهم بسجلماسة وهو الذي أدار سورها وأتم بناءها واختط بها المصانع والقصور
وانتقل إليها آخر المائة الثانية وهلك سنة ثمان ومائتين وولى بعده ابنه مدرار
ولقبه المنتصر وطالت مدته وكان له ولدان كل منهما اسمه ميمون أحدهما لأروى بنت عبد
الرحمن بن رستم صاحب تاهرت والآخر لبغي وكان يعرف بالأمير فتنازعا وتداولا الأمر
بينهما استبدادا على أبيهما ودامت الحرب بينهما ثلاث سنين وهلك أبوهما مدرار سنة
ثلاث وخمسين ومائتين في نوبة ميمون الأمير واستمر ميمون هذا في استبداده إلى أن
هلك سنة ثلاث وستين ومائتين وولي ابنه محمد بن ميمون وكان إباضيا وتوفي سنة سبعين
ومائتين فولي اليسع بن المنتصر
وفي أيامه قدم عبيد الله المهدي أول خلفاء العبديين من الشيعة وابنه أبو القاسم من
المشرق فدخلا سجلماسة متنكرين وكان الخليفة المعتضد بالله العباسي قد أوعز إلى
اليسع هذا بالقبض عليهما فنقب عنهما وقبض عليهما وأودعهما السجن إلى أن افتكهما
مقيم دولتهما أبو عبد الله الشيعي المعروف بالمحتسب فإنه اقتحم سجلماسة في خبر
معروف وأخرج عبيد الله وابنه من السجن وقتل اليسع سنة ست وسبعين ومائتين
____________________
ثم بايع أهل سجلماسة من بعده الفتح بن ميمون الأمير وكان أباضيا وهلك على رأس
المائة الرابعة فولي أخوه أحمد بن ميمون الأمير واستقام أمره إلى أن زحف مصالة بن
حبوس الكتامي قائد الشيعة العبديين في جموع كتامة إلى المغرب الأقصى سنة تسع
وثلاثمائة فدوخه وأخذ أهله بدعوة صاحبه عبيد الله المهدي وافتتح سجلماسة وتقبض على
صاحبها أحمد بن ميمون الأمير ثم ولى عليها من قبله محمد بن بسادر بن مدرار فلم
يلبث أن استبد على الشيعة وتلقب بالمعتز وهلك سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وولي ابنه
المنتصر محمد بن المعتز فمكث عشرا وهلك وولي ابنه المنتصر سمكو شهرين وكانت جدته
تدبر أمره لصغره
ثم ثار عليه ابن عمه محمد بن الفتح بن ميمون الأمير ورفض الخارجية ونادى بالدعوة
العباسية وأخذ بمذهب أهل السنة وتلقب بالشاكر لله واتخذ السكة باسمه فكانت تسمى
بالدراهم الشاكرية
قال ابن حزم وكان في غاية العدل وكانت سكته في غاية الطيب واستمر إلى أن زحف جوهر
الكاتب قائد المعز العبيدي في جموع صنهاجة وكتامة إلى المغرب الأقصى سنة سبع
وأربعين وثلاثمائة فغلب على سجلماسة وفر عنها محمد بن الفتح إلى حصن تسكرات على
أميال منها ثم دخل سجلماسة متنكرا فعرفه رجل من مضغرة وأعلم به جوهرا فتقبض عليه
وساقه أسيرا مع أحمد بن أبي بكر الزناتي صاحب فاس إلى المهدية كما نذكره
ثم لما انتقض المغرب على الشيعة وأخذ زناته بطاعة الحكم المستنصر صاحب الأندلس ثار
بسجلماسة قائم من ولد الشاكر لله وتلقب بالمنتصر
____________________
بالله ثم وثب عليه أخوه أبو
محمد سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة فقتله وقام بالأمر مكانه وتلقب بالمعتز بالله
وأقام على ذلك مدة وأمر مكناسة يومئذ قد تداعى إلى الانحلال وأمر زناتة قد استفحل
بالمغرب إلى أن زحف خزرون بن فلول الزناتي ثم المغرواي إلى سجلماسة سنة ست وستين
وثلاثمائة فبرز إليه ابو محمد المعتز فهزم خزرون وقتله واستولى على بلده وذخيرته
وبعث برأسه إلى قرطبة وكان ذلك لأول حجابة المنصور بن أبي عامر المستبد على بني
أمية بالأندلس وانقرض أمر بني مدرار والبقاء لله
وقد لخصنا هذه الدولة المدرارية من كتاب العبر وسردناها هنا استطرادا ثم نعود إلى
موضوعنا الذي كنا فيه وبالله التوفيق ولاية محمد بن الأشعث على المغرب
لما ارتكبت ورفجومة من أهل القيروان ما ارتكبته وفد جماعة من رجالات العرب بها على
الخليفة المنصور واستصرخوه على الخوارج وشكوا إليه تسلقهم على كرسي الإمارة
بالقيروان فوجه المنصور محمد بن الأشعث الخزاعي واليا على مصر وأمره باستنقاذ
إفريقية من البربر فوجه محمد بن الأشعث أبا الأحوص عمرو بن الأحوص العجلي سنة
اثنتين واربعين ومائة فخرج إليه أبو الخطاب المعافري وهزمه بسرت قريبا من طرابلس
واستولى على عسكره
ورجع أبو الأحوص مفلولا إلى مصر فكتب المنصور إلى ابن الأشعث
____________________
يأمره بالمسير إلى المغرب
بنفسه فسار إليه في أربعين ألفا ومعه الأغلب بن سالم التميمي فلقيهم أبو الخطاب
بسرت أيضا فأوقع به ابن الأشعث وقتله واستلحم جموعه
وطار الخبر بذلك إلى عبد الرحمن بن رستم بمكانه من القيروان فاحتمل أهله وولده
ولحق بإباضية المغرب الأوسط ونزل على لماية بطن من بني فاتن بن تامصيت بن ضرى من
البتر لحلف كان بينه وبينهم فالتفوا عليه وبايعوا له بالخلافة وتفاوضوا في بناء
مدينة تكون كرسيا لإمارتهم شأن الصفرية من بني مدرار فشرعوا في بناء مدينة تاهرت
سنة أربع وأربعين ومائة فعمرت واتسعت خطتها وتوارثها بنو رستم واقتطعوها عن نظر
ولاة المغرب
وكان يسلم عليهم بالخلافة على ما هو المعروف منذهب الخوارج إلى أن انقرضت دولتهم
على يد العبيديين أواخر المائة الثالثة
وأما ابن الأشعث فإنه استقر بالقيروان غرة جمادى الأولى سنة أربع وأربعين ومائة
وشرع في بناء سورها في ذي القعدة من السنة وتم في رجب سنة ست وأربعين ومائة وضبط
المغرب أحسن ضبط وافتتح طرابلس واستعمل عليها المخارق بن غفار الطائي وعلى طبنة
والزاب الأغلب بن سالم وخافه البربر
ثم ثار عليه عيسى بن موسى بن عجلان الخراساني أحد الجند في جماعة من قواد مضر
ونفوه عن القيروان فقفل إلى المشرق ربيع الأول سنة ثمان وأربعين ومائة فكانت
ولايته نحو أربع سنين
____________________
ولاية الأغلب بن سالم التميمي
على المغرب
لما قفل ابن الأشعث إلى المشرق ولى جند مضر عليهم عيسى بن موسى الخراساني واتصل
بالمنصور ما فعله قواد مضر من ذلك فبعث إلى الأغلب بن سالم التميمي ثم السعدي
بعهده على المغرب والأغلب هذا هو جد الأغالبة ملوك أفريقية من بعده على المغرب
وكان من ذوي الشجاعة والرأي ومن صحاب أبي مسلم بخراسان فدخل المغرب مع ابن الأشعث
واستعمله على طبنة كما مر فلما وافاه عهد الخليفة أواخر جمادى الآخرة سنة ثمان
وأربعين ومائة انتقل إلى القيروان وأمنها واستقام أمره
ثم خرج عليه أبو قرة ين دوناس اليفرني ويقال المغيلي من الصفرية والتفت عليه زناتة
بجهة تلمسان وبايعوا له بالخلافة واستفحل أمره فزحف إليه الأغلب فلما دنا منه فر
أبو قرة إلى المغرب الأقصى فلم يقف إلا بطنجة وانتهى الأغلب إلى الزاب ثم عاد إلى
القيروان فعاد أبو قرة إلى وطنه من تلمسان
وفي سنة خمسين ومائة خرج الأغلب لقتال الصفرية فتثاقل عنه طائفة من الجند ولما
أوغل في طلب الصفرية ثار عليه الحسن بن حرب الكندي وكان بتونس ولحق به المتثاقلون
من الجند وكان تثاقلهم عن الأغلب بمكاتبة الحسن إياهم في ذلك فأقبل بهم إلى القيروان
واستولى عليها ولحق الأغلب بقابس وكاتب الحسن يرغبه في الطاعة فلم يقبل ثم وافى
كتاب المنصور يدعو الحسن إلى الطاعة فأبى فصمد إليه الأغلب واقتتلا فانهزم الحسن
وفر إلى تونس وجمع الجموع ورجع فخرج إليه الأغلب فاصابه سهم فقتله فقدم أصحابه
عليهم المخارق بن غفار الطائي الذي كان على طرابلس وحملوا على الحسن فانهزم أمامهم
إلى تونس ثم لحق بكتامة وخيل المخارق في اتباعه ثم رجع إلى تونس بعد شهرين فقتله
الجند
____________________
وقيل إن أصحاب الأغلب قتلوه في الوقت الذي قتل فيه الأغلب وكان مقتل الأغلب في
شعبان سنة خمسين ومائة
وقام بأمر إفريقية المخارق بن غفار إلى أن كان ما نذكره ولاية عمر بن حفص هزارمرد
على المغرب
لما بلغ الخليفة المنصور مقتل الأغلب بن سالم وجه مكانه عمر بن حفص من ولد قبيصة
بن أبي صفرة أخي المهلب بن أبي صفرة فقدم القيروان في خمسمائة فارس سنة إحدى وخمسين
ومائة فاستقامت أموره ثلاث سنين ثم خرج إلى طبنة لإدارة السور عليها واستخلف على
القيروان حبيب بن حبيب المهلبي فثار البربر بإفريقية لما علموا من بعد الحامية
عنها وغلبوا على من كان بها وزحفوا إلى القيروان فخرج إليهم حبيب فهزموه وقتلوه
وثار البربر الإباضية بطرابلس وولوا عليهم أبا حاتم يعقوب بن لبيب المغيلي مولى
كندة
وتسامعت به خوارج المغرب فانقضوا من كل ناحية ونبغت رؤوس الفتنة من كل وجه وعادت
هيف إلى أديانها وكانت هذه الفتنة هي زبدة الفتن التي مخضتها الخوارج بالمغرب من
لدن ميسرة الخفير إلى الآن فإنهم زحفوا إلى عمر بن حفص وهو بطبنة من أرض الزاب في
اثني عشر عسكرا فكان منهم أبو قرة اليفرني من أربعين ألفا من الصفرية وعبد الرحمن
بن رستم صاحب تاهرت في خمسة عشر ألفا من الإباضية والمسور بن هانئ الزناتي في عشرة
آلاف من الإباضية أيضا وعبد الملك بن سكرديد الصنهاجي في الفين من صنهاجة الصفرية
وجرير بن مسعود المديوني فيمن تبعه من مديونة وانضم إليهم غير هؤلاء من خوارج
هوارة وزناتة ممن لا يحصى كثرة
ولما اشتد الحصار على عمر بن حفص أعمل الحيلة في إيقاع الخلاف
____________________
بينهم ودافعهم بالأموال وأرسل
إلى أبي قرة على يد ابنه أبي نور أن يعطيه أربعين ألفا ولابنه أربعة آلاف على أن
يرتحل عنه فقبل وارتحل بقومه وانفض البربر عن طبنه
ثم سار أبو حاتم يعقوب بن لبيب إلى القيروان وحاصرها ثمانية أشهر حتى أكل أهلها
الميتة ولما اشتد الحصار على أهل القيروان خرج عمر بن حفص من طبنة يريد أبا حاتم
الإباضية الذين معه وبلغ أبا حاتم وأصحابه وهم محاصرون للقيروان مسير عمر بن حفص
إليهم فساروا للقائه فمال هو من الأربس إلى تونس ثم جاء إلى القيروان فدخلها
واستعد للحصار وشحنها بالأقوات والرجال وأتبعه أبو حاتم والبربر وأبو قرة معهم في
قومه وكانوا في ثلاثمائة وخمسين ألفا الخيل منهم خمسة وثمانون ألفا والباقي رجالة
وأحاطوا بالقيروان وعمر بن حفص داخلها وطال الحصار ثم بلغه الخبر أن المنصور وجه
لاستنقاذه ابن عمه يزيد بن حاتم المهلبي فأنف من ذلك وقال لا خير في الحياة بعد أن
يقال يزيد أخرجه من الحصار إنما هي رقدة ثم ابعث إلى الحساب وخرج عمر فقاتل حتى
قتل أواسط حجة سنة أربع وخمسين ومائة
وكان عمر هذا بطلا سمحا يلقب هزارمرد وهو لفظ فارسي معناه ألف رجل
ثم ولى الناس عليهم أخاه لأمه حميد بن صخر وانقضى الحصار وأحرق أبو حاتم أبواب
القيروان وثلم سورها وخرج أكثر الجند إلى طبنة ودخل أبو حاتم القيروان فاستولى
عليها ويقال إن ابن صخر وادعه على ما أحب والله تعالى أعلم
____________________
ولاية يزيد بن حاتم على المغرب
لما بلغ المنصور انتقاض إفريقية على عمر بن حفص وحصاره بطبنة أولا ثم بالقيروان
ثانيا بعث إليه يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة في ستين ألفا وبلغ
خبره عمر بن حفص فحمله ذلك على الاستماتة كما تقدم
وبلغ أبا حاتم وهو بالقيروان مسير يزيد بن حاتم إليه فخرج للقائه فلقيه يزيد بن
حاتم بنواحي طرابلس واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم البربر وقتل أبو حاتم في ثلاثين
ألفا من أصحابه وتتبعهم يزيد بالقتل طلبا بدم عمر بن حفص
ثم ارتحل إلى القيروان فدخلها يوم الاثنين لعشر مضت من جمادى الأولى سنة خمس
وخمسين ومائة فمهدها ورتب أسواقها وأفرد لكل صناعة مكانا وجدد بناء جامعها وضبط
الأمور أحسن ضبط
وكان عبد الرحمن بن حبيب بن عبد الرحمن الفهري مع أبي حاتم فلحق بكتامة فبعث يزيد
في طلبه المخارق بن غفار فحاصره ثمانية أشهر ثم غلب عليه فقتل جماعة ممن معه وهرب
الباقون في كل ناحية ونجا هو إلى الأندلس
وبعث يزيد المخارق أيضا على الزاب فنزل طبنة وأثخن في البربر وأوقع بهم وقائع
عظيمة
وكانت حروب الخوارج مع العرب منذ انتفضوا على عمر بن حفص إلى انقضائها ثلاثمائة
وخمسا وسبعين حربا قاله ابن خلدون
ثم انتقضت ورفجومة سنة سبع وخمسين وولوا عليهم رجلا اسمه أبو زرجونة فسرح إليهم
يزيد بن حاتم من عشيرته يزيد بن مجزأة المهلبي فهزموه واستأذنه ابنه المهلب وكان على
الزاب وطبنة في الزحف إلى
____________________
ورفجومة فأذن له وأمده بالعلاء
بن سعيد بن مروان المهلبي من عشيرتهم أيضا فأوقع بهم وقتلهم أبرح قتل
وانتقضت نفزاوة من بعد ذلك في سلطنة ابنه داود بن يزيد فاستأصلهم قتلا أيضا فركدت
ريح الخوارج من البربر وتداعت بدعتهم إلى الاضمحلال
قال ابن خلدون لم يزل أمر الخوارج بالمغرب يعني أيام يزيد هذا في تناقض إلى أن
اضمحلت ديانتهم وافترقت جماعتهم وبقيت آثار نحلتهم في أعقاب البربر الذين دانوا
بها في صدر الإسلام ففي بلاد زناتة بالصحراء منها أثر باق لهذا العهد وكذلك في
جبال طرابلس أثر باق من تلك النحلة والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء واستمر يزيد
بن حاتم ضابطا لأمر إفريقية والمغرب إلى أن توفي بها يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة
ليلة بقيت من شهر رمضان سنة سبعين ومائة في خلافة هارون الرشيد العباسي فكانت
ولايته خمس عشرة سنة وثلاثة أشهر وولى الناس عليهم ابنه داود إلى أن كان ما نذكره
وكان يزيد رحمه الله من السمحاء الأمجاد والفضلاء الأنجاد وكل بني المهلب كذلك
وبهم ضرب المثل أبو محمد الحريري في المقامات إذ قال وصار الأدب أعلق بي من الهوى
ببني عذرة والشجاعة بآل أبي صفرة وقال الشاعر الحماسي
( نزلت على آل المهلب شاتيا ** بعيدا عن الأوطان في الزمن المحل )
( فما زال بي معروفهم وافتقادهم ** وبرهم حتى حسبتهم أهلي )
فأما يزيد هذا من بينهم فحاله في الشجاعة وجودة الرأي كما رأيت وأما الجود والسخاء
فهو فيهما المثل السائر كان ربيع بن ثابت الرقي الشاعر مدح يزيد بن أسيد بالتصغير
السلمي وهو وال على أرمينية فقصر في حقه ثم مدح يزيد بن حاتم فبالغ في الإحسان
إليه فقال ربيعة من قصيدة
( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ** يزيد سليم والأغر بن حاتم )
( يزيد سليم سالم المال والفتى ** فتى الأزد للأموال غير مسالم )
____________________
( فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله ** وهم الفتى القيسي جمع الدراهم ) ولاية روح بن
حاتم على المغرب
ولما بلغ الرشيد وفاة يزيد بن حاتم وكان أخوه روح واليا على فلسطين وكان أسن من
يزيد استقدمه وعزاه في أخيه وولاه على المغرب فقدم القيروان منتصف سنة إحدى وسبعين
ومائة وكان يزيد قبلة قد أذل الخوارج ومهد البلاد كما قلنا فكانت أرض المغرب ساكنة
ايام روح ورغب في موادعته عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم صاحب تاهرت فوادعه
قال ابن خلدون وفي أيام روح انخضذت شوكة البربر واستكانوا للغلب وطاعوا للدين فضرب
الإسلام بجرانه وألقت الدولة المضرية على البربر بكلكلها اه كلام ابن خلدون
وفي أيام روح أيضا اجتاز الإمام إدريس بن عبد الله ببلاد مصر وإفريقية ناجيا من
وقعة فخ التي كانت بمكة لآل العباس على آل علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ودخل
مدينة وليلى من المغرب الأقصى سنة اثنتين وسبعين ومائة كما سيأتي إن شاء الله
قال ابن خلكان كان روح بن حاتم من الكرماء الأجواد ولي لخمسة من الخلفاء السفاح
والمنصور والمهدي والهادي والرشيد ويقال إنه لم يتفق مثل هذا إلا لأبي موسى
الأشعري رضي الله عنه فإنه ولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللخلفاء الأربعة
رضي الله عنهم قال وكان روح واليا على السند ولاه عليها المهدي بن المنصور فلما
مات أخوه يزيد بالقيروان ودفن بباب سلم قال أهل إفريقية ما أبعد ما يكون بين قبري
هذين الأخوين فإن أخاه بالسند وهذا
____________________
هنا فاتفق أن الرشيد عزل روحا
عن السند وسيره إلى موضع أخيه يزيد فدخل إفريقية أول رجب سنة إحدى وسبعين ومائة
ولم يزل واليا بها إلى أن توفي بها لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان سنة أربع وسبعين
ومائة ودفن مع أخيه يزيد في قبر واحد فعجب الناس من هذا الاتفاق بعد ذلك التباعد
رحمهما الله
ثم ولي المغرب من قبل الرشيد حبيب بن نصر المهلبي ثم عزله سنة سبع وسبعين ومائة
وولي على المغرب الفضل روح بن حاتم وقتله عبد الله بن الجارود منتصف سنة ثمان
وسبعين ومائة وانقرضت بانقراضه دولة آل المهلب من المغرب
ثم ولى الرشيد على المغرب هرثمة بن أعين فبنى القصر الكبير بالمنستير وبنى السور
على طرابلس من جهة البحر ولما رأى هرثمة ما بالمغرب من كثرة الثوار والخلاف استعفى
الرشيد من ولايتها فأعفاه لسنتين ونصف من ولايته
ثم ولى الرشيد على إفريقية محمد بن مقاتل العكي وكان رضيعا له فاضطربت عليه
إفريقية وبلغ الرشيد ذلك
وطلب أهل إفريقية من إبراهيم بن الأغلب وكان من عمال محمد بن مقاتل أن يكتب إلى
الرشيد في الولاية عليهم فكتب إلى الرشيد في ذلك على أن يترك المائة ألف دينار
التي كانت تحمل من مصر إلى إفريقية إعانة
____________________
للولاة بها وعلى أن يحمل هو من
إفريقية إلى الخليفة أربعين ألفا وبلغ الرشيد غناؤه وكفايته فاستشار فيه أصحابه
فأشار هرثمة بن أعين بولايته فكتب له بالعهد على إفريقية منتصف أربع وثمانين ومائة
فقام إبراهيم بالأمر وضبط البلاد فسكنت واستراحت من الفتن وابتنى مدينة العباسية
قرب القيروان وانتقل إليها بجملته وأورث بإفريقية ملكا لبنيه من بعده
وفي هذه المدة انقسم المغرب إلى ثلاث ممالك فكان بنو الأغلب بإفريقية والقيروان
وبنو خزر المغراويون بالمغرب الأوسط وتلمسان وبنو إدريس بالمغرب الأقصى
وقبل أن نفرد الكلام عليه نذكر فصلا نشير فيه إلى مذاهب أهل المغرب ونحلهم على
الجملة والله الموفق القول في مذاهب أهل المغرب أصولا وفروعا وما يتبع ذلك
قد تقدم لنا ما قاله الشيخ ابن أبي زيد رحمه الله من أن البربر ارتدوا اثنتي عشرة
مرة وأنه لم تستقر كلمة الإسلام فيهم إلا لعهد موسى بن نصير وبعد فتحه الأندلس ثم
كمل إسلامهم على يد إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر وتقدم أن عمر بن عبد
العزيز رضي الله عنه أرسل عشرة من التابعين يفقهون أهل المغرب في دينهم فكان
المغاربة في صدر الإسلام لذلك على مذهب جمهور السلف من الأمة واعتقادهم وهو المذهب
الحق إلى أن حدثت فيهم بدعة الخارجية لأول المائة الثانية من الهجرة نزع إليهم بها
بعض أهل النفاق من خوارج العراق وبثوها فيهم فتلقوها منهم بالقبول وحسن موقعها
لديهم بسبب ما كانوا يعانونه من ثقل وطأة الخلافة القريشية وجور بعض عمالها حسبما
تقدمت الإشارة إليه فلقنهم أهل البدع أن الخلافة لا تشترط فيها القريشية بل ولا العربية
وأن كل من كان أتقى لله كان أحق بها ولو عبدا حبشيا على ظاهر الحديث ودسوا إليهم
مع ذلك بعض
____________________
تشديدات الخوارج وتعمقاتهم
وأروهم ما هم عليه من التصلب في دينهم فظهر للبربر ببادئ الرأي أن تعمقهم ذلك إنما
هو أثر من آثار الخشية لله والخوف منه وأن ذلك هو عين التقوى المأمور بها شرعا
وغاب عنهم أن الدين يسر كما قال صلى الله عليه وسلم وأن ملة الإسلام عرفت من بين
الملل بالحنيفية السمحة لذلك والله تعالى يقول { وما جعل عليكم في الدين من حرج }
ومن أمعن نظره في نصوص الشريعة من الكتاب والسنة علم يقينا أن طريق النجاة إنما هي
سلوك الوسط وإن كلا من التعمق والانحلال ضلال وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى { وأن
هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } الآية وقد قرر
جمع من الأئمة المقتدى بهم كالغزالي في الإحياء وغيره أن المحمود في أمور الديانات
كلها إنما هو سلوك الوسط بين الإفراط والتفريط وبه يتم مراد الله من خلقه وكلا
طرفي قصد الأمور ذميم وهذا مبحث طويل نفيس وقد رمزنا إليه بهذه النبذة اليسيرة
والتوفيق بيد الله
وقد رسخت هذه البدعة الخارجية في البربر زمانا طويلا إلى أن اضمحلت في أواخر
المائة الثانية وما بعدها ومع ذلك فقد بقيت منها آثار في أعقابهم من أصحاب الأطراف
كما ذكره ابن خلدون والناقد بصير
ولما طهر الخلفاء من بني العباس المغرب من هذه النزعة الشيطانية أخذ أهله بعدها
بمذاهب أهل العراق في الأصول والفروع لأن ذلك المذهب يومئذ هو مذهب الخلفاء بالمشرق
والناس على قدم إمامهم
قال عياض في المدارك ظهر مذهب أبي حنيفة بإفريقية ظهورا كبيرا إلى قرب أربعمائة
سنة فانقطع منها ودخل منه شيء إلى ما وراءها من المغرب قديما بمدينة فاس وبالأندلس
وكذا ظهر بالأندلس أيضا مذهب عبد الرحمن الأوزاعي من أهل الشام
واختلف الناس في السبب الذي انتقل به أهل المغرب عن مذهب أبي حنيفة وغيره إلى مذهب
الإمام مالك بن أنس الذي هو مذهب السلف من
____________________
أهل الحجاز فقال ابن خلكان في
ترجمة المعز بن باديس الصنهاجي المتوفى في أواسط المائة الخامسة ما نصه كان مذهب
أبي حنيفة رضي الله عنه بإفريقية أظهر المذاهب فحمل المعز المذكور جميع أهل المغرب
على التمسك بمذهب الإمام مالك رضي الله عنه وحسم مادة الخلاف في المذاهب واستمر
الحال من ذلك الوقت إلى الآن اه
قلت كان المعز هذا وأسلافه من صنهاجة بإفريقية على مذهب الرافضة من الشيعة أخذوه
عن خلفائهم العبيديين أيام استيلائهم على المغرب في صدر المائة الرابعة وحملوا
الناس عليه وامتحنوهم وطارت بدعتهم في أقطار المغرب كله فلما أفضى الأمر إلى المعز
بن باديس المذكور قطع دعوة الشيعة من إفريقية ودعا لبني العباس وحمل الناس على
التمسك بمذهب مالك عالم المدينة وإمام دار الهجرة
هذا والمعروف أن مذهب مالك ظهر أولا بالأندلس ثم انتقل منها إلى المغرب الأقصى
أيام الأدارسة وكذا ظهر بإفريقية ظهورا بينا قبل وجود المغرب بكثير بل قبل استيلاء
صنهاجة والعبيديين على المغرب وذلك على يد أسد بن الفرات وعبد السلام بن سعيد التنوخي
المعروف بسحنون وغيرهما من أئمة المغاربة ثم لما ظهرت دولة الشيعة بإفريقية حاولوا
محوه فلم يتيسر لهم ذلك وكان فقهاء المالكية في ذلك العصر معهم في محنة عظيمة منهم
ابن أبي زيد والقابسي وأبو عمران الفاسي وطبقتهم ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن
نصره المعز المذكور جزاه الله خيرا قالوا وكان ظهوره بالأندلس على يد الفقيه زياد
بن عبد الرحمن المعروف بشبطون فهو أول من أدخله الأندلس وكانوا قبل ذلك يتفقهون
على مذهب الأوزاعي إمام أهل الشام لمكان الدولة الأموية منه فلما ظهر مالك رضي
الله عنه بالمدينة وعظم صيته وانتشرت فتاويه بأقطار الأرض رحل إليه جماعة من أهل
الأندلس والمغرب كان من أمثلهم وأسبقهم شبطون المذكور وقرعوس بن العباس وعيسى بن
دينار وسيعد بن ابي هند وغيرهم أيام هشام بن
____________________
عبد الرحمن الداخل فلما رجعوا
وصفوا من فضل مالك وسعة علمه وجلالة قدره ما عظم به ذكره بالأندلس فانتشر يومئذ
علمه ورأيه بها
وكان رائد الجماعة في ذلك هو شبطون كما قلنا وهو أول من أدخل كتاب الموطأ المغرب
أتى به مكملا متقنا فأخذه عنه يحيى بن يحيى الليثي ثم دخل بعد ذلك إلى مالك فقرأه
عليه وعاد إلى الأندلس فتمم ما كان قد بقي من شهرة المذهب المالكي
قال ابن حزم مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرئاسة والسلطان مذهب أبي حنيفة فإنه
لما ولى الرشيد أبا يوسف خطة القضاء كانت القضاة من قبله من أقصى المشرق إلى أقصى
عمل إفريقية ومذهب مالك عندنا بالأندلس فإن يحيى بن يحيى كان مكينا عند السلطان
مقبول القول في القضاة وكان لا يلي قاض في أقطار الأندلس إلا بمشورته واختياره ولا
يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه والناس سراع إلى الدنيا فأقبلوا على ما يرجون
به بلوغ أغراضهم على أن يحيى لم يل قضاء قط ولا أجاب إليه وكان ذلك زائدا في
جلالته عندهم وداعيا إلى قبول رأيه لديهم اه
ورأيت في بعض التآليف في سبب ظهور مذهب مالك بالأندلس والمغرب أن حاج المغرب
والأندلس قدموا على مالك رضي الله عنه بالمدينة فسألهم عن سيرة عبد الرحمن بن
معاوية المعروف بالداخل فقيل له إنه يأكل الشعير ويلبس الصوف ويجاهد في سبيل الله
فقال مالك ليت الله زين حرمنا بمثله فنقم عليه بنو العباس هذه المقالة وكان ذلك
سبب توصلهم إلى ضربه في مسألة الإكراه كما هو مشهور وبلغت مقالته صاحب الأندلس فسر
بها وجمع الناس على مذهبه فانتشر في أقطار المغرب من يومئذ والله أعلم
ومما يناسب هنا ما نقله المؤرخون أن أبا عبد الله محمد بن خيرون الأندلسي الأصل
القيرواني الدار رحل إلى المشرق في صدر المائة الرابعة
____________________
فأخذ عن علمائه وقرائه وعاد
إلى إفريقية بقراءة نافع بن أبي نعيم وكان الغالب عليهم القراءة بحرف حمزة فشاع
حرف نافع من يومئذ في أقطار المغرب بعد أن كان لا يقرأ به إلا الخواص واستمر الحال
على ذلك إلى اليوم فهذا حال أهل المغرب في الفروع
وأما حالهم في الأصول والإعتقادات فبعد أن طهرهم الله تعالى من نزعة الخارجية أولا
والرافضية ثانيا أقاموا على مذهب أهل السنة والجماعة مقلدين للجمهور من السلف رضي
الله عنهم في الإيمان بالمتشابه وعدم التعرض له بالتأويل مع التنزيه عن الظاهر وهو
والله أحسن المذاهب وأسلمها ولله در القائل
( ** عقيدتنا أن ليس مثل صفاته ** ولا ذاته شيء عقيدة صائب )
( سلم آيات الصفات بأسرها ** وأخبارها للظاهر المتقارب )
( ونؤيس عنها كنه فهم عقولنا ** وتأويلنا فعل اللبيب المراقب )
( ونركب للتسليم سفنا فإنها ** لتسليم دين المرء خير المراكب )
واستمر الحال على ذلك مدة إلى أن ظهر محمد بن تومرت مهدي الموحدين في صدر المائة
السادسة فرحل إلى المشرق وأخذ عن علمائه مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري ومتأخري
أصحابه من الجزم بعقيدة السلف مع تأويل المتشابه من الكتاب والسنة وتخريجه على ما
عرف في كلام العرب من فنون مجازاتها وضروب بلاغاتها مما يوافق عليه النقل والشرع
ويسلمه العقل والطبع ثم عاد محمد بن تومرت إلى المغرب ودعا الناس إلى سلوك هذه
الطريقة وجزم بتضليل من خالفها بل بتكفيره وسمى أتباعه الموحدين تعريضا بأن من
خالف طريقته ليس بموحد وجعل ذلك ذريعة إلى الإنتزاء على ملك المغرب حسبما تقف عليه
مفصلا بعد إن شاء
____________________
الله لكنه ما أتى بطريقة
الأشعري خالصة بل مزجها بشيء من الخارجية والشيعية حسبما يعلم ذلك بإمعان النظر في
أقواله وأحواله وأحوال خلفائه من بعده ومن ذلك الوقت أقبل علماء المغرب على تعاطي
مذهب الأشعري وتقريره وتحريره درسا وتأليفا إلى آلان وإن كان قد ظهر بالمغرب قبل
ابن تومرت فظهورا ما والله أعلم
وقد كان عبد المؤمن بن علي وبنوه من بعده منعوا الناس من التقليد في الفروع وحملوا
الأئمة على أخذ الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة مباشرة على طريقة الإجتهاد
المطلق وحرقوا شيئا كثيرا من كتب الفروع الحديثة التصنيف ووقع ذلك من بعض علماء
عصرهم موقع الإستحسان منهم الإمام الحافظ أبوبكر بن العربي فقد ذكر في كتاب
القواصم والعواصم له ما يشعر بذلك قال بعد ذكره ما وقع بالمغرب من الفتن ما نصه
عطفنا عنان القول إلى مصائب نزلت بالعلماء في طريق الفتوى لما كثرت البدع وذهب
العلماء وتعاطت المبتدعة منصب الفقهاء وتعلقت أطماع الجهال به فنالوه بفساد الزمان
ونفوذ وعد الصادق صلى الله عليه وسلم في قوله ( اتخذ الناس رؤوساء جهالا فسئلوا
فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ) وبقيت الحال هكذا فماتت العلوم إلا عند آحاد الناس
واستمرت القرون على موت العلم وظهور الجهل وذلك بقدرة الله تعالى وجعل الخلف منهم
يتبع السلف حتى آلت الحال إلى أن لا ينظر في قول مالك وكبراء أصحابه ويقال قد قال
في هذه المسألة أهل قرطبة وأهل طلمنكة وأهل طليطلة وصار الصبي إذا عقل وسلكوا به
أمثل طريقة لهم علموه كتاب الله تعالى ثم نقلوه إلى الأدب ثم إلى الموطأ ثم إلى
المدونة ثم إلى وثائق ابن العطار ثم يختمون له بأحكام ابن سهل ثم يقال قال فلان
الطليطي وفلان المجريطي وابن مغيث لا أغاث الله ثراه فيرجع
____________________
القهقرى ولا يزال يمشي إلى
وراء ولولا أن الله تعالى من بطائفة تفرقت في ديار العلم وجاءت بلباب منه كالقاضي
أبي الوليد الباجي وأبي محمد الأصيلي فرشوا من ماء العلم على هذه القلوب الميتة
وعطروا أنفاس الأمة الذفرة لكان الدين قد ذهب ولكن تدارك الباري تعالى بقدرته ضرر
هؤلاء ينفع هؤلاء وربما سكنت الحال قليلا والحمد لله اه والله تعالى ولي التوفيق تتمة
مهمة
قد ظهر ببلاد المغرب وغيرها منذ أعصار متطاولة لا سيما في المائة العاشرة وما
بعدها بدعوة قبيحة وهي اجتماع طائفة من العامة على شيخ من الشيوخ الذين عاصروهم أو
تقدموهم ممن يشار إليه بالولاية والخصوصية ويخصونه بمزيد المحبة والتعظيم ويتمسكون
بخدمته والتقرب إليه قدرا زائدا على غيره من الشيوخ بحيث يرتسم في خيال جلهم أن كل
المشايخ أو جلهم أن دونه في المنزلة عند الله تعالى ويقولون نحن أتباع سيدي فلان
وخدام الدار
____________________
الفلانية لا يحولون عن ذلك ولا
يزولون خلفا عن سلف وينادون باسمه ويتسغيثون به ويفزعون في مهماتهم إليه معتقدين
أن التقرب إليه نافع والإنحراف عنه قيد شبر ضار مع أن النافع والضار هو الله وحده
وإذا ذكر لهم شيخ آخر أو دعوا إلي حاصوا حيصة حمر الوحش من غير تبصر في أحواله هل
يستحق ذلك التعظيم أم لا فصار الأمر عصبيا وصارت الأمة بذلك طرائق قددا ففي كل بلد
أو قرية عدة طوائف وهذا لم يكن معروفا في سلف الأمة الذين هم القدوة لمن بعدهم وغرض
الشارع إنما هو في الإجتماع وتمام الألفة واتحاد الوجهة وقد قال تعالى لأهل الكتاب
{ تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } الآية وقد ذم قوما فرقوا دينهم وكانوا شيعا
وإنما الشأن في أهل الخصوصية والدين أن يكونوا عند العاقل المحتاط لدينه كأسنان
المشط بحيث يحبهم لله وفي الله ويستشفع بهم إلى الله ويسأله تعالى أن يكرمه بما
أكرمهم به من الخير والهدى والدين وليحبهم حب التشرع لا حب التشيع وليتأدب معهم
ولا يقدم على مفاضلتهم بالهوى والرجم بالغيب فإن ذلك متوقف على الإطلاع على
منزلتهم عند الله وذلك محجوب عنا وإذا نزلت به حاجة فليفرغ في قضائها إلى مولاه
الذي خلقه ورزقه مستشفعا إليه بنبيه الذي هداه للإيمان على يده ثم بخواص الأمة
الذين هم آباؤنا في الدين فإن المطلوب من العبد أن يصرف وجهته وقصده في جميع أموره
ويتعلق فيها بالله بحيث لا يطلبها إلا منه ولا يتكل فيها إلا عليه قاطعا للنظر عن
كل ما سواه اللهم إلا على سبيل التوسل والإستشفاع كما قلنا هذا هو التوحيد الذي
بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم وإليه دعا وعليه قاتل وسواه شرك ومنابذا لما
جاء به { إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله }
ثم استرسل هؤلاء الطغام في ضلالهم حتى صارت كل طائفة تجتمع في أوقات معلومة من
مكان مخصوص أو غيره على بدعتهم التي يسمونها الحضرة فما شئت من طست وطار وطبل
ومزمار وغناء ورقص وخيط
____________________
وفحص وربما أضافوا إلى ذلك
نارا أو غيرها يستعملونه على سبيل الكرامة بزعمهم ويستغرقون في ذلك الزمن الطويل
حتى يمضي الوقت والوقتان من أوقات الصلوات وداعي الفلاح ينادي على رؤوسهم وهم في
حيرتهم يعمهون لا يرفعون به رأسا ولا يرون بما هم فيه من الضلال بأسا بل يعتقدون
أن ما هم فيه من أفضل القرب إلى الله تعالى الله عن جهالتهم علوا كبيرا
ولا تجد في هذه المجامع الشيطانية غالبا إلا من بلغ الغاية في الجفاء والجهل من لا
يحسن الفاتحة فضلا عن غيرها مع ترك الصلاة طول عمره أو من في معناه من معتوه ناقص
العقل والدين فما أحوج هؤلاء الفسقة إلى محتسب يغير عليهم ما هم فيه من المنكر
العظيم واللبس المقيم وأعظم من هذا كله أنهم يفعلون تلك الحضرة غالبا في المساجد
فإنهم يتخذون الزاوية باسم الشيخ ويجعلونها مسجدا للصلاة بالمحراب والمنار وغير
ذلك ثم يعمرونها بهذه البدعة الشنيعة فكم رأينا من عود و رباب ومزمار على أفحش
الهيأت في محاريب الصلوات
ومن بدعهم الشنيعة محاكاتهم أضرحة الشيوخ لبيت الله الحرام من جعل الكسوة لها
وتحديد الحرم على مسافة معلومة بحيث يكون من دخل تلك البقعة من أهل الجرائم آمنا
وسوق الذبائح إليها على هيئة الهدي واتخاذ الموسم كل عام وهذا وأمثاله لم يشرع إلا
في حق الكعبة ثم يقع في ذلك الموسم ولا سيما مواسم البادية من المناكر والمفاسد
العظام واختلاط الرجال بالنساء باديات متبرجات شأن أهل الإباحة وشأن قوم نوح في
جاهليتهم ما تصم عنه الآذان ولا منكر ولا مغير ولا ممتعض للدين لا بل للحسب فأما
الدين عند هؤلاء فلا دين فإنا لله وإنا إليه راجعون على ضيعة الدين وغفلة أهله عنه
وبالله ويا للمسلمين لهؤلاء الهمج الرعاع الذين سلبوا المروءة والحياء والغيرة
والعقل والدين والإنسانية جملة فليسوا في فطنة الشياطين ولا في سلامة صدور البهائم
ولا في نخوة السباع فيغضبوا لديهم ومروءتهم
____________________
ومن جهالاتهم الفظيعة جمعهم بين اسم الله تعالى واسم الولي في مقامات التعظيم
كالقسم والإستعطاف وغيرهما فإذا أقسموا قالوا وحق الله وحق سيدي فلان وإذا عزموا
على أحد قالوا دخلت عليك بالله وسيدي فلان وإذا سألوا قالوا من يعطينا على الله
وعلى سيدي فلان فيعطفون اسم العبد على اسم مولاه بالواو المقتضية للتشريك والتسوية
التامة في مقام قد حظر الشارع أن يتجاوز فيه اسم الله إلى غيره وهذا هو صريح الشرك
ومن مناكرهم الجديرة بالتغيير اجتماعهم كل سنة للوقوف يوم عرفة بضريح الشيخ عبد
السلام بن مشيش رضي الله عنه ويسمون ذلك حج المسكين فانظر إلى هذه الطامة التي
اخترعها هؤلاء العامة
ومن اختراعاتهم تسميتهم لبدعتهم بالحضرة كما قلنا أخذا من اسم حضرة الله تعالى في
إصلاح الأئمة العارفين من الصوفية كأهل رسالة القشيري ومن في معناهم فأوهم هؤلاء
الشياطين بهذه التسمية أنهم يكونون في حال اشتغالهم بتلك البدعة في حضرة الله
تعالى ثم يذهبون فيسمون جنونهم وتخبطهم على تلك الطبول والمزامير بالحال أخذا من
الحال التي تعتري السالك إلى الله تعالى في حال ترقيه في درجات المعرفة والوصول
وهذا لعمر الله من أقبح الضلالات واشنع الجهالات إلى غير هذا مما أغني فيه العيان
عن الخبر وعرفه الخاص والعام في حالتي الورد والصدر
ولسنا ننكر على أولياء الله وأهل الخصوصية منهم أو على من يسلك سبيلهم على الوجه
المقرر في كتب الأئمة المقتدى بهم منهم وإنما نشرح حال هؤلاء الجهلة الذين لم
يأتوا الأمر من بابه ولا أخذوه عن أربابه وإنما حالهم ما رأيت وعلمت وهذه نفثة
مصدور صاحبها عند المنصف معذور فنسأل الله العظيم المولى الكريم أن يحرك همة من له
القدرة والتصرف إلى حسم هذه الضلالات وقطعها عسى أن يرحمنا ربنا ويجبر كسرنا ويكبت
____________________
عدونا إذا نحن راجعنا ديننا
وسنة نبينا { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم
سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال }
وقد آن أن نفرد الكلام على المغرب الأقصى عند ما استولى عليه المولى إدريس بن عبد
الله وبنوه من بعده واقتطعوه عن نظر الخلفاء بالمشرق وصيروه مملكة مستقلة إذ كان
ذلك من شرط كتابنا هذا حسبما تقدمت الإشارة إليه مقدمين لذلك ما يجب تقديمه من
الإشارة إلى أمر الخلافة وتنازع أهل الصدر الأول في استحقاقها ومن هو أولى بها ثم
نتخلص منه إلى المقصود بالذات والله الموفق
____________________
الدولة الإدريسية الخبر عن
دولة آل إدريس بالمغرب الأقصى وذكر السبب في أوليتها
أعلم أنه قد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إن هذا الأمر في
قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين ) وفيه أيضا أنه صلى
الله عليه وسلم قال ( لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان )
قال الحافظ ابن حجر لو فقد قرشي فكناني ثم رجل من بني إسماعيل ثم عجمي على ما في
التهذيب أو جرهمي على ما في التتمة ثم رجل من بني إسحاق وأن يكون شجاعا ليغزو
بنفسه ويعالج الجيوش ويقوى على فتح البلاد ويحمي البيضة وأن يكون أهلا للقضاء بأن
يكون مسلما مكلفا حرا عدلا ذكرا مجتهدا ذا رأي وسمع وبصر ونطق
وتنعقد الإمامة ببيعة أهل الحل والعقد من العلماء ووجوه الناس المتيسر اجتماعهم
وباستخلاف الإمام من يعينه في حياته ويشترط القبول في حياته ليكون خليفة بعد موته
وباستيلاء متغلب على الإمامة ولو غير أهل لها كصبي وامرأة إن قهر الناس بشوكته
وجنده وذلك لينظم أمر المسلمين اه
ثم نقول قد تقدم لنا أمر الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه
وسلم وأن السلف أطبقوا على أن ترتيبهم في الفضل عل حسب ترتيبهم في الخلافة وتقدم
لنا أيضا ما كان من علي ومعاوية رضي الله عنهما وأن ما صدر منهما كان اجتهادا محضا
وطلبا للحق وأن الصواب كان مع علي رضي الله عنه والكل مأجور
ثم لما قتل علي رضي الله عنه بايع أهل العراق ابنه الحسن رضي الله عنه وزحف إليه
معاوية في أهل الشام ورأى الحسن ما في حقن دماء المسلمين وجمع كلمتهم من الثواب
عند الله والكرامة لديه فاختار الأخرى على الدنيا
____________________
وقدم الآجل على العاجل وسلم
الأمر إلى معاوية على شروط معروفة وأصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين
كما قال جده صلى الله عليه وسلم
وحاز معاوية الخلافة وصفت له وتوارثها بنوا أمية من بعده بعد مقاتلات ومنازعات
كانت من بني هاشم وغيرهم لهم يطول جلبها
وكان السواد الأعظم من المسلمين يرون أن بني هاشم أحق بالأمر من بني أمية لأن بني
هاشم هم آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وعشيرته الأقربون وهم أهل العلم والدين
والخصوصية الذين اجتباهم الله وأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا فهم أحق بمنصب رسول
الله صلى الله عليه وسلم من غيرهم وهذا الرأي صواب غير أن ذلك ليس بطريق الوجوب
عند أهل السنة بل بطريق الأحقية والأولوية إذا توفرت الشروط فيهم وفي غيرهم من
سائر بطون قريش وإلا فمن انفردت به الشروط وجب المصير إليه
وكان شيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوجبون الخلافة لبنيه دون من عداهم
ويزعمون أن ذلك كان بوصية من النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه وهذه
الوصية لم تثبت عند أهل السنة من طريق صحيح ومذاهب هؤلاء الشيعة في كيفية سوق
الخلافة في عقب علي رضي الله عنه متعددة لا حاجة لنا بذكرها
وكان بنو علي رضي الله عنه في الصدر الأول كثيرا ما يثورون في النواحي شرقا وغربا
طالبين حقهم في الخلافة منازعين فيها لبني أمية أولا ثم لبني العباس من بعدهم
ثانيا وخبرهم في ذلك معروف وجلبه يطول إلى أن كان منهم عبد الله بن الحسن المثنى
بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وكان من سادة أهل البيت يومئذ
وكان له عدة أولاد منهم محمد المعروف بالنفس الزكية وإبراهيم ويحي وسليمان وإدريس
وغيرهم
ولما صار أمر بني أمية إلى الاختلال أيام مروان الحمار آخر خلفائهم اجتمع أهل
البيت بالمدينة وتشاوروا فيمن يقدمونه للخلافة فوقع اختيارهم
____________________
على محمد بن عبد الله النفس
الزكية فبايعوا له بالخلافة وسلموا له الأمر بأجمعهم وحضر هذا العقد أبو جعفر عبد
الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو المنصور وذلك قبل أن تنتقل الخلافة
إلى بني العباس فبايع للنفس الزكية فيمن بايع له من أهل البيت وأجمعوا على ذلك
لتقدمه فيهم لما علموا له من الفضل عليهم
قال ابن خلدون ولهذا كان مالك وأبو حنيفة رحمهما الله يحتجان له حين خرج بالحجاز
ويريان أن إمامته أصح من إمامة أبي جعفر المنصور لانعقاد هذه البيعة أولا وكان أبو
حنيفة يقول بفضله ويحتج لحقه فتأدت إلى الإمامين المحنة بسبب ذلك أيام أبي جعفر
المنصور حتى ضرب مالك رضي الله عنه على الفتيا في طلاق المكره وحبس أبو حنيفة رضي
الله عنه على القضاء
ولما انقرضت دولة بني أمية وجاءت دولة بني العباس وصار الأمر إلى أبي جعفر المنصور
منهم سعى عنده بآل البيت وأن محمد بن عبد الله يروم الخروج عليه وأن دعاته قد
ظهروا بخراسان فأمر المنصور عامله على المدينة رباح بن عثمان المري بحبس عبد الله
بن حسن ومن إليه من آل الحسن بن علي بن أبي طالب فحبسه جماعة من بنيه وإخوته وبني
عمه قال ابن خلدون في خمسة وأربعين من أكابرهم وقدم المنصور المدينة في حجة حجها
فساقهم معه إلى العراق وحبسهم بقصر ابن هبيرة من ظاهر الكوفة حتى هلكوا في حبسهم
وجد المنصور في طلب محمد بن عبد الله النفس الزكية وأخيه إبراهيم لكونهما تغيبا
فلم يحبسا في جملة من حبس من عشيرتهم
ثم لما كانت سنة خمس واربعين ومائة وأرهق محمد بن عبد الله الطلب وأعيت عليه
المذاهب ظهر بالمدينة المنورة ودعا الناس إلى بيعته فبايعوه
واستفتى أهل المدينة الإمام مالكا رضي الله عنه في الخروج مع محمد بن عبد الله
وقالوا في أعناقنا بيعة للمنصور فقال إنما بايعتم
____________________
مكرهين فتسارع الناس إلى محمد
وأجابوا دعوته ولزم الإمام ملك بيته وخطب محمد بن عبد الله على منبر رسول الله صلى
الله عليه وسلم وذكر المنصور بما نقمه عليه ووعد الناس واستنصر بهم وتسمى بالمهدي
ولم يتخلف عن بيعته من وجوه الناس إلا القليل
وبلغ المنصور خبر محمد بن عبد الله وما كان منه بالمدينة فأشفق من ذلك غاية
الإشفاق وكتب إلى محمد كتاب أمان ويعده الجميل إن هو راجع الطاعة فأجابه محمد بعدم
قبول ذلك منه ودارت بينهما مكاتبات ومحاورات في الأفضلية واستحقاق الخلافة وقد ذكر
مكاتبتهما المبرد في كامله وابن خلدون في تاريخه
وآخر الأمر أن المنصور بعث لحرب محمد المهدي ابن عمه عيسى بن موسى العباسي فاستعد
المهدي للقتال وأدار على المدينة الخندق الذي حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم الأحزاب وقدمت جيوش العباسيين ونزلوا على المدينة
وخرج إليهم محمد بن عبد الله فيمن بايعه واقتتل الناس قتالا شديدا وأبلى محمد
المهدي في ذلك اليوم بلاء عظيما وقتل بيده سبعين رجلا
ولما اشتد القتال وعاين مخايل الاختلال انصرف فاغتسل وتحنط وجمع بين الظهر والعصر
ومضى فأحرق الديوان الذي كان فيه أسماء من بايعه وجاء إلى السجن فقتل رباح بن
عثمان عامل المنصور على المدينة وقتل معه جماعة كانوا مسجونين عنده ثم عاد إلى
المعركة وقد تفرق عنه جل أصحابه ولم يبق معه إلا نحو ثلاثمائة فقال له بعضهم نحن
اليوم في عدة أهل بدر ثم تقدم فقاتل حتى قتل ضرب فسقط لركبتيه وطعنه حميد بن قحطبة
في صدره ثم احترز رأسه وأتى به عيسى بن موسى فبعث به إلى المنصور
وكان مقتل محمد المهدي رحمه الله في منتصف رمضان سنة خمس وأربعين ومائة وقتل معه
جماعة من أهل بيته وأصحابه ولحق ابنه علي بن
____________________
محمد بالسند إلى أن هلك هناك
واختفى ابنه الآخر عبد الله الأشتر إلى أن هلك أيضا في خبر طويل
ثم خرج إبراهيم بن عبد الله أخو المهدي المذكور بالبصرة عقب ذلك فبعث إليه المنصور
عيسى بن موسى المذكور آنفا فقاتله آخر ذي القعدة من السنة فانهزم إبراهيم وقتل
رحمه الله بعد أن بايعه أكثر من مائة ألف
ثم لما كانت سنة تسع وستين ومائة في أيام موسى الهادي بن محمد المهدي بن أبي جعفر
المنصور خرج بالمدينة الحسين بالتصغير بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن المثنى بن
الحسن السبط بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان معه جماعة من أهل بيته منهم
إدريس ويحيى وسليمان بنو عبد الله بن الحسن المثنى وهم إخوة محمد النفس الزكية
فاشتد أمر الحسين المذكور بالمدينة وجرى بينه وبين عامل الهادي على المدينة وهو
عمر بن عبد العزيز بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب قتال فانهزم عمر
المذكور وبايع الناس الحسين المذكور على كتاب الله وسنة نبيه للمرتضى من آل محمد
وكانوا يكنون بذلك عن الإمام المستور إلى أن يقدر على إظهار أمره وأقام الحسين
وأصحابه بالمدينة يتجهزون أياما ثم خرجوا إلى مكة يوم السبت لست بقين من ذي القعدة
فانتهى الحسين إلى مكة وانضم إليه جماعة من عبيدها
وكان قد حج تلك السنة جماعة من وجوه بني العباس وشيعتهم فمنهم سليمان بن أبي جعفر
المنصور ومحمد بن سليمان بن علي والعباس بن محمد بن علي وانضم إليهم من حج من
قوادهم ومواليهم واقتتلوا مع الحسين المذكور يوم التروية الثامن من ذي الحجة
فانهزم الحسين وأصحابه وقتل فاحتزوا رأسه وأحضروه أمام بني العباس وهو مضروب على
قفاه وجبهته ثم جمعت رؤوس أصحابه فكانت مائة ونيفا وكان فيها رأس سليمان بن عبد
الله بن الحسن المثنى في قول واختلط المنهزمون بالحاج فذهبوا في كل وجه
____________________
وكان مقتلهم بموضع يقال له فخ على ثلاثة أميال من مكة سنة تسع وستين ومائة كما
قلنا وفي ذلك يقول بعض شعراء ذلك العصر
( فلأبكين على الحسين ** بعولة وعلى الحسن )
( وعلى ابن عاتكة الذي ** واروه ليس له كفن )
( تركوا بفخ غدوة ** في غير منزلة الوطن )
في أبيات والحسن الذي ذكره في هذه الأبيات هو الحسن بن محمد بن الحسن المثنى بن
الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وكان أسر في ذلك اليوم فضربت عنقه صبرا وابن عاتكة
الذي ذكره هو عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي
بن أبي طالب ثم حمل رأس الحسين ومعه باقي الرؤوس إلى الهادي فأنكر عليهم حمل رأس
الحسين ولم يعطهم جوائزهم غضبا عليهم دخول إدريس بن عبد الله أرض المغرب الأقصى
قد تقدم لنا أن يحيى وإدريس ابني عبد الله حضرا وقعة فخ مع الحسين بن علي المذكور
آنفا فأما يحيى فإنه فر من الوقعة المذكورة إلى بلاد الديلم في جهة الشرق ودعا
الناس إلى بيعته فبايعوه واشتدت شوكته ثم إن الرشيد جهز إليه الفضل بن يحيى
البرمكي في جيش كثيف فكاتبه الفضل وبذل له الأمان وما يختاره فأجابه يحيى بن عبد
الله إلى ذلك وطلب يمين الرشيد وأن يكون بخطه ويشهد فيه الأكابر ففعل ذلك وحضر
يحيى بن عبد الله إلى بغداد فأكرمه الرشيد وأعطاه مالا كثيرا ثم حبسه حتى مات في
السجن
وأما إدريس فإنه فر من الوقعة المذكورة ولحق بمصر وعلى بريدها يومئذ واضح مولى
صالح بن المنصور ويعرف بالمسكين وكان واضح يتشيع لآل البيت فعلم شأن إدريس وأتاه
إلى الموضع الذي كان مستخفيا
____________________
به ولم ير شيئا أخلص له من أن
يحمله على البريد إلى المغرب ففعل ولحق إدريس بالمغرب الأقصى هو ومولاه راشد فنزل
بمدينة وليلى سنة ثنتين وسبعين ومائة وبها يومئذ إسحاق بن محمد بن عبد الحميد أمير
أوربة من البربر البرانس فأجاره وأكرمه وجمع البربر على القيام بدعوته وخلع الطاعة
العباسية وكشف القناع في ذلك وانتهى الخبر إلى الرشيد بما فعله واضح في شأن إدريس
فقتله وصلبه
وقال ابن أبي زرع في كتاب القرطاس إن إدريس بن عبد الله لما قتلت عشيرته بفخ فر
بنفسه متسترا في البلاد يريد المغرب فسار من مكة حتى وصل إلى مصر ومعه مولى له
اسمه راشد فدخلها والعامل عليها يومئذ لبني العباس هو علي بن سليمان الهاشمي
فبينما إدريس وراشد يمشيان في شوارع مصر إذا مرا بدار حسنة البناء فوقفا يتأملانها
وإذا بصاحب الدار قد خرج فسلم عليهما وقال ما الذي تنظرانه من هذه الدار فقال راشد
أعجبنا حسن بنائها قال وأظنكما غريبين ليسا من هذه البلاد فقال راشد جعلت فداك إن
الأمر كما ذكرت قال فمن اي الأقاليم أنتما قالا من الحجاز قال فمن أي بلاده قالا
من مكة قال وأخالكما من شيعة الحسنين الفارين من وقعة فخ فهما بالإنكار ثم توسما
فيه الخير فقال راشد يا سيدي أرى لك صورة حسنة وقد توسمت فيك الخير أرأيت إن
أخبرناك من نحن أكنت تستر علينا قال نعم ورب الكعبة وأبذل الجهد في صلاح حالكما
فقال راشد هذا إدريس بن عبد الله بن حسن وأنا مولاه راشد فررت به خوفا عليه من
القتل ونحن قاصدون بلاد المغرب فقال الرجل لتطمئن نفوسكما فإني من شيعة آل البيت
وأول من كتم سرهم فأنتما من الآمنين ثم أدخلهما منزله وبالغ في الإحسان إليهما
فاتصل خبرهما بعلي بن سليمان صاحب مصر فبعث إلى الرجل الذي هما عنده فقال له إنه
قد رفع إلي خبر الرجلين الذين عندك وإن أمير المؤمنين قد كتب إلي في طلب الحسينين
والبحث عنهم وقد بث عيونه على الطرقات وجعل الرصاد
____________________
على أطراف البلاد فلا يمر بهم
أحد حتى يعرف نسبه وحاله وإني أكره أن أتعرض لدماء آل البيت فلك ولهم الأمان فاذهب
إليهما وأعلمهما بمقالي وأمرهما بالخروج من عملي وقد أجلتهما ثلاثا فسار الرجل
فاشترى راحلتين لإدريس ومولاه واشترى لنفسه أخرى ووضع زادا يبلغهما إلى إفريقية
وقال لراشد اخرج أنت مع الرفقة على الجادة وأخرج أنا وإدريس على طريق غامض لا
تسلكه الرفاق وموعدنا مدينة برقة فخرج راشد مع الرفقة في زي التجار وخرج إدريس مع
المصري فسلكا البرية حتى وصلا إلى برقة وأقاما بها حتى لحق بهما راشد ثم جدد
المصري لهما زادا وودعهما وانصرف
وسار إدريس وراشد يجدان السير حتى وصلا إلى القيروان فأقاما بها مدة ثم خرجا إلى
المغرب الأقصى
وكان راشد من أهل النجدة والحزم والدين والنصيحة لآل البيت فعمد إلى إدريس حين
خرجا من القيروان فألبسه مدرعة صوف خشينة وعمامة كذلك وصيره كالخادم له يأمره
وينهاه كل ذلك خوفا عليه وحياطة له ثم وصلا إلى مدينة تلمسان فأراحا بها أياما ثم
ارتحلا نحو بلاد طنجة فسارا حتى عبرا وادي ملوية ودخلا بلاد السوس الأدنى وتقدما
إلى مدينة طنجة وهي يومئذ قاعدة بلاد المغرب الأقصى وأم مدنه فأقاما بها أياما
فلما لم يجد إدريس بها مراده خرج مع مولاه راشد حتى انتهيا إلى مدينة وليلى قاعدة
جبل زرهون
وكانت مدينة متوسطة حصينة كثيرة المياه والغروس والزيتون وكان لها سور عظيم من
بنيان الأوائل يقال إنها المسماة اليوم بقصر فرعون فنزل بها إدريس على صاحبها ابن
عبد الحميد الأوربي فأقبل عليه ابن عبد الحميد وبالغ في إكرامه وبره فعرفه إدريس
بنفسه وأفضى إليه بسره فوافقه على مراده وأنزله معه في داره وتولى خدمته والقيام
بشؤونه
وكان دخول إدريس المغرب ونزوله على ابن عبد الحميد بمدينة وليلى
____________________
غرة ربيع الأول سنة اثنتين
وسبعين ومائة بيعة الإمام إدريس بن عبد الله رضي الله عنه
لما استقر إدريس بن عبد الله بمدينة وليلى عند كبيرها إسحاق بن محمد بن عبد الحميد
الأوربي أقام عنده ستة أشهر فلما دخل شهر رمضان من السنة جمع ابن عبد الحميد
عشيرته من أوربة وعرفهم بنسب إدريس وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرر
لهم فضله ودينه وعلمه واجتماع خصال الخير فيه فقالوا الحمد لله الذي أكرمنا به
وشرفنا بجواره وهو سيدنا ونحن العبيد فما تريد منا قال تبايعونه قالوا ما منا من
يتوقف عن بيعته فبايعوه بمدينة وليلى يوم الجمعة رابع رمضان المعظم سنة اثنتين
وسبعين ومائة
وكان أول من بايعه قبيلة أوربة على السمع والطاعة والقيام بأمره والاقتداء به في
صلواتهم وغزواتهم وسائر أحكامهم
وكانت أوربة يومئذ من أعظم قبائل البربر بالمغرب الأقصى وأكثرها عددا وتلتها في
نصرة إدريس والقيام بأمره مغيلة وصدينة وهما معا من ولد تامزيت بن ضرى
ولما بويع إدريس رحمه الله خطب الناس فقال بعد حمد الله والصلاة على نبيه صلى الله
عليه وسلم أيها الناس لا تمدن الأعناق إلى غيرنا فإن الذي تجدونه من الحق عندنا لا
تجدونه عند غيرنا
ثم بعد ذلك وفدت عليه قبائل زناتة والبربر مثل زواغة وزواوة وسدراتة وغياثة
ومكناسة وغمارة وكافة البربر بالمغرب الأقصى فبايعوه أيضا ودخلوا في طاعته فاستتب
أمره وتمكن سلطانه وقويت شوكته
ولحق به من اخوته سليمان بن عبد الله ونزل بأرض زتاتة من تلمسان ونواحيها كذا عند
ابن خلدون في أخبار الأدارسة والذي عنده في أخبار بني العباس وكذا عند أبي الفداء
أن سليمان بن عبد الله بن حسن قتل بوقعة فخ وجمع رأسه مع رؤوس القتلى فالله أعلم
____________________
غزو إدريس بن عبد الله بلاد
المغرب الأقصى وفتحه إياها
ثم إن إدريس بن عبد الله رضي الله عنه اتخذ جيشا كثيفا من وجوه زناتة وأوربة
وصنهاجة وهوارة وغيرهم وخرج غازيا بلاد تامسنا ثم زحف إلى بلاد تادلا ففتح معاقلها
وحصونها وكان أكثر أهل هذه البلاد لا زالوا على دين اليهودية والنصرانية وإنما
الإسلام بها قليل فأسلم جميعهم على يده
وقفل إلى مدينة وليلى مؤيدا منصورا فدخلها أواخر ذي الحجة سنة اثنين وسبعين ومائة
فأقام بها شهر محرم فاتح سنة ثلاث وسبعين ريثما استراح الناس ثم خرج برسم غزو من
كان بقي من قبائل البربر بالمغرب على دين المجوسية واليهودية والنصرانية وكان قد
بقي منهم بقية متحصنون في المعاقل والجبال والحصون المنيعة فلم يزل إدريس رحمه
الله يجاهدهم في حصونهم ويستنزلهم من معاقلهم حتى دخلوا في الإسلام طوعا وكرها ومن
أبى الإسلام منهم أباده قتلا وسبيا
وكانت البلاد التى غزاها في هذه المرة حصون فندلاوة وحصون مديونة وبهلولة وقلاع
غياثة وبلاد فازاز ثم عاد إلى مدينة وليلى فدخلها في النصف من جمادى الآخرة من
السنة المذكورة
____________________
غزو إدريس بن عبد الله أرض
المغرب الأوسط وفتح مدينة تلمسان
لما قفل إدريس رضي الله عنه من غزو بلاد المغرب الأقصى سنة ثلاث وسبعين ومائة أقام
بو ليلى بقية جمادى الآخرة ونصف رجب التالي لها ريثما استراح جيشه ثم خرج منتصف
رجب المذكور برسم غزو مدينة تلمسان ومن بها من قبائل مغراوة وبني يفرن فانتهى
إليها ونزل خارجها فخرج إليه صاحبها محمد بن خزر من ولد صولات المغراوي مستأمنا
ومبايعا له فأمنه إدريس وقبل بيعته
ودخل مدينة تلمسان فأمن أهلها ثم أمن سائر زناتة وبنى مسجد تلمسان وأتقنه وأمر
بعمل منبر نصبه فيه وكتب عليه بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أمر به الإمام إدريس
بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم وذلك في شهر صفر سنة أربع
وسبعين ومائة قال ابن خلدون واسم إدريس مخطوط في صفحة المنبر لهذا العهد اه ثم رجع
إدريس رحمه الله إلى مدينة وليلى فدخلها مؤيدا منصورا وفاة إدريس بن عبد الله
والسبب في ذلك
لما حصل لإدريس رحمه الله ما حصل من التمكن والظهور اتصل خبر ذلك بالخليفة ببغداد
وهو هارون الرشيد العباسي وبلغه أن إدريس قد استقام له أمر المغرب وأنه قد استفحل
أمره وكثرت جنوده وقد فتح مدينة تلمسان وبنى مسجدها وأنه عازم على غزو إفريقية
فخاف الرشيد عاقبة ذلك وأنه إن لم يتدارك أمره الآن ربما عجز عنه في المستقبل مع
ما يعلم من فضل إدريس خصوصا ومحبة الناس في آل البيت عموما فقلق الرشيد من ذلك
واستشار وزيره يحيى بن خالد البرمكي وقال إن الرجل قد فتح تلمسان وهي باب
____________________
إفريقية ومن ملك الباب يوشك أن
يدخل الدار وقد هممت أن أبعث إليه جيشا ثم فكرت في بعد الشقة وعظم المشقة فرجعت عن
ذلك فقال يحيى الرأي يا أمير المؤمنين أن تبعث إليه برجل داهية يحتال عليه ويغتاله
وتستريح منه فأعجب الرشيد ذلك فوقع اختيارهما على رجل من موالي المهدي والد الرشيد
واسم الرجل سليمان بن جرير ويعرف بالشماخ فأحضره يحيى وأعلمه بما يريد منه ووعده
على قتل إدريس الرفعة والمنزلة العالية عند الرشيد وزوده مالا وطرفا يستعين بها
على أمره وأصحبه الرشيد كتابا منه إلى واليه على إفريقية إبراهيم بن الأغلب كذا
عند ابن خلدون وابن الخطيب وفيه أن ابن الأغلب لم يكن واليا على إفريقية في هذا
التاريخ وإنما وليها سنة أربع وثمانين ومائة حسبما سبق فوصل الشماخ إلى والي
إفريقية بكتاب الرشيد فأجازه إلى المغرب
وقدم الشماخ على إدريس بن عبد الله مظهرا النزوع إليه فيمن نزع إليه من وحدان
العرب متبرئا من الدعوة العباسية منتحلا للدعوة الطالبية فاختصه إدريس رحمه الله
وحلا بعينيه وعظمت منزلته لديه
وكان الشماخ ممتلئا من الأدب والظرف والبلاغة عارفا بصناعة الجدل فكان إذا جلس
الإمام إدريس إلى رؤساء البربر ووجوه القبائل تكلم الشماخ فذكر فضل أهل البيت
وعظيم بركتهم على الأمة ويقرر ذلك ويحتج لإمامة إدريس وأنه الإمام الحق دون غيره
فكان يعجب إدريس ويقع منه الموقع فاستولى الشماخ عليه حتى صار من ملازميه ولا يأكل
إلا معه
وكان راشد كالئا لإدريس ملازما له أيضا قلما ينفرد عنه لأنه كان يخاف عليه من مثل
ما وقع فيه لكثرة أعداء آل البيت يومئذ وكان الشماخ يترصد الغرة من راشد ويترقب
الفرصة في إدريس إلى أن غلب راشد ذات يوم في بعض حاجاته فدخل الشماخ على إدريس
فجلس بين يديه على العادة وتحدث مليا
ولما لم ير الشماخ راشدا بالحضرة انتهز الفرصة في إدريس فقيل إنه
____________________
كانت مع الشماخ قارورة من طيب
مسموم فأخرجها وقال لإدريس هذا طيب كنت استصحبته معي وهو من جيد الطيب فرأيت أن
الإمام أولى به مني وذلك من بعض ما يجب له علي ثم وضع القارورة بين يديه فشكره
إدريس وتناول القارورة ففتحها واشتم ما فيها فصعد السم إلى خياشيمه وانتهى إلى
دماغه فغشي عليه وقام الشماخ للحين كأنه يريد حاجة الإنسان فخرج وأتى منزله فركب
فرسا له عتيقا كان قد أعده لذلك وذهب لوجهه يريد المشرق وافتقد الناس الإمام إدريس
فإذا هو مغشي عليه لا يتكلم ولا يعلم أحد ما به وقيل إن الشماخ سمه في سنون
والسنون بوزن صبور ما يستاك به وكان إدريس يشتكي وجع الأسنان واللثة وقيل سمه في
الحوت الشابل وقيل في عنب أهداه إليه في غير إبانة والله أعلم
ولما اتصل خبر إدريس بمولاه راشد أقبل مسرعا فدخل عليه وهو يحرك شفتيه لا يبين
كلاما قد أشرف على الموت فجلس عند رأسه متحيرا لا يدري ما دهاه واستمر إدريس على
حالته تلك إلى عشي النهار فتوفي في مهل ربيع الآخر سنة سبع وسبعين ومائة وتفقد
راشد الشماخ فلم يره فعلم أنه الذي اغتال إدريس
ثم جاء الخبر بأن الشماخ قد لقي على أميال من البلد فركب راشد في جمع من البربر
واتبعوه وتقطعت الخيل في النواحي وطلبوه ليلتهم إلى الصباح فلحقه راشد بوادي ملوية
عابرا فشد عليه راشد بالسيف وضربه ضربات قطع في بعضها يمناه وشجه في رأسه شجاجا
ونجا الشماخ بجربعاء الذقن وأعيى فرس راشد عن اللحاق به فرجع عنه ويقال أن الشماخ
رئي بعد ذلك ببغداد وهو مقطوع اليد
ولما رجع راشد إلى منزله أخذ في تجهيز الإمام رضي الله عنه وصلى عليه ودفنه بصحن
رابطة عند باب وليلى ليتبرك الناس بتربته رحمه الله ورضي عنه
____________________
أمر البربر بعد وفاة إدريس بن
عبد الله رحمه الله
قالوا إن الإمام إدريس لما توفي لم يترك ولدا إلا حملا من أمة له بربرية اسمها
كنزة فلما فرغ راشد من جهازه ودفنه جمع رؤساء البربر ووجوه الناس فقال لهم إن
إدريس لم يترك ولدا إلا حملا من أمته كنزة وهي الآن في الشهر السابع من حملها فإن
رأيتم أن تصبروا حتى تضع هذه الجارية حملها فإن كان ذكرا أحسنا تربيته حتى إذا بلغ
مبلغ الرجال بايعناه تمسكا بدعوة آل البيت وتبركا بذرية رسول الله صلى الله عليه
وسلم وإن كان جارية نظرتم لأنفسكم فقالوا له أيها الشيخ المبارك ما لنا رأي إلا ما
رأيت فإنك عندنا عوض من إدريس تقوم بأمورنا كما كان إدريس يقوم بها وتصلي بنا
وتقضي بيننا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ونصبر حتى تضع الجارية
حملها ويكون ما أشرت به على أنها إن وضعت جارية كنت أحق الناس بهذا الأمر لفضلك
ودينك وعلمك فشكرهم راشد على ذلك ودعا لهم وانصرفوا فقام راشد بأمر البربر تلك
المدة
ولما تمت للجارية أشهر حملها وضعت غلاما أشبه الناس بأبيه إدريس فأخرجه راشد إلى
رؤساء البربر حتى نظروا إليه فقالوا هذا إدريس بعينيه كأنه لم يمت فسماه راشد
إدريس ونشأ الصبي نشأة حسنة إلى أن كان من أمره ما نذكره
____________________
الخبر عن دولة إدريس بن إدريس
رحمه الله
كانت ولادة إدريس بن إدريس بن عبد الله يوم الاثنين ثالث رجب سنة سبع وسبعين ومائة
فكفله راشد مولى أبيه وقام بأمره أحسن قيام فأقرأه القرآن حتى حفظه وهو ابن ثمان
سنين ثم علمه الحديث والسنة والفقه في الدين والعربية ورواه الشعر وأمثال العرب
وحكمها وأطلعه على سير الملوك وعرفه أيام الناس ودربه على ركوب الخيل والرمي
بالسهام وغير ذلك من مكايد الحرب فلم يمض له من العمر مقدار إحدى عشرة سنة إلا وقد
اضطلع بما حمل وترشح للأمر واستحق لأن يبايع فبايعه البربر وآتوه صفقتهم عن طاعة
منهم وإخلاص
قال ابن خلدون بايع البربر إدريس الأصغر حملا ثم رضيعا ثم فصيلا إلى أن شب فبايعوه
بجامع مدينة وليلى سنة ثمان وثمانين ومائة وهو ابن إحدى عشرة سنة
وكان إبراهيم بن الأغلب صاحب إفريقية قد دس إلى بعض البربر الأموال واستمالهم حتى
قتلوا راشدا مولاه سنة ست وثمانين ومائة وحملوا إليه رأسه وقام بكفالة إدريس من
بعده أبو خالد يزيد بن إلياس العبدي ولم يزل على ذلك إلى أن بايعوا لإدريس فقاموا
بأمره وجددوا لأنفسهم رسوم الملك بتجديد طاعته وفي القرطاس أن مقتل راشد كان في
السنة التي بويع فيها إدريس بن إدريس قال وكانت بيعة إدريس يوم الجمعة غرة ربيع
الأول سنة ثمان وثمانين ومائة بعد مقتل راشد بعشرين يوما وإدريس يومئذ ابن إحدى
عشرة سنة وخمسة أشهر قاله عبد الملك الوراق في تاريخه وفيه بعض مخالفة لتاريخ
الولادة المتقدم
وفي قتل راشد يقول إبراهيم بن الأغلب في بعض ما كتب به إلى الرشيد يعرفه بنصحه
وكمال خدمته
( ألم ترن بالكيد أرديت راشدا ** وإني بأخرى لابن إدريس راصد )
____________________
( تناوله عزمي على بعد داره ** بمحتومة يحظى بها من يكايد )
( ففاه أخو عك بمقتل راشد ** وقد كنت فيه شاهدا وهو راقد )
يريد بأخي عك محمد بن مقاتل العكي والي إفريقية فإنه لما حاول ابن الأغلب قتل راشد
وتم له ذلك كتب العكي إلى الرشيد يعلمه أنه هو الذي فعل ذلك فكتب صاحب البريد إلى
الرشيد بحقيقة الأمر وأن ابن الأغلب هو الفاعل لذلك والمتولي له فثبت عند الرشيد
كذب العكي وصدق ابن الأغلب فعزل الرشيد العكي عن إفريقيا وولى ابن الأغلب عليها
وإنما كان قبل ذلك عاملا للعكي على بعض كورها هكذا حكى صاحب القرطاس هذا الخبر
وفيه أن عزل العكي عن إفريقية وتولية ابن الأغلب عليها كان في سنة أربع وثمانين
قبل وفاة راشد بسنتين أو بأربع سنين على الخلاف المتقدم
وقال البكري والبرنسي إن راشدا لم يمت حتى أخذ البيعة لإدريس بالمغرب وإن إدريس
لما تم له من العمر إحدى عشرة سنة ظهر من وفور عقله ونباهته وفصاحته ما أذهل عقول
الخاصة والعامة فأخذ له راشد البيعة على البربر يوم الجمعة سابع ربيع الأول من
السنة المذكورة فصعد إدريس المنبر وخطب الناس فقال الحمد لله أحمده وأستغفره
وأستعين به وأتوكل عليه وأعوذ به من شر نفسي ومن شر كل ذي شر وأشهد أن لا إله إلا
الله وأن محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى الثقلين بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله
بإذنه وسراجا منيرا صلى الله عليه وعلى آل بيته الطاهرين الذين أذهب الله عنهم
الرجس وطهرهم تطهيرا أيها الناس إنا قد ولينا هذا الأمر الذي يضاعف فيه للمحسن
الأجر وعلى المسيء الوزر ونحن والحمد لله على قصد فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا فإن
الذي تطلبونه من إقامة الحق إنما تجدونه عندنا ثم دعا الناس إلى بيعته وحضهم على
التمسك بطاعته فعجب الناس من فصاحته وقوة جأشه على صغر سنه ثم نزل فتسارع الناس
إلى بيعته وازدحموا عليه يقبلون يده فبايعه كافة قبائل المغرب من زناتة وأوربة
وصنهاجة وغمارة وسائر قبائل البربر فتمت له البيعة وبعد بيعته بقليل توفي مولاه
راشد والله أعلم
____________________
وفود العرب على إدريس بن إدريس
رحمه الله
لما استقام أمر المغرب لإدريس بن إدريس وتوطد ملكه وعظم سلطانه وكثرت جيوشه
وأتباعه وفدت عليه الوفود من البلدان وقصد الناس حضرته من كل صقع ومكان فاستمر
بقية سنة ثمان وثنانين يصل الوفود ويبذل الأموال ويستميل الرؤساء والأقيال
ولما دخلت سنة تسع وثمانين ومائة وفدت عليه وفدت عليه وفود العرب من إفريقية
والأندلس نازعين إليه وملتفين عليه فاجتمع لديه منهم نحو خمسمائة فارس من قيس
والأزد ومذحج ويحصب والصدف وغيرهم فسر إدريس بوفادتهم وأجزل صلتهم وأدنى منزلتهم
وجعلهم بطانة دون البربر فاعتز بهم وأنس بقربهم فإنه كان غريبا بين البربر فاستوزر
منهم عمير بن مصعب الأزدي المعروف بالملجوم من ضربة ضربها في بعض حربهم وسمته على
الخرطوم
وكان عمير من فرسان العرب وسادتها ولأبيه مصعب مآثر بإفريقية والأندلس ومواقف في
غزو الفرنج واستقضى منهم عامر بن محمد بن سعيد القيشي وكان من أهل الورع والفقه
والدين سمع من مالك بن أنس وسفيان الثوري وروى عنهما كثيرا وكان قد خرج إلى
الأندلس برسم الجهاد ثم أجاز إلى العدوة فوفد بها على إدريس فيمن وفد عليه من
العرب فاستقضاه واستكتب منهم أبا الحسن عبد الله بن مالك الخزرجي
ولم تزل الوفود تقدم عليه من العرب والبربر حتى كثر الناس لديه وضاقت بهم مدينة
وليلى
____________________
وانتهى إلى ابن الأغلب ما عليه
إدريس من الإستفحال فأرهف عزمه للتضريب بين البربر واستفسادهم على إدريس فكان منهم
بهلول بن عبد الواحد المضغري من خاصة إدريس ومن أركان دولته فكاتبه ابن الأغلب
واستهواه بالمال حتى بايع الرشيد وانحرف عن إدريس واعتزله في قومه فصالحه إدريس
وكتب إليه يستعطفه بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكف عنه وكان فيما كتب
به إدريس إلى بهلول المذكور قوله
( أبهلول قد حملت نفسك خطة ** تبدلت منها ضلة برشاد )
( أضلك إبراهيم مع بعد داره ** فأصبحت منقادا بغير قياد )
( كأنك لم تسمع بمكر ابن أغلب ** وقدما رمى بالكيد كل بلاد )
( ومن دون ما منتك نفسك خاليا ** ومناك إبراهيم شوك قتاد )
ثم أحس إدريس من إسحاق بن محمد الأوربي بانحراف عنه وموالاة لابن الأغلب فقتله سنة
ثنتين وتسعين ومائة وصفا له المغرب وتمكن سلطانه به والله غالب على أمره بناء
مدينة فاس
لما كثرت الوفود من العرب وغيرهم على إدريس رحمه الله وضاقت بهم مدينة وليلى اراد
أن يبني لنفسه مدينة يسكنها هو وخاصته ووجوه دولته فركب يوما في جماعة من حاشيته
وخرج يتخير البقاع فوصل إلى جبل زالغ فأعجبه ارتفاعه وطبب هوائه وتربته فاختط
بسنده مدينة مما يلي الجوف وشرع في بنائها فبنى بعضا من الدور ونحو الثلث من السور
فأتى السيل من أعلى الجبل في بعض الليالي فهدم السور والدور وحمل ما حول ذلك من
الخيام والزروع وألقاها في نهر سبو فكف إدريس عن البناء واستمر الحال على ذلك مدة
يسيرة ثم خرج ثانية يتصيد ويرتاد لنفسه موضعا يبني فيه ما قد عزم عليه فانتهى إلى
نهر سبو حيث هي اليوم حمة خولان فأعجبه الموضع
____________________
لقربه من الماء ولأجل الحمة
التي هناك والحمة كما في القاموس كل عين فيها ما حار ينبع منها ويستشفى به فعزم
إدريس على أن يبني هناك مدينة وشرع في حفر الأساس وعمل الجيار وقطع الخشب وابتدأ
بالبناء ثم فكر في نهر سبو وما يأتي به من الممدود والسيول زمان الشتاء وما يحصل
بذلك من الضرر العظيم للناس فكف عن البناء ورجع إلى وليلى
ثم بعث وزيره عمير بن مصعب الأزدي يرتاد له موضعا يبني فيه المدينة التي عزم عليها
فسار عمير في جماعة يقص الجهات ويتخير البقاع والترب والمياه حتى انتهى إلى فحص
سايس فأعجبه المحل فنزل هناك على عين ماء تطرد في مرج أخضر فتوضأ وصلى الظهر هو
وجماعة القوم الذين معه ثم دعا الله تعالى أن ييسر عليه مطلبه ثم ركب وحده وأمر
الجماعة أن ينتظروه حتى يعود إليهم فنسبت العين إليه من يومئذ ودعيت عين عمير إلى
الآن وعمير هذا هو جد بني الملجوم من بيوتات فاس وكبرائهم فأوغل عمير في فحص سايس
حتى انتهى إلى العيون التي ينبع منها وادي فاس فرأى بها من عناصر الماء ما ينيف
على الستين عنصرا ورأى مياهها تطرد في فسيح من الأرض وحول العيون شعراء من شجر
الطرفاء والطخش والعرعار والكلخ وغير ذلك فشرب من الماء فاستطابه ونظر إلى ما حوله
من المزارع التي ليست على نهر سبو فأعجبته فانحدر مع مسيل الوادي حتى انتهى إلى
موضع مدينة فاس اليوم فنظر فإذا ما بين الجبلين غيضة ملتفة الأشجار مطردة العيون والأنهار
وفي جانب منها خيام من شعر يسكنها قوم من زواغة يعرفون ببني الخير وقوم من زناتة
يعرفون ببني يرغش وكان بنو يرغش على دين المجوسية وكان بيت نارهم بالموضع المعروف
بشيبوبة وكان البعض منهم على دين اليهودية والبعض على دين النصرانية
وكان بنو الخير ينزلون بعدوة القرويين وبنو يرغش ينزلون بعدوة الأندلس وكانوا قلما
يفترون عن القتال لاختلاف أهوائهم وتباين أديانهم
____________________
فرجع عمير إلى إدريس وأعلمه بما رأى من الغيضة وساكنيها وما وقع عليه اختياره فيها
فجاء إدريس لينظر إلى البقعة فألفى بني الخير وبني يرغش يقتتلون فأصلح بينهم
وأسلموا على يده
واشترى منهم الغيضة بستة آلاف درهم هم فرضوا بذلك ودفع لهم الثمن وأشهد عليهم بذلك
على يد كاتبه أبي الحسن عبد الله بن مالك الخزرجي
ثم ضرب أبنتيه بكرواوة وشرع في بناء المدينة فاختط عدوة الأندلس غرة ربيع الأول
سنة اثنتين وتسعين ومائة
وفي سنة ثلاث بعدها اختط عدوة القرويين وبنى مساكنه بها وانتقل إليها وقد كان أولا
أدار السور على عدوة الأندلس وبنى بها الجامع المعروف بجامع الأشياخ وأقام فيه
الخطبة ثم انتقل ثانيا إلى عدوة القرويين كما قلنا ونزل بالموضع المعروف بالمقرمدة
وضرب فيه قيطونة وأخذ في بناء جامع الشرفاء وأقام فيه الخطبة أيضا ثم شرع في بناء
داره المعروفة الآن بدار القيطون التي يسكنها الشرفاء الجوطيون من ولده ثم بنى
القيسارية إلى جانب المسجد الجامع وأدار الأسواق حوله وأمر الناس بالبناء وقال لهم
من بنى موضعا أو اغترسه قبل تمام السور فهو له فبنى الناس من ذلك شيئا كثيرا
واغترسوا ووفد عليه جماعة من الفرس من أرض العراق فأنزلهم بغيضة هناك كانت على
العين المعروفة بعين علون
وكان علون عبدا أسود يأوي إلى تلك الغيضة ويقطع الطريق بها على المارة فتحامى
الناس غيضته وتناذروها فأعلم إدريس رحمه الله بشأنه فبعث في طلبه خيلا قبضوا عليه
وجاؤوا به إليه فأمر بقتله وصلبه على شجرة كانت على العين فأضيفت إليه العين من
يومئذ وقيل عين علون
ثم أدار إدريس السور على عدوة القرويين وكانت من لدن باب السلسلة إلى غدير الجوزاء
قال عبد الملك الوراق كانت مدينة فاس في القديم بلدين لكل بلد منهما سور يحيى ط به
وأبواب تختص به والنهر فاصل بينهما وسميت
____________________
إحدى العدوتين عدوة القرويين
لنزول العرب الوافدين من القيروان بها وكانوا ثلاثمائة أهل بيت وسميت الأخرى عدوة
الأندلس لنزول العرب الوافدين من الأندلس بها وكانوا جما غفيرا يقال أربعة آلاف
أهل بيت
وكان الحكم بن هشام الأموي صاحب الأندلس صدرت منه لأول إمارته هنات أوجبت قيام
جماعة من أهل الورع عليه فيهم يحيى بن يحيى الليثي صاحب مالك وراوي الموطأ عنه
وطالوت الفقيه وغيرهما فخلعوا الحكم وبايعوا بعض قرابته وكانوا بالربض الغربي من
قرطبة فقاتلهم الحكم وكثروه وكادوا يأتون عليه ثم أظفره الله بهم ووضع فيهم السيف
ثلاثة أيام وهدم دورهم ومساجدهم وفر الباقون منهم فلحقوا بفاس المغرب الأقصى
وبالإسكندرية من أرض مصر فأما اللاحقون بفاس فأنزلهم إدريس رحمه الله بعدوة الأندلس
فأضيفت إليهم وأما اللاحقون بالإسكندية فثاروا بها بعد حين فزحف إليهم عبد الله بن
طاهر الخزاعي صاحب مصر من قبل المأمون بن الرشيد فقاتلهم ونفاهم إلى جزيرة إقريطش
فلم يزالوا بها إلى أن ملكها الفرنج من أيديهم بعد مدة
وذكر ابن غالب في تاريخه أن الإمام إدريس لما فرغ من بناء مدينة فاس وحضرت الجمعة
الأولى صعد المنبر وخطب الناس ثم رفع يديه في آخر الخطبة فقال اللهم إنك تعلم أني
ما أردت ببناء هذه المدينة مباهاة ولا مفاخرة ولا رياء ولا سمعة ولا مكابرة وإنما
أردت أن تعبد بها ويتلى بها كتابك وتقام بها حدودك وشرائع دينك وسنة نبيك محمد صلى
الله عليه وسلم ما بقيت الدنيا اللهم وفق سكانها وقطانها للخير وأعنهم عليه واكفهم
مؤنة أعدائهم وأدر عليهم الأرزاق وأغمد عنهم سيف الفتنة والشقاق إنك على كل شيء
قدير
____________________
فأمن الناس على دعائه فكثرت الخيرات بالمدينة وظهرت بها البركات
ومن محاسن فاس أن نهرها يشقها بنصفين وتتشعب جداوله في دورها وحماماتها وشوارعها
وأسواقها وتطحن به أرحاؤها ثم يخرج منها وقد حمل أقذارها وازبالها إلى غير ذلك من
عيون الماء التي تنبع بداخلها وتتفجر من بيوتها تجاوز الحصر كثرة وقد مدحها الفقيه
الزاهد أبو الفضل ابن النحوي بقوله
( يا فاس جميع الحسن مسترق ** وساكنوك ليهنهم بما رزقوا )
( هذا نسميك أم روح لراحتنا ** وماؤك السلسل الصافي أم الورق )
( أرض تخللها الأنهار داخلها ** حتى المجالس والأسواق والطرق )
وقال الفقيه الكاتب أبو عبد الله المغيلي يتشوق إلى فاس وكان يلي خطة القضاء
بمدينة آزمور
( يا فاس حيا الله أرضك من ثرى ** وسقاك من صوب الغمام المسبل )
( يا جنة الدنيا التي أربت على ** حمص بمنظرها البهي الأجمل )
( غرف على غرف ويجري تحتها ** ماء ألذ من الرحيق السلسل )
( وبساتن من سندس قد زخرفت ** بجداول كالأيم أو كالمقصل )
وبجامع القروين شرف ذكره ** أنس بذكراه يهيج تململ )
( وبصحنه زمن المصيف محاسن ** فمع العشي الغرب منه استقبل )
( واجلس إزاء الخصة الحسنا به ** واكرع بها عني فديتك وانهل )
____________________
غزو إدريس بن إدريس المغربين
واستيلاؤه عليهما
لما فرغ إدريس من بناء مدينة فاس وانتقل إليها بمحلته واستوطنها بحاشيته وأرباب
دولته واتخذها دار ملكه أقام بها إلى سنة سبع وتسعين ومائة فخرج غازيا بلاد
المصامدة فانتهى إليها واستولى عليها ودخل مدينة نفيس ومدينة أغمات وفتح سائر بلاد
المصامدة وعاد إلى فاس فأقام بها إلى سنة تسع وتسعين ومائة فخرج في المحرم برسم
غزو قبائل نفزة من أهل المغرب الأوسط ومن بقي هناك على دين الخارجية من البربر
فسار حتى غلب عليهم ودخل مدينة تلمسان فنظر في أحوالها وأصلح سورها وجامعها وصنع
فيها منبرا قال أبو مروان عبد الملك الوراق دخلت مدينة تلمسان سنة خمس وخمسين
وخمسمائة فرأيت في رأس منبرها لوحا من بقية منبر قديم قد سمر عليه هنالك مكتوبا
فيه هذا ما أمر به الإمام إدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي رضي
الله عنهم في شهر المحرم سنة تسع وتسعين ومائة اه وقد تقدم لنا ما يخالف هذا والله
أعلم
وأقام إدريس بمدينة تلمسان وأحوازها يدبر أمرها ويصلح أحوالها ثلاث سنين ثم رجع
إلى مدينة فاس
قال داود بن القاسم الأوربي شهدت مع إدريس بن إدريس بعض
____________________
غزواته مع الخوارج الصفرية من
البربر فلقيناهم وهم ثلاثة أضعافنا فلما تقارب الجمعان نزل إدريس فتوضأ وصلى
ركعتين ودعا الله تعالى ثم ركب فرسه وتقدم للقتال قال فقاتلناهم قتالا شديد فكان
إدريس يضرب في هذا الجانب مرة ويكر في هذا الجانب الآخر مرة ولم يزل كذلك حتى
ارتفع النهار ثم رجع إلى رايته فوقف بإزائها والناس يقاتلون بين يديه فطفقت أتأمله
وأديم النظر إليه وهو تحت ظلال البنود يحرض الناس ويشجعهم فأعجبني ما رأيت من
ثباته وقوة جأشه فالتفت نحوي وقال يا داود ما لي أراك تديم النظر إلي قلت أيها
الإمام إنه قد أعجبني منك خصال لم أرها اليوم في غيرك قال وما هي قلت أولاها ما
أراه من ثبات قلبك وطلاقة وجهك عند لقاء العدو قال ذاك ببركة جدنا صلى الله عليه
وسلم ودعائه لنا وصلاته علينا ووراثة من أبينا علي بن أبي طالب قلت وأراك تبصق
بصاقا مجتمعا وأنا أطلب قليل الريق في فمي فلا أجد قال يا داود ذاك لقوة جأشي
واجتماع لبي عند الحرب وعدم ريقك لطيش عقلك وافتراق لبك قلت وأنا أيضا أتعجب من
كثرة تقلبك في سرجك وقلة قرارك عليه قال ذاك مني زمع إلى القتال وصرامة فيه فلا
تظنه رعبا وأنشأ يقول
( أليس أبونا هاشم شد أزره ** وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب )
( فلسنا نمل الحرب حتى تملنا ** ولا نشتكي مما يؤول من النصب )
____________________
وفاة إدريس بن إدريس رحمه الله
قال ابن خلدون انتظمت لإدريس بن إدريس كلمة البربر كلمة البربر ومحى دعوة الخوارج
منهم واقتطع المغربين عن دعوة العباسيين من لدن السوس الأقصى غلى وادي شلف ودافع
إبراهيم بن الأغلب عن حماه بعد ما ضايقه بالمكايد واستفساد الأولياء حتى قتلوا
راشد مولاه وارتاب إدريس بالبربر فصالح بن الأغلب وسكن من غربه وضرب السكة باسمه
وعجز الأغالبة بعد ذلك عن مدافعة هؤلاء الأدارسة ودافعوا خلفاء بين العباس
بالمعاذير الباطلة وصفا ملك المغرب لإدريس واستمر بدار ملكه من فاس ساكنا وادعا
مقتعدا أريكته مجتنيا ثمرته إلى أن توفاه الله ثاني جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة
ومائتين وعمره نحو ست وثلاثين سنة ودفن بمسجده بإزاء الحائط الشرقي منه وقال
البرنسي إنه توفي بمدينة وليلى ودفن إلى جنب أبيه
وكان سبب وفاته أنه أكل عنبا فشرق بحبة منه فمات لحينه وخلف من الولد اثني عشر
ذكرا أولهم محمد وعبد الله وعيسى وإدريس وأحمد وجعفر ويحيى والقاسم وعمر وعلي
وداود وحمزة كذا في القرطاس وزاد ابن حزم الحسن والحسين وولي الأمر منهم بعده محمد
وهو أكبرهم
____________________
الخبر عن دولة محمد بن إدريس
رحمه الله
لما توفي إدريس بن إدريس رحمه الله قام بالأمر بعده ابنه محمد بعهد منه إليه ولما
ولي قسم بلاد المغرب بين اخوته وذلك بإشارة جدته كنزة أم إدريس فاختص القاسم منها
بطنجة وسبتة وقصر مصمودة وقلعة حجر النسر وتطوان وما انضم إلى ذلك من القبائل
والبلاد واختص عمر منها بتيكساس وترغة وما بينهما من قبائل صنهاجة وغمارة واختص
داود ببلاد هوارة وتسول وتازا وما بين ذلك من قبائل مكناسة وغياثة واختص يحيى
بآصيلا والعرايش والبصرة وبلاد ورغة وما والى ذلك واختص عيسى بسلا وشالة وآزمور
وتامسنا وما انضم إلى ذلك من القبائل واختص حمزة بمدينة وليلى وأعمالها واختص أحمد
بمدينة مكناسة ومدينة تادلا وما بينهما من بلاد فازاز واختص عبد الله بأغمات وبلد
نفيس وجبال المصامدة وبلاد لمطة والسوس الأقصى وأبقى الآخرين في كفالته وكفالة
جدتهم كنزة لصغرهم
وبقيت تلمسان لولد عمه سليمان بن عبد الله فإن إدريس بن إدريس لما غزا تلمسان
وأقام بها ثلاث سنين كما سبق ودوخ بلاد زناتة واستوسقت له طاعتهم عقد عليها لبني
عمه سليمان بن عبد الله فلما توفي إدريس واقتسم بنوه أعمال المغرب كانت تلمسان في
سهم عيسى بن إدريس بن
____________________
محمد بن سليمان بن عبد الله
واستمرت بأيديهم إلى أن تلاشى أمرهم بدخول العبيدين عليهم قاله ابن خلدون
وأقام محمد بن إدريس بدار مكة من فاس مقتعدا على أريكته واخوته ولاة على بلاد
المغرب قد ضبطوا أعمالها وسدوا ثغورها وأمنوا سبلها وحسنت سيرتهم في ذلك إلى أن
كان ما نذكره
حدوث الفتنة بين بني إدريس ثم خرج على محمد بن إدريس أخوه عيسى بمدينة آزمور ونبذ
طاعته وطلب الأمر لنفسه فكتب محمد إلى أخيه القاسم صاحب طنجة يأمره بحرب عيسى
فامتنع من ذلك فكتب محمد إلى أخيه عمر صاحب تيكساس بمثل ما كتب به إلى القاسم
فامتثل أمره وزحف إلى عيسى في قبائل البربر وأمده محمد بألف فارس من زناتة فأوقع
عمر بعيسى وهزمه وطرده عن عمله وكتب إلى الأمير محمد بالفتح فشكره على ذلك وولاه
على ما فتحه من عمل عيسى وأمره مع ذلك بالمسير إلى قتال القاسم الذي عصى أمره أولا
فزحف عمر إلى القاسم ونزل عليه بظاهر طنجة فخرج إليه القاسم ودارت بينهما حرب
شديدة هزم فيها القاسم واستولى عمر على ما بيده من البلاد فصار الريف البحري كله
في عمل عمر من تيكيساس وبلاد غمارة إلى سبتة ثم إلى طنجة وهذا ساحل البحر الرومي
ثم ينعطف إلى آصيلا والعرايش ثم إلى سلا ثم آزمور وبلاد تامسنا وهذا ساحل البحر
المحيط وتزهد القاسم بعد هذه الحرب فبنى مسجدا بساحل البحر قرب آصيلا بموضع يعرف
بتاهدرات على ضفة النهر هناك وأعرض عن الدنيا وأقام يعبد الله إلى أن مات رحمه
الله
واتسعت ولاية عمر بن إدريس وخلصت طويته لأخيه محمد الأمير إلى أن توفي عمر بموضع
يعرف بفج الفرس من بلاد صنهاجة في دولة أخيه محمد
____________________
سنة عشرين ومائتين فحمل إلى
فاس وصلى عليه الأمير محمد ودفن مع أبيه وعمر هذا هو جد الأشراف الحموديين
المالكين للأندلس بعد بني أمية
وعقد الأمير محمد على عمله لولده علي بن عمر إلى أن كان من أمره ما نذكره وأما
عيسى فيقال إنه توفي بآيت عتاب وله بها ذرية والله أعلم وفاة محمد بن إدريس رحمه
الله
وأقام الأمير محمد بن إدريس بعد وفاة أخيه عمر سبعة أشهر وتوفي بمدينة فاس في ربيع
الثاني سنة إحدى وعشرين ومائتين ودفن بشرقي جامعها مع أبيه وأخيه بعد أن عهد
بالأمر لابنه علي بن محمد المعروف بحيدرة على ما سيأتي الخبر عن دولة علي بن محمد
بن إدريس
لما توفي محمد بن إدريس بايع الناس لابنه علي بن محمد بعهد منه إليه ويلقب علي هذا
بحيدرة على لقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو جد الأشراف العلميين أهل جبل
العلم ومنهم المشيشيون أولاد مولانا عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه والوزانيون
أولاد مولانا عبد الله الشريف وينتهي نسب هؤلاء إلى المولى يملح بن مشيش أخي
المولى عبد السلام بن مشيش
وكان سن علي حيدرة يوم بويع تسع سنين وأربعة أشهر فقام بأمره الأولياء والحاشية من
العرب والبربر وأحسنوا كفالته وطاعته وكانت أيامه خير أيام
وقال ابن أبي زرع ظهر لعلي هذا من الذكاء والفضل ما يقتضيه شرفه
____________________
وسار بسيرة أبيه وجده في العدل
فكان الناس في أيامه في أمن ودعة إلى أن توفي في شهر رجب سنة أربع وثلاثين ومائتين
وعهد بالأمر لأخيه يحيى بن محمد على ما سيأتي الخبر عن دولة يحيى بن محمد بن إدريس
قال ابن خلدون قام يحيى بن محمد بن إدريس بالأمر وامتد سلطانه وعظمت دولته وحسنت
آثار أيامه واستبحر عمران فاس وبنيت بها الحمامات والفنادق للتجار وبنيت خارجها
الأرباض ورحل إليها الناس من الثغور القاصية
وقال ابن أبي زرع قصد إليها الناس من الأندلس وإفريقية وجميع بلاد المغرب بناء
مسجد القرويين بفاس
قال ابن أبي زرع كان موضع مسج القرويين أرضا بيضاء لرجل من هوارة كان والده قد
حازها أيام بناء فاس ولما قدم وفد القيروان على إدريس الأصغر حسبما تقدم كان فيهم
امرأة اسمها فاطمة بنت محمد الفهري وتكنى أم البنين فنزلت في أهل بيتها بالقرب من
موضع المسجد المذكور ثم مات زوجها وإخوتها فورثت منهم مالا جسيما وكان من حلال
فأرادت أن تنفقه في وجوه الخير وكانت لها نية صالحة فعزمت على بناء مسجد تجد ثوابه
عند الله فاشترت البقعة من ربها وشرعت في حفر أساس المسجد وبناء جدرانه وذلك يوم
السبت فاتح رمضان المعظم سنة خمس وأربعين ومائتين فبنته بالطابية والكدان
____________________
وكانت الطريقة التي سلكتها في بنائه أنها التزمت أن تأخذ التراب وغيره من مادة
البناء من نفس البقعة دون غيرها مما هو خارج عن مساحتها فحفرت في أعماقها كهوفا
وجعلت تستخرج منها التراب الجيد والحجر الكدان وتبني به وأنبطت بها بئرا يستقى
منها الماء للبناء والشرب وغير ذلك وكان ذلك كله تحريا منها أن لا تدخل في بناء
المسجد شبهة فعادت بركة نيتها وورعها على المسجد المذكور حتى كان منه ما ترى
قالوا ولم تزل فاطمة المذكورة صائمة من يوم شرع في بنائه إلى أن تم وصلت فيه شكرا
لله تعالى
وكانت مساحة المسجد يوم بني أربع بلاطات وصحنا صغيرا وجعلت محرابه في موضع الثريا
الكبرى وجعلت طوله من الغرب إلى الشرق مائة وخمسين شبرا وبنت به صومعة غير مرتفعة
بموضع القبة التي على رأس العنزة اليوم
واستمر الحال على ذلك إلى أن انقرضت دولة الأدارسة وجاءت دولة زناتة من بعدها
وأداروا السور على العدوتين معا القرويين والأندلس وزادوا في مسجديهما زيادة كثيرة
فنقلوا الخطبة من مسجد الشرفاء إلى مسجد القرويين ومن مسجد الأشياخ إلى مسجد
الأندلس وذلك صدر المائة الرابعة
ثم لما استولى عبد الرحمن الناصر صاحب الأندلس على فاس وبلاد العدوة استعمل على
فاس عاملا له اسمه أحمد بن أبي بكر الزناتي ثم اليفرني فاستأذن الناصر في إصلاح
مسجد القرويين والزيادة فيه فأذن له وبعث إليه بمال من خمس الغنائم فزاد فيه زيادة
بينة وأزال الصومعة القديمة عن موضعها وبنى الصومعة الموجودة الآن وكتب على بابها
في مربعة بالجص واللازورد هذا ما أمر به أحمد بن أبي بكر الزناتي هداه
____________________
الله ووفقه ابتغاء ثواب الله
وجزيل إحسانه
وابتدأ العمل في هذه الصومعة يوم الاثنين غرة رجب سنة أربع وأربعين وثلاثمائة وفرغ
من بنائها في شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين وثلاثمائة
وركب في أعلى المنارة سيف الإمام إدريس بن إدريس تبركا به وذلك أن بعض حفدة إدريس
رحمه الله تنازعوا في السيف المذكور وأراد كل أن يحوزه لنفسه فقال لهم الأمير أحمد
بن أبي بكر هل لكم في أن تبيعوني هذا السيف قالوا وما تصنع به قال أجعله في أعلى
المنارة فقالوا أما إذا أردت هذا فنحن نهبه لك مجانا فوهبوه له فركبه في أعلى
المنارة
وكانت مبنية من الحجر المنجور وفيها ثقب يعشش فيها الطير من الحمام والزرزور
وغيرهما ويتأذى المسجد والناس بها واستمر الحال على ذلك إلى أن كانت سنة ثمان
وثمانين وستمائة أيام السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق المريني فاستأذن القاضي
أبو عبد الله بن أبي الصبر السلطان يوسف المذكور في تلبيس المنارة وتبييضها فأذن
له فلبسها وبيضها ودلكها حتى صارت كالمرآة الصقلية
وقال ابن خلدون ثم أوسع في خطه المسجد المذكور المنصور بن أبي عامر صاحب الأندلس
وأعد له السقاية والسلسلة بباب الحفاة ثم أوسع في خطته علي بن يوسف اللمتوني ثم
ملوك الموحدين وبني مرين واستمرت العمارة به وانصرفت هممهم إلى تشييده والمنافسة
في الاهتبال به فبلغ الاحتفال فيه ما شاء حسبما هو مذكور في تواريخ المغرب أه
وفي أيام يحيى بن محمد صاحب الترجمة وذلك في سنة سبع وثلاثين ومائتين قام رجل مؤذن
بناحية تلمسان يدعي النبوة وتأول القرآن على غير وجهه فاتبعه خلق كثير من الغوغاء
وكان من بعض شرائعه أنه ينهى عن قص الشعر وتقليم الأظفار ونتف الإبطين والاستحداد
وأخذ الزينة ويقول لا تغيير لخلق الله فأمر أمير
____________________
تلمسان بالقبض عليه فهرب وركب
البحر من مرسى هنين إلى الأندلس فشاع بها أيضا خبره وتبعه من سفهاء الناس أمة
عظيمة فبعث إليه ملك الأندلس فاستتابه فلم يتب فقتله وصلبه وهو يقول أتقتلون رجلا
أن يقول ربي الله الخبرعن دولة يحيى بن يحيى بن محمد بن إدريس لما توفي يحيى بن
محمد الذي بنى مسجد القرويين في أيامه ولي الأمر من بعده ابنه يحيى بن يحيى بن
محمد بن إدريس فاساء السيرة وكثر عيثه في الحرم ودخل على جارية من بنات اليهود في
الحمام وكانت بارعة في الجمال فراودها عن نفسها فاستغاثت وبادر الناس إليها
بالإنكار وثابت العامة عليه وتولى كبر ذلك عبد الرحمن بن أبي سهل الجذامي وكانت
زوجة يحيى المذكور وهي عاتكة بنت علي بن عمر بن إدريس صاحب الريف والسواحل أشارت
عليه بالاختفاء بعدوة الأندلس ريثما تسكن الفتنة فتوارى بها فمات من ليلته أسفا
على ما صنع بنفسه وما وقع فيه من العار
واستولى عبد الرحمن بن أبي سهل على فاس وقام بأمرها فكتبت عاتكة بنت علي إلى أبيها
تعلمه بالخبر واستدعاه مع ذلك أهل الدولة من العرب والبربر والموالي فجمع حشمه
وجيشه وجاء إلى فاس فاستولى عليها
وانقطع الملك من عقب محمد بن إدريس وصار بعد هذا تارة يكون في عقب عمر بن إدريس
صاحب الريف وتارة يكون في عقب القاسم بن إدريس الزاهد على ما نذكره
____________________
الخبر عن دولة علي بن عمر بن
إدريس
لما دخل علي بن عمر مدينة فاس واستقر بها بايعه الناس ودخلت الكافة في طاعته وخطب
له على جميع منابر المغرب واستقام له الأمر إلى أن ثار عليه عبد الرزاق الفهري
وكان من الخوارج الصفرية وأصله من وشقة بلد بالأندلس فقام بجبال مديونة من أعمال
فاس على مسيرة يوم ونصف منها فتبعه خلق كثير من البربر من مديونة وغياثة وغيرهم
فبنى قلعة منيعة ببعض جبال مديونة وسماها وشقه باسم بلده قال ابن أبي زرع وهي
باقية بتلك الناحية حتى الآن
ثم زحف إلى قرية صفرون فدخلها وبايعه كافة البربر الصفرونية ثم زحف بهم إلى فاس
فخرج إليه علي بن عمر بن إدريس في عسكر ضخم فكانت بينهم حرب شديدة كان الظفر في
آخرها لعبد الرزاق فانهزم علي بن عمر وقتل خلق كثير من جنده وفر بنفسه إلى بلاد
أوربة فدخل عبد الرزاق مدينة فاس وملك عدوة الأندلس وخطب له بها وامتنع منه أهل
عدوة القرويين وبعثوا إلى يحيى بن القاسم الزاهد وكان ما نذكره الخبر عن دولة يحيى
بن القاسم بن إدريس
لما فر علي بن عمر عن فاس واستولى عبد الرزاق الصفري على عدوة الأندلس بعث أهل فاس
إلى يحيى بن القاسم بن إدريس ويعرف يحيى هذا بالعدام فوصل إليهم فبايعوه وولوه على
أنفسهم ويحيى العدام هذا هو جد الأشراف الجوطيين بفاس فإنهم أولاد يحيى الجوطي بن
محمد بن يحيى العدام وإنما قيل له الجوطي نسبة إلى جوطة بضم الجيم وبالطاء
____________________
المهملة قرية كانت على نهر سبو
بالعدوة الجنوبية منه نزلها بيحيى بن محمد فنسب إليها وقبره معروف بها إلى الآن
ولما استقل بيحيى بن القاسم بالأمر قاتل عبد الرزاق حتى أخرجه من عدوة الأندلس
فدخلها وبايعه أهلها وجميع من نزل بها من أهل الأندلس الربضيين ربض قرطبة واستعمل
يحيى بن القاسم عليهم ثعلبة بن محارب بن عبد الله الأزدي من ولد المهلب بن أبي
صفرة وهو ربضي أيضا فلم يزل واليا على عدوة الأندلس إلى أن توفي فاستعمل يحيى
مكانه ولده عبد الله بن ثعلبة المعروف بعبود إلى أن توفي أيضا فاستعمل الأمير يحيى
مكانه ولده محارب بن عبود بن ثعلبة
وخرج الأمير يحيى بن القاسم إلى قتال الصفرية فكانت له معهم حروب ووقائع كثيرة ولم
يزل أميرا على فاس وأعمالها إلى أن اغتاله الربيع بن سليمان سنة اثنتين وتسعين ومائتين
وكانت في أيام هؤلاء الأمراء أحداث نذكرها
ففي سنة ثلاث وخمسين ومائتين كان ببلاد العدوة والأندلس قحط شديد نضبت منه المياه
واستمر إلى سنة ستين
وفي سنة أربع وخمسين كسف القمر كله من أول الليل حتى أصبح ولم ينجل
وفي سنة ستين ومائتين عم القحط والغلاء جميع بلاد الأندلس والمغرب وإفريقية ومصر
والحجاز حتى رحل الناس عن مكة إلى الشام ولم يبق بها إلا نفر يسير مع سدنة الكعبة
ثم كان بالمغرب والأندلس وباء عظيم مع غلاء في الأسعار وعدمت الأقوات فهلك خلق
كثير
وفي سنة ست وستين ومائتين كانت بالسماء حمرة شديدة من أول الليل إلى آخره لم يعهد
قبلها مثلها وذلك ليلة السبت لتسع بقين من صفر من السنة المذكورة
وفي سنة سبع وستين ومائتين في يوم الخميس الثاني والعشرين من
____________________
شوال منها كانت زلزلة عظيمة لم
يسمع بمثلها تهدمت منها القصور وانحطت منها الصخور من الجبال وفر الناس من المدن
إلى البرية من شدة اضطراب الأرض وتساقطت السقوف والحيطان وفرت الطيور عن أوكارها
وماجت في السماء زمانا حتى سكنت الزلزلة وعمت هذه الرجفة جميع بلاد الأندلس سهلها
وجبالها وجميع بلاد العدوة من تلمسان إلى طنجة ومن البحر الرومي إلى أقصى المغرب
إلا أنها لم يمت فيها أحد لطفا من الله تعالى بخلقه
وفي سنة ست وسبعين ومائتين طبقت الفتنة جميع آفاق الأندلس والمغرب وإفريقية
وفي سنة خمس وثمانين ومائتين كانت المجاعة الشديدة التي عمت جميع بلاد الأندلس
وبلاد العدوة حتى أكل الناس بعضهم بعضا ثم عقب ذلك وباء ومرض وموت كبير هلك فيه من
الخلق ما لا يحصى فكان يدفن في القبر الواحد عدد من الناس لكثرة الموتى وقلة من
يقوم بهم وكانوا يدفنون من غير غسل ولا صلاة والأمر لله وحده الخبر عن دولة يحيى
بن إدريس بن عمر بن إدريس
لما قتل يحيى العدام في التاريخ المتقدم ولي الأمر من بعده يحيى بن إدريس بن عمر
بن إدريس فبايعه أهل عدوة فاس وخطب له بهما وامتد ملكه على جميع أعمال المغرب وخطب
له على سائر منابره
وكان يحيى هذا واسطة عقد البيت الإدريسي أعلاهم قدرا وأبعدهم ذكرا وأكثرهم عدلا
وأغزرهم فضلا وأوسعهم ملكا وكان فقيها حافظا للحديث ذا فصاحة وبيان بطلا شجاعا
حازما ذا صلاح ودين وورع
قال ابن خلدون لم يبلغ أحد من الأدراسة مبلغه في الدولة والسلطان إلى أن طما على
ملكه عباب العبيديين القائمين بإفريقية فأغرقه
____________________
استيلاء العبيديين من الشيعة
على المغرب الأقصى وقدوم قائدهم مصالة بن حبوس إلى فاس
قد قدمنا عند ذكر ولاة المغرب أن إبراهيم بن الأغلب كان آخرهم وأنه أورث بإفريقية
ملكا لبنيه فاستمرت دولتهم بها إلى أواخر المائة الثالثة وانقرضت على يد أبي عبد
الله المحتسب داعية العبيديين من الشيعة فإن المحتسب حج في بعض السنين واجتمع بمكة
بحجاج كتامة من أهل المغرب فتعرف إليهم ووعدهم بظهور المهدي من آل البيت على يدهم
ويكون لهم به الملك والسلطان فتبعوه على رأيه وصحبهم إلى بلادهم ورأس فيهم رئاسة
دينية وقرر لهم مذهب الشيعة فاتبعوه وتمسكوا به ثم بايعوا مولاه عبيد الله المهدي
أول خلفاء العبيديين فاستولى على إفريقية في خبر طويل
ثم سمت همته إلى تملك المغرب الأقصى فأغزاه قائده مصالة بن حبوس المكناسي صاحب
تاهرت والمغرب الأوسط فزحف مصالة إلى المغرب الأقصى سنة خمس وثلاثمائة وانتهى إلى
فاس فبرز إليه يحيى بن إدريس لمدافعته في جموع العرب والبربر والموالي والتقوا
بقرب مكناسة فانهزم يحيى وعاد مفلولا إلى فاس ثم تقدم مصالة إلى فاس وحاصرها إلى
أن صالحه يحيى على مال يؤديه إليه وعلى البيعة لعبيد الله المهدي فقبل يحيى الشرط
وخرج عن الأمر وأنفذ بيعته إلى المهدي وأبقى عليه مصالة في سكنى فاس وعقد له على
عملها خاصة وعقد لابن عمه موسى بن أبي العافية المكناسي على ما سوى ذلك من بلاد
المغرب
وكان موسى هذا صاحب تسول وبلاد تازا وكان كبير مكناسة بالمغرب الأقصى على الإطلاق
وكان قد خدم مصالة حين قدم المغرب وتعرف إليه وهاداه وقاتل معه في جميع حروبه
بالمغرب فحسنت منزلته لديه وولاه بلاد المغرب كلها عدى فاسا وأعمالها فإنه تركها
للأمير يحيى كما قلنا
____________________
وصار المغرب الأقصى في ملكه
العبيديين واندرجت دولة الأدراسة في دولتهم فكان موسى بن أبي العافية بعد ذهاب
مصالة كلما أراد الظهور بالمغرب والاستبداد به غمره يحيى بن إدريس بحسبه ونسبه
وفضله ودينه فقطع به كلما كان يريده فكان على قلب موسى منه حمل ثقيل فلما قدم
مصالة المغرب في كرته الثانية وذلك سنة تسع وثلاثمائة سعى موسى بن أبي العافية
عنده بيحيى للقائه والسلام عليه في جماعة من وجوه دولته فقبض مصالة عليهم وقيد
بيحيى بالحديد وتقدم إلى فاس فدخلها ويحيى بين يديه موثقا على جمل ثم عذبه بأنواع
العذاب حتى استصفى أمواله وذخائره ثم نفاه إلى نواحي آصيلا وقد ساءت حاله وانفض
جمعه فأقام عند بني عمه ببلاد الريف مدة فأعطوه مالا ووصلوه بما يقيم به أوده
ويستعين به على أمره فلم يرض ذلك وارتحل عنهم يريد إفريقية فعرض له موسى بن ابي
العافية في طريقة فقبض عليه وسجنه بمدينة آلكاي قريبا من عشرين سنة ثم اطلقه بعد
ذلك قالوا وكان أبوه إدريس بن عمر قد دعا عليه أن يميته الله جائعا غريبا فاستجيب
له فيه فخرج يحيى من سجن ابن أبي العافية إلى إفريقية وهو في فقر وذلة قد بلغ سو ء
الحال منه كل مبلغ فوصل إلى المهدية على تلك الحال فوافق بها فتنة أبي يزيد مخلد
بن كيداد اليفرني وحصاره إياها فمات بها جائعا غريبا سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة
رحمه الله
____________________
عود المغرب الأقصى إلى
الأدارسة وظهور الحسن الحجام بن محمد بن القاسم بن إدريس
لما قبض مصالة على يحيى بن إدريس واستصفى أمواله كما قلنا استعمل على فاس ريحان
الكتامي وعاد إلى القيروان فأقام ريحان عاملا على فاس وأحوازها نحو ثلاثة أشهر
وثار عليه الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس المعروف بالحجام وعرف بذلك لأنه كان
بينه وبين عمه أحمد بن القاسم بن إدريس حرب فحمل الحسن على فارس من أصحاب عمه
فطعنه في موضع المحاجم ثم فعل ذلك بثان وثالث لا يطعنهم إلا في موضع المحاجم فقال
عمه أحمد إن ابن أخي الحجام فلزمه ذلك اللقب وفي ذلك يقول بعضهم
( وسميت حجاما ولست بحاجم ** ولكن لطعن في مكان المحاجم )
وكانت ثورة الحجام على ريحان سنة عشر وثلاثمائة أتى إلى فاس في جمع من شيعته
وأنصاره وكان مقداما شجاعا فدخلها على حين غفلة من أهلها فاستولى عليها وقتل ريحان
وقيل نفاه عنها واجتمع الناس على بيعته ودخل في طاعته أكثر قبائل البربر بالمغرب
وملك عدة مدن مثل مدينة لواتة وصفرون ومدين ومدائن مكناسة والبصرة واستقام له
الأمر بالمغرب إلى أ ن كان منه مع موسى بن أبي العافية ما نذكره
____________________
خروج الحسن الحجام إلى قتال
موسى بن أبي العافية
قال في القرطاس وفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة خرج الأمير الحسن الحجام إلى قتال
موسى بن أبي العافية فالتقى معه بفحص الزاد على مقربة من وادي المطاحن ما بين فاس
وتازا فأوقع الحجام بابن أبي العافية وقعة عظيمة لم يقع في دولة الأدارسة مثلها
قتل فيها من عسكر ابن أبي العافية نحو ألفين وثلاثمائة من جملتهم ابنه منهال بن
موسى بن أبي العافية وقتل من عسكر الحجام نحو السبعمائة ثم كانت العاقبة لموسى على
الحجام فانفض عسكر الحجام وعاد مفلولا إلى فاس فعجل الحجام ودخل فاسا وحده وترك
عسكره خارج المدينة فغدر به عامله عليها حامد بن حمدان الهمداني ويقال الأوربي من
قرى إفريقية دخل عليه ليلا في داره فقيده وأخذه إليه وأغلق المدينة في وجه الجند
وطير إلى موسى بن أبي العافية يستدعيه إلى فاس وكان ما نذكره الخبر عن دولة آل أبي
العافية المكناسيين الناسخة لدولة آل إدريس بفاس وأعمالها
كان موسى بن أبي العافية متمسكا في هذه المدة بدعوة العبيديين من الشيعة فلما قبض
حامد بن حمدان على الحسن الحجام واستوعى ابن أبي العافية بادر نحوه فدخل عدوة
القرويين واستولى عليها ثم قاتل أهل عدوة الأندلس حتى ملكها فلما ملك المدينتين
معا طالب حامد بن حمدان بإحضار الحسن الحجام وقال أقتله بولدي منهال
وكان حامد قد ندم على فعلته تلك فدافع موسى وسوفه وكره المجاهرة بسفك دماء آل
البيت ولما جن الليل خالف حامد إلى الحسن ففك عنه قيده
____________________
وأرسله فتدلى الحسن من السور
فسقط وانكسرت ساقه فتحامل حتى انتهى إلى عدوة الأندلس فاختفى بها إلى أن مات لمضي
ثلاث من سقطته رحمه الله وذلك سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة وأراد ابن أبي العافية قتل
حامد بن حمدان لعدم تمكينه إياه من الحجام ففر إلى المهدية وكانت دولة الحسن
الحجام بفاس نحو سنتين
وانقرضت دولة آل إدريس من فاس وأعمالها وتداول المغرب الأقصى العبيديون أصحاب
إفريقية والمروانيون أصحاب الأندلس مرة لهؤلاء ومرة لهؤلاء وتجددت للأدارسة دولة
أخرى ببلاد الريف نذكرها عن قريب إن شاء الله
وصفت فاس وأعمالها لابن أبي العافية وملك معها كثيرا من أعمال المغرب وبايعته
القبائل والأشياخ وهو في ذلك كله متمسك بدعوة الشيعة كما قلنا فكان كالنائب عنهم
بالمغرب والله غالب على أمره طرد موسى بن أبي العافية آل إدريس من أعمال المغرب
وحصره إياهم بحجر النسر
لما استولى موسى بن أبي العافية على فاس والمغرب شمر لطرد الأدارسة عنه فأخرجهم من
ديارهم وأجلاهم عن بلادهم من شالة وآصيلا وغيرهما من البلاد التي كانت في أيديهم
ولجؤوا بأجمعهم إلى قلعة حجر النسر مغلوبين على ملكهم مطرودين عن دار عزهم التي
أسسها سلفهم
وكانت قلعة حجر النسر حصنا منيعا بناه محمد بن إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس
شامخا في عنان السحاب فنزل عليهم
____________________
موسى بن أبي العافية وشدد
عليهم الحصار وأراد استئصالهم وقطع دابرهم فعذله على ذلك أكابر دولته وقالوا له
أتريد أن تقطع دابر أهل البيت من المغرب وتخليه منهم هذا الشيء لا نوافقك عليه ولا
نتركك له فاستحيا عند ذلك وارتحل عنهم إلى فاس وخلف على حصارهم قائده أبا الفتح
التسولي في ألف فارس يمنعهم من التصرف وكان ذلك سنة سبع عشرة وثلاثمائة استيلاء
موسى بن أبي العافية على تلمسان وأعمالها
لما ارتحل موسى بن أبي العافية عن حجر النسر سار إلى فاس فأقام بها أياما وقتل
عامله على عدوة الأندلس عبد الله بن ثعلبه بن محارب بن عبود الأزدي وولى مكانه
أخاه محمد بن ثعلبة ثم عزله وولى مكانه طوال بن أبي يزيد فلم يزل عاملا عليها إلى
أن خرجت فاس عن يد أبن أبي العافية
واستعمل موسى على المغرب الأقصى ولده مدين بن موسى بن أبي العافية وأنزله بعدوة
القرويين ثم نهض إلى تلمسان سنة تسع عشرة وثلاثمائة فملكها وأعمالها وكانت بيد
الحسن بن أبي العيش من أعقاب سليمان بن عبد الله أخي إدريس الأكبر وفر الحسن إلى
مدينة مليلة من جزائر ملوية وبنى هناك حصنا وتحصن به ثم زحف ابن أبي العافية إلى
مدينة نكور فملكها أيضا وحاصر الحسن في حصنه مدة ثم عقد له سلما على حصنه وكان ذلك
في شعبان سنة عشرين وثلاثمائة ثم عاد إلى فاس وقد دوخ البلاد والأقطار وانتظم
المغربان الأقصى والأوسط في ملكه
____________________
انحراف موسى بن أبي العافية عن
الشيعة إلى بني مروان وما نشأ عن ذلك
كان عبد الرحمن الناصر الأموي صاحب الأندلس قد سما له أمل في التملك على المغرب
الأقصى لما بلغه من تراجع أمر بني إدريس به وإشراف دولتهم على الهرم فملك سبتة من
يد بني عصام القائمين بها بالدعوة الإدريسية
ولما استولى موسى بن أبي العافية على المغرب خاطبه الناصر في القيام بدعوته ووعده
الجميل على ذلك وأتاه من بين يديه ومن خلفه حتى أجابه إلى مراده ونقض طاعة الشيعة
وخطب للناصر على منابر عمله فاتصل الخبر بعبيد الله المهدي صاحب إفريقية فسرح إليه
قائده حميد بن يصليتن المكناسي صاحب تاهرت في عشرة آلاف فارس وهو ابن أخي مصالة بن
حبوس المقدم الذكر فالتقى حميد وموسى بفحص مسون فكانت بينهم حرب سجال ثم إن حميدا
بيت موسى ليلة فضرب في عسكره فانهزم موسى وأصحابه ومضى إلى عين إسحاق من بلاد تسول
فتحصن بها
وتقدم حميد إلى فاس فلما شارفها فرعنها مدين بن موسى ولحق بأبيه فدخلها حميد
واستعمل عليها حامد بن حمدان الهمداني وكان في جملته ثم عاد إلى إفريقية وقد قضى
إربه من المغرب وكان ذلك سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة
ولما اتصل ببني إدريس المحصورين بحجر النسر خبر هزيمة موسى بن أبي العافية وفرار
ابنه عن فاس وولاية حامد بن حمدان عليها قويت نفوسهم
____________________
وتظاهروا على أبي الفتح
التسولي فنزلوا إليه وقاتلوه وهزموه ونهبوا معسكره وخرجوا إلى الفضاء بعد انحصارهم
بالقلعة المذكورة أربع سنين ثورة أحمد بن بكر الجذامي بدعوة المروانيين بفاس وما
نشأ عن ذلك
وأقام حامد بن حمدان واليا على فاس من قبل الشيعة إلى أن ثار عليه أحمد بن بكر بن
عبد الرحمن بن سهل الجذامي وذلك عقب وفاة عبيد الله المهدي سنة اثنتين وعشرين
وثلاثمائة فقتل حامد بن حمدان وبعث برأسه وبولده إلى موسى بن أبي العافية فبعث به
موسى إلى عبد الرحمن الناصر بقرطبة واستولى على المغرب وعادت الدعوة به إلى بني
مروان
ولما اتصل الخبر بصاحب إفريقية أبي القاسم بن عبيد الله المهدي المتولي بعد أبيه
سرح قائده ميسورا الخصي إلى المغرب فقدمه ميسور سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وخام ابن
أبي العافية عن لقائه واعتصم بحصن آلكاي
وتقدم ميسور إلى فاس فحاصرها أياما إلى أن خرج إليه أحمد بن بكر مبايعا وقدم بين
يديه هدية نفيسة ومالا جليلا فقبض ميسور الهدية والمال ثم تقبض على أحمد بن بكر
وقيده وبعث به إلى المهدية
ولما نذر أهل فاس بغدره امتنعوا عليه وأغلقوا أبوابهم دونه وقدموا على أنفسهم حسن
بن قاسم اللواتي فحاصرهم ميسور سبعة أشهر ولما طال عليهم الحصار رغبوا في السلم
فصالحهم على أن أعطوه ستة آلاف دينار وأنطاعا ولبودا وقربا للماء وأثاثا وكتبوا
بيعتهم إلى أبي القاسم الشيعي وكتبوا اسمه في سكتهم وخطبوا له على منابرهم فقبل
ميسور ذلك منهم وأقر عليهم حسن بن قاسم اللواتي وارتحل عنهم واستمر حسن عاملا على
فاس إلى أن قدم أحمد بن بكر من المهدية مطلقا مكرما فتخلى له عن ما
____________________
كان بيده وذلك في سنة إحدى
وأربعين وثلاثمائة فكانت ولاية حسن بن القاسم على فاس ثمان عشرة سنة قاله في
القرطاس وقال ابن خلدون إن أحمد بن بكر الجذامي قدم من إفريقية سنة خمس وثلاثين
وثلاثمائة فسار إلى فاس وأقام بها متنكرا إلى أن وثب بعاملها حسن بن قاسم اللواتي
فتخلى له عن العمل والله أعلم حرب ميسور مع موسى بن أبي العافية
لما صالح ميسور أهل فاس نهض إلى حرب ابن أبي العافية فدارت بينهم حروب كان الظهور
في آخرها لميسور وأسر البوري بن موسى بن أبي العافية وغربه إلى المهدية وطرد موسى
على أعمال المغرب إلى نواحي ملوية ووطاط وما وراءها من بلاد الصحراء ثم قفل إلى
القيروان
وقال ابن أبي زرع في كتاب القرطاس إن بني إدريس تولوا معظم الحروب التي دارت بين
ميسور وبين ابن أبي العافية وإنهم قاتلوا ابن أبي العافية حتى فر أمامهم إلى
الصحراء قال وتملك الأدارسة أكثر ما كان بيد ابن أبي العافية قائمين بدعوة الشيعة
فلم يزل ابن أبي العافية شريدا في الصحراء وأطراف البلاد التي بقيت بيده وذلك من
مدينة آكرسيف إلى مدينة نكور إلى أن قتل ببعض بلاد ملوية وذلك سنة إحدى وأربعين
وثلاثمائة وقيل إنه قتل سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة قاله البرنسي اه كلام ابن أبي
زرع
وقال ابن خلدون إن موسى ابن أبي العافية رجع من الصحراء إلى أعماله بالمغرب فملكها
وولى على عدوة الأندلس أبا يوسف بن محارب الأزدي قال وهو الذي مدن عدوة الأندلس
وكانت حصونا ثم زحف إلى تلمسان سنة خمس وعشرين وثلاثمائة فاستولى عليها قال
واستفحل أمر ابن أبي العافية بالمغرب الأقصى واتصل عمله بعمل محمد بن خرز ملك
____________________
مغراوة وصاحب المغرب الأوسط
وبثوا دعوة الأموية في أعمالها والله أعلم بقية أخبار آل أبي العافية بالمغرب
قال ابن أبي زرع لما هلك موسى بن أبي العافية ولي بعده ابنه ابراهيم إلى أن توفي
سنة خمسين وثلاثمائة فولي بعده ابنه عبد الله ويقال عبد الرحمن بن إبراهيم بن موسى
بن ابي العافية إلى أن توفي سنة ستين وثلاثمائة فولي عمله من بعده ابنه محمد وعليه
انقرضت دولة آل أبي العافية سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وذكر بعض المؤرخين لأيامهم
أنه لما توفي محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن موسى بن أبي العافية ولي بعده ابنه
القاسم بن محمد المحارب للمتونة فكانت بينه وبينهم حروب إلى أن غلب عليه يوسف بن
تاشفين فقتله واستأصل شافة ذرية موسى بن أبي العافية بالمغرب وكانت دولتهم مائة
وأربعين سنة من سنة خمس وثلاثين إلى سنة خمس وأربعين وأربعمائة اه ولكن دولتهم
بفاس انتهت إلى قدوم ميسور الخصي كما مر وبقيت رياستهم بالأطراف إلى دولة
اللمتونيين والله أعلم وكان في هذه المدة من الأحداث ما نذكره
ففي يوم الأربعاء التاسع والعشرين من شوال سنة تسع وتسعين ومائتين كسفت الشمس
كسوفا كليا وكان ذلك بعد صلاة العصر فغاب القرص كله وظهرت النجوم وأذن أكثر الناس بالمساجد
للمغرب ثم تجلت مضيئة بعد ذلك ومكثت مقدار ثلث ساعة ثم غربت
وفي سنة ثلاث وثلاثمائة كان بإفريقية والمغرب والأندلس فتن كثيرة ومجاعة عظيمة
أشبهت مجاعة سنة ستين ومائتين ثم وقع الموت في الناس حتى عجزوا عن دفن موتاهم
وفي سنة خمس وثلاثمائة أحرقت النار أسواق مدينة فاس وأسواق
____________________
تاهرت قاعدة زناتة وأحرقت
أسواق قرطبة وأرباض مكناسة من بلاد جوف الأندلس وكان ذلك في شوال من السنة
المذكورة فسميت سنة النار
وفي سنة سبع وثلاثمائة كان بإفريقية والمغرب والأندلس رخاء مفرط وطاعون ووباء كثير
وفيها كانت الريح السوداء الشديدة الهبوب التي قلعت الأشجار وهدمت الدور بفاس فتاب
الناس ولزموا المساجد وارتدعوا عن كثير من الفواحش
وفي سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة ظهر حاميم المتنبئ بجبال غمارة قال ابن خلدون كانت
غمارة غريقة في الجهالة والبعد عن الشرائع بسبب البداوة والانتباذ عن مواطن الخير
وتنبأ فيهم من قبيلة يقال لها محسكة حاميم بن من الله يكنى أبا محمد ويكنى أبوه من
الله أبا يخلف وكان ظهوره بجبل حاميم المشتهر به قريبا من تطوان واجتمع إليه كثير
من غمارة وأقروا بنبوته وشرع لهم شرائع وعبادات وصنع لهم قرآنا كان يتلوه عليهم بلسانه
فمما شرع لهم صلاتان في كل يوم واحدة عند طلوع الشمس والأخرى عند غروبها ثلاث
ركعات في كل صلاة ويسجدون وبطون أيديهم تحت وجوههم ومن قرآنهم الذي كانوا يقرؤونه
بعد تهليل يهللون به بلسانهم خلني من الذنوب يا من خلى النظر ينظر في الدنيا
أخرجني من الذنوب يا من أخرج يونس من بطن الحوت وموسى من البحر ثم يقول في ركوعه
آمنت بحاميم وبأبيه أبي يخلف من الله وآمن رأسي وعقلي وما يكنه صدري وما أحاط به
دمي ولحمي وآمنت بتالية عمة حاميم أخت أبي يخلف من الله ثم يسجد وكانت تالية هذه
امرأة كاهنة ساحرة وكان حاميم يلقب المفتري وكانت أخته دبو كاهنة ساحرة أيضا
وكانوا يستغيثون بها في الحوب والقحوط وفرض عليهم صوم الاثنين وصوم الخميس إلى
الظهر وصوم الجمعة وصوم عشرة أيام من رمضان ويومين من شوال ومن أفطر في يوم الخميس
عمدا فكفارته أن يتصدق بثلاثة أثوار ومن أفطر في يوم الاثنين فكفارته أن يتصدق
بثورين وفرض عليهم في الزكاة العشر في كل
____________________
شيء وأسقط عنهم الحج والوضوء
والغسل من الجنابة وأحل لهم أكل الأنثى من الخنزير وقال إنما حرم قرآن محمد
الخنزير الذكر وأمر أن لا يؤكل الحوت إلا بذكاة وحرم عليهم أكل البيض وأكل الرأس
من كل حيوان فبعث إليه عبد الرحمن الناصر صاحب الأندلس عسكرا فالتقوا بقصر مصمودة
من أحواز طنجة فقتلوه وقتلوا أتباعه وصلبوا شلوه بالقصر المذكور وبعثوا برأسه إلى
الناصر بقرطبة ورجع من بقي من أتباعه إلى الإسلام وذلك سنة خمس عشر وثلاثمائة قال
ابن خلدون وكان لابنه عيسى بن حاميم من بعده قدر جليل في غمارة
وفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة ظهر ببلاد المغرب غمام كثيف دام خمسة أيام لم ير
الناس فيها شمسا وكان الشخص لا يرى من الأرض فيه إلا موضع قدميه فتاب الناس
وأخرجوا الصدقات فكشف الله عنهم ما بهم وسميت سنة الغمام
وفي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة نزل برد عظيم الواحدة منه تزن رطلا وأكثر قتل الطير
والوحش والبهائم وكثيرا من الناس وكسر الأشجار وأفسد الثمار كان ذلك بأثر قحط شديد
وغلاء عام
وفي سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة نزل أيضا برد كثير لم يعهد مثله كثرة قتل
المواشي وأفسد الثمار وجاءت السيول العظيمة بجميع بلاد المغرب وكان بها رعود قاصفة
وبروق خاطفة ودام ذلك أياما واستسقى الناس واستصحوا في هذه السنة وفيها أيضا كانت
ريح شديدة هدمت المباني
وفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة كان الوباء العظيم بالمغرب والأندلس هلك فيه أكثر
الخلق
وفي هذه المدة كان الشيخ أبو سعيد المصري المعروف بأبي سلهامة موجودا وهو من كبار
صلحاء المغرب وقبره شهير قرب مشرع الحضر على ساحل البحر وعليه قبة عجيبة الصنعة
محكمة العمل بالنقش والأصباغ والزليج الملون قال أبو عبد الله محمد العربي الفاسي
في مرآة المحاسن كان على
____________________
رأس قبر الشيخ أبي سلهامة لوح
مذهب مكتوب عليه هذه القبور الثلاثة التي أخفى الله تعالى فيها قبر الشيخ أبي سعيد
المكنى أبي سلهامة وكانت وفاته سنة نيف وأربعين وثلاثمائة قال أبو عبد الله
المذكور ثم إن النصارى نزلوا مرة هناك فاقتلعوا اللوح وذهبوا به قال وكان النيف
الزائد على الأربعين مسمى في اللوح ولكني أنسيته ومع ذلك فهو لا يزيد على السبع
والله تعالى أعلم الخبر عن الدولة الثانية للأدارسة ببلاد الريف
هذه الدولة التي كانت للأدارسة ببلاد الريف لم تكن لهم على سبيل الاستقلال
والاستبداد كما كانت لهم أولا بفاس والمغرب إنما كانوا فيها تحت نظر المتغلب على
بلاد المغرب إما من الشيعة أصحاب إفريقية وإما من المروانيين أصحاب الأندلس كما
ستقف عليه
واعلم أنا قد قدمنا أن بني إدريس كانوا قد اقتسموا أعمال المغرب بعد وفاة أبيهم
إدريس رحمه الله وذلك بإشارة جدتهم كنزة وأن بلاد الريف منها كانت في سهم عمر بن
إدريس وأنه قاتل اخويه عيسى والقاسم وأضاف أعمالهما إلى عمله فبقيت بلاد الريف بيد
بني عمر بن إدريس يتوارثونها خلفا عن سلف فلما انقرضت دولة آل إدريس بفاس على يد
موسى بن أبي العافية انحازوا إلى بني عمهم وعشيرتهم ببلاد الريف وتحصنوا بقلعة حجر
النسر كما سبق
ولما قدم ميسور الخصي من إفريقية وأجلى موسى بن أبي العافية إلى الصحراء أقام بنو
إدريس بريفهم يتداولون رياسته تحت نظر الشيعة تارة وتحت نظر المروانيين أخرى إلى
أن انقرضت دولتهم وذهبت رياستهم من المغرب بالكلية والله غالب على أمره
____________________
الخبر عن رياسة القاسم كنون بن
محمد بن القاسم بن إدريس
لما فر موسى بن أبي العافية أمام القائد ميسور إلى الصحراء صارت الرياسة في المغرب
بعده لأبني محمد بن القاسم بن إدريس وهما القاسم الملقب بكنون وشقيقه إبراهيم وهما
معا أخوان للحسن الحجام الذي تقدم ذكره فاجتمع بنو إدريس وبايعوا القاسم المذكور
فملك أكثر بلاد المغرب إلا فاسا فإنه لم يملكها وكان سكناه بقلعة حجر النسر واستمر
على إمارته مقيما لدعوة الشيعة إلى أن توفي سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة فولي بعده
ابنه أبو العيش الخبر عن دولة أبي العيش احمد بن القاسم كنون
كان أبو العيش هذا فقيها ورعا حافظا للسير عارفا بأخبار الملوك وأيام الناس وأنساب
قبائل العرب والبربر شجاعا جوادا وكان يعرف في بني إدريس بأحمد الفاضل وكان مائلا
إلى بني مروان
ولما ولي بعد أبيه قطع دعوة العبيديين في جميع عمله وبايع لعبد الرحمن الناصر صاحب
الأندلس وخطب له على جميع منابر عمله وبايع أبا العيش كافة أهل المغرب إلى سجلماسة
وكان السواد الأعظم من أهل المغرب الأقصى لهم محبة من جانب آل إدريس وإيثار لهم لا
يبغون بهم بدلا مهما وجدوا إلى ذلك سبيلا
____________________
تغلب عبد الرحمن الناصر على
بلاد المغرب ومضايقته لأبي العيش بها
لما بايع أبو العيش لعبد الرحمن الناصر وخطب له اقترح عليه أن ينزل له عن طنجة
ليضيفها إلى سبتة التي كان استولى عليها من قبل فامتنع أبو العيش من ذلك فبعث إليه
الناصر بالأسطول والمقاتلة فحاصره وضيق عليه ولما رأى أبو العيش أنه لا طاقة له
بحربه أجابه إلى ما سأل ونزل له عن طنجة
وبقي أبو العيش مع إخوته وبني عمه من الأدارسة بمدينة البصرة وآصيلا تحت بيعة
الناصر وفي كنفه متمسكين بدعوته وكانت قواد الناصر وجيوشه تجيز من الأندلس إلى
العدوة يقاتلون من خالف الأدارسة من البربر ويستألفونهم والناصر ممد لمن عجز منهم
برجاله مقو لمن ضعف بماله حتى ملك أكثر بلاد المغرب وبايعته قبائله من زناتة
والبربر وخطب له على منابره من تاهرت إلى طنجة ما عدا سجلماسة فإنه قام بها في ذلك
الوقت منادر البربري
وبايع الناصر أهل فاس فيمن بايعه من بلاد العدوة فولى عليهم محمد بن الخير
المغراوي وكان من أبسط ملوك زناتة يدا وأعظمهم شأنا و أحسنهم إلى ملوك بني أمية
انحياشا وأخلصهم طوية
وكان لبني يفرن ومغراوة من زناتة ولاية للأمويين وتشيع لهم وذلك بولاية عثمان بن
عفان رضي الله عنه لجدهم صولات بن وزمار المغراوي الذي وفد عليه وأسلم على يده كما
سبق في اخبار الفتح والله أعلم فسرت تلك الولاية في عقب زناتة للأمويين عموما كما
كان لصنهاجة من البربر ولاية آل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأقام محمد بن الخير
واليا على
____________________
مدينتي فاس نحو سنة وارتحل
عنها إلى الأندلس برسم الجهاد واستخلف عليها ابن عمه أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن
عثمان بن سعيد الزناتي وهو الذي بنى صومعة مسجد القرويين سنة أربع وأربعين
وثلاثمائة كما سبق
وفي سنة سبع وأربعين وثلاثمائة ولي الناصر على مدينة طنجة وأحوازها يعلى بن محمد
اليفرني فنزلها في قبائل يفرن وأمضى أمره ونهيه فيها هجرة أبي العيش إلى الأندلس
بقصد الجهاد
لما رأى أبو العيش غلبة الناصر على بلاد العدوة هانت عليه رياستها فكتب إليه
بقرطبة يستأذنه في الجهاد فأذن له وأمر أن يبني له في كل منزل ينزله قصرا وذلك من
الجزيرة الخضراء إلى الثغر وأن يجري له فيها ألف دينار في كل يوم ضيافة له ومن
الفرش والأثاث والطعام والشراب ما يقوم بالقصر فلم يزل على ذلك حتى وصل إلى الثغر
فكانت منازله من الجزيرة إلى الثغر ثلاثين منزلا ومات أبو العيش رحمه الله شهيدا
في جهاد الفرنج سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة الخبر عن دولة الحسن بن كنون
لما خرج أبو العيش من الأندلس برسم الجهاد استخلف على عمله أخاه الحسن بن كنون وهو
القاسم بن محمد بن القاسم بن إدريس وهو آخر ملوك الأدراسة بالمغرب ولم يزل مواليا
للمروانيين متمسكا بدعوتهم إلى أن كان ما نذكره
____________________
قدوم القائد جوهر الشيعي من
إفريقيا إلى المغرب واستيلاؤه عليه
لما اتصل بخليفة الشيعة وهو المعز لدين الله معد بن إسماعيل العبيدي غلبة الناصر
على بلاد العدوة وأن جميع من بها من قبائل زناتة والبربر رفضوا دعوتهم ودخلوا في
دعوة بني أمية عظم الأمر عليه وبعث قائده جوهر بن عبد الله الرومي المعروف بالكاتب
في جيش كثيف يشتمل على عشرين ألف فارس من قبائل كتامة وصنهاجة وغيرهم وأمره أن يطأ
بلاد المغرب ويذللها ويستنزل من بها من الثوار ويشد وطأته عليهم
فخرج جوهر من القيروان سنة سبع وأربعين وثلاثمائة يؤم بلاد المغرب فاتصل خبره
بيعلى بن محمد اليفرني صاحب طنجة وخليفة الناصر على بلاد العدوة فحشد قبائل زناتة
ونهض إلى القائد جوهر فكان اللقاء على تاهرت فالتحمت الحرب بين الفريقين فأخرج
القائد جوهر الأموال وبذلها في قواد كتامة فضمنوا له قتل أمير زناتة يعلى بن محمد
فلما اشتد القتال صممت عصابة من قواد كتامة وأنجادها وقصدوا إلى يعلى بن محمد
فقتلوه واحتزوا رأسه وأتوا به إلى جوهر فبذل لهم مالا جليلا بشارة عليه وبعث
بالرأس إلى مولاه المعز فطيف به بالقيروان
وذكر ابن خلدون أن يعلى بن محمد بادر إلى لقاء جوهر عند قدومه وأذعن له وبايعه
فأظهر جوهر القبول ثم دس إليه من اغتاله وتفرق بنو يفرن وزناتة بعد مقتل أميرهم
وبعد مدة التأم ملكهم على ولده يدو بن يعلى بن محمد اليفرني
ثم تقدم جوهر إلى سجلماسة وكان قد قام بها محمد بن الفتح بن ميمون بن مدرار
المعروف بالشاكر لله وقد تقدم لنا أنه ادعى الخلافة وتسمى بأمير المؤمنين وضرب
السكة باسمه وكتب عليها تقدست عزة الله وكانت سكته تعرف بالشاكرية وكانت في غاية
الطيب وكان سنيا مالكي
____________________
المذهب قد خالف سلفه في مذهب
الصفرية فنزل عليه جوهر وحاصره بسجلماسة ثم اقتحمها عنوة بالسيف وأفلت الشاكر ثم
عاد بعد يومين أو ثلاثة فدخل سجلماسة متنكرا فعرف وقبض عليه وأتي به إلى جوهر
فأوثقه في الحديد وساقه أسيرا بين يديه حتى نزل على فاس بعد أن أفنى حماة الصفرية
ورجالها بالسيف
وكان نزوله على فاس سنة تسع وأربعين وثلاثمائة فحاصرها وأدار بها القتال من كل جهة
قريبا من نصف شهر ثم اقتحمها عنوة بالسيف على يد زيري بن مناد الصنهاجي فإنه تسنم
أسوارها ليلا ودخلها فقتل بها خلقا كثيرا وقبض على أميرها أحمد بن أبي بكر الزناتي
الذي ولاه الناصر عليها ونهب المدينة وقتل حماتها وشيوخها وسبى أهلها وهدم أسوارها
وكان الحادث بها عظيما وكان دخول جوهر إياها ضحوة يوم الخميس الموفي عشرين من
رمضان سنة تسع وأربعين وثلاثمائة
ثم سار جوهر في بلاد المغرب يقتل أولياء المروانيين ويسبي ويفتح البلاد والمعاقل
وخافته البربر وفرت أمامه قبائلها فأنفذ الأمر في المغرب الأقصى ثلاثين شهرا
وانتهى إلى البحر المحيط وصاد من سمكه وجعله في قلال الماء وأرسله إلى مولاه المعز
ثم انصرف راجعا بعد أن دوخ البلاد وأثخن فيها وقتل حماتها وقطع دعوة المروانيين
منها وردها إلى العبيديين فخطب لهم على جميع منابر المغرب وانتهى القائد جوهر إلى
المهدية دار المعز لدين الله وقد حمل معه أحمد بن أبي بكر اليفرني أمير فاس وخمسة
عشر رجلا من أشياخها وحمل أيضا محمد بن أبي الفتح أمير سجلماسة ودخل بهم أسارى بين
يديه في أقفاص من خشب على ظهور الجمال وجعل على رؤوسهم قلانس من لبد مستطيلة منبتة
بالقرون فطيف بهم في بلاد إفريقية وأسواق القيروان ثم ردوا إلى المهدية وحبسوا بها
حتى ماتوا في سجنها
____________________
قدوم بلكين بن زيزي بن مناد
الصنهاجي الشيعي من إفريقيا إلى المغرب
كان الأمير الحسن بن كنون قد بايع العبيديين فيمن بايعهم عند غلبة جوهر على المغرب
فلما انصرف جوهر إلى إفريقية أواخر سنة تسع وأربعين وثلاثمائة نكث الحسن بن كنون
بيعة العبيديين وعاد إلى المروانيين فتمسك بدعوة الناصر ثم بدعوة ابنه الحكم
المستنصر خوفا منهم لا محبة فيهم لقرب بلاده من بلادهم وأقام على ذلك إلى أن قدم
الأمير بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي من إفريقية إلى المغرب لأخذ ثار أبيه فقتل
زناتة واستأصلهم وملك المغرب بأسره وقطع أيضا منه دعوة الأمويين وقتل أولياءهم
وأخذ البيعة على جميع أهل المغرب للمعز معد بن إسماعيل كما فعل جوهر قبله فكان أول
من سارع إلى بيعته ونصرته وقتال أولياء المروانيين معه الحسن بن كنون صاحب مدينة
البصرة وكشف وجهه في ذلك وأعمل فيه جهده فاتصل خبره بالحكم المستنصر فحقد عليه
لذلك
فلما انصرف بلكين بن زيري إلى إفريقية بعث الحكم المستنصر صاحب الأندلس قائده محمد
بن القاسم بن طملس في جيش كثيف إلى قتال الحسن ابن كنون فأجاز إليه من الجزيرة
الخضراء إلى سبتة في عدد كثير وعدة كاملة وذلك في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وستين
وثلاثمائة فزحف الحسن إلى قتاله في قبائل البربر فكان اللقاء بأحواز طنجة بموضع
يعرف بحفص بني مصرخ فكانت بينهما حرب شديدة قتل فيها محمد بن القاسم قائد الحكم
المستنصر وقتل معه خلق كثير من أصحابه وفر الباقون فدخلوا سبتة
____________________
وتحصنوا بها وكتبوا إلى الحكم
يستغيثون به فبعث إليهم صاحب حروبه غالبا مولاه البعيد الصيت المعروف بالشهامة
والنجدة والدهاء وأعطاه الحكم أموالا جليلة وجيوشا كثيرة وعددا وافرة وأمره بقتال
آل إدريس واستنزالهم من معاقلهم وقال له عند وداعه يا غالب سر مسير من لا إذن له
في الرجوع إلا حيا منصورا أو ميتا معذورا ولا تشح بالمال وابسط يدك به يتبعك الناس
قدوم غالب الأموي إلى المغرب وتغريب آل إدريس إلى الأندلس
ثم خرج غالب من قرطبة في آخر شوال سنة اثنتين وستين وثلاثمائة فاتصل خبر قدومه
بالحسن بن كنون فخاف منه وأخلى مدينة البصرة وحمل منها حرمه وأمواله وذخائره إلى
قلعة حجر النسر القريبة من سبتة واتخذها معقلا يتحصن بها وأجاز غالب البحر من
الجزيرة الخضراء إلى قصر مصمودة فلقيه الحسن بن كنون هناك في جموع البربر وقاتله
أياما وسرب غالب الأموال إلى رؤساء البربر الذين مع الحسن بن كنون ووعدهم ومناهم
فانفضوا عن الحسن حتى لم يبق معه إلا خاصته ورجاله فلما رأى ذلك سار إلى حجر النسر
فتحصن به واتبعه غالب فحاصره به ونزل عليه بجميع جيوشه وقطع عنه المواد وأمده
الحكم بعرب الدولة الذين بالأندلس ورجال الثغور فوصل المدد إلى غالب غرة المحرم سنة
ثلاث وستين وثلاثمائة فاشتد الحصار على الحسن بن كنون فطلب من غالب الأمان على
نفسه وأهله وماله ورجاله وينزل إليه فيسير معه إلى قرطبة فيكون بها فأجابه غالب
إلى ذلك وعاهده عليه فنزل الحسن بأهله وماله ورجاله وأسلم الحصن إلى غالب فملكه
واستنزل غالب جميع العلويين الذين بأرض العدوة من معاقلهم وأخرجهم عن أوطانهم ولم
يترك بالعدوة رئيسا منهم
وسار إلى مدينة فاس فملكها واستعمل عليها محمد بن أبي علي بن
____________________
قشوش بعدوة القرويين وعبد
الكريم بن ثعلبة بعدوة الأندلس فلم تزل فاس بيد بني أمية إلى أن غلب عليها زيري بن
عطية المغراوي
وانصرف غالب إلى الأندلس وساق معه الحسن بن كنون وجميع ملوك الأدارسة وقد وطأ جميع
بلاد المغرب وفرق العمال في نواحيه وقطع دعوة بني عبيد من جميع آفاقه ورد الدعوة
إلى الأموية فخرج بهم غالب من فاس آخر رمضان سنة ثلاث وستين وثلاثمائة ووصل إلى
سبتة فركب البحر منها واستقر بالخضراء
وكتب إلى مولاه الحكم المستنصر بالله يعلمه بقدومه وبمن قدم معه من العلويين فلما
وصل كتابه إلى الحكم أمر الناس بالخروج إلى لقائهم وركب هو في جمع عظيم من وجوه
دولته فتلقاهم فكان يوم دخولهم قرطبة يوما مشهودا وذلك أول يوم من المحرم سنة أربع
وستين وثلاثمائة وسلم الحسن بن كنون على الحكم فأقبل عليه وعفا عنه ووفى له بعهده
وأوسع له ولرجاله في العطاء وأجرى عليهم الجرايات الكثيرة وخلع عليهم الخلع
الرفيعة وأثبت جميع أهله ورجاله في ديوان العطاء وكانوا سبعمائة رجل أنجاد يعدون
بسبعة آلاف واسكنه قرطبة وأقام الحسن وعشيرته في كنف الحكم في أمن وغبطة إلى أن
كان ما نذكره حدوث النفرة بين الحكم والحسن والسبب في ذلك
ولما استقر الحسن بن كنون وعشيرته بقرطبة تحت كنف الحكم المستنصر بالله الأموي على
ما وصفناه استمر الحال على ذلك إلى سنة خمس وستين وثلاثمائة
وكان للحسن قطعة عنبر غريبة الشكل كبيرة الحجم ظفر بها في بعض سواحله من بلاد
العدوة أيام ملكه بها فسواها منشورة يتوسدها ويرتفق بها فبلغ أمير المؤمنين الحكم
خبرها فسأله حملها إليه وضمها إلى ذخائره على أن له حكمه مسمطا فامتنع الحسن من
ذلك وأبى أن يسلمها إليه فنكبه
____________________
عليها وسلبه جميع أمواله وسلبه
القطعة أيضا فبقيت في خزانة الأمويين إلى أن غلب ابن حمود الإدريسي على ملك
الأندلس ودخل قرطبة واستقر بالقصر منها فألفى تلك العنبر لا زالت قائمة العين قد
عقبتها الأيام حتى صارت إلى أيدي العلوية أربابها
ولما نكب الحكم الحسن أمر بإخراجه وإخراج عشيرته من قرطبة وإجلائهم إلى المشرق
فركبوا البحر من المرية إلى تونس سنة خمس وستين وثلاثمائة وكان قصد الحكم بتغريبهم
التخفف منهم والراحة من نفقاتهم مع ما كان قومه يعذلونه عليهم فسار الحسن بن كنون
وعشيرته إلى مصر فنزلوا بها على خليفة الشيعة وهو العزيز بالله نزار بن المعز
العبيدي وكان العبيديون قد ملكوا مصر يومئذ ونقلوا كرسي خلافتهم إليها فأقبل
العزيز نزار على الأدارسة وبالغ في إكرامهم ووعد الحسن النصر والأخذ بثأره ممن
غلبه على ملك سلفه عود الحسن بن كنون إلى المغرب وما كان من أمره إلى مقتله
وانقراض دولته
لما استقر الحسن بن كنون بمصر عند العزيز نزار أقام عنده مدة طويلة إلى أن دخلت
سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة في أيام هشام المؤيد بالله الأموي فكتب نزار للحسن
بعهده على المغرب وأمر عامله على إفريقية بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي أن يقويه
بالجيوش فسار الحسن إلى بلكين فأعطاه عسكرا يشتمل على ثلاثة آلاف فارس فاقتحم بهم
بلاد المغرب فسارعت إليه قبائل البربر بالطاعة فشرع في إظهار دعوته
واتصل خبره بالمنصور بن أبي عامر حاجب هشام المؤيد والقائم بملكه فبعث إليه ابن
عمه الوزير أبا الحكم عمرو بن عبد الله بن أبي عامر المعروف بعسكلاجة في جيش كثيف
وقلده أمر المغرب وسائر أعماله وأمره
____________________
بقتال الحسن بن كنون فنفذ
لوجهه وركب البحر إلى سبتة وخرج إلى حرب الحسن فأحاط به وحاصره أياما ثم أجاز
المنصور بن أبي عامر ولده عبد الملك في أثر الوزير أبي الحكم في جيش كثيف ممدا له
فلما رأى ذلك الحسن بن كنون سقط في يده ولم يجد حيلة فطلب الأمان على نفسه على أن
يسير إلى الأندلس كمثل حالته الأولى فأعطاه الوزير أبو الحكم من ذلك ما وثق به
وكتب إلى ابن عمه المنصور يخبره بذلك فأمر بتعجيله إلى قرطبة موكلا به فبعث به
إليه
ولما انتهى الخبر إلى المنصور بقدوم الحسن لم يمض أمان ابن عمه وأنفذ إليه من قتله
من طريقه وأتاه برأسه ودفن شلوه بمكان مقتله وذلك في جمادى الأولى سنة خمس وسبعين
وثلاثمائة وركدت ريح العلوية بالمغرب وتفرق جمعهم وانقرضت دولتهم وتفرقت الأدارسة
في قبائل المغرب ولاذوا بالاختفاء إلى أن خلعوا شارة ذلك النسب الشريف واستحالت
صبغتهم منه إلى البداوة
واستمر الحال إلى أن أشرفت دولة بني أمية بالأندلس على الانقراض وكان بالأندلس
رجلان من آل إدريس دخلوها في جملة البربر الذين كانوا هناك وهم علي والقاسم ابنا
حمود بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر بن إدريس فطار لهما ذكر في
الشجاعة والإقدام ثم ترقت بهم الأحوال إلى أن ورثوا خلافة الأندلس من يد الأمويين
بها في خبر طويل
ولما قتل الحسن بن كنون هبت ريح عاصف احتملت رداءة فلم يوجد بعد قالوا وكان الحسن
هذا فظا غليظا قاسي القلب كان إذا ظفر بعدو أو
____________________
سارق أو قاطع طريق أمر به فطرح
من ذروة قلعته المسماة بحجر النسر فيهوي منها إلى الأرض مد البصر يدفع الرجل بخشبة
تمد إليه فلا يصل إلى الأرض إلا وقد تقطع
قال ابن أبي زرع كانت مدة ملك الأدارسة بالمغرب من يوم بويع إدريس بن عبد الله
وذلك يوم الخميس السابع من ربيع الأول سنة اثنتين وسبعين ومائة إلى أن قتل الحسن
بن كنون وذلك في جمادى الأولى سنة خمس وسبعين وثلاثمائة مائتي سنة وثلاث سنين سوى
شهرين تقريبا وكان عملهم بالمغرب من السوس الأقصى إلى مدينة وهران وقاعدة ملكهم
مدينة فاس ثم البصرة وكانوا يكابدون دولتين عظيمتين دولة العبيديين بأفريقة ودولة
بني أمية بالأندلس وكانوا يزاحمون الخلفاء إلى ذروة الخلافة ويقعد بهم عنها ضعف
سلطانهم وقلة مالهم فكان سلطانهم إذا امتد وقوي ينتهي إلى مدينة تلمسان وإذا اضطرب
الحال عليهم وضعفوا لا يجاوز سلطانهم البصرة وأصيلا وحجز النسر إلى أن انقضت
أيامهم وانقرضت مدتهم والبقاء لله وحده
وكان في هذه المدة من الأحداث أنه في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة كانت ريح شديدة
قلعت الأشجار وهدمت الديار وقتلت الرجال
وفي ليلة الثلاثاء الثامن عشر من رجب منها ظهر في البحر شهاب ثاقب ماثل كالعمود
العظيم أضاء الليل لسطوع نوره وأشبهت تلك الليلة ليلة القدر وقارب ضوءها ضوء
النهار
وفي هذا الشهر أيضا كسف النيران فخسف القمر ليلة أربع عشرة منه وطلعت الشمس كاسفة
في اليوم الثامن والعشرين منه
وفي سنة إحدى وستين وثلاثمائة كان الجراد بالمغرب
وفي سنة اثنتين وستين بعدها دخل مغراوة المغرب وملكوه وتعرف هذه السنة بسنة لقمان
المغراوي وفيها توفي الشيخ الفقيه الصالح الفاضل أبو ميمونة دراس بن إسماعيل وهو
أول من أدخل مدونة سحنون مدينة فاس
____________________
وذكر الرشاطي أن وفاته كانت
سنة سبع وخمسين وثلاثمائة ولعله أصح وفي سنة سبع وسبعين وثلاثمائة عم الجراد بلاد
المغرب كلها
وفي سنة ثمان وسبعين بعدها كان الفيض الذي فاضت منه جميع أودية المغرب
وفي سنة تسع وسبعين بعدها كانت الريح الشرقية بالمغرب ودامت ستة أشهر فأعقبت وباء
عظيما وأمراضا كثيرة
وفي سنة ثمانين وثلاثمائة تدارك الله عباده وكان الرخاء المفرط بالمغرب فكان الزرع
لا يوجد من يشتريه لكثرته وكان الفلاحون وأصحاب الحرث يتركونه قائما في محاقلهم لا
يحصدونه لرخصه الخبر عن دولة زناتة من مغراوة وبني يفرن بفاس والمغرب
ينبغي أن نقدم هنا كلاما يكون كالتوطئة لأخبار هذه الدولة المغراوية فنقول إن هذه
الدولة لم يكن لها استقلال بالمغرب وفاس وإنما كانت رياستها تحت نظر الأمويين
بالأندلس ثم إن مغراوة وبني يفرن قبيلتان من أعيان قبائل زناتة وكان مغراو ويفرن
أخوين شقيقين وهما ابنا يصليتن بن مسري بن زاكيا بن ورسيك بن الدبديت بن زانا وهو
أبو زناتة
وقد تقدم لنا في أخبار الفتح أن الصحابة رضي الله عنهم أسروا صولات بن وزمارا كبير
مغراوة لذلك العهد وبعثوا به إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فأسلم على يده وولاه
على قومه وقيل إن صولات هاجر إلى عثمان رضي الله عنه طائعا من غير أسر فأكرمه
وولاه فكان بيت صولات بسبب هذه المزية نبيها في قومه مغراوة وسائر زناتة
ولما مات صولات ورث رياسته من بعده ابنه حفص بن صولات ثم من بعده خزر بن حفص بن
صولات ثم ابنه محمد بن خزر وهو الذي غزاه إدريس بن عبد الله بمدينة تلمسان وانقاد
له وأجاب دعوته ودخل إدريس معه تلمسان وأصلح شأنها وبنى مسجدها حسبما تقدم الخبر
عن ذلك مستوفى ثم
____________________
لم تزل ذرية محمد بن خزر هذا
تتوارث رياسة سلفهم من بعدهم إلى أن كان منهم في صدر المائة الرابعة أربعة اخوة
وهم محمد بن خزر وعبد الله بن خزر ومعبد بن خزر وفلفل بن خزر وكلهم رئيس شريف في
قومه ولهم أخبار مع خلفاء الشيعة بإفريقية والمروانيين بالأندلس يطول ذكرها مع
أنها ليست من موضوعنا
ولما كانت سنة تسع وستين وثلاثمائة زحف بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي صاحب
إفريقية بعد العبيديين إلى المغرب الأقصى وأناخ على مدينتي فاس وقتل عامليها محمد
بن أبي علي بن قشوش صاحب عدوة القرويين وعبد الكريم بن ثعلبة صاحب عدوة الأندلس
واستعمل عليها محمد بن عامر المكناسي وأجفلت ملوك زناتة من بني خزر المغراويين
وبني محمد بن صالح اليفرنيين أمامه وانحازوا جميعا إلى سبتة
وعبر محمد بن الخير من آل خزر البحر إلى المنصور بن أبي عامر صريخا فخرج المنصور
في عساكره إلى الجزيرة الخضراء ممدا لهم بنفسه وعقد لجعفر بن علي بن حمدون على حرب
بلكين الصنهاجي وأجازه البحر وأمده بمائة حمل من المال فاجتمعت إليك ملوك زناتة
وضربوا مصافهم بساحة سبتة وجاء بلكين الصنهاجي حتى صعد جبال تطوان وتنسم هضابها
وأطل على عساكر زناتة وأهل الأندلس بساحة سبتة فرأى ما لا قبل له به ويقال إنه لما
عاين ذلك قال هذه أفعى فغرت إلينا فاها وكر راجعا على عقبة فاجتاز على مدينة
البصرة وكان بها حامية أهل الأندلس وبها يومئذ عمارة عظيمة فهدمها ثم صمد إلى
برغواطة ببلاد تامسنا فجاهدهم وقتل ملكهم عيسى بن أبي الأنصار واستولى على المغرب
____________________
أجمع ومحى دعوة بني أمية من
نواحيه
ثم لما كانت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وقدم الحسن بن كنون الإدريسي من مصر إلى
المغرب يطلب ملك سلفة انضم إليه يدو بن يعلى بن محمد بن صالح اليفرني في قومه
وشايعه على مراده وسرح المنصور بن أبي عامر صاحب الأندلس إليه ابن عمه أبا الحكم
الملقب بعسكلاجة وانضم إليه آل خزر المغراويون وهم محمد بن الخير الأصغر وخزرون بن
فلفل بن خزر ومقاتل وزيري ابنا عطية بن عبد الله بن خزر وانضم إليهم سائر مغراوة
وظاهروا أبا الحكم عسكلاجة على شأنه في حصار الحسن بن كنون حتى طلب الأمان لنفسه
حسبما استوفينا خبره آنفا ثم تقدم عسكلاجة إلى فاس فدخلها واستولى على عدوة
الأندلس سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وخطب بها لبني أمية وبقي محمد بن عامر المكناسي
عامل الشيعة بعدوة القرويين إلى سنة ست وسبعين وثلاثمائة فأتى أبو بياش فدخل عدوة
القرويين بالسيف وقبض على محمد بن عامر المكناسي فقتله وخطب بها لبني أمية أيضا
هكذا في القرطاس
وقال ابن خلدون إن المنصور بن أبي عامر عقد على المغرب بعد انصراف عسكلاجة عنه
للوزير حسن بن أحمد بن عبد الودود السلمي وأطلق يده في الأموال والرجال وأرسله
إليه سنة ست وسبعين وثلاثمائة وأوصاه بالإحسان إلى مغراوة ولا سيما مقاتل وزيري
ابنا عطية لحسن انحياشهم إلى المروانيين وصدق طاعتهم لهم وأغراه بيدو بن يعلى
اليفرني لتمريضه في الطاعة وقيامه مع الحسن بن كنون فنفذ الوزير حسن بن أحمد بن
عبد الودود لعمله ونزل بفاس وضبط المغرب أحسن ضبط واجتمعت عليه مغراوة
ثم هلك مقاتل بن عطية سنة ثمان وسبعين وورث رياسته على بادية قومه أخوه زيري بن
عطية وحسنت صحبته للوزير حسن بن أحمد بن عبد الودود ومعاملته له
____________________
ثم إن المنصور بن أبي عامر استدعى زيري بن عطية للوفادة عليه بقرطبة فوفد عليه
وأحسن المنصور إليه ورفع منزلته ثم عاد إلى المغرب وأمره بقتال يدو بن يعلى
اليفرني فاجتمع عليه هو والوزير ابن عبد الودود فقاتلوه فانتصر عليهم يدو بن يعلى
وقتل الوزير ابن عبد الودود
ثم عقد المنصور بن أبي عامر لزيري بن عطية م بعده على المغرب وفاس وكان ذلك سنة
إحدى وثمانين وثلاثمائة هذا ملخص ما عند ابن خلدون في هذا الخبر ثم حكى بعده ما
يخالفه مما نذكره مبسوطا عن قريب وتوقف في أيهما الصواب والله أعلم الخبر عن دولة
زيري بن عطية المغراوي بفاس والمغرب
هو زيري بن عطية بن عبد الله بن خزر المغراوي وعبد الله المذكور هو أحد الإخوة
الأربعة من بني خزر قال في القرطاس ملك على زناتة سنة ثمان وستين وثلاثمائة فقام
في المغرب بدعوة هشام المؤيد بالله وحاجبه المنصور بن أبي عامر وذلك بعد انقراض
دولة الأدارسة منه وبني أبي العافية المكناسيين فغلب زيري أولا على جميع بوادي
المغرب ثم ملك مدينتي فاس بعد عسكلاجة وأبي بياش دخلها سنة سبع وسبعين وثلاثمائة
فاستوطنها وصيرها دار ملكه واستقام له أمر المغرب فعلا قدره وقوي سلطانه وارتفع شأنه
وهو في ذلك متمسك بدعوة بني مروان أصحاب الأندلس والله غالب على أ مره
____________________
حديث أبي البهار الصنهاجي مع ا
لمنصور ابن أبي عامر وما نشأ عن ذلك
كان أبو البهار بن زيري بن مناد الصنهاجي قد خالف على ابن أخيه منصور بن بلكين ابن
زيري بن مناد الصنهاجي أمير إفريقية وظهور الدولة العبيدية وخلع دعوة الشيعة ومال
إلى دعوة المروانيين وغلب على المهدية وتونس وشلشال وتلمسان ووهران وشلف وكثير من
بلاد الزاب وخطب للمؤيد وحاجبه المنصور بن أبي عامر وبعث ببيعته إليهم وذلك في سنة
سبع وسبعين وثلاثمائة فلما وصلت بيعته إلى المنصور بن أبي عامر بعث إليه بعهده على
ما بيده من البلاد وبهدية وخلع وبأربعين ألف دينار فلما قبض أبو البهار المال
والهدية أقام على بيعتهم نحو الشهرين ثم خلعهم وعاد إلى العبيديين فبلغ ذلك
المنصور فغاظه وكتب إلى زيري بن عطية بعهده على بلاد أبي البهار وأمره بقتاله
عليها فسار إليه زيري بن عطية من فاس في جيوش لا تحصى من قبائل زناتة وغيرهم ففر
أبو البهار أمامه ولحق بابن أخيه منصور بن بلكين وترك له البلاد فملك زيري بن عطية
تلمسان وسائر أعمال أبي البهار فانبسط سلطانه بالمغرب من السوس الأقصى إلى الزاب
وكتب بالفتح إلى المنصور بن أبي عامر وبعث له بهدية عظيمة فيها مائتا فرس من عتاق
الخيل وخمسون جملا مهريا سابقة وألف درقة من جلود اللمط وأحمال كثيرة من قسي الزان
وقطوط الغالية والزرافة وأصناف الوحوش الصحراوية كاللمط وغيره وألف حمل من التمر
الجيد في جنسه وأحمال كثيرة من ثياب الصوف الرقيقة فسر بها المنصور وكافأه عليها
وكتب له بتجديد عهده على المغرب وذلك سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة واقام زيري بن
عطية بفاس وأسكن قبيله بأنحائها وبالقرب منها في قياطينهم ودفع بني يفرن عن فاس
وأحوازها إلى نواحي سلا فاستولوا عليها كما سيأتي
____________________
وفادة زيري بن عطية على
المنصور بن أبي عامر بالأندلس
لما كانت سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة استدعى المنصور بن أبي عامر زيري بن عطية
أن يقدم عليه بقرطبة فاستخلف على المغرب ولده المعز بن زيري وأمره بسكنى تلمسان
واستخلف على عدوة الأندلس من فاس عبد الرحمن بن عبد الكريم بن ثعلبة وعلى عدوة
القرويين منها علي بن محمد بن أبي علي بن قشوش وولى قضاء المدينتين الفقيه الفاضل
أبا محمد قاسم بن عامر الأزدي وسار إلى الأندلس وقدم بين يديه هدية عظيمة من
جملتها طائر فصيح يتكلم بالعربية والبربرية ودابة من دواب المسك ومهاة وحشية تشبه
الفرس وحيوانات غريبة وأسدان عظيمان في قفصين من حديد وشيء كثير من التمر في غاية
الكبر الواحدة منه تشبه الخيارة عظما وحمل معه من قومه وعبيدة ثلاثمائة فارس
وثلاثمائة راجل فاحتفل المنصور لقدومه احتفالا عظيما وبرز الخاصة والعامة للقائه
وأنزله بقصر جعفر الحاجب وتوسع له في الجرايات والإكرام ولقبه باسم الوزير وأفاض
عليه أموالا جسيمة وخلعا نفيسة وعجل بسراحه إلى عمله بعد أن جدد له عهده على
المغرب وعلى جميع ما غلب عليه منه فعبر البحر واحتل بمدينة طنجة فلما استقر بها
وضع يده على رأسه وقال الآن علمت أنك لي فاستقل ما وصله به المنصور واستقبح اسم
الوزارة الذي سماه به ولقد خاطبه به بعض رجاله فنهاه عن ذلك وقال وزير من يالكع لا
والله إلا أمير ابن أمير واعجبا لابن أبي عامر ومخرقته لأن تسمع بالمعيدي خير من
أن تراه والله لو كان بالأندلس رجل ما تركه على حاله وإن له منا ليوما وبلغت
مقالته المنصور فصر عليها أذنه وزاد في اصطناعه إلى أن كان ما نذكره
____________________
استيلاء يدو بن يعلى اليفرني
على فاس ومقتله
تقدم لنا أن بني يفرن من أعيان قبائل زناتة وكان يدو بن يعلى بن محمد بن صالح
اليفرني قد قام بأمر بني يفرن بعد مقتل أبيه يعلى بن محمد حين قتله جوهر الكاتب
قائد الشيعة سنة سبع وأربعين وثلاثمائة فملك يدو كثيرا من بوادي المغرب واتصلت
رياسته إلى هذا التاريخ
وتقدم لنا أن مغراوة دفعوا بني يفرن إلى سلا وأحوازها فاستولوا عليها وكان الأمير
يدو بن يعلى مضاهيا لزيري بن عطية في الحسب والفضل والمال
ولما استدعى المنصور بن أبي عامر زيري بن عطية للوفادة المتقدمة أراد أن يفعل بيدو
بن يعلى مثل ذلك وكان قصده أن يمكر به لأنه كان لا يطمئن إليه اطمئنان زيري بن
عطية فاساء يدو بن يعلى إجابة المنصور وقال متى عهد المنصور حمر الوحش تنقاد
للبياطرة فأقصر عنه المنصور
وكانت بين زيري ويدو بن يعلى منافسات ومنازعات على الرياسة بالمغرب فكان يدو بن
يعلى إذا غلب على زيري دخل مدينة فاس واستولى عليها وإذا غلب عليه زيري أخرجه عنها
وملكها وكانت الحرب بينهما سجالا وسئمت الرعية بفاس كثرة تعاقبهم عليها
ثم لما سافر زيري بن عطية إلى الأندلس انتهز يدو بن يعلى الفرصة في غيبته فزحف إلى
فاس ودخل منها عدوة الأندلس بالسيف في ذي القعدة سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة
وقتل بها خلقا كثيرا من مغراوة فلما نزل زيري بن عطية بطنجة اتصل به خبر يدو بن
يعلى واستيلاؤه على فاس فأسرع السير نحوه حتى نزل قريبا من فاس فكانت بينهما حرب
شديدة هلك فيها خلق كثير من القبيلتين مغراوة وبني يفرن إلى أن هزمه زيري واقتحم
عليه فاسا عنوة فقتله ومثل به وبعث برأسه إلى المنصور بن أبي عامر بقرطبة وذلك سنة
ثلاث وثمانين وثلاثمائة
____________________
بناء مدينة وجدة
لما قتل زيري بن عطية يدو بن يعلى صفا له أمر المغرب ولم يبق له به منازع وهابته
الملوك وبقي الأمر مستقيما بينه وبين المنصور في الظاهر فسمت همته إلى بناء مدينة
تكون خاصة به ويقومه وأرباب دولته فبنى مدينة وجدة وشيد أسوارها وأحكم قصبتها وركب
أبوابها وسكنها بأهله وحشمه ونقل إليها أمواله وذخائره وجعلها قاعدة ملكه لكونها
واسطة البلاد وثغرا للعمالتين المغرب الأقصى والأوسط وكان اختطاطه إياها في شهر
رجب سنة أربع وثمانين وثلاثمائة ولم يزل زيري بن عطية في علو سلطان وارتفاع شأن
إلى سنة ست وثمانين وثلاثمائة ثم حدث ما نذكره حدوث النفرة بين زيري بن عطية
والمنصور بن أبي عامر وما نشأ عن ذلك
ثم فسد ما بين المنصور وبين زيري بن عطية واتصل بالمنصور أن زيري ينتقصه ويعرض في
شأنه وحجره على المؤيد ويتكلم فيه بالقبيح فقطع المنصور عنه رزق الوزارة الذي كان
يجريه عليه في كل سنة ومحى اسمه من ديوانه ونادى بالبراءة منه فعزم زيري على خلافة
فقطع ذكره من الخطبة واقتصر على ذكر هشام المؤيد وطرد عماله من المغرب وألجأهم إلى
سبتة فأنفذ إليه المنصور بن أبي عامر مولاه واضحا الفتى في جيش عظيم وأمده بالحماة
من سائر الطبقات وأزاح عللهم وأفاض عليهم الأموال للنفقات
____________________
وأنواع السلاح والكسى فعبر
واضح البحر واستقر بمدينة طنجة فانضم إليه بعض قبائل البربر من غمارة وصنهاجة
وغيرهم وبايعوه على قتال زيري بن عطية ومن معه من قبائل زناتة فأفاض عليهم الخلع
والأموال
ثم أمد المنصور بمن كان معه بالأندلس من ملوك البربر النازعين عن زيري بن عطية
إليه فتكاملت جيوشه وخرج بهم واضح من طنجة يؤم فاسا فاتصل خبره بزيري بن عطية فخرج
إليه من فاس في عساكر زناتة فالتقى الجمعان بوادي زادات فكانت بينهما حروب بعد
العهد بمثلها مدة من ثلاثة أشهر إلى أن انهزم واضح وقتل أكثر جيشه وفر واضح إلى
طنجة فدخلها منهزما وكتب إلى المنصور يطلب منه المدد
وقال ابن خلدون إن واضحا حين برز من طنجة وزحف إليه زيري بن عطية تواقفا ثلاثة
أشهر ثم تناول واضح آصيلا ونكور فضبطهما واتصلت الوقائع بينه وبين زيري ثم بيت
واضح معسكر زيري بنواحي آصيلا وهم غارون فأوقع بهم
وخرج المنصور من قرطبة فوصل إلى الجزيرة الخضراء ثم أجاز ابنه عبد الملك المظفر
بجميع عسكر الأندلس وقوادها حتى بقي المنصور وحده وأمره بحرب زيري بن عطية فركب
المظفر البحر من الجزيرة الخضراء إلى سبتة
واتصل خبر المظفر بزيري بن عطية فخافه وأخذ في الاستعداد لملاقاته وكتب إلى جميع
قبائل زناتة يستصرخهم فأتته الوفود من بلاد ملوية وتلمسان والزاب وسائر بوادي
وناتة فنهض بهم إلى قتال عبد الملك المظفر بن المنصور بن أبي عامر وبرز عبد الملك
من طنجة ومعه واضح الفتى في جيوش لا تحصى والتقى الجمعان بوادي منى من أحواز طنجة
فكانت بينهم
____________________
حرب أعظم من الأولى ودام
القتال بينهم يوما إلى الليل
وكان في عسكر زيري بن عطية غلام أسود اسمه سلام كان زيري قد قتل أخاه فوجد الفرصة
إليه فانتهزها وضربه بسكين في نحره ثلاث ضربات فأشواه أي لم يصب مقتله ومر الأسود
يشتد نحو المظفر وبشره بقتل زيري فاستكذبه ثم سقط إليه الخبر الصحيح بأن زيري قد
أثبت فشد عليهم عبد الملك وهم في حال دهشة من جرح أميرهم فهزمهم واستمرت الهزيمة
على زيري وأصحابه واثخن فيهم عبد الملك بالقتل وملك محلة زيري بأسرها واحتوى على
جميع ما فيها من المال والسلاح والكراع والإبل والعدة فاستولى من ذلك على ما لا
يأخذه الحصر
ومضى زيري على وجهه حتى انتهى إلى موضع يعرف بمضيق الحية بالقرب من مكناسة فعسكر
به واجتمع إليه الفل من قومه وعزم على الرجوع لمناجزة المظفر فاتصل الخبر بالمظفر
فانتخب من عسكره خمسة آلاف فارس وقدم عليهم واضحا الفتى ونهضوا إلى زيري بن عطية
فضربوا في محلته ليلا بمضيق الحية وهم آمنون فأوقعوا بهم وقعة عظيمة أسر فيها من
اشراف مغراوة نحو ألفي رجل وذلك في منتصف رمضان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة فامتن
عليهم عبد الملك المظفر وأركبهم معه فكانوا من جنده وفر زيري بن عطية في شرذمة من
أصحابه وبني عمه فانتهى إلى فاس فأغلق أهلها الأبواب دونه فسألهم أن يخرجوا إليه
عياله وأولاده فأخرجوهم إليه وأعطوه مع ذلك الزاد والدواب فأخذهم وانصرف إلى
الصحراء فنزل بلاد صنهاجة وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى
____________________
قدوم عبد الملك المظفر بن
المنصور بن أبي عامر مدينة فاس وما كان من شأنه بها
لما انهزم زيري بن عطية من مضيق الحية إلى الصحراء نهض عبد الملك المظفر من معسكره
يؤم فاسا فدخلها يوم السبت منسلخ شوال سنة سبع وثمانين وثلاثمائة فاستقبله أهلها
مستبشرين به فأحسن لقاءهم وكتب إلى أبيه المنصور بالفتح فقرأ الكتاب على منبر جامع
الزهراء من قرطبة وعلى منابر مساجد الأندلس كلها شرقا وغربا وأعتق المنصور ألفا
وخمسمائة مملوك وثلاثمائة مملوكة شكرا لله تعالى وفرق أموالا كثيرة على الفقراء
وذوي الحاجات وكتب إلى ولده المظفر بعهده على المغرب وأوصاه بحسن السيرة والعدل
فقرأ كتابه على منبر مسجد القرويين وذلك يوم الجمعة آخر ذي القعدة من السنة
المذكورة
وانصرف واضح إلى الأندلس واستوطن عبد الملك مدينة فاس وعدل فيها عدلا لم يعهدوه من
أحد قبله وأقام بها ستة أشهر ثم صرفه والده عنها إلى الأندلس وبعث إليها عوضا عنه
عيسى بن سعيد صاحب الشرطة فأقام واليا عليها إلى صفرة سنة تسع وثمانين وثلاثمائة
فعزله المنصور عنها وعما كان ولاه من بلاد العدوة وولى عليها واضحا الفتى وانصرف
عيسى بن سعيد إلى الأندلس من السنة المذكورة بقية أخبار زيري بن عطية
لما نزل زيري بن عطية ببلاد صنهاجة وجدهم قد اختلفوا على ملكهم باديس بن منصور بن
بلكين بن زيري بن مناد صاحب إفريقية فأرسل زيري بن عطية في قبائل زناتة حاشرين
فأتى منهم خلق كثير من مغراوة
____________________
وغيرهم فاغتنم زيري تلك الفرصة
من صنهاجة فزحف إليهم وأوغل في بلادهم وهزم جيوشهم ودخل مدينة تاهرت وجملة من بلاد
الزاب وملك مع ذلك تلمسان وشلف والمسيلة وأقام بها الدعوة للمؤيد وحاصر مدينة آشير
قاعدة بلاد صنهاجة وكتب إلى المنصور بن أبي عامر بذلك يسترضيه ويشترط على نفسه
الرهن والاستقامة إن أعيد إلى ولايته وبينما هو محاصر لآشير يباكرها ويراوحها
بالقتال انقضت عليه جراحاته التي كان جرحه الأسود فمات منها سنة إحدى وتسعين
وثلاثمائة الخبر عن دولة المعز بن زيري بن عطية المغراوي
لما هلك زيري بن عطية اجتمع آل خزر وكافة مغراوة من بعده على ابنه المعز بن زيري
فبايعوه وضبط أمرهم وأقصر عن محاربة صنهاجة وصالح المنصور بن أبي عامر وقام بدعوته
ورجع إلى طاعته ولم يزل على ذلك إلى أن توفي المنصور وولي ابنه بعده عبد الملك
المظفر فيايعه المعز أيضا ودعا له على منابره فعزل المظفر واضحا الفتى عن فاس
وسائر بلاد المغرب وصرفه إلى الأندلس وكتب إلى المعز بن زيري بعهده على فاس وسائر
أعمال المغرب حواضره وبواديه وذلك سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وشرط له المعز أن
يؤدي إليه في كل سنة مالا معلوما وخيلا ودرقا يوصل ذلك إلى قرطبة وأعطاه مع ذلك
ولده معنصر بن المعز رهنا وكانت نسخة كتاب العهد
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله
من الحاجب المظفر سيف الدولة دولة الإمام الخليفة هشام المؤيد بالله أمير المؤمنين
أطال الله بقاءه عبد الملك بن المنصور بن أبي عامر إلى كافة أهل مدينتي فاس وكافة
أهل المغرب سلمهم الله أما بعد أصلح الله
____________________
شأنكم وسلم أنفسكم وأديانكم
فالحمد لله علام الغيوب وغفار الذنوب ومقلب القلوب ذي البطش الشديد المبدئ المعيد
الفعال لما يريد لا راد لأمره ولا معقب لحكمه بل له الملك والأمر وبيده الخير
والشر إياه نعبد وإياه نستعين وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وصلى الله على
سيدنا محمد سيد المرسلين وعلى آله الطيبين وجميع الأنبياء والمرسلين والسلام عليكم
أجمعين وإن المعز بن زيري بن عطية أكرمه الله تابع رسله لدينا وكتبه متنصلا من
هنات دفعته إليها ضرورات ومستغفرا من سيئات حطتها من توبته حسنات والتوبة ممحاة
الذنب والاستغفار منقذ من العتب وإذا أذن الله بشيء يسره وعسى أن تكرهوا شيئا ولكم
فيه خيره وقد وعد من نفسه استشعار الطاعة ولزوم الجادة واعتقاد الاستقامة وحسن
المعونة وخفة المؤنة فوليناه ما قبلكم وعهدنا إليه أن يعمل بالعدل فيكم وأن يرفع
أعمال الجور عنكم وأن يعمر سبلكم وأن يقبل من محسنكم ويتجاوز عن مسيئكم إلا في
حدود الله تبارك وتعالى وأشهدنا الله عليه بذلك وكفى بالله شهيدا وقد وجهنا الوزير
أبا علي بن حذيم أكرمه الله وهو من ثقاتنا ووجوه رجالنا ليأخذ بشأنه ويؤكد العهد
فيه عليه بذلك وأمرناه بإشراككم فيه ونحن بأمركم معتنون ولأحوالكم مطلعون وأن يقضي
على الأعلى للأدنى ولا يرضى فيكم بشيء من الأدنى فثقوا بذلك واسكنوا إليه وليمض
القاضي أبو عبد الله أحكامه مشدودا ظهره بنا معقودا سلطانه بسلطاننا ولا تأخذه في
الله لومة لائم فذلك ظننا به إذ وليناه وأملنا فيه إذا قلدناه والله المستعان وعليه
التكلان لا إله إلا هو ولتبلغوا منا سلاما طيبا جزيلا ورحمة الله وبركاته
____________________
ولما وصل إلى المعز بن زيري العهد بولايته على المغرب ما عدا كورة سجلماسة فإنها
كانت لبني خزرون بن فلفل ضم نشره وثاب إليه نشاطه وبث عماله في جميع كور المغرب
وجبا خراجها لم تزل ولايته متسقة وطاعة رعاياه منتظمة إل إلى افترق أمر الجماعة
بالأندلس واختل رسم الخلافة بها فاضطرب أمر المغرب على المعز وأقام على ذلك إلى أن
هلك سنة سبع عشرة وأربعمائة كذا عند ابن خلدون
وفي القرطاس لم تزل بلاد المغرب أيام المعز في غاية الهدنة والعافية والرخاء
والأمن إلى أن توفي في جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة والله أعلم
وأما ابنه معنصر فإنه أقام بقرطبة إلى أن قامت الفتنة بالأندلس وانقرضت الدولة
العامرية فانصرف معنصر إلى أبيه وعشيرته بفاس
وحكي في القرطاس أنه لما كانت سنة تسع وتسعين وثلاثمائة وتوفي عبد الملك المظفر
وولي بعده أخوه عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر بعث إليه المعز بن زيري بهدية
نفيسة فيها خمسون فرسا وكان ولده معنصر مرتهنا عنده بقرطبة كما قلنا فأحضر الحاجب
عبد الرحمن معنصر بن المعز حين وصلت إليه هدية أبيه فخلع عليه وعلى الرسل الذين
قدموا عليه بالهدية وبعث به إلى أبيه مكرما فجمع المعز كل فرس كان عنده وبعث به
إلى قرطبة وكان مبلغ عدد الخيل تسعمائة فرس ولم تصل من المغرب إلى الأندلس هدية
أعظم منها
____________________
الخبر عن دولة حمامة بن المعز
بن عطية المغراوي
لما توفي المعز بن زيري بن عطية ولي بعده ابن عمه حمامة بن المعز بن عطية وليس
بابن له كما زعم بعض المؤرخين وإنما هو ابن عمه وقع الاتفاق في بعض الأسماء فنشأ
الغلط واستولى حمامة على عمل فاس والمغرب واستفحل ملكه وقصده الأمراء والعلماء
وأتته الوفود ومدحه الشعراء
وكانت الدولة بالأندلس قد تداعت إلى الاختلال فكان ذلك من أسباب استفحال الدولة
المغراوية بفاس والمغرب واستقلال بالأمر فكان لحمامة من الظهور ما ذكرناه إلى أن
أصابته عين الكمال بمنازعة أبي الكمال على ما نذكره الخبر عن دولة أبي الكمال تميم
بن زيري اليفرني واستيلائه على فاس وأعمالها
قد تقدم لنا أن بني يفرن كانوا قد تحيزوا إلى النواحي سلا فاستولوا عليهاوعلى
مدينة شالة ثم ملكوا تادلا وما والاها من البلاد
ثم لما كانت سنة أربع وعشرين وأربعمائة كان الأمير على بني يفرن أبا الكمال تميم
بن زيري بن يعلى بن محمد بن صالح اليفرني فزحف من سلا إلى فاس في قبائل بني يفرن
ومن انضاف إليهم من زتاته وبرز إليه حمامة في جموع مغراوة ومن إليهم فكانت بينهم
حرب شديدة أجلت عن هزيمة حمامة ومات من مغراوة أمم واستولى تميم على فاس وأعمال
المغرب ودخلها في جمادى الآخرة من السنة المذكورة واستباح يهود فاس فقتل منهم أكثر
من ستة آلاف يهودي وسبى حرمهم واصطلم نعمتهم بالمرة ولحق حمامة بوجدة فاستمد من
كان هنالك من قبائل مغراوة وزناتة
____________________
وأنجاد قبائل ملوية وانتهى إلى
تنس فاستنفر من هنالك من زناتة وبعث الحاشدين في قياطينهم إلى جميع بلاد المغرب الأوسط
وكاتب من بعد عنه من رجالاتهم فاجتمع له من ذلك جم غفير ثم زحف إلى فاس سنة تسع
وعشرين وأربعمائة فأفرج عنها أبو الكمال ولحق ببلده ومقر ملكه من شالة وأقام بها
إلى أن هلك سنة ست وأربعين وأربعمائة وكانت مدة استيلائه على فاس وأعمالها خمس
سنين وقيل سبع سنين
وكان أبو الكمال اليفرني يغلب عليه الجفاء والجهل ومع ذلك فقد كان صلبا في دينه
مستقيما فيه مولعا بجهاد برغواطة كان يغزوهم مرتين في السنة إلى أن توفي ولما كانت
سنة اثنتين وستين وأربعمائة وقتل ابنه في حرب لمتونة جاؤوا به ليدفنوه إلى جانب
قبر أبيه أبي الكمال فسمعوا من قبره تكبيرا وتشهدا كثيرا فنبشوا قبره فألفوه لم
يتغير منه شيء ثم رآه بعض قرابته في النوم فقال له ما هذا التكبير والتشهد الذي
سمعناه من قبرك قال تلك الملائكة وكلهم الله بقبري يكبرون ويهللون ويسبحون ويكون
ثواب ذلك لي إلى يوم القيامة قال وبم نلت ذلك قال بجهادي برغواطة حكي هذا الخبر في
القرطاس والله على كل شيء قدير وأقام حمامة في سلطان فاس والمغرب إلى أن توفي سنة
إحدى وثلاثين وأربعمائة وقيل غير ذلك
____________________
الخبر عن دولة دوناس بن حمامة
ابن المعز بن عطية المغراوي
لما توفي حمامة بن المعز ولي بعده ابنه دوناس بن حمامة ويكنى ابا العطاف واستولى
على فاس وسائر ما كان لأبيه من مدن المغرب وأعماله وخرج عليه لأول دولته ابن عمه
حماد بن معنصر بن المعز بن عطية فجرت له معه حروب وخطوب وكثرت جموع حماد وغلب على
ضواحي فاس وحاصرها حصارا شديدا وقطع عن عدوة القرويين جرية الوادي واحتفر السياج
المعروف بسياج حماد ويقال إن دوناس خندق به على نفسه واستمر حماد محاصرا لفاس إلى
أن هلك سنة خمس وثلاثين وأربعمائة فاستقامت دولة دوناس وانفسحت أيامه وصار الناس
في هدنة ودعة ورخاء كثير
وفي أيامه عظمت فاس وعمرت وكثرت أرباضها وقصدها الناس والتجار من جميع النواحي
فأدار دوناس السور على أرباضها وبنى بها المساجد والحمامات والفنادق واستبحر
عمرانها فصارت حاضرة المغرب من يومئذ ولم يشتغل دوناس من يوم ولي إلى ان توفي إلا
بالبناء والتشييد وكانت وفاته في شوال سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة الخبر عن دولة
فتوح بن دوناس المغراوي
لما توفي دوناس بن حمامة ولي بعده ابنه الفتوح بن دوناس ونزل بعدوة الأندلس ونازعه
اللأمر أخوه الأصغر واسمه عجيسة وكان شهما محربا
____________________
فاستولى على عدوة القرويين
واستبد على أخيه وافترق أمر فاس وأعمالها بافتراقهما وقامت الحرب بينهما على ساق
وبنى الفتوح بعدوة الأندلس قصبة منيعة بالموضع المعروف بالكدان وبنى عجيسة أيضا
قصبة مثلها برأس عقبة السعتر من عدوة القرويين وكثرت العداوة بينهما واستحكمت
فكانا لا يفتران عن القتال ليلا ونهارا وعظم الخوف بالمغرب وكثر الهرج وغلت الأسعار
واشتدت المجاعة وظهرت لمتونة على أطراف البلاد فملكوها والأمر لا زال والحال ما
حال وليس لأهل فاس شغل إلا القتال واستمر الأمر على ذلك ثلاث سنين إلى أن بيت
الفتوح عجيسة فاقتحم عليه عدوة القرويين ليلا فقتله واستولى على العدوتين معا
والفتوح بن دوناس هذا هو الذي بنى باب الفتوح من مدينة فاس بسورها القبلي وبه عرف
إلى الآن وأخوه عجيسة هو الذي بنى باب عجيسة برأس عقبة السعتر من عدوة القرويين من
ناحية الجوف وبه عرف أيضا إلى ألآن فلما ظفر الفتوح بعجيسة وقتله أمر بتغيير اسم
الباب المنسوب إليه فأسقط الناس العين من عجيسة وعوضوا عنها الألف واللام فقالوا
باب الجيسة قاله في القرطاس وقال ابن خلدون خففوه لكثرة الاستعمال
ولم يزل الفتوح مستوليا على فاس إلى أن دهم المغرب ما دهمه من أمر المرابطين من
لمتونة وخشي الفتوح مغبة ذلك فأفرج عن فاس وتخلى عنها وزحف صاحب القلعة بلكين بن
محمد بن حماد الصنهاجي إلى المغرب سنة أربع وخمسين وأربعمائة ودخل فاسا واحتمل من
أكابرها وأشرافها عددا رهنا على الطاعة وقفل إلى قلعته الخبر عن دولة معنصر بن
حماد بن معنصر بن المعز بن عطية المغراوي
لما تخلى الفتوح بن دوناس عن ملك فاس وأعمالها قام بالأمر بعده
____________________
قريبة معنصر بن حماد بن معنصر
بن المعز بن عطية فبايعته قبائل مغراوة الذين بفاس وأحوازها وذلك في رمضان سنة خمس
وخمسين وأربعمائة وكان معنصر ذا حزم ورأي وشجاعة وإقدام وشغل بحرب لمتونة وكانت له
عليهم الوقعة المشهورة
ثم غلب يوسف بن ناشفين على فاس وخلف عليها عامله وارتحل إلى عمارة وفتح الكثير من
بلادها حتى أشرف على طنجة ثم رجع إلى حصار قلعة فازاز فخالفه معنصر إلى فاس وملكها
وقتل العامل ومن معه من لمتونة ومثل بهم بالحرق والصلب واتصل الخبر بيوسف بن
تاشفين وهو محاصر لقلعة فازاز فاستدعى مهدي بن يوسف الكزنائي صاحب مكناسة ليستجيش
به على فاس فاستعرضه معنصر في طريقه قبل أن تتصل أيديهما وناجزه الحرب ففض جموعه
وقتله وبعث برأسه إلى وليه الحاجب سكوت البرغواطي صاحب سبتة
واستصرخ أهل مكناسة بيوسف بن تاشفين فسرح عساكر لمتونة إلى حصار فاس فأخذوا
بمخنقها وقطعوا المرافق عنها وألحوا بالقتال عليها حتى اشتد بأهلها الحصار ومسهم
الجد وبرز معنصر لإحدى الراحتين فكانت الدائرة عليه وفقد في الملحمة ذلك اليوم سنة
ستين وأربعمائة فلم يدر ما فعل الله به سبحانه وتعالى الخبر عن دولة تميم بن معنصر
المغراوي
لما فقد معنصر بن حماد في الملحمة التي كانت بينه وبين اللمتونيين بايع أهل فاس من
بعده لابنه تميم بن معنصر فكانت أيامه أيام حصار وفتنة وجهد وغلاء
وشغل يوسف بن تاشفين عنهم بفتح بلاد غمارة حتى إذا كانت سنة ثنتين وستين وفرغ من
فتح غمارة صعد إلى فاس فحاصرها أياما ثم اقتحمها عنوة وقتل بها زهاء ثلاثة آلاف من
مغراوة وبني يفرن ومكناسة وغيرهم
____________________
وهلك تميم بن معنصر في جملتهم
حتى عجز الناس عن مواراتهم فرادى فاتخذوا لهم الأخاديد وقبروا جماعات وخلص من نجا
من القتل منهم إلى تلمسان قاله ابن خلدون
وقال في القرطاس دخل يوسف بن تاشفين مدينة فاس الدخلة الثانية الكبرى فقتل بها من
مغراوة وبني يفرن في أزقتها وجوامعها ما يزيد على العشرين ألف رجل وذلك سنة اثنتين
وستين وأربعمائة وانقرضت دولة مغراوة من المغرب والبقاء لله وحده
وكانت مدة دولتهم نحو مائة سنة وفي دولتهم عظم شأن فاس وبنيت الأسوار على أرباضها
وحصنت أبوابها وزيد في مسجديها القرويين والأندلس زيادة كثيرة واتسع الناس في أيام
مغراوة في البناء فعظمت فاس واستبحر عمرانها وكثرت خيراتها واتصل الأمن والرخاء جل
أيامهم إلى أن ضعفت أحوالهم وجاروا على رعيتهم بأخذ أموالهم وسفك دمائهم والتعرض لحرمهم
فانقطعت عنهم المواد وكثر الخوف في البلاد وغلت الأسعار وبلى الله عباده بشيء من
الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وذلك في دولة الفتوح بن دوناس ومن
بعده فكان رؤساء مغراوة وبني يفرن يلجون على ا لناس دورهم فيأخذون ما يجدون بها من
الطعام ويتعرضون لنسائهم وصبيانهم ويأخذون أموال التجار فلا يقدر أحد أن يصدهم عن
ذلك
وكان سفهاؤهم وعبيدهم يصعدون على قنة جبل العرض فينظرون إلى الدور التي بالمدينة
فإذا رأوا دارا بها دخان قصدوها وأخذوا ما وجدوا بها من طعام أو غيره ومن تعرض لهم
في ذلك قتلوه فلما ارتكبوا هذه العظائم سلبهم الله ملكه وغير ما بهم من نعمة {
الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } فسلط عليهم المرابطين فمحوا آثارهم
من المغرب ونفوهم عنه بالكلية وطهروه من جورهم
وفي أيامهم اتخذ أهل فاس المطامير في بيوتهم للطحن والطبخ لئلا
____________________
يسمع دوي الرحى فتقصدهم سفهاء
مغراوة وفيها أيضا اتخذوا غرفا لا مراقي لها حتى إذا كان عشى النهار صعد الرجل
بأهله وعياله إليها بسلم ثم يرفع السلم معه لئلا يدخل عليه فجأة وكان من هذا شيء
كثير
وكان من الأحداث في هذه المدة أنه في ليلة الخميس الثالث والعشرين من رجب سنة إحدى
وثمانين وثلاثمائة ظهر نجم في السماء كان في رأي العين مثل الصومعة العظيمة طلع من
جهة المشرق وتهافت جريا فيما بين المغرب والجوف وتطاير منه شرر عظيم فزع الناس منه
واستغاثوا ربهم في صرف مكروهة عنهم
وفي سنة اثنتين وثمانين بعدها كان الكسوف الكلي الذي أذهب جميع الفرص
وفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة كانت الريح الهائلة التي نظر الناس فيها إلى
البهائم تمر بين السماء والأرض نعوذ بالله من سخطه
وفي سنة أربع وتسعين وثلاثمائة طلع الكوكب الوقاد وهو نجم عظيم ضخم الجرم كثير
الضياء
وفي سنة ست وتسعين وثلاثمائة طلع نجم عظيم من ذوات الأذناب شديد الارتعاد
وفي سنة سبع وأربعمائة انقرضت دولة بني أمية بالأندلس وقامت بها دولة بني حمود
فكانت مدتها نحو سبع سنين وانقرضت أيضا وافترق أمر الجماعة بالأندلس وصار الملك
بها طوائف إلى أن نسخ ذلك يوسف بن تاشفين
وفي سنة إحدى عشرة وأربعمائة اشتد القحط ببلاد المغرب كلها من تاهرت إلى سجلماسة
وكثر الفناء في الناس نسأل الله العافية
وفي سنة خمس عشرة وأربعمائة كانت الزلزلة العظيمة بالأندلس اضطربت لها الأرض
وانهدت الجبال
____________________
وفي سنة سبع عشرة وأربعمائة توفي الفقيه ابن العجوز بفاس
وفي سنة ثلاثين وأربعمائة توفي الشيخ الفقيه أبو عمران الفاسي قال في التشوف أبو
عمران موسى بن عيسى بن أبي حاج الفاسي أصله من مدينة فاس ونزل بالقيروان فأخذ عن
ابي الحسن القابسي ثم رحل إلى بغداد فحضر مجلس القاضي أبي بكر بن الطيب ثم عاد إلى
القيروان وبها مات لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة ثلاثين وأربعمائة وكان
مقدما في الفضل والأمانة اه
____________________
2
____________________
بسم الله الرحمن الرحيم الدولة المرابطية الخبر عن الدولة الصنهاجية اللمتونية
المرابطية وأوليتها
قد تقدم لنا عند الكلام على نسب البربر وشعوبها أن صنهاجة إحدى قبائل البرانس من
البربر وأنهم أعظم قبائلها بالمغرب لا يكاد قطر من أقطاره يخلو من بطن من بطونهم
في جبل أو بسيط حتى زعم كثير من الناس أنهم ثلث البربر
وتقدم لنا أن النسابين من العرب زعموا أن صنهاجة وكتامة من حمير خلفهم الملك
إفريقيش بالمغرب فاستحالت لغتهم إلى البربرية والتحقيق خلاف ذلك وأنهم من كنعان بن
حام كسائر البربر وتحت صنهاجة قبائل كثيرة تنتهي إلى السبعين منهم لمتونة وكدالة
ومسوفة ومسراته ومداسة وبنو وارث وبنو دحير وبنو زياد وبنو موسى وبنو فشتال وغير
ذلك وتحت هذه القبائل بطون وأفخاذ تفوت الحصر
وكانت لهم بالمغرب دولتان عظيمتان إحداهما دولة بني زيري بن مناد الصنهاجيين
بإفريقية ورثوا ملكها من يد الشيعة العبيديين والأخرى دولة الملثمين بالمغرب
الأقصى والأوسط والأندلس كما سيأتي
وموطن هؤلاء الملثمين أرض الصحراء والرمال الجنوبية فيما بين بلاد البربر وبلاد
السودان ومساحة أرضهم نحو سبعة أشهر طولا في أربعة عرضا وفيهم قوما لا يعرفون حرثا
ولا زرعا ولا فاكهة وإنما أموالهم الأنعام وعيشهم اللحم واللبن يقيم أحدهم عمره لا
يأكل خبزا إلا أن يمر ببلادهم التجار فيتحفونهم بالخبز والدقيق وإنما قيل لهم
الملثمون لأنهم
____________________
يتلثمون ولا يكشفون وجوههم
أصلا
قال ابن خلكان اللثام سنة لهم يتوارثونها خلفا عن سلف وسبب ذلك على ما قيل إن حمير
كانت تتلثم لشدة الحر والبرد تفعله الخواص منهم فكثر ذلك حتى صار تفعله عامتهم
وقيل كان سببه أن قوما من أعدائهم كانوا يقصدون غفلتهم إذا غابوا عن بيوتهم
فيطرقون الحي فيأخذون المال والحريم فأشار عليهم بعض مشايخهم أن يبعثوا النساء في
زي الرجال إلى ناحية ويقعدوا هم في البيوت متلثمين في زي النساء فإذا أتاهم العدو
وظنوهم نساء خرجوا عليهم ففعلوا ذلك وثاروا عليهم بالسيوف فقتلوهم فلزموا اللثام
تبركا به بما حصل لهم من الظفر بالعدو
وقال عز الدين ابن الأثير في كامله ما مثاله وقيل إن سبب تلثمهم أن طائفة من
لمتونة خرجوا مغيرين على عدو لهم فخالفهم العدو إلى بيوتهم ولم يكن بها إلا
المشايخ والصبيان والنساء فلما تحقق المشايخ أنه العدو أمروا النساء أن يلبسن ثياب
الرجل ويتلثمن ويضيقنه حتى لا يعرفن ويلبسن السلاح ففعلن ذلك وتقدم المشايخ
والصبيان أمامهن واستدار النساء بالبيوت فلما أشرف العدو رأى جمعا عظيما فظنه
رجالا وقالوا هؤلاء عند حريمهم يقاتلون عنهن قتال الموت والرأي أن نسوق النعم
ونمضي فإن اتبعونا قاتلناهم خارجا عن حريمهم فبينما هم في جمع النعم من المراعي إذ
أقبل رجال إلى الحي فبقي العدو بينهم وبين النساء فقتلوا من العدو خلقا كثيرا وكان
من قتل النساء أكثر فمن ذلك الوقت جعلوا اللثام سنة يلازمونه فلا يعرف الشيخ من
الشاب ولا يزيلونه ليلا ولا نهارا
وفي ذلك يقول أبو محمد بن حامد الكاتب
( قوم لهم شرف العلا من حمير ** وإذا انتموا صنهاجة فهم هم )
( لما حووا أحراز كل فضيلة ** غلب الحياء عليهم فتلثموا )
وقال ابن خلدون كان دين صنهاجة أهل اللثام المجوسية شأن برابرة
____________________
المغرب ولم يزالوا مستقرين
بتلك المفالات الصحراوية حتى كان إسلامهم بعد فتح الأندلس وكانت الرياسة فيهم
للمتونة واستوسق لهم ملك ضخم عند دخول عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس توارثه
ملوك منهم من بني ورتنطيو وطالت أعمارهم فيه إلى الثمانين ونحوها ودوخوا تلك
البلاد الصحراوية وجاهدوا من بها من أمم السودان وحملوهم على الإسلام فدان به كثير
منهم واتقاهم آخرون بالجزية فقبلوهم منهم ثم افترق أمرهم من بعد ذلك وصار ملكهم
طوائف ورياستهم شيعا واستمروا على ذلك مائة وعشرين سنة إلى أن قام فيهم الأمير أبو
عبد الله محمد بن تيفاوت المعروف بتاسرت اللمتوني فاجتمعوا عليه وأحبوه وبايعوه
وكان من أهل الفضل والدين والجهاد والحج فلبث فيهم ثلاث سنين ثم استشهد في بعض
غزواته الخبر عن رياسة يحيى بن إبراهيم الكدالي وما كان من أمره مع الشيخ أبي
عمران الفاسي رحمهما الله
لما توفي أبو عبد الله بن تيفاوت قام بأمر صنهاجة من بعده يحيى بن إبراهيم الكدالي
وكدالة ولمتونة أخوان يجتمعان في أب واحد وكل منهما قبيل كبير يسكنون الصحراء التي
تلي بلاد السودان ويليهم من جهة المغرب البحر المحيط فاستمر الأمير يحيى بن
إبراهيم على رياسة صنهاجة
____________________
وحربهم لأعدائهم إلى أن كانت
سنة سبع وعشرين وأربعمائة فاستخلف على صنهاجة ابنه إبراهيم بن يحيى وارتحل إلى
المشرق برسم الحج فلما قضى حجه وزريارته قفل إلى بلاده فمر في عوده بالقيروان فلقي
بها الشيخ الفقيه أبا عمران الفاسي وحضر مجلس درسه وتأثر بوعظه فرآه الشيخ أبو
عمران محبا في الخير فأعجبه حاله وسأله عن اسمه ونسبه وبلده فأخبره بذلك كله
وأعلمه بسعة بلاده وما فيها من كثرة الخلق فقال له الشيخ وما ينتحلون من المذاهب
قال إنهم قوم غلب عليهم الجهل وليس لهم كبير علم فاختبره الشيخ وسأله عن فروض دينه
فلم يجده يعرف منها شيئا إلا أنه حريص على التعلم صحيح النية والعقيدة فقال له
الشيخ وما يمنعك من تعلم العلم فقال يا سيدي عدم وجود عالم بأرضي وليس في بلادي من
يقرأ القرآن فضلا عن العلم ومع ذلك فأهل أرضي يحبون الخير ويرغبون فيه لو وجدوا من
يقرئهم القرآن ويدرس لهم العلم ويفقههم في دينهم ويعلمهم الكتاب والسنة وشرائع
الإسلام فلو رغبت في الثواب من الله تعال لبعثت معي بعض طلبتك يقرئهم القرآن
ويفقههم في الدين فينتفعون به ويكون لك وله الأجر العظيم عند الله تعالى إذ كنت
سبب هدايتهم فندب الشيخ أبوعمران تلامذته إلى ذلك فاستصعبوا دخول أرض الصحراء
وأشفقوا منها فقال الشيخ أبو عمران ليحيى بن إبراهيم إني أعرف ببلد نفيس من أرض
المصامدة فقيها حاذقا ورعا أخذ عني علما كثيرا واسمه وأجاج بن زلو اللمطي من أهل
السوس الأقصى أكتب إليه كتابا لينظر في تلامذته من يبعثه معك فسر إليه لعلك تجد
حاجتك عنده فكتب إليه الشيخ أبو عمران كتابا يقول فيه أما بعد إذا وصلك حامل كتابي
هذا وهو يحيى بن إبراهيم
____________________
الكداني فابعث معه من طلبتك من
تثق بعلمه ودينه وورعه وحسن سياسته ليقرئهم القرآن ويعلمهم شرائع الإسلام ويفقههم
في دين الله ولك وله في ذلك الثواب والأجر العظيم والله لا يضيع أجر من أحسن عملا
وأبو محمد واجاج هذا من رجال التشوف قال فيه ومنهم واجاج بن زلو اللمطي من أهل
السوس الأقصى رحل إلى القيروان وأخذ عن أبي عمران الفاسي ثم عاد إلى السوس فبنى
دارا سماها بدار المرابطين لطلبة العلم وقراء القرآن وكان المصامدة يزورونه
ويتبركون بدعائه وإذا أصابهم قحط استسقوا به اه
فسار يحيى بن إبراهيم بكتاب الشيخ أبي عمران حتى وصل إلى الفقيه واجاج بمدينة نفيس
فسلم عليه ودفع إليه الكتاب وكان ذلك في رجب سنة ثلاثين وأربعمائة فنظر الفقيه
واجاج في الكتاب ثم جمع تلامذته فقرأه عليهم وندبهم لما أمر به الشيخ أبو عمران
فانتدب لذلك رجل منهم يقال له عبد الله بن ياسين الجزولي وكان من حذاق الطلبة ومن
أهل الفضل والدين والورع والسياسة مشاركا في العلوم فخرج مع يحيى بن إبراهيم إلى
الصحراء وكان من أمره ما نقصه عليك الخبر عن دخول عبد الله بن ياسين أرض الصحراء
وابتداء أمره بها
لما انتهى يحيى بن إبراهيم إلى بلاده ومعه الفقيه عبد الله بن ياسين الجزولي تلقاه
قبائل كدالة ولمتونة وفرحوا بمقدمهما وتيمنوا بالفقيه وبالغوا في إكرامه وبره فشرع
يعلمهم القرآن ويقيم لهم رسم الدين ويسوسهم بآداب الشرع وألفاهم يتزوجون بأكثر من
أربع حرائر فقال لهم ليس هذا من السنة وإنما سنة الإسلام أن يجمع الرجل بين أربع
نسوة حرائر فقط وله فيما شاء من ملك اليمين سعة
____________________
وجعل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر وكبحهم عن كثير من مألوفاتهم الفاسدة وشدد
في ذلك فأطرحوه واستصعبوا علمه وتركوا الأخذ عنه لما جشمهم من مشاق التكليف
فلما رأى عبد الله بن ياسين إعراضهم عنه واتباعهم لأهوائهم عزم على الرحيل عنهم
إلى بلاد السودان الذين دخلوا في دين الإسلام يومئذ فلم يتركه يحيى بن إبراهيم
لذلك وقال له إنما أتيت بك لأنتفع بعلمك في خاصة نفسي وما علي فيمن ضل من قومي
وكان قومه ليس عندهم من الإسلام إلا الشهادة دون ما عداها من أركان الإسلام
وشرائعه
ثم قال يحيى بن إبراهيم لعبد الله بن ياسين هل لك في رأي أشير به عليك إن كنت تريد
الآخرة قال وما هو قال إن ههنا جزيرة في البحر قال ابن خلدون هو بحر النيل يحيط
بها من جهاتها يكون ضحضاحا في المصيف يخاض بالأقدام وغمرا في الشتاء يعبر الزوارق
قال يحيى بن إبراهيم وفيها الحلال المحض من شجر البرية وصيد البر والبحر ندخل فيها
ونقتات من حلالها ونعبد الله تعالى حتى نموت فقال عبد الله بن ياسين إن هذا الرأي
حسن فهلم بنا فلندخلها على اسم الله فدخلها ودخل معهما سبعة نفر من كدالة وابتنى
عبد الله رابطة هناك وأقام في أصحابه يعبدون الله تعالى مدة في ثلاثة أشهر فتسامع
الناس بهم وأنهم اعتزلوا بدينهم يطلبون الجنة والنجاة من النار فكثر الواردون
عليهم والتوابون لديهم فأخذ عبد الله بن ياسين يقرئهم القرآن ويستميلهم إلى الخير
ويرغبهم في ثواب الله ويحذرهم ألم عقابه حتى تمكن حبه من قلوبهم فلم تمر عليه إلا
مدة يسيرة حتى اجتمع له من التلامذة نحو ألف رجل وكان من أمرهم ما تسمعه عن قريب
____________________
شروع عبد الله بن ياسين في
الجهاد وإعلانه بالدعوة وما كان من أمره في ذلك
لما اجتمع إلى عبد الله بن ياسين من أشراف صنهاجة نحو ألف رجل سماهم المرابطين
للزومهم رابطته
ولما تفقهوا ورسخ فيهم الدين قام فيهم خطيبا فوعظهم وشوقهم إلى الجنة وخوفهم من
النار وأمرهم بتقوى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأخبرهم بما في ذلك من
ثواب الله تعالى وعظيم جزائه ثم ندبهم إلى جهاد من خالفهم من قبائل صنهاجة وقال
لهم معشر المرابطين إنكم اليوم جمع كثير نحو ألف رجل ولن يغلب ألف من قلة وأنتم
وجوه قبائلكم ورؤساء عشائركم وقد أصلحكم الله تعالى وهداكم إلى صراطه المستقيم
فوجب عليكم أن تشكروا نعمته عليكم بأن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وتجاهدوا
في الله حق جهاده فقالوا له أيها الشيخ المبارك أمرنا بما شئت تجدنا سامعين لك
مطيعين ولو أمرتنا بقتل آباءنا لفعلنا فقال لهم اخرجوا على بركة الله وأنذروا
قومكم وخوفوهم عقاب الله وأبلغوهم حجته فإن تابوا فخلوا سبيلهم وإن أبوا من ذلك
وتمادوا في غيهم ولجوا في طغيانهم استعنا بالله تعالى عليهم وجاهدناهم حتى يحكم
الله بيننا وهو خير الحاكمين فسار كل رجل منهم إلى قومه وعشيرته فوعظهم وأنذرهم
ودعاهم إلى الإقلاع عما هم بسبيله فلم يرفعوا بذلك رأسا
فخرج إليهم عبد الله بن ياسين بنفسه وجمع أشياخ قبائلهم ووجوهها وقرأ عليهم حجة
الله ودعاهم إلى التوبة ورغبهم في الجنة وخوفهم من النار وأقام ينذرهم سبعة أيام
وهم في ذلك كله لا يلتفتون إلى قوله ولا يزدادون إلا فسادا فلما يئس منهم قال لأصحابه
قد أبلغنا في الحجة
____________________
وأنذرنا وأعذرنا وقد وجب علينا
الآن جهادهم فاغزوهم على بركة الله فبدأ أولا بقبيلة كدالة فغزاهم في ثلاثة آلاف
رجل من المرابطين فانهزموا بين يديه وقتل منهم خلقا كثيرا وأسلم الباقون إسلاما
جديدا وحسنت حالهم وأدوا ما يلزمهم من كل ما فرض الله عليهم وكان ذلك في صفر سنة
أربع وثلاثين وأربعمائة
ثم سار إلى قبيلة لمتونة فنزل عليها وقاتلهم حتى أظهره الله عليهم وأذعنوا إلى
الطاعة وبايعوه على إقامة الكتاب والسنة
ثم سار إلى قبيلة مسوفة فقاتلهم حتى أذعنوا له وبايعوه على ما بايعته لمتونة
وكدالة
فلما رأى ذلك سائر صنهاجة سارعوا إلى التوبة والمبايعة وأقروا له بالسمع والطاعة
فكان كل من أتاه تائبا منهم يطهره بأن يضربه مائة سوط ثم يعلمه القرآن وشرائع
الإسلام وكان يأمرهم بالصلاة والزكاة وأداء العشر واتخذ لذلك بيت مال يجمع فيه ما
يرفع إليه من ذلك
ثم أخذ في اشتراء السلاح وأركاب الجيوش من ذلك المال وجعل يغزو القبائل حتى ملك
جميع بلاد الصحراء وذلل قبائلها
ثم جمع أسلاب القتلى في تلك المغازي وجعلها فيئا للمرابطين وبعث بمال دثر مما
اجتمع لديه من الزكوات والأعشار والأخماس إلى طلبة العلم ببلاد المصامدة فاشتهر
أمره في جميع بلاد الصحراء وما والاها من بلاد السودان وبلاد القبلة وبلاد
المصامدة وسائر أقطار المغرب وأنه قام رجل بكدالة يدعو إلى الله تعالى وإلى الصراط
المستقيم ويحكم بما أنزل الله وأنه متواضع زاهد في الدنيا وطار له ذكر في العالم
وتمكن ناموسه من القلوب وأحبته الناس
ثم توفي يحيى بن إبراهيم الكدالي على أثر ذلك وحكى ابن خلدون أن وفاة يحيى بن
إبراهيم كانت قبل اعتزال عبد الله بن ياسين وأصحابه في الجزيرة والله أعلم
____________________
الخبر عن رياسة يحيى بن عمرو
بن تكلاكين اللمتوني
لما توفي يحيى بن إبراهيم الكدالي عزم عبد الله بن ياسين على تقديم رجل يقوم بأمر
المرابطين في حربهم وجهادهم لعدوهم
وكانت قبيلة لمتونة من بين قبائل صنهاجة أكثر طاعة لله تعالى ودينا وصلاحا فكان
عبد الله بن ياسين يكرمهم ويقدمهم على غيرهم وذلك لما أراده الله تعالى من ظهور أمرهم
وتملكهم على الخلق فجمع عبد الله بن ياسين رؤوس القبائل من صنهاجة وولى عليهم يحيى
بن عمر اللمتوني وعبد الله بن ياسين هو الأمير على الحقيقة لأنه هو الذي يأمر
وينهى ويعطي ويمنع وعن رأيه يصدرون فكان يحيى بن عمر يتولى النظر في أمر الحرب
وعبد الله بن ياسين ينظر في أمر الدين وأحكام الشرع ويأخذ الزكوات والأعشار
وكان يحيى شديد الانقياد لعبد الله بن ياسين واقفا عند أمره ونهيه فمن حسن طاعته
له أنه قال له يوما قد وجب عليك أدب قال يحيى فيماذا يا سيدي قال لا أعرفك به حتى
آخذه منك فكشف له يحيى عن بشرته فضربه عشرين سوطا ثم قال له إنما ضربتك لأنك باشرت
القتال واصطليت بنار الحرب بنفسك وذلك خطأ منك فإن الأمير لا يقاتل وإنما يقف
ويحرض الناس ويقوي نفوسهم فإن حياة الجند بحياة أميره وهلاكه بهلاكه
واستقام الأمر ليحيى بن عمر وملك جميع بلاد الصحراء وغزا بلاد السودان ففتح كثيرا
منها وكان من أهل الزهد والدين والصلاح
____________________
الخبر عن غزو عبد الله بن
ياسين ويحيى بن عمر سجلماسة والسبب في ذلك
قد تقدم لنا عند الكلام على بني مدرار المكناسيين أصحاب سجلماسة أن انقراض دولتهم
كان على يد خزرون بن فلفل بن خزر المغراوي وأنه زحف إلى سجلماسة سنة ست وستين
وثلاثمائة وبرز إليه صاحبها أبو محمد المعتز بالله آخر ملوك بني مدرار الصفرية
فهزمه خزرون وقتله واستولى على بلده وذخيرته وبعث برأسه إلى قرطبة وكان ذلك لأول
حجابة المنصور بن أبي عامر واستمر خزرون بن فلفل واليا على سجلماسة إلى أن هلك وولي
بعده ابنه وانودين بن خزرون إلى أن هلك أيضا وولي ابنه مسعود بن وانودين
ولما انقرضت الدولة الأموية بالأندلس وافترق أمر الجماعة بها وصار الملك طوائف
استبد أمراء الأطراف وملوك زناتة بالمغرب كل بما في يده وعدم الوازع وتصرفوا في
الرعايا بمقتضى أغراضهم وشهواتهم فنال فاسا وأعمالها من جور بني عطية المغراويين
ما حكينا بعضه قبل ونال أهل سجلماسة ودرعة من بني خزرون بن فلفل المغراويين مثل
ذلك أو أكثر
فلما كانت سنة سبع وأربعين وأربعمائة وقد انتشر ذكر عبد الله بن ياسين وأصحابه
المرابطين في العالم اجتمع فقهاء سجلماسة ودرعة وكتبوا إلى عبد الله بن ياسين
ويحيى بن عمر وأشياخ المرابطين كتابا يرغبون إليهم في الوصول إلى بلادهم ليطهروها
مما هي في من المنكرات وشدة العسف من الأمراء وعرفوهم بما هم فيه أهل العلم والدين
وسائر المسلمين من الذل والصغار مع أميرهم مسعود بن وانودين المغراوي
فلما وصل الكتاب إلى عبد الله بن ياسين جمع رؤساء المرابطين وقرأه عليهم وشاورهم
في الأمر فقالوا أيها الفقيه هذا مما يلزمنا ويلزمك فسر بنا على بركة الله فدعا
لهم بخير وحضهم على الجهاد
____________________
وخرج بهم في عشرين من صفر سنة سبع وأربعين وأربعمائة في جيش كثيف من المرابطين
وقيل كان خروجه سنة خمس وأربعين وأربعمائة فسار حتى وصل إلى بلاد درعة فوجد بها
عامل مسعود بن وانودين فنفاه عنها ووجد بها خمسين ألف ناقة لمسعود المذكور وكانت
ترعى في حمى حماه لها هنالك فاكتسحها عبد الله بن ياسين واتصل الخبر بمسعود فجمع
جيوشه وخرج نحوه فالتقى الجمعان فيما بين درعة وسجلماسة فكانت بينهما حرب فظيعة
منح الله فيها المرابطين النصر على مغراوة فقتل أميرهم مسعود وأكثر جيشه وفر
الباقون
واستولى عبد الله بن ياسين على دوابهم وأسلحتهم وأموالهم مع الإبل التي كان
اكتسحها في درعة فأخرج الخمس من ذلك كله وفرقه على فقهاء سجلماسة ودرعة وصلحائهم
وقسم الأربعة أخماس على المرابطين
واتحل من فوره إلى سجلماسة فدخلها وقتل من وجد بها من مغراوة وأقام بها حتى أصلح
شأنها وغير ما وجد بها من المنكرات وقطع المزامير وآلة اللهو وأحرق الدور التي
كانت تباع بها الخمور وأزال المكوس وأسقط المغارم المخزنية ومحا ما أوجب الكتاب
والسنة محوه واستعمل على سجلماسة عاملا من لمتونة وانصرف إلى الصحراء
ثم توفي الأمير أبو زكرياء يحيى بن عمر في بعض غزواته ببلاد السودان سنة سبع
وأربعين وأربعمائة الخبر عن رياسة أبي بكر بن عمر اللمتوني وفتح بلاد السوس
لما توفي الأمير يحيى بن عمر اللمتوني ولى عبد الله بن ياسين مكانه أخاه أبا بكر
بن عمر وذلك في محرم سنة ثمان وأربعين وأربعمائة وقلده أمر الحرب والجهاد ثم ندب
المرابطين إلى غزو بلاد السوس والمصامدة فزحف إليها في جيش عظيم في ربيع الثاني من
السنة المذكورة
____________________
وكان أبو بكر بن عمر رجلا صالحا ورعا فجعل على مقدمته ابن عمه يوسف بن تاشفين
اللمتوني ثم سار حتى انتهى إلى بلاد السوس فغزا جزولة من قبائلها وفتح مدينة ماسة
وتارودانت قاعدة بلاد السوس وكان بها قوم من الرافضة يقال لهم البجلية نسبة إلى
علي بن عبد الله البجلي الرافضي كان سقط إلى بلاد السوس أيام قيام عبيد الله
الشيعي بإفريقية فأشاع هنالك مذهب الرافضة فتوارثوه عنه جيلا بعد جيل وعضوا عليه
فكانوا لا يرون الحق إلا ما في يدهم فقاتلهم عبد الله بن ياسين وأبو بكر بن عمر
حتى فتحوا مدينة تارودانت عنوة وقتلوا بها خلقا كثيرا ورجع من بقي منهم إلى مذهب
السنة والجماعة
وحاز عبد الله بن ياسين أسلاب القتلى منهم فجعلها فيئا وأظهر الله المرابطين على
من عداهم ففتحوا معاقل السوس وخضعت لهم قبائله وفرق عبد الله بن ياسين عماله
بنواحيه وأمرهم بإقامة العدل وإظهار السنة واخذ الزكوات والأعشار وإسقاط ما سوى
ذلك من المغارم المحدثة فتح بلاد المصامدة وما يتبع ذلك من جهاد برغواطة وفتح
بلادهم وذكر نسبهم
ثم ارتحل عبد الله بن ياسين إلى بلاد المصامدة ففتح جبل درن وبلاد رودة ومدينة
شفشاوة بالسيف ثم فتح مدينة نفيس وسائر بلاد كدميوه ووفدت عليه قبائل رجراجة وحاحة
فبايعوه ثم ارتحل إلى مدينة أغمات
____________________
وبها يومئذ أميرها لقوط بن
يوسف بن علي المغراوي فنزل عليها وحاصرها حصارا شديدا
ولما رأى لقوط ما لا طاقة له به أسلمها وفر عنها ليلا هو وجميع حشمه إلى تادلا
فاستجار ببني يفرن ملوك سلا وتادلا
ودخل المرابطون مدينة أغمات سنة تسع وأربعين وأربعمائة فأقام بها عبد الله بن
ياسين نحو الشهرين ريثما استراح الجند ثم خرج إلى تادلا ففتحها وقتل من وجد بها من
بني يفرن ملوكها وظفر بلقوط المغراوي فقتله
وكان للقوط هذا امرأة اسمها زينب بنت إسحاق النفزاوية قال ابن خلدون وكانت من إحدى
نساء العالم المشهورات بالجمال والرياسة وكانت قبل لقوط عند يوسف بن علي بن عبد
الرحمن بن وطاس شيخ وريكة فلما قتل المرابطون لقوط بن يوسف المغراوي خلفه أبو بكر
بن عمر على امرأته زينب بنت إسحاق المذكورة إلى أن كان من أمرها ما نذكره
ثم تقدم عبد الله بن ياسين إلى بلاد تامسنا ففتحها واستولى عليها ثم أخبر بأن
بساحل تامسنا قبائل برغواطة في عدد كثير وجمع عظيم
ولنذكر هنا كلاما ملخصا في برغواطة ودولتهم ثم نرجع إلى ما نحن بصدده فنقول اختلف
الناس في نسب برغواطة هؤلاء إلى أي شيء يرجع فبعضهم يلحقهم بزناتة وبعضهم يقول في
متنبئهم صالح بن طريف البرغواطي إنه يهودي الأصل من سبط شمعون بن يعقوب عليه
السلام نشأ ببرباط حصن من عمل شدونة من بلاد الأندلس ثم رحل إلى المشرق وقرأ على
عبيد الله المعتزلي واشتغل بالسحر وجمع منه فنونا وقدم المغرب فنزل بلاد تامسنا
فوجد بها قبائل جهالا من البربر فاظهر لهم الصلاح والزهد وموه عليهم وخلبهم بلسانه
وسحرهم بنير نجاته فصدقوه واتبعوه فادعى النبوة وشرع لهم شرائع ووضع لهم قرآنا
حسبما تقدم الخبر عنه مستوفى فكان يقال لمن تبعه ودخل في دينه برباطي ثم عربته
العرب فقالوا برغواطي فسموا برغواطة
____________________
قال ابن خلدون وهذا من الأغاليط البينة وصحح أن القوم من المصامدة بشهادة الموطن
والجوار وغير ذلك والتحقيق أن برغواطة قبائل شتى ليس يجمعهم أب واحد وإنما هم
أخلاط من البربر اجتمعوا إلى صالح بن طريف الذي ادعى النبوة بتامسنا سنة خمس
وعشرين ومائة من الهجرة في خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان وتسمى بصالح المؤمنين
وشرع لأتباعه الديانة التي أخذوها عنه وكان صالح قد شهد مع أبيه طريف حروب ميسرة
المضغري كبير الصفرية لعهده وكان طريف يكنى أبا صبيح ومن كبار أصحاب ميسرة المذكور
ويقال إنه ادعى النبوة أيضا وشرع لقومه الشرائع ثم هلك سنة سبع وعشرين ومائة وقام
بأمره ابنه صالح بن طريف المذكور فعفت مخارقه على مخارق أبيه وكان أولا من أهل
العلم والدين ثم انسلخ من آيات الله وانتحل دعوى النبوة وأتى من البهتان بما أوضحناه
قبل في ولاية حنظلة بن صفوان الكلبي على المغرب
ثم خرج صالح بن طريف إلى المشرق سنة أربع وسبعين ومائة بعد أن ملك أمرهم سبعا
وأربعين سنة ووعدهم أنه يرجع إليهم في دولة السابع منهم وأوصى بشريعته إلى ابنه
إلياس بن صالح ولم يزل إلياس مظهرا للإسلام مصرا على ما أوصاه به أبوه من كلمة
كفرهم وكان متظاهرا بالعفاف والزهد إلى أن هلك سنة أربع وعشرين ومائتين لمضي خمسين
سنة من ولايته ثم ولي من بعده ابنه يونس بن إلياس فأظهر دينهم ودعا إلى كفرهم وقتل
من لم يدخل في أمره حتى حرق مدائن تامسنا وما والاها يقال إنه حرق منها ثلاثمائة
وثمانين مدينة واستلحم أهلها بالسيف لمخالفتهم إياه وقتل منهم بموضع يقال له
تاملوكالات وهو حجر عال نابت وسط الطريق سبعة آلاف وسبعمائة وسبعين نفسا
قال زمور بن صالح ثم رحل يونس بن إلياس إلى المشرق وحج
____________________
ولم يحج أحد من أهل بيته قبله
ولا بعده وهلك سنة ثمان وستين ومائتين لأربع وأربعين سنة من ملكه وانتقل الأمر عن
بنيه إلى غيرهم من قرابته فولي أمرهم أبو غفير محمد بن معاذ بن اليسع بن صالح بن
طريف فاستولى على ملك برغواطة وأخذ بدين آبائه واشتدت شوكته وعظم أمره وكانت له في
البربر وقائع مشهورة وأيام مذكورة أشار إلى شيء منها سعيد بن هشام المصمودي في
أبيات منها قوله
( وهذي أمة هلكوا وضلوا ** وعاروا لا سقوا ماء معينا )
( يقولون النبي أبو غفير ** فأخزى الله أم الكاذبينا )
( سيعلم أهل تامسنا إذا ما ** أتوا يوم القيامة مفظعينا )
( هنالك يونس وبنو أبيه ** يقودون البرابر حائرينا )
واتخذ أبو غفير من الزوجات أربعا وأربعين لأنهم يبيحون في ديانتهم الخسيسة أن
يتزوج الرجل من النساء ما شاء وكان له من الولد مثل ذلك أو أكثر وهلك أواخر المائة
الثالثة لتسع وعشرين سنة من ملكه
ثم ولي بعده ابنه أبو الأنصار عبد الله بن أبي غفير فاقتفى سننه وكان كبير الدعوة
مهيبا عند ملوك عصره يهاودنه ويدافعونه بالمواصلة وكان يلبس الملحفة والسراويل
ويلبس المخيط من الثياب ولا يعتم أحد في بلاده إلا الغرباء وكان حافظا للجار وافيا
للعهد وتوفي سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة لأربع وأربعين سنة من ملكه ودفن بتاسلاخت
وبها قبره
وولي بعده ابنه أبو منصور عيسى بن أبي الأنصار وهو ابن اثنتين وعشرين سنة فسار
سيرة آبائه وادعى النبوة واشتد أمره وعلا سلطانه ودانت له قبائل المغرب قال زمور
بن صالح كان عسكره يناهز الثلاثة آلاف من برغواطة وعشرة آلاف من سواهم
وقد كان لملوك العدوتين في غزو برغواطة هؤلاء وجهادهم آثار عظيمة من الأدارسة
والأموية والشيعة وغيرهم
ولما زحف بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي إلى المغرب زحفه
____________________
المشهور وأجفلت قبائل زناتة
وملوكها بين يديه وانحازوا إلى سبتة وأطل عليهم من جبل تطوان وعاين جمعهم الكثيف
عنهم إلى جهاد برغواطة فأوقع بهم وقتل أميرهم ابا منصور عيسى بن أبي الأنصار وبعث
بسبيهم إلى القيروان وذلك سنة تسع وستين وثلاثمائة
ثم حاربتهم أيضا جنود المنصور بن ابي عامر لما عقد ابنه عبد الملك المظفر لمولاه
واضح على جهاد برغواطة فعظم أثره فيهم بالقتل والسبي
ثم حاربهم أيضا بنو يفرن لما استقل بنو يعلى بن محمد بن صالح منهم بناحية سلا
واقتطعوها عن عمل زيري بن عطية المغراوي صاحب فاس
وكان لأبي الكمال تميم بن زيري اليفرني فيهم جهاد كبير حسبما تقدم التنبيه عليه
وذلك أعوام العشرين وأربعمائة فغلبهم على تامسنا وولى عليها من قبله بعد أن أثخن
فيهم سبيا وقتلا
ثم تراجعوا من بعده إلى أن جاءت دولة المرابطين ودخلوا أرض المغرب دخلتهم الثانية
وفتحوا بلاد المصامدة وبلاد تادلا وتامسنا فأخبر عبد الله بن ياسين بأن بساحلها
قبائل برغواطة في عدد كثير وجمع عظيم وأنهم مجوس أهل ضلالة وكفر وأخبر بما تمسكوا
به من ديانتهم الخبيثة وقيل له إن برغواطة قبائل كثيرة وأخلاط شتى اجتمعوا في أول
أمرهم على صالح بن طريف المتنبئ الكذاب واستمر حالهم على الضلالة والكفر إلى الآن
فلما سمع عبد الله بن ياسين بحال برغواطة وما هم عليه من الكفر رأى أن الواجب
تقديم جهادهم على جهاد غيرهم فسار إليهم في جيوش المرابطين والأمير يومئذ على
برغواطة هو أبو حفص عبد الله من ذرية أبي منصور عيسى بن أبي الأنصار عبد الله بن
أبي غفير محمد بن معاذ بن اليسع بن صالح بن طريف فكانت بينه وبين عبد الله بن ياسين
ملاحم عظام مات فيها من الفريقين خلق كثير وأصيب فيها عبد الله بن ياسين الجزولي
مهدي المرابطين فكان فيها شهادته رحمه الله
ولما حضرته الوفاة قال لهم يا معشر المرابطين إني ميت من يومي
____________________
هذا لا محالة وإنكم في بلاد
عدوكم فإياكم أن تجبنوا أو تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وكونوا أعوانا على الحق
وإخوانا في ذات الله وإياكم والتحاسد على الرياسة فإن الله يؤتي ملكه من يشاء من
خلقه ويستخلف في أرضه من أراد من عباده في كلام غير هذا
وتوفي عبد الله بن ياسين عشية ذلك اليوم وهو يوم الأحد الرابع والعشرين من جمادى
الأولى سنة إحدى وخمسين وأربعمائة ودفن بموضع يعرف بكريفلة وبني على قبره مسجد وهو
مشهور بها إلى الآن
وكان عبد الله بن ياسين رحمه الله شديد الورع في المطعم والمشرب إنما يتعيش من
لحوم الصيد ونحوها لم يأكل شيئا من لحوم صنهاجة ولا من ألبانها مدة إقامته فيهم
وكان مع ذلك كثير النكاح يتزوج في كل شهر عددا من النساء ثم يطلقهن ولا يسمع
بامرأة جميلة إلا خطبها ومن حسن سياسته أنه أقام في صنهاجة السنة والجماعة حتى أنه
ألزمهم أن من فاتته صلاة في جماعة ضرب عشرين سوطا ومن فاتته ركعة منها ضرب خمسة
أسواط
ومن كراماته أن المرابطين خرجوا معه في بعض غزواته ببلاد السودان فنفذ ما معهم من
الماء حتى أشرفوا على الهلاك فقام عبد الله فتيمم وصلى ركعتين ودعا الله تعالى
وأمن المرابطون على دعائه فلما فرغ من الدعاء قال لهم احفروا تحت مصلاي هذا فحفروا
فصادفوا الماء على نحو شبر من الأرض عذبا بادرا فشربوا واستقوا وملؤوا أوعيتهم ومن
تقواه وورعه أنه لم يزل صائما من يوم دخل بلاد صنهاجة إلى أن توفي رحمه الله
واستمر الأمير أبو بكر بن عمر على رياسته وجددت له البيعة بعد وفاة عبد الله بن
ياسين فكان أول ما فعله بعد تجهيزه إياه ودفنه أن زحف إلى برغواطة مصمما في حربهم
متوكلا على الله في جهادهم فأثخن فيهم قتلا وسبيا حتى تفرقوا في المكامن والغياض
واستأصل شأفتهم وأسلم الباقون إسلاما جديدا ومحا أبو بكر بن عمر أثر دعوتهم من
المغرب وجمع غنائمهم وقسمها بين المرابطين وعاد إلى مدينة أغمات
____________________
غزوة أبي بكر بن عمر بلاد
المغرب سوى ما تقدم وفتحه إياها
لما استقر الأمير أبو بكر بن عمر بأغمات أقام بها إلى صفر من سنة اثنتين وخمسين
وأربعمائة وخرج غازيا بلاد المغرب في أمم لا تحصى من صنهاجة وجزولة والمصامدة ففتح
جبال فازاز وسائر بلاد زناتة وفتح مدائن مكناسة ثم نزل على مدينة لواتة فحاصرها
حتى اقتحمها عنوة بالسيف وقتل بها خلقا كثيرا من بني يفرن وخربها فلم تعمر بعد إلى
الآن
وكان تخريبه إياها في آخر يوم من ربيع الثاني من السنة المذكورة ثم رجع إلى مدينة
أغمات عود أبي بكر بن عمر إلى بلاد الصحراء والسبب في ذلك
كان الأمير أبو بكر بن عمر اللمتوني قد تزوج زينب بنت إسحاق النفزاوية وكانت بارعة
الجمال والحسن كما قلنا وكانت مع ذلك حازمة لبيبة ذات عقل رصين ورأي متين ومعرفة
بإدارة الأمور حتى كان يقال لها الساحرة فأقام الأمير أبو بكر عندها بأغمات نحو
ثلاثة أشهر ثم ورد عليه رسول من بلاد القبلة فأخبره باختلال أمر الصحراء ووقوع
الخلاف بين أهلها
وكان الأمير أبو بكر رجلا متورعا فعظم عليه أن يقتل المسلمون بعضهم بعضا وهو قادر
على كفهم ولم ير أنه في سعة من ذلك وهو متوالي أمرهم ومسؤول عنهم فعزم على الخروج
إلى بلاد الصحراء ليصلح أمرها ويقيم رسم الجهاد بها
ولما عزم على السفر طلق امرأته زينب وقال لها عند فراقه إياها يا
____________________
زينب إني ذاهب إلى الصحراء
وأنت امرأة جميلة بضة لا طاقة لك على حرارتها وإني مطلقك فإذا انقضت عدتك فانكحي
ابن عمي يوسف بن تاشفين فهو خليفتي على بلاد المغرب فطلقها ثم سافر عن أغمات وجعل
طريقه على بلاد تادلا حتى أتى سجلماسة فدخلها وأقام بها أياما حتى أصلح أحوالها ثم
سافر إلى الصحراء
ونقل ابن خلكان عن كتاب المعرب عن سيرة ملوك المغرب في سبب رجوع الأمير أبي بكر بن
عمر إلى الصحراء ما مثاله قال كان أبو بكر بن عمر رجلا ساذجا خير الطباع مؤثرا
لبلاده على بلاد المغرب غير ميال إلى الرفاهية وكانت ولاة المغرب من زناتة ضعفاء
لم يقاوموا الملثمين فأخذوا البلاد من أيديهم من باب تلمسان إلى ساحل البحر المحيط
فلما حصلت البلاد لأبي بكر بن عمر سمع أن عجوزا في الصحراء ذهبت لها ناقة في غداة
فبكت وقالت ضيعنا أبو بكر بن عمر بدخوله إلى بلاد المغرب فحمله ذلك على أن استخلف
على بلاد المغرب رجلا من أصحابه اسمه يوسف بن تاشفين ورجع إلى بلاده الجنوبية اه
وكان سفر أبي بكر بن عمر إلى الصحراء في ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة ولما
وصل إليها أصلح شأنها ورتب أحوالها وجمع جيشا كثيفا وغزا به بلاد السودان فاستولى
منها على نحو تسعين مرحلة
وكان يوسف بن تاشفين قد استفحل أمره أيضا بالمغرب واستولى على أكثر بلاده فلما سمع
الأمير أبو بكر بن عمر بما آل إليه أمر يوسف بن تاشفين وما منحه الله من النصر
أقبل من الصحراء ليختبر أحواله ويقال إنه كان مضمرا لعزله وتولية غيره فأحس يوسف
بذلك فشاور زوجته زينب بنت إسحاق وكان قد تزوجها بعد أبي بكربن عمر فقالت له إن
ابن عمك متورع عن سفك الدماء فإذا لقيته فاترك ما كان يعهده منك من الأدب والتواضع
معه وأظهر أثر الترفع والاستبداد حتى كأنك مساو له ثم لاطفه مع ذلك بالهدايا من
الأموال والخلع وسائر طرف المغرب واستكثر من ذلك
____________________
فإنه بأرض صحراء كل ما جلب
إليه من هنا فهو مستطرف لديه
فلما قرب أبو بكر بن عمر من أعمال المغرب خرج إليه يوسف بن تاشفين فلقيه على بعد
وسلم عليه وهو راكب سلاما مختصرا ولم ينزل له ولا تأدب معه الأدب المعتاد فنظر أبو
بكر إلى كثرة جيوشه فقال له يا يوسف ما تصنع بهذه الجيوش قال أستعين بها على من
خالفني فارتاب أبو بكر به ثم نظر إلى ألف بعير قد أقبلت موقرة فقال ما هذه الإبل
الموقرة قال أيها الأمير إني قد جئتك بكل ما معي من مال وأثاث وطعام وإدام لتستعين
به على بلاد الصحراء فازداد أبو بكر تعرفا من حاله وعلم أنه لا يتخلى له عن الأمر
فقال له يا بن عم انزل أوصيك فنزلا معا وجلسا فقال أبو بكر إني قد وليتك هذا الأمر
وإني مسؤول عنه فاتق الله تعالى في المسلمين وأعتقني وأعتق نفسك من النار ولا تضيع
من أمور رعيتك شيئا فإنك مسؤول عنه والله تعالى يصلحك ويمدك ويوقفك للعمل الصالح
والعدل في رعيتك وهو خليفتي عليك وعليهم ثم ودعه وانصرف إلى الصحراء فأقام بها
مواظبا على الجهاد في كفار السودان إلى أن استشهد من سهم مسموم أصابه في شعبان سنة
ثمانين وأربعمائة بعد أن استقام له أمر الصحراء كافة إلى جبال الذهب من بلاد
السودان والله غالب على أمره الخبر عن دولة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين اللمتوني
لما عزم الأمير أبو بكر بن عمر على السفر إلى بلاد الصحراء دعا ابن عمه يوسف بن
تاشفين بن إبراهيم اللمتوني فعقد له على بلاد المغرب وفوض إليه أمره وأمره بالرجوع
إلى قتال من به من مغراوة وبني يفرن وسائر زناتة والبربر واتفق على تقديمه أشياخ
المرابطين لما يعلمون من فضله ودينه
____________________
وشجاعته ونجدته وعدله وورعه
وسداد رأيه ويمن نقيبته فعاد يوسف من سجلماسة بنصف جيش المرابطين بعد ارتحال أبي
بكر بن عمر بالنصف الآخر وذلك في ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة
ولما انتهى يوسف بن تاشفين إلى ملوية ميز جيوشه فوجدها أربعين ألفا من المرابطين
فاختار منهم أربعة من القواد وهم سير بن أبي بكر اللمتوني ومحمد بن تميم الكدالي
وعمر بن سليمان المسوفي ومدرك التلكاني وعقد لكل قائد منهم على خمسة آلاف من
قبيلته وجعلهم مقدمة بين يديه لقتال من بالمغرب من مغراوة وبني يفرن وسائر قبائل
البربر القائمين به ثم سار هو في أثرهم يتقرى المغرب بلدا بلدا ويتتبع أهله قبيلة
قبيلة فقوم يقاتلونه ثم يظفر بهم وقوم يفرون بين يديه وقوم يلقون إليه السلم
ويبذلون الطاعة حتى دوخ بلاد المغرب ثم سار حتى دخل مدينة أغمات ولما استقر بها
تزوج زينب بنت إسحاق النفزاوية التي كانت تحت أبي بكر بن عمر فكانت عنوان سعده
والقائمة بملكه والمدبرة لأمره والفاتحة عليه بحسن سياستها لأكثر بلاد المغرب ومن
ذلك إشارتها عليه في أمر أبي بكر بن عمر وكيفية ملاقاته حسبما ذكرناه آنفا وهكذا
كان أمرها في كل ما تحاوله رحمها الله
ومما يستطاب من حديثها ما حكاه ابن الأثير في كامله وقد تكلم على يوسف بن تاشفين هذا
فقال كان حسن السيرة خيرا عادلا يميل إلى أهل العلم والدين يكرمهم ويحكمهم في
بلاده ويصدر عن رأيهم وكان يحب العفو والصفح عن الذنوب العظام من ذلك أن ثلاثة
نفرا اجتمعوا فتمنى أحدهم ألف دينار يتجر بها وتمنى الآخر عملا يعمل فيه لأمير
المسلمين وتمنى الآخر زوجته وكانت من أحسن النساء ولها الحكم في بلاده فبلغه الخبر
فأحضرهم وأعطى متمني المال ألف دينار واستعمل الآخر وقال للذي تمنى زوجته يا جاهل
ما حملك على هذا الذي لا
____________________
تصل إليه ثم أرسله إلى زوجته
فتركته في خيمة ثلاثة أيام ثم أمرت بأن يحمل إليه في كل يوم طعام واحد ثم أحضرته
وقالت له ما أكلت في هذه الثلاثة الأيام قال طعاما واحدا فقالت له كل النساء شيء
واحد وأمرت له بمال وكسوة وسرحته إلى حال سبيله وكانت وفاتها سنة أربع وستين
وأربعمائة بناء مدينة مراكش
لما دخلت سنة أربع وخمسين وأربعمائة كان أمر يوسف بن تاشفين قد استفحل بالمغرب جدا
ورسخت قدمه في الملك وعظم صيته فسمت همته إلى بناء مدينة يأوي إليها بحشمه وجنده
وتكون حصنا له ولأرباب دولته فاشترى موضع مدينة مراكش ممن كان يملكه من المصامدة
وقال صاحب المعرب كان ملكا لعجوز منهم ثم نزل الموضع المذكور بخيام الشعر وبنى
مسجدا لصلاته وقصبة صغيرة لاختزان ماله وسلاحه ولم يبن على ذلك سورا وقال أبو
الخطاب بن دحية في كتاب النبراس إن موضع مدينة مراكش كان مزرعة لأهل نفيس فاشتراه
يوسف منهم بماله الذي خرج به من الصحراء وفي كتاب المعرب إن يوسف بن تاشفين اختط
مدينة مراكش بموضع كان يسمى بذلك الاسم ومعناه بلغة المصامدة امش مسرعا وكان ذلك
الموضع مكمنا للصوص فكان المارون فيه يقولون لرفقائهم تلك الكلمة فعرف الموضع بها
وضبط هذه الكلمة بضم الميم وفتح الراء المشددة بعدها ألف وبعد ألف كاف مكسورة ثم
شين معجمة ويقال كان في موضعها قرية صغيرة في غابة من الشجر وبها قوم من البربر
فاختطها يوسف وبنى بها القصور والمساكن الأنيقة وهي في مرج فسيح وحولها جبال على
فراسخ
____________________
منها وبالقرب منها جبل لا يزال
عليه الثلج وهو الذي يعدل مزاجها وحرها
وقال ابن خلدون اتخذ يوسف بن تاشفين مدينة مراكش لنزوله ونزول عسكره وللتمرس
بقبائل المصامدة المقيمة بمواطنهم منها في جبل درن إذ لم يكن في قبائل المغرب أشد
منهم قوة ولا أكثر جمعا وفي القرطاس لما شرع يوسف بن تاشفين في بناء مسجد مراكش
كان يحتزم ويعمل في الطين والبناء بيده مع الخدمة تواضعا منه لله تعالى قال والذي
بناه يوسف من ذلك هو الموضع المعروف الآن بسور الحجر من مدينة مراكش جوفا من جامع
الكتبيين منها ويعرف اليوم بالسجينة ولم يكن بالموضع ماء فحفر الناس آبارا فظهر
لهم الماء على قرب فاستوطنوها وبنو بها قالوا ولم تزل مدينة مراكش لا سور لها إلى
أن توفي يوسف بن تاشفين رحمه الله وولي بعده ابنه علي بن يوسف ومضى معظم دولته
فأدار عليها السور سنة ست وعشرين وخمسمائة يقال كان ذلك بإشارة القاضي أبي الوليد
محمد بن رشد الفقيه المشهور فإنه كان قد قدم على السلطان بمراكش فأشار عليه بذلك
عندما نبغ محمد بن تومرت مهدي الموحدين بجبال المصامدة
وكانت مدة البناء ثمانية أشهر وكان الإنفاق على السور سبعين ألف دينار وبنى علي بن
يوسف أيضا الجامع الأعظم المنسوب إليه اليوم والمنار الذي عليه وأنفق عليه ستين
ألف دينار أخرى
ورأيت في كتاب ابن عبد العظيم الأزموري الموضوع في مناقب بني أمغار رضي الله عنهم
أن أمير المسلمين علي بن يوسف اللمتوني لما عزم على إدارة السور على مراكش شاور
الفقهاء وأهل الخير في ذلك فمنهم من ثبطه ومنهم من ندبه إليه وكان من جملة من ندبه
القاضي أبو الوليد بن رشد ثم شاور أبا عبد الله محمد بن إسحاق المعروف بأمغار صاحب
عين
____________________
الفطر فأشار ببنائه وبعث له من
ماله الحلال وأمره أن يجعله في صندوق صائر البناء ويتولى الإنفاق في ذلك رجل فاضل
فقبل السلطان إشارته وعمل برأيه فسهل الله أمر البناء
ثم لما جاءت دولة الموحدين وكان منهم يعقوب المنصور الشهير الذكر اعتنى بمدينة
مراكش واحتفل في تشييدها وبالغ في تنميق مساجدها وتنجيد مصانعها ومعاهدها على ما
نذكر البعض منه في محله إن شاء الله
ولم تزل مراكش دار مملكة المرابطين ثم الموحدين من بعدهم سائر أيامهم
ثم لما جاءت دولة بني مرين من بعدهم اتخذوا كرسي مملكتهم بمدينة فاس وبنوا بها
المدينة البيضاء
ثم جاءت الدولة السعدية من بعدهم فنقلوا الكرسي إلى مراكش وبنو بها قصر البديع
المشهور
ثم جاءت الدولة الشريفة العلوية فاتخذ المولى إسماعيل بن الشريف كرسي ملكه بمكناسة
الزيتون واحتفل في بنائها احتفالا عظيما على ما نذكره إن شاء الله
ثم لما كانت دولة المولى محمد بن عبد الله رد كرسي الملك إلى مراكش وبنى بها قصوره
ومصانعه واستمرت كرسيا لمملكتهم إلى الآن
وفضل مراكش أشهر من أن يذكر لا سيما ما اشتملت عليه من مزارات الأولياء ومدافن
الصلحاء الكبار والأئمة الأخيار حتى قال الوزير ابن الخطيب في مقامات البلدان عند
ذكره مدينة مراكش هي تربة الولي وحضرة الملك الأولى وعبر عنها أبو العباس المقري
في نفخ الطيب ببغداد المغرب حرسها الله وصانها من ريب الزمان وطوارق الحدثان
____________________
فتح مدينة فاس وغيرها من سائر
بلاد المغرب
وفي سنة أربع وخمسين وأربعمائة المذكورة جند يوسف بن تاشفين الأجناد واستكثر
القواد وفتح كثيرا من البلاد واتخذ الطبول والبنود ورتب العمال وكتب العهود وجعل
في جيشه الأغزاز والرماة كل ذلك إرهابا لقبائل المغرب فكمل له من الجيش في تلك
السنة أكثر من مائة ألف فارس من قبائل صنهاجة وجزولة والمصامدة وزناتة والأغزاز
والرماة فخرج بهم من حضرة مراكش قاصدا مدينة فاس فتلقته قبائلها من زواغة ولماية
ولواتة وصدينه وسدراته ومغيلة وبهلوله ومديونة وغيرهم في خلق عظيم فقاتلوه فكانت
بينه وبينهم ملاحم عظام انهزموا فيها من بين يديه وانحصروا بمدينة صدينة فدخلها
عليهم بالسيف عنوة فهدم أسوارها وقتل بها ما يزيد على أربعة آلاف
ثم رحل إلى فاس فنازلها بعد أن فتح جميع أحوازها وذلك في آخر سنة أربع وخمسين
وأربعمائة وقال ابن خلدون إن يوسف بن تاشفين نازل أولا قلعة فازاز وبها مهدي بن
تولي اليحفشي وبنو يحفش بطن من زناتة وكان أبوه تولي صاحب تلك القلعة ووليها هو من
بعده فنازله يوسف بن تاشفين ثم استجاش به على فاس مهدي بن يوسف الكزنائي صاحب
مكناسة لأنه كان عدو المعنصر المغراوي صاحب فاس فزحف في عساكر المرابطين إلى فاس
وجمع إليه معنصر ففض جموعه اه والله أعلم
ثم أقام يوسف على فاس أياما فظفر بعاملها بكار بن إبراهيم فقتله وارتحل عنها إلى
مدينة صفرو فدخلها من يومه عنوة وقتل ملوكها أولاد
____________________
مسعود بن وانودين المغراوي
صاحب سجلماسة وكانوا قد استولوا عليها
ثم رجع يوسف إلى فاس فحاصرها حتى فتحها وهو الفتح الأول وذلك سنة خمس وخمسين
وأربعمائة فأقام بها أياما واستعمل عليها عاملا من لمتونة وخرج إلى بلاد غمارة
ففتح الكثير منها حتى أشرف على طنجة وبها يومئذ الحاجب سكوت البرغواطي من موالي
بني حمود
ثم رجع إلى منازلة قلعة فازاز فخالفه بنو معنصر بن حماد المغراوي إلى فاس فدخلوها
وقتلوا عامل يوسف الذي كان بها
وكان مهدي بن يوسف الكزنائي صاحب بلاد مكناسة قد بايع يوسف بن تاشفين ودخل في طاعة
المرابطين فأقره يوسف على عمله وأمره أن يخرج بين يديه بجيشه لفتح بلاد المغرب
فجمع مهدي بن يوسف جيشه وخرج من مدينة عوسجة يريد الاجتماع بيوسف بن تاشفين وهو
محاصر لقلعة فازاز فسمع بذلك تميم بن معنصر المغراوي صاحب فاس فعاجله في أنجاد
مغراوة وقبائل زناتة وأدركه ببعض الطريق وناجزه الحرب ففض جموعه وقتله وبعث برأسه
إلى الحاجب سكوت صاحب سبتة وطنجة
ولما قتل مهدي بن يوسف بعث أهل مدائن مكناسة إلى ابن تاشفين بالخير وبذلوا له
الطاعة فملك بلادهم
ثم توالت عساكر المرابطين على تميم بن معنصر بالغارات والنهب واشتد عليه الحصار
وعدمت الأقوات بفاس فلما رأى ما نزل به من المرابطين جمع مغراوة وبنى يفرن وخرج
إليهم لإحدى الراحتين فكانت عليه الهزيمة فقتل تميم وجماعة من عشيرته وتقدم مكانه
بفاس القاسم بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن موسى بن أبي العافية المكناسي
فجمع قبائل زناتة وخرج بهم إلى المرابطين فالتقى معهم على وادي صيفير فكانت بينهم
حرب شديدة انهزم فيها المرابطون وقتل جماعة من فرسانهم
واتصل الخبر بيوسف بن تاشفين وهو على قلعة فازاز فارتحل عنها
____________________
وخلف جيشا من المرابطين
لحصارها فأقاموا عليها تسع سنين ثم دخلوها صلحا سنة خمس وستين وأربعمائة
ولما رحل يوسف عن قلعة فازاز وذلك سنة ست وخمسين سار إلى بني مراسن وأميرهم يومئذ
يعلى بن يوسف فعزاهم وقتل منهم خلق وفتح بلادهم ثم سار إلى بلاد فندلاوة فغزاها
وفتح جميع تلك الجهات ثم سار منها إلى بلاد ورغة ففتحها وذلك في سنة ثمان وخمسين
وأربعمائة
وفي سنة ستين فتح جميع بلاد غمارة وجبالها من الريف إلى طنجة
وفي سنة اثنتين وستين أقبل إلى فاس فنزل عليها بجميع جيوشه بعد أن فرغ من جميع
بلاد المغرب سوى سبتة وشدد الحصار على فاس حتى دخلها عنوة بالسيف فقتل بها من
مغراوة وبني يفرن ومكناسة وغيرهم خلقا كثيرا حتى امتلأت أسواق المدينة وشوارعها
بالقتلى وقتل منهم بجامع القرويين وجامع الأندلس ما يزيد على ثلاثة آلاف وفر من
بقي منهم إلى أحواز تلمسان وهذا هو الفتح الثاني لمدينة فاس وكان يوم الخميس ثاني
جمادى الآخرة سنة اثنتين وستين وأربعمائة وفي هذا الخبر بعض مخالفة لما قدمناه في
أخبار مغراوة وذلك نقلناه عن ابن خلدون وهذا عن ابن أبي زرع { فربكم أعلم بمن هو
أهدى سبيلا }
فلما دخل يوسف بن تاشفين مدينة فاس أمر بهدم الأسوار التي كانت فاصلة بين
المدينتين عدوة القرويين وعدوة الأندلس وصيرهما مصرا واحدا وحصنهما وأمر ببنيان
المساجد في شوارعها وأزقتها وأي زقاق لم يجد فيه مسجدا عاقب أهله وأمر ببناء
الحمامات والفنادق والأرحاء وأصلح بناءها ورتب أسواقها وأقام بها إلى صفر من سنة
ثلاث وستين وأربعمائة ثم خرج إلى بلاد ملوية ففتح حصون وطاط
وفي سنة أربع وستين بعدها استدعى يوسف أمراء المغرب وأشياخ القبائل من زناتة
وغمارة والمصامدة وسائر قبائل البربر فقدموا عليه وبايعوه
____________________
وكساهم ووصلهم بالأموال ثم خرج
للطواف على أعمال المغرب وتفقد أحوال الرعية والنظر في سيرة ولاته وعماله فيها وهم
في صحبته فصلح على يده الكثير من أمور الناس
وفي سنة خمس وستين بعدها غزا يوسف مدينة الدمنة من بلاد طنجة فدخلها عنوة وفتح جبل
علودان
وفي سنة سبع وستين وأربعمائة فتح يوسف جبال غياثة وبني مكود وبني رهينة وقتل منهم
خلقا كثيرا وفيها فرق عماله على بلاد المغرب فولى سير بن أبي بكر على مدائن مكناسة
وبلاد مكلاثة وفازاز وولى عمر بن سليمان على فاس وأحوازها وداود بن عائشة على
سجلماسة ودرعة وولى ابنه تميم بن يوسف على مدينة مراكش واغمات وبلاد السوس
والمصامدة وتادلا وتامسنا وصفا ملك المغرب ليوسف بن تاشفين سوى سبتة وطنجة وكان من
خبرهما ما نذكره فتح سبتة وطنجة وما ترتب عليه من جهاد بالأندلس
كانت سبتة وطنجة لبني حمود الإدريسيين من لدن دولة الأمويين ولما انقرضت دولتهم
وخلفهم بنو حمود المذكورون بها استنابوا على سبتة وطنجة من وثقوا به من مواليهم
الصقالبة ولم يزل أمر المدينتين إلى نظر هؤلاء النواب واحدا بعد واحد إلى أن استقل
بهما الحاجب سكوت البرغواطي
وكان عبدا لشيخ حداد من موالي الحموديين اشتراه من سبي برغواطة في بعض أيام جهادهم
ثم صار إلى علي بن حمود فأخذت النجابة بضبعيه إلى أن استقل بالأمر واقتعد كرسي
عملهم بطنجة وسبتة وأطاعته قبائل غمارة واتصلت أيام ولايته إلى أن كانت دولة
المرابطين وتغلب يوسف بن
____________________
تاشفين على بلاد المغرب ونازل
بلاد غمارة فدعا الحاجب سكوت إلى مظاهرته عليهم فهم بألأجلاب معه ومظاهرته على
عدوه ثم ثناه عن ذلك ابنه الفائل الرأي
فلما فرغ يوسف بن تاشفين من أهل الدمنة وانقاد المغرب لطاعته صرف عزمه إلى الحاجب
سكوت
وكان المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية قد كتب إلى يوسف بن تاشفين يستدعيه للحوز برسم
الجهاد ونصر البلاد فأجابه يوسف بقوله لا يمكنني ذلك إلا إذا ملكت طنجة وسبتة
فراجعه ابن عباد يشير عليه بأن يسير هو إليها بعساكره في البر فينازلها ويبعث ابن
عباد قطائعه في البحر فينازلوها أيضا حتى يتملكها فأخذ يوسف في محاولة ذلك وصرف
عزمه إليه ثم دخلت سنة سبعين وأربعمائة فجهز إليها قائده صالح بن عمران في اثني
عشر ألف فارس من المرابطين وعشرين ألفا من سائر قبائل المغرب فلما قربوا من طنجة
برز إليهم الحاجب سكوت بجموعه وهو شيخ كبير قد ناهز التسعين سنة وقال والله لا
يسمع أهل سبتة طبول اللمتوني وأنا حي أبدا فالتقى الجمعان بوادي منى من أحواز طنجة
والتحم القتال فقتل سكوت وفضت جموعه وسار المرابطون إلى طنجة فدخلوها واستولوا
عليها
ولحق ضياء الدولة يحيى بن سكوت بسبتة فاعتصم بها وكتب القائد صالح بن عمران بالفتح
إلى يوسف
وفي سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة بعث يوسف بن تاشفين قائده مزدلي بن تيلكان
اللمتوني لغزو تلمسان والمغرب الأوسط فسار إليها في عشرين ألفا من المرابطين وكان
بتلمسان يومئذ العباس بن بختي من ولد
____________________
يعلى بن محمد بن الخير بن محمد
بن خزر المغراوي فدخلوا المغرب الأوسط وتقروا بلاد زناتة وظفروا بيعلى ابن الأمير
العباس بن بختى فقتلوه وانكفؤوا راجعين إلى يوسف بن تاشفين فألفوه بمراكش ثم دخلت
سنة ثلاث وسبعين فيها غير يوسف بن تاشفين السكة في جميع عمله وكتب عليها اسمه
وفيها فتح مدينة آكرسيف ومدينة مليلية وجميع بلاد الريف وفتح مدينة نكور وخربها
فلم تعمر بعد
ثم دخلت سنة أربع وسبعين وأربعمائة فيها زحف يوسف بن تاشفين إلى مدينة وجدة ففتحها
وفتح بلاد بني يزناسن وما والاها ثم سار إلى تلمسان ففتحها واستلحم من كان بها من
مغراوة وقتل أميرها العباس بن بختي المغراوي وأنزل بها عامله محمد بن تينغمر
المسوفي في عساكر المرابطين فصارت ثغرا لمملكته واختط بها مدينة تاكرارت بمكان
محلته وهو اسم المحلة بلسان البربر ثم افتتح مدينة تنس ووهران وجبل وانشريس وجميع
أعمال شلف إلى الجزائر وانكفأ راجعا إلى المغرب فدخل مراكش في ربيع الآخر سنة خمس
وسبعين وأربعمائة
ثم ورد عليه بها كتاب المعتمد بن عباد يعلمه بحال بلاد الأندلس وما آل إليه أمرها
من تغلب العدو على أكثر ثغورها ويسأله النصر والإعانة فأجابه يوسف بقوله إذا فتح
الله على سبتة اتصلت بكم وبذلت جهدي في جهاد العدو وكان الفنش قد تحرك في هذه
السنة في جيوش لا تحصى من الإفرنج والبشكنس والجلالقة وغيرهم فشق بلاد الأندلس شقا
يقف على كل مدينة منها فيفسد ويخرب ويقتل ويسبي ثم يرتحل إلى غيرها ونزل على
إشبيلية فأقام عليها ثلاثة أيام فأفسد وخرب وكذلك فعل في شدونة وأحوازها وخرب بشرق
الأندلس قرى كثيرة ثم صار حتى وصل جزيرة طريف فأدخل قوائم فرسه في البحر وقال هذا
آخر بلاد الأندلس قد وطئته ثم رجع إلى مدينة سرقسطة فنزل عليها وحاصرها وحلف أن لا
____________________
يرتحل عنها حتى يدخلها أو يحول
الموت دونها وأراد أن يقدمها بالفتح على غيرها فبذل إليه أميرها المستعين بن هود
مالا عظيما فلم يقبله منه وقال المال والبلاد لي وبعث إلى كل قاعدة من قواعد
الأندلس جيشا لحصارها والتضييق عليها ثم ملك مدينة طليطلة من يد صاحبها القادر بن
ذي النون سنة سبع وسبعين وأربعمائة فكان ذلك من أقوى الأسباب المحركة لعزائم
المسلمين بالأندلس والمغرب على الجهاد الخبر عن الغزوة الكبرى بالزلاقة من أرض
الأندلس
لما انقرضت دولة بني أمية بالأندلس صدر المائة الخامسة بعد نزاع بين أعياصها شديد
وقتال منهم عريض مديد وخلفتها الدولة الحمودية فلم يطل أمدها حتى اقتسمت رؤساء
الأندلس مملكتها وتوزعوا أعمالها وصارت الحال إلى ما قال ابن الخطيب
( حتى إذا سلك الخلافة انتشر ** وذهب العين جميعا والأثر )
( قام بكل بقعة مليك ** وصاح فوق كل غصن ديك )
فوجد العدو السبيل إلى الاستيلاء على ثغور المسلمين وانتهاز الفرصة فيها بالتضريب
بين ملوكها وإغراء بعضهم بعض وكان منهم ابن عباد بإشبيلية وابن الأفطس ببطليوس
وابن ذي النون بطليطلة وابن هود بسرقسطة ومجاهد العامري بدانية وغير هؤلاء وكلهم
يداري الطاغية ويتقيه بالجزية إلى أن كان من أمر الأذفونش ما كان من تخريب بلاد
المسلمين واستيلائه على طليطلة بعد حصاره إياها سبع سنين ثم حصاره سرقسطة
فلما رأى رؤساء الأندلس ما نزل بهم من مضايقة عدو الدين واستطالته على ثغور المسلمين
أجمع رأيهم على إجازة يوسف بن تاشفين فكاتبه أهل الأندلس كافة من الخاصة والعلماء
يستصرخونه في تنفيس العدو عن مخنقهم ويكونوا معه يدا واحدة عليه
____________________
فلما تواترت رسلهم وكتبهم عليه
بعث ابنه المعز بن يوسف في عساكر المرابطين إلى سبتة فرضه المجاز فنازلها برا
وأحاطت بها أساطيل ابن عباد بحرا فاقتحموها عنوة في ربيع الآخر سنة سبع وسبعين
وأربعمائة وقبض على صاحبها ضياء الدولة يحيى بن سكوت البرغواطي وجيء به إلى المعز
أسيرا فقتله صبرا وبعث بكتاب الفتح إلى أبيه وهو بفاس ينظر في أمر الجهاد ويستعد
له ففرح يوسف بفتح سبتة وخرج من حينه قاصدا نحوها ليعبر منها إلى الأندلس
ولما سمع المعتمد ابن عباد بفتح سبتة ركب البحر إلى المغرب لاستنفار يوسف إلى
الجهاد فلقيه مقبلا ببلاد طنجة بموضع يعرف ببليطة على ثلاث مراحل من سبتة وقال ابن
خلدون لقيه بفاس فأخبره بحال الأندلس وما هي عليه من الضعف وشدة الخوف والاضطراب
وما يلقاه المسلمون من عدوهم من القتل والأسر والحصار كل يوم فقال له يوسف ارجع
إلى بلادك وخذ في أمرك فإني على أثرك فرجع ابن عباد إلى الأندلس ونزل ليوسف عن
الجزيرة الخضراء لتكون رباطا لجهاده ودخل يوسف سبتة فنظر في أمرها وأصلح سفنها
وقدمت عليه بها جنود الله من المغرب والصحراء والقبلة والزاب فشرع في إجازتها إلى
الأندلس
ولما تكاملت بساحل الخضراء عبر هو في أثرها في موكب عظيم من قواد المرابطين
وأنجادهم وصلحائهم فلما استوى على ظهر السفينة رفع يديه وقال اللهم إن كنت تعلم أن
في جوازنا هذا صلاحا للمسلمين فسهل علينا هذا البحر حتى نعبره وإن كان غير ذلك
فصعبه حتى لا نعبره فسهل الله عليهم العبور في أسرع وقت وكان ذلك يوم الخميس عند
الزوال منتصف ربيع الأول سنة تسع وسبعين وأربعمائة ونزل بالخضراء فصلى بها الظهر
من يومه ذلك ولقيه المعتمد ابن عباد صاحب إشبيلية وابن الأفطس صاحب بطليوس وغيرهما
من ملوك الأندلس
____________________
واتصل الخبر بالأذفونش وهو محاصر لسرقسطة فارتحل عنها وقصد نحو أمير المسلمين وبعث
إلى ابن ردمير والبرهانس وغيرهما من كبار النصرانية واستنفر أهل قشتالة وجليقية وسائر
المجاورين له من أمم النصرانية فاجتمع له منهم ما يفوت الحصر وصمد إلى ابن تاشفين
والمسلمين هكذا وقع مساق هذه الغزوة عند ابن خلدون وابن أبي زرع وغيرهما
وساقها ابن الأثير وابن خلكان وابن عبد المنعم الحميري مساقا غير هذا ولنذكر بعض
ما نقلوه من ذلك فنقول لما ملك يوسف بن تاشفين المغرب وبنى مراكش وتلمسان الجديدة
وأطاعته البربر مع شكيمتها الشديدة وتمهدت له الأقطار العريضة المديدة تاقت نفسه
إلى العبور لجزيرة الأندلس فهم بذلك وأخذ في إنشاء السفن والمراكب ليعبر فيها فلما
علم بذلك ملوك الأندلس كرهوا إلمامه بجزيرتهم وأعدوا له العدة والعدد إلا أنهم
استهولوا جمعه واستصعبوا مدافعته وكرهوا أن يصبحوا بين عدوين الفرنج عن شمالهم
والملثمين عن جنوبهم وكانت الفرنج قد اشتدت وطأتها عليهم فتغير وتنهب وربما يقع
بينهم صلح على شيء معلوم كل سنة يأخذونه من المسلمين والفرنج مع ذلك ترهب جانب ملك
المغرب يوسف بن تاشفين إذ كان له اسم كبير وصيت عظيم لنفاذ أمره ونقله دولة زناتة
وملك المغرب إليه في أسرع وقت مع ما ظهر لأبطال الملثمين ومشايخ صنهاجة في المعارك
من ضربات السيوف التي تقد الفارس والطعنات التي تنظم الكلى فكان لهم بذلك ناموس
ورعب في قلوب المنتدبين لقتالهم
وكان ملوك الأندلس يفيئون إلى ظلم يوسف ويحذرونه خوفا على ملكهم مهما عبر إليهم
وعاين بلادهم فلما رأوا عزيمته متوفرة على العبور راسل بعضهم بعضا يستنجدون آراءهم
في أمره وكان فزعهم في ذلك إلى المعتمد ابن عباد لأنه أشجع القوم وأكبرهم مملكة فوقع
اتفاقهم على مكاتبته وقد تحققوا أنه يقصدهم يسألونه الإعراض عنهم وأنهم تحت
____________________
طاعته فكتب عنهم كاتب من أهل
الأندلس يقول
أما بعد فإنك إن أعرضت عنا نسبت إلى كرم ولم تنسب إلى عجز وإن أجبنا داعيك نسبنا
إلى عقل ولم تنسب إلى وهن وقد اخترنا لأنفسنا أجمل نسبتينا فاختر لنفسك أكرم
نسبتيك فإنك بالمحل الذي لا يجوز أن نسبق فيه إلى مكرمة وإن في أستبقائك ذوي
البيوت ما شئت من دوام لأمرك وثبوت والسلام فوصله الكتاب مع تحف وهدايا وكان يوسف
لا يعرف اللسان العربي لكنه كان ذكي الطبع يجيد فهم المقاصد وكان له كاتب يعرف
اللغتين العربية والمرابطية فقال له أيها الملك هذا الكتاب من ملوك الأندلس
يعظمونك فيه ويعرفونك أنهم أهل دعوتك وتحت طاعتك ويلتمسون منك أن لا تجعلهم في
منزلة الأعادي فإنهم مسلمون وهم من ذوي البيوتات فلا تغير بهم وكف بهم من ورائهم
من الأعداء الكفار وبلدهم ضيق لا يحتمل العساكر فأعرض عنهم إعراضك عمن أطاعك من
أهل المغرب فقال يوسف بن تاشفين لكاتبه فما ترى أنت فقال أيها الملك أعلم أن تاج
الملك وبهجته وشاهده الذي لا يرد بأنه خليق بما حصل في يده من الملك أن يعفو إذا
استعفى وأن يهب إذا استوهب وكلما وهب جزيلا كان أعظم لقدره فإذا عظم قدره تأصل
ملكه وإذا تأصل ملكة تشرف الناس بطاعته وإذا كانت طاعته شرفا جاءه الناس ولم يتجشم
المشقة إليهم وكان وارث الملك من غير إهلاك لآخرته واعلم أن بعض الملوك الأكابر
والحكماء البصراء بطريق تحصيل الملك قال من جاد ساد ومن ساد قاد ومن قاد ملك
البلاد فلما ألقى الكاتب هذا الكلام على السلطان يوسف فهمه وعلم صحته فقال للكاتب
أجب القوم واكتب بما يجب في ذلك واقرأ علي كتابك فكتب الكاتب بسم الله الرحمن
الرحيم من يوسف بن تاشفين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته تحية من سالمكم وسلم
إليكم وحكمه التأييد والنصر فيمن حكم عليكم وإنكم مما بأيديكم من الملك في أوسع
إباحة مخصوصون منا بأكرم إيثار وسماحة فاستديموا وفاءنا بوفائكم واستصلحوا آخاءنا
بإصلاح آخائكم والله ولي التوفيق لنا لكم
____________________
والسلام فلما فرغ من كتابه قرأ
على يوسف بن تاشفين بلسانه فاستحسنه وقرن به ما يصلح لهم من التحف ودرق اللمط مما
لا يكون إلا في بلاده وأنفذ ذلك إليهم فلما وصلهم ذلك وقرؤوا كتابه فرحوا به
وعظموه واعتزوا بولايته وتقوت نفوسهم على دفع الفرنج وأزمعوا إن رأوا من الفرنج ما
يريبهم أن يجيزوا إليه يوسف بن تاشفين ويكونوا من أعوانه عليه فتأتى ليوسف بن
تاشفين برأي وزيره ما أراد من محبة أهل الأندلس له وكفاه حربهم
وقال ابن الأثير في الكامل كان المعتمد ابن عباد أعظم ملوك الأندلس وممتلكا لأكبر
بلادها مثل قرطبة وإشبيلية وكان مع ذلك يؤدي الضريبة إلى الأذفونش كل سنة فلما
تملك الأذفونش طليطلة أرسل إليه المعتمد الضريبة على عادته فردها عليه ولم يقبلها
منه ثم أرسل إليه يتهدده ويتوعده بالمسير إلى قرطبة وتملكها من يده إلا أن يسلم
إليه جميع الحصون التي في الجبل ويبقي السهل للمسلمين وكان الرسول في جمع كثير نحو
خمسمائة فارس فأنزله المعتمد وفرق أصحابه على قواد عسكره ثم أمر القواد أن يقتل كل
منهم من عنده وأحضر الرسول فصفعه حتى برزت عيناه وسلم من الجماعة ثلاثة نفر فعادوا
إلى الأذفونش وأخبروه الخبر وكان متوجها إلى قرطبة ليحاصرها فلما بلغه هذا الخبر
رجع إلى طليطلة ليجمع آلات الحصار ويستعد استعدادا غير الذي سبق وعاد المعتمد إلى
إشبيلية وأقام بها وترك قرطبة بدون مدافع يدافع عنها
وقال ابن عبد المنعم الحميري في كتابه الروض المعطار ما ملخصه إن المعتمد ابن عباد
أخر في سنة من السنين الضريبة التي كان يدفعها للأذفونش عن وقتها ثم أرسلها إليه
بعد فغضب الأذفونش واشتط وطلب بعض الحصون زيادة على الضريبة وأمعن في التجني حتى
طلب أن تأتي زوجته إلى الجامع الأعظم بقرطبة فتلد فيه إذ كانت حاملا وكان بالجانب
الغربي من المسجد المذكور موضع كنيسة قديمة بنى المسلمون عليها المسجد فأشار عليه
الأطباء والقسيسون أن تكون زوجته ساكنة قرب ولادتها
____________________
بمدينة الزهراء التي بناها عبد
الرحمن الناصر لدين الله وأبدع في تشييدها وتنجيدها وتتردد المرأة مع ذلك إلى
الجامع المذكور حتى تكون ولادتها بين طيب نسيم الزهراء وفضيلة موضع الكنيسة وكان
الرسول في ذلك يهوديا وكان وزيرا للأذفونش فامتنع ابن عباد من ذلك فراجعه اليهودي
وأغلظ له في القول ولسعه بكلمة آسفته فأخذ ابن عباد محبرة كانت بين يديه وضرب بها
رأس اليهودي فأنزل دماغه في حلقه وأمر به فصلب منكوسا بقرطبة
ولما سكن غضبه استفتى الفقهاء عن حكم ما فعله باليهودي فبادره الفقيه محمد بن الطلاع
بالرخصة في ذلك لتعدي الرسول حدود الرسالة إلى ما استوجب به القتل إذ ليس له ذلك
وقال للفقهاء إنما بادرت بالفتوى خوفا أن يكسل الرجل عما عزم عليه من منابذة العدو
وعسى الله أن يجعل في عزيمته للمسلمين خيرا
وبلغ الأذفونش ما صنعه ابن عباد فأقسم بآلهته ليغزونه بإشبيلية وليحاصرنه في قصره
ثم زحف في عسكرين أحدهما عليه والآخر على بعض قواده حتى نزل على ضفة النهر الأعظم
بإشبيلية قبالة قصر ابن عباد وفي أيام مقامه هنالك كتب إلى ابن عباد زاريا عليه
كثر بطول مقامي في مجلسي هذا علي الذباب واشتد الحر فأتحفني من قصرك بمروحة أروح
بها على نفسي وأطرد بها الذباب عن وجهي فوقع له ابن عباد بخط يده في ظهر الرقعة
قرأت كتابك وفهمت خيلاءك وإعجابك وسأنظر لك في مراوح من جلود اللمط تروح منك لا
عليك إن شاء الله فلما وصلت رسالة ابن عباد الأذفونش وقرئت عليه وفهم مقتضاها أطرق
إطراق من لم يخطر له ذلك ببال وفشا في الأندلس توقيع ابن عباد وما أظهر من العزيمة
على إجازة يوسف بن تاشفين والاستظهار به على العدو فاستبشر الناس وفرحوا بذلك
وانفتحت لهم أبواب الآمال
وأما ملوك طوائف الأندلس فلما تحققوا عزم ابن عباد وانفراده برأيه في ذلك اهتموا
منه فمنهم من كاتبه ومنهم من شافهه وحذروه عاقبة ذلك وقالوا له الملك العقيم
والسيفان لا يجتمعان في غمد فأجابهم ابن عباد بكلمته
____________________
التي صارت مثلا رعي الجمال خير
من رعي الخنازير ومعناه أن كونه مأكولا ليوسف بن تاشفين أسيرا يرعى جماله في
الصحراء خير من كونه ممزقا للأذفونش أسيرا له يرعى خنازيره وقال لمن لامه يا قوم
إني من أمري على حالتين حالة يقين وحالة شك ولا بد لي من إحداهما أما حالة الشك
فإني استندت إلى ابن تاشفين أو إلى الأذفونش ففي الممكن أن يفي لي ويبقى على وفائه
ويمكن أن لا يفعل فهذه حالة شك وأما حالة اليقين فإني إن استندت إلى ابن تاشفين
فإني أرضي الله وإن استندت إلى الأذفونش أسخطت الله فإذا كانت حالة الشك فيهما
عارضة فلأي شيء أدع ما يرضي الله وآتي ما يسخطه فحينئذ أقصر أصحابه عن لومه
ولما عزم ابن عباد على رأيه أمر صاحب بطليوس المتوكل على الله عمر بن الأفطس وصاحب
غرناطة عبد الله بن حبوس الصنهاجي أن يبعث إليه كل منهما قاضي حضرته ففعلا واستحضر
قاضي الجماعة بقرطبة عبد الله بن محمد بن أدهم وكان أعقل أهل زمانه فلما اجتمع عند
ابن عباد القضاة بإشبيلية أضاف إليهم وزيره أبا بكر بن زيدون وعرفهم أربعتهم أنهم
رسله إلى يوسف بن تاشفين وأسند إلى القضاة ما يليق بهم من وعظ يوسف وترغيبه في
الجهاد وأسند إلى الوزير ما لا بد منه من إبرام العقود السلطانية
وكان يوسف بن تاشفين لا تزال تفد عليه وفود ثغور الأندلس مستعطفين مجهشين بالبكاء
ناشدين بالله والإسلام مستنجدين بفقهاء حضرته ووزراء دولته فيسمع إليهم ويصغي
لقولهم وترق نفسه لهم
ولما انتهت الرسل إلى ابن تاشفين أقبل عليهم وأكرم مثواهم وجرت بينه وبينهم
مراوضات ثم انصرفوا إلى مرسلهم
ثم عبر يوسف البحر عبورا سهلا حتى أتى الجزيرة الخضراء فخرج إليه أهلها بما عندهم
من الأقوات والضيافات وأقاموا له سوقا جلبوا إليه ما عندهم من سائر المرافق وأذنوا
للغزاة في دخول البلد والتصرف فيها
____________________
فامتلأت المساجد والرحاب
بالمطوعة وتواصوا بهم خيرا هذا مساق صاحب الروض المعطار
وقال ابن الأثير لما رجع المعتمد ابن عباد إلى إشبيلية وترك قرطبة بدون مدافع وسمع
مشايخها بما جرى من قتل ابن عباد لليهودي ورأوا قوة الفرنج وضعف المسلمين واستعانة
بعض ملوكهم بالفرنج على بعض اجتمعوا وقالوا هذه بلاد الأندلس قد غلب عليها الفرنج
ولم يبق منها إلا القليل وإن استمرت الأحوال على ما نرى عادت نصرانية كما كانت وساروا
إلى القاضي أبي بكر عبد الله بن محمد بن أدهم فقالوا له ألا تنظر إلى ما فيه
المسلمون من الصغار والذلة وإعطائهم الجزية بعد أن كانوا يأخذونها وقد رأينا رأيا
نعرضه عليك قال ما هو قالوا نكتب إلى عرب إفريقية ونشترط لهم إذا وصلوا إلينا
قاسمناهم أموالنا وخرجنا معهم مجاهدين في سبيل الله وقال أخاف إذا وصلوا إلينا أن
يخربوا بلادنا كما فعلوا بإفريقية ويتركوا الفرنج ويبدؤوا بنا والمرابطون أصلح
منهم واقرب إلينا قالوا له فكاتب يوسف بن تاشفين وراغب إليه في العبور إلينا أو
يرسل بعض قواده
وبينما هم يتفاوضون إذ قدم عليهم ابن عباد وهم في ذلك فعرض عليه القاضي ابن أدهم
ما كانوا فيه فقال له ابن عباد أنت رسولي إليه في ذلك فامتنع القاضي وإنما أراد أن
يبرىء نفسه من تهمة تلحقه فألح عليه المعتمد فعبر القاضي البحر إلى أمير المسلمين
يوسف بن تاشفين فأبلغه الرسالة وأعلمه ما فيه المسلمون من الخوف من الأذفونش وكان
أمير المسلمين يومئذ بمدينة سبتة ففي الحال أمر بعبور العساكر إلى الأندلس وأرسل
إلى مراكش في طلب من بقي من عساكره فأقبلت إليه يتلو بعضها بعضا فلما تكاملت عنده
عبر البحر وسار فاجتمع بالمعتمد ابن عباد بإشبيلية
وكان المعتمد قد جمع عساكره أيضا وخرج من أهل قرطبة عسكر كبير وقصده المطوعة من
سائر بلاد الأندلس ووصلت الأخبار إلى الأذفونش فجمع عساكره وحشد جنوده وسار من
طليطلة وكتب إلى أمير
____________________
المسلمين يوسف بن تاشفين كتابا
كتبه له بعض غواة أدباء المسلمين يغلظ له في القول ويصف ما معه من القوة والعدد
وبالغ في ذلك فلما وصل وقرأه يوسف أمر كاتبه أبا بكر بن القصيرة أن يجيبه وكان
كاتبا مفلقا فكتب وأجاد فلما قرأه على أمير المسلمين قال هذا كتاب طويل وأحضر كتاب
الأذفونش وكتب على ظهره الذي يكون ستراه وأرسله إليه فلما وقف عليه الأذفونش ارتاع
له وعلم أنه بلي برجل له دهاء وعزم
وذكر ابن خلكان أن يوسف بن تاشفين أمر بعبور الجمال فعبر منها ما أغص الجزيرة
وارتفع رغاؤها إلى عنان السماء ولم يكن أهل الجزيرة رأوا جملا قط ولا خيلهم رأتها
قط فصارت الخيل تجمح من رؤية الجمال ورغائها وكان ليوسف في عبورها رأي مصيب فكان
يحدق بها عسكره ويحضرها الحرب فكانت خيل الفرنج تجمح منها
وقدم يوسف بن تاشفين بن يديه كتابا للأذفونش يعرض عليه فيه الدخول في الإسلام أو
الجزية أو الحرب كما هي السنة ومن جملة ما في الكتاب بلغنا يا أذفونش أنك دعوت
الله في الإجتماع بنا وتمنيت أن تكون لك سفن تعبر عليها البحر إلينا فقد عبرناه
إليك وقد جمع الله تعالى في هذه العرصة بيننا وبينك وسترى عاقبة دعائك وما دعاء
الكافرين إلا في ضلال فلما سمع الأذفونش ما كتب إليه يوسف جاش بحر غيظه وزاد في
طغيانه واقسم أن لا يبرح من موضعه حتى يلقاه
ولنرجع إلى كلام صاحب الروض والمعطار قال رحمه الله فلما عبر يوسف وجميع جيوشه
البحر إلى الخضراء نهض إلى إشبيلية على أحسن الهيئات جيشا بعد جيش وأميرا بعد أمير
وقبيلا بعد قبيل وبعث المعتمد ابنه إلى لقاء يوسف وأمر عمال البلاد بجلب الأقوات
والضيافات ورأى يوسف ما سره من ذلك ونشطه وتواردت الجيوش مع أمرائها على إشبيلية
وخرج المعتمد إلى لقاء يوسف من إشبيلية في مائة فارس من وجوه أصحابه فلما أتى محلة
يوسف ركض نحوهم وركضوا نحوه ثم برز إليه
____________________
يوسف وحده والتقيا منفردين
وتصافحا وتعانقا وأظهر كل منهما لصاحبه المودة والخلوص وشكرا نعم الله وتواصيا
بالصبر والرحمة وبشرا أنفسهما بما استقبلاه من غزو أهل الكفر وتضرعا إلى الله في
أن يجعل ذلك خالصا لوجهه مقربا إليه وافترقا فعاد يوسف لمحلته وابن عباد إلى جهته
وألحق ابن عباد ما كان أعده من هدايا وتحف وضيافات أوسع بها على محلة يوسف بن
تاشفين
وباتوا تلك الليلة فلما أصبحوا وصلوا الصبح ركب الجميع وأشار ابن عباد على يوسف
بالتقدم نحو إشبيلية ففعل ورأى الناس من عزة سلطانهم ما سرهم ولم يبق من ملوك
الطوائف بالأندلس إلا من بادر أو أعان وكذلك فعل الصحراويون مع يوسف أهل كل صقع من
أصقاعه رابطوا وكابدوا
وكان الأذفونش لما رأى اجتماع العزائم على مناجزته علم أنه عام نطاح فاستنفر
الفرنجة للخروج ورفع القسيسون والرهبان والأساقفة صلبانهم ونشروا أناجيلهم فاجتمع
له من الجلالقة والإفرنج ما لا يحصى عدده وجواسيس كل فريق تتردد من الجميع وبعث
الأذفونش إلى ابن عباد إن صاحبكم يوسف قد تعنى بالمجيء من بلاده وخوض البحر وأنا
أكفيه العناء فيما بقي ولا أكلفكم تعبا أمضي إليكم وألقاكم في بلادكم رفقا بكم
وتوفيرا عليكم وقال لخاصته وأهل مشورته إني رأيت أني إن أمكنتهم من الدخول إلى
بلادي فناجزوني فيها وبين جدرها وربما كانت الدائرة علي يستحكمون البلاد ويحصدون
من فيها غداة واحدة ولكني أجعل يومهم معي في حوز بلادهم فإن كانت علي اكتفوا بما
نالوه ولم يجعلوا الدروب وراءهم إلا بعد أهبة أخرى فيكون في ذلك صون لبلادي وجبر
لمكاسري وإن كانت الدائرة عليهم كان مني فيهم وفي بلادهم ما خفت أن يكون في وفي
بلادي إذا ناجزوني في وسطها
ثم برز بالمختار من جنوده وأنجاد جموعه على باب دربه وترك بقية جموعه خلفه وقال
حين نظر إلى ما اختاره منهم بهؤلاء أقاتل الجن والإنس وملائكة السماء فالمقلل يقول
المختارون أربعون ألف دارع
____________________
ولكل واحد أتباع وأما النصارى
فيعجبون ممن يزعم ذلك ويرون أنهم أكثر من ذلك كله
واتفق الكل أن عدد المسلمين كان أقل من عدد الكفار ورأى الأذفونش في نومه كأنه
راكب فيلا وبين يديه طبل صغير وهو ينقر فيه فقص رؤياه على القسيسين فلم يعرفوا
تأويلها فأحضر رجلا مسلما عالما بتفسير الرؤيا فقصها عليه فاستعفاه من تعبيرها فلم
يعفه فقال تأويل هذه الرؤيا من كتاب الله تعالى وهو قوله تعالى { ألم تر كيف فعل
ربك بأصحاب الفيل } إلى آخر السورة وقوله تعالى { فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ
يوم عسير على الكافرين غير يسير } وذلك يقتضي هلاك هذا الجيش الذي تجمعه فلما
اجتمع جيشه ورأى كثرته أعجبه فأحضر ذلك المعبر وقال له بهذا الجيش ألقى إله محمد
صاحب كتابكم فانصرف المعبر وقال لبعض المسلمين هذا الملك هالك وكل من معه وذكر
الحديث ثلاث مهلكات وفيه وإعجاب المرء بنفسه
ثم خرج الأذفونش إلى بلاد الأندلس وتقدم السلطان يوسف نحوه أيضا وتأخر ابن عباد
لبعض مهماته ثم انزعج يقفو أثره بجيش فيه حماة الثغور ورؤساء الأندلس وجعل ابنه
عبد الله على مقدمته وسار وهو ينشد متفائلا ببيت سائر مجيزا له بأبيات من شعره
( لا بد من فرج قريب ** يأتيك بالعجب العجيب )
( غزو عليك مبارك ** سيعود بالفتح القريب )
( لله سعدك إنه ** نكس على دين الصليب )
( لا بد من يوم يكون ** له أخا يوم القليب )
ووافت الجيوش كلها بطليوس فأناخوا بظاهرها وخرج إليهم صاحبها المتوكل عمر بن محمد
بن الأفطس فلقيهم بما يجب من الضيافات والأقوات وبذل المجهود ثم جاءهم الخبر بشخوص
الأذفونش إليهم
وقال ابن أبي زرع ارتحل يوسف بن تاشفين من الخضراء قاصدا
____________________
نحو الأذفونش وقدم بين يديه
قائده أبا سليمان داود بن عائشة وكان بطلا من الأبطال في عشرة آلاف فارس من
المرابطين بعد أن قدم أمامه المعتمد ابن عباد مع أمراء الأندلس وجيوشهم منهم ابن
صمادح صاحب المرية وابن حبوس صاحب غرناطة وابن مسلمة صاحب الثغر الأعلى وابن ذي
النون وابن الأفطس وغيرهم فأمرهم يوسف أن يكونوا مع المعتمد فتكون محلة ملوك
الأندلس واحدة ومحلة المرابطين أخرى فتقدم بهم ابن عباد فكانوا إذا ارتحل ابن عباد
من موضع نزله يوسف بمحلته فلم يزالوا كذلك حتى نزلوا مدينة طرطوشة فأقاموا بها
ثلاثا وكتب منها يوسف إلى الأذفونش يدعوه إلى الإسلام أو الجزية أو الحرب وكان
جواب الأذفونش ما تقدم ثم ارتحل يوسف وارتحل الأذفونش حتى نزلا معا بالقرب من
بطليوس وكان نزول يوسف بموضع يعرف بالزلاقة وتقدم المعتمد فنزل ناحية أخرى تحجز
بينه وبين يوسف ربوة وبين المسلمين والفرنج نهر بطليوس حاجزا يشرب منه هؤلاء
وهؤلاء فأقاموا ثلاثة أيام والرسل تختلف بينهم إلى أن وقع اللقاء على ما نذكره
ولما ازدلف بعضهم إلى بعض أذكى المعتمد عيونه في محلات الصحراويين خوفا عليهم من
مكايد الأذفونش إذ هم غرباء لا علم لهم بالبلاد وجعل يتولى ذلك بنفسه حتى قيل إن
الرجل من الصحراويين كان لا يخرج إلى طرف المحلة لقضاء أمر أو حاجة إلا ويجد ابن
عباد بنفسه مطيفا بالمحلة بعد ترتيب الخيل والرجال على أبواب المحلات ثم قامت
الأساقفة والرهبان ورفعوا صلبانهم ونشروا أناجيلهم وتبايعوا على الموت
ووعظ يوسف وابن عباد أصحابهما وقام الفقهاء والصالحون في الناس مقام الوعظ وحضوهم
على الصبر والثبات وحذروهم من الفشل والفرار
وجاءت الطلائع تخبر أن العدو مشرف عليهم صبيحة يومهم وهو يوم الأربعاء فأصبح
المسلمون وقد أخدوا مصافهم فكع الأذفونش ورجع إلى
____________________
أعمال المكر والخديعة فعاد
الناس إلى محلاتهم وباتوا ليلتهم ثم أصبح يوم الخميس فبعث الأذفونش إلى ابن عباد
يقول غدا يوم الجمعة وهو عيدكم والأحد عيدنا فليكن لقاؤنا بينهما وهو يوم السبت
فعرف المعتمد بذلك السلطان يوسف وأعلمه أنها حيلة منه وخديعة وإنما قصده الفتك بنا
يوم الجمعة فليكن الناس على استعداد له يوم الجمعة كل النهار ويقال إن الأذفونش
واعدهم ليوم الإثنين وبات الناس ليلتهم على أهبة واحتراس كما أشار ابن عباد
وبعد مضي جزء من الليل انتبه الفقيه الناسك أبو العباس أحمد بن رميلة القرطبي وكان
في محله ابن عباد فرحا مسرورا يقول إنه رآى النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة
في النوم فبشره بالفتح والموت على الشهادة في صبيحة تلك الليلة فتأهب ودعا وتضرع
ودهن رأسه وتطيب وانتهى ذلك إلى ابن عباد فبعث إلى يوسف يخبره بها تحقيقا لما
توقعه من غدر العدو الكافر ثم جاء بالليل فارسان من طلائع المعتمد يخبران أنهما
أشرفا على محلة الأذفونش وسمعا ضوضاء الجيش وخشخشة السلاح ثم تلاحق بقية الطلائع
محققين لتحرك الأذفونش ثم جاءت الجواسيس من داخل محلتهم تقول استرقنا السمع فسمعنا
الأذفونش يقول لأصحابه ابن عباد مسعر هذه الحروب وهؤلاء الصحراويون وإن كانوا أهل
حفاظ وذوي بصائر في الحرب فهم غير عارفين بهذه البلاد وإنما قادهم ابن عباد
فاهجموا عليه واصبروا له فإن انكشف لكم هان عليكم الصحراويون بعده ولا أراه يصبر
لكم إن صدقتموه الحملة فعند ذلك بعث ابن عباد الكاتب أبا بكر بن القصيرة إلى
السلطان يوسف يعرفه بإقبال الأذفونش ويستحث نصرته فمضى ابن القصيرة يطوي المحلات
حتى جاء يوسف بن تاشفين فعرفه بجلية الأمر فقال له قل له إني سائر إليك إن شاء
الله وأمر يوسف بعض قواده أن يمضي بكتيبة رسمها له حتى يدخل محلة النصارى فيضرمها
نارا ما دام الأذفونش مشتغلا مع ابن عباد
____________________
وانصرف ابن القصيرة إلى المعتمد فلم يصله إلا وقد غشيته جنود الطاغية فصدم ابن
عباد صدمة قطعت آماله ومال الأذفونش عليه بجموعه وأحاطوا به من كل جهة فهاجت الحرب
وحمي الوطيس واستحر القتل في أصحاب ابن عباد وصبر صبرا لم يعهد مثله واستبطأ
السلطان يوسف وهو يلاحظ طريقه وعضته الحرب واشتد عليه وعلى أصحابه البلاء وساءت
الظنون وانكشف البعض منهم وفيهم ابنه عبد الله بن المعتمد وأثخن هو جراحات في رأسه
وبدنه وعقرت تحته في ذلك اليوم ثلاث أفراس كلما هلك واحد قدم له آخر وتذكر في تلك
الحالة ابنا له صغيرا يكنى أبا هاشم وكان قد تركه بإشبيلية عليلا فقال
( أبا هاشم هشمتني الشفار ** فلله صبري لذلك الأوار )
( ذكرت شخيصك تحت العجاج ** فلم يثنني ذكره للفرار )
ثم كان أول من وافى ابن عباد من قواد يوسف بن تاشفين داود بن عائشة وكان بطلا شهما
فنفس بمجيئه على ابن عباد ثم أقبل يوسف بعد ذلك وطبوله قد ملأت أصواتها الجو فلما
أبصره الأذفونش وجه حملته إليه وقصده بمعظم جنوده فبادر إليهم السلطان يوسف وصدمهم
صدمة ردتهم إلى مركزهم وانتظم به شمل ابن عباد واستنشق الناس ريح الظفر وتباشروا
بالنصر ثم صدقوا جميعا الحملة فزلزلت الأرض من حوافر الخيل وأظلم النهار بالعجاج
وخاضت الخيل في الدماء وصبر الفريقان صبرا عظيما
ثم تراجع ابن عباد إلى يوسف وحمل معه حملة معها النصر وتراجع المنهزمون من أصحاب
ابن عباد حين علموا بالتحام الفئتين وصدقوا الحملة فانكشف الطاغية ومر هاربا
منهزما وقد طعن في إحدى ركبتيه طعنة بقي يخمع بها بقية عمره قالوا وكان أمير
المسلمين يوسف بن تاشفين على فرس يومئذ أنثى يمر بين ساقات المسلمين وصفوفهم
يحرضهم ويقوي نفوسهم على الجهاد ويحضهم على الصبر فقاتل الناس ذلك اليوم قتال من
يطلب الشهادة ويرغب في الموت
____________________
وعلى سياق ابن خلكان إن ابن
تاشفين نزل على أقل من فرسخ من عسكر العدو في يوم الأربعاء وكان الموعد بالمناجزة
يوم السبت فغدر الأذفونش ومكر فلما كان سحر يوم الجمعة منتصف رجب أقبلت طلائع ابن
عباد والروم في أثرها والناس على طمأنينة فبادر ابن عباد للركوب وانبث الخبر في
العساكر فماجت بأهلها ورجفت الأرض وصارت الناس فوضى على غير تعبئة ولا أهبة
ودهمتهم خيل العدو فغمرت ابن عباد وحطمت ما تعرض لها وتركت الأرض حصيدا خلفها وصرع
ابن عباد وأصابه جرح اشواه وفر رؤساء الأندلس وأسلموا محلاتهم وظنوا أنه وهي لا
يرقع ونازلة لا تدفع وظن الأذفونش أن أمير المسلمين في المنهزمين ولم يعلم أن
العاقبة للمتقين فتقدم أمير المسلمين وأحدقت به أنجاد خيله ورجاله من صنهاجة
ورؤساء القبائل وقصدوا محلة الأذفونش فاقتحموها وقتلوا حاميتها وضربت الطبول وزعقت
البوقات الأرض وتجاوبت الجبال والآفاق وتراجع الروم إلى محلتهم بعد أن علموا أن
أمير المسلمين فيها فقصدوه فأفرج لهم عنها ثم كر عليهم فأخرجهم منها ثم كروا عليه
فأفرج لهم عنها ولم تزل الكرات بينهم تتوالى إلى أن أمر أمير المسلمين حشمه
السودان فترجل منهم زهاء أربعة آلاف ودخلوا المعترك بدرق اللمط وسيوف الهند
ومزاريق الزان فخالطوا الخيل وطعنوها فرمحت بفرسانها وأحجمت عن أقرانها وتلاحق
الأذفونش بأسود نفدت مزاريقه فأهوى ليضربه بالسيف فلصق به الأسود وقبض على عنانه
وانتضى خنجرا كان متمنطقا به فأثبته في فخذه فهتك حلق درعه وشك فخذه مع بداد سرجه
وكان وقت الزوال يوم الجمعة منتصف رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة وهبت ريح النصر
فأنزل الله سكينته على المسلمين ونصر دينه القويم وصدقوا الحملة على الأذفونش
وأصحابه فأخرجوهم عن محلتهم فولوا ظهورهم وأعطوا أقفاءهم والسيوف تصفعهم والرماح
تطعنهم إلى أن لحقوا بربوة لجؤوا إليها واعتصموا بها وأحدقت بهم الخيل فلما أظلم
الليل انساب الأذفونش وأصحابه من الربوة وأفلتوا من بعد ما نشبت فيهم أظفار المنية
واستولى
____________________
المسلمون على ما كان في محلتهم
من الأثاث والآنية والمضارب والأسلحة وغير ذلك وأمر ابن عباد بضم رؤوس قتلى
المشركين فأجتمع من ذلك تل عظيم
وقال صاحب الروض المعطار لجأ الأذفوش إلى تل كان يلي محلته في نحو خمسمائة فارس ما
منهم إلا مكلوم وأباد القتل والأسر من عداهم من أصحابه وعمل المسلمون من رؤوسهم
مآذن يؤذنون عليها والمخذول ينظر إلى موضع الوقيعة ومكان الهزيمة فلا يرى إلا
نكالا محيطا به وبأصحابه
وأقبل ابن عباد على السلطان يوسف وصافحه وهنأه وشكره وأثنى عليه وشكر يوسف صبر ابن
عباد ومقامه وحسن بلائه وسأله عن حاله عندما أسملته رجاله بانهزامهم عنه فقال له
ها هم هؤلاء قد حضروا بين يديك فليخبروك
وكتب ابن عباد إلى ابنه بإشبيلية كتابا مضمونه كتابي هذا إليك من المحلة المنصورة
يوم الجمعة منتصف رجب وقد أعز الله الدين ونصر المسلمين وفتح لهم الفتح المبين
وهزم الكفرة المشركين وأذاقهم العذاب الأليم والخطب الجسيم فالحمد لله على ما يسره
وسناه من هذه المسرة العظيمة والنعمة الجسيمة في تشتيت شمل الأذفونش والإحتواء على
جميع عساكره أصلاه الله نكال الجحيم ولا أعدمه الوبال العظيم بعد إتيان النهب على
محلاته واستئصال القتل بجميع أبطاله وحماته حتى ا تخذ المسلمون من هاماتهم صوامع
يؤذنون عليها فلله الحمد على جميل صنعه ولم يصبني والحمد لله إلا جراحات يسيرة
آلمت لكنها قرحت بعد ذلك فلله الحمد والمنة والسلام
واستشهد في ذلك اليوم جماعة من الفضلاء والعلماء مثل ابن رميلة صاحب الرؤيا
المذكورة وقاضي مراكش أبي مروان عبد الملك المصمودي وغيرهما رحم الله الجميع
____________________
وحكي أن موضع المعترك كان على
اتساعه ما فيه موضع قدم إلا على ميت أو دم وأقامت العساكر بالموضع أربعة أيام حتى
جمعت الغنائم واستؤذن في ذلك السلطان يوسف فعف عنها وآثر بها ملوك الأندلس وعرفهم
أن مقصوده الجهاد والأجر العظيم وما عند الله في ذلك من الثواب المقيم فلما رأت
ملوك الأندلس إيثار يوسف لهم بالغنائم استكرموه وأحبوه وشكروا له صنعه وأمر أمير
المسلمين بقطع رؤوس القتلى وجمعها فقطعت وجمع بين يديه منها أمثال الجبال فبعث
منها إلى إشبيلية عشرة آلاف رأس وإلى قرطبة مثل ذلك وإلى بلنسية مثلها وإلى سرقسطة
ومرسية مثلها وبعث إلى بلاد العدوة أربعين ألف رأس فقسمت على مدن العدوة ليراها
الناس فيشكروا الله على ما منحهم من النصر والظفر العظيم
قال ابن أبي زرع وفي هذا اليوم تسمى يوسف بن تاشفين بأمير المسلمين ولم يكن يدعى
به قبل ذلك وأظهر الله تعالى الإسلام وأعز أهله وكتب أمير المسلمين بالفتح إلى
بلاد العدوة وإلى تميم بن المعز الصنهاجي صاحب إفريقية فعمت المفرحات في جميع بلاد
إفريقية والمغرب والأندلس واجتمعت كلمة الإسلام وأخرج الناس الصدقات وأعتقوا
الرقاب شكرا لله تعالى
ولما بلغ الأذفونش إلى بلاده وسأل عن أصحابه وأبطاله ففقدهم ولم يسمع إلا نواح
الثكالى عليهم اغتم ولم يأكل ولم يشرب حتى هلك أسفا وغما وراح إلى أمه الهاوية ولم
يخلف إلا بنتا واحدة جعل الأمر إليها فتحصنت بطليطلة
ورحل المعتمد إلى إشبيلية ومعه السلطان يوسف بن تاشفين فأقام يوسف بظاهر إشبيلية
ثلاثة أيام وورد عليه الخبر بوفاة ولده ابي بكر بن يوسف وكان قد تركه مريضا بسبتة
فاغتم لذلك وانصرف راجعا إلى العدوة وذهب معه ابن عباد يوما وليلة فعزم عليه يوسف
في الرجوع إلى منزله وكانت جراحاته قد تورمت عليه فسير معه ولده عبد الله إلى أن
وصل البحر وعبر إلى المغرب
____________________
وكان أمير المسلمين عند مجيئه إلى بلاد الأندلس وقصده ملاقاة الأذفونش قد تحرى
المسير بالعراء من غير أن يمر بمدينة أو رستاق حتى نزل الزلاقة تجاه الأذفونش
وهناك اجتمع بعساكر الأندلس قاله ابن خلكان
ولما فرغ من الوقعة رجع عوده على بدئه كل ذلك تورع منه وتكرم وتخفيف عن الرعايا
رحمه الله ورضي عنه
ولما رجع ابن عباد إلى إشبيلية جلس للناس وهنىء بالفتح وقرأت القراء وقامت على
رأسه الشعراء فأنشدوه قال عبد الجليل بن وهبون حضرت ذلك اليوم وأعددت قصيدة أنشدها
بين يديه فقرأ قارىء { إلا تنصروه فقد نصره الله } فقلت بعدا لي ولشعري والله ما
أبقت لي هذه الآية معنى أحضره وأقوم به اه
ومن هنا اختلفت أقوال المؤرخين في حال أمير المسلمين في الجهاد فقيل إنه لم يرجع
إلى بلاد الأندلس بعد هذه المرة لكنه ترك قواده فيها ورسم لهم بالجهاد وشن الغارات
على بلاد العدو وقيل إنه عاد إليها ثانيا وثالثا وعلى هذا القول فاختلفوا في زمان
ذلك العود وتاريخه والله تعالى أعلم بقية أخبار أمير المسلمين في الجهاد وما اتفق
له مع ملوك الأندلس وكبيرهم ابن عباد
أعلم أن أقوال المؤرخين اختلفت في أمر يوسف بن تاشفين بعد غزوة الزلاقة فحكى ابن
خلكان وغيره أن أمير المسلمين لما عزم على النهوض إلى بلاد المغرب ترك قائده سير
بن أبي بكر اللمتوني بأرض الأندلس وخلف معه جيشا برسم غزو الفرنج فاستراح سير بن
أبي بكر أياما قلائل ثم دخل بلاد الأذفونش وشن الغارات فنهب وقتل وسبى وفتح الحصون
المنيعة والمعاقل الصعبة وتوغل في بلاد العدو وحصل على أموال جليلة وذخائر عظيمة
ورتب رجالا وفرسانا في جميع ما استولى عليه وأرسل إلى السلطان يوسف
____________________
بجميع ما حصله وكتب إليه يعرفه
أن الجيوش بالثغور مقيمة على مكابدة العدو وملازمة الحرب والقتال في أضيق عيش وأنكده
وملوك الأندلس في بلادهم وأهليهم في أرغد عيش وأطيبه وسأله مرسومه فكتب إليه أن
يأمرهم بالنقلة والرحيل إلى أرض العدوة فمن فعل فذاك ومن أبى فحاصره وقاتله ولا
تنفس عليه ولتبدأ بمن والى الثغور منهم ولا تتعرض لابن عباد إلا بعد استيلائك على
البلاد وكل بلد أخذته فول عليه أميرا من عسكرك فامتثل سير بن أبي بكر أمره
واستنزلهم واحدا بعد واحد حتى كان آخرهم ابن عباد فألحقه بهم ونظمه في سلكهم على
ما نذكره
وقال ابن أبي زرع لما كانت سنة إحدى وثمانين وأربعمائة جاز أمير المسلمين إلى
الأندلس الجواز الثاني برسم الجهاد قال وسبب جوازه أن الأذفونش لعنه الله لما هزم
وجرح وقتلت جموعه عمد إلى حصن لبيط الموالي لعمل ابن عباد فشحنه بالخيل والرجال
والرماة وأمرهم أن يكونوا ينزلون من الحصن المذكور فيغيرون في أطراف بلاد ابن عباد
دون سائر بلاد الأندلس إذ كان السبب في جواز أمير المسلمين إلى الأندلس فكانوا
ينزلون من الحصن في الخيل والرجل فيغيرون ويقتلون ويأسرون قد جعلوا ذلك وظيفة
عليهم في كل يوم فساء ابن عباد ذلك وضاق به ذرعا ثم عبر البحر إلى العدوة مستنفرا
لأمير المسلمين فلقيه بالمعمورة من حلق وادي سبو وهذه المعمورة هي المسماة اليوم
بالمهدية من أحواز سلا فشكا إليه حصن لبيط ومن يلقاه المسلمون من أهله فوعده
الجواز إليه فرجع المعتمد
وسار يوسف في أثره فركب البحر من قصر المجاز إلى الخضراء فتلقاه ابن عباد بها بألف
دابة تحمل الميرة والضيافة فلما نزل يوسف بالخضراء كتب منها إلى أمراء الأندلس
يدعوهم إلى الجهاد وقال لهم الموعد بيننا وبينكم حصن لبيط ثم تحرك يوسف من الخضراء
وذلك في ربيع الأول من السنة المذكورة فنزل على حصن لبيط وفي القاموس لبطيط
____________________
كزنبيل بلد بالجزيرة الخضراء
الأندلسية ولعله هو هذا فلما نزله أمير المسلمين لم يأته ممن كتب إليه من أمراء
الأندلس غير ابن عبد العزيز صاحب مرسية وابن عباد صاحب إشبيلية فنازلا معه الحصن
وشرعوا في القتال والتضييق عليه
وكان يوسف رحمه الله يشن الغارات على بلاد الفرنج كل يوم ودام الحصار على الحصن
أربعة أشهر لم ينقطع القتال فيها يوما واحدا إلى أن دخل فصل الشتاء ووقع بين ابن
عبد العزيز وابن عباد نزاع وشنآن فشكا المعتمد إلى أمير المسلمين ابن عبد العزيز
فقبض عليه أمير المسلمين وأسلمه إلى ابن عباد فاختل أمر المحلة بسبب ذلك وفر جيش
ابن عبد العزيز وقواده عنها وقطعوا الميرة عن المحلة ووقع بها الغلاء
ولما علم الأذفونش بذلك حشد أمم النصرانية وقصد إلى حماية الحصن في أمم لا تحصى
فلما قرب من الحصن انحرف له يوسف عنه إلى ناحية لورقة ثم إلى المرية ثم جاز إلى
العدوة وقد تغير على أمراء الأندلس لكونه لم يأته منهم أحد عندما دعاهم إلى الجهاد
ومنازلة الحصن
ولما أفرج أمير المسلمين عن الحصن المذكور أقبل الأذفونش حتى نزل عليه فأخلاه مما
كان فيه من آلة الحصار ومادته وأخرج من كان فيه من بقية النصارى المنفلتين من
مخالب المنية وعاد إلى طليطلة فاستولى ابن عباد عليه بعد خلائه وفناء جميع حماته
بالقتل والجوع سوى تلك الصبابة المنفلتة
وكان فيه عندما نازله أمير المسلمين اثنا عشر ألف مقاتل دون العيال والذرية فأتى
عليهم القتل والجوع حتى لم يبق فيه سوى نحو المائة وهم المنفلتون منه عند إخلائه
ثم لما كانت سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة جاز أمير المسلمين إلى الأندلس الجواز
الثالث برسم الجهاد فسار حتى نزل على طليطلة وحاصر بها الأذفونش وشن الغارات
بأطرافها فاكتسحها وانتسف ثمارها وزروعها
____________________
وخرب عمرانها وقتل وسبى ولم
يأته من ملوك الأندلس أحد ولا عرج عليه منهم معرج فغاظه ذلك
ولما قفل من غزو طليطلة عمد إلى غرناطة فنازلها وكان صاحبها عبد الله بن بلكين بن
باديس بن حبوس قد صالح الأذفونش وظاهره على أمير المسلمين وبعث إليه بمال واشتغل
بتحصين بلده وفي ذلك يقول بعض شعراء عصره
( يبني على نفسه سفاها ** كأنه دودة الحرير )
( دعوه يبني فسوف يدري ** إذا أتت قدرة القدير )
ولما انتهى أمير المسلمين إلى غرناطة تحصن منه صاحبها عبد الله بن بلكين وأغلق
أبوابها دونه فحاصره أمير المسلمين نحو شهرين ولما اشتد عليه الحصار أرسل يطلب
الأمان فأمنه أمير المسلمين وتسلم منه البلاد فملكها وبعث بعبد الله وأخيه تميم بن
بلكين صاحب مالقة إلى مراكش مع حريمهما وأولادهما فأقاما بها وأجرى عليهما الإنفاق
إلى أن ماتا بها
ولما خلع أمير المسلمين بني باديس وملك غرناطة ومالقة وما أضيف إليهما خاف منه
المعتمد ابن عباد وانقبض عنه ويقال إن ابن عباد طمع في غرناطة وأن أمير المسلمين
يعطيه إياها فعرض له بذلك فأعرض عنه أمير المسلمين فخاف ابن عباد منه وعمل على
الخروج عليه ثم سعى بينهما الوشاة فتغير عليه أمير المسلمين وعبر إلى العدوة في
رمضان سنة ثلاث وثمانين المذكورة
ولما انتهى إلى مراكش ولى على الأندلس قائده سير بن أبي بكر اللمتوني وفوض إليه
جميع أمورها كلها ولم يأمره في ابن عباد بشيء فسار سير بن أبي بكر نحو إشبيلية وهو
يظن أن ابن عباد إذا سمع به يخرج إليه ويتلقاه على بعد ويحمل إليه الضيافات على
العادة فلم يفعل وتحصن منه ولم يتلفت إليه فراسله سير بن أبي بكر أن يسلم إليه
البلاد ويدخل في طاعة
____________________
أمير المسلمين فامتنع ابن عباد
فعند ذلك تقدم سير إلى حصاره وقتاله وبعث بعض قواده إلى قرطبة ليحاصرها وبها يومئذ
المأمون بن المعتمد ابن عباد فنازلها في عساكر المرابطين حتى فتحها يوم الأربعاء
ثالث صفر سنة أربع وثمانين وأربعمائة وقتل صاحبها المأمون بن المعتمد ثم فتح بياسة
وأبدة وحصن البلاط والمدور والصخيرة وشقورة ولم ينقض شهر صفر المذكور حتى لم يبق
لابن عباد بلد إلا وقد ملكه المرابطون ما عدا قرمونة وإشبيلية ثم ارتحل سير بن أبي
بكر إلى قرمونة فنازلها حتى دخلها عنوة زوال يوم السبت السابع عشر من ربيع الأول
من السنة المذكورة فاشتد الأمر على ابن عباد وطال عليه الحصار فبعث إلى الأذفونش
لعنه الله يستغيث به على لمتونة ويعده بإعطاء البلاد ويذل الطارف والتلاد إنه هو
كشف عنه ما هو فيه من الحصار فبعث إليه الأذفونش قائده القومس في جيش من عشرين ألف
فارس وأربعين ألف راجل
فلما علم سير بقدوم الفرنج إليه انتخب من جيشه عشرة آلاف فارس من أهل الشجاعة
والنجدة وقدم عليهم إبراهيم بن إسحاق اللمتوني وبعثه للقاء الفرنج فالتقى الجمعان
بالقرب من حصن المدور فكانت بينهم حروب شديدة مات فيها خلق كثير من المرابطين
ومنحهم الله النصر فهزموا الفرنج وقتلوهم حتى لم يفلت منهم إلا القليل
ثم شد سير بن أبي بكر في الحصار والتضييق على إشبيلية حتى اقتحمها عنوة وقبض على
المعتمد وجماعة من أهل بيته فقيدهم وحملهم في السفين بنهر إشبيلية وبعث بهم إلى
أمير المسلمين بمراكش فأمر أمير المسلمين بإرسال المعتمد إلى مدينة أغمات فسجن بها
واستمر في السجن إلى أن مات به لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة ثمان وثمانين
وأربعمائة
وكان دخول سير بن أبي بكر مدينة إشبيلية يوم الأحد الثاني والعشرين من رجب سنة
أربع وثمانين وأربعمائة
____________________
ثم ملك المرابطون بعد ذلك ما بقي من بلاد الأندلس إلى أن خلصت لهم ولم يبق لملوك
الطوائف بها ذكر وهذه الأخبار نقلناها عن ابن أبي زرع ممزوجة باليسير من كلام غيره
واعتمدنا كلامه لأنه موضوع بالقصد الأول لأحبار المغرب فيكون أعنى به من غيره
وفي تاريخ ابن خلدون بعض مخالفة لما مر قال أجاز يوسف بن تاشفين البحر إلى الأندلس
الجواز الثاني سنة ست وثمانين وأربعمائة وتثاقل أمراء الطوائف عن لقائه لما أحسوا
من نكيره عليهم لما يسمون به رعاياهم من الظلامات والمكوس وتلاحق المغارم فوجد
عليهم وعهد برفع المكوس وتحرى المعدلة وقال أيضا إن الفقهاء بالأندلس طلبوا من
يوسف بن تاشفين رفع المكوس والظلامات عنهم فتقدم بذلك إلى ملوك الطوائف فأجابوه
بالامتثال حتى إذا رجع عن بلادهم رجعوا إلى حالهم فلما أجاز ثانية انقبضوا عنه إلا
ابن عباد فإنه بادر إلى لقائه وأغراه بالكثير منهم فتقبض على ابن رشيق البناء
وأمكن ابن عباد منه للعداوة التي بينهما وبعث جيشا إلى المرية ففر عنها صاحبها ابن
صمادح ونزل بجاية من أرض إفريقية وتوافق ملوك الطوائف على قطع المدد عن عساكر أمير
المسلمين ومحلاته فساء نظره وأفتاه الفقهاء وأهل الشورى من المغرب والأندلس بخلعهم
وانتزاع الأمر من أيديهم وسارت إليه بذلك فتاوى أهل المشرق الأعلام مثل الغزالي
والطرطوشي وغيرهما
فعمد إلى غرناطة واستنزل صاحبها عبد الله بن بلكين وأخاه تميما عن مالقة بعد أن
كان منهما مداخلة للطاغية في عداوة يوسف بن تاشفين وبعث بهما إلى المغرب فخاف ابن
عباد عند ذلك منه وانقبض عن لقائه وفشت السعايات بينهم ونهض أمير المسلمين إلى
سبتة فاستقر بها وعقد للأمير سير بن أبي بكر على الأندلس وأجازه فانتهى إليها وقعد
ابن عباد عن تلقيه وميرته فأحفظه ذلك وطالبه بالطاعة لأمير المسلمين والنزول عن
الأمر ففسد ذات بينهما ثم غلبه على جميع عمله ثم صمد إلى إشبيلية فحاصره بها
واستنجد الطاغية فعمد إلى استنقاذه من هذا الحصار فلم يغن
____________________
عنه شيئا وكان دفاع لمتونة مما
فت في عضده واقتحم المرابطون إشبيلية عنوة سنة أربع وثمانين وأربعمائة وتقبض سير
على المعتمد وقاده أسيرا إلى مراكش فلم يزل في اعتقال يوسف بن تاشفين إلى أن هلك
في محبسه من أغمات سنة تسعين وأربعمائة
ثم عمد إلى بطليوس وتقبض على صاحبها عمر بن الأفطس فقتله وابنيه يوم الأضحى سنة
تسع وثمانين وأربعمائة بما صح عنده من مداخلتهم الطاغية وأن يملكه مدينة بطليوس
ورثاهم ألأديب أبو محمد عبد المجيد بن عبدون بقصيدته المشهورة التي يقول في أولها
( الدهر يفجع بعد العين بالأثر ** فما البكاء على الأشباح والصور )
وهي قصيدة غريبة في منوالها وموضوعها عدد فيها أهل النكبات ومن عثر به الزمان بما
يبكي منه الجماد وتستشرف لسماعه الأنجاد والوهاد
ثم أجاز يوسف بن تاشفين الجواز الثالث إلى الأندلس سنة تسعين وأربعمائة وزحف إليه
الطاغية فبعث أمير المسلمين عساكر المرابطين لنظر محمد بن الحاج اللمتوني فانهزم
النصارى أمامه وكان الظهور للمسلمين
ثم أجاز الأمير يحيى بن أبي بكر بن يوسف بن تاشفين سنة ثلاث وتسعين وانضم إليه
محمد بن الحاج وسير بن أبي بكر فافتتحوا عامة الأندلس من أيدي ملوك الطوائف ولم
يبق منها إلا سرقسطة في يد المستعين بن هود معتصما بالنصارى وأغزى الأمير مزدلي
صاحب بلنسية إلى بلاد برشلونة فأثخن فيها وبلغ إلى حيث لم يبلغ أحد قبله ورجع
وانتظمت بلاد الأندلس في ملكة يوسف بن تاشفين وانقرض ملك الطوائف منها أجمع كان لم
يكن واستولى أمير المسلمين على العدوتين معا واتصلت هزائم المرابطين على الفرنج
مرارا والله غالب على أمره فهذا كلام ابن خلدون في سياقه هذه الأخبار
____________________
واعلم أنه قد يوجد هنا لبعض
المؤرخين حط من رتبة أمير المسلمين وغض عليه إما في كونه كان بربريا من أهل
الصحراء بعيدا عن مناحي الملك والأدب ورقة الحاشية وإما في كونه تحامل على ملوك
الأندلس حتى فعل بهم ما فعل وذلك حين عاين حسن بلادهم ورفاهية عيشهم
واعلم أن هذا الكلام جدير بالرد وأصله من بعض أدباء الأندلس الذين كانوا ينادمون
ملوكها ويستظلون بظلهم ويغدون ويروحون في نعمتهم فحين فعل أمير المسلمين بسادتهم
ورؤسائهم ما فعل أخذهم من ذلك ما يأخذ النفوس البشرية من الذب عن الصديق والمحاماة
عن القريب حتى باللسان وإلا فقد كان أمير المسلمين رحمه الله من الدين والورع على
ما قد علمت ومن ركوب الجادة وتحري طريق الحق على الوصف الذي سمعت
وهذا ابن خلدون إمام الفن ومتحري الصدق قد نقل أن ملوك الأندلس كانوا يظلمون
رعاياهم بضرب المكوس وغيرها ثم وصلوا أيديهم بالطاغية وبذلوا له الأموال في
مظاهرته إياهم على أمير المسلمين ثم لم يقدم على قتالهم واستنزالهم عن سرير ملكهم
حتى تعددت لديه فتاوى الأئمة الأعلام من أهل المشرق والمغرب بذلك فافهم هذا واعرفه
والله تعالى يقابل الجميع بالعفو والصفح الجميل بمنه وكرمه بقية أخبار أمير
المسلمين يوسف بن تاشفين سوى ما تقدم قال ابن خلكان كان أمير المسلمين يوسف بن
تاشفين حازما سائسا للأمور ضابطا لمصالح مملكته مؤثرا لأهل العلم والدين كثير
المشورة لهم قال وبلغني أن الإمام حجة الإسلام أبا حامد الغزالي رحمه الله لما سمع
ما هو عليه من الأوصاف الحميدة وميله إلى أهل العلم عزم إلى
____________________
التوجه إليه فوصل إلى
الإسكندرية وشرع في تجهيز ما يحتاج إليه فجاء إليه الخبر بوفاته فرجع عن ذلك العزم
قال وكنت وقفت على هذا الفصل في بعض الكتب وقد ذهب عني في هذا الوقت من أين وجدته
وكان أمير المسلمين يوسف معتدل القامة أسمر اللون نحيف الجسم خفيف العارضين دقيق
الصوت
وكان يخطب لبني العباس وهو أول من تسمى بأمير المسلمين ولم يزل على حاله وعزه
وسلطانه إلى أن توفي يوم الاثنين لثلاث خلون من المحرم سنة خمسمائة وعاش سبعين سنة
ملك منها مدة خمسين سنة رحمه الله
وقال ابن خلدون تسمى يوسف بن تاشفين بأمير المسلمين وخاطب الخليفة لعهده ببغداد
وهو أبو العباس أحمد المستظهر بالله العباسي وبعث إليه عبد الله بن محمد بن العربي
المعافري الإشبيلي وولده القاضي أبا بكر بن العربي الإمام المشهور فتلطفا في القول
وأحسنا في الإبلاغ وطلبا من الخليفة أن يعقد لأمير المسلمين بالمغرب والأندلس فعقد
له وتضمن ذلك مكتوب من الخليفة منقول في أيدي الناس وانقلبا إليه بتقليد الخليفة
وعهده على ما إلى نظره من الأقطار والأقاليم وخاطبه الإمام الغزالي والقاضي أبو
بكر الطرطوشي يحضانه على العدل والتمسك بالخير ثم أجاز يوسف بن تاشفين الجواز
الرابع إلى الأندلس سنة سبع وتسعين وأربعمائة اه كلام ابن خلدون
وإنما احتاج أمير المسلمين إلى التقليد من الخليفة المستظهر بالله مع أنه كان
بعيدا عنه وأقوى شوكته منه لتكون ولايته مستندة إلى الشرع وهذا من ورعه رحمه الله
وإنما تسمى بأمير المسلمين دون أمير المؤمنين أدبا مع الخليفة حتى لا يشاركه في
لقبه لأن لقب أمير المؤمنين خاص بالخليفة والخليفة من قريش كما في الحديث فافهم
____________________
ومن أخبار يوسف بن تاشفين أيضا ما نقله غير واحد من الأئمة أن أمير المسلمين طلب
من أهل البلاد المغربية والأندلسية المعاونة بشيء من المال على ما هو بصدده من
الجهاد وأنه كاتب إلى قاضي المرية أبي عبد الله محمد بن يحيى عرف بابن البراء
يأمره بفرض معونة المرية ويرسل بها إليه فامتنع محمد بن يحيى من فرضها وكتب إليه
يخبره بأنه لا يجوز له ذلك فأجابه أمير المسلمين بأن القضاة عندي والفقهاء قد
أباحوا فرضها وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد فرضها في زمانه فراجعه القاضي عن
ذلك بكتاب يقول فيه الحمد لله الذي إليه مآبنا وعليه حسابنا وبعد فقد بلغني ما
ذكره أمير المسلمين من اقتضاء المعونة وتأخري عن ذلك وإن أبا الوليد الباجي وجميع
القضاة والفقهاء بالعدوة والأندلس أفتوه بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اقتضاها
فالقضاة والفقهاء إلى النار دون زبانية فإن كان عمر اقتضاها فقد كان صاحب رسول
الله صلى الله عليه وسلم ووزيره وضجيعه في قبره ولا يشك في عدله وليس أمير
المسلمين بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بوزيره ولا بضجيعه في قبره ولا
ممن لا يشك في عدله فإن كان القضاة والفقهاء أنزلوك منزلته في العدل فالله تعالى
سائلهم وحسيبهم عن تقلدهم فيك وما اقتضاها عمر رضي الله عنه حتى دخل مسجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم وحضر من كان معه من الصحابة رضي الله عنهم وحلف أن ليس
عنده في بيت مال المسلمين درهم واحد ينفقه عليهم فليدخل أمير المسلمين المسجد
الجامع بحضرة من هناك من أهل العلم وليحلف أن ليس عنده في بيت مال المسلمين درهم
ينفقه عليهم وحينئذ تجب معونته والله تعالى على ذلك كله والسلام عليك ورحمة الله
تعالى وبركاته فلما بلغ كتابه إلى أمير المسلمين وعظه الله بقوله ولم يعد عليه في
ذلك قولا والأعمال بالنيات
وكان أمير المسلمين حين ورد عليه التقليد من الخليفة ضرب السكة
____________________
باسمه ونقش على الدينار لا إله
إلا الله محمد رسول الله وتحت ذلك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين وكتب على الدائرة
{ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } وكتب على
الصفحة الأخرى عبد الله أحمد أمير المؤمنين العباسي وعلى الدائرة تاريخ ضربه وموضع
سكته
وكان ملكه قد انتهى إلى مدينة أفراغه من قاصية شرق الأندلس وإلى مدينة أشبونة على
البحر المحيط من بحر الأندلس وذلك مسيرة ثلاثة وثلاثين يوما طولا وفي العرض ما
يقرب من ذلك
وملك بعدوة المغرب من جزائر بني مذغنة إلى طنجة إلى آخر السوس الأقصى إلى جبال
الذهب من بلاد السودان
ولم ير في بلد من بلاده ولا عمل من أعماله على طول أيامه رسم مكس ولا خراج لا في
حاضرة ولا في بادية إلا ما أمر الله به وأوجبه حكم الكتاب والسنة من الزكوات
والأعشار وجزيات أهل الذمة وأخماس الغنائم
وقد جبى في ذلك من الأموال على وجهها ما لم يجيبه أحد قبله يقال إنه وجد في بيت
ماله بعد وفاته ثلاثة عشر ألف ربع من الورق وخمسة آلاف وأربعون ربعا من مطبوع
الذهب
وكان رحمه الله زاهدا في زينة الدنيا وزهرتها ورعا متقشفا لباسه الصوف لم يلبس قط
غيره ومأكله الشعير ولحوم الإبل وألبانها مقتصرا على ذلك لم ينقل عنه مدة عمره على
ما منحه الله من سعة الملك وخوله من نعمة الدنيا وقد رد أحكام البلاد إلى القضاة
وأسقط ما دون الأحكام الشرعية وكان يسير في أعماله بنفسه فيتفقد أحوال الرعية في
كل سنة وكان محبا للفقهاء وأهل العلم والفضل مكرما لهم صادرا عن رأيهم يجري عليهم
أرزاقهم من بيت المال وكان مع ذلك حسن الأخلاق متواضعا كثير الحياء جامعا لخصال
الخير رحمه الله تعالى ورضي عنه
____________________
الخبر عن دولة أمير المسلمين
أبي الحسن علي بن يوسف بن تاشفين اللمتوني
لما توفى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين في التاريخ المتقدم بايع الناس ابنه علي بن
يوسف المذكور بمراكش بعهد من أبيه إليه وتسمى بأمير المسلمين
وكان سنه يوم بويع ثلاثا وعشرين سنة وملك من البلاد ما لم يملكه أبوه لأنه صادف
البلاد ساكنة والأموال وافرة والرعايا آمنة بانقطاع الثوار واجتماع الكلمة وسلك
طريقه أبيه في جميع أموره واهتدى بهديه خروج يحيى بن أبي بكر بن يوسف بن تاشفين
على عمه أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين
لما توفي أمير المسلمين يوسف بن تاشفين سجاه ابنه علي بن يوسف بثوبه وخرج إلى
المرابطين ويده في يد أخيه أبي الطاهر تميم بن يوسف فبايعه ثم قال للمرابطين قوموا
فبايعوا أمير المسلمين فبايعه جميع من حضر من لمتونة وسائر قبائل صنهاجة وبايعه
الفقهاء وأشياخ القبائل فتمت له البيعة بمراكش
ثم كتب إلى سائر بلاد المغرب والأندلس وبلاد القبلة يعلمهم بوفاة أبيه واستخلافه
من بعده ويأمرهم بالبيعة فأتته البيعة من جميع البلاد وأقبلت نحوه الوفود للتعزية
والتهنئة إلا أهل مدينة فاس فإن ابن أخيه يحيى بن أبي بكر بن يوسف كان أميرا عليها
من قبل جده يوسف فلما انتهى إليه الخبر بموت جده وولاية عمه عظم عليه ذلك وأنف من
مبايعة عمه فخرج عليه ووافقه على ذلك جماعة من قواد لمتونة فزحف إليه علي بن يوسف
من
____________________
مراكش حتى إذا دنا من فاس خاف
يحيى بن أبي بكر على نفسه وعلم أنه لا طاقة له بحرب عمه فأسلم فاسا لعمه وخرج منها
خائفا يترقب فدخلها علي بن يوسف يوم الأربعاء الثامن من ربيع الآخر سنة خمسمائة
واستقام له الأمر
وقيل إن علي بن يوسف لما دنا من فاس نزل بمدينة مغيلة من أحوازها ثم كتب إلى ابن
أخيه يعاتبه على ما ارتكبه من الخلاف ويدعوه إلى الدخول في الطاعة كما دخل الناس
وكتب كتابا آخر إلى أشياخ البلد يدعوهم فيه إلى بيعته ويتوعدهم فلما وصل الكتاب
إلى يحيى وقرأه جمع أهل البلد واستشارهم في المقاتلة والحصار فلم يوافقوه فلما يئس
منهم خرج فارا إلى مزدلي بن تيلكان وكان عاملا على تلمسان فلقيه مزدلي بوادي ملوية
مقبلا برسم البيعة لعلي بن يوسف فأعلمه يحيى بما كان من شأنه فضمن له مزدلي عن عمه
العفو والصفح فرجع معه حتى إذا وصلا إلى فاس دخل مزدلي على أمير المسلمين علي بن
يوسف ونزل يحيى مستخفيا بحومة وادي شردوع
ولما اجتمع مزدلي بأمير المسلمين وسلم عليه ورأى منه إكراما وقبولا أعلمه بخبر
يحيى وما ضمن له من العفو فأجابه إلى ذلك وعفا عنه وأمنه ثم جاء يحيى فبايعه وخيره
أمير المسلمين بين أن يسكن بجزيرة ميروقة بشرق الأندلس أو ينصرف إلى بلاد الصحراء
فاختار الصحراء فانصرف إليها ثم سافر منها إلى الحجاز فحج البيت ورجع إلى عمه
فاستأذنه أن يكون في جملته ويكون سكناه معه بحضرة مراكش فأذن له في ذلك فسكنها مدة
ثم اتهمه عمه بالتشغيب عليه فثقفه وبعث به إلى الجزيرة الخضراء فاستمر بها إلى أن
مات
____________________
أخبار الولاة بالمغرب والأندلس
لما بويع أمير المسلمين علي بن يوسف عزل عن قرطبة الأمير أبا عبد الله محمد بن
الحاج اللمتوني وولى مكانه القائد أبا عبد الله محمد بن أبي زلفى فغزا طليطلة
وأوقع بالنصارى فقتلهم قتلا ذريعا بباب القنطرة أخذهم على غرة
وفي سنة إحدى وخمسمائة عزل أمير المسلمين أخاه تميم بن يوسف بن تاشفين عن بلاد
المغرب وولى مكانه أبا عبد الله بن الحاج فأقام واليا على فاس وسائر أعمال المغرب
نحو ستة أشهر ثم عزله وولاه بلنسية وأعمالها من بلاد شرق الأندلس
ولما عزل أمير المسلمين أخاه تميم بن يوسف عن بلاد المغرب ولاه غرناطة وأعمالها من
بلاد الأندلس فكانت له على النصارى وقعة أفليج وذلك أنه خرج غازيا بلاد الفرنج سنة
اثنتين وخمسمائة فنزل حصن أفليج وبه جمع عظيم من الفرنج فحاصرهم حتى اقتحم عليهم
الحصن فأرز النصارى إلى القصبة فتحصنوا بها وانتهى خبرهم إلى الفنش فاستعد للخروج
لإغاثتهم فأشارت عليه زوجته أن يبعث ولده عوضا منه لأن تميم بن يوسف ابن ملك
المسلمين وسانجة ابن ملك النصارى فامتثل إشارتها وبعث ولده سانجة في جيش كثيف من
زعماء الفرنج وأنجادهم فسار حتى إذا دنا من أفليج أخبر تميم بن يوسف بمقدمه فعزم
على الإفراج عن الحصن وأن لا يلقى الفرنج فأشار عليه قواد لمتونة منهم عبد الله بن
محمد ابن فاطمة ومحمد بن عائشة وغيرهم بالمقام وشجعوه وهونوا عليه أمرهم فقالوا
إنما قدموا في ثلاثة آلاف فارس وبيننا وبينهم مسافة فرجع إلى رأيهم فلم يكن إلا
عشي ذلك اليوم حتى وافتهم جيوش الفرنج في ألوف
____________________
كثيرة فهم تميم بالفرار فلم
يجد له سبيلا ثم صمم قواد لمتونة على مناجزة العدو وصمدوا إليه فكانت بينهم حرب
عظيمة بعد العهد بمثلها فهزم الله تعالى العدو ونصر المسلمين وقتل ولد الفنش وقتل
معه من الروم ثلاثة وعشرون ألفا ونيف ودخل المسلمون أفليج بالسيف عنوة واستشهد في
هذه الوقعة جماعة من المسلمين رحمهم الله واتصل الخبر بالفنش فاغتم لقتل ولده وأخذ
بلده وهلاك جنده فمرض ومات أسفا لعشرين يوما من الوقعة وكتب تميم بن يوسف إلى أمير
المسلمين بالفتح
واعلم أنه يقال في ملوك الجلالقة الذين نسميهم اليوم الإصبنيول الأذفونش ويقال
الفنش فقال ابن خلكان الأذفونش بضم الهمزة وسكون الذال المعجمة وضم الفاء وسكون
الواو بعدها نون ثم شين معجمة هو اسم لأكبر ملوك الإفرنج وهو صاحب طليطلة وقال ابن
خلدون بنو أذفونش هم ولد أذفونش بن بطرة أول ملوك الجلالقة اه وأما قولهم الفنش
فهو اسم علم لبعض ملوكهم وليس لقبا لجميعهم
وكان محمد بن الحاج رحمه الله مدة مقامه ببلنسية قد ضيق على النصارى تضييقا فاحشا
بالغارات والنهب فخرج في غزاة له ذات مرة فأخذ على طريق البرية فغنم وسبى وكان معه
جماعة من قواد لمتونة فبعث بالمغنم على الطريق الكبير وأخذ هو على برية تقرب من
بلاد المسلمين وكان أكثر الناس مع المغنم وكان طريق البرية الذي أخذ عليه محمد بن
الحاج لا يسلك إلا على سرب واحد لصعوبته وشدة وعورته فلما توسطه محمد بن الحاج
وأخذته الأوعار والمضايق من بين يديه ومن خلفه وجد النصارى قد كمنوا له في جهة من
تلك الجهات فقاتلهم قتال من أيقن بالموت واغتنم الشهادة إذ لم يجد منفذا يخلص منه
فاستشهد رحمه الله واستشهد معه جماعة من المتطوعة وتخلص منهم القائد محمد بن عائشة
في نفر يسير بحيلة أعملها
____________________
واتصل خبر الوقعة بأمير المسلمين فآسفه موت أبي عبد الله بن الحاج وولى مكانه أبا
بكر بن إبراهيم بن تافلوت وهو ممدوح بن خفاجة ومخدوم أبي بكر بن باجة الحكيم
المعروف بابن الصائغ وكان عاملا على مرسية فوصل إليه العهد بالولاية على بلنسية
وطرطوشة وما والاهما وهو بمرسية ثم خرج بجيش مرسية الى بلنسية فاجتمع إليه من كان
بها من الجند ثم زحف بهم إلى برشلونة فنازلها وأقام عليها عشرين يوما فانتسف ما
حولها وقطع ثمارها وخرب قراها فأتاه ابن رذمير من قرابة الأذفونش في جيوش كثيرة من
حشود بسيط برشلونة وبلاد أربونة فكانت بينهم حرب عظيمة مات فيها خلق كثير من
الفرنج واستشهد فيها من المسلمين نحو السبعمائة رحمهم الله تعالى أخبار أمير
المسلمين علي بن يوسف في الجهاد وجوازه الأول إلى بلاد الأندلس
لما دخلت سنة ثلاث وخمسمائة جاز أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين إلى الأندلس
برسم الجهاد فعبر البحر من سبتة منتصف المحرم من السنة المذكورة في جيوش عظيمة
تزيد على مائة ألف فارس فانتهى إلى قرطبة فأقام بها شهرا ثم خرج منها غازيا إلى
مدينة طلايوت ففتحها عنوة بالسيف وفتح من أعمال طليطلة سبعة وعشرين حصنا وفتح
مجريط ووادي الحجارة وانتهى إلى طليطلة فحاصرها شهرا وانتسف ما حولها وبالغ في
النكاية ثم قفل إلى قرطبة بعد أن دوخ البلاد
وفي سنة أربع وخمسمائة فتح الأمير سير بن أبي بكر شنترين
____________________
وبطليوس ويابورة وبرتغال
وأشبونة وغير ذلك من بلاد غرب الأندلس وكان ذلك في شهر ذي القعدة من السنة
المذكورة وكتب بالفتح إلى أمير المسلمين
وفي سنة سبع وخمسمائة توفي الأمير سير بن أبي بكر بإشبيلية ودفن بها وولي إشبيلية
عوضا منه أبو عبد الله محمد بن فاطمة فلم يزل عليها إلى أن توفي سنة عشر وخمسمائة
وفي سنة سبع المذكورة غزا الأمير مزدلي طليطلة وأعمالها فدوخها وفتح حصن أرجنة
عنوة فقتل المقاتلة وسبى النساء والذرية واتصل الخبر بالبرهانس كبير الفرنج فأقبل
لنصرتهم واستنقاذهم فصمد القائد مزدلي للقائه ففر أمامه ليلا وعاد مزدلي إلى قرطبة
ظافرا غانما
ثم كانت له في الفرنج وقائع أخرى إلى أن توفي رحمه الله غازيا ببلاد الفرنج سنة
ثمان وخمسمائة فولى أمير المسلمين مكانه على قرطبة ابنه محمد بن مزدلي فأقام واليا
عليها ثلاثة أشهر ثم توفي شهيدا في بعض غزواته أيضا استيلاء العدو على سرقسطة
كانت سرقسطة وأعمالها من شرق الأندلس بيد بني هود الجذاميين تغلبوا عليها في صدر
المائة الخامسة أيام الطوائف وتوارثوها إلى أن كان منهم أحمد بن يوسف الملقب
بالمستعين بالله فزحف إليه ابن رذمير سنة ثلاث وخمسمائة فخرج إليه المستعين
فالتقوا بظاهر سرقسطة فانهزم المسلمون واستشهد منهم جماعة منهم المستعين بن هود
ثم لما كانت سنة اثنتي عشرة وصاحب سرقسطة يومئذ عبد الملك بن المستعين بن هود
الملقب بعماد الدولة زحف ابن رذمير
____________________
إليها وزحف الفنش أيضا في أمم
من النصرانية إلى لاردة من بلاد الجوف فنازلها واتصل الخبر بأمير المسلمين فكتب
إلى أمراء غرب الأندلس يأمرهم بالمسير إلى أخيه تميم بن يوسف وكان يومئذ واليا على
شرق الأندلس فيسيرون معه لاستنقاذ سرقسطة ولاردة فقدم على تميم عبد الله بن مزدلي
وأبو يحيى بن تاشفين صاحب قرطبة بعساكرهما فخرج تميم بن يوسف من بلنسية مع أمراء
الأندلس فصمد نحو لاردة وكان بينه وبين الفنش قتال عظيم أزعجه عن لاردة خاسئا
صاغرا بعد أن بذل جهده في حصارها وأفقد من جيوشه عليها ما يزيد على العشرة آلاف
فارس ورجع تميم إلى بلنسية
ولما رأى ابن رذمير ذلك بعث إلى طوائف الإفرنج يستصرخهم على سرقسطة فأتوا في أمم
كالنمل حتى نازلها معه وشرعوا في القتال وصنعوا أبراجا من خشب تجري على بركات
وقربوها منها ونصبوا فيها الرعادات ونصبوا عليها عشرين منجنيقا وقوي طمعهم فيها
فاشتد الحصار واستمر حتى فنيت الأقوات وهلك أكثر الناس جوعا فراسل المسلمون الذين
بها ابن رذمير على أن يرفع عنهم القتال إلى أجل فإن لم يأتيهم من ينصرهم أخلوا له
البلد وأسلموه إليه فعاهدهم على ذلك فتم الأجل ولم يأتهم أحد فدفعوا إليه المدينة
وخرجوا إلى مرسية وبلنسية وذلك سنة اثنتي عشرة وخمسمائة وبعد استيلاء النصارى
عليها وصل من بر العدوة جيش فيه عشرة آلاف فارس بعثه أمير المسلمين لاستنقاذها
فوجدوها قد فرغ منه ونفذ حكم الله فيها
وفي سنة ثلاث عشرة وخمسمائة تغلب ابن رذمير على بلاد شرق الأندلس وملك قلعة أيوب
التي ليس في بلاد شرق الأندلس أمنع منها وألح بالغارات على بلاد الجوف فاتصلت هذه
الأخبار بأمير المسلمين وهو بمراكش فجاز إلى الأندلس برسم الجهاد وضبط الثغور وهو
جوازه الثاني
____________________
فجاز معه خلق كثير من
المرابطين والمتطوعة من العرب وزناتة والمصامدة وسائر قبائل البربر فوصل بجيوشه
إلى قرطبة ونزل خارجها وأتته وفود الأندلس للسلام عليه فسألهم عن أحوال بلادهم
وثغورهم بلدا بلدا فعرفوه بما كان
وعزل القاضي أبا الوليد بن رشد عن قضاء قرطبة وولى مكانه أبا القاسم بن حمدين
ويقال إنما عزل ابن رشد لأنه استعفاه وكان قد اشتغل بتأليف البيان والتحصيل
ثم سار أمير المسلمين حتى نزل على مدينة شنتمرية ففتحها عنوة وسار في بلاد الفرنج
يقتل ويسبي ويقطع الثمار ويخرب القرى والديار حتى دوخ بلاد غرب الأندلس وفر أمامه
الفرنج وتحصنوا بالمعاقل المنيعة
وفي سنة خمس عشرة وخمسمائة عاد أمير المسلمين إلى بلاد العدوة بعد أن ولى أخاه
تميم بن يوسف على جميع بلاد الأندلس فلم يزل عليها إلى أن توفي سنة عشرين وخمسمائة
ولاية الأمير تاشفين بن علي بن يوسف على بلاد الأندلس وأخباره في الجهاد
لما توفي الأمير تميم بن يوسف في التاريخ المتقدم ولى أمير المسلمين على بلاد
الأندلس ابنه تاشفين بن علي بن يوسف ما عدا الجزائر الشرقية فإنه قد عقد عليها
لمحمد بن علي المسوفي المعروف بابن غانية فعبر الأمير تاشفين البحر إلى الأندلس في
خمسة آلاف من الجند وبعث إلى أجناد البلاد فأتوه فخرج بهم غازيا طليطلة ففتح بعض
حصونها بالسيف وانتسف ما حولها
وفي السنة المذكورة أعني سنة عشرين وخمسمائة هزم الأمير تاشفين
____________________
النصارى بفحص الصباب وقتلهم
قتلا ذريعا وفتح ثلاثين حصنا من حصون غرب الأندلس وكتب بالفتح إلى أبيه
وفي سنة ثلاثين وخمسمائة هزم الأمير تاشفين جموع الفرنج بفحص عطية وأفنى منهم خلقا
كثيرا بالسيف
وفي سنة إحدى وثلاثين بعدها دخل الأمير تاشفين مدينة كركى بالسيف فلم يبق بها بشرا
وفي سنة إثنتين وثلاثين بعدها جاز الأمير تاشفين من الأندلس إلى المغرب بعد أن غزا
مدينة أشكونية ففتحها عنوة وحمل معه من سبيها إلى العدوة ستة آلاف سبية فانتهى إلى
مراكش وخرج أمير المسلمين للقائه في زي عظيم وسرور كبير
وفي سنة ثلاث وثلاثين بعدها أخذ أمير المسلمين البيعة لولده تاشفين
وفي سنة سبع وثلاثين وخمسمائة كانت وفاة أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين
اللمتوني رحمه الله وذلك لسبع خلون من رجب من السنة المذكورة قال ابن خلكان كان
أبو الحسن علي بن يوسف بن تاشفين رجلا حليما وقورا صالحا عادلا منقادا إلى الحق
والعلماء تجبى إليه الأموال من البلاد ولم يزعزعه عن سريره قط حادث ولا طاف به
مكروه
قلت قد طاف به في آخر دولته أعظم مكروه وذلك محمد بن تومرت النابغ تحت إبطه بحبال
المصامدة كما يأتي خبره إن شاء الله
____________________
الخبر عن دولة أبي المعز
تاشفين بن علي بن يوسف ابن تاشفين اللمتوني
لما توفي أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين في التاريخ المتقدم ولي بعده ابنه
أبو المعز تاشفين بن علي بعهد من أبيه إليه وأخذ بطاعته وبيعته أهل العدوتين معا
كما كانوا في عهد أبيه
وكان أمر عبد المؤمن بن علي يومئذ قد استفحل بتينملل وسائر بلاد المصامدة أهل جبل
درن قال ابن الخطيب كان تاشفين بن علي قد استخلفه أبوه على بلاد الأندلس ثم
استقدمه لمدافعة أصحاب محمد بن تومرت مهدي الموحدين فلم ينجح أمره بخلاف ما عوده
الله في بلاد الأندلس من النصر لما قضاه الله من الإدبار على دولتهم
ولما خرج عبد المؤمن بن علي من تينملل يريد فتح بلاد المغرب وكان مسيره على طريق
الجبال سير أمير المسلمين علي بن يوسف ابنه تاشفين المذكور معارضا له على طريق
السهل وأقاموا على ذلك مدة توفي أمير المسلمين علي بن يوسف في أثنائها وأفضى الأمر
إلى ابنه تاشفين وهو في الحرب
وقدم أهل مراكش إسحاق بن علي بن تاشفين نائبا عن أخيه تاشفين بمراكش وأعمالها ومضى
تاشفين بعد البيعة له متبعا لعبد المؤمن حتى انتهيا تلمسان فنزل عبد المؤمن بكهف
الضحاك بين الصخرتين من جبل تيطرى المطل عليها ونزل تاشفين بالبسيط مما يلي
الصفصاف ووصله هناك مدد صنهاجة من قبل يحيى بن العزيز صاحب بجاية مع قائده طاهر بن
كباب لعصبية الصنهاجية وفي يوم وصوله أشرف على عسكر الموحدين وكان يدل بإقدام
وشجاعة فقال لجيش لمتونة إنما جئتكم لأخلصكم من صاحبكم عبد المؤمن هذا وأرجع إلى
قومي فامتعض تاشفين لكلمته وأذن له في المناجزة فحمل على القوم فركبوا وصمموا
للقائه فكان آخر العهد به
____________________
وبعسكره وكان الموحدون قد
قتلوا قبل ذلك الروبرتير قائد تاشفين على الروم وقتلوا عسكره في بعض الغارات ثم
فتكوا بعسكر ثالث من عساكر تاشفين ونالوا منه أعظم النيل
وفي القرطاس زحف المرابطون لقتال الموحدين فنهاهم تاشفين فلم ينتهوا وتعلقوا في
الجبل لقتالهم فهبط عليهم الموحدون فهزموهم هزيمة شنعاء
ولما توالت هذه الوقائع على تاشفين أجمع الرحلة إلى وهران فبعث ابنه إبراهيم ولي
عهده إلى مراكش في جماعة من لمتونة وبعث كاتبا معه أحمد بن عطية ورحل هو إلى وهران
سنة تسع وثلاثين وخمسمائة فأقام عليها شهرا ينتظر قائد أسطوله محمد بن ميمون إلى
أن وصل إليه من المرية بعشرة أساطيل فأرسى قريبا من معسكره وزحف عبد المؤمن من
تلمسان وبعث في مقدمته الشيخ أبا حفص عمر بن يحيى فقدموا وهران وفضوا جموع
المرابطين الذين بها ولجأ تاشفين إلى رابية هناك فأحدقوا بها وأضرموا النيران
حولها حتى إذا غشيهم الليل خرج تاشفين من الحصن راكبا على فرسه فتردى من بعض حافات
الجبل وهلك لسبع وعشرين من رمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ونجا فل العسكر إلى وهران
فانحصروا مع أهلها حتى جهدهم العطش ونزلوا جميعا على حكم عبد المؤمن يوم عيد الفطر
من السنة المذكورة فأتى عليهم القتل رحمهم الله
وقال في القرطاس إن تاشفين بن علي خرج ذات ليلة وهو بوهران ليضرب في محلة الموحدين
فتكاثرت عليه الخيل والرجل ففر أمامهم وكان بجبل عال مشرف على البحر فظن أن الأرض
متصلة به فأهوى من شاهق بإزاء رابطة وهران فمات رحمه الله وكان ذلك في ليلة مظلمة
ممطرة وهي ليلة السابع والعشرين من رمضان من السنة المذكورة آنفا
____________________
فوجد من الغد بإزاء البحر ميتا
فاحتز رأسه وحمل إلى تينملل فعلق على شجرة هناك وذلك بعد ملازمة الحرب مع الموحدين
في البيداء لم يأو إلى ظل قط من يوم بويع إلى أن مات وكانت مدة ولايته سنتين وشهرا
ونصف شهر
وقال ابن خلكان لما تيقن تاشفين بن علي أن دولتهم ستزول أتى مدينة وهران وهي على
البحر وقصد أن يجعلها مقره فإن غلب على الأمر ركب منها إلى الأندلس وكان في ظاهر
وهران ربوة على البحر تسمى صلب الكلب وبأعلاها رباط يأوي إليه المتعبدون وفي ليلة
السابع والعشرين من شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة صعد تاشفين إلى ذلك الرباط
ليحضر الختم في جماعة يسيرة من خواصه وكان عبد المؤمن بجمعه في تاكرارت وهي وطنه
واتفق أنه أرسل منسرا من الخيل إلى وهران فوصلوها في اليوم السادس والعشرين من
رمضان ومقدمهم الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى صاحب المهدي فكمنوا عشية وأعلموا بانفراد
تاشفين في ذلك الرباط فقصدوه وأحاطوا به وأحرقوا بابه فأيقن الذين فيه بالهلاك فخرج
راكبا فرسه وشد الركض عليه ليثب الفرس النار وينجو فترامى الفرس نازيا لروعته ولم
يملكه اللجام حتى تردى من جرف هنالك إلى جهة البحر على حجارة في محل وعر فتكسر
الفرس وهلك تاشفين في الوقت وقتل الخواص الذين كانوا معه وكان عسكره في ناحية أخرى
لا علم لهم بما جرى في ذلك الليل وجاء الخبر بذلك إلى عبد المؤمن فوصل إلى وهران
وسمي ذلك الموضع الذي فيه الرباط صلب الفتح ومن ذلك الوقت نزل عبد المؤمن من الجبل
إلى السهل ثم توجه إلى تلمسان وهي مدينتان قديمة وحادثة بينهما شوط فرس ثم توجه
إلى فاس فحاصرها واستولى عليها سنة أربعين وخمسمائة ثم قصد مراكش سنة إحدى وأربعين
بعدها فحاصرها أحد عشر شهرا وفيها إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين
____________________
وجماعة من مشايخ دولتهم فقدموه
بعد موت أبيه علي بن يوسف نائبا عن أخيه تاشفين فاستولى عليها وقد بلغ القحط من
أهلها كل مبلغ وأخرج إليه إسحاق بن علي ومعه سير بن الحاج وكان من الشجعان ومن
خواص دولتهم وكانا مكتوفين وإسحاق دون بلوغ فعزم عبد المؤمن أن يعفو عن إسحاق لصغر
سنه فلم يوافقه خواصه وكان لا يخالفهم فخلى بينهم وبينهما فقتلوهما ثم نزل عبد
المؤمن القصر وذلك سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة
وقال ابن خلدون أقام الموحدون على مراكش تسعة اشهر وأمير الملثمين يومئذ إسحاق بن
علي بن يوسف بايعوه صبيا صغيرا عند بلوغ خبر أخيه ولما طال عليهم الحصار وجهدهم
الجوع برزوا إلى مدافعة الموحدين فانهزموا وتتبعهم الموحدون بالقتل واقتحموا عليهم
المدينة في أخريات شوال سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وقتل عامة الملثمين ونجا إسحاق
في جملته وأعيان قومه إلى القصبة حتى نزلو ا على حكم الموحدين وأحضر إسحاق بين يدي
عبد المؤمن فقتله الموحدون بأيديهم وتولى كبر ذلك أبو حفص عمر بن واكاك منهم
وانمحى أثر الملثمين واستولى الموحدون على البلاد والله غالب على أمره
قال ابن جنون كانت لمتونة أهل ديانة وصدق ونية خالصة وصحة مذهب ملكوا بالأندلس من
بلاد الإفرنج إلى البحر الغربي المحيط ومن بلاد العدوة من مدينة بجاية إلى جبل
الذهب من بلاد السودان وخطب لهم على أزيد من ألفي منبر بالتثنية وكانت أيامهم أيام
دعة ورفاهية ورخاء متصل وعافية وأمن تناهى القمح في أيامهم إلى أن بيع أربعة أوسق
بنصف مثقال وبيعت الثمار ثمانية أوسق بنصف مثقال والقطاني لا تباع ولا تشترى وكان
ذلك مصحوبا بطول أيامهم ولم يكن في عمل من أعمالهم خراج ولا معونة ولا تسقيط ولا
وظيف من الوظائف المخزونية حاشا الزكاة والعشر وكثرت
____________________
الخيرات في دولتهم وعمرت
البلاد ووقعت الغبطة ولم يكن في أيامهم نفاق ولا قطاع طريق ولا من يقوم عليهم
وأحبهم الناس إلى أن خرج عليهم محمد بن تومرت مهدي الموحدين سنة خمس عشرة وخمسمائة
وأما الأحداث الواقعة في أيامهم ففي شهر ذي الحجة من سنة سبع وستين وأربعمائة ظهر
النجم المعكف بالمغرب
وفي سنة إحدى وسبعين وأربعمائة كسفت الشمس الكسوف الكلي الذي لم يعهد قبله مثله
وكان ذلك يوم الاثنين عند الزوال في اليوم الثامن والعشرين من الشهر
وفي سنة اثنين وسبعين بعدها كانت الزلزلة العظيمة التي لم ير الناس مثلها بالمغرب
انهرمت منها الأبنية ووقعت الصوامع والمنارات ومات فيهاخلق كثير تحت الهدم ولم تزل
الزلزلة تتعاقب في كل يوم وليلة من أول يوم ربيع الأول إلى آخر يوم من جمادى
الآخرة من السنة المذكورة
وفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة ولد الفقيه القاضي أبو عبد الله محمد بن الأصبغ
المعروف بابن المناصف صاحب الأرجوزة
وفي سنة سبع وتسعين وأربعمائة توفي الفقيه الحافظ أبو عبد الله محمد بن الطلاع
وفي سنة ثلاث عشرة وخمسمائة توفي أبو الفضل يوسف بن محمد بن يوسف المعروف بابن
النحوي بقلعة حماد صحب أبا الحسن اللخمي وغيره من المشايخ وكان أبو الفضل من أهل
العلم والدين على هدي السلف الصالح وكان مجاب الدعوة ولما أفتى فقهاء المغرب
بإحراق كتب الشيخ أبي حامد الغزالي رضي الله عنه وأمر أمير المسلمين علي بن يوسف
بحرقها انتصر أبو الفضل هذا لأبي حامد رحمه الله وكتب إلى أمير المسلمين في ذلك
وحدث صاحب التشوف وهو أبو يعقوب يوسف بن يحيى التدالي المراكشي الدار عرف بابن
الزيات بسنده عن أبي الحسن علي بن حرزهم
____________________
قال لما وصل إلى فاس كتاب أمير
المسلمين علي بن يوسف بالتحريج على كتاب الإحياء وأن يحلف الناس بالأيمان المغلظة
أن كتاب الإحياء ليس عندهم ذهبت إلى أبي الفضل أستفتيه في تلك الأيمان فأفتى بأنها
لا تلزم وكانت إلى جنبه أسفار فقال لي هذه الأسفار من كتاب الأحياء وددت أني لم
أنظر في عمري سواها وكان أبو الفضل قد انسخ كتاب الإحياء في ثلاثين جزءا فإذا دخل
شهر رمضان قرأ في كل يوم جزءا ومناقبه كثيرة رحمه الله
قلت لم يقع في دولة المرابطين أشنع من هذه النازلة وهي إحراق كتاب الإحياء فإنه
لما وصلت نسخة إلى بلاد المغرب تصفحها جماعة من فقهائه مهم القاضي أبو القاسم بن
حمدين فانتقدوا فيها أشياء على الشيخ أبي حامد رضي الله عنه وأعلموا السلطان
بأمرها وأفتوه بأنها يجب إحراقها ولا تجوز قراءتها بحال
وكان علي بن يوسف واقفا كأبيه عند إشارة الفقهاء وأهل العلم قد رد جميع الأحكام
إليهم فلما أفتوه بإحراق كتاب الإحياء كتب إلى أهل مملكته في سائر الأمصار
والأقطار بأن يبحث عن نسخ الإحياء بحثا أكيدا ويحرق ما عثر عليه منها فجمع من
نسخها عدد كثير ببلاد الأندلس ووضعت بصحن جامع قرطبة وصب عليها الزيت ثم أوقد
عليها بالنار وكذا فعل بما ألفى من نسخها بمراكش وتوالى الإحراق عليها في سائر
بلاد المغرب ويقال إن ذلك كان في حياة الشيخ أبي حامد رحمه الله وأنه دعا بسبب ذلك
على المرابطين أن يمزق ملكهم فاستجيب له فيهم فإن كان كذلك فتاريخ الإحراق يكون
فيما بين الخمسمائة والخمس بعدها لأن بيعة علي بن يوسف كانت على رأس الخمسمائة
ووفاة الشيخ أبي حامد
____________________
الغزالي رضي الله عنه كانت يوم
الاثنين رابع عشر جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة
وفي سنة ست وثلاثين وخمسمائة توفي الشيخ الفقيه أبو العباس أحمد بن محمد بن موسى
بن عطاء الله الصنهاجي المعروف بابن العريف كان متناهيا في الفضل والدين والزهد في
الدنيا منقطعا إلى الخير يقصده الناس ويألفونه فيحمدون صحبته وسعى به إلى أمير
المسلمين علي بن يوسف فأمر بإشخاصه إلى حضرة مراكش فوصلها وتوفي بها ليلة الجمعة
الثالث والعشرين من صفر من السنة المذكورة واحتفل الناس لجنازته وندم أمير
المسلمين على ما كان منه له في حياته وظهرت له كرامات رحمه الله ودفن بقرب الجامع
القديم الذي بوسط مراكش في روضة القاضي موسى بن أحمد الصنهاجي
قلت وقبره الآن مشهور بسوق العطارين من مراكش عليه بناء حفيل
وفي هذه السنة أيضا أعني سنة ست وثلاثين وخمسمائة توفي أبو الحكم بن برجان قال ابن
خلكان هو أبو الحكم عبد السلام بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن اللخمي عرف
بابن برجان بفتح الباء الموحدة وتشديد الراء وبعدها جيم وبعد الألف نون وكان عبدا
صالحا وله تفسير القرآن الكريم وأكثر كلامه فيه على طريق أرباب الأحوال والمقامات
وقال في التشوف لما أشخص أبو الحكم بن برجان من قرطبة إلى حضرة مراكش وكان فقهاء
العصر انتقدوا عليه مسائل قال أبو الحكم والله لا عشت ولا عاش الذي أشخصني بعد
موتي يعني أمير المسلمين علي بن يوسف فمات أبو الحكم فأمر أمير المسلمين أن يطرح
على المزبلة ولا
____________________
يصلى عليه وقد فيه من تكلم فيه
من الفقهاء
وكان أبو الحسن علي بن حرزهم يومئذ بمراكش فدخل عليه رجل أسود كان يخدمه ويحضر
مجلسه فأخبره بما أمر به السلطان في شأن أبي الحكم فقال له أبو الحسن إن كنت تبيع
نفسك من الله فافعل ما أقوله لك فقال له مرني بما شئت أفعله فقال له تنادي في طرق
مراكش واسواقها يقول لكم ابن حرزهم احضروا جنازة الشيخ الفقيه الصالح الزاهد أبي
الحكم بن برجان ومن قدر على حضورها ولم يحضر فعليه لعنة الله ففعل ما أمره فبلغ
ذلك أمير المسلمين فقال من عرف فضله ولم يحضر جنازته فعليه لعنة الله
قال ابن عبد الملك في كتاب الذيل والتكملة أبو الحكم بن برجان مدفون بمراكش برحبة
الحنطة منها قال وهو الذي تقول له العامة سيدي أبو الرجال
وكان الشيخ أبو ينور المشترائي موجودا في هذه المدة إلا أني لم أقف على تاريخ
وفاته قال في التشوف هو أبو ينور عبد الله بن واكريس الدكالي من مشتراية من أشياخ
أبي شعيب أيوب السارية كبير الشأن من أهل الزهد والورع حدثوا عنه أنه مات أخوه
فتزوج امرأته فقدمت إليه طعاما يأكله فوقع في نفسه أن فيه نصيب الأيتام الذين هم
أولاد أخيه فأمسك عنه وبات طاويا وجاءه رجل من أشياخ مشتراية فقال له إن عامل علي
بن يوسف تهددني بالقتل والصلب وقد خرج من مراكش متوجها إلى دكالة فقال له أبو ينور
رده الله عنك فسار إلى أن بقي بينه وبين قرية يليسكاون وهي أمتي تسميها العامة
بوسكاون نصف يوم فأصاب العامل وجع قضى عليه من حينه
وفي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ثار القاضي أبو القاسم بن حمدين بقرطبة مع العامة
على المرابطين فقتلهم والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين
____________________
الدولة الموحدية الخبر عن دولة
الموحدين من المصامدة وقيامها على يد محمد بن تومرت المعروف بالمهدي
قال ابن خلدون كان للمصامدة في صدر الإسلام بجبال درن عدد وقوة وطاعة للدين
ومخالفة لإخوانهم برغواطة في نحلة كفرهم وكان منهم قبل الإسلام ملوك وأمراء ولهم
مع لمتونة ملوك المغرب حروب وفتن أيامهم حتى كان اجتماعهم على المهدي وقيامهم
بدعوته فكانت لهم دولة عظيمة أدالت من لمتونة بالعدوتين ومن صنهاجة بإفريقية حسبما
هو مشهور ويأتي ذكره إن شاء الله تعالى قال و أصل المهدي من هرغة من بطون المصامدة
يسمى أبوه عبد الله وتومرت وكان يلقب في صغره أيضا أمغار غار وزعم كثير من
المؤرخين أن نسبه في أهل البيت فبعضهم ينسبه سليمان بن عبد الله الكامل بن حسن
المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب والله أعلم بحقيقة الأمر وكان أهل بيته
أهل نسك ورباط وكانت ولادته على ما عند ابن خلكان يوم عاشوراء سنة خمس وثمانين
وأربعمائة وشب المهدي قارئا محبا للعلم ثم ارتحل في طلبه إلى المشرق على رأس
المائة الخامسة ومر بالأندلس ودخل قرطبة وهي يومئذ دار علم ثم لحق بالإسكندرية وحج
ودخل العراق ولقي به جملة من العلماء وفحول النظار وأفاد علما واسعا
وكان يحدث نفسه بالدولة لقومه على يده ولقي أبا حامد الغزالي وفاوضه بذات صدره في
ذلك فأراده عليه
____________________
قال ابن خلكان اجتمع محمد بن تومرت بأبي حامد الغزالي والكيا الهراسي والطرطوشي
وغيرهم وحج وأقام بمكة مدة مديدة وحصل قدرا صالحا من علم الشريعة والحديث النبوي
وأصول الفقه والدين وكان ورعا ناسكا متقشفا مخشوشنا مخلولقا كثير الإطراق بساما في
وجوه الناس مقبلا على العبادة لا يصحبه من متاع الدنيا إلا عصا وركوة وكان شجاعا
فصيحا في لسان العرب والبربر شديد الإنكار على الناس فيما يخالف الشرع لا يقنع في
أمر الله بغير إظهاره وكان مطبوعا على الإلذاذ بذلك متحملا للأذى من الناس بسببه
وناله بمكة شرفها الله شيء من المكروه من أجل ذلك فخرج منها إلى مصر وبالغ في
الإنكار فزادوا في أذاه وطردته الولاة وكان إذا خاف من البطش وإيقاع الفعل به خلط في
كلامه فينسب إلى الجنون فخرج من مصر إلى الإسكندرية وركب البحر متوجها إلى بلاده
وكان قد رأى في منامه وهو في بلاد المشرق كأنه شرب ماء البحر جميعه كرتين فلما ركب
السفينة شرع في تغيير المنكر على أهل السفينة وألزمهم إقامة الصلوات وقراءة أحزاب
من القرآن العظيم ولم يزل على ذلك حتى انتهى إلى المهدية من أرض إفريقية وكان
ملكها يومئذ يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي وذلك في سنة خمس وخمسمائة
هكذا ذكره ابن أخيه أبو محمد عبد العزيز بن شداد بن تميم الصنهاجي في كتاب الجمع
والبيان في أخبار القيروان وقيل إن ارتحال محمد بن تومرت عن بلاد المشرق كان سنة
عشر وخمسمائة واجتيازه بمصر كان سنة إحدى عشرة بعدها والله أعلم بالصواب
ولما انتهى إلى المهدية نزل بمسجد مغلق وهو على الطريق وجلس في طاق شارع إلى
المحجة ينظر إلى المارة فلا يرى منكرا من آلة الملاهي أو أواني الخمر إلا نزل إليها
وكسرها فتسامع الناس به في البلد فجاؤوا إليه
____________________
وقرؤوا عليه كتبا من أصول
الدين فبلغ خبره الأمير يحيى فاستدعاه جماعة من الفقهاء فلما رأى سمته وسمع كلامه
أكرمه وأجله وسأله الدعاء فقال له أصلحك الله لرعيتك ولم يقم بعد ذلك بالمهدية إلا
أياما يسيرة ثم انتقل إلى بجاية فأقام بها مدة وهو على حاله في الإنكار فأخرج منها
إلى بعض قراها واسمها ملالة فوجد بها عبد المؤمن بن علي القيسي الكومي
وقال ابن خلدون انطوى المهدي راجعا إلى المغرب بحرا متفجرا من العلم وشهابا واريا
من الدين وكان قد لقي بالمشرق أئمة الأشعرية من أهل السنة وأخذ عنهم واستحسن
طريقهم في الإنتصار للعقائد السلفية والذب عنها بالحجج العقلية الدافعة في صدر أهل
البدعة وذهب في رأيهم إلى تأويل المتشابه من الآي والأحاديث بعد أن كان أهل المغرب
بعزل عن اتباعهم في التأويل والأخذ برأيهم فيه اقتداء بالسلف في ترك التأويل
وإقرار المتشابهات كما جاءت فبصر المهدي أهل المغرب في ذلك وحملهم على القول
بالتأويل والأخذ بمذاهب الأشعرية في كافة العقائد وأعلن بإمامتهم ووجوب تقليدهم
وألف العقائد على رأيهم مثل المرشدة في التوحيد
وكان من رأيه القول بعصمة الإمام علي على رأي الإمامية من الشيعة ولم تحفظ عنه
فلتة في البدعة سواها واحتل بطرابلس الغرب معنيا بمذهبه ذلك مظهرا للنكير على
علماء المغرب في عدولهم عنه آخذا نفسه بتدريس العلم والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر ما استطاع حتى لقي بسبب ذلك إذايات في نفسه احتسبها من صالح عمله
ولما دخل بجاية وبها يومئذ العزيز بن المنصور بن الناصر بن علناس بن حماد من أمراء
صنهاجة وكان من المقترفين فأغلظ له ولأتباعه بالنكير وتعرض يوما لتغيير بعض
المنكرات في الطرق فوقعت بسببها هيعة نكرها السلطان والخاصة وائتمروا به فخرج منها
خائفا يترقب ولحق بملالة على فرسخ منها وبها يومئذ بنو ورياكل من قبائل صنهاجة
وكان لهم اعتزاز
____________________
ومنعة فآووه وأجاروه وطلبهم
السلطان صاحب بجاية بإسلامه إليه فأبوا وأسخطوه وأقام بينهم يدرس العلم أياما وكان
يجلس إذا فرغ على صخرة بقارعة الطريق قريبا من ديار ملالة وهناك لقيه كبير أصحابه
عبد المؤمن بن علي حاجا مع عمه فأعجب بعلمه وصرف عزمه إليه فاختص به وشمر للأخذ
عنه
وفي كتاب المعرب عن سيرة ملوك المغرب أن المهدي كان قد اطلع على كتاب يسمى الجفر
من علوم أهل البيت يقال إنه عثر عليه عند الشيخ أبي حامد الغزالي رضي الله عنه
وإنه رأى فيه صفة رجل يظهر بالمغرب الأقصى بمكان يسمى السوس وهو من ذرية رسول الله
صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله يكون مقامه ومدفنه بموضع من المغرب يسمى باسم
هجاء حروفه ت ي ن م ل ل ورأى فيه أيضا أن استقامة ذلك الأمر واستيلائه وتمكنه يكون
على يد رجل من أصحابه هجاء اسمه ع ب د م و م ن ويجاوز وقته المائة الخامسة للهجرة
فأوقع الله سبحانه في نفسه أنه القائم بهذا الأمر وأن أوانه قد أزف فما كان محمد
يمر بموضع إلا ويسأل عنه ولا يرى أحدا إلا أخذ اسمه وتفقده حليته
وكانت حلية عبد المؤمن معه فبينما هو في الطريق رأى شابا قد بلغ أشده على الصفة
التي معه فقال له محمد بن تومرت وقد تجاوزه ما اسمك يا شاب فقال عبد المؤمن فرجع
إليه وقال له الله أكبر أنت بغيتي ونظر في حليته فوافقت ما عنده فقال له من أين
أقبلت قال من كومية قال أين مقصدك فقال المشرق قال ما تبغي قال
____________________
علما وشرفا قال قد وجدت علما
وشرفا وذكرا أصحبني تنله فوافقه على ذلك فألقى إليه محمد بأمره وأودعه سره
قال ابن خلدون وارتحل المهدي إلى المغرب وعبد المؤمن في جملته ولحق بوانشريس فصحبه
منها أبو محمد عبد الله الوانشريسي المعروف بالبشير
وقال ابن خلكان وكان جميلا فصيحا في لغتي العرب والبربر ففاوضه المهدي فيما عزم
عليه من القيام فوافقه على ذلك أتم موافقة وكان البشير ممن تهذب وقرأ فقها فتذاكرا
يوما في كيفية الوصول إلى المطلوب فقال المهدي للبشير أرى أن تستر ما أنت عليه من
العلم والفصاحة عن الناس وتظهر من العجز واللكن والحصر والتعري عن الفضائل ما
تشتهر به عند الناس لنتخذ الخروج عن ذلك واكتساب العلم والفصاحة دفعة واحدة سبيلا
إلى المطلوب ويقوم لنا ذلك مقام المعجزة عند حاجتنا إليه فنصدق فيما نقول ففعل
البشير ذلك
ثم لحق المهدي بتلمسان وقد تسامع الناس بخبره فأحضره القاضي بها وهو ابن صاحب
الصلاة ووبخه على منتحله ذلك وعلى خلافه لأهل قطره وظن القاضي أن من العدل نزعه عن
ذلك فصم عن قوله واستمر على طريقه إلى فاس فنزل بمسجد طريانة وأقام بها يدرس العلم
إلى سنة أربع عشرة وخمسمائة ثم انتقل إلى مكناسة فنهى بها عن بعض المنكرات فثار
إليه الغوغاء وأوجعوه ضربا ثم لحق بمراكش وأقام بها آخذا في شأنه ولقي بها أمير
المسلمين علي بن يوسف بالمسجد الجامع عند صلاة الجمعة فوعظه وأغلظ له في القول
ولقي ذات يوم أخت أمير المسلمين حاسرة قناعها على عادة قومها الملثمين في زي
نسائهم فوبخها ودخلت على أخيها باكية لما نالها من تقريعه ففاوض أمير المسلمين
الفقهاء في شأنه بما وصل إليه من سيرته وكانوا قد ملئوا منه حسدا وحفيظة لما كان
ينتحل من مذهب
____________________
الأشعرية في تأويل المتشابه
وينكر عليهم جمودهم على مذهب السلف في إقراره كما جاء ويرى أن الجمهور لقنوه
تجسيما ويذهب إلى تكفيرهم بذلك على أحد قولي الأشعرية في التكفير فأغروا الأمير به
فأحضره للمناظرة معهم فكان له الفلج والظهور عليهم
وقال ابن خلكان كان محمد المهدي قد استدنى أشخاصا من أهل المغرب جلادا في القوى
الجسمانية أغمارا وكان أميل إلى الأغمار من أولي الفطن والإستبصار فاجتمع له منهم
ستة نفر سوى أبي محمد البشير ثم أنه رحل إلى أقصى المغرب وتوجه في أصحابه إلى
مراكش وملكها يومئذ أبو الحسن علي بن يوسف بن تاشفين وكان ملكا عظيما حليما ورعا
عادلا متواضعا وكان بحضرته رجل يقال له مالك بن وهيب الأندلسي وكان عالما صالحا
زاد ابن خلدون عارفا بالنجوم فشرع محمد المهدي في الإنكار على جري عادته حتى أنكر
على ابنة الملك فبلغ خبره الملك وأنه يتحدث في تغيير الدولة فتحدث مع مالك بن وهيب
في أمره فقال مالك بن وهيب نخاف من فتح باب يعسر علينا سده والرأي أن تحضر هذا الشخص
وأصحابه لنسمع كلامهم بحضور جماعة من علماء البلاد فأجاب الملك إلى ذلك
وكان المهدي وأصحابه مقيمين في مسجد خراب خارج البلد فطلبوهم فلما ضمهم المجلس قال
الملك لعلماء بلده سلوا هذا الرجل ما يبغي منا فانتدب له قاضي المرية واسمه محمد
بن أسود فقال ما هذا الذي يذكر عنك من الأقوال في حق الملك العادل الحليم المنقاد
إلى الحق المؤثر طاعة الله تعالى على هواه فقال له المهدي أما ما نقل عني فقد
____________________
قلته ولي من ورائه أقوال وأما
قولك إنه يؤثر طاعة الله على هواه وينقاد إلى الحق فقد حضر اعتبار صحة هذا القول عنه
ليعلم بتعرية عن هذه الصفة إنه مغرور بما تقولون له وتضرونه به مع علمكم أن الحجة
متوجهة عليه فهل بلغك يا قاضي أن الخمر تباع جهارا وتمشي الخنازير بين المسلمين
وتؤخذ أموال اليتامى وعدد من ذلك شيئا كثيرا فلما سمع الملك كلامه ذرفت عيناه
وأطرق حياء ففهم الحاضرون من فحوى كلامه أنه طامع في المملكة لنفسه
ولما رأوا سكوت الملك وانخداعه لقوله لم يتكلم أحد منهم فقال مالك بن وهيب وكان
كثير الإجتراء على الملك أيها الملك عندي لنصيحة إن قبلتها حمدت عاقبتها وإن
تركتها لم تأمن غائلتها فقال الملك ما هي فقال إني أخاف عليك من هذا الرجل وأرى أن
تعتقله وأصحابه وتنفق عليهم كل يوم دينارا لتكفي شره وإن لم تفعل فلتنفقن عليه
خزائنك كلها ثم لا ينفعك ذلك فوافقه الملك على رأيه فقال له وزيره يقبح بك أن تبكي
من موعظة رجل ثم تسيء إليه في مجلس واحد وإن يظهر منك الخوف منه على عظم ملكك وهو
رجل فقير لا يملك سد جوعه فلما سمع الملك كلامه أخذته عزة النفس واستهون أمره
فصرفه وسأله الدعاء
وقال ابن خلدون كان مالك بن وهيب حزاء ينظر في النجوم وكان الكهان يتحدثون بأن
ملكا كائنا بالمغرب في أمة من البربر ويتغير فيه شكل السمكة لقران بين الكوكبين
العلويين من السيارة يقتضي ذلك فقال مالك بن وهيب احتفظوا بالدولة من الرجل فإنه
صاحب القران والدرهم المربع فطلبه علي بن يوسف ففقده وسرح الخيالة في طلبه ففاتهم
وحكى صاحب المعرب إن المهدي لما خرج من عند أمير المسلمين لم يزل وجهه تلقاء وجهه
إلى أن فارقه فقيل له نراك قد تأدبت مع الملك إذ لم توله ظهرك فقال أردت أن لا
يفارق وجهي الباطل حتى أغيره ما استطعت اه كلامه
____________________
فلما خرج المهدي وأصحابه من عند الملك قال لهم لا مقام لكم هنا بمراكش مع وجود
مالك بن وهيب فما نأمن أن يعاود الملك في أمرنا فينالنا منه مكروه وإن لنا بمدينة
أغمات أخا في الله فنقصد المرور به فلن نعدم منه رأيا ودعاء صالحا واسم هذا الشخص
عبد الحق بن إبراهيم وهو من فقهاء المصامدة فخرجوا إليه ونزلوا عليه وأخبره محمد
بن تومرت خبرهم وأطلعه على مقصدهم وما جرى له مع الملك فقال عبد الحق هذا الموضع
لا يحميكم وإن أحصن المواضع المجاورة لهذا البلد تينملل وبيننا وبينها مسافة يوم
في هذا الجبل فانقطعوا فيه برهة ريثما يتناسى ذكركم فلما سمع المهدي بهذا الإسم
تجدد له ذكر اسم الموضع الذي رآه في كتاب الجفر فقصده مع أصحابه
وقال ابن خلدون لما لحق المهدي بأغمات غير المنكرات على عادته فأغرى به أهل أغمات
علي بن يوسف وطيروا إليه بخبره فخرج منها هو وتلامذته الذين كانوا معه في صحبته
فلحق أولا بمسفيوة ثم بهنتاتة ولقيه بها الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى الهنتاتي جد
الملوك الحفصيين أصحاب تونس وإفريقية ثم ارتحل المهدي عنهم إلى هرغة فنزل على قومه
وذلك سنة خمس عشر وخمسمائة وبنى رابطة للعباد فاجتمع عليه الطلبة من القبائل وأخذ
يعلمهم المرشدة له في التوحيد باللسان البربري وشاع أمره
ثم داخل عامل لمتونة على السوس أناسا من هرغة في قتله ونذر بهم إخوانهم فنقلوا
المهدي إلى معقل من أشياعهم وقتلوا من داخل في أمره ودعوا المصامدة إلى مبايعته
على التوحيد وقتال المجسمة دونه سنة خمس عشرة وخمسمائة فتقدم إليها رجالاتهم من
العشرة وغيرهم وكان فيهم من هنتاتة أبو حفص عمر بن يحيى وأبو يحيى بن يكيت ويوسف
بن وانودين وابن يغمور ومن تينملل أبو حفص عمر بن علي الصناكي
____________________
ومحمد بن سليمان وعمر بن
تافراكين وغيرهم وأوعيت قبيلة هرغة فدخلوا في أمره كلهم ثم دخل معهم كدميوة
وكنفيسة
ولما كملت بيعته لقبوه بالمهدي وكان قبلها يلقب بالإمام وكان يسمى أصحابه الطلبة
وأهل دعوته الموحدين تعريضا بلمتونة في أخذهم بالعدول على التأويل وميلهم إلى
التجسم
ولما تم له من أصحابه خمسون سماهم آيت الخمسين ثم زحف إليهم عامل لمتونة على السوس
وهم بمكانهم من هرغة فاستجاشوا إخوانهم من هنتاتة وتينملل فاجتمعوا إليهم وأوقعوا
بعكسر لمتونة فكانت تلك باكورة الفتح وكان المهدي يعدهم بذلك فاستبصروا في أمره
وتسابقت كافتهم إلى الدخول في دعوته وترددت إليهم عساكر لمتونة مرة بعد أخرى
ففضوهم وانتقل لثلاث سنين من بيعته إلى جبل تينملل فأوطنه وبنى داره ومسجده بينهم
وحوالي منبع وادي نفيس وقاتل من تخلف عن بيعته من المصامدة حتى استقاموا له هذا
كلام ابن خلدون في سياقه هذا الخبر جئنا به مختصرا
واقتضى كلام ابن خلكان أن ظهور المهدي ومبايعته لم تكن إلا بتينملل فإنه قد عقب ما
سبق له من أن الفقيه عبد الحق بن إبراهيم المصمودي أشار على المهدي بالمسير إلى
تينملل وأن المهدي لما سمع هذا الإسم تجدد له ذكر فيه فقصده مع أصحابه فلما أتوه
رآهم أهله على تلك الصورة فعلموا أنهم طلاب علم فقاموا إليهم وأكرموهم وتلقوهم
بالترحاب وأنزلوهم في أكرم منازلهم وسأل أمير المسلمين عنهم بعد خروجهم من مجلسه
فقيل له إنهم سافروا فسره ذلك وقال تخلصنا من الإثم بحبسهم ثم إن أهل الجبل
تسامعوا بوصول المهدي إليهم وكان قد سار فيهم ذكره فجاؤوه من كل فج عميق وتبركوا
بزيارته وكان كل من أتاه استدناه وعرض عليه ما في نفسه من الخروج على السلطان فإن
____________________
أجابه أضافه إلى خواصه وإن
خالفه أعرض عنه وكان يستميل الأحداث وذوي الغرة وكان ذوو الحنكة والعقل والحلم من
أهاليهم ينهونهم ويحذرونهم من اتباعه ويخوفونهم سطوة السلطان فكان لا يتم له مع
ذلك أمر وطالت المدة وخاف المهدي من مفاجأة الأجل قبل بلوغ الأمل وخشي أن يطرق على
أهل الجبل من جهة الملك ما يحوجهم إلى استسلامه إليه والتخلي عنه فشرع في إعمال الحيلة
فيما يشاركونه فيه ليعصوا على الملك بسببه فرأى بعض أولاد القوم شقرا زرقا وألوان
آبائهم السمرة والكحل فسألهم عن سبب ذلك فلم يجيبوه فألزمهم الإجابة فقالوا نحن من
رعية هذا الملك وله علينا خراج وفي كل سنة تصعد مماليكه إلينا وينزلون في بيوتنا
ويخرجوننا عنها ويختلون بمن فيها من النساء فتأتي أولادنا على هذه الصفة وما لنا
قدرة على دفع ذلك عنا فقال المهدي والله إن الموت خير من هذه الحياة وكيف رضيتم
بهذا وأنتم أضرب خلق الله بالسيف وأطعنهم بالرمح فقالوا بالرغم لا بالرضى فقال
أرأيتم لو أن ناصرا نصركم على أعدائكم ما كنتم تصنعون قالوا كنا نقدم أنفسنا بين
يديه للموت ثم قالوا من هو قال هو ضيفكم يعني نفسه فقالوا السمع والطاعة وكانوا
يغالون في تعظيمه فأخذ عليهم العهود والمواثيق واطمأن قلبه ثم قال لهم استعدوا
لحضور هؤلاء بالسلاح فإذا جاؤوكم فأجروهم على عادتهم وخلوا بينهم وبين النساء
وميلوا عليهم بالخمور فإذا سكروا فآذنوني بهم
فلما حضر المماليك وفعل بهم أهل الجبل ما أشار به المهدي وكان ذلك ليلا أعلموه
بذلك أمر بقتلهم كلهم فلم يمض من الليل ساعة حتى أتوا على آخرهم ولم يفلت منهم سوى
مملوك واحد كان خارج المنازل لحاجة له فسمع التكبير عليهم والإيقاع بهم فهرب على
غير الطريق حتى خلص من الجبل ولحق بمراكش فأخبر الملك بما جرى فندم على فوات
____________________
محمد بن تومرت من يده وعلم أن
الحزم كان مع مالك بن وهيب فيما أشار به فجهز من وقته خيلا بمقدار ما يسع وادي
تينملل فإنه ضيق المسلك
وعلم المهدي أنه لا بد من عسكر يصل إليهم فأمر أهل الجبل بالقعود على أنقاب الوادي
ومراصده واستنجد لهم بعض المجاورين فلما وصلت الخيل إليهم أقبلت عليهم الحجارة من
جانبي الوادي مثل المطر وكان ذلك من أول النهار إلى آخره وحال بينهم الليل فرجع
العسكر إلى الملك وأخبروه بما تم لهم فعلم أنه لا طاقة له بأهل الجبل لتحصنهم
فأعرض عنهم
وتحقق المهدي ذلك منه وصفت له مودة أهل الجبل فعند ذلك استدعى أبا محمد البشير
وقال له هذا أوان إظهار فضائلك دفعة واحدة ليقوم لك مقام المعجزة لنستميل بذلك
قلوب من لم يدخل في الطاعة ثم اتفقا على أنه يصلي الصبح ويقول بلسان فصيح بعد
استعمال العجمة واللكنة في تلك المدة إني رأيت البارحة في منامي أنه نزل إلي ملكان
من السماء وشقا فؤادي وغسلاه وحشواه علما وحكمة وقرآنا فلما أصبح فعل ذلك وهو فصل
يطول شرحه فانقاد له كل صعب القياد وعجبوا من حاله وحفظه القرآن في النوم فقال له
محمد بن تومرت فعجل لنا بالبشرى في أنفسنا وعرفنا أسعداء نحن أم أشقياء فقال له
أما أنت فإنك المهدي القائم بأمر الله ومن تبعك سعد ومن خالفك هلك ثم قال اعرض
أصحابك علي حتى أميز أهل الجنة من أهل النار وعمل في ذلك حيلة قتل بها كل من خالف
أمر محمد بن تومرت وأبقى من أطاعه وشرح ذلك يطول
وكان غرضه أن لا يبقى في الجبل مخالفا لهم فلما قتل من قتل علم محمد بن تومرت أن
في الباقين من له أهل وعشيرة قتلوا وأنهم لا تطيب
____________________
نفوسهم بذلك فجمعهم وبشرهم
بانتقال ملك مراكش إليهم واغتنام أموالهم فسرهم ذلك وسلاهم عن أهلهم وبالجملة فإن
تفصيل هذه الواقعة طويل ولسنا بصدد ذلك
وخلاصة الأمر أن محمد بن تومرت لم يزل حتى جهز جيشا عدد رجاله عشرة آلاف بين فارس
وراجل وفيهم عبد المؤمن بن علي وأبو محمد البشير وأصحابه كلهم وأقام هو بالجبل
فنزل القوم لحصار مراكش وأقاموا عليها شهرا ثم كسروا كسرة شنيعة وهرب من سلم منهم
من القتل
وكان فيمن سلم عبد المؤمن وقتل البشير وبلغ الخبر المهدي وهو بالجبل وقد حضرته
الوفاة قبل عود أصحابه إليه فأوصى من حضر أن يبلغ الغائبين إن النصر لهم وإن
العاقبة حميدة فلا يضجروا وليعاودوا القتال فإن الله سبحانه وتعالى سيفتح على
أيديهم وإن الحرب سجال وإنكم ستقوون ويضعفون ويقلون وتكثرون وأنتم في مبدأ أمر وهم
في آخره وأشباه هذه الوصايا وهي وصية طويلة اه كلام ابن خلكان
وقال ابن خلدون لما كان شأن أبي محمد البشير وميز الموحد من المنافق اعتزم المهدي على
غزو لمتونة فجمع كافة أهل دعوته من المصامدة إليهم فلقوه بكبكب وهزمهم الموحدون
وأتبعوهم إلى أغمات فلقيتهم هنالك زحوف لمتونة مع أبي بكر بن علي بن يوسف وإبراهيم
بن تاعماشت فهزمهم الموحدون وفل إبراهيم وجنده واتبعوهم إلى مراكش فنزلوا البحيرة
في زهاء أربعين ألفا كلهم راجل إلا أربعمائة فارس واحتفل علي بن يوسف في الاحتشاد
وبرز إليهم لأربعين من نزولهم خرج عليهم من باب آيلان فهزمهم وأثخن فيهم قتلا
وسبيا وفقد البشير واستحر القتل في هيلانة وأبلى عبد المؤمن في ذلك اليوم أحسن
البلاء وقيل للمهدي إن الموحدين قد هلكوا فقال لهم ما فعل عبد المؤمن قالوا هو على
جواده الأدهم قد أحسن البلاء فقال ما بقي عبد المؤمن فلم يهلك أحد
____________________
وقال ابن الخطيب في رقم الحلل كانت وقعة البحيرة بأحواز مراكش قد استأصلت معظم
أصحاب المهدي وكادت تأتي عليهم ومع ذلك فلم تضع منه ولا وهنت صبره وكان يقول مثل
هذا الأمر كالفجر يتقدمه الفجر الكاذب وبعده ينبلج الصبح ويستعلي الضوء ويأمرهم
باتخاذ مرابط الخيل التي ينالون من فيء عدوهم بعدها وإنه يعطي الرجل على قدر ما
أعد من الرباط إلى غير ذلك
فهذا خبر المهدي مختصرا من ابن خلدون ممزوجا بما نقله ابن خلكان من ذلك وقد ساق
ابن أبي زرع في القرطاس خبر المهدي هذا وفيه بعض مخالفة لما تقدم فلنأت به وإن أدى
إلى بعض التكرار زيادة في الإمتاع وتحلية للأسماع فنقول
قال ابن أبي زرع ما ملخصه إن المهدي رحل إلى المشرق في طلب العلم ولقي مشايخ وسمع
منهم وأخذ عنهم علما كثيرا وحفظ جملة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبغ
في علم الأصول والاعتقادات
وكان في جملة من لقي من العلماء الشيخ أحمد الغزالي رضي الله عنه لازمه ثلاث سنين
وكان الشيخ أبو حامد كثيرا ما يشير إلى المهدي ويقول إنه لا بد أن يكون له شأن
ونمى الخبر بذلك إلى المهدي فلم يزل يتقرب إلى الشيخ بأنواع الخدمة حتى أطلعه على
ما عنده من العلم في ذلك فلما تحققت عنده الحال استخار الله وعزم على الترحال فخرج
قاصدا بلاد المغرب غرة ربيع الأول سنة عشر وخمسمائة ولازم في طريقه درس العلم
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أن اجتمع به عبد المؤمن بن علي فبايعه على
مؤازرته في الشدة والرخاء والعسر واليسر ثم قدم بلاد المغرب واستقر بمراكش وكانت
له فصاحة وعليه مهابة فأخذ يطعن على المرابطين وينسبهم إلى الكفر والتجسيم ويشيع
عند من يثق به ويسكن إليه أنه المهدي المنتظر الذي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا
وجرى منه
____________________
بمراكش من تغيير المنكر ونحوه
ما تقدم ذكره فاتصل خبره بعلي بن يوسف اللمتوني فأحضره وقال له ما هذا الذي بلغنا
عنك فقال إنما أنا رجل فقير أطلب الآخرة وآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأنت أيها
الملك أولى من يفعل ذلك فإنك المسؤول عنه وقد ظهرت بمملكتك المنكرات وفشت البدع
وقد وجب الله عليك إحياء السنة وإماتة البدعة وقد عاب الله تعالى أمة تركوا النهي
عن المنكر فقال { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } فلما سمع
أمير المسلمين كلامه تأثر له وأخذه وأطرق مفكرا ثم أمر بإحضار الفقهاء فحضر منهم
ما أغص المجلس ثم قال أمير المسلمين اختبروا الرجل فإن كان عالما اتبعناه وإلا
أدبناه وكان المهدي فصيحا لسنا ذا معرفة بالأصول والجدل وكان الفقهاء الذين حضروا
أصحاب حديث وفروع فدارت بينهم محاورة ومذاكرة أسكتهم فيها وبان عجزهم عنه فعدلوا
عن المذاكرة إلا الممالأة وأغروا به أمير المسلمين وقالوا هذا رجل خارجي وإن بقى
بالمدينة أفسد عقائد أهلها فأمره أمير المسلمين بالخروج من البلد فخرج إلى الجبانة
وضرب بها خيمة جلس فيها وصار الطلبة يترددون إليه لأخذ العلم عنه فكثر جمعه وأحبته
العامة وعظموه
وانتهى خبره إلى أمير المسلمين ثانيا ونقل إليه أنه يطعن على الدولة فأحضره مرة
أخرى وقال له أيها الرجل اتق الله في نفسك ألم أنهك عن عقد الجموع والمحازب وأمرتك
بالخروج من البلد فقال أيها الملك قد امتثلت أمرك وخرجت من المدينة إلى الجبانة
واشتغلت بما يعنيني فلا تسمع لأقوال المبطلين فتوعده أمير المسلمين وهم بالقبض
عليه ثم عصمه الله منه ليقضي الله أمرا كان مفعولا
ولما انفصل المهدي عن المجلس أغرى الحاضرون أمير المسلمين به وشرحوا له جلية أمره
وما يدعو إليه فاستدرك أمير المسلمين فيه رأيه
____________________
وبعث إليه من يأتيه برأسه فسمع
بذلك بعض بطانته فمر مسرعا حتى إذا قرب من الخيمة قرأ قوله تعالى { يا موسى إن
الملأ يأتمرون بك ليقتلوك } فسمعها المهدي وفطن لها فانسل من حينه وخرج حتى أتى
تينملل فأقام بها وذلك في شوال سنة أربع عشرة وخمسمائة ثم لحق به أصحابه العشرة
السابقون إلى دعوته والمصدقون بإمامته وهم عبد المؤمن بن علي الكومي وأبو محمد
البشير الوانشريسي وأبو حفص عمر بن يحيى الهنتاتي وأبو يحيى بن يكيت الهنتاتي وأبو
حفص عمر بن علي آصناك وإبراهيم بن إسماعيل الخزرجي وأبو محمد عبد الواحد الحضرمي
وأبو عمران موسى بن تمار وسليمان بن خلوف وعاشر فأقاموا بتينملل إلى رمضان من سنة
خمس عشرة وخمسمائة فعظم صيته بجبل درن وكثرت أتباعه فلما رأى ذلك أظهر دعوته ودعا
الناس إلى بيعته فبايعه العشرة البيعة الخاصة عقب صلاة الجمعة خامس عشر رمضان من
السنة
ولما كان الغد وهو يوم السبت خرج المهدي في أصحابه العشرة متقلدين السيوف وتقدم
إلى الجامع فصعد المنبر وخطب الناس وأعلمهم أنه المهدي المنتظر ودعاهم إلى بيعته
فبايعوه البيعة العامة ثم بث دعاته في بلاد المصامدة يدعون الناس إلى بيعته
ويزرعون محبته في قلوبهم بالثناء عليه ووصفه بالزهد وتحري الحق وإظهار الكرامات
فانثال الناس عليه من كل جهة وسمى أتباعه الموحدين ولقنهم عقائد التوحيد باللسان
البربري وجعل لهم فيه الأعشار والأحزاب والسور وقال من لم يحفظ هذا التوحيد فليس
بموحد لا تجوز إمامته ولا تؤكل ذبيحته فاستولت محبته على قلوبهم وعظموه ظاهرا وباطنا
حتى كانوا يستغيثون به في شدائدهم وينوهون باسمه على منابرهم ولم تزل الوفود
تترادف عليه حتى اجتمع عليه جم غفير فلما علم أن ناموسه قد رسخ وسلطانه قد تمكن
قام فيهم خطيبا وندبهم إلى جهاد المرابطين وأباح لهم دماءهم وأموالهم فانتدب الناس
____________________
لذلك وبايعوه على الموت فانتخب
منهم عشرة آلاف من أجناد الموحدين وقدم عليهم أبا محمد البشير وعقد له راية بيضاء
ودعا لهم وانصرفوا فصمدوا إلى مدينة أغمات
وانتهى الخبر إلى أمير المسلمين فجهز لقتالهم جيشا من الحشم والأجناد فلما التقوا
انتصر عليهم الموحدون وهزموهم واتبعوهم حتى أدخلوهم مراكش وحاصروها أياما ثم
أفرجوا عنها حين تكاثرت عليهم جيوش لمتونة وكان ذلك ثالث شعبان سنة ست عشرة
وخمسمائة وقسم المهدي الغنائم التي غنموها من عسكر المرابطين وتلا عليهم قوله
تعالى { وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه } الآية وانتشر ذكر المهدي
بجميع أقطار المغرب والأندلس وأركب جل جيشه من خيل المرابطين التي غنموها ثم غزا
مراكش بنفسه فعبأ جيشه وسار حتى نزل بجبل كيليز بقرب المدينة فأقام محاصرا لها
ثلاث سنين يباكرها بالقتال ويراوحها من سنة ست عشرة إلى سنة تسع عشرة
ولما ضجر من مقامه هناك نهض إلى وادي نفيس وانحدر مع مسيله يدعو الناس لطاعته
ويقاتل من أبى منهم فانقاد له أهل السهل والجبل وبايعته كدميوة ثم غزا بلاد ركراكة
فأخذهم بالدعاء إلى توحيد الله وشرائع دينه وسار في بلاد المصامدة يقاتل من أبى
ويسالم من أجاب ففتح بلادا كثيرة ودخل في دعوته عالم كثير من المصامدة ورجع إلى
تينملل فأقام بها شهرين ريثما استراح الناس ثم غزا مدينة أغمات وبلاد هزرجة في
ثلاثين ألفا من الموحدين فاجتمع على حربه أهل أغمات وهزرجة وخلق كثير من الحشم
ولمتونة وغيرهم فانتصر عليهم الموحدون فهزموهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا وقسم المهدي
أنفالهم بين الموحدين ثم غزا أهل درن ففتح قلاعه وحصونه وطاع له جميع من فيه من
قبائل هرغة و هنتاتة وكنفسية وغيرهم
ثم عاد إلى تينملل فأقام بها ريثما استراح الناس ثم ندبهم إلى غزو
____________________
مراكش وجهاد المرابطين وقدم
عليهم عبد المؤمن بن علي وأبا محمد البشير وخص عبد المؤمن بإمامة الصلاة فساروا
حتى انتهوا إلى أغمات فلقيهم بها أبو بكر بن علي بن يوسف في جيش كثيف من لمتونة
وقبائل صنهاجة فاقتتلوا ودامت الحرب بينهم ثمانية أيام ثم انتصر عليهم الموحدون
فهزموا أبا بكر وجيشه إلى مراكش وقتلوهم في كل طريق وحصروا مراكش أياما ثم رجعوا
إلى تينملل فخرج المهدي للقائهم فرحب بهم وعرفهم بما يكون لهم من النصر والفتح وما
يملكونه من البلاد ثم كانت وفاته عقب ذلك على ما نذكره إن شاء الله فهذا سياق ابن
أبي زرع لهذه الأخبار والله أعلم بالصواب
بقية أخبار المهدي وبعض سيرته إلى وفاته
كان المهدي رجلا ربعة أسمر عظيم الهمة غائر العينين حديد النظر خفيف العارضين له
شامة سوداء على كتفه الأيمن ذا سياسة ودهاء وناموس عظيم وكان مع ذلك عالما فقيها
راويا للحديث عارفا بالأصول والجدل فصيح اللسان مقداما على الأمور العظام غير متوقف
في سفك الدماء يهون عليه إتلاف عالم في بلوغ غرضه وكان حصورا لا يأتي النساء وكان
متيقظا في أحواله ضابطا لما ولي من سلطانه أنشد صاحب كتاب المغرب ف حقه
( آثاره تنبيك عن أخباره ** حتى كأنك بالعيان تراه )
ثم قال
له قدم في الثرى وهمة في الثريا ونفس ترى إراقة ماء الحياة دون إراقة ماء المحيا
أغفل المرابطون عقله وربطه حتى دب إليهم دبيب القلق في الغسق وترك في الدنيا دويا
أنشأ دولة لو شاهدها أبو مسلم لكان لعزمه فيها غير مسلم وكان قوته من غزل أخت له
في كل يوم رغيفا بقليل سمن أو
____________________
زيت ولم ينتقل عن هذا حين كثرت
عليه الدنيا ورأى أصحابه يوما وقد مالت نفوسهم إلى كثرة ما غنموه فأمر بضم ذلك
جميعه وإحراقه وقال من كان يتبعني لأجل الدنيا فليس له عندي إلا ما رأى ومن تبعني
للآخرة فجزاؤه عند الله وكان على خمول زيه وبسط وجهه مهيبا منيع الحجاب إلا عند
مظلمة وله رجل مختص بخدمته والإذن عليه وكان له شعر فمن ذلك قوله
( أخذت بأعضادهم إذ نؤوا ** وخلفك القوم إذ ودعو )
( فكم أنت تنهى ولا تنتهي ** وتسمع وعظا ولا تسمع )
( فيا حجر السن حتى متى ** تسن الحديد ولا تقطع )
وكان كثيرا ما ينشد
( تجرد من الدنيا فإنك إنما ** خرجت إلى الدنيا وأنت مجرد )
وكان يتمثل أيضا بقول أبي الطيب المتنبي
( إذا غامرت في شرف مروم ** فلا تقنع بما دون النجوم )
( فطعم الموت في أمر حقير ** كطعم الموت في أمر عظيم )
وبقول أيضا
( ومن عرف الأيام معرفتي بها ** وبالناس روى رمحه غير راحم )
( فليس بمرحوم إذا ظفروا به ** ولا في الردى الجاري عليهم بآثم )
وبقوله أيضا
( وما أنا منهم بالعيش فيهم ** ولكن معدن الذهب الرغام )
وقال ابن الخطيب في رقم الحلل قالوا كان محمد بن تومرت يزعم أنه مأمور بنوع من
الوحي والإلهام وينكر كتب الرأي والتقليد وله باع في علم الكلام وغلبت عليه نزغة
خارجية وكان ينتحل القضايا الإستقبالية ويشير إلى الكوائن الآتية ورتب قومه ترتيبا
غريبا فمنهم أهل الدار وأهل الجماعة وأهل الساقة وأهل خمسين وأهل سبعين والطلبة
والحفاظ
____________________
وأهل القبائل فأهل الدار
للامتهان والخدمة وأهل الجماعة للتفاوض والمشورة وأهل الساقة للمباهاة وأهل سبعين
وخمسين والحفاظ والطلبة لحمل العلم والتلقي وسائر القبائل لمدافعة العدو وكان
يعلمهم أوجه العبادات في العادات
قلت من ذلك أن طائفة من المصامدة عسر عليهم حفظ الفاتحة لشدة عجمتهم فعدد كلمات أم
القرآن ولقب بكل كلمة منها رجلا فصفهم صفا وقال لأولهم اسمك الحمد لله وللثاني رب
العالمين وهكذا حتى تمت كلمات الفاتحة ثم قال لهم لا يقبل الله منكم صلاة حتى
تجمعوا هذه الأسماء على نسقها في كل ركعة فسهل عليهم الأمر وحفظوا أم القرآن ذكره
صاحب المعرب
قالوا وهو أول من أحدث أصبح ولله الحمد في أذان الصبح
ومن جراءته وإقدامه وتهالكه على تحصيل مرامه ما حكاه صاحب القرطاس قال كانت بين
الموحدين والمرابطين حرب فقتل من الموحدين خلق كثير فعظم ذلك على عشائرهم فاحتال
المهدي بأن انتخب قوما من أتباعه ودفنهم أحياء بموضع المعركة وجعل لكل واحد منهم
متنفسا في قبره وقال لهم إذا سئلتم عن حالكم فقولوا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا
وأن ما دعا إليه الإمام المهدي هو الحق فجدوا في جهاد عدوكم وقال لهم إذا فعلتم
ذلك أخرجتكم وكانت لكم عندي المنزلة العالية وقصد بذلك أن يثبتهم على التمسك
بدعوته ويهون عليهم ما لاقوا من القتل والجراحات بسببه ثم جمع أصحابه عند السحر
وقال لهم أنتم يا معشر الموحدين حزب الله وأنصار دينه وأعوان الحق فجدوا في قتال
عدوكم فإنكم على بصيرة من أمركم وإن كنتم ترتابون فيما أقوله لكم فأتوا موضع
المعركة وسلوا من استشهد اليوم من إخوانكم يخبروكم بما لقوا من الثواب عند الله ثم
أتى بهم إلى موضع المعركة ونادى يا معشر الشهداء ماذا لقيتم
____________________
من الله عز وجل فقالوا قد
أعطانا من الثواب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فافتتن الناس
وظنوا أن الموتى قد كلموهم وحكوا ذلك لبقية إخوانهم فازدادوا بصيرة في أمره وثباتا
على رأيه والله أعلم بحقيقة الحال وفاة المهدي رحمه الله
كانت وفاة المهدي عقب وقعة البحيرة قال ابن خلدون لأربعة أشهر بعدها وقال ابن
الخطيب وغيره كانت وفاته يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان سنة أربع
وعشرين وخمسمائة وقيل غير ذلك
وقال في القرطاس لما رجع الموحدون من غزو مراكش إلى تينملل خرج إليهم المهدي فسلم
عليهم ورحب بهم وأعلمهم بما يكون لهم من النصر والفتح وما يملكونه من البلاد وبمدة
ملكهم وأعلمهم أنه يموت في تلك السنة فبكوا وأسفوا ثم مرض مرضه الذي مات منه وقدم
عبد المؤمن للصلاة أيام مرضه ثم توفي في التاريخ المتقدم
وذكر بعض المؤرخين أن المهدي رأى في منامه قبل وفاته كأن آتيا أتاه فأنشده أبياتا
نعى له فيه نفسه وأعلمه باليوم الذي يموت فيه فكان كذلك انظر القرطاس
وقد مر في هذه الأخبار ذكر كتاب الجفر وربما تتشوق النفس لمعرفة حقيقته فقد قال
ابن خلدون في كتاب طبيعة العمران واعلم أن كتاب الجفر كان أصله أن هارون بن سعيد
العجلي وهو رأس الزيدية كان له كتاب يرويه عن جعفر الصادق رضي الله عنه وفيه علم
ما سيقع لأهل البيت على العموم ولبعض الأشخاص منهم على الخصوص وقع ذلك لجعفر ونظائره
من رجالاتهم على طريق الكرامة والكشف الذي يقع لمثلهم من الأولياء وكان مكتوبا عند
جعفر الصادق في جلد ثور صغير فرواه عنه
____________________
هارون العجلي وكتبه وسماه
الجفر باسم الجلد الذي كتب فيه لأن الجفر في اللغة هو الصغير فصار هذا الإسم علما
على هذا الكتاب عندهم وكان فيه تفسير القرآن الكريم وما في باطنه من غرائب المعاني
مروية عن جعفر الصادق رضي الله عنه
وذكره ابن قتيبة في أوائل كتاب اختلاف الحديث فقال بعد كلام طويل وأعجب من هذا
التفسير تفسير الروافض للقرآن الكريم وما يدعونه من علم باطنه بما وقع إليهم من
الجفر الذي ذكره العجلي ثم قال ابن قتيبة
( ألم تر أن الرافضين تفرقوا ** فكلهم في جعفر قال منكرا )
( فطائفة قالوا إمام ومنهم ** طوائف سمته النبي المطهرا )
( ومن عجب لم أقضه جلد جفرهم ** برئت إلى الرحمن ممن تجفرا )
في أبيات غير هذه ثم قال ابن قتيبة وهو جلد جفر ادعوا أنه كتب لهم فيه الإمام جعفر
الصادق كل ما يحتاجون إليه وكلما يكون إلى يوم القيامة اه وهذا تزييف من ابن قتيبة
لكتاب الجفر وخالف هذا المذهب أبو العلاء المعري فقال
( لقد عجبوا لأهل البيت لما ** أتاهم علمهم في مسك جفر )
( ومرآة المنجم وهي صغرى ** أرته كل عامرة وقفر )
والمسك بفتح الميم الجلد والجفر بفتح الجيم ما بلغ أربعة أشهر من أولاد المعز
وكانت عادتهم في ذلك الزمان أنهم يكتبون في الجلود وما شاكلها لقلة الأوراق يومئذ
وقال ابن خلدون كتاب الجفر لم تتصل روايته عن جعفر الصادق رضي الله عنه ولا عرف
عينه وإنما يظهر منه شواذ من الكلمات لا يصحبها دليل ولو صح النسبة إلى جعفر
الصادق لكان فيه نعم المستند من نفسه أو من رجال قومه فهم أهل الكرامات رضي الله
عنهم
____________________
الخبر عن دولة أبي محمد عبد
المؤمن بن علي الكومي وأوليتها
اعلم أن بني عبد المؤمن ليسوا من المصامدة وإنما هم من كومية ثم من بني عابد منهم
وكومية ويعرفون قديما بصطفورة بطن من بني فاتن بن تامصيت بن ضري بن زجيك بن مادغيس
الأبتر فهم بنو عم زناتة يجتمعون في ضري بن زجيك هذا هو الصحيح وبعض المؤرخين
يرفعون نسب عبد المؤمن إلى قيس عيلان بن مضر وهو ضعيف
قال ابن خلدون كان عبد المؤمن من بني عابد أحد بيوتات كومية وأشرافهم قال وموطنهم
بتاكرارت وهو حصن في الجبل المطل على هنين من ناحية الشرق
وقال ابن خلكان كان والد عبد المؤمن وسيطا في قومه وكان صانعا في عمل الطين يعمل
منه الآنية فيبيعها وكان عاقلا من الرجال وقورا
ويحكى أن عبد المؤمن في صباه كان نائما تجاه أبيه وأبوه مشتغل بعمله في الطين فسمع
أبوه دويا في السماء فرفع رأسه فرأى سحابة سوداء من النحل قد هوت مطبقة على الدار
فنزلت كلها مجتمعة على عبد المؤمن وهو نائم فغطته ولم يظهر من تحتها ولا استيقظ لها
فرأته أمه على تلك الحال فصاحت خوفا على ولدها فسكتها أبوه فقالت أخاف عليه فقال
لا بأس عليه بل إني متعجب مما يدل عليه ذلك ثم إنه غسل يديه من الطين ولبس ثيابه
ووقف ينتظر ما يكون من أمر النحل فطار عنه بأجمعه فاستيقظ الصبي وما به من ألم
فتفقدت أمه جسده فلم تر به أثرا ولم يشك ألما
وكان بالقرب منهم رجل معروف بالزجر فمضى أبوه إليه فأخبره بما
____________________
رآه من النحل مع ولده فقال
الزاجر يوشك أن يكون له شأن يجتمع على طاعته أهل المغرب فكان من أمره ما اشتهر
وقد تقدم لنا أن المهدي كان عنده كتاب الجفر وكان فيه أن أمره لا يتم إلا على يد
رجل اسمه كذا وحليته كذا وهو عبد المؤمن بن علي فأقام المهدي يتطلبه مدة إلى أن
لقيه بملالة وعبد المؤمن إذ ذاك شاب حدث طالب علم فلازم المهدي واستمسك بغرره إلى
أن كان من أمره ما كان
وكان المهدي يتفرس فيه النجابة وينشد إذا أبصره
( تكاملت فيك أوصاف خصصت بها ** فكلنا بك مسرور ومغتبط )
( السن ضاحكة والكف مانحة ** والنفس واسعة والوجه منبسط )
والبيتان لأبي الشيص الخزاعي وكان يقول لأصحابه صاحبكم غلاب الدول وكان يقول عبد
المؤمن من صديقي هذه الدائرة
وقال ابن خلدون آثر المهدي عبد المؤمن بمزيد الخصوصية والقرب بما خصه الله به من
الفهم والوعي للتعليم حتى كان خالصة المهدي وكنز صحابته وكان مؤمله لخلافته لما
أظهره عليه من الشواهد المؤذنة بذلك وفي ذلك يقول ابن الخطيب
( وخلف الأمر لعبد المؤمن ** فانقادت الدنيا له في رسن )
( حباه بين القوم بالأمارة ** إذ وضحت له فيه الإمارة )
ولما اجتاز المهدي في طريقه إلى المغرب بالثعالبة عرب الجزائر أهدوا إليه حمارا
فارها يركبه لأنه كان ساعيا على رجليه فكان يؤثر به عبد المؤمن ويقول لأصحابه
اركبوه الحمار يركبكم الخيول المسومة وزعم بنو عبد المؤمن أن المهدي كان استخلفه
من بعده وقال ابن خلكان لم يصح أنه استخلفه وإنما راعى أصحابه في تقديمه إشارته
فتم له الأمر والله أعلم
____________________
بيعة عبد المؤمن بن علي والسبب
فيها
لما توفي المهدي في التاريخ المتقدم تولى عبد المؤمن تجهيزه والصلاة عليه ثم دفنه
بمسجده الملاصق لداره من تينملل
ولما فرغ الموحدون من أمره تشوف كل واحد من العشرة إلى الخلافة بعده وكانوا من
قبائل شتى وأحبت كل قبيلة أن يكون الخليفة منها وأن لا يتولى عليها من هو من غيرها
فتنافسوا في ذلك فاجتمع العشرة والخمسون وتآمروا فيما بينهم وخافوا على أنفسهم النفاق
وأن تفسد نياتهم وتفترق جماعتهم فاتفقوا على خلافة عبد المؤمن لكونه كان غريبا بين
أظهرهم ليس من المصامدة لأن المصامدة من البرانس وكومية قبيلة عبد المؤمن من البتر
فقدموه لذلك مع ما كانوا يرون من ميل المهدي إليه وإيثاره على غيره فتم له الأمر
وقال ابن خلدون لما مات المهدي خشي أصحابه من افتراق الكلمة وما يتوقع من سخط
المصامدة لولاية عبد المؤمن لكونه من غير جلدتهم فأرجؤوا الأمر إلى أن تخالط بشاشة
الدعوة قلوبهم وكتموا موته لثلاث سنين يموهون فيها بمرضه ويقيمون سنته في الصلاة
والحزب الراتب ويدخل أصحابه إلى بيته كأنه اختصهم بعيادته فيجلسون حوالي قبره
ويتفاوضون في شؤونهم ثم يخرجون لإنفاذ ما أبرموه ويتولى ذلك عبد المؤمن حتى إذا
استحكم أمرهم وتمكنت الدعوة من كافتهم كشفوا القناع عن حالهم وتمالأ من بقي من
العشرة على تقديم عبد المؤمن وتولى كبر ذلك الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى الهنتاتي جد
الملوك الحفصيين أصحاب تونس فأظهروا للناس موت المهدي وعهده لصاحبه وانقاد بقية
أصحابه لذلك وروى لهم يحيى بن يغمور أنه كان يقول في دعائه أثر صلواته اللهم بارك
في الصاحب الأفضل فرضي الكافة وانقادوا له وأجمعوا على بيعته
____________________
وزعموا أن عبد المؤمن استعمل في ذلك حيلة تم له بها ما أراد وذلك أنه عمد إلى طائر
وأسد فضراهما حتى أنسا به وعلم الطائر أن يقول عند علامة نصبها له النصر والتمكين
لعبد المؤمن أمير المؤمنين وعلم الأسد أن يبصبص له ويتمسح به كلما رآه ثم جمع عبد
المؤمن الموحدين وخطبهم وحضهم على الألفة واجتماع الكلمة وحذرهم عاقبة البغي
والخلاف وبينما هو في ذلك إذ أرسل سائس الأسد أسده وصفر صاحب الطائر لطائره فبصبص
هذا وأعلن بالنصر هذا فعجب الحاضرون من ذلك ورأوا أنها كرامة لعبد المؤمن فازدادوا
بها بصيرة في أمره وثباتا على بيعته مع ما كان من تقديم المهدي له في الصلاة أيام
مرضه وفي ذلك يقول بعضهم
أنس الشبل ابتهاجا بالأسد ** ورأى شبه أبيه فقصد )
( ودعا الطائر بالنصر لكم ** فقضى حقكم حين وفد )
والله أعلم
وكانت بيعة عبد المؤمن العامة بعد صلاة الجمعة لعشرين يوما من ربيع الأول سنة ست
وعشرين وخمسمائة بجامع تينملل وأول من بايعه العشرة أصحاب المهدي ثم الخمسون من
أشياخ الموحدين ثم كافة الموحدين لم يتخلف عن بيعته منهم أحد فاستوثق له الأمر
واستولى على المغرب بأسره وفتح بلاد إفريقية إلى برقة وبلاد الأندلس بأسرها وخطب
له على منابر
____________________
هذه الأقاليم كلها على ما
سيأتي تفصيله إن شاء الله
ولما تمت بيعته غزا من حينه بلاد تادلا فقتل بها وسبى ثم غزا بلاد درعة فاستولى
عليها ثم غزا بلاد غمارة فافتتح البعض منها وقتل واليها ثم تسابق الناس إلى دعوته
أفواجا وأنتقضت البربر على المرابطين في سائر أقطار المغرب وكان ما نذكره غزوة عبد
المؤمن الطويلة التي استولى فيها على المغربين
ثم صرف عبد المؤمن عزمه لفتح بلاد المغرب فغزا غزوته الطويلة التي مكث فيها سبع
سنين وأجلت عن فتح المغربين معا الأقصى والأوسط خرج لها ثم تينملل في صفر سنة أربع
وثلاثين وخمسمائة فلم يزل يتقرى بلاد المغرب ويفتح معاقلها ويستنزل حماتها ويذلل
صعابها إلى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة
وكان خروجه من تينملل على طريق الجبل وخرج تاشفين بن علي في أتباعه من مراكش على
طريق السهل إلى أن وصلا إلى تلمسان حسبما قدمناه في أخبار المرابطين
قال ابن خلدون خرج عبد المؤمن في هذه الغزوة من تينملل يعني على طريق الجبل كما
قلنا وخرج تاشفين بن علي يعني في حياة والده بعساكره يحاذيه في البسيط والناس
يفرون منه إلى عبد المؤمن وهو يتنقل في الجبال في سعة من الفواكه للأكل والحطب
للدفء إلى أن وصل إلى جبال غمارة واشتعلت نار الفتنة والغلاء بالمغرب وأقشعت
الرعايا عن البلاد وألح الطاغية على المسلمين بالعدوة الأندلسية وهلك خلال ذلك
أمير المسلمين علي بن يوسف سنة سبع وثلاثين وخمسمائة وولي بعده ابنه تاشفين بن علي
المذكور وهو في غزاته هذه
____________________
وفي القرطاس ارتحل عبد المؤمن إلى جبال غمارة وارتحل تاشفين بن علي في أثره فنزل
بإزاء عين القديم وذلك في فصل الشتاء فأقام بذلك المنززل شهرين حتى أحرق أهل محلته
أوتاد أخبيتهم ورماحهم وهدموا بيوتهم وخيامهم انتهى
ونشأت فتنة بين لمتونة ومسوفة فنزع جماعة من أمراء مسوفة منهم عامل تلمسان يحيى بن
إسحاق المعروف بآنكمار ولحقوا بعبد المؤمن ودخلوا في دعوته فنبذ إليهم المرابطون
العهد وإلى سائر مسوفة واستمر عبد المؤمن على حاله فنازل سبتة فامتنعت عليه وتولى
كبر دفاعه عنها القاضي أبو الفضل عياض بن موسى الشهير الذكر وكان رئيسها يومئذ
بأبوته ومنصبه وعلمه ودينه
قال ابن خلدون ولذلك سخطته الدولة يعني دولة الموحدين آخر الأيام حتى مات مغربا عن
سبته مستعملا في خطة القضاء بالبادية من تادلا رحمه الله وتمادى عبد المؤمن في
غزاته إلى جبال غياثة وبطوية فافتتحها ثم نازل ملوية فافتتح حصونها ثم تخطى إلى
بلاد زناتة فأطاعته قبائل مديونة وكان قد بعث إليهم جيشا من الموحدين إلى نظر يوسف
بن وانودين فخرج إليهم محمد بن يحيى بن فانوا عامل تلمسان من قبل المرابطين فيمن
معه من جيوش لمتونة وزناتة فهزمهم الموحدون وقتل ابن فانوا وانفض جمع زناتة ورجعوا
إلى بلادهم وولى تاشفين بن علي على تلمسان أبا بكر بن مزدلي وقدم على عبد المؤمن
وهو بمكانه من الريف أبو بكر بن ماخوخ ويوسف بن بدر من أمراء بني ومانوا من زناتة
فبعث معهم يحيى بن يغمور ويوسف بن وانودين في عسكر فأثخنوا في بلاد بني عبد الواد
وبني يلومي من زناتة سبيا وأسرا ولحق صريخهم بتاشفين بن علي فأمدهم بعساكر لمتونة
ومعهم الروبرتير قائد الروم ونزلوا منداس وانضمت إليهم قبائل زناتة من بني يلومي
وبني عبد الواد مع شيخهم حمامة بن مطهر وإخوانهم بني توجين وغيرهم فأوقعوا بيني
ومانوا وقتلوا
____________________
أبا بكر بن ماخوخ في ستمائة من
قومه واستنفذوا غنائمهم وتحصن الموحدون وفل بني وماتوا بجبل سيرات
ولحق تاشفين بن ماخوخ صريخا بعبد المؤمن ومستجيشا به على لمتونة وزناتة فارتحل معه
عبد المؤمن إلى تلمسان ثم أجاز إلى سيرات
وقصد محلة لمتونة وزناتة فأوقع بهم ورجع إلى تلمسان فنزل ما بين الصخرتين من جبل
تيطرى ونزل تاشفين بن علي بالسهل مما يلي الصفصاف ثم وصل مدد صنهاجة من قبل يحيى
بن العزيز صاحب بجاية لنظر قائده بن كباب أمدوا به تاشفين بن علي وقومه لعصبية
الصنهاجية وفي يوم وصوله أشرف على معسكر الموحدين وكان يدل بإقدام فعرض بلمتونة
وأميرهم تاشفين بن علي لقعودهم عن مناجزة الموحدين وقال إنما جئتكم لأخلصكم من
صاحبكم عبد المؤمن هذا وأرجع إلى قومي فامتعض تاشفين بن علي من كلمته وأذن له في
المناجزة فحمل على القوم فركبوا وصمموا للقائه فكان آخر العهد به وانفض عسكره وكان
تاشفين بعث من قبل ذلك قائده على الروم وهو الروبرتير في عسكر ضخم فأغار على قوم
من زناتة كانوا في بسيط لهم فاكتسحهم ورجع بالغنائم فاعترضه الموحدون من عسكر عبد
المؤمن فقتلوهم وقتلوا الروبرتير في جملتهم
ثم بعث تاشفين بن علي بعثا آخر إلى جهة أخرى فلقيهم تاشفين بن ماخوخ ومن كان معه
من الموحدين واعترضوا عسكر بجاية عند رجوعهم فنالوا منهم أعظم النيل
وتوالت هذه الوقائع على تاشفين بن علي اللمتوني فأجمع الرحلة إلى وهران وبعث ابنه
ولي عهده إبراهيم بن تاشفين إلى مراكش في جماعة من لمتونة وبعث كاتبا معه أحمد بن
عطية ورحل هو إلى وهران سنة تسع وثلاثين وخمسمائة فأقام عليها شهرا ينتظر قائد
أسطوله محمد بن ميمون
____________________
إلى أن وصله من المرية بعشرة
أساطيل فأرسى قريبا من معسكره وزحف عبد المؤمن من تلمسان وبعث في مقدمته الشيخ أبا
حفص عمر بن يحيى الهنتاتي ومعه بنو ومانوا من زناتة فتقدموا إلى بلاد زناتة ونزلوا
منداس وسط بلادهم وجمع له بنو يادين كلهم وبنو بلومي وبنو مرين ومغراوة فأثخن فيهم
الموحدون حتى أذعنوا للطاعة ودخلوا في دعوتهم ووفد على عبد المؤمن جماعة من
رؤسائهم وكان منهم سيد الناس ابن أمير الناس شيخ بني يلومي وحمامة بن مطهر شيخ بني
عبد الواد وغيرهم فتلقاهم بالقبول وسار بهم في جموع الموحدين إلى وهران فبيتوا
لمتونة بمعسكرهم ففضوهم ولجأ تاشفين إلى رابية هناك فأحدقوا بها وأضرموا النيران
حولها حتى إذا غشيهم الليل خرج تاشفين من الحصن راكبا فرسه فتردى به من بعض حافات
الجبل وهلك لسبع وعشرين من رمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة وبعث برأسه إلى تينملل
ونجا فل العسكر إلى وهران فانحصروا بها مع أهلها حتى جهدهم العطش فنزلوا على حكم
عبد المؤمن يوم عيد الفطر من السنة المذكورة فاستأصلهم القتل رحمهم الله وبلغ خبر
مقتل تاشفين بن علي إلى تلمسان مع فل لمتونة الذين نجوا من وقعة وهران وفيهم سير
بن الحاج في آخرين من أعيانهم ففر معهم من كان بها من لمتونة
ولما وصل عبد المؤمن إلى تلمسان استباح أهل تاكرارت لما كان أكثرهم من الحشم بعد
أن كان بعثوا ستين من وجوههم فلقيهم يصليتن من مشيخة بني عبد الواد فقتلهم أجمعين
وافتتح عبد المؤمن تلمسان وعفا عن أهلها ورحل عنها لسبعة أشهر من فتحها بعد أن ولى
عليها سليمان بن محمد بن وانودين وقيل يوسف بن وانودين
____________________
فتح مدينة فاس
نقل بعض المؤرخين أن عبد المؤمن لم يزل محاصرا لتلمسان والفتوح ترد عليه وهناك
وصلته بيعة أهل سجلماسة إلى أن اعتزم على الرحيل إلى المغرب فترك إبراهم يبن جامع
محاصرا لتلمسان وقصد مدينة فاس سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وقد تحصن بها يحيى بن
أبي بكر الصحراوي من فل تاشفين بن علي من وهران فنازلها عبد المؤمن وبعث عسكرا
لحصار مكناسة ثم نهض في أتباعه وترك عسكرا من الموحدين على فاس وعليهم الشيخ أبو
حفص وأبو إبراهيم من صحابة المهدي العشرة فحاصروها سبعة أشهر ثم داخلهم ابن
الجياني فسرب البلد وأدخل الموحدين ليلا وفر يحيى بن أبي بكر الصحراوي إلى طنجة ثم
أجاء منها إلى يحى بن علي المسوفي المعروف بابن غانية بالأندلس وكان واليا على
قرطبة من قبل المرابطين فأقام عنده إلى أن كان من أمره ما نذكره وانتهى خبر فتح
فاس إلى عبد المؤمن وهو بمكانه من حصار مكناسة فرجع إليها ودخلها
وحكى صاحب القرطاس في فتح فاس خلاف هذا الوجه فقال وفي سنة أربعين وخمسمائة فتح
عبد المؤمن فاسا بعد حصار شديد قطع عنها ماء النهر الداخل إليها وسده بالبناء
والخشب حتى انحبس الماء فوق بسيط الأرض وانتهى إلى مراكزه منها ثم خرق السد فانحدر
الماء على المدينة دفعة واحدة وهدم سورها ثم هدم من دورها مايزيد عن ألفي دار
بالتثنية وهلك بها خلق كثير وكان الماء يأتي على أكثرها ثم دخلها عبد المؤمن وأمن
أهلها إلا من كان بها من المرابطين فإنه أمر أن لا يمضي لهم أمان وقتلهم قتل عاد
ثم أمر بسور المدينة فهدم منه ثلم كثيرة أوسعها جدا وقال إنا لا نحتاج إلى سور
وإنما أسوارنا سيوفنا وعدلنا فم تزل فاس لا سور لها إلى أن تداركها حافده يعقوب
المنصور فابتدأ بناءه ومات فأتمه ابنه الناصر سنة ستمائة
____________________
ولما فتح عبد المؤمن فاسا ولى عليها إبراهيم بن جامع الذي خلفه على تلمسان فإنه
لما فتحها ارتحل إلى عبد المؤمن فاتصل به وهو محاصر لفاس ففتحها عبد المؤمن وولاه
عليها وان قد اعترضه في طريقه المخضب بن عسكر شيخ بني مرين ونالوا منه ومن رفقته
وكانت معه أموال لمتونة وذخيرتهم التي استولى عليها عبد المؤمن بوهران وكان ابن
جامع ذاهبا بها إلى تينملل فاعترضه بنو مرين وانتزعوها منه وانتهى الخبر بذلك إلى
عبد المؤمن فكتب إلى عامله على تلمسان يوسف بن وانودين يأمره أن يجهز العساكر إلى
بني مرين فبعثها صحبة عبد الحق بن منغفاد شيخ بني عبد الواد فأوقعوا ببني مرين
وقتل المخضب شيخهم فتح مراكش واستئصال بقية اللمتونيين
ثم ارتحل عبد المؤمن من فاس عامدا إلى مراكش فوافته في طريقه بيعة أهل سبتة فولى
عليهم يوسف بن مخلوف من مشيخة هنتاتة ومر على مدينة سلا فافتتحها بعد مواقعة قليلة
وثلم سورها كفاس ونزل منها بدار ابن عشرة وكانت هذه الدار قصرا بديعا بمدينة سلا
بناه الفقيه أبو العباس بن القاسم من بين عشرة فشيده وأتقنه ولما فرغ منه وصفته
الشعراء وهنته به ودعت له وكان بالحضرة يومئذ الأديب ابن الحمارة ولم يكف أعد شيئا
ففكر قليلا ثم قال
( يا أوحد الناس قد شيدت واحدة ** فحل فيها حلول الشمس في الحمل )
( فما كدارك في الدنيا لذي أمل ** ولا كدارك في الأخرى لذي عمل )
وهذا القصر لم يبق له اليوم اسم ولا رسم ثم تمادى عبد المؤمن إلى مراكش وسرح الشيخ
أبا حفص لغزو برغواطة فأثخن فيهم ورجع فلقيه في طريقه وانتهوا جميعا إلى مراكش وقد
انضم إليها جموع لمطة فأوقع بهم الموحدون وأثخنوا فيهم قتلا واكتسحوا أموالهم
وظعائنهم وأقاموا على
____________________
مراكش تسعة أشهر وأميرهم يومئذ
إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين وكانوا قد بايعوا أولا إبراهيم بن تاشفين بن علي
فألفوه مضعفا عاجزا فخلعوه وبايعوا عمه إسحاق بن علي المذكور وهو صبي صغير ولما
طال عليهم الحصار وجهدهم الجوع برزوا إلى مدافعة الموحدين فانهزموا وتبعهم
الموحدون بالقتل فاقتحموا عليهم المدينة في أخريات شوال سنة إحدى وأربعين وخمسمائة
وقتل عامة الملثمين ونجا إسحاق في جملته وأعيان قومه إلى القصبة حتى نزلوا على حكم
الموحدين وأحضر إسحق بين يدي عبد المؤمن فقتله الموحدون بأيديهم وتولى كبر ذلك أبو
حفص بن واجاج منهم
وانمحى أثر الملثمين واستولى الموحدون على جميع البلاد وقد قيل في ترتيب هذه
الأخبار غير هذا الوجه
قال ابن مطروح القيسي لما بويع عبد المؤمن بتينملل ارتحل بجيوش الموحدين نحو مراكش
فحاصرها أياما وذلك في شوال سنة ست وعشرين وخمسمائة ثم ارتحل عنها إلى تادلا ثم
إلى سلا فتلقاه أهلها سامعين مطيعين فدخلها يوم السبت الرابع والعشرين من ذي الحجة
من السنة المذكورة وخطب له بها
وفي سنة سبع وعشرين بعدها فتح عبد المؤمن بلاد تازا
وفي سنة ثمان وعشرين بعدها تسمى عبد المؤمن بأمير المؤمنين واعلم أن اللقب كان في
صدر الإسلام خاصا بالخليفة بالمشرق من بني أمية أو من بني العباس بعدهم ولما قام
عبيد الله المهدي أول ملوك العبيديين بإفريقية تسمى بأمير المؤمنين لأنه كان يرى
أنه أحق بالخلافة من بني العباس
____________________
المعاصرين له بالمشرق فهو أول
من زاحم الخليفة في هذا اللقب ثم تبعه على ذلك عبد الرحمن الناصر الأموي صاحب
الأندلس ورأى أن له في الخلافة حقا اقتداء بسلفه الذين كانوا خلفاء بالمشرق
وكلاهما أعني العبيدي والأموي قرشي من عبد مناف ثم لم يتجاسر أحد لا من ملوك العجم
بالمشرق ولا من ملوك البربر من المغرب على اللقب بأمير المؤمنين لأنه لقب الخليفة
الأعظم القرشي كما علمت إلى أن جاءت دولة المرابطين وكان منهم يوسف بن تاشفين
واستولى على المغربين والأندلس وعظم سلطانه واتسعت مملكته وخاطب الخليفة العباسي
بالمشرق فولاه على ما بيده وتسمى بأمير المسلمين أدبا مع الخليفة حسبما أشرنا إليه
سالفا ولما جاء عبد المؤمن هذا لم يبال بذلك كله واتسم بالخليفة وتلقب بأمير
المؤمنين وتبعه على ذلك بنوه من بعده ولسان الحال ينشد
( لقد هزلت حتى بدا من هزالها ** كلاها وحتى سامها كل مفلس )
وفي سنة تسع وعشرين وخمسمائة أمر عبد المؤمن ببناء رباط مدينة تازا فبنيت وحصن
سورها ثم كانت محاربته لتاشفين بن علي على نحو ما أسلفناه والله تعالى أعلم ثورة
محمد بن هود السلاوي المعروف بالماسي
كان محمد بن هود بن عبد الله السلاوي رجلا من سوقة أهل سلا وكان أبوه سمسارا بها
يبيع الكنابيش وكان هو قصارا بها مدة ثم لحق بعبد المؤمن عندما ظهر وبايعه وشهد
معه فتح مراكش ثم فارقه وظهر برباط ماسة من ناحية السوس ودعا لنفسه وتسمى بالهادي
وتمكن ناموسه من قلوب العامة وكثير من الخاصة فأقبل إليه الشراد من كل جانب
وانصرفت إليه وجوه الأغمار من أهل الآفاق وأخذ بدعوته أهل سجلماسة ودرعة وقبائل
دكالة ورجراجة وقبائل تامسنا وهوارة وفشت ضلالته في جميع المغرب
____________________
قال في القرطاس بايعه جميع القبائل حتى لم يبق تحت طاعة عبد المؤمن إلا مراكش فسرح
إليه عبد المؤمن عسكرا من الموحدين لنظر يحيى بن إسحاق أنكمار النازع إليه من
إيالة تاشفين بن علي حسبما تقدم فالتقى بالماسي وقاتله فانتصر الماسي عليه وعاد
مهزوما إلى عبد المؤمن فسرح إليه عبد المؤمن ثانيا الشيخ أبا حفص الهنتاتي في جيش
عظيم من أشياخ الموحدين وغيرهم واحتفل عبد المؤمن في الاستعداد ونهض الشيخ أبو حفص
من مراكش فاتح ذي القعدة سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة وشيعه عبد المؤمن إلى وادي
تانسيفت ثم دعا له وودعه وانصرف الشيخ أبو حفص في جيوش الموحدين حتى انتهوا إلى
رابطة ماسة فبرز إليهم محمد بن هود في نحو ستين ألفا من الرجالة وسبعمائة من
الفرسان فكانت بينهم حرب شديدة ثم انتصر عليهم الموحدون فهزموهم وقتل محمد بن هود
في المعركة مع كثير من أتباعه وفضت جموعه وكان ذلك في ذي الحجة من السنة المذكورة
وكان الذي باشر قتل ابن هود هو الشيخ أبو حفص رئيس الجيش فلقبه الموحدون سيف الله
تشبيها له بخالد بن الوليد رضي الله عنه
وكتب الشيخ أبو حفص إلى عبد المؤمن برسالة الفتح من إنشاء الفقيه أبي جعفر بن عطية
القضاعي الكاتب المشهور يقول فيها كتابنا هذا من وادي ماسة بعد ما تجدد من أمر
الله الكريم ونصره تعالى المعهود القديم وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم
فتح بهر الأنوار إشراقا وأحدق بنفوس المؤمنين إحداقا ونبه للأماني النائمة جفونا
وأحداقا واستغرق غاية الشكر استغراقا فلا تطيق الألسن لكنه وصفه إدراكا ولا لحاقا
جمع أشتات الطلب والأرب وتقلب في النعم أكرم منقلب وملأ دلاء الأمل إلى عقد الكرب
( فتح تفتح أبواب السماء له ** وتبرز الأرض في أثوابها القشب )
____________________
وتقدمت بشارتنا به جملة حين لم تعط الحال بشرحه مهلة كان أولئك الضالون قد بطروا
عدوانا وظلما واقتطعوا الكفر معنى واسما وأملى الله تعالى لهم ليزدادوا إثما وكان
مقدمهم الشقي قد استمال النفوس بخزعبلاته واستهوى القلوب بمهولاته ونصب له الشيطان
من حبلاته فأتته المخاطبات من بعد وكثب وانسلت إليه الرسل من كل حدب واعتقدته
الخواطر أعجب عجب وكان الذي قادهم إلى ذلك وأوردهم تلك المهالك وصول من كان بتلك
السواحل ممن ارتسم برسم الإنقطاع عن الناس فيما سلف من الأعوام واشتغل على زعمه
بالقيام والصيام آناء الليالي والأيام لبسوا الناموس أثوابا وتدرعوا الرياء جلبابا
فلم يفتح الله تعالى لهم للتوفيق بابا
ومنها في ذكر صاحبهم الماسي المدعي للهداية فصرع بحمد الله تعالى لحينه وبادرت
إليه بوادر منونه وأتته وافدات الخطايا عن يساره ويمينه وقد كان يدعى أنه بشر بأن
المنية في هذه الأعوام لا تصيبه والنوائب لا تنوبه ويقول في سواه قولا كثيرا
ويختلق على الله تعالى إفكا وزورا فلما رأوا هيئة اضطجاعه وما خطته الأسنة في
أعضائه وأضلاعه ونفذ فيه من أمر الله تعالى ما لم يقدروا على استرجاعه هزم من كان
لهم من الأحزاب وتساقطوا على وجوهم تساقط الذباب وأعطوا على بكرة أبيهم صفحات
الرقاب ولم تقطر كلومهم إلا على الأعقاب فامتلأت تلك الجهات بأجسامهم وآذنت الآجال
بانقراض آمادهم وأخذهم الله تعالى بكفرهم وفسادهم فلم يعاين منهم إلا من خر صريعا
وسقى الأرض نجيعا ولقي من أمر الهنديات فظيعا ودعت الضرورة باقيهم إلى الترامي في
الوادي فمن كان يؤمل الفرار ويرتجيه ويسبح طامعا في الخروج إلى ما ينجيه اختطفته
الأسنة اختطافا وأذاقته موتا ذعافا ومن لج في الترامي على لججه ورام البقاء في
ثبجه قضى عليه شرقه وألوى بذقنه غرقه ودخل
____________________
الموحدون إلى البقية الكائنة
فيه يتناولون قتلهم طعنا وضربا ويلقونهم بامر الله تعالى هولا عظيما وكربا حتى
انبسطت مراقات الدماء على صفحات الماء وحكت حمرتها على زرقته حمرة الشفق على زرقة
السماء وجزت العبرة للمعتبر في جري ذلك الدم جري الأبحر
وبالجملة فهي رسالة بليغة وهي التي أورثت منشئها الرتبة العلية والمنزلة السنية
فإن عبد المؤمن لما وقف عليها استحسنها ووقعت منه موقعا كبيرا فاستكتبه أولا ثم
استوزره ثانيا ثم نكبه وقتله ثالثا كما سيأتي
ولما انصرف الشيخ أبو حفص من غزوة ماسة أراح بمراكش أياما ثم خرج غازيا بلاد
القائمين بدعوة محمد بن هود بجبال درن فأوقع بأهل نفيس وهيلانة وأثخن فيهم بالقتل
والسبي حتى أذعنوا للطاعة ورجع
ثم خرج إلى هسكورة فأوقع بهم وافتتح معاقلهم وحصونهم
ثم نهض إلى سجلماسة فاستولى عليها ورجع إلى مراكش
ثم خرج ثالثة إلى برغواطة فحاربوه مدة ثم هزموه واضطرمت نار الفتنة بالمغرب وكان
ما نذكره انتقاض أهل سبتة على الموحدين وخبر القاضي عياض رحمه الله معهم
قد تقدم لنا أن عبد المؤمن كان غزا سبتة في غزوته الطويلة وأن القاضي عياضا رحمه
الله دافعه عنها وأنه لما قتل تاشفين بن علي وفتحت تلمسان وفاس واستفحل أمر عبد
المؤمن بايع أهل سبتة في جملة من بايع من أمصار المغرب
قالوا وبادر القاضي عياض إلى لقاء عبد المؤمن فاجتمع به بمدينة سلاحين كان ذاهبا
لفتح مراكش فأجزل صلته وولى على سبتة يوسف بن
____________________
مخلوف التينمللي وساكن
الموحدون أهل سبتة في ديارهم واطمأنوا إليهم
فلما انتقض المغرب على عبد المؤمن بسبب قيام محمد بن هود وما نشأ عن ذلك من الفتن
انتقض أهل سبتة أيضا وكان انتقاضهم كما في القرطاس برأي القاضي عياض رحمه الله
فقتلوا عامل الموحدين ومن كان معه من أصحابه وحاميته وحرقهم بالنار
وركب القاضي عياض البحر إلى يحيى بن علي المسوفي المعروف بابن غانية وكان معتصما
بقرطبة متمسكا بدعوة المرابطين فلقيه وأدى إليه البيعة وطلب منه واليا على سبتة
فبعث معه يحيى بن أبي بكر الصحراوي الذي كان معتصما بفاس أيام حصار عبد المؤمن لها
ففر ولحق بابن غانية كما قلنا وبقي في جملته إلى أن بعثه مع القاضي عياض في هذه
المرة فدخل يحيى سبتة وقام بأمرها
ولما اتصلت بعبد المؤمن هذه الأخبار مع ما تقدم من هزيمة برغواطة للشيخ أبي حفص
خرج من مراكش قاصدا بلاد برغواطة أولا ثم من بعدهم ثانيا فتسامعت برغواطة بخروج
عبد المؤمن إليهم فكتبوا إلى يحيى بن أبي بكر بمكانه من سبتة يستنصرونه عليهم
فأتاهم وبايعوه واجتمعوا عليه وقاتلوا عبد المؤمن فهزموه ثم كانت له الكرة عليهم
فهزمهم وحكم السيف فيهم واستأصل شأفتهم حتى انقادوا للطاعة وتبرؤوا من يحيى
الصحراوي ولمتونة وفر الصحراوي إلى منجاته ثم طلب الأمان من عبد المؤمن وتشفع إليه
بأشياخ القبائل فأمنه ووفد عليه فبايعه وحسنت طاعته لديه وكان ذلك سنة اثنتين
وأربعين وخمسمائة
ولما رأى أهل سبتة ذلك كله سقط في أيديهم وندموا على صنيعهم وكتبوا بيعتهم إلى عبد
المؤمن وقدم بها أشياخ سبتة وطلبتها تائبين فعفا عنهم وعن القاضي عياض وأمره بسكنى
مراكش والصحيح أنه ولاه القضاء بتادلا ثم دخل مراكش قيل دخلها مريضا مرض موته وقيل
مات بالطريق
____________________
وحمل إليها وأمر عبد المؤمن مع
ذلك بهدم سور سبتة فهدم وكذلك فعل بفاس وسلا
وأعلم أن ما صدر من القاضي عياض رحمه الله في جانب الموحدين دليل على أنه كان يرى
أن لا حق لهم في الأمر و الإمامة وإنما هم متغلبون وهذا أمر لا خفاء به كما هو
واضح ولما كانت شوكة عبد المؤمن لا زالت ضعيفة وتاشفين بن علي أمير الوقت لا زال
قائم العين امتنع القاضي عياض رحمه الله من مبايعة عبد المؤمن ودافعه عن سبتة إذ
لا موجب لذلك لأن بيعة تاشفين في أعناقهم وهو لا زال حيا فلا يعدل عن بيعته إلى
غيره بلا موجب
وأما ما غالط به المهدي رحمه الله من أن المرابطين مجسمة وأن جهادهم أوجب من جهاد
الكفار فضلا عن أن تكون طاعتهم واجبة فسفسطة منه عفا الله عنا وعنه
ولما قتل تاشفين وفتحت تلمسان وفاس وقويت شوكة عبد المؤمن بايعه القاضي عياض حينئذ
وقبل صلته لأن من قويت شوكته وجبت طاعته
ثم لما ضعف أمره ثانيا بسبب قيام الماسي عليه وإجماع قبائل المغرب على التمسك
بدعوته رجع القاضي بأهل سبتة عن بيعته إلى طاعة المرابطين الذين لهم الحق في
الإمامة بطريق الأصالة ولم يأخذ بدعوة الماسي لأنه ثائر أيضا هذا مع ما كان ينقل
عن المهدي من أنه غلبت نزعة خارجية عليه وأنه يقول بعصمة الإمام وذلك بدعة كما لا
يخفى فتكون إمامته وإمامة أتباعه مقدوحا فيها من هذه الحيثية لكن حيث حصل التغلب
والإستيلاء وجبت الطاعة فالحاصل أن ما فعله القاضي عياض أولا وثانيا وثالثا كله
صواب موافق للحكم الشرعي فهكذا ينبغي أن تفهم أحوال أئمة الدين وأعلام المسلمين
رضي الله عنهم ونفعنا بعلومهم
____________________
وأما القتل والتحريق الذي صدر من أهل سبتة فالظن بالقاضي عياض رحمه الله أنه لا
يوافق على ذلك ولا يرضاه لكن العامة تتسرع إلى مجاوزة الحدود لا سيما أيام الفتن
وذلك معروف من حالهم والله الموفق
ولما دخلت سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة فتح الموحدون مدينة مكناسة القديمة بعد
حصارهم إياها سبع سنين اقتحموها عنوة يوم الأربعاء ثالث جمادى الأولى من السنة
المذكورة فخربت وقتل أكثر رجالها وسبي حريمهم وخمست أموالهم ثم بنيت مكناسة
تاكرارت المدينة الموجودة الآن أخبار الأندلس و فتوحها
كان عبد المؤمن لما فتح تلمسان وفاسا بعث إلى الأندلس جيشا من عشرة آلاف فارس من
أنجاد الموحدين
وقال ابن خلدون بعث عبد المؤمن بعد فتح مراكش جيشا من الموحدين لنظر بدران بن محمد
المسوفي النازع إلى عبد المؤمن من جملة تاشفين بن علي وعقد له على حرب الأندلس ومن
بها من لمتونة والثوار وأمده بعسكر آخر لنظر موسى بن سعيد وبعده بعسكر آخر لنظر
عمر بن صالح الصنهاجي
ولما أجازوا إلى الأندلس نزلوا بأبي الغمر بن عزرون صاحب شريش فكان أول بلد فتحوا
من الأندلس بلد شريش خرج إليهم صاحبها أبو الغمر فيمن معه من المرابطين وبايعهم
لعبد المؤمن ودخل في طاعته فكان الموحدون يسمون أهل شريش بالسابقين الأولين وحررت
أملاكهم فلم تزل محررة سائر أيامهم فلم يكن في أملاكهم رباعة وجميع بلاد
____________________
الأندلس مربعة وكان ملوك
الموحدين إذا قدم عليهم وفود الأندلس كان أول من ينادي منهم أهل شريش فكان يقال
أين السابقون فيدخلون للسلام فإذا سلموا وقضيت حاجاتهم انصرفوا فدخل غيرهم حينئذ
وكان فتح شريش فاتح ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وخمسمائة
ثم زحف الموحدون إلى لبلة وكان بها من الثوار يوسف بن أحمد البطروجي فبذل لهم
الطاعة ثم زحفوا إلى شلب ففتحوها ثم نهضوا إلى باجة وبطليوس ففتحوهما أيضا ثم
زحفوا إلى إشبيلية فحاصروها برا وبحرا إلى أن فتحوها في شعبان سنة إحدى وأربعين
وخمسمائة وفر من كان بها من المرابطين إلى قرمونة وقتل من أدركه القتل منهم وقتل
في جملتهم عبد الله ولد القاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري
الحافظ المشهور وأصيب في هيعة تلك الدخلة من غير قصد
وكتب الموحدون بالفتح إلى عبد المؤمن ثم قدم عليه وفدهم بمراكش مبايعين له سنة
اثنتين وأربعين وخمسمائة ورئيس الوفد يومئذ القاضي أبو بكر بن العربي المذكور
فألفوا عبد المؤمن مشغولا بحرب محمد بن هود الماسي فأقاموا بمراكش سنة ونصفا لم
يلقوه فيها حتى كان يوم عيد الأضحى من سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة فلقوه بالمصلى
فسلموا عليه سلام الجماعة ثم بعد ذلك دخلوا عليه فسملوا عليه السلام الخاص وقبلت
بيعتهم
وسأل عبد المؤمن القاضي أبا بكر بن العربي عن المهدي هل كان لقيه عند الإمام أبي
حامد الغزالي فقال ما لقيته ولكن سمعت به فقال له فما كان أبو حامد يقول فيه قال
كان يقول إن هذا البربري لا بد أن سيظهر ثم صرف عبد المؤمن أهل إشبيلية بعد أن
أجازهم وكتب لهم منشورا بتحرير أملاكهم فانصرفوا عنه في جمادى الآخرة سنة ثلاث
وأربعين وخمسمائة فلما قربوا من مدينة فاس توفي الإمام أبو بكر بن العربي رحمه
____________________
الله فحمل ودفن خارج باب
المحروق منها بتربة القائد مظفر وقبره مزارة إلى الآن وعليه قبة حسنة
وفي هذه السنة ملك الموحدون قرطبة وكان بها يحيى بن علي المسوفي المعروف بابن
غانية مقيما لدعوة المرابطين فلما دخل الموحدون الأندلس واشتعلت نار الفتنة بحرب
المرابطين انتهز الطاغية الفرصة في بلاد الإسلام وضايق ابن غانية بقرطبة وألح على
جهاته حتى نزل له عن بياسة وأبدة وتغلب على أشبونة وطرطوشة والمرية وماردة وأفراغة
وشنترين وشنتمرية وغيرها من حصون الأندلس وطالب ابن غانية بالزيادة على ما بذل له
أو الإفراج عن قرطبة فأرسل ابن غانية إلى بدران بن محمد أمير الموحدين واجتمعا
بأستجة وضمن له بدران أمان الخليفة عبد المؤمن على أن يتخلى له عن قرطبة وقرمونة
ففعل ثم لحق بغرناطة وبها ميمون بن بدر اللمتوني في جماعة من المرابطين وأراد أن
يكلمه في الدخول في طاعة الموحدين وأن يمكنهم من غرناطة كما فعل هو بقرطبة فتوفي
بغرناطة يوم الجمعة الرابع والعشرين من شعبان سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ودفن في
القصبة بإزاء قبر باديس بن حبوس الصنهاجي وانتهز الطاغية الفرصة في قرطبة فزحف
إليها وحاصرها فجهز إليه الموحدون الذين كانوا بإشبيلية أبا الغمر بن عزرون
لحمايتها ووصل إليه مدد يوسف البطروجي من لبلة وبلغ الخبر عبد المؤمن فبعث إليها
عسكرا من الموحدين لنظر يحيى بن يغمور ولما دخلها أفرج عنها الطاغية لأيام من
مدخله وبادر ثوار الأندلس إلى يحيى بن يغمور في طلب الأمان من عبد المؤمن ثم
تلاحقوا به بمراكش فتقلبهم وصفح لهم عما سلف
____________________
قدوم عبد المؤمن إلى سلا
ووفادة أهل الأندلس عليه بها
لما كانت سنة خمس وأربعين وخمسمائة قدم عبد المؤمن من مراكش إلى سلا فنظر في أمرها
وأجرى إليها ماء عين غبولة حتى وصل إلى رباطها ولم تكن رباط الفتح يومئذ قد بنيت
لأن بانيها حافده يعقوب المنصور كما سيأتي إن شاء الله وإنما كان يقال رباط سلا
ثم أذن عبد المؤمن لأهل الأندلس في الوفادة عليه بسلا فقدموا عليه في نحو خمسمائة
فارس من الفقهاء والقضاة والخطباء والأشياخ والقواد فتلقاهم الشيخ أبو حفص
الهنتاتي والوزير الكاتب أبو جعفر بن عطية وأشياخ الموحدين على نحو ميلين من
المدينة فأمر عبد المؤمن بإنزالهم وأفاض عليهم سجال الإكرام وأنواع الضيافات
والإنعام وبقوا على ذلك ثلاثة أيام ثم أذن لهم في الدخول فدخلوا عليه أول يوم من
المحرم فاتح سنة ست وأربعين وخمسمائة فسلموا عليه
وأشار الوزير ابن عطية لأهل قرطبة بالتقدم فتقدم قاضيهم أبو القاسم بن الحاج فأراد
أن يتكلم فدهش ثم وصف حال قرطبة فقال يا أمير المؤمنين إن الفنش لعنه الله قد
أضعفها
فتلافاه أبو بكر بن الجد بالحطبة البليغة فجلى في ذلك المجلس واستحسن عبد المؤمن
خطبته ووصل الجميع كلا على قدره وقضى مطالبهم وأوصاهم بما اقتضاه الحال وأمرهم
بالإنصراف إلى بلادهم فانصرفوا فرحين مغتبطين
وقال ابن خلدون استدعى عبد المؤمن أهل الأندلس وهو بسلا فوفدوا عليه وبايعوه جميعا
وبايعه الرؤساء من الثوار على الإنخلاع من الأمر مثل سدراتي ابن وزير صاحب باجة
ويابرة ويوسف البطروجي صاحب لبلة وابن عزرون صاحب شريش ورندة ومحمد بن الحجام
____________________
صاحب بطليوس وعامل بن مهيب
صاحب طلبيرة وتخلف ابن القيسي وأهل شلب عن هذا الجمع فكان سببا لقتله من بعد
وانصرف أهل الأندلس إلى بلادهم ورجع عبد المؤمن إلى مراكش واستصحب الثوار فلم
يزالوا بحضرته والله تعالى أعلم غزو إفريقية وفتح مدينة بجاية
ثم بلغ عبد المؤمن اضطراب بلاد إفريقية بسبب تنازع ملوكها من بني زيري بن مناد
الصنهاجيين واستطالة العرب عليهم بها فاجمع الرحلة إلى غزوها بعد أن شاور الشيخ
أبا حفص وأبا إبراهيم وغيرهما من المشيخة فوافقوه فخرج من مراكش أواخر سنة ست
وأربعين وخمسمائة واستخلف عليها الشيخ أباحفص الهنتاتي وسار حتى وصل إلى سلا فأقام
بها شهرين ثم نهض منها إلى سبتة مظهرا أنه يريد العبور إلى الأندلس بقصد الجهاد
فلما وصل إلى سبتة استدعى فقهاء قرطبة وإشبيلية وأعيان الأندلس وقوادها فاستوضح
منهم أحوال البلاد وأوصاهم بما إليهم منها وودعهم
ورحل عن سبتة مظهرا العود إلى مراكش وصار حتى وصل إلى القصر الكبير وهو قصر كتامة
فميز جيوشه وأزاح عللهم وفرق فيهم الأموال وأمرهم بتجديد الأزواد وخرج يعتسف
البلاد على غير طريق فجعل مدينة فاس عن يمينه وجد السير حتى خرج على وادي ملوية ثم
سار إلى تلمسان فأقام بها يوما واحدا ثم خرج منها وولى السير قاصدا بجاية فطرق
الجزائر على حين غفلة من أهلها فدخلها وأمنهم وفر صاحبها القائم بن يحيى بن العزيز
إلى أبيه يحيى ببجاية
وخرج إلى عبد المؤمن الحسن بن علي الصنهاجي صاحب المهدية وكان الفرنج قد أخرجوه
منها فقصد ابن عمه يحيى بن العزيز صاحب
____________________
بجاية فعدل به إلى الجزائر
وأنزله بها كالمسجون فلما طرق عبد المؤمن الجزائر في هذه المرة خرج إليه الحسن بن
علي المذكور فصحبه ووصل يده بيده حتى كان من أمره ما نذكره إن شاء الله
ثم اعترضت جيوش صنهاجة عبد المؤمن بأم العلو فهزمهم وصبح بجاية من الغد فدخلها وفر
صاحبها يحيى بن العزيز الصنهاجي آخر ملوك بني حماد أصحاب القلعة فركب البحر في
أسطولين كان أعدهما لذلك واحتمل فيهما ذخيرته وأمواله وعزم على المسير إلى مصر ثم
عدل إلى بونة فنزل على أخيه الحارث فأنكر عليه سوء صنيعه وإفراجه عن البلد فارتحل
عنه إلى قسنطينة فنزل على أخيه الحسن فتخلى له عن الأمر
وفي خلال ذلك دخل الموحدون قلعة حماد عنوة وكان عبد المؤمن وجه جيشا من الموحدين
إليها وأمر عليهم ابنه أبا محمد عبد الله فدخلوها وأضرموا النيران في مساكنها
وخربوها وقتلوا بها نحو ثمانية عشر ألفا وامتلأت أيدي الموحدين من الغنائم والسبي
ثم جمع لهم العرب الذين هناك من الأثبج وزغبة ورياح وغيرهم بسطيف فأوقعوا بهم
واستلحموهم وسبوا نساءهم واكتسحوا أموالهم
وأما يحيى بن العزيز فإنه بايع لعبد المؤمن سنة سبع وأربعين وخمسمائة ونزل له عن
قسنطينة واشترط لنفسه فوفى له عبد المؤمن ونقله إلى مراكش بأهله وخاصته فسكنها
وأفاض عليه سجال الإحسان وأنزله منزلة رفيعة ثم انتقل إلى سلا سنة ثمان وخمسين
وخمسمائة فسكن بقصر ابن عشرة منها إلى أن مات من سنته رحمه الله
ووفد على عبد المؤمن بمراكش كبراء العرب من أهل إفريقية طائعين فوصلهم ورجعوا إلى
قومهم مغتبطين
____________________
فتح المرية وبياسة وأبدة
كانت هذه البلاد قد استولى عليها الفرنج أيام الموحدين والمرابطين بالأندلس فلما
كانت سنة ست وأربعين وخمسمائة عبر الشيخ أبو حفص إلى الأندلس في جيش كثيف من
الموحدين ومعه السيد أبو سعيد ابن أمير المؤمنين برسم الجهاد وكان بنو عبد المؤمن
يسمون أبناءهم بالسادة فنزلوا المرية وضيقوا عليها بالحصار وبنى السيد أبو سعيد
على محلته سورا واستغاث نصارى المرية بالفنش فأغاثهم بمحمد بن مردنيش وكان واصلا
يده بيده ووجه معه السلطين أحد قواد الفرنج في جيش كثيف فلم يتمكنوا من البلد ولا
من محلة الموحدين لكونها محصنة بالسور فرجع ابن مردنيش والسلطين بخفي حنين وافترقا
فلم يجتمعا بعد
ثم عمد السلطين إلى بياسة وأبدة فأخلاهما من النصارى الذين كانوا بهما خوفا عليهم
ورجع عوده على بدئه وأما السيد أبو سعيد فإنه شدد الحصار على المرية حتى نزلوا على
الأمان بواسطة الوزير ابن عطية
وفي سنة ثمان وأربعين وخمسمائة وجه عبد المؤمن على يصليتن قريب المهدي فأتى به
مكبولا من سبتة فأمر بقتله وصلبه بباب مراكش لأمر نقمه عليه
ثم ارتحل عبد المؤمن بعد مقتل يصليتن إلى تينملل بقصد زيارة قبر المهدي فزار وفرق
في أهلها أموالا عظيمة وأمر ببناء مسجدها وتوسعتها
____________________
قدوم عبد المؤمن مدينة سلا
وتولية أولاده على النواحي بها
لما قضى عبد المؤمن إربه من تينملل ارتحل منها إلى سلا فأقام بها بقية سنة ثمان
وأربعين وخمسمائة
ثم دخلت سنة تسع وأربعين بعدها فبايع لابنه السيد أبي عبد الله محمد بولاية العهد
وأمر أن يذكر في الخطبة بعده وكتب بذلك إلى جميع الآفاق
ثم عقد لابنه السيد أبي الحسن علي على فاس وأعمالها واستوزر له أبا الحجاج يوسف بن
سليمان وعقد لانه السيد أبي حفص عمر على تلمسان وأعمالها واستوزر له أبا محمد عبد
الحق بن وانودين واستكتب له أبا الحسن عبد الملك بن عياش وعقد لابنه السيد أبي
سعيد عثمان على سبتة وطنجة واستوزر له أبا محمد عبد الله بن سليمان وأبا عثمان
سعيد بن ميمون الصنهاجي واستكتب له أبا بكر بن طفيل القيسي وأبا بكر بن حبيش
الباجي وعقد لابنه السيد أبي محمد عبد الله على بجاية وأعمالها واستوزر له أبا
سعيد يخلف بن الحسن وعقد للشيخ أبي زيد بن يكيث على قرطبة وأعمالها ويقال إن قرطبة
كانت في هذا التاريخ بيد يحيى بن يغمور والله أعلم
واستقامت الأحوال لعبد المؤمن وبنيه وصفا له المغربان والأندلس والله غالب على
أمره
____________________
إيقاع عبد المؤمن بعبد العزيز
وعيسى أخوي المهدي والسبب في ذلك
كان عبد العزيز وعيسى أخوي المهدي من مشيخة العسكر ووجوه الجيش بإشبيلية أيام
فتحها ووفادة أهلها على عبد المؤمن بمراكش حسبما تقدم ثم ساء أثرهما بها واستطالت
أيديهما على أهلها واستباحا الدماء والأموال ثم اعتزما على الفتك بيوسف البطروجي
صاحب لبلة فلحق ببلده وأخرج الموحدين الذين بها وحول الدعوة عنهم إلى المرابطين
ونشأ عن ذلك فساد كبير بالأندلس ثم لحق أخوا المهدي بالعدوة في خبر طويل
واستمر حالهما إلى أن بايع عبد المؤمن لابنه محمد بولاية العهد وعقد لإخوته على
العمالات والنواحي ففسدت نية عبد العزيز وعيسى بذلك مع ما كان صدر من عبد المؤمن
من قتل ابن عمهما يصليتن وكانا يومئذ بفاس وعبد المؤمن بسلا فخرجا من فاس إلى
مراكش على طريق المعدن مضمرين للغدر
واتصل خبر خروجهما بعبد المؤمن فخرج من سلا في أثرهما متلافيا أمر مراكش وقدم
أمامه وزيره أبا جعفر بن عطية فسبقاه إليها وداخلا بعض الأوباش بها في شأنهما
فوثبوا بعاملها أبي حفص عمر بن تافراكين فقتلوه بمكانه من القصبة
ووصل على أثرهما الوزير ابن عطية ثم عبد المؤمن على أثره فأطفا تلك النائرة وتقبض
عبد المؤمن على عبد العزيز وعيسى فقتلهما وصلبهما وتتبع المداخلين لهما فألحقهم
بهما وانقطع الشغب وزال الفساد
____________________
إيقاع يحيى بن يغمور بأهل لبلة
وإسرافه في ذلك
لما كانت سنة تسع وأربعين وخمسمائة فتح الموحدون مدينة لبلة وكان المتولى لفتحها
يحيى بن يغمور والي قرطبة وإشبيلية حاصرها مدة ثم اقتحهما عنوة وقبض على أهلها
فخرج بهم إلى ظاهر المدينة وصفهم في صعيد واحد ثم عرضهم على السيف أجمعين حتى خلص
القتل منهم إلى الفقيه المحدث أبي الحكام بن بطال والفقيه الصالح أبي عامر بن الجد
وكان عدد من قتل من أهل لبلة في ذلك الصعيد ثمانية آلاف وقتل بأحوازها نحو أربعة
آلاف ثم بيعت نساؤهم وأبناؤهم وأمتعتهم وأسلابهم فعل ذلك افتياتا على عبد المؤمن
وبلغه الخبر وهو بمراكش فسخطه وبعث إليه عبد الله بن سليمان فجاء به معتقلا إلى
الحضرة يوم عيد الفطر فألزمه بيته وبقي على ذلك مدة ثم عفا عنه وسرحه مع ابنه
السيد أبي حفص إلى تلمسان ولم يصرف إلى أهل لبلة شيئا مما أخذ لهم واستقام أمر
الأندلس ونزل ميمون بن بدر اللمتوني عن غرناطة للموحدين فملكوها وأجاز إليها السيد
أبو سعيد صاحب سبتة بعهد أبيه عبد المؤمن إليه بذلك ولحق الملثمون بمراكش
____________________
أمر عبد المؤمن بتحريق كتب
الفروع ورد الناس إلى الأصول من الكتاب والسنة
لما كانت سنة خمسين وخمسمائة أمر أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي بإصلاح المساجد
وبنائها في جميع ممالكه وبتغيير المنكرات ما كانت وأمر مع ذلك بتحريق كتب الفروع
ورد الناس إلى قراءة كتب الحديث واستنباط الأحكام منها وكتب بذلك إلى جميع طلبة
العلم من بلاد الأندلس والعدوة فجزاه الله خيرا نقل المصحف العثماني من قرطبة إلى
مراكش وبناء جامع الكتبيين بها
كان بقرطبة ثم بجامعها الأعظم المشهور مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله
عنه ذكر جماعة من المؤرخين منهم أبن بشكوال وغيره وكان ذلك المصحف الكريم متداولا
عند بني أمية وأهل الأندلس واستمر بقرطبة إلى دولة الموحدين فنقله عبد المؤمن إلى
مراكش
قال ابن بشكوال أخرج المصحف العثماني من قرطبة وغرب منها وكان بجامعها الأعظم ليلة
السبت الحادي عشر من شوال سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة في أيام أبي محمد عبد المؤمن
بن علي وبأمره وهذا
____________________
أحد المصاحف الأربعة التي بعث
بها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار مكة والبصرة والكوفة والشام وما قيل من أن فيه
دم عثمان بعيد وإن يكن أحدها فلعله الشامي
قال ابن عبد الملك قال أبو القاسم التجيبي السبتي أما الشامي فهو باق بمقصورة جامع
بني أمية بدمشق وعاينته هنالك سنة سبع وخمسين وستمائة كما عاينت المكي بقية الشراب
قال فعله الكوفي أو البصري
قال الخطيب ابن مرزوق في كتاب المسند الصحيح الحسن اختبرت الذي بالمدينة والذي نقل
من الأندلس فألفيت خطهما سواء وما توهموه أنه خطه بيمينه فليس بصحيح فلم يخط عثمان
واحدا منها وإنما جمع عليها بعضا من الصحابة كما هو مكتوب على ظهر المتني ونص ما
على ظهره هذا ما أجمع عليه جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم زيد
بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وذكر العدد الذي جمعه عثمان رضي الله
تعالى عنه من الصحابة رضي الله عنهم على كتب المصحف اه
وكان من خبر نقله إلى مراكش ما ذكره ابن رشيد في رحلته عن أبي زكريا يحيى بن أحمد
بن يحيى بن محمد بن عبد الملك بن طفيل المذكور قال وصل إلى عبد المؤمن ابناه
السيدان أبو سعيد وأبو يعقوب من الأندلس وفي صحبتهما مصحف عثمان بن عفان رضي الله
عنه وهو الإمام الذي لم يختلف فيه مختلف فتلقى وصوله بالإجلال والإعظام وبودر إليه
بما يجب من التبجيل والإكرام
وكان في وصوله ذلك الوقت من عظيم العناية وباهر الكرامة ما هو معتبر لأولي الألباب
وذلك أن أمير المؤمنين عبد المؤمن كان قبل ذلك بأيام قد جرى ذكره في خاطره وتروى
مع نفسه في كيفية جلبه من مدينة قرطبة محل مثواه القديم فتوقع أن يتأذى أهل ذلك
القطر بفراقه ويستوحشوا لفقدان إضاءته وإشراقه فوقف عن ذلك فأوصله الله إليه تحفة
سبنية وهدية
____________________
هنية دون أن يكدرها من البشر
اكتساب أو يتقدمها استدعاء أو اجتلاب بل أوقع الله تعالى في نفوس أهل ذلك القطر من
الفرح بإرساله ما أطلع بالمشاهدة على صحة صدقه وعضلت مخايل برقه سواكب ودقه وعد
ذلك من كرامات أمير المؤمنين عبد المؤمن وسعادته
ثم عزم عبد المؤمن على تعظيم المصحف الكريم وشرع في انتخاب كسوته واختيار حليته
فحشر الصناع المتقنين ممن كان بالحضرة وسائر بلاد المغرب والأندلس فاجتمع لذلك
حذاق كل صناعة من المهندسين والصواغين والنظامين والحلائين والنقاشين والمرصعين
والنجارين والزواقين والرسامين والمجلدين وعرفاء البنائين ولم يبق من يوصف ببراعة
أو ينسب إلى الحذق في صناعة إلا أحضر للعمل فيه والاشتغال بمعنى من معانيه
وبالجملة فقد صنعت له أغشية بعضها من السندس وبعضها من الذهب والفضة ورصع ذلك
بأنواع اليواقيت وأصناف الأحجار الغريبة النوع والتشكل العديمة المثال واتخذ
للغشاء محمل بديع مما يناسب ذلك في غرابة الصنعة وبداعة الصبغة
واتخذ للمحمل كرسي على شاكلته ثم اتخذ للجميع تابوت يصان فيه على ذلك المنوال ووصف
ذلك يطول
وفي خلال هذه المدة أمر عبد المؤمن ببناء المسجد الجامع بحضرة مراكش حرسها الله
فبدئ ببنائه وتأسيس قبلته في العشر الأول من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين
وخمسمائة وكمل في منتصف شعبان من السنة المذكورة على أكمل الوجوه وأغرب الصنائع
وأفسح المساحة وأحكم البناء والنجارة وفيه من شمسيات الزجاج ودرجات المنبر وسياج
المقصورة ما لو عمل في السنين العديدة لاستغرب تمامه فكيف في هذا الأمد اليسير
الذي لم يتخيل أحد من الصناع أن يتم فيه تقديره وتخطيطه فضلا عن بنائه وصليت فيه
صلاة الجمعة منتصف شعبان المذكور
ونهض عبد المؤمن عقب ذلك لزيارة روضة المهدي بمدينة تينملل
____________________
فأقام بها بقية شعبان ومعظم
رمضان وحمل في صحبته المصحف العثماني في التابوت المذكور ومعه مصحف المهدي وختم
القرآن العزيز في مسجد المهدي وعند ضريحه ختمات كثيرة وعاد إلى مراكش
ولم يزل الموحدون يعتنون بهذا المصحف الكريم ويحملونه في أسفارهم متبركين به
كتابوت بني إسرائيل إلى أن حمله منهم السعيد وهو علي بن إدريس بن يعقوب المنصور
الملقب بالمعتضد بالله حين توجه إلى تلمسان آخر سنة خمس وأربعين وستمائة فقتل
السعيد قريبا من تلمسان ووقع النهب في الخزائن واستولت العرب وغيرهم على معظم
العسكر ونهب المصحف في جملة ما نهب منه وعثر عليه ملوك بني عبد الواد أصحاب تلمسان
فلم يزل في خزانتهم بها إلى أن افتتحها السلطان الأعظم أبو الحسن المريني أواخر
شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وسبعمائة وحصل عنده فكان يتبرك به ويحمله في أسفاره على
العادة إلى أن أصيب في وقعة طريف وحصل في بلاد البرتغال وأعمل أبو الحسن الحيلة في
استخلاصه حتى وصل إلى فاس سنة خمس وأربعين وسبعمائة على يد بعض تجار آزمور واستمر
في خزانته إلى أن سافر أبو الحسن سفرته المعلومة إلى إفريقية فاستولى عليها
ولما كانت سنة خمسين وسبعمائة ركب أبو الحسن البحر من تونس قافلا إلى المغرب وذلك
في إبان هيجان البحر فغرقت مراكبه وهلكت نفوس تجل عن الحصر وضاعت نفائس يعز وجود
مثلها ومن جملتها المصحف العثماني فكان ذلك آخر العهد به
ومما يناسب ذكره هنا المصحف العقباني وهو مصحف عقبة بن نافع الفهري فاتح المغرب
وكان متداولا عند ملوكه ومتبركا به وثاني المصحفين في المنزلة عند أهل المغرب
قال أبو عبد الله اليفرني في كتاب النزهة إن السلطان أبا العباس أحمد المنصور
بالله المعروف بالذهبي لما جدد ولاية العهد لولده المأمون
____________________
بعث إليه بالقدوم من مدينة فاس
فوافاه بتامسنا وباشر المنصور أخذ البيعة له بنفسه وحضر الأعيان وأهل العقد والحل
وأحضر المصحف الكريم الذي هو مصحف عقبة بن نافع الفهري رضي الله عنه قال وهو من
ذخائر الخلفاء وأحضر الصحيحان للشيخين وقرئ ظهير البيعة وذلك في شوال سنة اثنتين
وتسعين وتسعمائة ولم يزل المصحف العقباني متداولا بين الملوك السعديين إلى أن
انقرضت دولتهم وجاءت الدولة الشريفة العلوية السجلماسية فانتقل المصحف المذكور
إليها وتداولته ملوكها إلى أن جاء السلطان المولى عبد الله بن إسماعيل بن الشريف
رحمه الله فبعث هدية سنية مع ركب الحاج للحرم النبوي وبعث في جملتها المصحف
المذكور
قال صاحب البستان ولما سافر الركب النبوي يعني سنة خمس وخمسين ومائة وألف وجه معه
السلطان المولى عبد الله ثلاثة وعشرين مصحفا بين كبير وصغير كلها محلاة بالذهب
منبتة بالدر والياقوت ومن جملتها المصحف الكبير العقباني الذي كان الملوك
يتوارثونه بعد المصحف العثماني وهو مصحف عقبة بن نافع الفهري نسخه بالقيروان من
المصحف العثماني فوقع هذا المصحف بيد الأشراف الزيدانيين يتداولونه بينهم إلى أن
بلغ إلى السلطان المولى عبد الله المذكور فغربه من المغرب إلى المشرق ورجع الدر
إلى صدفه والإبريز إلى معدنه
قال الشيخ المسناوي وقد وقفت عليه حين أمر السلطان المولى عبد الله بتوجيهه إلى
الحجرة النبوية وظهر لي أن تاريخ كثبه بالقيروان فيه نظر لبعد ما بينهما
ووجه معه السلطان المذكور ألفي حصاة بالتثنية وسبعمائة حصاة من الياقوت المختلفة
الألوان إلى الحجرة النبوية على الحال بها أفضل الصلاة وأزكى السلام
وهذه الأخبار وإن كانت متباعدة التاريخ فهي متناسبة المعنى جمعناها هنا ليقف
الناظر عليها في محل واحد وتحصل فائدتها متناسقة والله الموفق
____________________
نكبة الوزير ابن عطية والسبب
فيها
كان الوزير أبو جعفر أحمد بن عطية من أهل مراكش وأصله القديم من طرطوشة ثم بعد من
دانية
وكان أبوه أبو أحمد بن عطية كاتبا لأمير المسلمين علي بن يوسف اللمتوني ثم لابنه
تاشفين من بعده وتحصل في قبضة الموحدين فعفا عنه عبد المؤمن
ولما حاصر عبد المؤمن فاسا اعتزم أبو أحمد هذا الفرار فتقبض عليه في طريقه وسيق
إلى عبد المؤمن فاعتذر فلم يقبل عبد المؤمن عذره وسحب إلى مصرعه فقتل رحمه الله
وكان ابنه أبو جعفر صاحب الترجمة كاتبا لإسحاق بن علي اللمتوني بمراكش فشمله عفو
أمير المؤمنين فيمن شمله من ذلك الفل
وخرج في جملة الشيخ أبي حفص الهنتاتي حين نهض لقتال محمد بن هود الماسي
فلما كان الفتح وكتب رسالته المتقدمة وقف عليها عبد المؤمن فاستحسنها واستكتبه لذلك
ثم ارتفعت مكانته عنده فاستوزره فظهر غناؤه وكفايته وحمدت سيرته وإدارته وقاد
العساكر وجمع الأموال وبذلها وبعد في الدولة صيته ونال من الرتبة عند السلطان ما
لم ينله أحد في دولته وتحبب إلى الناس بإجمال السعي والإحسان فعمت صنائعه وفشا
معروفه وكان محمود السيرة مبخت المحاولات ناجح المساعي سعيد المآخذ ميسر المآرب
وكانت وزارته زينا للوقت وكمالا للدولة رحمه الله
ثم لما كانت سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وفد أشياخ إشبيلية على عبد المؤمن ورغبوا
منه في ولاية بعض أبنائه عليهم فعقد لابنه السيد أبي يعقوب عليها وبعث معه لوزير
ابن عطية المذكور لمباشرة الأمور وإصلاح الأحوال فأغنى في ذلك الغناء الجميل
ولما غاب وجهه عن الحضرة وجد حساده السبيل إلى التدبير عليه
____________________
والسعي به حتى أوغروا صدر
الخليفة عليه فاستوزر عبد السلام بن محمد الكومي وانبرى لمطالبة ابن عطية وجد في
التماس عوراته وتشنيع سقطاته وطرحت بمجلس السلطان أبيات منها
( قل للإمام أطال الله مدته ** قولا تبين لذي لب حقائقه )
( إن الزراجين قوم قد وترتهم ** وطالب الثأر لم تؤمن بوائقه )
( وللوزير إلى آرائهم ميل ** فذاك ما كثرت فيهم علائقه )
( فبادر الحزم في إطفاء نارهم ** فربما عاق من أمر عوائقه )
( هم العدو ومن والاهم كهم ** فاحذر عدوك واحذر من يصادقه )
( الله يعلم أني ناصح لكم ** والحق أبلج لا تخفى طرائقه )
قالوا فلما وقف عبد المؤمن على هذه الأبيات البليغة في معناها وغر صدره على وزيره
أبي جعفر وأضمر له في نفسه شرا فكان ذلك من أقوى أسباب نكبته وقيل أفضى إليه بسر
فأفشاه
وانتهى ذلك كله إلى أبي جعفر وهو بالأندلس فقلق وعجل الانصراف إلى مراكش فحجب عنده
قومه ثم قيد إلى المسجد في اليوم بعده حاسر العمامة واستحضر الناس على طبقاتهم
وقرروا على ما يعلمون من أمره وما صار إليه منهم فأجاب كل بما اقتضاه هواه وأمر
بسجنه ولف معه أخوه أبو عقيل عطية وتوجه في أثر ذلك عبد المؤمن إلى زيارة تربة
المهدي فاستصحبهما بحال ثقاف
وصدر عن أبي جعفر في هذه الحركة من لطائف الآداب نظما ونثرا في سبيل التوسل بتربة
إمامهم المهدي عجائب فلم تجد شيئا مع نفوذ الله تعالى فيه
ولما انصرف من وجهته أعادهما معه قافلا إلى مراكش فلما حاذى تاكمارت أنفذ الأمر
بقتلهما بالشعراء المتصلة بالحصن على مقربة من الملاحة هنالك فمضيا لسبيلهما وذلك
في شوال سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة
ومما خاطب به الوزير المذكور عبد المؤمن مستعطفا له من رسالة تغالى فيها فغالته
المنية ولم ينل الأمنية وهذه سنة الله تعالى فيمن لا يحترم
____________________
جناب الألوهية ولم يحرص لسانه
من الوقوع فيما يخدش في وجه فضل الأنبياء على غيرهم قوله سامحه الله تالله لو
أحاطت بي كل خطية ولم تنفك نفسي عن الخيرات بطية حتى سخرت بمن في الوجود وأنفت
لآدم من السجود وقلت إن الله تعالى لم يوحي في الفلك إلى نوح وأبرمت لحطب نار
الخليل حبلا وبريت لقدار ثمود نبلا وحططت عن يونس شجرة اليقطين وأوقدت مع هامان
على الطين وقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وافتريت على العذراء البتول فقذفتها
وكتبت صحيفة القطيعة بدار الندوة وظاهرت الأحزاب بالقصوى من العدوة وأبغضت كل قرشي
وأكرمت لأجل وحشي كل حبشي وقلت إن بيعة السقيفة لا توجب إمامة الخليفة وشحذت شفرة
غلام المغيرة بن شعبة واعتلقت من حصار الدار وقتل أشمطها بشعبة وقلت تقاتلوا رغبة
في الأبيض والأصفر وسفكوا الدماء على الثريد الأعفر وغادرت الوجه من الهامة خضيبا
وناولت من قرع سن الحسين قضيبا ثم أتيت حضرة المعصوم لائذا ويقبر الإمام المهدي
عائدا لأذن لمقالتي أن تسمع وتغفر لي هذه الخطيئات أجمع مع أني مقترف وبالذنب
معترف
( فعفوا أمير المؤمنين فمن لنا ** بحمل قلوب هدها الخفقان )
والسلام على المقام الكريم ورحمة الله تعالى وبركاته
وكتب مع ابن له صغير آخرة
( عطفا علينا أمير المؤمنين فقد ** بان العزاء لفرط البث والحزن )
( قد أغرقتنا ذنوب كلها لجج ** ورحمة منكم أنجى من السفن )
( وصادفنا سهام كلنا غرض ** وعطفة منكم أوفى من الجنن )
( هيهات للخطب أن تسطو حوادثه ** بمن أجارته رحماكم من المحن )
( من جاء عندكم يسعى على ثقة ** بنصره لم يخف بطشا من الزمن )
( فالثوب يطهر عند الغسل من درن ** والطرف يرهص بعد الركض في سنن )
( أنتم بذلتم حياة الخلق كلهم ** من دون من عليهم لا ولا أثمن )
( ونحن من بعض من أحيت مكاركم ** كلتا الحياتين من نفس ومن بدن )
____________________
( وصبية كفراخ الورق من صغر ** لم يألفوا النوح في فرع ولا فنن )
( قد أوجدتهم أياد منك سابقة ** والكل لولاك لم يوجد ولم يكن )
فوقع عبد المؤمن على هذه القصيدة الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين
ومما كتب به من السجن
( أنوح على نفسي أم أنتظر الصفحا ** فقد آن أن تنسى الذنوب وأن تمحى )
( فها أنا في ليل من السخط حائر ** ولا اهتدي حتى أرى للرضا صبحا )
وامتحن عبد المؤمن الشعراء بهجو ابن عطية فلما أسمعوه ما قالوا أعرض عنهم وقال ذهب
ابن عطية وذهب الأدب معه
وكان لأبي جعفر أخ اسمه عطية قتل معه كما قلنا ولعطية هذا ابن أديب كاتب وهو أبو
طالب عقيل بن عطية ومن نظمه في رجل تعشق قينة كانت ورثت مالا من مولاها فكانت تنفق
عليه منه فلما فرغ المال ملها
فقال أبو طالب
( لا تلحه إن مل من حبها ** فلم يكن ذلك عن ود )
( لما رآها قد صفا ما لها ** قال صفا الوجد مع الوجد )
ويروى أن الوزير ابن عطية رحمه الله مر مع الخليفة عبد المؤمن ببعض طرق مراكش
فأطلت جارية بارعة الجمال من شباك فقال عبد المؤمن
( قدت فؤادي من الشباك إذ نظرت ** )
فقال الوزير مجيزا له
( حوراء ترنو إلى العشاق بالمقل ** )
فقال عبد المؤمن
( كأنما لحظها في قلب عاشقها ** )
فقال الوزير
( سيف المؤيد عبد المؤمن بن علي ** )
ولا خفاء أن هذه طبقة عالية رحم الله الجميع بمنه
____________________
غزو إفريقية ثانيا وفتح
المهدية وغيرها من الثغور
كانت بلاد إفريقية بيد بني زيري بن مناد الصنهاجيين من لدن الدولة العبيدية بها
وفي هذا التاريخ كانت دولتهم قد أشرفت على الهرم وكثر التنازع بينهم وزاحمتهم
الثوار من العرب وغيرهم بتلك الأقطار فانتهز الفرنج أصحاب صقلية الفرصة فيهم
وملكوا منهم عدة ثغور مثل صفاقس وسوسة وغيرهما ثم ملكوا بعد ذلك المهدية وهي يومئذ
دار ملك الحسن بن علي الصنهاجي آخر ملوك بني زيري بن مناد ففر الحسن عنها إلى ابن
عمه يحيى بن العزيز صاحب بجاية فأنزله بالجزائر
ولما طرق عبد المؤمن ثغر الجزائر في غزوته الأولى إلى إفريقية خرج إليه الحسن بن
علي هذا وصحبه وصار في جملته فكان الحسن يغريه بغزو إفريقية واستنقاذها من يد
العدو
وكان عبد المؤمن يحب ذلك ويرغب فيه إلا أنه كان ينتظر إبان الفرصة فاتفق أن فرنج
صقلية أوقعوا بأهل زويلة وهي مدينة بينها وبين المهدية نحو ميدان وقعة شنيعة حتى
أنهم قتلوا النساء والأطفال ففر جماعة منهم إلى عبد المؤمن بن علي وهو بمراكش
يستغيثونه ويستنصرونه على العدو
فلما وصلوا إليه أكرمهم وأخبروه بما جرى على المسلمين وأنه ليس في ملوك الإسلام من
يقصد سواه ولا يكشف هذا الكرب غيره فدمعت عيناه وأطرق ثم رفع رأسه وقال أبشروا
لأنصرنكم ولو بعد حين وأمر بإنزالهم وأطلق لهم ألفي دينار
ثم أمر بعمل الروايا والقرب وما يحتاج إليه العسكر في السفر وكتب إلى جميع نوابه
في المغرب وكان قد ملك العدوتين الأندلس والمغرب واتسعت خطة مملكته إلى قرب مدينة
تونس فكتب إلى من بطريقه من النواب يأمرهم بحفظ جميع ما يتحصل من الغلات وأن يترك
الزرع في سنبله
____________________
ويخزن في مواضعه وأن يحفروا
الآبار في الطرق ففعلوا جميع ما أمرهم به وجمعوا غلات الحب ثلاث سنين ونقلوها إلى
المنازل التي على الطريق وطينوا عليها فصارت كأنها تلال
فلما كان صفر من سنة أربع وخمسين وخمسمائة سار عبد المؤمن من مراكش يؤم بلاد
إفريقية
وقال ابن خلدون كان عبد المؤمن في هذه السفرة قد عزم على العبور إلى الأندلس لما
بلغه من اضطراب أحوالها واستطالة الطاغية بها فنهض يريد الجهاد واحتل بسلا فبلغه
انتقاض إفريقية وأهمه شأن النصارى بالمهدية فلما توافرت العساكر بسلا استخلف الشيخ
أبا حفص الهنتاتي على المغرب وعقد ليوسف بن سليمان على مدينة فاس ونهض يغد السير
إلى إفريقية واجتمع عليه من العساكر مائة ألف مقاتل ومن الأتباع والسوقة أمثالهم
وكان هذا الجند يمتد أميالا
وبلغ من حفظه وضبطه أنهم كانوا يمشون بين الزروع فلا تتأذى بهم سنبلة وإذا نزلوا
صلوا بإمام واحد بتكبيرة واحدة لا يتخلف منهم أحد كائنا من كان
وقدم بين يديه الحسن بن علي الصنهاجي صاحب المهدية وكان قد اتصل به كما قلنا فلم
يزل يسير إلى أن وصل إلى مدينة تونس في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة من السنة
وبها صاحبها أحمد بن خراسان وأقبل أسطوله في البحر في سبعين شينا وطريدة وشلندا
فلما نازلها راسل أهلها يدعوهم إلى الطاعة فامتنعوا فقاتلهم من الغد أشد قتال ولما
جن الليل نزل سبعة عشر رجلا من أعيان أهلها إلى عبد المؤمن يسألونه الأمان لأهل
بلدهم فأجابهم عبد المؤمن بأن لهم الأمان في أنفسهم وأهليهم وأموالهم لمبادرتهم
إلى الطاعة وأما من عداهم من سائر أهل البلد فيؤمنهم في أنفسهم وأهليهم ويقاسمهم
على أموالهم وأملاكهم نصفين وأن يخرج صاحب البلد هو وأهله فاستقر الأمر على
____________________
ذلك وتسلم البلد وبعث إليهم من
يمنع العساكر من الدخول عليهم وبعث أمناءه ليقاسموا الناس على أموالهم وأملاكهم
وأقام أهل تونس بها على أجرة تؤخذ عن نصف مساكنهم وعرض عبد المؤمن الإسلام على من
بها من اليهود والنصارى فمن أسلم سلم ومن أبى قتل
وأقام عليها ثلاثة أيام ثم سار إلى المهدية وأسطوله يحاذيه في البحر فوصل إليها
ثامن عشر رجب من السنة المذكورة وكان بالمهدية يومئذ خواص الفرنج من أولاد ملوكها
وأبطال فرسانها وقد أخلوا مدينة زويلة المجاورة للمهدية فدخلها عبد المؤمن وامتلأت
بالعساكر والسوقة فصارت مدينة معمورة في ساعة واحدة ومن لم يكن له موضع من العسكر
نزل بظاهرها وانضاف إليه من صنهاجة والعرب وأهل إفريقية ما يخرج عن الإحصاء
وأقبلوا يقاتلون المهدية مدة أيام فلا يؤثر فيها لحصانتها وقوة سورها وضيق محال
القتال عليها لأن البحر دائر بأكثرها فكأنها كف في البحر وزندها متصل بالبر وكانت
الفرنج تخرج شجعانها إلى أطراف العسكر فتنال منه ويعودون سريعا فأمر عبد المؤمن
ببناء سور غربي المدينة يمنعهم من الخروج وأحاط الأسطول بها في البحر وركب عبد
المؤمن شينيا ومعه الحسن بن علي الذي كان صاحبها وتطوف بها في البحر فهاله ما رأى
من حصانتها وعلم أنها لا تفتح بقتال برا ولا بحرا وليس لها إلا المطاولة وقال
للحسن كيف نزلت عن مثل هذا الحصن فقال لقلة من يوثق به وعدم القوت وحكم القدر فقال
صدقت
وعاد عبد المؤمن من البحر وأمر بجمع الغلات والأقوات وترك القتال فلم يمض غير قليل
حتى صار في المعسكر مثل الجبلين من الحنطة والشعير فكان من يصل إلى المعسكر من
بعيد يقول متى حدثت هذه الجبال فيقال هي حنطة وشعيرا فيتعجب من ذلك وتمادى الحصار
وفي مدة هذا الحصار استولى عبد المؤمن على طرابلس وصفاقص وسوسة وجبل نفوسة وقصور
إفريقية وما والاها وفتح مدينة قابس بالسيف وسير ابنه السيد أبا محمد من مكان
حصاره للمهدية في جيش ففتح بلادا أخرى
____________________
ثم أطاعه أهل مدينة قفصة وقدم
عليه صاحبها فوصله بألف دينار وبالجملة فإنه استخلص في هذه المدة جميع بلاد
إفريقية من أيدي القائمين بها
ولما كان الثاني والعشرون من شعبان من السنة المذكورة جاء أسطول صاحب صقلية في
مائة وخمسين شينيا غير الطرائد ممدا لأهل المهدية وكان هذا الأسطول قد قدم من
جزيرة يابسة من بلاد الأندلس وقد سبى أهلها وأسرهم وحملهم معه فأرسل إليهم ملك
الفرنج يأمرهم بالمسير إلى المهدية ليمدوا إخوانهم الذين بها فقدموا في التاريخ
المذكور فلما قاربوا المدينة حطوا شرعهم ليدخلوا الميناء فخرج إليهم أسطول عبد
المؤمن وركب العسكر جميعه ووقفوا على جانب البحر فاستعظم الفرنج ما رأوا من كثرة
العساكر وداخل الرعب قلوبهم
ونزل عبد المؤمن إلى الأرض فجعل يمرغ وجهه ويبكي ويدعو للمسلمين بالنصر واقتتلوا
في البحر فانهزمت شواني الفرنج وأعادوا القلوع وساروا وتبعهم المسلمون فأخذوا منهم
سبع شواني وكان أمرا عجيبا وفتحا غريبا
وعاد أسطول المسلمين مظفرا منصورا وفرق فيهم عبد المؤمن الأموال ويئس أهل المهدية
حينئذ من النجاة ومع ذلك فقد صبروا على الحصار أربعة أشهر أخرى إلى أخر ذي الحجة
من السنة فنزل حينئذ من فرسان الفرنج إلى عبد المؤمن عشرة وسألوا الأمان لمن فيها
من الفرنج على أنفسهم وأموالهم ليخرجوا منها إلى بلادهم وكان قوتهم قد فنى حتى
أكلوا الخيل فعرض عليهم عبد المؤمن الإسلام ودعاهم إليه فقالوا ما جئنا لهذا وإنما
جئنا نطلب فضلك وترددوا إليه أياما
وكان من جملة ما استعطفوه به أن قالوا أيها الخليفة ما عسى أن تكون المهدية ومن
بها بالنسبة إلى ملكك العظيم وأمرك الكبير وإن أنعمت علينا كنا أرقاء لك في أرضنا
فعفا عنهم وكان الفضل شيمته وأعطاهم سفنا ركبوا فيها وساروا وكان الزمن شتاء فغرق
أكثرهم ولم يصل منهم إلى صقلية إلا النفر اليسير
____________________
وكان صاحب صقلية قد قال إن قتل عبد المؤمن أصحابنا بالمهدية قتلنا المسلمين الذين
عندنا بجزيرة صقلية وأخذنا حرمهم وأموالهم فأهلك الله الفرنج غرقا
وكانت مدة استيلائهم على المهدية اثنتي عشرة سنة فدخلها عبد المؤمن صبيحة يوم
عاشوراء من المحرم سنة خمس وخمسين وخمسمائة فكان يقال لهذه السنة سنة الأخماس
وأقام عبد المؤمن بالمهدية عشرين يوما حتى رتب أحوالها واصلح ما انثلم من سورها
ونقل إليها الذخائر والأقوات والرجال والعدد
واستخلف عليها أبا عبد الله محمد بن فرج الكومي وجعل معه الحسن بن علي الصنهاجي
الذي كان صاحبها وأمره أن يقتدي برأيه في أفعاله وأقطع الحسن بها إقطاعا وأعطاه
دورا نفيسة يسكنها وكذلك فعل بأولاده
وصفت إفريقية كلها لعبد المؤمن ودخل أهلها في طاعته من برقة إلى تلمسان ولم يبق له
بها منازع ففرق فيها عماله وقضاته وضبط ثغورها وأصلح شؤونها
وثنى عنانه إلى المغرب أول صفر من السنة المذكورة وانقطعت عادية الفرنج عن بلاد
إفريقية مدة مديدة والله تعالى أعلم توظيف عبد المؤمن الخراج على أرض المغرب
وفي هذه السنة أعني سنة خمس وخمسين وخمسمائة أمر عبد المؤمن بتكسير بلاد إفريقية
والمغرب فكسر من برقة في جهة الشرق إلى بلاد نول من السوس الأقصى في جهة الغرب
بالفراسخ والأميال طولا وعرضا ثم أسقط في التكسير الثلث في الجبال والغياض
والأنهار والسماخ والخزون والطرق وما بقي قسط عليه الخراج وألزم كل قبيلة بقسطها
من الزرع والورق فهو أول من أحدث ذلك في المغرب عفا الله عنه
____________________
بناء عبد المؤمن جبل طارق
كان عبد المؤمن رحمه الله وهو بإفريقية قد أمر ببناء جبل الفتح وتحصينه وهو جبل
طارق فبني وشيد حصنه وكان ابتداء البناء به في تاسع ربيع الأول من سنة خمس وخمسين
وخمسمائة المذكورة وكمل بناؤه في ذي القعدة منها بناء عبد المؤمن مدينة البطحاء
لما كان عبد المؤمن قافلا من بلاد إفريقية بنى مدينة البطحاء وسبب بنائه إياها أنه
لما طالب بالموحدين الإقامة بالمشرق والتغرب عن أوطانهم عزمت طائفة منهم على قتل
عبد المؤمن والفتك به في خبائه إذا نام فتأتى شيخ من أشياخ الموحدين ممن اطلع على
ذلك إلى عبد المؤمن فأخبره الخبر وقال له دعني أبت الليلة في وضعك وأنم على فراشك
فإن فعلوا ما اتفقوا عليه كنت قد فديتك بنفسي في حق المسلمين وأجري في ذلك على
الله وإن حصلت السلامة فمن الله تعالى ويكون أجري على قدر نيتي فبات على فراشه
فاستشهد في تلك الليلة فلما اصبح عبد المؤمن وصلى الصبح افتقده فوجده قتيلا على
فراشه فأخذه وحمله بين يديه على ناقة لا يقودها أحد فسارت الناقة يمينا وشمالا حتى
بركت وحدها فأمر عبد المؤمن بالشيخ فأنزل عنها وأخذ بزمام الناقة فأزيلت عن مبركها
وحفر قبره فيه ودفن وبنيت عليه قبة وبنى بإزاء القبة جامعا
ثم أمر ببناء المدينة حول المسجد وترك بها عشرة أهل بيت من كل قبيلة من قبائل
المغرب فقبر الشيخ هنالك مزارة عن أهل تلك البلاد إلى اليوم قاله في القرطاس
____________________
ولما دخل عبد المؤمن إلى تلمسان في هذه الرجعة قبض على وزيره عبد السلام بن محمد
الكومي فسجنه ثم سمه من جرعة لبن هلك بها من ليلته عبور عبد المؤمن إلى جبل طارق
والسبب في ذلك
كان عبد المؤمن وهو بإفريقية قد بلغه أن محمد بن مردنيش الثائر بشرق الأندلس قد
خرج من مرسية ونازل جيان وأطاعه واليها محمد بن علي الكومي ثم نازل بعدها قرطبة
ورحل عنها وغدر بقرمونة وملكها ثم رجع إلى قرطبة وخرج ابن يكيت لحربه فهزمه ابن
مردنيش وقتله
فكتب عبد المؤمن إلى عماله بالأندلس يخبرهم بفتح إفريقية عليه وأنه واصل إليهم فلما
نهض من تلمسان في رجعته هذه عدل إلى طنجة فدخلها في ذي الحجة سنة خمس وخمسين
وخمسمائة وأقام بها إلى أن دخلت سنة ست وخمسين بعدها فعبر منها إلى الأندلس ونزل
بجبل طارق فأقام به شهرين واستشرف منه أحوال الأندلس ووفد عليه قوادها وأشياخها
فأمر بغزو غرب الأندلس فنهض إليه الشيخ أبو محمد عبد الله بن أبي حفص الهنتاتي من
قرطبة في جيش كثيف من الموحدين ففتح حصن المرنكش من أحواز بطليوس وقتل جميع من كان
به من النصارى وخرج الفنش من طليطلة لإغاثته فوجده قد فتح وصمد الموحدون لقتاله
فهزمه الله وقتل من عسكره ستة آلاف وساق المسلمون السبي إلى قرطبة وإشبيلية
وفي هذه السنة ملك الموحدون بطليوس وباجة ويابورة وحصن القصر فولى عليها عبد
المؤمن محمد بن علي بن الحاج وعاد إلى مراكش
____________________
قدوم كومية قبيلة عبد المؤمن
عليه بمراكش والسبب في ذلك
تقدم لنا أن عبد المؤمن لم يكن من المصامدة وإنما كان من كومية إحدى بطون بني فاتن
من البرابرة البتر وكانت مواطنهم بالمغرب الأوسط إلى أن استدعاهم عبد المؤمن إلى
مراكش سنة سبع وخمسين وخمسمائة والسبب في ذلك أنه لما همت الطائفة من الموحدين
بقتله وقتلوا الشيخ الذي فداه بنفسه وتحقق ذلك منهم ورأى أنه غريب بين أظهرهم ليس
له قبيل يستند إليه ولا عشير يثق به ويعتمد عليه أرسل في خفية إلى أشياخ كومية
الذين هم قبيلته وعشيرتهم وأمرهم بالقدوم عليه وأن يركبوا كل من بلغ الحلم منهم
ويأتوه في أحسن زي وأكمل عدة وسرب إليهم الأموال والكسى فاجتمع منهم أربعون ألف فارس
ثم أقبلوا إلى عبد المؤمن وهو بمراكش برسم خدمته والقيام بين يديه
ولما دخلوا أرض المغرب تشوش أهله من قدوم هذا الجيش الحفيل من غير أن يتقدم لهم
سبب ظاهر وتقول الناس الأقاويل فسار جيش كومية حتى نزلوا على وادي أم الربيع
وتسامع الموحدون بإقبالهم فارتابوا منهم وعرفوا أمير المؤمنين عبد المؤمن بخبرهم
فأمر عبد المؤمن الشيخ أبا حفص الهنتاتي أن يخرج إليه في جماعة من الموحدين
وأشياخهم ليتعرفوا خبرهم فسار حتى لقيهم على وادي أم الربيع فقال لهم ما أنتم أسلم
لنا أم حرب قالوا بل نحن سلم نحن قبيل أمير المؤمنين نحن كومية قصدنا زيارته
والسلام عليه فرجع أبو حفص وأصحابه وعرف عبد المؤمن الخبر فأمر جميع الموحدين أن
يخرجوا إلى لقائهم ففعلوا واحتفلوا لذلك
وكان يوم دخولهم مراكش يوما مشهودا فرتبهم عبد المؤمن في الطبقة الثانية من أهل
الديوان وجعلهم بين قبيلة تينملل والقبيلة التابعة لهم
____________________
وجعلهم بطانته يركبون خلف ظهره
ويمشون بين يديه إذا خرج ويقومون على رأسه إذا جلس فاعتضد بهم عبد المؤمن وبنوه
سائر دولتهم إلى انقراضها والله غالب على أمره استعداد عبد المؤمن للجهاد وإنشاؤه
الأساطيل بسواحل المغرب وما يتبع ذلك من وفاته رحمه الله
لما تمهد لعبد المؤمن ملك المغربين وإفريقية والأندلس وطاعت له سائر الأقطار وخضعت
له الرقاب في البوادي والأمصار تفرغ لشأنه وتاقت نفسه للجهاد فعزم على غزو بلاد
الفرنج برا وبحرا فأمر رحمه الله في هذه السنة التي هي سنة سبع وخمسين وخمسمائة
بإنشاء الأساطيل في جميع سواحل ممالكه فأنشئ له منها أربعمائة قطعة فمنها بحلق
المعمورة وهي التي تسمى اليوم المهدية مائة وعشرون قطعة ومنها بطنجة وسبتة وباديس
ومراسي الريف مائة قطعة ومنها ببلاد إفريقية ووهران ومرسى هنين مائة قطعة ومنها
ببلاد الأندلس ثمانون قطعة
ونظر في استجلاب الخيل للجهاد والاستكثار من أنواع السلاح والعدد وأمر بضرب السهام
في جميع عمله فكان يضرب له منها في كل يوم نحو عشرة قناطير جدية فجمع له من ذلك ما
لا يحصى كثرة وفي خلال هذا وفدت عليه قبيلة كومية كما مر
ثم لما دخلت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة خرج أمير المؤمنين عبد المؤمن من مراكش
قاصدا الأندلس برسم الجهاد وكان خروجه يوم الخميس خامس ربيع الأول من السنة
المذكورة فوصل إلى رباط سلا فكتب إلى جميع بلاد المغرب والقبلة وإفريقية والسوس
وغير ذلك يستنفرهم إلى الجهاد فأجابه خلق كثير واجتمع له من عساكر الموحدين والمرتزقة
ومن
____________________
قبائل العرب والبربر وزناتة
أزيد من ثلاثمائة ألف فارس ومن جيوش المتطوعة ثمانون ألف فارس ومائة ألف راجل
فضاقت بهم الأرض وانتشرت المحلات والعساكر في أرض سلا من عين غبولة إلى عين خميس
إلى حلق المعمورة
فلما استوفيت لديه الحشود وتكاملت لديه الجنود والوفود كان المعنى الذي أشار الله
القائل
( إذ تم أمر بدا نقصه ** ترقب زوالا إذا قيل تم )
فابتدأ بعبد المؤمن مرضه الذي توفي منه وتمادى به ألمه فخاف أن يفجأه الحمام فأمر
بعزل ولده محمد عن ولاية العهد وإسقاط اسمه من الخطبة لما ظهر له من العجز عن
القيام بأمر الخلافة
وكان ذلك يوم الجمعة الثاني من جمادى الآخرة من السنة المذكورة وكتب بذلك إلى جميع
طاعته وتمادى به مرضه واشتد ألمه فتوفي ليلة الجمعة الثامن من جمادى الآخرة من
السنة المذكورة وقيل غير ذلك وحمل إلى تينملل فدفن بها إلى جنب قبر الإمام المهدي
رحمه الله فسبحان من لا يبيد ملكه ولا ينقضي عزه
ونقل ابن خلكان في كيفية عزل ولي العهد وجها آخر قال ناقلا من خط العماد بن جبريل
أن عبد المؤمن كان في حياته عهد إلى أكبر أولاده وهو محمد وبايعه الناس بعد تحليف
الجند له وكتب ببيعته إلى البلاد فلما مات عبد المؤمن لم يتم له الأمر لأنه كان
على أمور لا يصلح معها للمملكة من إدمان شرب الخمر واختلاف الرأي وكثرة الطيش وجبن
النفس ويقال إنه مع هذا كله كان به ضرب من الجذام واضطرب أمره
____________________
واختلف الناس عليه فخلع وكانت
مدة ولايته خمسة وأربعين يوما وذلك في شعبان من سنة ثمان وخمسين وخمسمائة وكان
الذي سعى في خلعه أخويه أبا يعقوب يوسف وأبا حفص عمر ابني عبد المؤمن ولما تم خلعه
دار الأمر بين الأخوين المذكورين وهما من نجباء أولاد عبد المؤمن ومن ذوي الرأي
فتأخر منهما أبو حفص عمر وسلم الأمر إلى أخيه أبي يعقوب يوسف فبايعوه الناس واتفقت
عليه الكلمة والله تعالى أعلم بقية أخبار عبد المؤمن وسيرته
قال ابن خلكان كان عبد المؤمن عند وفاته شيخا نقي البياض قال ونقلت من تاريخ فيه
سيرته وحليته فقال مؤلفه رأيته شيخا معتدل القامة عظيم الهامة أشهل العينين كث كث
اللحية شثن الكفين طويل القعدة واضح بياض الأسنان بخده الأيمن خال
وكان رحمه الله فصيحا فقيها عالما بالأصول والجدل والحديث مشاركا في كثير من
العلوم الدينية والدنيوية ذا حزم وسياسة وإقدام في الحرب ومهمات الأمور سري الهمة
ميمون النقيبة لم يقصد قط بلدا إلا فتحه ولا جيشا إلا هجمه محبا لأهل العلم والأدب
مكرما لوفادتهم منفقا لبضاعتهم ذكر العماد الأصبهاني في كتاب الخريدة أن الفقيه
أبا عبد الله محمد بن أبي العباس التيفاشي لما أنشده
( ما هز عطفيه بين البيض والأسل ** مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي )
أشار عليه أن يقتصر على هذا البيت وأمر له بألف دينار
وقد تقدم ما دار بينه وبين وزيره ابن عطية من الشعر الذي تجاذباه في أمر الجارية
التي أطلت في الشباك وذلك دليل على سراوة طبعه وخفة روحه رحمه الله
____________________
الخبر عن دولة أمير المؤمنين
يوسف بن عبد المؤمن بن علي
قال ابن خلدون لما هلك عبد المؤمن أخذ السيد أبو حفص بن عبد المؤمن البيعة على
الناس لأخيه أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن باتفاق من الموحدين كافة ورضى من الشيخ
أبي حفص الهنتاتي خاصة واستقل في رتبة وزارته
وذكر القاضي أبو الحجاج يوسف بن عمر مؤرخ دولتهم أن أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن
بويع بيعة الجماعة يوم الجمعة ثامن ربيع الأول سنة ستين وخمسمائة وذلك بعد وفاة
والده عبد المؤمن بسنتين لأنه لما بويع بعد وفاة والده توقف عن بيعته ناس من أشياخ
الموحدين وامتنع من بيعته أخواه السيد أبو محمد صاحب بجاية والسيد أبو عبد الله
صاحب قرطبة فكف عنهم ولم يطالبهم ببيعته وتسمى بالأمير ولم يتسم بأمير المؤمنين
حتى اجتمع عليه الناس
وذكر ابن مطروح في تاريخه أنه لما مات عبد المؤمن كان ولده يوسف بإشبيلية فأخفى
أصحابه موته وأرسلوا إلى يوسف فوصل من إشبيلية إلى سلا في أقرب وقت فبويع بها ولم
يتخلف عن بيعته إلا ناس قليلون فلم يلتفت إليهم
وكان أول شيء فعله بعد البيعة أن سرح الجيوش المجتمعة للجهاد إلى بلادهم وقبائلهم
وكتب إلى البلاد بتسريح المساجين وتفريق الصدقات في جميع عمله وتسمى بالأمير ثم
ارتحل إلى مراكش فدخلها وأقام بها وكتب إلى جميع أهل طاعته من الموحدين يطلبهم
بالبيعة فأتته البيعة من جميع بلاد إفريقية والمغرب والأندلس ما خلا قرطبة وبجاية
فإن ولاتهما وهما أخواه توقفا عن ذلك وانتشر خبر أمير المؤمنين يوسف في أقطار
____________________
البلاد وأدان له من بالعدوتين
من العباد وفرق الأموال في القبائل والأجناد
وفي سنة تسع وخمسين وخمسمائة قدم عليه أخواه السيد أبو محمد صاحب بجاية والسيد أبو
عبد الله صاحب قرطبة تائبين مبايعين وقدم معهما أشياخ بلديهما وفقهائهما فوصلهم
أمير المؤمنين يوسف بالأموال والخلع وأحسن إليهم
وفي هذه السنة ثار مرزدغ الصنهاجي من صنهاجة مفتاح وضرب السكة باسمه وكتب فيها
مرزدغ الغريب نصره الله عن قريب وكانت ثورته ببلاد غمارة فبايعه خلق كثير من غمارة
وصنهاجة وأوربة فأفسد تلك الناحية ودخل مدينة تازا وقتل بها خلقا كثيرا وسبى فبعث
إليه أمير المؤمنين يوسف جيشا من الموحدين فقتل وحمل رأسه إلى مراكش
وفي سنة ستين وخمسمائة كانت وقعة الجلاب بالأندلس بين السيد أبي سعيد بن عبد
المؤمن وجيوش الفرنج مع ابن مردنيش وكانت الفرنج ثلاثة عشر ألفا فهزم ابن مردنيش
وقتل من معه من الفرنج بأجمعهم وكتب السيد أبو سعيد بالفتح إلى أخيه أمير المؤمنين
يوسف
وفي سنة إحدى وستين وخمسمائة عقد أمير المؤمنين يوسف على بجاية لأخيه السيد أبي
زكرياء وعلى إشبيلية للشيخ أبي عبد الله محمد بن إبراهيم ثم أدال منه بأخيه السيد
أبي إبراهيم وأقر الشيخ أبي عبد الله على وزارته وعقد على قرطبة لأخيه السيد أبي
إسحاق وأقر السيد أبا سعيد على غرناطة
ثم نظر الموحدون في وضع العلامة المكتوبة بخط الخليفة فاختاروا الحمد لله وحده لما
وقفوا عليها بخط الإمام المهدي في بعض مخاطباته فكانت علامتهم إلى آخر دولتهم
والله أعلم
____________________
ثورة سبع بن منغفاد بجبال
غمارة
وفي سنة إحدى وستين وخمسمائة ثار سبع بن منغفاد وسماه ابن أبي زرع يوسف بن منغفاد
بجبل تيزيران من بلاد غمارة وعظمت الفتنة في قبائلها وجاذبهم فيها جيرانهم من
صنهاجة فبعث إليهم أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن عساكر الموحدين إلى نظر الشيخ
أبي حفص الهنتاتي ثم تعاظمت فتنة غمارة وصنهاجة فخرج إليهم أمير المؤمنين بنفسه
وأوقع بهم واستأصلهم وقتل سبع بن مغفاد وحمل رأسه إلى مراكش وانحسم داؤهم وعقد
يوسف لأخيه السيد أبي علي الحسن على سبتة وسائر بلادهم
وفي سنة ثلاث وستين اجتمع الموحدون على تجديد البيعة ليوسف بن عبد المؤمن واللقب
بأمير المؤمنين وذلك في جمادى الآخرة منها وخاطب العرب بإفريقية يستدعيهم إلى
الغزو ويحرضهم وكتب إليهم في ذلك بقصيدة ورسالة مشهورة بين الناس فكان من احتفالهم
ووفودهم عليه ما هو معروف
وفي سنة أربع وستين بعدها وفد عليه أهل الأمصار من إفريقية والمغرب والأندلس
القضاة والفقهاء والخطباء والشعراء والأشياخ والأعيان برسم التهنئة والمطالعة
بأحوال بلادهم فوصلت الوفود إلى مراكش فدخلوا عليه وهنؤوه بالخلافة ووصل الجميع كل
على قدره وأوصاهم بما اقتضاه الحال وكتب لهم الظهائر بمطالبهم وإصلاح شؤونهم
وانصرفوا شاكرين
وفي هذه السنة أيضا بعث أمير المؤمنين الشيخ أبا حفص الهنتاتي في جيوش الموحدين
إلى الأندلس لاستنقاذ بطليوس من حصار العدو واحتفل أمير المؤمنين في ذلك فلما
انتهوا إلى إشبيلية بلغه أن الموحدين وأهل بطليوس هزموا العدو وأسروا قائد جيشه
فسار الشيخ أبو حفص إلى قرطبة
____________________
وفي سنة خمس وستين بعدها وجه يوسف بن عبد المؤمن أخاه السيد أبا حفص إلى الأندلس
برسم الجهاد فعبر البحر من قصر المجاز إلى طريف في عشرين ألفا من الموحدين
والمتطوعة فدخلوا بلاد العدو وبعث السيد أبو حفص أخاه السيد أبا سعيد إلى بطليوس
فعقد الصلح مع الطاغية ابن أذفونش وهو يومئذ أعظم ملوك فرنج الجزيرة وانصرف ونهضوا
جميعا إلى مرسية ومعهم إبراهيم بن همشك كان من قواد ابن مردنيش فنزع عنه إلى
الموحدين فحاصروا ابن مردنيش الثائر بمرسية وأعمالها واستولوا على أكثر بلاده
واتصل الخبر بالخليفة بمراكش وقد خف إلى الجهاد
وفي سنة ست وستين أمر أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن ببناء قنظرة تانسيفت وكان
الشروع في بنائها يوم الأحد ثالث صفر من السنة المذكورة الجواز الأول لأمير
المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن إلى الأندلس بقصد الجهاد
لما اتصل بأمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن ما اتفق لشقيقه السيد أبي حفص من
الاستيلاء على غالب بلاد ابن مردنيش وظهور المسلمين على عدوهم بها وكان بعض ملوك
الفرنج بها لم يزالوا يشغبون على المسلمين بالغارات على أطراف بلادهم تاقت نفسه
إلى العبور إلى بلاد الأندلس بقصد إصلاح حالها وجهاد العدو بها وقد توافدت لديه
وهو بمراكش جموع العرب من إفريقية صحبة السيد أبي زكريا صاحب بجاية والسيد أبي
عمران صاحب تلمسان
وكان يوم قدومهم عليه يوما مشهودا فاعترضهم وسائر عساكرهم
____________________
ونهض إلى الأندلس في مائة ألف
من العرب والموحدين واستخلف على مراكش أخاه السيد أبا عمران فاحتل بقرطبة سنة سبع
وستين وخمسمائة ثم ارتحل بعدها إلى إشبيلية ولقيه السيد أبو حفص هنالك منصرفا من
بعض غزواته
ولما نزل أمير المؤمنين يوسف بإشبيلية خافه محمد بن مردنيش وحمل على قلبه فمرض
ومات وقيل إن أمه سمته لأنه كان قد أساء إلى خواصه وكبراء دولته فنصحته فتهددها
وخافت بطشه فسمته ولما مات محمد بن مردنيش جاء أولاده وإخوته إلى أمير المؤمنين
يوسف بن عبد المؤمن وهو بإشبيلية فسلموا إليه جميع بلاد شرق الأندلس التي كانت
لأبيهم فأحسن إليهم أمير المؤمنين وتزوج أختهم وأصبحوا عنده في أعز منزلة وصنع في
وليمتها مهرجانا عظيما يقصر الوصف عنه
ولما صفت لأمير المؤمنين يوسف الأندلس خرج من إشبيلية غازيا بلاد العدو فنزل على
مدينة له تسمى وبذة فأقام محاصرا لها شهورا إلى أن اشتد عليهم الحصار وعطشوا
فراسلوه في تسليم المدينة وأن يعطيهم الأمان على نفوسهم فامتنع من ذلك فلما اشتد
بهم العطش سمع لهم في بعض الليالي لغط عظيم وأصوات هائلة وذلك أنهم اجتمعوا بأسرهم
ودعوا الله تعالى فجاءهم مطر عظيم ملأ ما كان عندهم من الصهاريج فارتووا وتقووا
على المسلمين فانصرف عنهم إلى إشبيلية بعد أن هادنهم مدة سبع سنين
فليعتبر الواقف على هذه القضية وليعلم أن هؤلاء الكفار جاحدون ينسبون إلى الله
تعالى ما لا يليق به من التثليث وأنواع الكفر ومع ذلك لما انقطع رجاؤهم ورجعوا
إليه تعالى بالاضطرار الصادق رحمهم سبحانه وهو أرحم الراحمين فلا ينبغي بعد هذا
للمؤمن الموحد إذا حصل في شدة أن ييأس من رحمة الله فإنه { لا ييأس من روح الله
إلا القوم الكافرون } والسر في الاضطرار فإنه عند أرباب البصائر هو اسم الله
الأعظم الذي
____________________
إذا دعي به أجاب وإذا سئل به
أعطى اللهم اجعلنا يا مولانا عندك من المرحومين واجعل كل من يرحمنا عندك من
المرحومين فأنت أهل ذلك والقادر عليه
ثم بلغ أمير المؤمنين خروج العدو إلى أرض المسلمين مع القومس الأحدب فخرج إليهم
وأوقع بهم بناحية قلعة رباح وأثخن فيهم ورجع إلى إشبيلية
وفي هذه السنة أعني سنة سبع وستين وخمسمائة شرع أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن
في بناء جامع إشبيلية فتم وصليت به الجمعة في ذي الحجة منها
وفي هذه السنة أيضا عقد أمير المؤمنين الجسر على وادي إشبيلية بالقوارب وبنى
قصبتها الداخلية وبنى الزلاليق للسور وبنى سور باب جوهر وبنى الرصفان المتدرجة
بضفتي الوادي وجلب الماء من قلعة جابر حتى أدخله إشبيلية وأنفق في ذلك أموالا لا
تحصى
ثم انتقض ابن أذفونش وأغار على بلاد المسلمين فاحتشد الخليفة وسرح السيد أبا حفص
إليه فغزاه بعقر داره وافتتح قنصرة بالسيف وهزم جموعه في كل جهة
ثم ارتحل الخليفة من إشبيلية راجعا إلى مراكش سنة إحدى وسبعين لخمس سنين من إجازته
إلى الأندلس وعقد على قرطبة لأخيه أبي الحسن وعلى إشبيلية لأخيه أبي علي
وأصاب مراكش طاعون فهلك من السادة أبو عمران وأبو سعيد وأبو زكريا وقدم الشيخ أبو
حفص الهنتاتي من قرطبة فهلك في طريقه ودفن بمدينة سلا وهو جد الملوك الحفصيين
أصحاب تونس وإفريقية
واستدعى الخليفة أخويه السيدين أبا علي وأبا الحسن فعقد لأبي علي على سجلماسة ورجع
أبو الحسن إلى قرطبة وعقد لابني أخيه السيد أبي حفص لأبي زيد منهما على غرناطة
ولأبي محمد على مالقة=
ج2. الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى
أبو العباس أحمد بن خالد بن محمد الناصري
سنة الولادة 22/ذو الحجة/ 1250هـ /1835م/ سنة الوفاة
وفي سنة ثلاث وسبعين سطا بذرية بني جامع وزرائه وغربهم إلى ماردة
وفي سنة خمس وسبعين وخمسمائة عقد لغانم بن محمد بن مردنيش على أسطوله وأغزاه مدينة
أشبونة فغنم ورجع
وفيها كانت وفاة أخيه الوزير السيد أبي حفص بن عبد المؤمن بعد ما أبلى في الجهاد
وبالغ في نكاية العدو وتقدم ابناه من الأندلس فأخبرا الخليفة بانتقاض الطاغية
واعتزم على الجهاد وأخذ في استدعاء العرب من إفريقية والله تعالى أعلم غزو أمير
المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن بلاد إفريقية وفتح مدينة قفصة والسبب في ذلك
كانت قفصة من بلاد إفريقية قد استبد بها بنو الرند أواخر دولة صنهاجة من بني زيري
بن مناد كان جدهم عبد الله بن محمد بن الرند عاملا لهم بها فتوارثها بنوه من بعده
فاستبدوا بها آخر الدولة ولما غزا عبد المؤمن بلاد إفريقية استنزلهم في جملة من
استنزل من الثوار بها ولما مات عبد المؤمن وبويع ابنه يوسف بلغه سنة أربع وسبعين
وخمسمائة أن بعض بني الرند قد عاد إلى قفصة وثار بها فاضطربت لأجل ذلك أحوالها
فنهض إليها في سنة خمس وسبعين بعدها فانتهى إلى إفريقية ونزل على مدينة قفصة وضيق
عليها بالقتال والحصار حتى دخلها وظفر بابن الرند القائم بها فقتله وذلك في سنة ست
وسبعين وخمسمائة
ثم عاد إلى مراكش فدخلها في سنة سبع وسبعين بعدها هكذا في القرطاس ونحوه لابن
خلدون في أخبار بني عبد المؤمن
وذكر عند الكلام على بني الرند وجها آخر فقال كان عبد المؤمن قد ولى على قفصة
عمران بن موسى الصنهاجي فأساء إلى الرعية فبعثوا عن
____________________
علي بن العزيز بن المعتز
الرندي من بجاية وكان بها في مضيعة يحترف بالخياطة فقدم عليهم وثاروا بعمران بن
موسى عامل الموحدين فقتلوه وقدموا مكانه علي بن العزيز فساس ملكه وحاط رعيته
وأغزاه يوسف بن عبد المؤمن سنة ثلاث وستين وخمسمائة أخاه السيد أبا زكرياء فحاصره
وضيق عليه وأخذه وأشخصه إلى مراكش بأهله وماله واستعمله على الأشغال بمدينة سلا
إلى أن هلك بها وفنيت دولة بني الرند والبقاء لله وحده اه كلامه فالله أعلم أي ذلك
كان
وفي سنة ثمان وسبعين وخمسمائة خرج أمير المؤمنين يوسف من مراكش لبناء حصن أزكندر
فبناه على المعدن الذي ظهر هنالك . الجواز الثاني لأمير المؤمنين يوسف ابن عبد
المؤمن إلى الأندلس برسم الجهاد وما يتصل بذلك من وفاته رحمه الله
لما قدم أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن من فتح قفصة سنة سبع وسبعين وخمسمائة
قدم عليه ولاة الأندلس ورؤساؤها يهنئونه بالإياب فأكرم وفادتهم وانصرفوا
ثم بلغه الخبر بأن أذفونش بن سانجة نازل قرطبة وشن الغارات على جهة مالقة ورندة
وغرناطة ثم نزل إستجة وتغلب على حصن شقيلة وأسكن به النصارى وانصرف
فاستنفر السيد أبو إسحاق سائر الناس للغزو ونازل الحصن نحوا من أربعين يوما ثم
بلغه خروج أذفونش من طليطلة بمدده فانكفا راجعا وخرج محمد بن يوسف بن وانودين من
إشبيلية في جموع الموحدين ونازل طلبيرة فبرز إليه أهلها فأوقع بهم وانصرف بالغنائم
فاعتزم الخليفة يوسف بن عبد المؤمن على معاودة الجهاد وولى على
____________________
الأندلس أمناءه وقدمهم
للإحتشاد فعقد لابنه السيد أبي زيد على غرناطة ولابنه السيد أبي عبد الله على
مرسية ونهض سنة تسع وسبعين وخمسمائة
وفي القرطاس كان خروجه من مراكش في التاريخ المذكور على باب دكالة قال برسم غزو
إفريقية فلما وصل إلى سلا أتاه أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن جامع من إفريقية
فأعلمه بهدوئها وسكونها فصرف عزمه إلى الأندلس فنهض من سلا ضحوة يوم الخميس الموفي
ثلاثين من ذي القعدة من السنة المذكورة فنزل بظاهرها وبات هناك ثم نهض يوم الجمعة
الموالي له فوصل إلى مكناسة يوم الأربعاء السادس من ذي الحجة فعيد بها عيد الأضحى
خارجها ثم ارتحل إلى فاس فدخلها وأقام بها بقية الشهر
ثم دخلت سنة ثمان وخمسمائة ففي اليوم الرابع بها نهض من فاس وسار حتى انتهى إلى
سبتة فأقام بها بقية الشهر المحرم وأمر الناس بالجواز إلى الأندلس فجازت قبائل
العرب أولا ثم قبائل زناتة ثم المصامدة ثم مغراوة وصنهاجة وأوربة وأصناف البربر ثم
عبرت جيوش الموحدين والأغزاز والرماة فلما استكمل الناس الجواز عبر هو في آخرهم في
الحاشية والعبيد
وكان جوازه يوم الخميس خامس صفر من السنة المذكورة فنزل بجبل الفتح ثم ارتحل منه
إلى الجزيرة الخضراء ثم سار إلى إشبيلية فلما أشرف عليها يوم الجمعة الثالث
والعشرين من صفر خرج إليه ولده السيد أبو إسحاق ومعه فقهاء إشبيلية وأشياخها فبعث
إليهم يأمرهم بالوقوف بآخر المنية حتى يصل إليهم فلما صلى الظهر وركب اجتاز بهم
فلما دنا منهم نزلوا عن دوابهم فوقف لهم حتى سلموا عن آخرهم وركبوا
ثم نهض إلى غزو مدينة شنترين من بلاد غرب الأندلس فانتهى إليها في السابع من ربيع
الأول فنزل عليها وأدار به الجيوش وشدد عليها في
____________________
الحصار والقتال وبذل المجهود
إلى ليلة الثاني والعشرين من ربيع المذكور فانتقل من موضع نزوله بجوفي شنترين إلى
غربها فأنكر المسلمون ذلك ولم يعلموا له سببا فلما جن الليل وصلى العشاء الآخرة
بعث إلى ولده السيد أبي إسحاق صاحب إشبيلية فأمره بالرحيل من غد تلك الليلة لغزو
أشبونة وشن الغارات على أنحائها وأن يسير إليها في جيوش الأندلس خاصة وأن يكون
رحيله نهارا فأساء الفهم وظن أنه أمره بالرحيل ليلا وصرخ الشيطان في محلة المسلمين
أن أمير المؤمنين قد عزم على الرحيل في هذه الليلة وتحدث الناس بذلك وتأهبوا له
ورحلت طائفة منهم بالليل ولما كان قرب الفجر أقلع السيد أبو اسحاق وأقلع من كان
مواليا له وتتابع الناس بالرحيل وتسابقوا لاختيار المنازل وأمير المؤمنين مقيم في
مكانه لا علم له بذلك فلما أصبح وصلى الصبح وأضاء النهار لم يجد حوله من أهل
المحلات أحدا إلا يسيرا من خاصته وحشمه الذين يرحلون لرحيله وينزلون لنزوله وإلا
قواد الأندلس فإنهم الذين كانوا يسيرون أمام ساقته وخلف محلته من أجل من يتخلف
عنها من الضعفاء فلما طلعت الشمس وتطلع النصارى المحصورون على المحلة من سور البلد
ورأوا أمير المؤمنين منفردا في عبيده وحشمه وتحققوا ذلك من جواسيسهم فتحوا البلد
وخرج جميع من فيه خرجة منكرة وهم ينادون الري الري أي أقصدوا السلطان فضربوا في
محلة العبيد إلى أن وصلوا إلى أخبية أمير المؤمنين فمزقوها واقتحموها فبرز إليهم
وقاتلهم بسيفه حتى قتل ستة منهم ثم طعنوه طعنة نافذة وقتل عليه ثلاث من جواريه كن
قد أكببن عليه ولما طعن وقع بالأرض وتصايح العبيد ونادوا بالفرسان والأجناد فتراجع
المسلمون وقاتلوا النصارى حتى أزاحوهم عن الأخبية واشتد القتال بينهم وتواقفوا
ساعة ثم انهزم الفرنج وركبهم المسلمون بالسيف حتى أدخلوهم المدينة وقتل منهم خلق
كثير يزيدون على العشرة آلاف واستشهد من المسلمين جماعة وركب أمير المؤمنين يوسف
____________________
وقد أنفذته الطعنة وارتحل
الناس ولا يدرون أين ثم اهتدوا بالطبول فقصدوا جهة إشبيلية ثم سار أمير المؤمنين
يريد العبور إلى المغرب فاشتد ألمه ومات بالطريق رحمه الله قاله ابن مطروح
وكانت وفاته يوم السبت العاشر من شهر ربيع الآخر سنة ثمانين وخمسمائة قرب الجزيرة
الخضراء فحمل إلى تينملل فدفن بها إلى جنب قبر أبيه وقيل إنه لم يمت حتى وصل إلى
مراكش وكان ولده يعقوب الخليفة بعده هو الذي يدخل على ابيه ويخرج ويصرف الأمور بين
يديه من يوم طعن إلى أن مات قالوا وكتم ولده موته حتى وصل إلى مدينة سلا فأفشاه
وكان قبل موته بأشهر كثيرا ما ينشد قول الشاعر ويردده
( طوى الجديدان ما قد كنت أنشره ** وأنكرتني ذوات الأعين النجل )
ورثاه الأديب أبو بكر يحيى بن مجير بقصيدة طويلة أجاد فيها وأولها
( جل الأسى فأسل دم الأجفان ** ماء الشؤون لغير هذا الشان ) بقية أخبار أمير
المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن وسيرته
قال ابن خلكان كان يوسف بن عبد المؤمن أبيض تعلوه حمرة شديد سواد الشعر مستدير
الوجه أفوه أعين إلى الطول ما هو في صوته جهارة رقيق حواشي الطبع حلو الألفاظ حسن
الحديث طيب المجالسة أعرف الناس كيف تكلمت العرب وأحفظهم لأيامها في الجاهلية
والإسلام صرف عنايته إلى ذلك ولقي فضلاء إشبيلية أيام ولايته بها وكان فقيها حافظا
متفننا لأن أباه هذبه وقرن به وبإخواته أكمل رجال الحرب والمعارف فنشأ في ظهور
الخيل بين أبطال الفرسان وفي قراءة العلم بين أفاضل العلماء وكان ميله إلى الحكمة
والفلسفة أكثر من ميله إلى الأدب وبقيه العلوم ويقال إنه كان يحفظ صحيح البخاري
وكان يحفظ القرآن
____________________
الكريم مع جملة صالحة من الفقه
ثم طمح إلى علم الحكمة وبدأ من ذلك بعلم الطب وجمع من كتب الحكمة شيئا كثيرا
وكان ممن صحبه من العلماء بهذا الشأن الوزير أبو بكر محمد بن طفيل كان متحققا
بجميع أجزاء الحكمة قرأ على جماعة من أهلها منهم أبو بكر بن الصائغ المعروف بابن
باجة وغيره ولابن طفيل هذا تصانيف كثيرة
وكان يوسف بن عبد المؤمن حريصا على الجمع بين علم الشريعة والحكمة ولم يزل يجمع
إليه العلماء من كل فن من جميع الأقطار ومن جملتهم القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد
بن محمد بن رشد المعروف بالحفيد
وكان يوسف بن عبد المؤمن شديد الملوكية بعيد الهمة جماعا مناعا ضابطا لخراج مملكته
عارفا بسياسة رعيته وكان سخيا جوادا في محل السخاء والجود قد استغنى الناس في
أيامه وكان من ضبطه وسياسته ربما يحضر حتى لا يكاد يغيب حتى لا يكاد يحضر وله في
غيبته نواب وخلفاء وحكام قد فوض الأمور إليهم لما علم من صلاحهم وأهليتهم لذلك
قال ابن خلكان والدنانير اليوسفية المغربية منسوبة إليه
ومما يستطرف من أخباره رحمه الله أن الأديب أبا العباس أحمد بن عبد السلام
الكرواني وكروان قبيلة من البربر منازلهم بضواحي فاس كان نهاية في حفظ الأشعار
القديمة والمحدثة وتقدم في هذا الشأن وله فيه تآليف وكان مع ذلك صاحب نوادر جالس
بها عبد المؤمن ثم ولده يوسف ثم ولده يعقوب
فمن نوادره أنه حضر يوما إلى باب أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن المذكور وحضر
إليه أيضا الطبيب سعيد الغماري فقال أمير
____________________
المؤمنين لبعض خدمه انظر من
بالباب من الأصحاب فخرج الخادم ثم عاد إليه فقال يا سيدي بهامد الكرواني وسعيد
الغماري فقال أمير المؤمنين يوسف من عجائب الدنيا شاعر نم كروان وطبيب من غمارة
فبلغ ذلك الكرواني وضرب لنا مثلا ونسي خلقه أعجب منهما والله خليفة من كومية فيقال
إن أمير المؤمنين يوسف لما بلغه ذلك قال أعاقبه بالحلم عنه ففيه تكذيب له ومن شعر
الكرواني من جملة قصيدة يمدح بها أمير المؤمنين يوسف المذكور وهو بديع
( إن الإمام هو الطبيب وقد شفا ** علل البرايا ظاهرا ودخيلا ص )
( حمل البسيطة وهي تحمل شخصه ** كالروح يوجد حاملا محمولا ) الخبر عن دولة أمير
المؤمنين المنصور بالله يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي
قال ابن خلدون لما توفي الخليفة يوسف بن عبد المؤمن على حصن شنترين في التاريخ
المتقدم بويع ابنه أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ورجع بالناس إلى إشبيلية
فاستكمل البيعة واشتوزر الشيخ أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاتي واستنفر
الناس للغزو مع أخيه السيد يحيى فاستولى على بعض الحصون وأثخن في بلاد الكفارة ثم
أجاز البحر إلى الحضرة
ولقيه بقصر مصمودة السيد أبا زكريا ابن السيد أبي حفص قادما من تلمسان مع مشيخة
بني زغبة من عرب هلال ومضى إلى مراكش فغير المناكر وبسط العدل ونشر الحكام اه وفيه
نوع مخالفة لما قدمناه
وقال ابن أبي زرع لما تمت له البيعة وطاعت له الأمة كان أول شيء فعله أن أخرج مائة
ألف دينار ذهبا من بيت المال ففرقها في الضعفاء من بيوتات المغرب وكتب إلى جميع
بلاده بستريح السجون ورد المظالم التي
____________________
ظلمها العمال في أيام أبيه
وأكرم الفقهاء وراعى الصلحاء وأهل الفضل وأجرى على أكثرهم الإنفاق من بيت المال
وفرق في الموحدين وسائر الأجناد أموالا جمة وكان أول شيء حدث في دولته شأن بني
غانية المسوفيين أصحاب جزيرة ميورقة وأعمالها فلنأت بشيء من ذلك خروج علي بن إسحاق
المسوفي المعروف بابن غانية على يعقوب المنصور
قد تقدم لنا في أخبار الدولة اللمتونية أن أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين
اللمتوني كان قد استعمل على الجزائر الشرقية من بلاد الأندلس وهي ميورقة ومنورقة
ويابسة محمد بن علي بن يحيى المسوفي المعروف بابن غانية وهي أهمهم فتوارثها بنوه
من بعده إلى أيام يوسف بن عبد المؤمن فبعث إليه محمد بن إسحاق بن محمد المسوفي
المذكور بالطاعة فقبل ذلك يوسف بن عبد المؤمن وبعث إليه قائده علي بن الروبرتير
ليختبر أمره ويعقد له البيعة عليه ويؤكد الأمر في ذلك
وكان لمحمد بن إسحاق المذكور عدة اخوة يساهمونه في الرياسة فلما انتهى إليهم ابن
الروبرتير وعلموا الأمر الذي قدم لأجله أنكروا على أخيهم ذلك لأنه لم يكن أعلمهم
بمكاتبة يوسف بن عبد المؤمن فخلصوا نجيا دونه وتقبضوا عليه وعلى ابن الروبرتير
وقدموا مكانه أخاهم علي بن إسحاق بن محمد ثم بلغهم خبر وفاة يوسف بن عبد المؤمن
وولاية ابنه يعقوب المنصور فركب علي بن إسحاق أسطوله وطرق بجاية على حين غفلة من
أهلها وعليها يومئذ السيد أبو الربيع بن عبد الله بن عبد المؤمن
وكان خارجا في بعض مذاهبه فاستولى عليها ابن غانية في صفر سنة إحدى وثمانين
وخمسمائة
____________________
وحكى ابن أبي زرع في استيلاء ابن غانية على بجاية وجها آخر قال دخل الميورقي وهو
علي بن إسحاق المذكور مدينة بجاية يوم الجمعة السادس من شعبان سنة ثمانين وخمسمائة
والناس في صلاة الجمعة
وكان أبواب المدن قبل ذلك لا تغلق وقت صلاة الجمعة فارتقب ابن غانية الناس حتى
أحرموا بصلاة الجمعة ثم اقتحم عليهم المدينة وعمد إلى الجامع الأعظم وأدار به
الخيل والرجل فمن بايعه خلى سبيله ومن توقف عن بيعته ضرب عنقه قال وأقام بها سبعة
أشهر ثم استرجعت من يده قال ومن ذلك اليوم اتخذ الناس غلق أبواب المدن يوم الجمعة
وقت الصلاة والله أعلم
ثم استولى علي بن إسحاق على الجزائر ثم على مازونة ثم على مليانة ثم على القلعة ثم
نازل قسنطينة فامتنعت عليه
واتصل الخبر بالمنصور فسرح السيد أبا زيد بن أبي حفص بن عبد المؤمن وعقد له على
حرب ابن غانية وعقد لمحمد بن إبراهيم بن جامع على الأساطيل وإلى نظره أبو محمد بن
عطوش وأحمد الصقلي فوصل السيد أبو زيد إلى أفريقية وشرد ابن غانية عنها إلى
الصحراء في أخبار طويلة
ثم عاود ابن غانية الإجلاب على بلاد إفريقية وظاهره على ذلك قراقوش الغزي من موالي
السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب الكردي صاحب مصر وكان قد تغلب على طرابلس وما
والاها
وبلغ المنصور أن ابن غانية قد استولى على قفصة فنهض بنفسه من حضرة مراكش ثالث شوال
سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة ووصل إلى فاس فأراح بها ثم سار إلى رباط تازا ثم سار
على التعبية إلى تونس
وجمع ابن غانية من إليه من الملثمين والعرب وجاء معه قراقوش الغزي صاحب طرابلس
فسرح إليهم المنصور مقدمة من جيشه لنظر السيد
____________________
أبي يوسف يعقوب ابن السيد أبي
حفص عمر بن عبد المؤمن فلقيهم ابن غانية في جموعه فانتصر عليهم وانهزم الموحدون
وقبل جماعة من وجوههم وأسر علي بن الروبرتير في آخرين وامتلأت أيدي العرب من
أثاثهم وأسلابهم
ووصل سرعان الناس إلى المنصور وهو بتونس فنهض إليهم في الحال ونزل القيروان ثم أغذ
السير إلى الحامة فالتقى الجمعان وأنشبوا الحرب فكانت الهزيمة على ابن غانية
وأحزابه وأفلت من المعركة بذماء نفسه ومعه خليله قراقوش وأتى القتل على أكثرهم
ثم صبح المنصور مدينة قابس وكانت في يد قراقوش فافتتحها ونقل من كان بها من حرم
ابن غانية وذويه في البحر إلى تونس وثنى العنان إلى توزر فافتتحها وقتل من وجد بها
ثم إلى قفصة فنازلها أياما حتى نزلوا على حكمه فقتل من كان بها من الحشود وهدم
سورها واستبقى أهلها وجعل أملاكهم بأيديهم على حكم المساقاة
ولما فرغ من أمر قفصة نهض إلى عرب إفريقية ففتك بهم واستباح حللهم وأموالهم وشردهم
في كل وجه ثم بعد ذلك جاؤوه تائبين خاضعين فنقل أهل الفتنة والخلاف منهم إلى
المغرب الأقصى ورجع إلى مراكش فدخلها في رجب سنة أربع وثمانين وخمسمائة الخبر عن
انتقال العرب من جزيرتهم إلى ارض إفريقية ثم منها إلى المغرب الأقصى والسبب في ذلك
أعلم أن أرض إفريقية والمغرب لم تكن للعرب بوطن في الأيام السالفة لا في الجاهلية
ولا في صدر الإسلام وإنما كان المغرب وطنا لأمة البربر خاصة لا يشاركهم فيه غيرهم
ولما جاءت الملة الإسلامية وأظهرها الله على الدين كله زحفت جيوش
____________________
المسلمين من العرب إلى أرض
المغرب في جملة ما زحف إليه من أقطار الأرض لكن العرب الداخلون إلى أرض المغرب في
ذلك العصر إنما كانوا يدخلون إليه غزاة مجاهدين على ظهور خيولهم فيقضون الوطر من
فتح الأقطار والأمصار ثم ينقلب جمهورهم إلى وطنهم ومقرهم من جزيرة العرب وإن بقي
القليل منهم به فإنما كانوا يستوطنون منه الأمصار دون البادية ويسكنون القصور دون
الخيام فلم تكن العرب تسكن المغرب يومئذ بقبائلهم وخيامهم ولا استوطنوه بأحيائهم
وحللهم كما هو شأنهم اليوم لأن الملك الذي حصل لهم والغلب الذي مكنهم الله منه كان
يمنعهم من سكنى البادية ويعدل بهم إلى الحضارة ولا بد فكانت الخيمة بأرض المغرب
معدومة رأسا أو قليلة جدا لبعض البربر ممن كان يتخذها منهم وهم قليل وإنما كان
يسكن الجمهور منهم بالمداشر وكهوف الجبال واستمر الحال على ذلك إلى أواسط المائة
الخامسة فدخلت العرب أرض إفريقية واستوطنها بحللهم وخيامهم
ثم لما كانت أواخر المائة السادسة في دولة يعقوب المنصور رحمه الله نقل الكثير
منهم إلى المغرب الأقصى فاستوطنوه بحللهم وخيامهم كذلك وصارت أرض المغرب منقسمة
بين أمتين أمة العرب أهل اللسان العربي وأمة البربر أهل اللسان البربري بعد أن
كانت بلاده خاصة بالبربر لا يشاركهم فيها غيرهم كما قلنا
واعلم أن أمة العرب تنقسم أولا إلى قسمين عدنان وقحطان ثم ينقسم كل من عدنان
وقحطان إلى شعبين عظيمين فأما عدنان وهم الإسماعيلية ذرية إسماعيل بن إبراهيم
عليهما السلام فينقسمون إلى ربيعة ومضر و أما قحطان وهم اليمانية ذرية قحطان بن
عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام فينقسمون إلى حمير وكهلان هذا
هو المعروف المشهور من نسب الفريقين وقد يذكر النسابون لكل منهما شعوبا
____________________
أخر لكنا لم نعتبرها إما
لانقراضها أو لقوة الخلاف فيها أو لقلتها جدا واندراجها فيمن ذكرناه .
ثم يتشعب كل من هذه الشعوب الأربعة إلى قبائل وعمائر وبطون وأفخاذ وفصائل لا حصر
لها لكننا ننبه على الغرض المقصود منها فنقول من جملة قبائل مضر
بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر
ومن قبائلها أيضا بنو جشم بن معاوية بن بكر بن هوازان بن منصور المذكور في النسب
السابق وقد نسبت الخنساء جشم هذا إلى جده فقالت تهجو دريد بن الصمة
( معاذ الله ينكحني حبركي ** قصير الشبر من جشم بن بكر )
ومن قبائلها أيضا بنو هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر المذكور أيضا
ومن جملة قبائل كهلان القحطانيين بنو الحارث بن كعب بن عمرو بن علة بن جلد بن مذحج
بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان وكهلان هو ابن سبا بن يشجب بن يعرب
بن قحطان
واعلم أن هؤلاء القبائل الأربعة التي ذكرناها هي التي ذكر المؤرخون أنها انتقلت
إلى أفريقية والمغرب وقد يضاف إليهم غيرهم من قبائل العرب لكنهم ليسوا بمشهورين
كالأربعة المذكورة
وأما خبر دخولهم إلى المغرب والسبب فيه فقد ذكر المؤرخون أن بني سليم بن منصور
وبني هلال بن عامر لم يزالوا بجزيرة العرب برهة من الدهر إلى أن مضى الصدر من دولة
بني العباس وكانوا أحياء ناجعة بأرض الحجاز ونجد فبنوا سليم مما يلي المدينة
المنورة وبنو هلال في جبل غزوان عند الطائف ثم تحيز بنو سليم والكثير من هلال بن
عامر إلى البحرين وعمان وصاروا جندا للقرامطة ثم غلب القرامطة على بلاد الشام
وظاهرهم على
____________________
ذلك بنو سليم وبنو هلال ثم
انتقلت دولة العبيديين من إفريقية إلى مصر وغلبوا القرامطة على الشام وانتزعوه
منهم وردوهم على أعقابهم إلى البحرين ونقلوا أشياعهم من بني سليم وبني هلال
فأنزلوهم بصعيد مصر في العدوة الشرقية من بحر النيل فأقاموا هنالك وكان لهم أضرار
بالبلاد ولما انتقلت الدولة العبيدية من إفريقية إلى مصر كما قلنا استنابوا على
إفريقية بني زيري بن مناد الصنهاجيين فملكوها وكانوا يخطبون بملوك العبيديين على
منابرهم ويضربون السكة بأسمائهم ويؤدون إليهم إتاوة معلومة وطاعة معروفة
ولما انساق ملك إفريقية إلى المعز بن باديس بن المنصور بن بلكين بن زيري بن مناد
الصنهاجي كان له رغبة في مذهب أهل السنة خالف فيه أسلافه الذين كانوا على مذهب
الشيعة الرافضة وكان الخليفة من العبيديين بمصر يومئذ المستنصر بالله معد بن
الظاهر بن الحاكم بن العزيز بن المعز لدين الله والمعز هذا هو الذي انتقل إلى مصر
وبنى مدينة القاهرة
وكان المعز بن باديس الصنهاجي لا تزال المراسلات والهدايا تختلف بينه وبين
المستنصر العبيدي صاحب مصر كما كانت أسلافهما ثم إن المعز بن باديس ركب ذات يوم
لبعض مذاهبه وذلك في أول ولايته فكبا به فرسه فنادى مستغيثا بالشيخين أبي بكر وعمر
رضي الله عنهما فسمعته العامة وكان جمهورهم سنيا فثاروا بالرافضة وقتلوهم أبرح قتل
وأعلنوا بالمعتقد الحق ونادوا بشعار الإيمان وقطعوا من الأذان حي على خير العمل
وكانت هذه الواقعة في أيام الظاهر العبيدي والد المستنصر فكاتب المعز بن باديس في
ذلك فاعتذر إليه بالعامة فأغضى عنه
واستمر ابن باديس على إقامة الدعوة لهم والمهاداة معهم وهو في أثناء ذلك يكاتب
وزيرهم القائم بأمور دولتهم أبا القاسم علي بن أحمد الجرجرائي ويستميله ويعرض ببني
عبيد وشيعتهم ويغض منهم
ثم هلك الوزير أبو القاسم سنة ست وثلاثين وأربعمائة وولي الوزارة
____________________
بعده أبو محمد الحسن بن علي
اليازوري أصله من قرى فلسطين وكان أبوه فلاحا بها فلما ولي الوزارة خاطبه المعز بن
باديس دون ما كان يخاطب به من قبله من الوزراء كان يقول في كتابه إليهم عبدكم وصار
يقول في كتاب اليازوري صنيعتكم فحقد ذلك عليه وصارت القوارص تسري من بعضهم إلى بعض
إلى أن أظلم الجو بين المعز بن باديس وبين المستنصر العبيدي ووزيره اليازوري فقطع
ابن باديس الخطبة بهم على منابره سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة وأحرق بنود المستنصر
ومحا اسمه من السبكة والطرز ودعا للقائم العباسي خليفة بغداد وجاءه خطابه وكتاب
عهده فقرئ بجامع القيروان ونشرت الرايات السود وهدمت دور الإسماعيلية
وبلغ الخبر بذلك كله إلى المستنصر بالقاهرة فقامت قيامته ففاوض وزيره أبا محمد
الحسن بن علي اليازوري في أمر ابن باديس فأشار عليه بأن يسرح له العرب من بني هلال
وبني جشم الذين بالصعيد وأن يتقدم إليهم بالاصطناع ويستميل مشايخهم بالعطاء وتولية
أعمال إفريقية وتقليدهم أمرها بدلا من صنهاجة الذين بها لينصروا الشيعة ويدافعوا
عنهم فإن صدقت المخيلة في ظفرهم بابن باديس وقومه صنهاجة كانوا أولياء للدولة
وعمالا بتلك القاصية وارتفع عدوانهم من ساحة الخلافة وإن كانت الأخرى فلها ما
بعدها وأمر العرب على كل حال أهون على الدولة من أمر صنهاجة الملوك
فبعث المستنصر وزيره إلى هؤلاء الأحياء وأرضخ لأمرائهم في العطاء ووصل عامتهم
ببعير ودينار لكل واحد منهم وأباح لهم إجازة النيل وقال لهم قد أعطيناكم المغرب
وملك ابن باديس العبد الآباق فلا تفتقرون بعدها
وكتب اليازوري إلى المعز أما بعد فقد أنفذنا إليكم خيولا فحولا وأرسلنا عليها
رجالا كهولا ليقضي الله أمرا كان مفعولا
فشرهت العرب إذ ذاك وعبروا النيل إلى برقة فنزلوا بها واستباحوها
____________________
وافتتحوا أمصارها وأعجبتهم
البلاد فكتبوا لإخوانهم الذين بقوا شرقي النيل يرغبونهم في البلاد فأجازوا إليهم
بعد أن أعطوا للمستنصر لكل رأس دينارين فأخذ منهم أضعاف ما أخذوه وتقارعوا على
البلاد فحصل لبني سليم شرقها ولبني هلال غربها ثم انتشروا في أقطار أفريقية مثل
الجراد لا يؤمرون بشيء إلا أتوا عليه
وبالجملة فلم تمر إلا مدة يسيرة حتى استولوا على ضواحي إفريقية ونازلوا أمصارها
واقتضوا من أهلها الإتاوة وحضروا ابن باديس في مصره وصاهرهم ببناته تأليفا لهم ومع
ذلك فلم يجد شيئا والحديث في ذلك طويل وليس تتبعه من غرضنا
قال ابن خلدون ولهؤلاء الهلاليين في الحكاية عن دخولهم إلى إفريقية طرق يزعمون أن
الشريف ابن هاشم كان صاحب الحجاز ومكة ويسمونه شكر بن أبي الفتوح وأنه أصهر إلى
الحسن بن سرحان في أخته جازية فأنكحه إياها وولدت منه ولدا واسمه محمد وإنه حدث
بينهم وبين الشريف المذكور مغاضبة وفتنة فأجمعوا الرحلة عن أرض نجد إلى إفريقية
وتحيلوا عليه في استرجاع أختهم جازية المذكورة فطالبته بزيارة أبويها فأزارها
إياهم وخرج بها إلى حللهم وأقام معها مدة الزيارة فارتحلوا به وبها وكتموا رحلتهم
عنه وموهوا عليه بأنهم يباكرون به للصيد والقنص ويروحون به إلى بيوتهم بعد بنائها
فلم يشعر بالرحلة إلى أن فارق موضع ملكه وصار حيث لا يملك أمرها عليهم ففارقوه
ورجع إلى مكانه من مكة وبين جوانحه من حبها داء دخيل وأنها من بعد ذلك كلفت به مثل
ما كلف بها الى ان ماتت من حبه ويتناقلون من أخبارها في ذلك ما يعفي على خبر قيس
وليلى ويروون كثيرا من أشعارها محكمة المباني مثقفة الأطراف وفيها المطبوع والمنتحل
والمصنوع لم يفقد فيها من البلاغة شيء وإنما فقد منها الإعراب فقط ولا مدخل له في
البلاغة
وفي هذه الأشعار شيء كثير دخلته الصنعة وفقدت فيه صحة الرواية
____________________
فلذلك لا يوثق به ولو صحت
روايته لكانت فيه شواهد بآياتهم ووقائعهم مع زناتة وحروبهم وضبط لأسماء رجالاتهم
وكثير من أحوالهم لكنا لا نثق بروايتها وربما يشعر البصير بالبلاغة بالمصنوع منها
وغيره وهم متفقون على الخبر عن حال جازية هذه والشريف خلفا عن سلف وجيلا عن جيل
ويكاد القادح فيها والمستريب في أمرها أن يرمى عندهم بالجنون لتواترها بينهم
وهذا الشريف الذي يشيرون إليه هو من الهواشم وهو شكر بن أبي الفتوح الحسن بن جعفر
بن أبي هاشم محمد بن الحسن بن محمد الأكبر ابن موسى الثاني ابن عبد الله أبي
الكرام بن موسى الجون بن عبد الله الكامل بن حسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن
أبي طالب رضي الله عنه
وأبو الفتوح هو الذي خطب لنفسه بمكة أيام الحاكم العبيدي وبايع له بنو الجراح
أمراء طيىء بالشام وبعثوا عنه فوصل إلى أحيائهم وبايع له كافة العرب ثم غلبتهم
عساكر الحاكم العبيدي ورجع إلى مكة وهلك سنة ثلاثين وأربعمائة فولي بعده ابنه شكر
هذا وهلك سنة ثلاث وخمسين وولي بعده ابنه محمد الذي يزعم هؤلاء الهلاليون أنه من
جازية هذه
وقال ابن حزم إن شكر بن أبي الفتوح لم يولد له قط وإنما صار أمر مكة من بعده إلى
عبد كان له
وقال ابن خلدون بل أخبرني من أثق به من الهلاليين لهذا العهد أنه وقف على بلاد
الشريف شكر بن أبي الفتوح وأنها بقعة من أرض نجد مما يلي الفرات وإن ولده بها لهذا
العهد والله أعلم
واعلم أن جازية بنت سرحان هذه كانت من بني دريد بن أثبج بن أبي ربيعة بن نهيك بن
هلال بن عامر بن صعصعة فهي هلالية أثبجية دريدية ومن مزاعمهم أنها لما صارت إلى
إفريقية وفارقت الشريف ابن هاشم المذكور خلفه عليها منهم ماضي بن مقرب من رجالات
دريد فأقامت
____________________
عنده مدة ثم غاضبته ولحقت
بأخيها الحسن بن سرحان فمنعها منه فقامت عشيرة ماضي بن مقرب معه وقاتلوا الحسن بن
سرحان وعشيرته وثارت الفتنة بينهم وقتل فيها الحسن بن سرحان واستمرت العداوة بينهم
إلى أيام الموحدين فهذا سبب انتقال هؤلاء العرب من الحجاز ونجد إلى إفريقية
وأما سبب انتقالهم من إفريقية إلى المغرب الأقصى فقد ذكرنا أن بني سليم بن منصور
وبني هلال بن عامر اقترعوا على بلاد إفريقية فكان لبني سليم شرقها ولبني هلال
غربها ثم تغلبوا على ضواحيها وأمصارها وضايقوا ملوكها بها
وانضم إلى بني هلال بن عامر بنو جشم بن معاوية بن بكر فعلت أيديهم على الجميع
واستمر أمرهم على ذلك إلى أن كانت دولة يعقوب المنصور الموحدي رحمه الله وثار ابن
غانية ببلاد إفريقية كما تقدم فظاهرته العرب من جشم وهلال على الموحدين وأوقعوا
بمقدمة المنصور فنهض إليهم من تونس وأوقع بالملثمين أولا ثم بالعرب ثانيا وقل
جمعهم واتبع آثارهم إلى أن شردهم إلى صحارى برقة وانتزع تلك البلاد من أيديهم ثم
راجعوا بصائرهم فأتوه طائعين خاضعين حسبما قدمنا الخبر عن ذلك مستوفى
وكان الذين قاتلوه أولا ثم راجعوا طاعته ثانيا هم قبائل هلال بن عامر وجشم بن
معاوية بن بكر كما قلنا وهم أصحاب غرب إفريقية وأما بنو سليم بن منصور فلم يقاتله
منهم أحد فلذلك بقي بنو سليم بأرض إفريقية
ونقل المنصور رحمه الله بني هلال وبني جشم إلى المغرب الأقصى حين أتوه طائعين وكان
ذلك سنة أربع وثمانين وخمسمائة فأنزل قبيلة رياح من بني هلال ببلاد الهبط فيما بين
قصر كتامة المعروف بالقصر الكبير إلى أزغار البسيط الأفيح هناك إلى ساحل البحر
الأخضر فاستقروا بها وطاب لهم المقام وأنزل قبائل جشم بلاد تامسنا البسيط الأفيح
ما بين سلا
____________________
ومراكش وهو أوسط بلاد المغرب
الأقصى وأبعدها عن الثنايا المفضية إلى القفار لإحاطة جبل الدرن بها فلم ييمموا
بعدها قفرا ولا أبعدوا رحلة
واعلم أن هذين البسيطين يسميان اليوم في عرف عامة أهل المغرب بالغرب والحوز فالغرب
عبارة عن بلاد الهبط وأزغار وما في حكمها و الحوز عبارة عن بلاد تامسنا وما اتصل
بها إلى مراكش فكان لرياح بلاد المغرب وكان لجشم بلاد الحوز
ثم أعلم أيضا أن قبيلة رياح هم بنو رياح بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر بن
صعصعة وهم بطون كثيرة وجلهم قد بقي بأرض إفريقية والذين انتقلوا منهم إلى المغرب
الأقصى كان رئيسهم في ذلك العصر مسعود بن سلطان بن زمام الذوادي من بني ذواد بن
مرداس بن رياح فأقام معهم مدة ثم جمع جماعة من قومه وفر إلى إفريقية وذلك في حدود
التسعين وخمسمائة وأبدأ وأعاد هنالك في الإجلاب مع الثوار إلى أن هلك في بعض تلك
المدة
وأقام الباقون بعد فرار كبيرهم مسعود المذكور ببلاد الهبط وأزغار إلى أن انقرضت
دولة الموحدين وكان عثمان بن نصر رئيسهم أيام المأمون الموحدي وقتله سنة ثلاثين
وستمائة
ولما تغلب بنو مرين على ضواحي المغرب ضرب الموحدون على رياح هؤلاء البعث مع
عساكرهم فقاموا بحماية ضواحيهم وانضم إليهم بنو عسكر بن محمد المرينيون حين خالفوا
إخوانهم بني حمامة بن محمد سلف الملوك منهم فكانت بين الفريقين جولة قتل فيها عبد
الحق بن محيو بن أبي بكر بن حمامة أبو الملوك المرينيين وقتل معه ابنه إدريس
فأوجدت رياح السبيل لبني مرين على أنفسهم في طلب الثأر فأثخنوا فيهم بعد أن ملكوا
المغرب واستلحموهم قتلا وسبيا مرة بعد أخرى
وكان آخر من أوقع بهم السلطان أبو ثابت المريني سنة سبع وسبعمائة تتبعهم بالقتل
إلى أن لحقوا برؤوس الهضاب وأسنمه الربا المتوسطة في
____________________
المرج المستبحر بأزغار فصاروا
إلى عدد قليل ولحقوا بالقبائل الغارمة وذهبت رياح أدراج الرياح هذا خبرهم على
الجملة
وأما بنو جشم أصحاب تامسنا فإن المنصور لما نقلهم إليها نقل معهم قبائل أخرى كانوا
قد قاتلوه معهم ولم يكونوا ن نسبهم ولكنهم كانوا مندرجين فيهم فكان يطلق على
الجميع جشم وهؤلاء القبائل هم المقدم والعاصم من بني هلال بن عامر ثم من الأثبج
منهم وقرة من بني هلال أيضا والخلط من بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر فهؤلاء
القبائل ليسوا من جشم كما ترى ولكنهم لما انغمروا فيهم وانتقلوا إلى المغرب
بانتقالهم أطلق على الجميع جشم
فأما المقدم والعاصم فهما ابنا مشرف بن أثبج بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر
بن صعصعة وأما قرة فهم بنو قرة بن عبد مناف بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال فهؤلاء
القبائل الثلاثة أعني المقدم والعاصم وقرة هلاليون وأما الخلط فهم بطن من بني عقيل
بالتصغير
قال أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني الخلط بنو عوف وبنو معاوية ابني المنتفق
بن عامر بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة المذكور في الأنساب المتقدمة
فقد بان لك بهذا أن هذه القبائل الأربع أعني العاصم ومقدما وقرة والخلط ليسوا من
بني جشم بن معاوية بن بكر من حيث النسب وأن الثلاث الأول من بني هلال بن عامر وأن
الرابعة وهي الخلط من بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر
يجتمع الجميع كما ذكرناه أولا والله تعالى أعلم
ولنتكلم الآن على أخبار جشم على الجملة فنقول لما نزل بنو جشم ببسيط تامسنا أقاموا
به برهة من الدهر ثم تميز جمهورهم إلى العاصم ومقدم وبني جابر وسفيان والخلط
فأما مقدم والعاصم فكانوا مع إخوانهم ببسيط تامسنا المذكور وكان
____________________
للموحدين عليهم عسكرة وجباية
وكان شيخ العاصم لعهد الموحدين ثم عهد المأمون بن المنصور منهم حسن بن زيد وكان له
أثر في الفتنة التي ثارت بين المأمون وبين يحيى بن الناصر بن المنصور
ولما هلك يحيى المذكور سنة ثلاث وثلاثين وستمائة أمر الرشيد بن المأمون بقتل حسن
بن زيد المذكور مع قائد وقائد ابني عامر من شيوخ بني جابر كل منهما اسمه قائد
فقتلوا جميعا
ثم صارت الرياسة لأبي عياد وبنيه وكان رئيسهم لعهد بني مرين عياد بن أبي عياد وكان
له تلون على الدولة في النفرة تارة والاستقامة أخرى فر إلى تلمسان ورجع منها أعوام
تسعين وستمائة وفر إلى السوس ورجع منه سنة سبع وسبعمائة ولم يزل هذا دأبه وكانت له
ولاية مع السلطان يعقوب بن عبد الحق المريني من قبل ذلك ومقاماته في الجهاد معه
مذكورة وبقيت رياسته في بنيه إلى أن انقرض أمرهم وتلاشوا والله خير الوارثين
وأما بنو جابر بن جشم فكانت لهم شوكة أيضا وكان لهم أثر في الفتنة الناشئة بين
المأمون بن المنصور ويحيى بن الناصر بن المنصور فكانوا شيعة ليحيى ولما ولي الرشيد
بن المأمون أمر بقتل قائد وقائد ابني عامر وهما يومئذ شيخا بني جابر فقتلا وقتل
معهم حسن بن زيد شيخ العاصم كما تقدم وكانوا جميعا معتقلين عند الرشيد
وولي أمر بني جابر بعدهما يعقوب بن محمد بن قيطون ثم قبض عليه قائد الموحدين أبو
الحسن بن يعلو وكان ذلك بأمر أبي حفص المرتضى الموحدي وولي رياسة بني جابر بعده
إسماعيل بن يعقوب بن قيطون ثم تحيز بنو جابر هؤلاء عن أحياء جشم إلى سفح الجبل
بتادلا وما إليها يجاورون هنالك صناكة من البربر الساكنين بقنته وهضابه فيسهلون
إلى البسيط تارة ويأوون إلى الجبل في حلف البربر وجوارهم أخرى إذا دهمتهم مخافة من
السلطان
____________________
قال ابن خلدون والرياسة فيهم لهذه العصور يعني أواخر المائة الثامنة في ورديغة من
بطونهم قال أدركت شيخا عليهم لعهد السلطان أبي عنان حسين بن علي الورديغي ثم هلك
وأقيم مقامه ابنه الناصر بن حسين ولحق بهم الوزير الحسن بن عمر عند نزوعه عن
السلطان أبي سالم المريني سنة ستين وسبعمائة ونهضت إليهم عساكر السلطان فأمكنوا
منه ثم لحق بهم أبو الفضل ابن السلطان أبي سالم عند فراره من مراكش سنة ثمان وستين
ونازله السلطان عبدالعزيز المريني وأحاط به وبهم فلحق ببرابرة صناكة ثم أمكنوا منه
على مال حمل إليهم ولحق بهم أثناء هذه الفتن الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن
المريني على عهد الوزير عمر بن عبد الله المتغلب على المغرب وطلبه الوزير عمر
فأخرجوه عنهم وطال بذلك مراس الناصر هذا للفتنة فنكرته الدولة وتقبضت عليه وأودعته
السجن فمكث فيه سنين ثم تجافت عنه الدولة من بعد ذلك وأطلقته ثم رجع من المشرق
فتقبض عليه الوزير أبو بكر بن غازي المستبد بالمغرب على ولد السلطان عبد العزيز
وأودعه السجن ونقلوا الرياسة عن بيته إلى غيرهم والله تعالى مقلب الأمور
وقد يزعم كثير من الناس أن ورديغة من بني جابر ليسوا من جشم وأنهم بطن من بطون
سدراته إحدى شعوب لواتة من البربر ويستدلون على ذلك بموطنهم وجوارهم البربر والله
تعالى أعلم بحقيقة ذلك
وأما سفيان فهم الذين كانت لهم الرياسة والشوكة عند دخول العرب إلى المغرب كانت
رياستهم يومئذ في أولاد جرمون على سائر بطون جشم واستمروا على ذلك سائر أيام
الموحدين ولما ضعف أمر بني عبد المؤمن استكثروا بهم في حروبهم فكانت لهم عزة ودالة
على الدولة بسبب الكثرة وقرب العهد بالبداوة وخبوا ووضعوا في الفتن مع أعقاب
الملوك من بني عبد المؤمن المتنازعين على الملك وظاهروا البعض منهم على البعض
وساءت آثارهم بالمغرب وكان شيخهم المشهور على عهد يحيى بن الناصر الموحدي
____________________
جرمون بن عيسى السفياني وكانت
بينهم وبين الخلط عداوة فصارت الخلط شيعة للمأمون وبنيه وصارت سفيان بسبب ذلك شيعة
ليحيى بن الناصر منازعة في الخلافة بمراكش ثم قتل الرشيد ن المأمون مسعود بن حمدان
شيخ الخلط ربما نذكر بعد فصاروا إلى يحيى بن الناصر وصارت سفيان إلى الرشيد
ثم ظهر بنو مرين بالمغرب واتصلت حروبهم مع الموحدين ونزع جرمون سنة ثمان وثلاثين
وستمائة عن الرشيد ولحق بمحمد بن عبد الحق المريني حياء مما وقع له مع الرشيد وذلك
أنه نادمه ذات ليلة حتى سكر فقام يرقص طربا ثم حمل عليه وهو سكران وعربد وأساء
الأدب ثم أفاق فندم وفر إلى محمد بن عبد الحق وهلك سنة تسع وثلاثين بعدها وعلا كعب
ابنه كانون بن جرمون عند السعيد بن المأمون ثم خالف عليه عند نهوضه إلى بني مرين
سنة ثلاث وأربعين وستمائة ورجع إلى آزمور فملكها وفت ذلك في عضد السعيد فرجع عن
حركته وقصد كانون بن جرمون ففر أمامه ثم حضر معه بعد ذلك حركته إلى تلمسان وقتل
بحصن تامزردكت قبل مقتل السعيد بيوم واحد قتلته الخلط في فتنة وقعت بينهم في محلة
السعيد وهي التي جرت عليها تلك الواقعة
وقام بأمر سفيان من بعده أخوه يعقوب بن جرمون وقتل ابن أخيه محمد بن كانون وحضر مع
عمر المرتضى الموحدي حركة أمان أيملولين سنة تسع وأربعين وستمائة فرحل يعقوب عن
السلطان واختل عسكره بسبب ذلك فرجع واتبعه بنو مرين فكانت الهزيمة ثم عفا له
المرتضى عنها ثم قتله مسعود وعلي ابنا أخيه كانون بثأر أخيهما محمد سنة تسع وخمسين
وستمائة ولحقا بيعقوب بن عبد الحق المريني وقدم المرتضى ابنه عبد الرحمن فعجز عن
القيام بأمره فقدم عمه عبد الله بن جرمون فعجز أيضا فقدم مسعود بن كانون فأقام
شيخا على سفيان واستمرت حالهم مع الموحدين وبني مرين على هذا النحو من إخلاص
الطاعة والنصرة تارة والتمريض فيهما أخرى
____________________
وقال ابن خلدون واتصلت الرياسة
على سفيان في بني جرمون هؤلاء إلى عهدنا قال وأدركت شيخا عليهم لعهد السلطان أبي
عنان يعقوب بن علي بن منصور بن عيسى بن يعقوب بن جرمون بن عيسى
وكانت سفيان هؤلاء أحياء حلوا بأطراف تامسنا مما يلي آسفي وغلبتهم الخلط على
بسائطها الفسيحة وبقي من أحيائهم الحارث والكلابة ينتجعون أرض السوس وقفاره
ويطلبون ضواحي بلاد حاحة من المصامدة فبقيت فيهم لذلك شدة وبأس ورياستهم في أولاد
مطاع من الحارث وطال عيثهم في ضواحي مراكش وإفسادهم فلما استبد سلطان مراكش الأمير
عبد الرحمن بن أبي يفلوسن المريني سنة ست وسبعين وسبعمائة كما نذكر استخلصهم ورفع
منزلتهم ثم استقدمهم في بعض أيامه للعرض بخيلهم ورجلهم على العادة وشيخهم يومئذ
منصور بن يعيش من أولاد مطاع فتقبض عليهم أجمعين وقتل من قتل منهم وأودع الآخرين
سجونه فذهبوا مثلا لآخرين وخضضت شوكتهم والله قادر على ما يشاء
وأما الخلط فقد كانوا ببسيط تامسنا أولي عدد وقوة وكان شيخهم هلال بن حميدان بن
مقدم ولما ولي العادل بن المنصور الموحدي خالفوا عليه وهزموا عساكره وبعث هلال
بيعته إلى المأمون بن المنصور سنة خمس وعشرين وستمائة وتبعه الموحدون على ذلك ثم
جاء المأمون فظاهروه على أمره وتحيزت أعداؤهم إلى يحيى بن الناصر منازعه ولم يزل
هلال بن حميدان مع المأمون الى أن هلك في حركته سنته وبايع بعده لابنه الرشيد وجاء
به إلى مراكش وهزم سفيان واستباحهم ثم هلك هلال بن حميدان فولي مكانه أخوه مسعود
بن حميدان ثم خالف على الرشيد فاحتال الرشيد عليه حتى وفد عليه بمراكش فقتله في
جماعة من قومه سنة اثنتين وثلاثين وستمائة وولي أمر الخلط بعده يحيى بن هلال وفر
بقومه إلى يحيى بن الناصر وحاصروا مراكش ثم استولوا عليها وعاثوا فيها وخرج
____________________
الرشيد إلى سجلماسة ثم عاد
إليهم سنة ثلاث وثلاثين بعدها وغلبهم عليها ثم راجعوا طاعة الرشيد وطردوا يحيى بن
الناصر إلى بني معقل عرب الصحراء فتقبض الرشيد على وشاح وعلي ابني هلال وسجنهم
بآزمور سنة خمس وثلاثين وستمائة ثم أطلقهم ثم بعد ذلك غدر بمشيختهم بعد الاستدعاء
والتأنيس وقتلهم أجمعين ثم بعد ذلك حضروا مع السعيد بن المأمون حركته إلى بني عبد
الواد أصحاب تلمسان وجروا عليه الواقعة حتى قتل فيها بسبب فتنتهم مع سفيان يومئذ
فلم يزل المرتضى يعمل الحيلة فيهم إلى أن تقبض على أشياخهم سنة اثنتين وخمسين
وستمائة فقتلهم ولحق عواج بن هلال بن حميدان ببني مرين وقدم المرتضى عليهم علي بن
أبي علي من بيت الرياسة فيهم ثم رجع عواد إلى الموحدين سنة أربع وخمسين وستمائة
فأغزاه علي بن أبي علي فقتل في غزاته تلك
ثم كانت واقعة أم الرجلين لبني مرين على المرتضى سنة ستين وستمائة فنزع علي بن أبي
علي إلى بني مرين ثم صار الخلط كلهم إلى بني مرين وكانت الرياسة فيهم أول دولة بني
مرين لأبي عطية مهلهل بن يحيى الخلطي وأصهر إليه السلطان يعقوب بن عبد الحق فأنكحه
مهلهل ابنته عائشة التي كان منها ابنه السلطان أبو سعيد بن يعقوب ولم يزل مهلهل
كبيرا عليهم إلى أن هلك سنة خمس وتسعين وستمائة ثم قام بأمر الخلط ابنه عطية وكان
لعهد السلطان أبي سعيد وابنه السلطان أبي الحسن وبعثه السلطان أبو الحسن سفيرا عنه
إلى سلطان مصر الملك الناصر محمد بن قلاوون
ولما هلك عطية قام بأمر الخلط ابنه عيسى بن عطية ثم ابن أخيه رمام بن إبراهيم بن
عطية وهو الذي بلغ المبالغ من العز والترف والدالة على السلطان والقرب من مجلسه
إلى أن هلك فولي أمر الخلط بعده أخوه أحمد بن إبراهيم ثم أخوهما سليمان بن إبراهيم
ثم أخوهم مبارك بن
____________________
إبراهيم على مثل حالهم أيام
السلطان أبي عنان المريني ومن بعده إلى أن كانت الفتنة بالمغرب بعد مهلك السلطان
أبي سالم المريني واستولى على المغرب أخوه السلطان عبد العزيز وأقطع ابنه ناحية
مراكش فكان إبراهيم بن عطية هذا معه
ولما تقبض على أبي الفضل تقبض على مبارك المذكور وأودع السجن إلى أن غلب السلطان
عبد العزيز على عامر بن محمد الهنتاتي وقتله فقتل معه مبارك بن إبراهيم هذا لما
كان يعرف به من صحبته ومداخلته في الفتن كما يذكر في أخبار بني مرين وولي ابنه
محمد بن مبارك على قبيل الخلط
قال ابن خلدون إلا أن الخلط اليوم دثرت كأن لم تكن بما أصابهم من الخصب والترف منذ
مائتين من السنين بذلك البسيط الأفيح زيادة على العز والدعة فأكلتهم السنون وذهب
بهم الترف والله غالب على أمره أه
ولما انقرضت الدولة المرينية من المغرب وجاءت دولة الشرفاء السعديين وقام منهم أبو
عبد الله محمد الشيخ المعروف بالمهدي انحاشت الخلط إليه وأظهروا الخدمة والنصيحة
وغلب محمد الشيخ المذكور على فاس وأخرج أبا حسون الوطاسي عنها فذهب أبو حسون
المذكور إلى دولة الترك بالجزائر واستنصر بهم على السعديين فلبوا دعوته وقدم معه
منهم عسكر جرار إلى فاس فأخرجوا محمد الشيخ السعدي عنها بعد حروب عظيمة جرت الخلط
هؤلاء عليه فيها الهزيمة فلما استقل بالأمر محمد الشيخ المذكور خلع الخلط من
الجندية ووظف عليهم الخراج ومحا اسمهم من ديوان الخدمة ونقل أعيانهم إلى مراكش
واتخذهم رهائن عنده
ولم يزل الأمر كذلك إلى دولة السلطان أبي العباس أحمد المنصور
____________________
السعدي المعروف بالذهبي فرأى
جلاد الخلط وقتالهم يوم وادي المخازن وإبلاءهم الإبلاء الحسن فاختار النصف منهم
وردهم إلى الجندية وأبقى النصف الآخر في غمار الرعية ونقلهم إلى أزغار فاستوطنوه
فعاثوا في تلك البلاد وأكثروا فيها الفساد ومدوا أيديهم إلى أولاد مطاع فنهبوهم
وضايقوا بني حسن فكثرت الشكاية بهم إلى المنصور السعدي فضرب عليهم مغرما سبعين
ألفا فلم يزيدوا إلا شدة فضرب عليهم بعثا إلى تكرارين من أرض الصحراء فامتنعوا من
ذلك فبعث إليهم القائد موسى بن أبي جمادة العمري فانتزع منهم الخيل وأبقاهم رجالة
ثم حكم فيهم السيف فمزقهم كل ممزق ومن ثم خمدت شوكتهم ولانت للغامز قناتهم ثم
ختموا أعمالهم بفعلتهم الشنعاء التي ملأت الأفواه وأسالت من الجفون الأمواه وهي
قتلتهم ولي الله تعالى المجاهد في سبيله أبا عبد الله سيدي محمد اليعاشي المالكي
رحمه الله فما زلنا نسمع أن قبيلة الخلط إنما سلبوا العز منذ قتلهم للولي المذكور
وكان ذلك في المحرم سنة إحدى وخمسين وألف والله تعالى أعلم الخبر عن بني معقل عرب
الصحراء من أرض المغرب وتحقيق نسبهم وبيان شعوبهم وبطونهم
قال ابن خلدون هذا القبيل لهذا العهد من أوفر قبائل العرب ومواطنهم بقفار المغرب
الأقصى مجاورون لني عامر من زغبة الهلاليين في مواطنهم بقبلة تلمسان وينتهون إلى
البحر المحيط من جهة الغرب وهي ثلاثة بطون ذوي عبيد الله وذوي منصور وذوي حسان
فذوي عبيد الله منهم هم المجاورون لبني عامر ومواطنهم بين تلمسان وتاوريرت في التل
وما يواجهها من القبلة ومواطن ذوي منصور من تاوريرت إلى بلاد درعة فيستولون على
ملوية كلها إلى سجلماسة وعلى درعة وما يحاذيها من التل مثل تازا وغساسة ومكناسة
وفاس وبلاد تادلا والمعدن
____________________
ومواطن ذوي حسان من درعة إلى
البحر المحيط وينزل شيوخهم بلاد بول قاعدة السوس فيستولون على السوس الأقصى وما
إليه وينتجعون كلهم في الرمال إلى مواطن الملثمين من كدالة ومسوفة ولمتونة
وكان دخولهم إلى المغرب مع الهلاليين في عدد قليل يقال إنهم لم يبلغوا المائتين
واعترضتهم بنو سليم فأعجزوهم وتحيزوا إلى الهلالين منذ عهد قديم ونزلوا بآخر
مواطنهم مما يلي ملوية ورمال تافيلالت وجاوروا زناتة في القفار فعفوا وكثروا
وأثروا في صحارى المغرب الأقصى فغمروا رماله وتقلبوا في فيافيه وكانوا هنالك
أحلافا لزناتة سائر أيامهم وبقي منهم بإفريقية جمع قليل اندرجوا في جملة بني كعب
بن سليم وداخلوهم حتى كانوا وزراء لهم في الاستخدام للسلطان واستئلاف العرب فلما
ملكت زناتة بلاد المغرب ودخلوا إلى الأمصار والمدن أقام بنو معقل هؤلاء في القفار
وتفردوا في البيداء فنموا نموا لاكفاء له وملكوا قصور الصحراء التي اختطها زناتة
بالقفر مثل قصور السوس غربا ثم توات ثم بودة ثم تمنطيت ثم واركلان ثم تاسبيبت ثم
تيكرارين شرقا وكل واحدة من هذه وطن منفرد يشتمل على قصور عديدة ذات نخيل وأنهار
وأكثر سكانها من زناتة وبينهم فتن وحروب على رياستها فحازت عرب معقل هذه الأوطان
في مجالاتهم ووضعوا عليها الإتاوات والضرائب وصارت لهم جباية يعتدون فيها ملكا
وكانوا في تلك المدة السالفة يعطون الصدقات لملوك زناتة ويأخذونهم بالدماء
والطوائل ويسمونها جمل الرحيل وكان لهم الخيار في تعيينها ولم يكن هؤلاء العرب
يحمون من أطراف المغرب وتلوله حمى ولا يعرضون لسابلة سجلماسة ولا غيرها من بلاد
الصحراء بأذية ولا مكروه لما كان بالمغرب من اعتزاز الدين وسد الثغور وكثرة
الحامية أيام الموحدين وزناتة من بعدهم
وكان لهم بإزاء ذلك أقطاع من الدول يمدون إلى أخذه اليد السفلى
____________________
وعددهم قليل كما قلنا وإنما
كثروا بمن اجتمع إليهم من القبائل من غير نسبهم فإن فيهم من فزارة بن ذبيان بن
بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر وفيهم من أشجع بن ريث بن غطفان
أحياء كبيرة يظغنون مع بني معقل بجهات سجلماسة ووادي ملوية ولهم عدد وذكر وفيهم
الصباح من الأخضر ويقولون إنهم من ولد أخضر بن عامر وعامر هذا هو والله أعلم من
ولد رياح الهلاليين وفيهم المهاية من عياض إحدى بطون الأثبج الهلاليين وفيهم
العمور من الأثبج أيضا وفيهم بطون أخر من بني هلال وبني سليم وغيرها
وأما أنسابهم عند الجمهور فخفية ومجهولة والنسابون من عرب هلال يعدونهم من بطونهم
وهو غير صحيح وهم أعني بني معقل يزعمون أن نسبهم في أهل البيت إلى جعفر بن أبي
طالب وليس ذلك أيضا بصحيح لأن الطالبيين والهاشميين لم يكونوا أهل بادية ونجعة
هكذا ذكر ابن خلدون لكنه لم تكلم على جهينة إحدى بطون قضاعة وذكر أنهم نزلوا بلاد
الصعيد وملؤوها قال ونزل معهم في تلك المواطن من أسوان إلى قوص بنو جعفر بن أبي
طالب حين غلبهم بنو الحسن على نواحي المدينة وأخرجوهم منها فهم يعرفون بينهم
بالشرفاء الجعافرة ويحترفون في غالب أحوالهم بالتجارة اه كلامه فعلى هذا لا يبعد
أن تكون طائفة من هؤلاء الجعافرة قد انتقلوا من ارض الصعيد ودخلوا مع بني هلال الى
بلاد المغرب وأوطنوا صحراءه وهم بنو معقل المذكورون والناس مصدقون في أنسابهم
والله تعالى أعلم بحقائق الأمور
ثم قال ابن خلدون والصحيح والله أعلم من أمرهم أنهم من عرب اليمن فإن في اليمن
بطنين يسمى كل واحد منهما معقل ذكرهما ابن الكلبي وغيره فأحدهما من قضاعة بن مالك
بن حمير وهو معقل بن
____________________
كعب بن عليم بن جناب وينتهي
نسبه إلى قضاعة والآخر من بني الحارث بن كعب أصحاب نجران الذين كان منهم بنو عبد
المدان ملوك نجران في الجاهلية والإسلام وهو معقل بن كعب بن ربيعة بن كعب بن
الحارث بن كعب وينتهي نسبه إلى كهلان قال والأنسب أن يكونوا من هذا البطن الآخر
وقد عده الإخباريون في بطون هلال الداخلين إلى إفريقية لمجاورتهم في الوطن قال ومن
إملاء نسابهم أن معقلا جدهم له من الولد سجير ومحمد فولد سجير عبيد الله وثعلب فمن
عبيد الله ذوي عبيد الله البطن الكبير منهم ومن ثعلب الثعالبة الذين كانوا ببسيط متيجة
من نواحي الجزائر وولد محمد مختارا ومنصورا وجلالا وسالما وعثمان فولد مختار بن
محمد حسان وشبانة فمن حسان ذوي حسان البطن المذكور أهل السوس الأقصى ومن شبانة
الشبانات جيرانهم هنالك ومن جلال وسالم وعثمان الرقيطات بادية في ذوي حسان ينتجعون
معهم وولد منصور بن محمد حسينا وأبا الحسين وهما شقيقان وعمران ومنبا وهما شقيقان
أيضا وهما الأحلاف ويقال لعمران العمرانية ولمنبا المنبات ثم يقال لجميع البطون
الأربعة ولد منصور بن محمد ذوي منصور وهم إحدى بطونهم الثلاث المذكورة والله تعالى
أعلم بغيبه
فهذه أصول عرب المغرب الأقصى وكيفية دخولهم إليه واستيطانهم إياه وبعض فصولهم قد
ذكرناها ملخصة من تاريخ إمام الفن أبي زيد عبد الرحمن بن خلدون ومن جمهرة الأنساب
لابن حزم وزدنا ما يحتاج منها إلى البيان بيانا والله تعالى الموفق
ولنرجع إلى ما كنا بسبيله من أخبار أمير المؤمنين يعقوب المنصور رحمه الله فإنه
لما رجع من إفريقية إلى مراكش سنة أربع وثمانين وخمسمائة رفع إليه أن أخاه السيد
أبا حفص صاحب مرسية الملقب بالرشيد وعمه السيد أبا الربيع صاحب تادلا عندما بلغهما
خبر الوقعة التي كانت على مقدمة
____________________
المنصور بإفريقية حدثا أنفسهما
بالتوثب على الخلافة فلما قدما عليه بالتهنئة أمر باعتقالهما خلال ما استملأ
أمرهما ثم قتلهما وعقد للسيد أبي الحسن ابن السيد أبي حفص على بجاية وفي سنة خمس
وثمانين وخمسمائة شرع المنصور في إدخال ساقية الماء إلى مراكش ثم تاقت نفسه إلى
الجهاد فكان منه ما نذكره الجواز الأول ليعقوب المنصور رحمه الله إلى الأندلس بقصد
الجهاد
قال ابن أبي زرع وفي سنة خمس وثمانين وخمسمائة تحرك أمير المؤمنين يعقوب المنصور
إلى الأندلس برسم غزو بلاد غربها وهي أولى غزواته فعبر من قصر المجاز إلى الخضراء
يوم الخميس الثالث من ربيع الأول من السنة المذكورة ثم نهض من الخضراء حتى نزل
شنترين وشن الغارات على مدينة أشبونة وأنحائها فقطع الثمار وحرق الزروع وقتل وسبا
وأضرم النيران في القرى وأبلغ في النكاية وانصرف إلى العدوة بثلاثة عشر ألفا من
السبي فدخل فاسا في آخر رجب من السنة المذكورة مراسلة السلطان صلاح الدين يوسف بن
أيوب صاحب مصر ليعقوب المنصور رحمهما الله والتماسه منه الأساطيل للجهاد
كانت الفرنج قد ملكوا سواحل الشام في آخر الدولة العبيدية منذ تسعين سنة قبل هذا
التاريخ وملكوا معها بيت المقدس شرفه الله فلما استولى السلطان صلاح الدين رحمه
الله على ديار مصر والشام اعتزم على جهادهم وصار يفتح حصونها واحدا بعد واحد حتى
أتى على جميعها
____________________
وافتتح بيت المقدس سنة ثلاث
وثمانين وخمسمائة وهدم الكنيسة التي بنواحيه وانقضت أمم النصرانية من كل جهة
وتتابعت أساطيلهم الكفرية بالمدد من كل ناحية لتلك الثغور القريبة من بيت المقدس
واعترضوا أسطول صلاح الدين في البحر ولم تقاومهم أساطيل الإسكندرية لضعفها يومئذ
عن ممانعتهم فبعث صلاح الدين صريحة إلى المنصور سنة خمس وثمانين وخمسمائة بطلب
إعانته بالأساطيل لمنازلة عكا وصور وطرابلس الشام وأوفد عليه أبا الحارث عبد الرحمن
بن منقذ من بيت بني منقذ ملوك شيزر من حصون الشام وكان صلاح الدين قد ملكها من
أيديهم وأبقى عليهم في دولته فبعث صلاح الدين عبد الرحمن هذا إلى يعقوب المنصور
طالبا مدد الأساطيل لتحول في البحر بين أساطيل الفرنج وبين أمداد النصرانية بالشام
ولمنازلة الثغور التي ذكرنا
وبعث معه إلى المنصور بهدية تشتمل على مصحفين كريمين منسوبين ومائة درهم من دهن
البلسان وعشرين رطلا من العود وستمائة مثقال من المسك والعنبر وخمسين قوسا عربية
بأوتارها وعشرين من النصول الهندية وسروج عدة مثقلة فوصل إلى المغرب فصادف المنصور
بالأندلس فانتظره بفاس إلى أن رجع فلقيه وأدى الرسالة وقدم الهدية
وكان الكتاب الذي بعث به صلاح الدين من إنشاء الأديب عبد الرحيم البيسني المعروف
بالقاضي الفاضل وكان عنوان الكتاب من صلاح الدين إلى أمير المسلمين وفي أوله
الفقير إلى الله تعالى يوسف بن أيوب وبعده الحمد لله الذي استعمل على الملة
الحنيفة من استعمر الأرض وأغنى من أهلها من سأله القرض وأجرى من أجرى على يده
النافلة والفرض وزين سماء الملة بدراري الذراري التي بعضها من بعض وهو كتاب طويل
____________________
ولما وقف عليه المنصور ورأى تجافيهم فيه عن خطابه بأمير المؤمنين لم يعجبه ذلك
وأسرها في نفسه وحمل الرسول على مناهج البر والكرامة ورده إلى مرسله ولم يجبه إلى
حاجته ويقال إنه جهز له بعد ذلك مائة وثمانين أسطولا ومنع النصارى من سواحل الشام
والله تعالى أعلم
قال ابن خلدون وفي هذا دليل على اختصاص ملوك المغرب يومئذ بالأساطيل الجهادية وعدم
عناية الدول بمصر والشام لذلك العهد بها وكان ابن منقذ المذكور قد مدح المنصور
بقصيدة يقول فيها
( سأشكر بحرا ذا عباب قطعته ** إلى بحر جود ما لأخراه ساحل )
( إلى معدن التقوى إلى كعبة الندى ** إلى من سمت بالذكر منه الأوائل )
( إليك أمير المؤمنين ولم تزل ** إلى بابك المأمول تزجي الرواحل )
( قطعت إليك البر والبحر موقنا ** بأن نداك الغمر بالنجح كافل )
( وحزت بقصديك العلى فبلغتها ** وأدنى عطاياك العلى والفواضل )
( فلا زلت للعلياء والجود بانيا ** تبلغك الآمال ما أنت آمل )
وعدتها أربعون بيتا فأعطاه بكل بيت ألفا وقال له إنما أعطيناك لفضلك ولبيتك يعني
لا لأجل صلاح الدين عود المنصور إلى إفريقية والسبب في ذلك
لما قدم المنصور من الأندلس إلى فاس وفرغ من شأن ابن منقذ تواترت إليه الأخبار بأن
ابن غانية قد ظهر بإفريقية فنهض إليها من فاس في ثامن شعبان من تلك السنة فدخل
تونس في أول ذي القعدة منها فألقى بلاد
____________________
إفريقية ساكنة وقد فر ابن
غانية عنها إلى الصحراء حين سمع بقدومه
وفي سنة ست وثمانين وخمسمائة استولى الفرنج على مدينة شلب وباجة ويابورة من غرب
الأندلس وذلك لما علموا أن المنصور قد أبعد عنهم واشتغل بأمر إفريقية فاغتنموا
الفرصة فيها واتصل الخبر بالمنصور فغاظه ذلك وأعظمه وكتب إلى قواد الأندلس يوبخهم
ويأمرهم بغزو بلاد الفرنج ويعلمهم أنه قادم عليهم في أثر كتابه فاجتمع قواد
الأندلس إلى محمد بن يوسف والي قرطبة فخرج بهم في جيش كثيف من الموحدين والعرب
وأهل الأندلس حتى نزل على شلب فشدد عليها الحصار وتابع عليها القتال حتى فتحها
وفتح قصر أبي دانس ومدينة باجة ويابورة ورجع إلى قرطبة فدخلها بخمسة عشر ألفا من
السبي وثلاثة آلاف أسير قدمهم بين يديه في القطائن خمسون علجا في كل قطينة وذلك في
شوال سنة سبع وثمانين وخمسمائة
وفي هذا الشهر رجع المنصور من إفريقية فانتهى إلى تلمسان فأقام بها إلى آخر السنة
المذكورة وفي فاتح محرم من سنة ثمان وثمانين وهي سنة آكرواو خرج المنصور من تلمسان
إلى فاس وهو مريض فكان يركب في آكرواو فدخل فاسا وأقام بها مريضا سبعة أشهر حتى أبل
من علته ثم نهض إلى مراكش فأقام بها إلى سنة إحدى وتسعين وخمسمائة ثم نهض منها إلى
الأندلس بقصد الجهاد وكان ما نذكره إن شاء الله
____________________
الغزوة الكبرى بالأرك من بلاد
الأندلس
قال ابن خلكان كان يعقوب المنصور رحمه الله قد خافه الفنش صاحب طليطلة وسأله الصلح
فصالحه إلى خمس سنين فلما انقضت مدة الهدنة ولم يبق منها إلا القليل خرجت طائفة من
الفرنج في جيش كثيف إلى بلاد المسلمين فنهبوا وسبوا وعاثوا عيثا فظيعا فانتهى
الخبر إلى أمير المؤمنين يعقوب المنصور وهو بمراكش فتجهز لقصدهم في جيش عرمرم من
قبائل الموحدين والعرب واحتفل في ذلك وعبر البحر إلى الأندلس سنة إحدى وتسعين
وخمسمائة واتصل بالفرنج عبوره إليهم فجمعوا خلقا كثيرا من أقصى بلادهم وأدانيها
وأقبلوا نحوه
قال ابن خلكان وقد رأيت بدمشق جزء بخط الشيخ الحافظ تاج الدين عبد الله بن حموية
السرخسي وكان قد سافر إلى مراكش وأقام بها مدة وكتب فصولا تتعلق بتلك الدولة فمن
ذلك فصل يتعلق بهذه الوقعة فينبغي ذكره ههنا
قال لما انقضت الهدنة بين أمير المؤمنين يعقوب المنصور وبين الأذفونش الفرنجي صاحب
غرب جزيرة الأندلس وقاعدة مملكته يومئذ طليطلة وذلك في أواخر سنة تسعين وخمسمائة عزم
يعقوب المنصور وهو يومئذ بمراكش على التوجه إلى جزيرة الأندلس لمحاربة الفرنج وكتب
إلى ولاة الأطراف وقواد الجيوش بالحضور وخرج إلى مدينة سلا ليكون اجتماع العساكر
بظاهرها فاتفق أنه مرض مرضا شديدا حتى يئس منه أطباؤه فتوقف الحال عن تدبير تلك
الجيوش وحمل يعقوب المنصور إلى مراكش وهو مريض فطمع المجاورون له من العرب وغيرهم
في البلاد وعاثوا فيها وأغاروا على النواحي والأطراف وكذلك فعل الأذفونش فيما يليه
من بلاد المسلمين بالأندلس واقتضى الحال تفرقة الجيوش التي جمعها يعقوب المنصور
شرقا وغربا واشتغلوا بالمدافعة والممانعة فكثر طمع الأذفونش
____________________
في البلاد وبعث رسولا إلى أمير
المؤمنين يعقوب المنصور يهدد ويتوعد ويطلب بعض الحصون المتاخمة له من بلاد الأندلس
وكتب إليه رسالة من إنشاء وزير له من ضعفاء المسلمين يعرف بابن الفخار وهي باسمك
اللهم فاطر السموات والأرض وصلى الله على السيد المسيح روح الله وكلمته الرسول
الفصيح أما بعد فإنه لا يخفى على ذي ذهن ثاقب ولا ذي عقل لازب إنك أمير الملة
الحنيفية كما أني أمير الملة النصرانية وقد علمت الآن ما عليه رؤساء الأندلس من
التخاذل والتواكل وإهمال أمر الرعية وإخلادهم إلى الراحة وأنا أسومهم بحكم القهر
وخلاء الديار وأسبي الذراري وأمثل بالرجال ولا عذر لك في التخلف عن نصرهم إذا
أمكنتك يد القدرة وأنتم تزعمون أن الله فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم فالآن
خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا لا تستطيعون
دفاعا ولا تملكون امتناعا وقد حكي لي عنك أنك أخذت في الاحتفال وأشرفت على ربوة
القتال وتماطل نفسك عاما بعد عام تقدم رجلا وتؤخر أخرى فلا أدري أكان الجبن قد
أبطأ بك أم التكذيب بما وعد ربك ثم قيل لي إنك لا تجد إلى جواز البحر سبيلا لعلة
لا يسوغ لك التقحم معها وها أنا أقول لك ما فيه الراحة لك وأعتذر لك وعنك على أن
تفي بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرهان وترسل إلي جملة من عبيدك بالمراكب
والشواني والطرائد والمسطحات وأجوز بجملتي إليك فأقاتلك في أعز الأماكن لديك فإن
كانت لك فغنيمة كبيرة جلبت إليك وهدية عظيمة مثلت بين يديك وإن كانت لي كانت يدي
العليا عليك واستحققت إمارة الملتين والحكم على البرين والله تعالى يوفق للسعادة
ويسهل الإرادة لا رب غيره ولا خير إلا خيره
فلما وصل كتابه إلى أمير المؤمنين يعقوب المنصور مزقه وكتب على ظهر قطعة منه وكان
المنصور يضرب به المثل في حسن التوقيع كما يأتي في بقية أخباره { ارجع إليهم
فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة }
____________________
وهم صاغرون ) ثم كتب الجواب ما
ترى لا ما تسمع فهو أول من تكلم به فأرسله مثلا وأنشد متمثلا
( ولا كتب إلا المشرفية والقنى ** ولا رسل إلا الخميس العرمرم )
ثم أمر بالإستنفار واستدعاء الجيوش من الأمصار وضرب السرادقات بظاهر البلد من يومه
وجمع العساكر وسار إلى البحر المعروف بزقاق سبتة يريد الأندلس
وقال ابن أبي زرع خرج أمير المؤمنين يعقوب المنصور من حضرة مراكش يوم الخميس
الثامن عشر من جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وخمسمائة يولي السير ويطوي المناهل و
لا يلوي على فارس ولا راجل والجيوش تتابع في أثره من سائر الأقطار فلما انتهى إلى
قصر المجاز أخذ في إجازة الجيوش الواردة عليه لا يفرغ من طائفة إلا وقد لحقت بها
أخرى فأجاز أولا قبائل العرب ثم زناتة ثم المصامدة ثم غمارة ثم المتطوعة من قبائل
المغرب ثم الأغزاز والرماة ثم الموحدون ثم العبيد ثم أجاز أمير المؤمنين في أثرهم
في موكب عظيم من أشياخ الموحدين وأهل النجدة والزعامة ومعه فقهاء المغرب وصلحاؤه
واستقر بالجزيرة الخضراء بعد صلاة الجمعة الموفي عشرين من رجب من السنة المذكورة
فأقام بها يوما واحدا
ثم نهض إلى العدو قبل أن تخمد قرائح المجاهدين وتضعيف نياتهم فسار حتى بقي بينه
وبين حصن الأرك الذي كان العدو نازلا بإزائه نحو مرحلتين فنزل هنالك وذلك يوم
الخميس ثالث شعبان من السنة فجمع الناس ذلك اليوم وفاوضهم ووعظهم ثم اختص أهل
الأندلس بمزيد المشورة وقال لهم إن جميع من استشرته وإن كانوا أولي بأس ومعرفة
بالحرب لكنهم لا يعرفون من قتال الفرنج ما تعرفونه أنتم لتمرسكم بهم وتمرسهم بكم
فأحالوه في الرأي على القائد أبي عبد الله بن صناديد فعول المنصور رحمه الله في
ذلك على رأيه
____________________
وقال ابن الخطيب في رقم الحلل إن أمير المؤمنين المنصور رحمه الله عرض جيشه وأخذ
في تقريب القرب الى الله تعالى بين يدي جهاده فسرح السجون وأدر الأرزاق وعين
الصدقات ورحل فنزل الأرك وقد خيمت بأحوازه محلات العدو يضيق عنها المتسع وقام
المنصور بعد أن اجتمع الناس فتحلل من المسلمين وقال أيها الناس اغفروا لي فيما عسى
أن يكون صدر مني فبكي الناس وقالوا منكم يطلب الرضى والغفران وخطب الخطباء بين
يديه محرضين ومذكرين فنشط الناس وطابت النفوس ومن الغد صدع المنصور بالنداء وأمر
بأخذ السلاح والبروز إلى اللقاء فكانت التعبئة تحت الغلس
وحكى ابن أبي زرع أن المنصور بات تلك الليلة عاكفا بمصلاه على الركوع والسجود وإنه
أغفى إغفاءه فرأى ملكا نزل من السماء في صورة بشر وبيده راية خضراء وبشره بالفتح
وأنشده في ذلك أبياتا بقيت على ذكر المنصور إلى أن استيقظ وقص رؤياه على وجوه
الجند فازداد الناس طمأنينة وبصيرة
فلما كان يوم السبت خامس شعبان جلس المنصور في قبته الحمراء المعدة للجهاد ثم دعا
بكبير وزرائه الشيخ أبي يحيى بن أبي حفص وقدمه على ذلك الجيش وعقد له رايته وقدمه
بين يديه فرفرفت على رأسه الرايات وقرعت بين يديه الطبول وسار في قبيل هنتاتة وبين
يديه القائد ابن صناديد في جيش الأندلس ثم عقد المنصور لجرمون بن رياح على قبائل
العرب ولمنديل بن عبد الرحمن المغراوي على قبائل مغراوة ولمحيو بن أبي بكر بن
حمامة المريني جد الملوك المرينيين على قبائل بني مرين ولجابر بن يوسف العبد
الوادي على قبائل بني عبد الواد ولعباس بن عطية التوجيني على قبائل بني توجين
ولتلجين بن علي على قبائل هسكورة وسائر المصامدة ولمحمد بن منغفاد على قبائل غمارة
وعقد للفقيه الصالح أبي خزر يخلف بن خزر الأوربي على المتطوعة
____________________
وقال ابن خلدون إن الذي كان على المتطوعة يومئذ هو الشيخ أبو محمد عبد الواحد بن
أبي حفص والكل إلى نظر الشيخ أبي يحيى بن أبي حفص وبقي المنصور رحمه الله في جيش
الموحدين والعبيد وأمر الشيخ أبا يحيى بالرحيل والتقدم أمامه إلى جهة العدو
وكان المنصور قد ضفر مع ابن صناديد من الرأي أن يبقى هو متأخرا في الموحدين
والعبيد والجشم على مسافة يخفى بها عن أعين العدو ويقدم الشيخ أبا يحيى ببعض
الرايات والطبول في هيئة السلطان فيلقى العدو فإن كانت للمسلمين فهو المطلوب وإن
كانت عليهم كان المنصور ردأ لهم ثم يستأنف القتال مع العدو وقد انفل حده ولانت
شوكته
فسار الشيخ أبو يحيى على هذا الترتيب وابن صناديد أمامه في فرسان الأندلس وحماتها
فكان الشيخ أبو يحيى إذا أقلع بجيشه عن موضع صباحا خلفه المنصور فيه بجيشه مساء
حتى أشرف الشيخ أبو يحيى على جموع الفرنج وهي يومئذ إلى جنب حصن الأرك ويقال
الأركو بزيادة الواو في آخرة قد ضربت أخبيتها على ربوة عالية ذات مهاو وأحجار كبار
قد ملأت السهل والوعر ونزل الشيخ أبو يحيى بجيشه في البسيط ضحوة يوم الأربعاء
التاسع من شعبان سنة إحدى وتسعين وخمسمائة وعند ابن خلكان أن ذلك كان يوم الخميس
قال واقتفى المنصور في ذلك طريقة أبيه وجده فإنهم أكثر ما كانوا يصافون يوم الخميس
ومعظم حركاتهم في صفر فعبأ الشيخ أبو يحيى عساكره تعبئة الحرب وعقد الرايات لأمراء
القبائل وأوقف كل قبيلة في مركزها الذي عين لها فجعل عسكر الأندلس في الميمنة وجعل
زناتة والمصامدة والعرب وسائر قبائل المغرب في المسيرة وجعل المتطوعة والأغزاز
والرماة في المقدمة وبقي هو في القلب في قبيلة هنتاتة
ولما أخذ الناس مراكزهم من حومة القتال خرج جرمون بن رياح يمشي في صفوف المسلمين
ويحضهم على الثبات والصبر وبينما الناس
____________________
على ذلك إذ انفصلت من جيوش
العدو كتيبة عظيمة من نحو عشرة آلاف فارس كلهم مدجج في الحديد وكانت هذه الكتيبة
هي شوكة ذلك الجيش وحده كان الفنش لعنه الله قد انتخبهم وصلت أقسته عليهم صلاة
النصر ورشوهم بماء المعمودية وتحالفوا عند الصلبان أن لا يبرحوا حتى يقتلوا
المسلمين أو يهلكوا دونهم فلما برزت هذه الكتيبة نادى منادي الشيخ أبي يحيى معشر
المسلمين اثبتوا في مصافكم وأخلصوا لله تعالى ينتكم وأذكروا الله عز وجل في قلوبكم
وبرز عامر الزعيم من أمراء العرب فحض الناس على الصبر وثبتهم وحملت كتيبة العدو
حتى اندقت رماح المسلمين في صدور خيلها أو كادت ثم تقهقرت قليلا ثم عاودت الحملة
فكانت كالأولى ثم تهيأت للحملة الثالثة فدفعت حتى خالطت صفوف المسلمين وخلص البعض
منها إلى الشيخ أبي يحيى يطنونه المنصور فاستشهد رحمه الله بعد ما أحسن البلاء
وقاتل قتالا شديدا واستشهد معه جماعة من المسلمين من هنتاتة والمتطوعة وغيرهم وسمي
بنو الشيخ أبي يحيى ببني الشهيد وعرفوا به من يومئذ وأظلم الجو بالغبار واختلطت
الرجال بالرجال وانفرد كل قرن بقرنه وأقبلت العرب والمتطوعة فأحاطوا بالكتيبة التي
دفعت إلى الشيخ أبي يحيى وزحفت زناتة والمصامدة وغمارة إلى الربوة التي فيها الفنش
وجموعه وكانت على ما قيل تنيف على ثلاثمائة ألف بين فارس وراجل فتوغل المسلمون في
تلك الأوعار إليهم وخالطوهم بها واشتد القتال واستحر القتل في الكتيبة التي دفعت
أولا وانقضت عليهم العرب والمتطوعة وهنتاتة فطحنوهم طحنا وانكسرت شوكة الفنش
بهلاكهم إذ كان اعتماده ومعوله عليهم
وأسرعت خيل من العرب إلى أمير المؤمنين المنصور فأعلموه بأن الله تعالى قد فل شوكة
العدو وأشرف على الإنهزام فعندها أمر المنصور بالرايات فرفعت وبالطبول فقرعت ورفع
المسلمون أصواتهم بالتكبير وتسابقوا لقتال العدو وخفقت البنود وزحف أمير المؤمنين
نحو المعركة
____________________
فلم يرع الفنش اللعين إلا
الرايات قد أقبلت تخفق من كل جهة وزعقات الطبول والأبواق وأصوات المجاهدين
بالتكبير قد زلزلت الأرض فقال ما هذا فقيل هذا المنصور قد أقبل في جيشه وما قاتلك
سائر اليوم إلا طلائعه ومقدماته فقذف الله الرعب في قلبه وخشعت نفوس جموعه وزلزلت
بهم الأرض زلزالها فولوا الأدبار لا يلوون على شيء وأسعدهم يومئذ من وجد في فرسه
بقية تنجيه وأتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون وأحاط بعضهم بحصن الأراك يظنون أن
الفنش قد تحصن به وكان عدو الله قد دخل على باب وخرج على آخر من الناحية الأخرى
واقتحم المسلمون الحصن عنوة وأضرموا النيران في أبوابه واحتووا على جميع ما كان
فيه وفي محلة العدو من الأموال والذخائر وأنواع السلاح التي تفوت الحصر
وقلا ابن خلدون كان ملوك الفرنج الذين قاتلوا المنصور يومئذ ثلاثة ابن أذفونش وابن
الرند والبيبوج قال واعتصم فلهم بحصن الأرك وكانوا خمسة آلاف من زعمائهم فاستنزلهم
المنصور على حكمه حتى فودي بهم عددهم من المسلمين
وفي القرطاس أن عدد أسارى الأرك كانوا أربعة وعشرين ألفا فمن عليهم المنصور
وأطلقهم قال فعز ذلك على جميع الموحدين وسائر المسلمين وعدت للمنصور سقطة من سقطات
الملوك
وقال ابن الأثير كانت الدائرة يوم الأرك أولا على المسلمين ثم عادت على الفرنج
وانهزموا أقبح هزيمة وكان عدد من قتل من الفرنج أزيد من مائة ألف وغنم المسلمون
منهم شيئا كثيرا فمن الخيام مائة ألف وثلاثة وأربعون ألفا ومن الخيل ستة وأربعون
ألفا وقيل ثمانون ألفا ومن البغال مائة ألف ومن الحمير أربعمائة ألف
قال في نفح الطيب جاء بها الكفار لحمل أثقالهم لأنهم لا إبل لهم قال وأما الجواهر
والأموال فلا تحصى وبيع الأسير بدرهم والسيف
____________________
بنصف درهم والفرس بخمسة دراهم
والحمار بدرهم وقسم المنصور الغنائم بين المسلمين بمقتضى الشرع كذا في نفح الطيب
وفي كامل ابن الأثير أن يعقوب المنصور رحمه الله نادى في عسكره من غنم شيئا فهو له
سوى السلاح وأحصى ما حمل إليه منه فكان زيادة على سبعين ألف لبس واستشهد من
المسلمين نحو عشرين ألفا
ثم تقدم المنصور بجيوشه إلى بلاد الفرنج وأخذ يخرب المدن والقرى ويفتح الحصون والمعاقل
ويقتل ويسبي ويأسر حتى وصل إلى جبل سليمان ثم ثنى عنانة راجعا وقد أمتلأت أيدي
المسلمين من الغنائم ولم يعارضه من الفرنج معارض حتى وصل الى إشبيلية فاستقر بها
وأما الفنش فإنه لما انهزم وصل إلى طليطلة في أسوأ حال فحلق رأسه ولحيته ونكس
صليبه وركب حمارا وأقسم أن لا يركب فرسا ولا بغلا ولا ينام على فراش ولا يقرب
النساء حتى تنصر النصرانية فجمع جموعا عظيمة وبلغ الخبر بذلك الى المنصور فبعث الى
بلاد المغرب مراكش وغيرها يستنفر الناس من غير إكراه فأتاه من المتطوعة والمرتزقة
جمع عظيم ثم نهض إلى الفنش فالتقوا في ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة
فانهزم الفرنج هزيمة قبيحة وغنم المسلمون ما معهم من الأموال والسلاح والدواب
وغيرها
ثم تقدم المنصور إلى مدينة طليطلة فحاصرها وقاتلها قتالا شديدا وقطع أشجارها وشن
الغارات على ما حولها من البلاد وفتح فيها عدة حصون مثل قلعة رباح ووادي الحجارة
ومجريط وجبل سليمان وأفليج وكثير من أحواز طليطلة
ثم ارتحل عن طليطلة إلى مدينة طلمنكة فدخلها عنوة بالسيف فقتل المقاتلة وسبا
النساء والذرية وغنم أموالها وهدم أسوارها وأضرم النيران في جوانبها وتركها قاعا
صفصفا
وثنى عنانه إلى إشبيلية فدخلها غرة صفر سنة ثلاث وتسعين
____________________
وخمسمائة فرفع إليه في القاضي
أبي الوليد بن رشد المعروف بالحفيد مقالات نسب فيها إلى المرض في دينه ومعتقده
وكان أحد فلاسفة الإسلام وربما ألفى بعضها بخط يده فحبس ثم أطلق وأشخص إلى مراكش
وبها كانت وفاته رحمه الله
ثم خرج المنصور من إشبيلة غازيا بلاد ابن أذفونش فسار حتى احتل بساحة طليطلة وبغله
أن صاحب برشلونة قد أمد ابن أذفونش بعساكره وأنهم جميعا بحصن مجريط فنهض إليهم
ولما أطل عليهم انفضت جموع ابن أذفونش من قبل القتال ثم انكفأ المنصور راجعا إلى
إشبيلية
ثم اجتمع ملوك الفرنج وأرسلوا يطلبون الصلح فأجابهم إليه وصالحهم على مدة خمس سنين
بعد أن كان عازما على الامتناع مريدا لملازمة الجهاد إلى أن يفرغ منهم فأتاه خبر
علي بن إسحاق المسوفي المعروف بابن غانية وأنه دخل إفريقية وأراد الاستيلاء عليها
ففت ذلك في عزمه وصالحهم على المدة التي ذكرنا
وعقد على إشبيلية للسيد أبي زيد بن الخليفة وعلى مدينة بطليوس للسيد أبي الربيع
ابن السيد أبي حفص وعلى المغرب للسيد أبي عبد الله بن السيد أبي حفص ثم عبر البحر
إلى المغرب فوصل إلى مراكش في شعبان سنة أربع وتسعين وخمسمائة
وفي نفح الطيب أن يعقوب المنصور لما حاصر طليطلة وضيق عليها ولم يبق إلا فتحها
خرجت إليه والدة الأذفونش وبناته ونساؤه وبكين بين يديه وسألنه إبقاء البلد عليهن
فرق لهن ومن عليهن به ووهب لهن من الأموال والجواهر ما جل وردهن مكرمات وعفا بعد
القدرة والله تعالى أعلم
لطيفة قال الشيخ محيي الدين بن عربي الحاتمي رحمه الله في كتاب الفتوحات المكية ما
نصه ولقد كنت بمدينة فاس سنة إحدى وتسعين وخمسمائة وعساكر الموحدين قد عبرت إلى
الأندلس لقتال العدو حين
____________________
استفحل أمره على الإسلام فلقيت
رجلا من رجال الله ولا أزكى على الله أحدا وكان من أخص أودائي فسألني ما تقول في
هذا الجيش هل يفتح له وينصر في هذه السنة أم لا فقلت له ما عندك في ذلك فقال إن
الله تعالى قد ذكره في كتابه ووعد نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الفتح في هذه
السنة وبشر نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك في كتابه الذي أنزله عليه وهو قوله { إنا
فتحنا لك فتحا مبينا } فموضع البشرى فتحا مبينا من غير تكرار الألف فإنها لإطلاق
الوقوف في تمام الآية فانظر أعدادها بحساب الجمل فنظرت فوجدت الفتح يكون في سنة
إحدى وتسعين وخمسمائة ثم جزت إلى الأندلس وقد نصر الله جيش المسلمين وفتح الله به
قلعة رباح والأركو وكركرا وما انضاف إلى هذه القلاع من الولايات هذا عاينته من
الفتح ممن هذه صفته فأخذت للفاء ثمانين وللتاء أربعمائة وللحاء المهملة ثمانية
وللألف واحد وللميم أربعين وللباء اثنين وللياء عشرة وللنون خمسين وأما الألف فقد
أخذ عددها وكان المجموع إحدى وتسعين وخمسمائة وهي سنو الهجرة إلى هذه السنة فهذا
من الفتح الإلهي لهذا الشخص انتهى ذكر ما شيده المنصور رحمه الله من الآثار
بالمغرب والأندلس
كان يعقوب المنصور رحمه الله لما عزم عى المسير إلى الأندلس بقصد الجهاد أوصى إلى
نوابه ووكلائه ببناء قصبة مراكش والاعتناء بتشييد قصورها فمن آثاره الباقية بها
إلى الآن بابها المعروف بباب أكناور ولا مزيد على ضخامته وارتفاعه وأمرهم ببناء
الجامع الأعظم بها المنسوب إليه إلى اليوم وتشييد مناره الماثل به ومنار جامع
الكتبيين المضروب به المثل في الارتفاع وعظم الهيكل قال ابن سعيد طول صومعة الكتبيين
بمراكش مائة ذراع وعشر أذرع
____________________
ولما اجتاز المنصور في سفره هذا بأرض سلا أمر أيضا ببناء مدينة رباط الفتح فأسست
سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة وأكمل سورها وركبت أبوابها وأمر ببناء المسجد الأعظم
بطالعة سلا ومدرسة الجوفية منه قال صاحب الروض المعطار كان يعمل في بنائه ونقل
حجارته وترابه سبعمائة أسير من أسارى الفرنج في قيودها وأمر ببناء جامع حسان
ومناره الأعظم المضروب به المثل في الضخامة وحسن الصنعة قالوا ولم يتم بناؤه
ولما فرغ المنصور من وقعة الأرك واحتل بمدينة إشبيلية أخذ في إتمام بناء جامعها
الأعظم وتشييد مناره المشاكل للمنارين المتقدمين فهو ثالثة الأثافي بالنسبة لهما
بل قيل إنه ليس في بلاد الإسلام منار أعظم منه وعمل لهذا المنار تفافيح من أملح ما
يكون قال في القرطاس بلغت من العظم إلى ما لا يعرف قدره إلا أن الوسطى منها لم
تدخل على باب المنار حتى قلعت الرخامة من أسفله وزنة العمود الذي ركبت عليه أربعون
ربعا من الحديد وكان الذي صنعها ورفعها في أعلى المنار المذكور المعلم أبو الليث
الصقلي وموهت تلك التفافيح بمائة ألف دينار ذهبا
ولما كمل جامع إشبيلية وصلى فيه أمر ببناء حصن البرج على وادي إشبيلية وقد تقدم
لنا في أخبار عبد المؤمن أنه هدم أسوار مدينة فاس وأن حافده المنصور هذا شرع في
بنائها ثم أتمها ابنه الناصر من بعده
ولما رجع المنصور من الأندلس إلى مراكش وجد كل ما أمر به من البناءات قد تم على
أكمل حال واحسنه مثل القصبة والقصور والجامع والصوامع وأنفق على ذلك كله من أخماس
الغنائم وكان قد تغير على الوكلاء والصناع الذين تولوا بناء ذلك لأنه سعى إليه
بأنهم احتجنوا الأموال وصنعوا للجامع سبعة أبواب على عدد أبواب جهنم فلما دخله
المنصور وتطوف به أعجبه فسأل عن عدد أبوابه فقيل إنها سبعة أبواب والثامن هو الذي
دخل منه أمير المؤمنين فقال المنصور عند ذلك لا بأس بالغالي إذا قيل حسن
____________________
واتخذ المنصور رحمه الله في جامعه هذا لمصلاه به مقصورة عجيبة كانت مدبرة بحيل
هندسية بحيث تنصب إذا استقر المنصور ووزراؤه بمصلاه منها وتختفي إذا انفصلوا عنها
حكى الشريف الغرناطي شارح الحازمين عن الكاتب البارع أبي الحسن عبد الملك بن عياش
أحد كتاب المنصور قال كانت لأبي بكر يحيى بن مجير الشاعر المشهور وفادة على
المنصور في كل سنة فصادف في إحدى وفاداته فراغه من إحداث المقصورة التي كان أحدثها
بجامعه المتصل بقصره في حضرة مراكش وكانت قد وضعت على حركات هندسية ترتفع بها
لخروجه وتنخفض لدخوله وكان جميع من بباب المنصور يومئذ من الشعراء والأدباء قد
نظموا أشعارا أنشدوه إياها في ذلك فلم يزيدوا على شكره وتجزيته الخير فيما جدد من
معالم الدين وآثاره ولم يكن فيهم من تصدى لوصف الحال حتى قدم أبو بكر بن مجير
فأنشد قصيدته التي أولها
( أعلمتني ألقي عصا التسيار ** في بلدة ليست بدار قرار )
واستمر فيها حتى ألم بذكر المقصورة فقال يصفها
( طورا تكون بمن حوته محيطة ** فكأنها سور من الأسوار )
( وتكون حينا عنهم مخبوءة ** فكأنها سر من الأسرار )
( وكأنها علمت مقادير الورى ** فتصرفت لهم على مقدار )
( فإذا أحست بالإمام يزورها ** في قومه قامت إلى الزوار )
( يبدو فتبدو ثم تخفى بعده ** كتكون الهلالات للأقمار )
فطرب المنصور لسماعها وارتاح لاختراعها
قال أبو العباس المقري في نفح الطيب وقد بطلت حركات هذه
____________________
المقصورة الآن وبقيت آثارهما
حسبما شاهدته سنة عشر وألف والله وارث الأرض ومن عليها
ومن شعر ابن مجير يصف خيل المنصور من قصيدة مدحه بها قوله
( له حلبة الخيل العتاق كأنها ** نشاوى تهادت تطلب العزف والقصفا )
( عرائس أغنتها الحجول عن الحلى ** فلم تبغ خلخالا ولا التسمت وقفا )
( فمن يقق كالطرس تحسب أنه ** وإن جردوه في ملاءته التقا )
( وأبلق أعطى الليل نصف إهابه ** وغار عليه الصبح فاحتبس النصفا )
( وورد تغشى جلده شفق الدجا ** فإذ حازه دلى له الذيل والعرفا )
( وأشقر مج الراح صرفا أديمه ** وأصفر لم يمسح بها جلده صرفا )
( وأشهب قضى الأديم مدثر ** عليه خطوط غير مفهمة حرفا )
( كما خطخط الراهي بمهرق كاتب ** فجر عليه ذيله وهو ما جفا )
( تهب على الأعداء منها عواصف ** ستنسف أرض المشركين بها نسفا )
( ترى كل طرف كالغزال فتمتري ** أظبيا ترى تحت العجاجة أم طرفا )
( وقد كان في البيداء يألف سربه ** فربته مهرا وهي تحسبه خشفا )
( تناوله لفظ الجواد لأنه ** إذا ما أردت الجري أعطاكه ضعفا )
ومما مدح به المنصور رحمه الله قول بعض شعراء عصره حين طلب منه الفنش الصلح فأجابه
إليه
( أهل بان يسعى إليه ويرتجى ** ويزار من أقصى البلاد على الرجا )
( من قد غدا بالمكرمات مقلدا ** وموشحا ومختما ومتوجا )
( عمرت مقامات الملوك بذكره ** وتعطرت منه الرياح تأرجا )
ودخل عليه الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الكانمي الأسود الشاعر فأنشده
( أزال حجابه عني وعيني ** تراه من المهابة في حجاب )
( وقربني تفضله ولكن ** بعدت مهابة عند اقترابي )
وكانم بكسر النون جنس من السودان وهم بنو عم تكروره وليس
____________________
اسمهما للانتساب لأب أو أم
وإنما كانم اسم بلدة بنواحي غانة فسمي هذا الجنس بها وكذلك تكرور اسم للأرض التي
هم بها فسموا بها والله أعلم بقية أخبار المنصور وسيرته
قال ابن أبي زرع كان المنصور رحمه الله ذا رأي وحزم ودين وسياسة قال وهو أول من
كتب العلامة بيده ملوك الموحدين الحمد لله وحده فجرى عملهم على ذلك وقد تقدم لنا
أن ذلك كان في دولة أبيه فالله أعلم
وهو واسطة عقد ملوك الموحدين الذي ضخم الدولة وشرفها وكانت أيامه أيام دعة وأمن
ورخاء ورفاهية وبهجة صنع الله عز وجل في أيامه الأمن بالمشرق والمغرب والأندلس
فكانت الظعينة تخرج من بلاد نول فتنتهي إلى برقة وحدها لا ترى من يعرض لها ولا من
يسومها بسوء ضبط الثغور وحصن البلاد وبنى المساجد والمدارس في بلاد إفريقية
والمغرب والأندلس وبنى الموستانات للمرضى والمجانين وأجرى عليهم الإنفاق في جميع
أعماله وأجرى المرتبات على الفقهاء وطلبة العلم كل على قدر مرتبته وبنى الصوامع
والقناطر وحفر الآبار للماء في البرية واتخذ عليها المنازل من السوس الأقصى إلى
سويقة بن مصكوك فكانت أيامه زينة للدهر وشرفا للإسلام وأهله
وقال ابن خلكان كان يعقوب المنصور رحمه الله صافي السمرة جدا إلى الطول ما هو جميل
الوجه أفوه أعين شديد الكحل ضخم الأعضاء جوهري الصوت جزيل الألفاظ من أصدق الناس
لهجة وأحسنهم حديثا وأكثرهم إصابة بالظن مجريا للأمور ولي وزارة أبيه فبحث عن
الأحوال بحثا شافيا وطالع مقاصد العمال والولاة وغيرهم مطالعة أفادته معرفة جزئيات
الأمور فلما مات أبوه اجتمع رأي أشياخ الموحدين
____________________
على تقديمه فقام بالأمر أحسن
قيام ورفع راية الجهاد ونصب ميزان العدل وبسط أحكام الناس على حقيقة الشرع ونظر في
أمور الدين والورع وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته الأقربين كما أقامها في سائر
الناس أجمعين فاستقامت الأحوال في أيامه وعظمت الفتوحات وكان قد أمر لأول دولته
بقراءة البسملة في أول الفاتحة في الصلوات وأرسل بذلك إلى سائر بلاد الإسلام التي
في ملكه فأجاب قوم وامتنع آخرون وكان ملكا جوادا عادلا متمسكا بالشرع المطهر يأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر كما ينبغي من غير محاباة ويصلي بالناس الصلوات الخمس
ويلبس الصوف ويقف للمرأة والضعيف ويأخذ لهم بالحق
قال ابن خلكان وسمعت عنه حكاية يليق أن نذكرها هنا وهي أن الشيخ أبا محمد عبد
الواحد بن عاشر أبي حفص كان قد تزوج أخت يعقوب المنصور فأقامت عنده ثم جرت بينهما
منافرة فجاءت إلى بيت أخيها يعقوب المنصور فسير الشيخ عبد الواحد في طلبها فامتنعت
عليه فشكى الشيخ عبد الواحد ذلك إلى قاضي الجماعة بمراكش وهو أبو عبد الله محمد بن
علي بن مروان فاجتمع القاضي المذكور بأمير المؤمنين يعقوب المنصور وقال له إن
الشيخ أبا محمد عبد الواحد يطلب أهله فسكت عنه المنصور ومضت أيام ثم إن الشيخ أبا
محمد اجتمع بالقاضي المذكور في قصر المنصور بمراكش وقال له أنت قاضي المسلمين وقد
طلبت أهلي فما جاؤوني فاجتمع القاضي بالمنصور وقال له يا أمير المؤمنين الشيخ عبد
الواحد قد طلب أهله مرة وهذه الثانية فسكت المنصور ثم بعد ذلك بمدة لقي الشيخ عبد
الواحد القاضي بالقصر المذكور فقال له يا قاضي المسلمين قد قلت لك مرتين وهذه
الثالثة أنا أطلب أهلي وقد منعوني منهم فاجتمع القاضي بالمنصور وقال له يا مولانا
إن الشيخ عبد الواحد قد تكرر طلبه لأهله فأما أن تسير إليه أهله وإما أن تعزلني عن
القضاء فسكت
____________________
المنصور وقيل أنه قال له يا
عبد الله ما هذا إلا جد كبير ثم استدعى خادما وأمره سرا بأن تحمل أهل الشيخ عبد
الواحد إليه فحملت إليه في ذلك اليوم ولم يتغير على القاضي ولا قال له شيئا يكرهه
وتبع في ذلك حكم الشرع المطهر وانقاد لأمره وهذه حسنة تعد له وللقاضي أيضا فإنه
بالغ في إقامة منار الشرع والعدل
وكان المنصور يشدد في إلزام الرعية بإقامة الصلوات الخمس وقتل في بعض الأحيان على
شرب الخمر وقتل العمال الذين تشكوهم الرعايا أمر برفض فروع الفقه وإحراق كتب
المذاهب وأن الفقهاء لا يفتون إلا من الكتاب والسنة النبوية ولا يقلدون أحدا من
الأئمة المجتهدين بل تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم من استنباطهم القضايا من
الكتاب والحديث والإجماع والقياس
قال ابن خلكان ولقد أدركنا جماعة من مشايخ المغرب وصلوا إلينا وهم على ذلك الطريق
مثل أبي الخطاب بن دحية وأخيه أبي عمرو ومحيي الدين بن عربي نزيل دمشق وغيرهم وكان
يعاقب على ترك الصلوات ويأمر بالنداء في الأسواق بالمبادرة إليها فمن غفل عنها أو
اشتغل بمعيشته عزره تعزيرا بليغا
وكان قد عظم ملكه واتسعت دائرة سلطنته حتى أنه لم يبق بجميع أقطار بلاد المغرب من
البحر المحيط إلى برقة إلا من هو في طاعته وداخل في ولايته إلى غير ذلك من جزيرة
الأندلس وكان محسنا محبا للعلماء مقربا للأدباء مصغيا إلى المدح مثيبا عليه وله
ألف أبو العباس أحمد بن عبد السلام الجراوي كتابه الذي سماه صفوة الأدب وديوان
العرب في مختار الشعر وهو مجموع مليح أحسن في اختياره كل الإحسان
وكان المنصور يضرب به المثل في حسن التوقيع وإجادته وقد تقدم لنا ما وقع به على
كتاب الفنش
____________________
وحكى ابن الخطيب في رقم الحلل
أن المنصور طلب يوما من قاضيه أن يختار له رجلين لغرضين من تعليم ولد وضبط أمر
فعرفه برجلين قال في أحدهما وهو بحر في علمه وقال في الآخر وهو بر في دينه ولما
خرج المنصور أحضرهما واختبرهما فقصرا بين يديه وأكذبا الدعوى فوقع المنصور على
رقعة القاضي أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ظهر الفساد في البر والبحر قال ابن
الخطيب وهذا من التوقيع العريق في الإجادة والصنعة
وكان مجلس المنصور رحمه الله مجلس الفضلاء والأدباء وأرباب المعارف والفنون حكى
أبو الفضل التيفاشي قال جرت مناظرة بين يدي ملك المغرب يعقوب المنصور وكانت بين
الفقيه أبي الوليد بن رشد المعروف بالحفيد والرئيس الوزير أبي بكر بن زهر بضم
الزاي وكان الأول قرطبيا والثاني إشبيليا فقال ابن رشد لابن زهر في تفضيل قرطبة ما
أدري ما تقول غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى
تباع فيها وإن مات مطرب بقرطبة فأريد بيع آلاته حملت إلى إشبيلية
وهذا الوزير ابن زهر هو أحد أعيان وزراء الدولة الموحدية وزير للمنصور ولأبيه من
قبله
قال ابن خلكان كان ابن زهر من أهل بيت كلهم علماء رؤساء حكماء وزراء نالوا المراتب
وتقدموا عند الملوك ونفذت أوامرهم وكان يتكرر وروده على الحضرة بمراكش فيقيم بها
ويرجع إلى الأندلس ومما قاله بمراكش يتشوق إلى ولد له صغير تركه بإشبيلية
( ولى واحد مثل فرخ القطا ** صغير تخلف قلبي لديه )
( نأت عنه داري فيا وحشتي ** لذاك الشخيص وذاك الوجيه )
( تشوقني وتشوقته ** فيبكي علي وأبكي عليه )
____________________
( لقد تعب الشوق ما بيننا ** فمنه إلي ومني إليه )
قال العلامة الأديب أبو العباس المقري في نفح الطيب أخبرني الطبيب الماهر الثقة
الصالح العلامة سيدي أبو القاسم بن محمد الوزير الغساني الأندلسي الأصل الفاسي المولد
والنشأة حكيم حضرة السلطان أبي العباس المنصور بالله السعدي أن ابن زهر لما قال
هذه الأبيات وسمعها يعقوب المنصور أرسل المهندسين إلى إشبيلية يعني من غير علم من
ابن زهر وأمرهم أن يحيطوا علما ببيوت ابن زهر وحارته ثم يبنوا مثلها بحضرة مراكش
ففعلوا ما أمرهم به في أقرب مدة وفرشها بمثل فرشه وجعل فيها مثل آلاته ثم أمر بنقل
عيال ابن زهر وأولاده وحشمه وأسبابه إلى تلك الدار ثم احتال عليه حتى جاء إلى ذلك
الموضع فرآه أشبه شيء ببيوته وحارته فاحتار لذلك وظن أنه نائم وأن ذلك أحلام فقيل
له ادخل البيت الذي يشبه بيتك فدخله فإذا ولده الذي يتشوق إليه يلعب في البيت فحصل
له من السرور ما لا مزيد عليه ولا يعبر عنه هكذا هكذا وإلا فلا لا
ومن أطباء المنصور الوزير الطبيب الشهير أبو بكر بن طفيل من أهل وادي آش كان حاذقا
بصناعة الطب والجراحات ومن أطبائه أيضا الحفيد بن رشد المتقدم الذكر ومن كتابه
الكاتب البارع أبو الحسن عبد الملك بن عياش القرطبي النشأة اليابوري الأصل والفقيه
البارع أبو الفضل بن طاهر من أهل بجاية ومن الفقهاء الذين كانوا يجالسونه
ويسامرونه الفقيه الحافظ أبو بكر بن الجد والفقيه القاضي أبو عبد الله بن الصقر
وغيرهم رحم الله الجميع
____________________
وفاة يعقوب المنصور رحمه الله
قال ابن أبي زرع لما رجع المنصور من الأندلس إلى مراكش أخذ البيعة لولده أبي عبد
الله محمد الملقب بالناصر لدين الله فبايعه كافة الموحدين وسائر أهل الأمصار
والأقطار فلما تمت البيعة للناصر المذكور وجلس في محل الخلافة وجرت الأحكام
والأوامر باسمه وعلى يديه في حياة أبيه دخل المنصور قصره فلزمه
وقال ابن خلكان لما وصل المنصور إلى مراكش يعني بعد قدومه من الأندلس أمر باتخاذ
الأحواض والروايا وآلات السفر للتوجه إلى بلاد إفريقية فاجتمع إليه مشايخ الموحدين
وقالوا له يا سيدنا قد طالت غيبتنا بالأندلس فمنا من له خمس سنين وغير ذلك فتنعم
علينا بالمهلة هذا العام وتكون الحركة في أول سنة خمس وتسعين وخمسمائة فأجابهم إلى
سؤالهم وانتقل إلى مدينة سلا وشاهد ما فيها من المنتزهات المعدة له
وكان قد بنى بالقرب من المدينة المذكورة مدينة عظيمة سماها رباط الفتح على هيئة
الإسكندرية في الإتساع وحسن التقسيم وإتقان البناء وتحصينه وتحسينه وبناها على
البحر المحيط الذي هناك وهي على نهر سلا مقابلة لها من البر القبلي واطاف تلك
البلاد وتنزه فيها ثم رجع إلى مراكش
قال ابن خلكان وبعد هذا اختلفت الروايات في أمره فمن الناس من يقول إنه ترك ما كان
فيه وتجرد وساح في الأرض حتى انتهى إلى بلاد الشرق وهو مستخف لا يعرف ومات خاملا
ومنهم من يقول إنه لما رجع إلى مراكش كما ذكرناه توفي في غرة جمادى الأولى وقيل في
ربيع الآخرة في سابع عشرة وقيل في غرة صفر ولم ينقل شيء من أحواله بعد ذلك إلى حين
وفاته وقيل توفى بمدينة سلا
قال ابن خلكان ثم حكى لي جمع كثير بدمشق أن بالقرب من
____________________
المجدل البليدة التي من أعمال
البقاع العزيزي قرية يقال له حمارة وإلى جانبها مشهد يعرف بقبر الأمير يعقوب ملك
المغرب وكل أهل تلك النواحي متفقون على ذلك وليس عندهم فيه خلاف وهذا القبر بينه
وبين المجدل مقدار فرسخين من جهتها القبلية بغرب قال وكان أوصى أن يدفن على قارعة
الطريق ليترحم عليه من يمر به
قال المقري في نفخ الطيب هذه عامية لا يتبتها علماء المغرب وسبب هذه المقالة تولع
العامة به فكذبوا في موته وقالوا إنه ترك الملك وحكوا ما شاع إلى الآن وذاع مما
ليس له أصل ثم نقل عن الشريف الغرناطي مثل ذلك فانظره
قال مؤلفه عفا الله عنه وعندي أن إنكار ما حكاه ابن خلكان ليس بجيد وهب أن أهل
المغرب قالوا ذلك تولعا به فما بال أهل المشرق يتولعون به ويتخذون له المشهد ثم
يتفق كبيرهم وصغيرهم على أنه قبر يعقوب ملك المغرب من غير اصل ولا مستند هذا بعيد
في العادة بل لا بد أن يكون لذلك أصل والله أعلم بحقيقته نعم ما تزعمه عامة المغرب
في حمة أبي يعقوب التي بقرب مدينة فاس أنها منسوبة ليعقوب المنصور هذا وأنه رصد لها
عفريتين يوقدان عليها إلى الأبد وأن حرارة مائها بسبب ذلك الإيقاد وأن الشفاء الذي
حصل للمستحمين إنما هو ببركة يعقوب المنصور
____________________
وجعلوا له زوجة أو بنتا اسمها
شافية اشتقاقا من لفظ الشفاء الحاصل بتلك العين كله باطل وإنما حرارة العين لخاصية
أودعها الله في أصلها ومنبعها وكذا الشفاء الحاصل بها إنما هو بخاصية في ذلك الماء
ولعلها ما فيه من الكريتية فإنا نرى أصحاب الجرب يتلطخون بالكبريت المعالج فيشفون
وكم من عين على وجه الأرض في المشرق والمغرب وبلاد المسلمين والكفار على هذه
الحالة كما أخبر بذلك غير واحد
وقال الجوهري في الصحاح الحمة العين الحارة يستشفي بها الأعلاء والمرضى وفي الحديث
العالم كالحمة اه ومثله في القاموس بل ذكر فيه مدينة تفليس وهي قصبة كرجستان عليها
سوران قال وحمامتها تنبع ماء حارا بغير نار
وقد ذكر ابن أبي زرع في القرطاس حمة أبي يعقوب هذه وذكر معها حمتين أخريين فقال
وبالقرب أيضا من مدينة فاس على ميسرة أربعة أميال منها حمة عظيمة تعرف بحمة خولان
ماؤها في أشد ما يكون من السخونة وبالقرب أيضا منها حمة و شنانة وحمة أبي يعقوب
وهي من الحمات المشهورة بالمغرب اه كلامه فقد ذكر أبا يعقوب بلفظ الكنية فهو غير
يعقوب المنصور قطعا ولعله أبو يعقوب الأشقر الآتي ذكره في أحداث المائة السابعة
ولنرجع إلى الكلام على وفاة المنصور عند علماء المغرب فنقول قال ابن الخطيب في رقم
الحلل توفي يعقوب المنصور رحمة الله في الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة خمس
وتسعين وخمسمائة ودفن بمجلس سكناه من مراكش وكذب العامة بموته ولوعا و تمسكا به
فادعوا أنه ساح في الأرض اه
وقال ابن أبي زرع لما حضرت المنصور الوفاة قال ما ندمت على شيء فعلته في خلافتي
إلا على ثلاث وددت أني لم أفعلها الأولى إدخال العرب من إفريقية إلى المغرب مع إني
أعلم أنهم أهل فساد والثانية بناء
____________________
رباط الفتح أنفقت فيه بيت
المال وهو بعد لا يعمر والثالثة إطلاقي أسارى الأرك ولا بد لهم أن يطلبوا بثأرهم
قلت ما ذكره رحمه الله في رباط الفتح من أنه لا يعمر قد تخلف ظنه فيه فهو اليوم من
أعمر أمصار المغرب وأحضرها حرسه الله وحرس سائر أمصار المسلمين من آفاق النقصان
وطوارق الحدثان
ولنذكر ما كان في هذه المدة من الأحداث فنقول في سنة أربعين وخمسمائة هدم علي بن
عيسى بن ميمون وكان من رؤساء البحر في دولة اللمتونيين صنم قادس وقادس هذه هي
الجزيرة المسماة في لسان العامة اليوم بقالص وكان بها صنم عظميم على صورة رجل
وبيده مفتاح يقال إن حكماء اليونان انخذوه طلسما هناك كان من خاصيته أن يمنع هبوب
الريح فيما جاوره من البحر المحيط فكانت السفن لا تجري هناك على ما قيل فلما ثار
ابن ميمون المذكور بالجزيرة المذكورة ظن أن تحت الصنم مالا فهدمه فلم يجد شيئا
وفي السنة المذكورة توفي أبو علي منصور بن إبراهيم المساطسي دفين آزمور وكان كبير
الشأن من أهل العلم والعمل ومن اشياخ أبي شعيب السارية
وفي سنة أربع وأربعين وخمسمائة توفي الإمام الهمام الحافظ البارع أبو الفضل عياض
بن موسى اليحصبي قال ابن خلكان توفي بمراكش يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة وقيل في
شهر رمضان من السنة المذكورة ودفن بباب آيلان داخل المدينة وذلك في دولة عبد
المؤمن بن علي
وفي سنة تسع وخمسين وخمسمائة توفي الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل بن محمد بن عبد
الله بن حرزهم ينتهي نسبه إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو من
أهل مدينة فاس وبها توفي أخريات شعبان من السنة المذكورة وكان فقيها زاهدا صوفيا
قال أبو الحسن
____________________
المذكور اعتكفت على قراءة
الإحياء سنة فجردت المسائل التي تنتقد عليه وعزمت على إحراق الكتاب فنمت فرأيت قائلا
يقول جردوه واضربوه حد الفرية فضربت ثمانين سوطا فلما استيقظت جعلت أقلب ظهري
ووجدت الألم الشديد من ذلك فتبت إلى الله ثم تأملت تلك المسائل فوجدتها موافقة
للكتاب والسنة وقد تقدم لنا ما اتفق له مع السلطان في جنازة أبي الحكيم بن برجان
وفي سنة إحدى وستين وخمسمائة توفي الشيخ أبو شعيب أيوب بن سعيد الصنهاجي الملقب
بسارية من أهل مدينة آزمور وبها توفي يوم الثلاثاء عاشر ربيع الثاني من السنة
المذكورة وكان رضي الله عنه شديد المراقبة والورع والخوف من الله تعالى وكان إذا
وقف في صلاته يطيل القيام فلذلك لقب بالسارية ونقلت عنه في الورع والخوف حكايات
انظر التشوف
قال مؤلفه عفا الله عنه كنت زرت ضريح هذا الشيخ سنة ثمانين ومائتين وألف ومدحته
بقصيدة سلكت فيها مسلك الأدباء من النسب وغيره وأنشدتها عند ضريحه فرأيت لها بركة
والحمد لله فأحببت أن أذكرها هنا وهي هذه
( لله يا ربع ما هيجت من شجن ** على الفؤاد ومن ضنى على البدن )
( وقفت فيك ركابا طالما وقفت ** على القصور على الأطلال والدمن )
( أيام فيك حسان ما أشبهها ** بالشمس حسنا ولا في اللين بالغصن )
( وفيك أسد من الملوك عادتها ** بذل النضار وصون البيض والحصن )
( يحمون منك عراصا كنت أعهدها ** مأوى السرور فعادت موقف الحزن )
( عاثت يد الدهر فيهم منذ أزمنة ** كأن بأسهم المحذور لم يكن )
( قوم عرفت نداهم قبل معرفتي ** نفسي وفاجأني في المهد بالمتن )
( ومذ ترعرعت لم أعلق بغيرهم ** حتى كأني رضعت الحب في اللبن )
( قضيت حق الشباب في منازلهم ** أيام عيش لنا أحلى من الوسن )
____________________
( من ظن بالدهر خيرا فهو منخدع ** فوده هدنة تبنى على دخن )
( لا أنتحي منهلا إلا شرفت به ** ولا احل مكانا ليس بالخشن )
( ولا أصاحب من هذا الورى بشرا ** إلا حصلت على رزق من الإحن )
( حتى توهمت أنني جنيت لهم ** حرب البسوس وأنني أبو الفتن )
( وما لذي الفضل من ذنب يلام به ** سوى فضيلته في دهره الزمن )
( فعد يا قلب عن شكوى أضيق بها ** ذرعا فشكواك لي ضرب من الوهن )
( ولست أحسب هذا الدهر مرعويا ** ولو تعلقت منه بابن ذي يزن )
( حلا لقد علقت يدي بمن علقت ** أيدي العفاة به في الشام واليمن )
( بأعظم الناس منزلا ومنزلة ** وأسمح الناس كفا بالندى الهتن )
( وأشمخ الناس قدرا في الورى وعلا ** وأحكم الناس للفروض والسنن )
( ذاك الولي الذي كل الأنام غدا ** يتلو مناقبه في السر والعلن )
( أبو شعيب الذي من بحره انشعبت ** جداول اليمن في الأحياء والمدن )
( بدر غدا في سماء المجد مكتملا ** به علا ذكر آزمور في الوطن )
( أرض إذا الضرع المحروم يممها ** ألفى بها بدل الأهلين والسكن )
( أود من أجل ثاويها حجارتها ** واجعل الترب لي مسكا بلا ثمن )
( كيف لا تطبي قلبي منازل من ** به أكون من الأحداث في جنن )
( مجلي الغياهب مبذول المواهب مقفو ** المذهب بالجنيد والقرني )
( بحر الحقيقة والغوث الذي لهجت ** به القبائل في المقام والظعن )
( ما زال يرقى الذرى من كل صالحة ** حتى اكتسى شهرة النيران في القنن )
( يا خير من أمه العافي ولاذ به ** أهل الجرائم والأوزار والمحن )
( إني خدمتك في شعر عنيت به ** وليس لولا حلاك الزهر بالحسن )
( أشكو إليك سقاما أنت مبرئه ** ولست أرجو سواك منه ينعشني )
( وشد أزري فإني كنت معتقدا ** إذا بلغتك قدت الدهر بالرسن )
( وانظر بفضلك من وافك معتفيا ** فإن نظرت فكل الخير يشملني )
( وأعظم السؤال منك النفس تصلحها ** وطهر القلب ما لأمراض والدرن )
( وامنحه نورا وتوفيقا ومعرفة ** أرى بها علمي والبر في قرن )
____________________
( فجد بما رمت من جداوك يا أملي ** فبحر جودك عذب ليس بالأجن )
( سقى ضريحك غيث ما يزال به ** بستان أنسك وهو مورق الفنن )
( بجاه أفضل خلق الله كلهم ** محمد ذي المزايا الغر والمنن )
( عليه أزكى صلاة الله ما تليت ** صحف وما نسج القريض ذو لسن )
( والآل والصحب والأزواج قاطبة ** ومن قفا نهجهم في كل ما زمن )
واعلم أن التعلق بأولياء الله رضي الله عنهم يجب أن يكون مع استحضار أن الله تعالى
هو المطلوب على الحقيقة والفاعل للأشياء كلها لا معبود غيره ولا مرجو سواه وإنما
التمسك بأهل الله لأجل التبرك بهم والاستشفاع بهم إلى الله تعالى لأنهم أبواب الله
والدالون عليه نفعنا الله بهم وأفاض علينا من مددهم آمين
وفي سنة تسع وستين وخمسمائة توفي الشيخ الفقيه العالم أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف
المعروف بابن قرقول صاحب كتاب مطالع الأنوار الذي وضعه على مثال كتاب مشارق
الأنوار للقاضي عياض كان من الأفاضل وصحب جماعة من علماء الأندلس وتوفي بمدينة فاس
يوم الجمعة أول وقت العصر سادس شوال من السنة المذكورة وكان قد صلى الجمعة في
الجامع ذلك اليوم فلما حضرته الوفاة تلى سورة الإخلاص وجعل يكررها بسرعة ثم تشهد
ثلاث مرات وسقط على وجهه ساجدا فوقع ميتا رحمه الله
وفي سنة سبعين بعدها توفي الفقيه أبو الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد
الأنصاري المعروف بالمتيطي ومتيطية قرية بأحواز الجزيرة الخضراء وهو الموثق
المشهور لازم بمدينة فاس خاله أبا الحجاج المتيطي وبين يديه تعلم عقد الشروط وله
كتاب كبير في الوثائق سماه النهاية والتمام في معرفة الوثائق والأحكام ثم انتقل
إلى سبتة فاستوطنها ولازم مجالس علمائها بالمناظرة والتفقه ومهر في كتابه الشروط
واشتغل بها حتى لم يكن في وقته أقدر منه عليها وكان له في السجلات اليد الطولى
وطبع
____________________
عليها حتى كاد طبعه لا يواتيه
في سواها بل كان طبعه في ذلك أكثر من فقهه ثم ولي القضاء بشريش وأصابه خضر لازمه
نحو السنتين ثم توفي مستهل شعبان من السنة المذكورة
وفي سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة توفي وحيد عصره وأعجوبة دهره الولي العارف الشيخ
أبو يعزى يلنور بن ميمون قال قوم إنه من هزميرة إيرجان وقيل من بني صبيح من هسكورة
مات وقد نيف على المائة بنحو الثلاثين سنة ودفن بجبل إيرجان في أوائل شوال من
السنة المذكورة كان الشيخ أبو مدين رضي الله عنه يقول رأيت أخبار الصالحين من زمن
أويس القرني إلى زماننا هذا فما رأيت أعجب من أخبار أبي يعزى قال ونظرت في كتب
التصوف فما رأيت مثل الإحياء للغزالي وكان لباس الشيخ أبي يعزى برنسا أسود مرقوعا
إلى أسفل من ركبتيه وجبة من تليس مطرف وشاشية من عزف وكان يتعيش من نبات الأرض ولا
يشارك الناس في معايشهم وكان طويلا رقيقا أسود اللون وكان إذا جنه الليل دخل غيضة
كثيرة السباع يتعبد فيها فإذا قرب الفجر أعلم أصحابه به وأحواله رضي الله عنه وكراماته
كثيرة
وفي سنة ثلاث وسبعين بعدها توفي الشيخ العارف أبو الحسن علي بن خلف بن غالب القرشي
دفين قصر كتامة نشأ بشلب من بلاد الأندلس وقرأ بقرطبة واستقر آخرا بقصر كتامة وبه
توفي في السنة المذكورة وقيل إن وفاته كانت سنة ثمان وستين قبل هذا التاريخ والله
أعلم وكان رضي الله عنه متمكنا في علوم القوم وكان الأولياء يحضرون مجلسه وهو من
تلامذة أبي العباس بن العريف المتقدم الذكر
وفي سنة ثمانين وخمسمائة توفي الشيخ أبو عبد الله التاودي العلم من أهل مدينة فاس
ومن أصحاب الشيخ أبي يعزى وكان يعلم الصبيان فيأخذ الأجر من أولاد الأغنياء فيرده
على أولاد الفقراء ومات بفاس في السنة المذكورة وهذه النسبة إلى بني تاودي وهي
قبيلة بقرب فاس
____________________
وفي سنة إحدى وثمانين بعدها توفي الإمام المشهور أبو زيد عبد الرحمن بن الخطيب أبي
محمد عبد الله بن أحمد السهيلي الخثعمي صاحب كتاب الروض الأنف وغيره من التآليف
الحسان وصاحب الأبيات المشهورة في الدعاء وهي
( يا من يرى ما في الضمير ويسمع ** أنت المعد لكل ما يتوقع )
( يا من يرجى للشدائد كلها ** يا من إليه المشتكى والمفزع )
( يا من خزائن رزقه في قول كن ** أمنن فإن الخير عندك أجمع )
( ما لي سوى فقري إليك وسيلة ** فبالافتقار إليك فقري أدفع )
( ما لي سوى قرعي لبابك حيلة ** فلئن رددت فأي باب أقرع )
( ومن الذي أدعو وأهتف باسمه ** إن كان فضلك عن فقيرك يمنع )
( حاشى لجودك أن تقنط عاصيا ** الفضل أجزل والمواهب أوسع )
كان ببلدته سهيل وهي قرية بالقرب من مالقة يتسوغ بالعفاف ويتبلغ بالكفاف حتى نمى
خبره إلى السلطان بمراكش فطلبه إليه وأحسن إليه وأقبل بوجهه غاية الإقبال عليه
فأقام بها نحو ثلاث سنين ثم توفي بها يوم الخميس السادس والعشرين من شعبان من
السنة المذكورة ودفن وقت الظهر خارج باب الرب أحد أبواب مراكش وكان رحمه الله
ضريرا نفعنا الله تعالى به
وفي سنة تسعين وخمسمائة توفي ولي الله تعالى أبو محمد عبد الحليم بن عبد الله
المراسي المعروف بالغماد من صلحاء سلا كان رحمه الله عبدا صالحا يدور على المكاتب
ويستوهب الدعاء من الصبيان ويبكي على نفسه وله كرامات وتوفي ببلده المذكور وقبره
معروف ملاصق للمسجد الأعظم قرب بابه الكبير من جهة القبلة
وفي سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة توفي الشيخ أبو يعقوب يوسف بن علي المبتلى المعدود
في سبعة رجال من صلحاء مراكش كان رضي الله
____________________
عنه كبير الشأن فاضلا صابرا
راضيا على ربه فيما ابتلاه به من داء الجذم سقط بعد جسده ذات يوم فصنع طعاما كثيرا
للفقراء شكرا لله تعالى على ذلك وكان يسكن بحارة الجذمي العتيقة قبلي مراكش وبها
مات في شهر رجب من السنة المذكورة ودفن خارج باب أغمات عند رابطة الغار واحتفل
الناس لجنازته رضي الله عنه
وفي سنة أربع وتسعين بعدها توفي الشيخ العارف بالله تعالى أبو مدين شعيب بن الحسن
الأنصاري الولي الكبير المشهور أصله من حصن قطنيانة من عمل إشبيلية ثم انتقل إلى
العدوة فأخذ عن الشيخ أبي الحسن بن حزرهم وعن الشيخ أبي يعزى وبه انتفع وعليه تخرج
وكان الشيخ أبو مدين رضي الله عنه من العارفين الراسخين قد خاض من الأحوال بحارا
ومن المعارف أسرارا وجال في حداثة سنه في بلاد المغرب من سبتة ومراكش وفاس ولازم
بفاس الشيخ ابن حرزهم كما قلنا ثم سمع بخبر الشيخ أبي يعزى فقصده وأخذ عنه وظهرت
عليه بركته
قال الشيخ أبو مدين لما قدمت فاسا لقيت بها الأشياخ فسمعت رعاية المحاسبي على أبي
الحسن بن حرزهم وكتاب السنن للترمذي على أبي الحسن بن غالب وأخذت طريقة التصوف على
أبي عبد الله الدقاق وأبي الحسن السلاوي قال وكنت أزور الشيخ أبي يعزى مرارا فقال
لي جماعة من الفقهاء المجاورين لأبي يعزى قد ثبتت عندنا ولاية أبي يعزى ولكنا
نشاهده يلمس بطون النساء وصدورهن ويتفل عليهن فيبرأن ونحن نرى أن لمسهن حرام فإن
تكلمنا في هذا هلكنا وإن سكتنا حرنا فقلت لهم أرأيتم لو أن ابنة أحدكم أو أخته
أصابها داء لا يطلع عليه إلا الزوج ولم يوجد من يعانيه إلا طبيب يهودي أو نصراني
ألستم تجيزون ذلك مع أن دواءه مظنون ودواء أبي يعزى أنتم على يقين منه فبلغ كلامي
أبي يعزى فاستحسنه
____________________
قال محمد بن إبراهيم الأنصاري
خرج الشيخ أبو مدين ألف تلميذ وجاءه رجل ليعترض عليه فجلس في الحلقة فقال له أبو
مدين لم جئت قال لأقتبس من نورك فقال له ما الذي في كمك فقال له مصحف فقال له
افتحه واقرأ أول سطر يخرج لك ففعل فخرج له قوله تعالى { الذين كذبوا شعيبا كانوا
هم الخاسرين } فقال له ابو مدين أما يكفيك هذا فاعترف الرجل وتاب وكراماته رضي
الله عنه كثيرة
وكان استوطن في آخر عمره بجاية وكثر عليه الناس وظهرت على يده كرامات فوشى به بعض
علماء الظاهر عند يعقوب المنصور وقال له إنا نخاف منه على دولتكم فإن له شبها
بالإمام المهدي وأتباعه كثيرون بكل بلد فوقع منه ذلك فكتب لصاحب بجاية يبعثه إليه
وأوصاه بالاعتناء به وأن يحمله إليه خير محمل ففعل
ولما كان الشيخ أبو مدين رضي الله عنه بالطريق مرض مرض موته فلما وصل وادي يسر قرب
تلمسان اشتد به مرضه فنزلوا به هنالك فكان آخر كلامه الله الحق فتوفي ودفن برابطة
العباد قرب تلمسان وسمع أهل تلمسان بجنازته فحضروها وكانت من المشاهد العظيمة
وفي سنة خمس وتسعين وخمسمائة توفي الشيخ الفقيه الصالح أبو عبد الله محمد بن
إبراهيم المهدوي صاحب كتاب الهداية أقام نحو أربعين سنة لم تفته صلاة في جماعة إلا
يوما واحدا لعذر عاقه عن ذلك دخل مدينة فاس ومعه نحو من أربعين ألفا من المال فما
زال ينفقها في سبيل الخير حتى لم يبق له إلا دار سكناه فباعها من بعض أهل فاس
وأعمره المشتري لها فلما خرجت منها جنازته حازها المشتري المذكور وكانت وفاته يوم
الجمعة الخامس والعشرين من جمادى الأولى من السنة المذكورة
واعلم أنا قد قدمنا أن الشيخ أبا مدين كان تلميذا للشيخ أبي يعزى وكان الشيخ أبو
يعزى تلميذا للشيخ أبي شعيب السارية وكان الشيخ أبو
____________________
شعيب تلميذا للشيخ ابي ينور
الدكالي نفعنا الله بجميعهم وأفاض علينا من مددهم آمين
ولنرجع إلى أخبار الدولة الموحدية فنقول الخبر عن دولة أمير المؤمنين أبي عبد الله
محمد الناصر لدين الله بن يعقوب المنصور بالله
بويع لأبي عبد الله محمد الناصر لدين الله في حياة والده يعقوب المنصور ثم جددت له
البيعة بعد وفاته وذلك يوم الجمعة الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة خمس وتسعين
وخمسمائة وهو اليوم الذي توفي فيه أبوه فأقام بمراكش بقية ربيع الأول وربيع الثاني
ثم نهض في فاتح جمادى الأولى إلى فاس فأقام بها بقية السنة المذكورة
ثم غزا جبال غمارة من أجل علودان الغماري الثائر بها ففتحها ثم رجع إلى فاس فأتم
بناء سورها الذي كان خربه عبد المؤمن وبنى قصبتها ورتب امورها وأقام بها إلى سنة
ثمان وتسعين وخمسمائة فعاد إلى مراكش وأقام بها إلى أن كان ما نذكره غزو الناصر
بلاد إفريقية وولاية الشيخ أبي محمد بن أبي حفص عليها والسبب في ذلك
لما هلك المنصور رحمه الله قوي أمر يحيى بن إسحاق المعروف بابن غانية بإفريقية
واستولى على أعمال قراقوش الغزي صاحب طرابلس وعلى المهدية وتغلب على بلاد الجريد
ثم نازل تونس سنة تسع وتسعين وخمسمائة وافتتحها عنوة لأربعة أشهر من حصارها في
ختام المائة السادسة وقبض على السيد أبي زيد وابنه ومن كان معه من الموحدين
____________________
وطالب أهل تونس بالنفقة التي
أنفق وبسط عليهم العذاب حتى هلك في الامتحان كثير من بيوتاتهم ثم دخل في دعوته أهل
القيروان وغيرها من البلاد وانتظمت له أعمال إفريقية وفرق العمال وخطب للخليفة
العباسي
واتصل بالناصر وهو بمراكش هذا كله فامتعض لذلك وشاور الموحدين في أمر إفريقية
فأشاروا عليه بمسالمة ابن غانية وأشار الشيخ أبو محمد عبد الواحد بن أبي حفص
بالنهوض إليها والمدافعة عنها فعمل على رأيه ونهض إليها سنة ستمائة وبعث الأسطول
في البحر لنظر يحيى بن ابي زكريا الهزرجي
واتصل ذلك بابن غانية فبعث ذخائره وحرمه إلى المهدية مع علي بن الغاني من قرابته
وولاه عليها
ولما قرب الناصر من إفريقية خرج ابن غانية من تونس إلى القيروان ثم إلى قفصة
واجتمع إليه العرب وأعطوه الرهائن على المظاهرة والدفاع وسار إلى حمامة مطماطة ثم
إلى جبل بني دمر فتحصن به
ووصل الناصر إلى تونس ثم سار في اتباع ابن غانية إلى قفصة ثم إلى قابس ثم عاد إلى
المهدية فعسكر عليها واتخذ الآلة لحصارها وسرح الشيخ أبا محمد عبد الواحد لقتال
ابن غانية في أربعة آلاف من الموحدين سنة اثنتين وستمائة فلقيه بجبل تاجورة من
نواحي قابس وأوقع به وقتل أخاه جبارة بن إسحاق واستنفذ السيد أبا زيد من معتقله
وأما الناصر فإنه استمر محاصرا للمهدية وبها يومئذ علي بن الغاني وكان يدعى بالحاج
وكان شهما محاربا فامتنع على الناصر وأبدى من مكايد الحرب وخداعه ما يقصر عنه
الوصف وأشجى الموحدين وبالغ في نكايتهم فكانوا يسمونه الحاج الكافر ثم نزل على
الأمان وأحسن إليه الناصر إحسانا تاما وسماه بالحاج الكافي بالياء بدل الراء لما
رأى من مراعاة
____________________
لصاحبه وحسن عهده معه واستشهد
الحاج الكافي هذا في وقعة العقاب الآتية
وكان فتح المهدية في السابع والعشرين من جمادى الأولى سنة اثنتين وستمائة وولى
الناصر عليها محمد بن يغمور الهرغي وارتحل عنها في عشرين من جمادى الثانية فدخل
تونس غرة رجب وأقام بها بقية السنة وأكثر الذي بعدها
ولما كان رمضان من سنة ثلاث وستمائة أشاع الناصر الحركة إلى المغرب واستخلف على
إفريقية ثقته ووزيره الشيخ أبا محمد عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص الهنتاني جد
الملوك الحفصيين بعد مراجعة وامتناع
قال ابن خلدون امتنع الشيخ أبو محمد إلى أن بعث إليه الناصر في ذلك بابنه يوسف
فأكبر مجيئه وأذعن ويقال إن الناصر قال له يا أبا محمد أنت تعلم ما تجشمناه من
المشاق والصوائر في استنقاذ هذا القطر ولا آمن عليه من عدو متوثب ولا يقوم بحمايته
إلا أنا أو أنت فامض إلى حفظ ممالكنا المغربية وأقيم أنا أو قم أنت وارجع أنا
فقنعه الحياء حينئذ وأذعن للإقامة واشترط شروطه المعروفة وهي أن يقيم ثلاث سنين
ريثما تترتب الأحوال ثم يعود إلى وطنه وأن يحكمه الناصر فيمن يحبسه معه من الجند
ويرضاه من أهل الكفاية وأن لا يتعقب أمره في ولاية ولا عزل فقبل الناصر شروطه
ولما عزم الناصر على النهوض إلى المغرب خرج إليه أهل تونس رافعي أصواتهم بين يديه
إشفاقا من عود ابن غانية إليهم فاستدعى وجوههم وكلمهم بنفسه وقال إنا قد اخترنا
لكم من يقوم مقامنا فيكم وآثرناكم به على شدة حاجتنا إليه وهو فلان فيباشر الناس
بولايته وشيع الناصر إلى باجة ورجع واليا على جميع بلاد إفريقية واستقل بأمرها
ونهيها
فمن هنا ورثت الملوك الحفصيون سلطنة تونس وإفريقية وقفل الناصر
____________________
إلى المغرب فدخل مراكش في ربيع
سنة أربع وستمائة ولما استقر بالحضرة وفدت عليه الوفود وهنأته الشعراء بالفتح فكان
من ذلك ما أنشده ابن مرج الكحل وهو قوله
( ولما توالى الفتح من كل وجهة ** ولم تبلغ الأوهام في الوصف حده )
( تركنا أمير المؤمنين لشكره ** بما أودع السر الإلهي عنده ) ( فلا نعمة إلا تؤدى
حقوقها ** علامته بالحمد لله وحده )
فاستحسن الكتاب منه ذلك ووقع أحسن موقع وأشار بذلك إلى العلامة السلطانية عند
الموحدين فإنها كانت أن يكتب السلطان بيده بخط غليظ في رأس المنشور الحمد لله وحده
وقد تقدم ذلك والله أعلم فتح جزيرة ميورقة
كانت جزيرة ميورقة لبني غانية المسوفيين من عهد علي بن يوسف بن تاشفين اللمتوني
وكان يعقوب المنصور قد بعث إليها أسطوله مرارا فامتنعت عليه ولما ولي ابنه الناصر
وغزا إفريقية وجه إليها من ثغر الجزائر أسطولا مع عمه السيد أبي العلاء والشيخ أبي
سعيد بن أبي حفص فنازلوها ثم اقتحموها عنوة وقتلوا صاحبها عبد الله بن إسحاق
المسوفي
وانصرف السيد إلى مراكش بعد أن ولي عبد الله بن طاع الله الكومي ووفد أهلها على
الناصر فأكرم وفادتهم وولي القضاء عليهم الفقيه الجليل المحدث أبا محمد عبد الله
بن سليمان الأنصاري المعروف بابن حوط الله ذكره ابن الخطيب في الإحاطة فقال كان
مشهورا بالعقل والفضل معظما عند الملوك معلوم القدر لديهم يخطب في مجالس الأمراء
والمحافل الجمهورية مقدما في ذلك ذا بلاغة وفصاحة إلى أبعد مضمار ولي قضاء إشبيلية
وقرطبة ومرسية وسلا وميورقة فتظاهر بالعدل
____________________
وعرف بما أبطن من الدين والفضل
وكان من العلماء العاملين مجانبا لأهل البدع والأهواء بارع الخط حسن التقييد إلى
غير ذلك
ثم ولى الناصر على ميورقة عمه السيد أبا زيد وجعل ابن طاع الله على قيادة البحر
وبعد السيد أبي زيد وليها السيد أبو عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن ثم أبو
يحيى بن علي بن أبي عمران التينمللي ومن يده أخذها النصارى سنة سبع وعشرين وستمائة
وكان الحادث بها عظيما ثورة ابن الفرس وما كان من أمره
كان عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الفرس من طبقة العلماء بالأندلس ويعرف بالمهر
وحضر مجلس يعقوب المنصور في بعض الأيام وتكلم بما خشي عاقبته في عقده فخرج من
المجلس واختفى مدة ثم القحطاني المراد بقوله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة
حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه يملأها عدلا كما ملئت جورا الحديث وكان
مما نسب إليه من الشعر قوله
( قولا لأبناء المؤمن بن علي ** تأهبوا لوقوع الحادث الجلل )
( قد جاء سيد قحطان وعالمها ** ومنتهى القول والغلاب للدول )
( والناس طوع عصاه وهو سائقهم ** بالأمر والنهي بحر العلم والعمل )
( وبادروا أمره فالله ناصره ** والله خادع أهل الزيغ والميل )
فبعث الناصر إليه الجيوش فهزموه وقتل وسيق رأسه إلى مراكش فنصب بها وسكنت الفتنة
وقد ثار أيضا في سنة ستمائة رجل من آل البيت من العبيديين واسمه محمد بن عبد الله
بن العاضد وهذا العاضد هو آخر خلفاء الشيعة بمصر فثار حافده محمد بن عبد الله
المذكور بجبال ورغة من أحواز فاس فظفر به
____________________
وقتل وعلق رأسه بباب الشريعة
أحد أبواب فاس وأحرق جسده في وسط الباب المذكور وركبت مصارعه فسمي الباب باب المحروق
بعد أن كان يسمى باب الشريعة
ثم في سنة عشر وستمائة ثار ولد هذا المحروق بجبال غمارة وادعى أنه الفاطمي وتبعه
خلق كثير من أهل الجبل والبادية فبعث إليه الناصر جيشا فظفر به وقتل
وفي سنة إحدى وستمائة بنى عامل الريف من قبل الناصر واسمه يعيش سور بادس ولمديه ومليلية
حياطة وتحصينا من فجأة العدو
وفي سنة أربع وستمائة أمر الناصر بتجديد سور مدينة وجدة وإصلاحها فشرع في ذلك في
فاتح رجب من السنة المذكورة
وفيها أيضا أمر الناصر ببناء دار الوضوء والسقاية بإزاء جامع الأندلس بفاس فبنيت
وجلب إليها الماء من العين التي خارج باب الحديد وأمر ببناء الباب الكبير المدرج
الذي بحصن الجامع المذكور وأنفق في ذلك كله من بيت المال
وفيها أيضا أمر ببناء مصلى القرويين وأمر أن لا يصلى بمصلى الأندلس فأقام الناس
يصلون بعدوة القرويين ثلاث سنين ثم عادوا يصلون بالأندلس والقرويين معا كما كانوا
أولا بعد أن شهد أنها قديمة
وفي شوال من السنة المذكورة نهض الناصر من فاس إلى مراكش فأقام بها إلى أن كان ما
نذكره
____________________
غزوة العقاب التي محص الله
فيها المسلمين
ثم اتصلت الأخبار بالناصر وهو بمراكش أن الفنش لعنه الله قد استطال على ثغور
المسلمين بالأندلس وأنه يغير على قراها وينهب الأموال ويسبي النساء والذرية فأهمه
ذلك وأقلقه وكتب إلى الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص صاحب إفريقية يستشيره
في الغزو فأبى عليه فخالفه وأخذ في الحركة للجهاد
وكان الناصر معجبا برأيه مستبدا بأموره ففرق الأموال على القواد والأجناد وكتب إلى
جميع بلاد إفريقية والمغرب وبلاد القبلة يستنفر المسلمين لغزو الكفار فأجابه خلق
كثير وألزم كل قبيلة من قبائل العرب بحصة من الخيل والرجل تخرج للجهاد فتقدمت عليه
الجيوش من سائر الأقطار وتسارع الناس إليه خفافا وثقالا من البوادي والأمصار
فلما تكاملت لديه الحشود وتوافت بحضرته الجنود خرج من مراكش في تاسع عشر شعبان سنة
سبع وستمائة فانتهى إلى قصر المجاز فأقام به وشرع في إجازة الجيوش من أوائل شوال
إلى أواخر ذي القعدة من السنة المذكورة فتلقاه هنالك قواد الأندلس وفقهاؤها
ورؤساؤها وأقام بطريف ثلاثا ثم نهض إلى إشبيلية في أمم لا تحصى وجيوش لا تستقصى قد
ملأت السهل والوعر
حكى بعض الثقات من مؤرخي المغرب أنه اجتمع مع الناصر في هذه الغزوة من أهل المغرب
والأندلس ستمائة ألف مقاتل وكان الناصر رحمه الله قد أعجبه ما رأى من كثرة جنوده
وأيقن بالظفر فقسم الناس على خمس فرق فجعل العرب فرقة وزناتة وصنهاجة و المصامدة و
غمارة وسائر أصناف قبائل المغرب فرقة وجعل المتطوعة فرقة وجعل جند الأندلس فرقة
والموحدين فرقة وأمر كل فرقة أن تنزل ناحية واهتزت جميع بلاد
____________________
الفرنج لجوازه وتمكن رعبه في
قلوبهم فأخذوا في تحصين بلادهم وإخلاء ما قرب من المسلمين من قراهم وحصونهم وكتب
إليه أكثر أمرائهم يسألونه السلم ويطلبون منه العفو ووفد عليه منهم ملك ينبلونة
مستسلما خاضعا طالبا للصلح فيقال إنه قدم بين يديه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم
الذي كتبه إلى هرقل ملك الروم يستشفع به وقد كان هذا الكتاب وقع إليه وراثة من بعض
سلفه فاحتفل الناصر لقدومه وصف له الجيوش من باب مدينة قرمونة إلى باب إشبيلية
أربعين ميلا ثم عقد له الصلح ما دامت دولة الموحدين وصرفه إلى بلاده مكرما مسعفا
بجميع مطالبه
وعند ابن خلدون أن الذي وفد على الناصر في هذه الغزوة هو البيبوج أحد الملوك
الثلاثة الذين شهدوا وقعة الأراك قال وهو الذي مكر بالناصر يوم العقاب قدم عليه
وأظهر له التنصح وبذل له أموالا ثم غدر به وجر عليه الهزيمة والله أعلم
ثم خرج الناصر من إشبيلية غازيا بلاد قشتالة في أوائل صفر سنة ثمان وستمائة فسار
حتى نزل حصن سلبطرة وهو حصن منيع وضع على قمة جبل وقد تعلق بأكناف السحاب ليس له
مسلك إلا من طريق واحد في مضائق وأوعار فنزل عليه لناصر وأدار به الجيوش ونصب عليه
أربعين منجنيقا فهتك أرباضه ولم يقدر منه على شيء
قالوا وكان وزيره أبو سعيد بن جامع قد تمكن من الناصر فأقصى شيوخ الموحدين
وأعيانهم وذوي الحنكة والرأي منهم عن بساطه وانفرد هو به فكان يشير على الناصر في
غزوته هذه بآراء كانت سبب الضعف والوهن وجلبت الكرة على المسلمين من ذلك أن الناصر
لما أعياه أمر الحصن عزم على النهوض عنه إلى غيره فأشار عليه ابن جامع بأن لا يتجاوزه
حتى يفتحه فيقال إنه أقام على ذلك الحصن ثمانية اشهر فنيت فيها أزواد الناس وقلت
علوفاتهم وكلت عزائمهم وفسدت نياتهم وانقطعت الأمداد عن
____________________
المحلة فغلت بها الأسعار ودخل
فصل الشتاء فاشتد البرد وأصاب المسلمين كل ضر ويقال إنه من طول مقام الناصر على
ذلك الحصن عشش الخطاف في جانب خبائه وباض وأفرخ وطارت فراخه وهو مقيم على حاله
واتصل بالفنش لعنه الله ما آل إليه أمر المسلمين من الضجر وقلة المادة وتشوش
البواطن واختلاف الرأي فاغتنم الفرصة وبعث الحاشرين في مدائنه ودعا كل من قدر على
حمل السلاح من رعيته فاجتمع له من ذلك ما لا حصر له
ثم خالف الناصر إلى قلعة رياح فنازلها وبها يومئذ أبو الحجاج يوسف بن قادس من قواد
الأندلس وزعمائها كان قد ترتب في ذلك الحصن في جماعة من الخيل لحمايته وضبطه
فحاصره الفنش وبالغ في التضييق عليه فكان ابن قادس يكتب لأمير المؤمنين الناصر
يعلمه بحاله ويستمده على عدوه وهو على حصن سلبطرة فكان الوزير ابن جامع إذا وصلت
إليه كتب ابن قادس أخفاها عن الناصر لئلا يرحل عن الحصن قبل فتحه فلما طال الحصار
على ابن قادس وفنى ما عنده من الأقوات والسلاح ويئس من إمداد الناصر إياه وخشي على
من في الحصن من النساء والذرية صالح الفنش على تسليم الحصن له وخروج المسلمين
آمنين على أنفسهم ففعل واستولى الفنش على قلعة رباح
وسار ابن قادس إلى الناصر ليجتمع به ويعلمه بالأمر على وجهه وسار معه صهر له بعد
أن عزم ابن قادس عليه أن يرجع فأبى وقال إن قتلت قتلت معك ولما وصل إلى الوزير ابن
جامع أمر بحبسه وحبس صهره معه ثم دخل على الناصر فقال له إن ابن قادس قد دفع الحصن
إلى العدو ثم قدم عليك وأراد الدخول عليك
وكان الناصر قد تغير باطنه على أهل الأندلس واتهمهم بكتمان أمر العدو عنه حين كان
بمراكش فلما قدم ابن قادس في هذه المرة وقال له ابن
____________________
جامع ما قال أمر بقتله هو
وصهره قطعا بالرماح رحمهما الله
فحقدت جيوش الأندلس على ابن جامع وفسدت نياتهم على الناصر وأحس ابن جامع بذلك فأمر
بإحضار قوادهم فحضروا بين يديه فقال اعتزلوا جيش الموحدين فلا حاجة لنا بكم كما
قال الله تعالى { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا } وسننظر بعد هذا في أمر كل
فاجر
ولما علم الناصر بحال الفنش وما هو عليه من القوة وكثرة الجموع واستيلائه على قلعة
رياح التي هي أمنع ثغور المسلمين شق ذلك عليه وامتنع من الطعام والشراب حتى مرض من
شدة الوجد ثم شدد في قتال سلبطرة وبذل الأموال الجليلة حتى فتحها صلحا وذلك في
أواخر ذي الحجة من سنة ثمان وستمائة ثم زحف الفنش إلى الناصر ونهض الناصر إليه
فالتقى الجمعان بموضع يعرف بحصن العقبان فضرب المصاف وضرب للناصر قبته الحمراء
المعدة للقتال على رأس ربوة وقعد أمامها على درقته وفرسه قائم بإزائه ودارت العبيد
بالقبة من كل ناحية ومعهم السلاح التام ووقفت الساقات والبنود والطبول أمام العبيد
مع الوزير ابن جامع وأقبلت جموع الفرنج على مصافها كأنها الجراد المنشر فتقدمت
إليهم المتطوعة وحملوا عليهم أجمعون وكانوا مائة وستين ألفا فغابوا في صفوفهم
وانطبقت عليهم الفرنج فاقتتلوا قتالا شديدا فاستشهد المتطوعة عن آخرهم هذا وعساكر
الموحدين والعرب والأندلس ينظرون إليهم لم يحرك إليهم منهم أحد
ولما فرغ الفرنج من المتطوعة حملوا بأجمعهم على عساكر الموحدين والعرب حملة منكرة
فلما انتشب القتال بين الفريقين فرقت قواد الأندلس وجيوشها لما كانوا قد حقدوه على
ابن جامع في قتل ابن قادس أولا وتهديدهم وطرده لهم ثانيا فجروا الهزيمة على
المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله وتبعهم قبائل البربر والموحدون العرب وركبتهم
الفرنج بالسيف وكشفوهم عن الناصر حتى انتهوا إلى الدائرة التي دارت عليه من العبيد
____________________
والحشم فألفوها كالبنيان
المرصوص لم يقدروا منها على شيء ودفع الفرنج بخيلهم المدرعة على رماح العبيد وهي
مشرعة إليهم فدخلوا فيها والناصر قاعد على درقته أمام خبائه يقول صدق الرحمن وكذب
الشيطان حتى كانت الفرنج تصل إليه وحتى قتل حوله من عبيد الدائرة نحو عشرة آلاف ثم
أقبل إليه بعض فرسان العرب على فرس له أنثى فقال له إلى متى قعودك يا أمير
المؤمنين وقد نفذ حكم الله وتم أمره وفنى المسلمون فعند ذلك قام الناصر إلى جواد
له سابق كان إمامه فأراد أن يركبه فترجل العربي عن فرسه وقال له اركب هذه الحرة
فإنها لا ترضى بعار فلعل الله ينجيك عليها فإن في سلامتك الخير كله فركبها الناصر
وركب العربي جواده وتقدم أمامه في كوكبة عظيمة من العبيد محيطة بهم والفرنج في
أعقابهم تقتلهم ونادى منادي الفنش يومئذ ألا لا أسر إلا القتل ومن أتى بأسير قتل هو
وأسيره فحكمت سيوف الفرنج في المسلمين إلى الليل
وكانت هذه الرزية العظيمة يوم الاثنين خامس عشر صفر سنة تسع وستمائة فذهبت قوة
المسلمين بالمغرب ولأندلس من يومئذ ولم تنصر لهم بعدها راية مع الفرنج إلى أن
تدارك الله رمق الأندلس بالسلطان المنصور بالله يعقوب بن عبد الحق المريني رحمه
الله كما سنقص خبر ذلك مستوفى عند الوصول إليه إن شاء الله
قال ابن الخطيب لما لحق الناصر بإشبيلية حمل السيف على طائفة كبيرة ممن توجهت
إليهم الظنة وقال ابن خلدون ثم رجعت الفرنج إلى ألأندلس بعد الكائنة للإغارة على
بلاد المسلمين فلقيهم السيد أبو زكريا بن أبي حفص بن عبد المؤمن قريبا من إشبيلية
فهزمهم وانتعش المسلمون بها واتصلت الحال على ذلك
____________________
وفاة الناصر رحمه الله
قال ابن أبي زرع لما قدم الناصر إلى مراكش منصرفا من وقعة العقاب أخذ البيعة لولده
يوسف الملقب بالمنتصر فبايعه كافة الموحدين وخطب له على جميع منابر المغرب
والأندلس في العشر الأواخر من ذي الحجة سنة تسع وستمائة
ولما تمت له البيعة دخل الناصر قصره واحتجب فيه عن الناس وانغمس في لذاته مصطحبا
ومغتبقا إلى شعبان من سنة عشر وستمائة فمات مسموما بتدبير وزرائه عليه في ذلك قال
وكانت وفاته يوم الأربعاء الحادي عشر من شعبان المذكور
وقال ابن خلكان تقول المغاربة إن الناصر رحمه الله كان قد أوصى إلى عبيده
المشتغلين بحراسة بستانه بمراكش أن كل من ظهر لهم بالليل فهو مباح الدم لهم ثم
أراد أن يختبر قدر أمره عندهم فتنكد وجعل يمشي في البستان ليلا فعندما رأوه جعلوه
غرضا لرماحهم فجعل يقول أنا الخليفة أنا الخليفة فما تحققوه حتى فرغوا منه والله
أعلم بصحة ذلك
قلت الصحيح في وفاة الناصر ما ذكره الوزير ابن الخطيب في رقم الحلل قال ثم صرف
الناصر وجهه إلى غزو الأندلس في عزم لم يبلغ إليه ملك قبله ولما احتل رباط الفتح
من سلا نزل به الموت فتوفي ليلة الثلاثاء عاشر شعبان سنة عشر وستمائة فانحل العزم
وتفرقت الجموع والبقاء له وحده
____________________
الخبر عن دولة أمير المؤمنين يوسف المنتصر بالله ابن الناصر بن المنصور رحمه الله
لما هلك محمد الناصر لدين الله بويع ابنه أبو يعقوب يوسف بن محمد بن يعقوب المنصور
وهو ابن ست عشرة سنة ولقب بالمنتصر بالله وغلب عليه الوزير أبو سعيد بن جامع
ومشيخة الموحدين فقاموا بأمره واستبدوا عليه وتأخرت بيعة الشيخ أبي محمد عبد
الواحد بن أبي حفص من إفريقية لصغر سن المنتصر ثم وقعت المحاولة من الوزير ابن
جامع وصاحب الأشغال عبد العزيز بن أبي زيد فوصلت بيعته حينئذ واشتغل المنتصر عن
تدبير الأمر والجهاد بما يقتضيه الشباب
وعقد للسادات على عمالات ملكه فعقد للسيد أبي إبراهيم إسحاق بن يوسف بن عبد المؤمن
ويلقب بالظاهر على فاس وأعمالها وهو أخو المنصور ووالد عمر المرتضى الآتي ذكره
وعقد لعمه السيد أبي إسحاق بن المنصور على إشبيلية وما اضيف إليها ولعمه أبي عبد
الله محمد بن المنصور على بلنسية وشاطبة وأعمالها ولعمه أبي محمد عبد الله بن
المنصور على مرسية ودانية وأعمالها وبعث معه الشيخ أبا زيد بن يرجان وكان من أشياخ
الموحدين ودهاتهم
وفي دولة المنتصر هذا فشل أمر الموحدين وذهبت ريحهم وأشرفت دولتهم على الهرم
واستولى الفنش على المعاقل التي أخذها المسلمون وهزم حامية الأندلس في كل جهة
واستبدت السادة بالأطراف والتاثت الأمور بالأندلس والمغرب أجمع أما الأندلس فبتكالب
العدو عليها وفناء حماتها وأما المغرب فبخلاء كثير من قراه وأمصاره من وقعة العقاب
ثم ظهرت بنو مرين بجهة فاس سنة ثلاث عشرة وستمائة وكانوا موطنين بصحراء فيجيج وما
والاها فاقتحموا المغرب في هذه السنين لخلائه
____________________
من الحامية واكتسحوا بسائطه بالغارت
وانحازت رعاياه إلى المعاقل والحصون وكثرت الشكايات بهم إلى المنتصر وهو مقيم
بمراكش فكتب إلى السيد أبي إبراهيم صاحب فاس يأمره بغزوهم فخرج إليهم وهو ببلاد
الريف فأوقعوا به وقعة شنعاء كانت باكورة فتحهم وعاد السيد مفلولا إلى فاس وأصحابه
عراة بين يديه يخصفون عليهم من ورق النبات المعروف بالمشعلة فسميت السنة سنة
المشعلة وكانوا قد أسروا السيد أبا إبراهيم ثم عرفوه فأطلقوه ثم صمدت بنو مرين
بعدها إلى تازا ففلوا حاميتها وعظمت شوكتهم بالمغرب على ما نذكره بعد أن شاء الله
وفي سنة أربع عشرة وستمائة هزم المسلمون بقصر أبي دانس من الأندلس وهي من الهزائم
الكبار التي تقرب من هزيمة العقاب لأن العدو كان قد نزل قصر أبي دانس وحاصره فخرج
إليه جيش إشبيلية وجيش قرطبة وجيش جيان وحشود بلاد غرب الأندلس لاستنقاذ قصر أبي
دانس وكان ذلك بأمر المنتصر فساروا يؤمون العدو فلم تقع عينهم على عينه إلا وقد
خامر قلوب المسلمين الرعب وولوا الأدبار لما كان قد رسخ في نفوسهم من بأسه يوم
العقاب فتكالب العدو بعدها على المسلمين وتمرس بهم وهان عليه أمرهم وخشعت نفوسهم
له ولما فروا منه في هذه الخرجة ركبهم بالسيف وقتلهم عن آخرهم ورجع الفنش إلى قصر
أبي دانس فحاصره حتى اقتحمه عنوة وقتل جميع من به من المسلمين
وفي سنة ثمان عشرة وستمائة توفي صاحب إفريقية الشيخ أبو محمد عبد الواحد بن أبي
حفص فبايع الموحدون بإفريقية ابنه ابا زيد عبد الرحمن فقام بالأمر وأطفأ النائرة
وافاض العطاء ومهد النواحي ورتب الأمور حتى ورد كتاب المنتصر من مراكش لثلاثة أشهر
من ولايته بتأخيره وتولية السيد أبي العلاء الأكبر مكانه وهو إدريس بن يوسف بن عبد
المؤمن فقدم إفريقية في ذي القعدة سنة ثمان عشرة وستمائة ووالى
____________________
الهزائم على ابن غانية الثائر
بإفريقية حتى شرد إلى الصحراء وأبو العلاء هذا هو الذي بنى البرجين اللذين على باب
المهدية وحصنها وهو الذي بنى برج الذهب بإشبيلية أيام ولايته عليها في دولة أبيه
وأقام أبو العلاء بإفريقية إلى أن توفي بتونس منها في شعبان سنة عشرين وستمائة
واستولى على إفريقية بعده ابنه أبو زيد بن إدريس وساءت سيرته في الناس وأقام على
ذلك إلى دولة العادل عبد الله بن المنصور صاحب مراكش فعزله وولى مكانه عبد الله بن
عبد الواحد بن أبي حفص
ثم غلب عليه أخوه أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص وتداول ملك إفريقية
بنوه من بعده واستبدوا بها واقتطعوها عن نظر بني عبد المؤمن أصحاب مراكش فلم تعد
إليهم بعد
وأما يوسف المنتصر فإنه استمر مقيما بمراكش على لذاته إلى أن توفي وكان من خبر
وفاته أنه كان مولعا باتخاذ الحيوان واستنتاجه فكان يؤتى إليه بأصناف البقر من
الأندلس فيرسلها في بستانه الكبير من حضرة مراكش ويحمل بعضها على بعض للتناسل فخرج
ذات يوم للتطوف على تلك البقر والنظر إليها فتوسط قطيعا منها وقد ركب فنشيا
فأنكرته بقرة شرود كانت في ذلك القطيع فطعنته في صدره طعنة أتت عليه من حينه وذلك
في عشي يوم السبت الثاني عشرة من ذي الحجة سنة عشرين وستمائة ولم يخلف إلا حملا من
جارية له
قال ابن خلكان لم يكن في بني عبد المؤمن أحسن وجها من المنتصر ولا أبلغ في
المخاطبة إلا أنه كان مشغوفا براحته فلم يبرح عن حضرته فضعفت الدولة في أيامه
والله تعالى أعلم
____________________
الخبر عن دولة أمير المؤمنين
عبد الواحد المخلوع ابن يوسف بن عبد المؤمن رحمه الله
لما هلك المنتصر في التاريخ المتقدم اجتمع الوزير ابن جامع والموحدون وبايعوا
للسيد أبي محمد عبد الواحد بن يوسف وهو أخو المنصور
قال ابن أبي زرع بايعوه على كره منه بقبة المنصور من قصبة مراكش وهو يومئذ في سن
الشيخوخة وكان عالما فاضلا متورعا فاستقام له الأمر نحو شهرين وخطب له في جميع
أعمال الموحدين ما عدا مرسية فإن ابن أخيه السيد أبا محمد عبد الله بن المنصور
الملقب بالعادل كان واليا عليها وكان وزيره بها الشيخ أبا زيد بن يرجان المعروف
بالأصفر وكان من دهاة الموحدين وكان المنصور رحمه الله إذا رآه يستعيذ بالله من
شره ويقول ماذا يجري على يديك من الفتن يا اصفر وكان من خبره أنه لما بويع المخلوع
أمر بإطلاق ابن يجارن لأنه كان محبوسا على ما عند ابن خلدون فأطلق ثم صده ابن جامع
عن ذلك وأنفذ أخاه أبا إسحاق في الأسطول ليغربه إلى ميورقة فلاذ ابن يرجان حينئذ
بعبد الله بن المنصور صاحب مرسية ونزل منه منزلة الوزير وأغراه بالتوثب على الأمر
وشهد له أنه سمع من المنصور رحمة الله العهد له بالخلافة من بعد الناصر وقال له
فيما قال إنك أحق بالخلافة من عبد الواحد أنت ولد المنصور وأخو الناصر وعم المنتصر
ولك الرأي وحسن السياسة والحزم ولو دعوت الموحدين إلى بيعتك لم يختلف عليك اثنان
وكان الناس على كره من ابن جامع وولاة الأندلس يومئذ كلهم بنو المنصور فأصغى إليه
عبد الله هذا وكان مترددا في بيعة عمه فبرز إلى مجلس حكمه واستدعى من بمرسية
وأعمالها من الموحدين والفقهاء والأشياخ فدعاهم إلى بيعته فبايعوه وتسمى بالعادل
وكان إخوته أبو العلاء
____________________
الأصغر صاحب قرطبة وأبو الحسن
صاحب غرناطة وأبو موسى صاحب مالقة فبايعوه سرا وكان أبو محمد بن أبي عبد الله بن
أبي حفص بن عبد المؤمن المعروف بالبياسي صاحب جيان وقد عزله المخلوع بعمه أبي
الربيع بن أبي حفص فانتقض وبايع للعادل وزحف مع ابي العلاء صاحب قرطبة وهو أخو
العادل إلى إشبيلية وبها عبد العزيز أخو المنصور والمخلوع فدخل في دعوتهم وامتنع
السيد أبو زيد بن أبي عبد الله أخو البياسي عن بيعة العادل وتمسك بطاعة المخلوع
وخرج العادل من مرسية إلى إشبيلية فدخلها مع أبي زيد بن يرجان وبلغ الخبر إلى
مراكش فاختلف الموحدون على المخلوع وبادروا بعزل ابن جامع وتغريبه إلى هسكورة
لكراهيتهم له وجرت خطوب أفضت إلى خلع عبد الواحد وقتله
وفي القرطاس أن عبد الواحد العادل كتب إلى أشياخ الموحدين الذين بحضرة مراكش
يدعوهم إلى بيعته وخلع عبد الواحد ووعدهم على ذلك الأموال الجزيلة والمنازل
الرفيعة والولايات الجليلة فسارعوا إلى ذلك ودخلوا على عبد الواحد وتهددوه بالقتل
إلا أن يخلع نفسه ويبايع للعادل فأجابهم إلى ذلك فخرجوا عنه ووكلوا بالقصر من
يحفظه وكان ذلك يوم السبت الحادي والعشرين من شعبان سنة إحدى وعشرين وستمائة
فلما كان يوم الأحد بعده دخلوا على عبد الواحد القصر وأحضروا القاضي والفقهاء
والأشياخ فأشهد على نفسه بالخلع وبايع للعادل ثم دخلوا عليه بعد مضي ثلاث عشرة
ليلة من خلعه فخنقوه حتى مات وانتهبوا قصره واستولوا على أمواله وحريمه فكان عبد
الواحد هذا أول من خلع وقتل من بني عبد المؤمن وصار أشياخ الموحدين لخلفائهم
كالأتراك لبني العباس فكان فعلهم ذلك سببا لذهاب ملكهم وانقراض دولتهم والله تعالى
لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وكانت وفاة عبد الواحد المخلوع خامس رمضان
المعظم سنة إحدى وعشرين وستمائة
____________________
الخبر عن دولة أبي محمد عبد
الله العادل ابن المنصور رحمه الله
بويع له البيعة الأولى بمرسية من بلاد الأندلس منتصف صفر سنة إحدى وعشرين وستمائة
وتلقب بالعادل في أحكام الله ثم خلص له الأمر وبايعه كافة الموحدين وخطب له بحضرة
مراكش أواخر شعبان من السنة المذكورة
وتوقف عن بيعته السيد أبو زيد بن أبي عبد الله أخو البياسي كما ذكرناه آنفا وكان
واليا على بلنسية وشاطبة ودانية ولما رأى السيد أبو محمد البياسي أخاه السيد أبا
زيد توقف عن بيعة العادل وضبط بلاده ثار هو ببياسة وما انضاف إليها من قرطبة وجيان
وقيجاطة وحصون الثغر الأوسط وتلقب بالظافر وإنما دعي البياسي لقيامه من بياسة
فوصلت بيعة الموحدين من مراكش إلى العادل ومعها كتاب أبي زكريا يحيى ابن الشهيد
شيخ هنتانة بقصة المخلوع وما كان من أمره فصادف وصولها هيجان هذه الفتنة فشغل
العادل بها عن مراكش وبعث أخاه السيد أبا العلاء الأصغر وهو إدريس بن المنصور في
جيش كثيف إلى البياسي فحاصره ببياسة ولما اشتد عليه الحصار أظهر الطاعة والانقياد
وبايع للعادل حتى إذا أفرج عنه أبو العلاء عاد إلى النكث وبعث إلى الفنش يستنصره
على العادل وضمن له أن ينزل له عن بياسة وقيجاطة فكان أول من سن إعطاء الحصون
والبلاد للفرنج فوجه إليه الفنش بجيش من عشرين ألفا ولما توافت لديه جموع الفرنج
نهض من قرطبة يريد إشبيلية حتى إذا دنا منها خرج إليه السيد أبو العلاء الأصغر وهو
الذي دعي بعد بالمأمون فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم السيد أبو العلاء
واستولى البياسي والفرنج على محلته بما فيها من أثاث وسلاح ودواب وغير ذلك
____________________
ولما رأى العادل ما وقع بأخيه وجنده خشي أن يتفاقم داء البياسي ويمتد عباب فتنته
إلى مراكش فترك أخاه أبا العلاء قبالته وعبر البحر إلى العدوة ولما احتل بقصر
المجاز دخل عليه عبد الله بن عبد الواحد بن أبي حفص المدعو بعبو فقال له العادل
كيف حالك فأنشده
( حال متى علم ابن المنصور بها ** جاء الزمان إلي منها تائبا )
فاستحسن ذلك منه وولاه إفريقية وهذا البيت لأبي الطيب المتنبي وإنما تمثل به عبو
لموافقة اسم منصور فيه لاسم والد العادل فحسن التمثيل به
وانتهى العادل في سيره إلى سلا فأقام بها وبعث عن شيوخ جشم عرب تامسنا وكان لابن
يرجان عناية واختصاص بهلال بن حميدان أمير الخلط فتثاقل جرمون بن عيسى أمير سفيان
عن الوصول إلى العادل ثم بادر العادل إلى مراكش وقاسى في طريقه إليها من العرب
شدائد ثم دخلها واستوزر أبا زيد بن عبد الواحد بن أبي حفص وتغير لابن يرجان ففسد
باطنه وسعى في إفساد الدولة وغلب أبو زكريا بن الشهيد شيخ هنتاتة ويوسف بن علي شيخ
تينملل على أمر العادل ثم خالفت عليه عرب الخلط وهسكورة وعاثوا في نواحي مراكش وخربوا
بلاد دكالة فخرج إليهم ابن يرجان فلم يغن شيئا فأنفذ إليهم العادل عسكرا من
الموحدين لنظر إبراهيم بن إسماعيل ابن الشيخ أبي حفص فانهزم وقتل واضطربت الأحوال
على العادل وخرج ابن الشهيد ويوسف بن علي إلى قبائلهما للحشد ومدافعة هسكورة
والعرب فاتفقا أيضا على خلع العادل واضطربت الأمور
ولما انتهى إلى أبي العلاء صاحب الأندلس خبر أخيه العادل وما هو فيه بمراكش من
الاضطراب دعا لنفسه بإشبيلية فبويع بها وأجابه أكثر أهل الأندلس وتلقب بالمأمون
وبايع له السيد أبو زيد صاحب بلنسية وهو أخو البياسي وكان ذلك في أوائل شوال سنة أربع
وعشرين وستمائة
____________________
ولما تمت بيعته كتب إلى الموحدين الذين بمراكش يدعوهم إلى بيعته ويعلمهم باجتماع
أهل الأندلس والموحدين الذين بها عليه ووعدهم في ذلك ومناهم فكان منهم بعض توقف ثم
أجمع رأيهم على مبايعته وخلع أخيه العادل فدخلوا عليه قصره وسألوه أن يخلع نفسه
فامتنع فوثبوا عليه ودسوا رأسه في خصة ماء كانت هناك وقالوا له لا نفارقك أو تشهد
على نفسك بالخلع فقال اصنعوا ما بدا لكم والله لا أموت إلا أمير المؤمنين فوضعوا
عمامته في عنقه وخنقوه ورأسه في الخصة حتى فاظ وكان خيرا فاضلا رحمه الله وكانت وفاته
في الحادي والعشرين من شوال سنة أربع وعشرين وستمائة وكتبوا بيعتهم إلى أبي العلاء
المأمون وبعثوا بها إليه مع البريد ثم بدا لهم في بيعة المأمون بعد انفصال البريد
عنهم فنكثوها وبايعوا يحيى بن الناصر بن المنصور واضطربت الأحوال بالمغرب والأندلس
وطما عباب الفتن وكان ما نذكره الخبر عن دولة المأمون بن المنصور ومزاحمة يحيى بن
الناصر له
كان المأمون وهو أبو العلاء إدريس بن يعقوب المنصور لما بلغه انتقاض الموحدين
والعرب بالحضرة على أخيه وتلاشي أمره دعا لنفسه بإشبيلية وبايعه أهل الأندلس
والموحدون بالحضرة كما قلنا ثم لما انفصل البريد ببيعته من الحضرة ندم الموحدون
على ذلك لما يعلموه من شهامته وصرامته وتخلقه بأخلاق الحجاج بن يوسف وتخوفوا أن
يأخذهم بدم عمه عبد المخلوع ثم أخيه عبد الله العادل فاتفق رأيهم على مبايعة يحيى
بن الناصر بن المنصور وهو شاب غر كما يقل عذاره وإنما وقع اختيارهم عليه ليكون
أطوع لهم فإن سنه يومئذ كانت ستة عشر سنة
____________________
فبايعوه بجامع المنصور من قصبة
مراكش بعد صلاة العصر من يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شوال سنة أربع وعشرين
وستمائة وامتنع عرب الخلط وقبائل هسكورة من بيعته وقالوا قد بايعنا المأمون فلا
ننكث بيعته وتأخر قدوم المأمون إلى مراكش وبقي بالأندلس لأسباب يأتي شرحها وأقام
يحيى بمراكش واستتب أمره بها بعض الشيء وجهز جيشا من الموحدين والجند إلى قتال
الخلط وهسكورة وهم يومئذ في طاعة المأمون فانهزم جيش يحيى وقتل منه خلق كثير وعاد
مفلولا إلى مراكش ثم اطلع يحيى على مداخلة أبي زيد بن يرجان للعرب وهسكورة في
الغارة على مراكش واطلع على ذلك أيضا أبو زكريا يحيى بن الشهيد فقتل ابا زيد بن
يرجان وابنه عبد الله ونصب رؤوسهما على باب الكحل وطوف أجسادهما بأسواق المدينة ثم
اضطربت الأحوال على يحيى وانتقضت البلاد وغلت الأسعار وعم الخراب والفساد بلاد
المغرب واستحوذ بنو مرين على ضواحيه وضايقوا الموحدين في كثير في أمصاره واقتضوا
جبايته ونبغت الثوار في الأقطار على ما نذكره ثورة محمد بن أبي الطواجين الكتامي
بجبال غمارة
ولما كانت سنة خمس وعشرين وستمائة ثار بجبال غمارة محمد بن أبي الطواجين الكتامي
المتنبي وكان أبوه من قصر كتامة منقبضا عن الناس وكان ينتحل صناعة الكيمياء فكان
يلقب بأبي الطواجين لكثرة الظروف التي كان يستعملها في ذلك بزعمه وتلقن ذلك عنه
ابنه هذا ثم ارتحل إلى سبتة ونزل على بني سعيد بأحوازها وادعى صناعة الكيمياء
فتبعه الغوغاء ثم ادعى النبوة وشرع الشرائع وأظهر أنواعا من الشعبذة فكثر تابعوه
ثم اطلعوا على خبثه فنبذوا إليه عهده وزحفت إليه عساكر سبتة ففر عنهم ثم قتله
____________________
بعض البرابرة غيلة بوادي لاو
بين بلاد بني سعيد وبلاد بني زيات وابن أبي الطواجين هذا هو الذي تسبب في قتل
الشيخ أبي محمد عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه على ما نذكره بعد إن شاء الله أخبار
الثوار وما آل إليه أمر الموحدين بها
لما ضعف أمر الموحدين بالمغرب وكثرت الفتن في أقطاره ونواحيه وانتزى السادات منهم
بنواحي الأندلس كل في عمله واستظهر كل واحد منهم على أمره بالطاغية ونزلوا له عن
كثير من الحصون فسدت من أجل ذلك ضمائر أهل الأندلس عليهم وتصدى للثورة على
الموحدين محمد بن يوسف بن هود الجذاميين ملوك الطوائف بسرقسطة وكان يؤمل لها وربما
امتحنه الموحدين لذلك مرات فخرج في نفر من الأجناد سنة خمس وعشرين وستمائة وجهز
إليه والي مرسية يومئذ السيد أبو العباس بن أبي عمران موسى بن يوسف بن عبد المؤمن
عسكرا فهزمهم وزحف إلى مرسية فدخلها واعتقل السيد بها وخطب للخليفة المستنصر
العباسي صاحب بغداد وفي ذلك يقول ابن الخطيب في رقم الحلل عند ذكره لبني هود هؤلاء
( وكان من أعقابه الأمير ** محمد بن يوسف الأخير )
( وكان باسلا شديد البأس ** وبايع المستنصر العباسي )
ثم زحف إليه السيد أبو زيد بن محمد بن أبي حفص بن عبد المؤمن وهو أخو البياسي
المتقدم ذكره من شاطبة وكان واليا بها كما مر فهزمه ابن هود ورجع إلى شاطبة
واستجاش بالمأمون وهو يومئذ بإشبيلية فخرج في العساكر ولقيه ابن هود فانهزم واتبعه
المأمون إلى مرسية فحاصره مدة وامتنعت عليه فأقلع عنه ورجع إلى إشبيلية ثم انتقض
على السيد أبي زيد ببلنسية زيان بن أبي الحملات مدافع بن أبي الحجاج يوسف بن سعيد
بن
____________________
مردنيش وخرج عنه إلى أبدة سنة
ست وعشرين وستمائة وكان بني مردنيش هؤلاء أهل عصابة وأولي باس وقوه فتوقع أبو زيد
اختلال أمره وبعث إليه ولاطفه في الرجوع فأبى فخرج أبو زيد من بلنسية ولحق بطاغية
برشلونة ودخل في دين النصرانية والعياذ بالله وبايع أهل شاطبة لابن هود ثم تتابعت
بلاد الأندلس على بيعته ودخل في طاعته أهل قرطبة وإشبيلية بعد رحيل المأمون عنه
إلى مراكش ولم يبق للموحدين بالأندلس سلطان
ثم في سنة تسع وعشرين وستمائة ثار محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر بحصن
أرجونة من أعمال قرطبة ودعا لأبي زكرياء الحفصي صاحب إفريقية ثم دخل في طاعته أهل
قرطبة وتنازع ابن الأحمر وابن هود رئاسة الأندلس وتجاذبا حبل الملك بها وكانت خطوب
استولى لطاغية فيها على كثير من حصون الأندلس ثم استقر قدم ابن الأحمر في الملك
وأورثه بنيه من بعده والله غالب على أمره قدوم أبي العلاء المأمون بن المنصور من
الأندلس إلى مراكش وما اتفق له في ذلك
قد تقدم لنا أن الموحدين بمراكش خنقوا العادل وبايعوا أخاه المأمون وبعد انفصال
البريد بالبيعة ندموا وبايعوا ابن أخيه يحيى بن الناصر فوصلت بيعة الموحدين إلى
المأمون وهو يومئذ بإشبيلية فسر بها وأمر بإقرائها على منابر الأندلس ثم أخذ في
التجهيز والحركة إلى مراكش دار ملكهم فسار حتى إذا وصل إلى الجزيرة الخضراء اتصل
به الخبر أن الموحدين قد نكثوا بيعته وبايعوا ابن أخيه يحيى فوجم لذلك وأطرق مليا
ثم أنشد متمثلا بقول حسان رضي الله عنه
( لتسمعن وشيكا في ديارهم ** الله أكبر يا ثارات عثمانا )
____________________
ثم كتب من حينه إلى ملك قشتالة يستنصره على الموحدين ويسأله أن يبعث له جيشا من
الفرنج يجوز بهم إلى العدوة لقتال يحيى ومن معه من الموحدين فشرط عليه صاحب قتشالة
أن يعطيه عشرة حصون مما يلي بلاده يختارها هو وأن يبني بمراكش إذا دخلها لجيش
النصارى الذين معه كنيسة يظهرون بها دينهم ويضربون فيها نواقيسهم لصلواتهم وأن من
اسلم منهم لا يقبل منه إسلامه ويرد إلى إخوانه فيحكمون فيه بأحكامهم إلى غير ذلك
فأسعفه المأمون في جميع ما طلبه منه
وكان يحيى بن الناصر صاحب مراكش لما رأى اختلاف أحواله بها كما قلنا ومبايعته أكثر
أهل المغرب لعمه المأمون خرج فارا بنفسه إلى تيمنلل وكان ذلك في جمادى الآخرة سنة
ست وعشرين وستمائة ولما فر يحيى عن الحضرة قدم اشياخ الموحدين الذين بها واليا
يضبطها للمأمون ريثما يقدم عليهم وجددوا له البيعة وكتبوا إليه يخبروه بفرار يحيى
إلى الجبل ويرغبون إليه في القدوم عليهم وكتب إليه أيضا هلال بن حميدان أمير الخلط
واستمر يحيى معتصما بالجبل أربعة اشهر ثم بدا له فعاد إلى مراكش وقتل عامل المأمون
الذي قدمه الموحدين بها واستمر بها نحو سبعة أيام ثم خرج إلى جبل جليز وعسكر به
وأقام منتظرا لقدوم المأمون ودفاعه عن مراكش ثم بعث صاحب قشتالة إلى المأمون جيشا
من اثني عشر ألفا برسم الخدمة معه والمقاتلة دونه على الشروط المتقدمة وكان وصولهم
إليه في رمضان سنة ست وعشرين وستمائة ثم عبر بهم من الجزيرة الخضراء إلى سبتة في
ذي القعدة من السنة المذكورة وهو أول من أدخل عسكر الفرنج أرض المغرب واستخدمهم
بها فأراح بسبتة أياما ثم نهض إلى مراكش حتى إذا دنى منها لقيه يحيى بجيوش
الموحدين وذلك عشي يوم السبت الخامس والعشرين من ربيع الأول من السنة الداخلة
فانهزم يحيى
____________________
وفر إلى الجبل وقتل كثير من جيشه
ودخل المأمون حضرة مراكش وبايعه الموحدون وصعد المنبر بجامع المنصور وكان علامة
أديبا بليغا فخطب الناس ولعن المهدي على المنبر وقال لا تدعوه بالمهدي المعصوم
وادعوه بالغوي المذموم ألا لا مهدي إلا عيسى وإنا قد نبذنا أمره النحس ولما انتهى
إلى آخر خطبة قال معشر الموحدين لا تظنوا أني أنا إدريس الذي تندرس دولتكم على يده
كلا إنه سيأتي بعدي إن شاء الله
ثم نزل وأمر بالكتب إلى جميع البلاد بمحو اسم المهدي من السكة والخطبة وتغيير سننه
التي ابتدعها للموحدين وجرى عليها سلفهم ونعى عليها النداء للصلاة باللغة البربرية
وزيادته في أذان الصبح ولله الحمد وغير ذلك من السنن التي اختص بها المهدي وأمر
بتدوير الدراهم التي ضربها المهدي مربعة وقال كل ما فعله المهدي وتابعه عليه
أسلافنا فهو بدعة ولا سبيل إلى إبقائه وأبدا في ذلك وأعاد
ثم دخل قصره فاحتجب عن الناس ثلاثا ثم خرج في اليوم الرابع فأمر بأشياخ الموحدين
وأعيانهم فحضروا بين يديه فقال لهم يا معشر الموحدين إنكم قد أظهرتم علينا العناد
وأكثرتم في الأرض الفساد ونقضتم العهود وبذلتم في حربنا المجهود وقتلتم الإخوان
والأعمام ولم ترقبوا فيهم إلا ولا ذمام ثم أخرج كتاب بيعتهم الذي بعثوا به إليه
واحتج عليهم بنكثهم الذي نكثوا بعده فقامت الحجة عليهم فبهتوا وسقط في أيديهم
والتفت إلى قضية المكيدي وكان بإزائه قد قدم معه من إشبيلية فقال له ما ترى ايها
القاضي في أمر هؤلاء الناكثين فقال يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول { فمن نكث
فإنما ينكث على نفسه } فقال المأمون صدق الله العظيم فإنا نحكم فيهم بحكم الله {
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } ثم أمر بجميع أشياخ الموحدين
وأشرافهم فسحبوا إلى مصارعهم وقتلوا من عند آخرهم ولم يبق على كبيرهم ولا صغيرهم
حتى أنه أتي بابن أخت له صغير يقال إن سنه كان ثلاث عشرة
____________________
سنة وكان قد حفظ القرآن فلما
قدم للقتل قال له يا أمير المؤمنين اعف عني لثلاث قال ما هن قال صغر سني وقرب رحمي
وحفظي لكتاب الله العزيز فيقال إن المأمون نظر إلى القاضي كالمستشير له وقال له
كيف ترى قوة جأش هذا الغلام وإقدامه على الكلام في هذا المقام فقال القاضي يا أمير
المؤمنين إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا فأمر به فقتل رحمه
الله ثم أمر بالرؤوس فعلقت بدائر سور المدينة
ذكر ابن أبي زرع أنها كانت تنيف على أربعة آلاف رأس وكان الزمان زمن قيظ فنتنت بها
المدينة وتأذى الناس بريحها فرفع إليه ذلك فقال إن ههنا مجانين وأن تلك الرؤوس
حروز لهم لا يصلح حالهم إلا بها وإنها لعطرة عند المحبين ونتنة عند المبغظين ثم
أنشد
( أهل الحرابة والفساد من الورى ** بالقطع والتعليق في الأشجار )
( ففساده فيه الصلاح لغيره ** يعزون في التشبيه للذكار )
( فرؤوسهم ذكرى إذا ما أبصرت ** فوق الجذوع وفي ذرى الأسوار )
( وكذا القصاص حياة أرباب النهى ** والعدل مألوف بكل جوار )
( لو عم حلم الله سائر خلقه ** ما كان أكثرهم من أهل النار )
وهذه الفتكة التي ارتكبها المأمون من الموحدين أنست فتكة الحارث بن ظالم والبراض
الكناني والحجاف بن حكيم وهي التي استأصلت جمهورهم وأماتت نخوتهم وإذن المأمون
للنصارى القادمين معه في بناء الكنيسة وسط مراكش على شرطهم المتقدم فضربوا بها
نواقيسهم وكانت الكنيسة في الموضع المعروف بالسجينة
وقبض على قاضي الجماعة بمراكش وهو أبو محمد عبد الحق بن عبد الحق فقيده ودفعه إلى
هلال بن حميدان الخلطي فحبسه حتى أفتدي منه بستة آلاف دينار
وأقام المأمون بمراكش خمسة أشهر ثم نهض إلى الجبل لقتال
____________________
يحيى بن الناصر ومن معه من
الموحدين وذلك في رمضان سنة سبع وعشرين وستمائة فالتقى معه على الموضع المعروف
بالكاعة فانهزم يحيى وقتل من عسكره ومن أهل الجبل خلق كثير سيق من رؤوسهم إلى
مراكش أربعة آلاف رأس
وفي هذه السنة استبد الأمير أبو زكريا ابن الشيخ أبي محمد بن حفص الهنتاتي
بإفريقية وخلع طاعة الموحدين
وفي سنة ثمان وعشرين بعدها نفذت كتب المأمون إلى سائر البلاد بالأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر وفيها خرجت بلاد الأندلس كلها من ملك الموحدين ونفاهم عنها ابن
هود لثائر بها وقتلتهم العامة في كل وجه
وفي سنة تسع وعشرين بعدها خرج على المأمون أخوه السيد أبو موسى عمران بن المنصور
بمدينة سبتة وتسمى بالمؤيد فاتصل الخبر بالمأمون فخرج إليه وبلغه في طريقه أن
قبائل بني فازاز ومكلاثه قد حاصروا مكناسة وعاثوا في نواحيها فسار إليهم وحسم مادة
فسادهم وعاد إلى سبتة فحاصر بها أخاه السيد أبا موسى مدة فلم يقدر منه على شيء
وكانت سبتة من أحصن مدن المغرب ولما طالت غيبة المأمون عن الحضرة اغتنم يحيى بن
الناصر الفرصة فنزل من الجبل واقتحمها مع عرب سفيان وشيخهم جرمون بن عيسى ومعهم
أبو سعيد بن وانودين شيخ هنتاتة وعاثوا فيها وهدموا كنيسة النصارى التي بنيت بها
وقتلوا كثيرا من يهودها وسبوا أموالهم ودخل يحيى القصر فحمل منه جميع ما وجده به
إلى الجبل
واتصل الخبر بالمأمون وهو على حصار سبتة فارتحل عنها مسرعا إلى مراكش وذلك في ذي
الحجة من السنة المذكورة ولما أبعد عن سبتة عبر أبو موسى صاحبها إلى الأندلس
فبايعه ابن هود وأعطاه سبتة فعوضه ابن هود عنها بالمرية فكان السيد أبو موسى بها
إلى أن مات
وانتهى الخبر إلى المأمون وهو في طريقه بأن ابن هود قد ملك سبتة فتوالت عليه
الفجائع فمرض أسفا ومات بوادي العبيد وهو قافل من حصار
____________________
سبتة وكانت وفاته في آخر يوم
من سنة تسع وعشرين وستمائة
وكانت أيامه أيام شقاء وعناء ومنازعة افترقت دولة الموحدين فيها فرقتين فرقة معه
وفرقة مع يحيى بن الناصر
وكان محق دولة الموحدين واستئصال أركانها وذهاب نخوتها على يده قالوا ولولا أن
الأمور قد استحالت إلى ما ذكر لكان المأمون موافقا لأبيه المنصور في كثير من الخلل
ومتبعا سننه في الأحوال
وكان المأمون فصيح اللسان فقيها حافظا للحديث ضابطا للرواية عارفا بالقراءات حسن
الصوت والتلاوة مقدما في علم اللغة والعربية والأدب وأيام الناس كاتبا بليغا حسن
التوقيع لم يزل سائر أيام خلافته يسرد كتب الحديث مثل البخاري والموطأ وسنن أبي
داود وكان مع ذلك شهما حازما مقداما على عظائم الأمور ولي الخلافة والبلاد تضطرم
نارا والممالك قد توزعتها الثوار فكان المأمون إذا فكر في حال الثوار وما آل إليه
حال الدولة معهم وما دهاه من كثرتهم ينشد متمثلا
( تكاثرت الظبا على خداش ** فما يدري خداش ما يصيد )
يشير إلى حاله معهم وأنه لم يدري ما يتلافى من ذلك والله تعالى أعلم الخبر عن دولة
أبي محمد عبد الواحد الرشيد ابن المأمون ابن المنصور رحمه الله
لما هلك المأمون بويع ابنه عبد الواحد ولقب بالرشيد
قال ابن أبي زرع بويع له بالخلافة بوادي العبيد ثاني يوم من وفاة أبيه وهو الأحد
فاتح محرم سنة ثلاثين وستمائة وسنه يومئذ أربع عشرة سنة وكان الذين أخذوا له
البيعة كانون بن جرمون السفياني وشعيب بن أوقاليط الهسكوري وفرنسيل قائد جيش
الفرنج فإنه لما مات المأمون كتمت جاريته بعد موته واسمها حباب وكانت فرنجية الأصل
ومن دهاة النساء
____________________
وعقلائهن وهي أم الرشيد
فاستدعت هؤلاء النفر الثلاثة وكانوا عمدة جيش المأمون يركب كل واحد منهم في أزيد
من عشرة آلاف من قومه وأعوانه ولأن أهل الحل والعقد من الموحدين قد أتت عليهم فتكت
المأمون فجاؤوا إليه فأعلمتهم بموت الخليفة ورغبت إليهم في بيعة ابنها الرشيد
والقيام معه وبذلت لهم على ذلك أموالا جمة ووعدتهم مع ذلك أنهم إذا فتحوا الحضرة
وكان يحيى قد استولى عليها كما قلنا تجعلها لهم فيئا فبايعوه وأخذوا البيعة له على
سواهم فبايع الناس طوعا وكرها خوفا من سيوفهم
ولما تم أمره جعل أباه في تابوت وقدمه أمامه وسار إلى مراكش وسمع يحيى واهل مراكش
بما شرطته حباب للقواد الثلاثة من جعل مدينتهم فيئا فخرجوا لقتال الرشيد بأجمعهم
واستخلف يحيى على مراكش أبا سعيد بن وانودين والتقى الجمعان فاقتتلوا فانهزم يحيى
وقتل أكثر من معه وصبح الرشيد مراكش فتحصن منه أهلها فأمنهم وصالح قائد الفرنج
وأصحابه على فيئها بخمسة آلاف دينار
ودخل الرشيد مراكش واستقر بها وكان قد وصل في صحبة عمه السيد أبو محمد سعد بن
المنصور فحل من تلك الدولة بمكان وكان إليه التدبير والحل والعقد وبعد استقرار
الرشيد بمراكش قدم عليه عمر بن أوقاريط الهسكوري صحبة أولاد المأمون الذين كانوا
بإشبيلية ونفاهم ابن هود عنها وكان ابن أوقاريط هذا منحرفا عن المأمون ايام حياته
فتذمم بصحبة هؤلاء الأولاد وقدم على الرشيد فتقبله واتصل بالسيد أبي محمد وحسنت
منزلته لديه
ثم لما هلك السيد أبو محمد لحق ابن أوقاريط بقومه ومعتصمه وكشف وجه الخلاف وأخذ
بدعوة يحيى بن الناصر واستنفر له قبائل الموحدين ونهض إليهم الرشيد سنة إحدى
وثلاثين وستمائة واستخلف على الحضرة صهره أبا العلاء إدريس وصعد إليهم الجبل فأوقع
بيحيى وجموعه بمكانهم من هزرجة واستولى على معسكرهم ولحق يحيى ببلاد سجلماسة
____________________
وانكفأ الرشيد راجعا إلى حضرته
واستأمن له كثير من الموحدين الذين كانوا مع يحيى فأمنهم ولحقوا بحضرته وكان
كبيرهم أبو عثمان سعيد بن زكريا القدميوي وجاء الباقون على أثره بعد أن شرطوا عليه
إعادة ما كان أزاله المأمون من رسوم المهدي وسننه فأعيدت واطمأنوا لإعادة رسوم
الدعوة المهدية واستقامت الأحوال في هذه الأيام إلى أن كان ما نذكره فتنة الخلط مع
الرشيد واستيلاؤهم على حضرة مراكش
كان مسعود بن حميدان كبير الخلط قد أغراه عمر بن أوقاريط بالخلاف لصحبة بينهما
وكان مدلا ببأسه وكثرة جموعه يقال إن الخلط كانوا يومئذ يناهزون اثني عشرة ألف
فارس سوى الرجل والأتباع والحشود فمرض مسعود في الطاعة وتثاقل عن الوفادة إلى
الحضرة
ولما علم بعقد الموحدين واجتماع كلمتهم على الرشيد غاظه ذلك وأخذ في السعي للفرقة
والشتات بينهم فأعمل الرشيد الحيلة في استدعائه وصرف عساكره إلى بعض الجهات حتى
خلا لمسعود الجو وذهب عنه الريب واستقدمه الرشيد فأسرع اللحاق بالحضرة وقدم معه
معاوية عم عمر بن أوقاريط فقبض على معاوية وقتل لحينه واستدعى الرشيد ابن حميدان
إلى المجلس الخلافي للحديث فتقبض عليه وعلى خمسة وعشرين من أصحابه من كبار الخلط
وقتلوا ساعتئذ بعد جولة وهيعة وقضى الرشيد حاجة في نفسه منهم
ولما بلغ خبر مقتلهم إلى قومهم قدموا عليهم يحيى بن هلال بن حميدان وأجلبوا على
سائر النواحي وأعلنوا بدعوة يحيى بن الناصر واستقدموه من مكانه بقاصية الصحراء
وداخلهم في ذلك عمر بن أوقاريط وزحفوا لحصار مراكش وخرجت العساكر لقتالهم ومعهم
عبد الصمد بن يلولان فدافع ابن أوقاريط بجموعه في تلك العساكر فانهزموا وأحيط بجند
النصارى فقتلوا وتفاقم الأمر بالحضرة وعدمت الأقوات واعتزم الرشيد
____________________
على الخروج إلى جبل الموحدين
فخرج إليها وسار منها إلى سجلماسة فملكها واشتد الحصار على مراكش واقتحمها يحيى بن
الناصر وأنصاره من الخلط وهسكورة فنهبوها وساء أثرهم فيها واضطربت أحوال الخلافة
بها وتغلب على السلطان السيد أبو إبراهيم بن أبي حفص الملقب بأبي حافة وهذه الفتن
كانت سنة اثنتين وثلاثين وستمائة هجوم نصارى جنوة على مدينة سبتة وحصارهم إياها
وفي هذه السنة أعني سنة اثنتين وثلاثين وستمائة نازل الفرنج الجنويون سبتة بأجفان
لا تحصى ونصبوا عليها المنجنيقات والآلات المعدة للحصار واستمروا على ذلك إلى أن
دخلت سنة ثلاث وثلاثين بعدها فلم يقدروا منها على شيء ولما اشتد الحصار على أهل
سبتة صالحوا الفرنج في الإفراج عنهم بأربعمائة ألف دينار فقبلوا وأقلعوا عنهم بعد
الحصار الشديد والتضييق العظيم عود الرشيد إلى مراكش وفرار يحيى عنها إلى بني معقل
ومقتله بهم
وفي هذه السنة أعني سنة ثلاث وثلاثين وستمائة خرج الرشيد من سجلماسة يقصد مراكش
وخاطب جرمون بن عيسى وقومه من سفيان فأجابوه وعبروا وادي أم الربيع وبرز إليه يحيى
في جموعه والتقى الفريقان فانهزمت جموع يحيى واستحر القتل فيهم ودخل الرشيد إلى
الحضرة ظافرا وأشار ابن أوقاريط على الخلط بالاستصراخ بابن هود صاحب الأندلس
والأخذ بدعوته بدعوته فنكثوا بيعة يحيى وبعثوا وفدهم إلى ابن هود صحبة ابن أوقاريط
فاستقر هناك ولم يرجع إليهم قولا فعلم الخلط أنها حيلة من ابن أوقاريط وأنه تخلص
من الورطة
____________________
وخرج الرشيد من مراكش وفر
الخلط أمامه وسار إلى فاس وأقام بها أياما وفرق في فقهائها وصلحائها أموالا ورباعا
مغلة وسرح الوزير السيد أبا محمد إلى غمارة وفازاز لجباية أموالهما
وكان يحيى بن الناصر لما نكث الخلط بيعته لحق بعرب معقل فأجاروه ووعدوه النصرة
واشتطوا عليه في المطالب فأسف بعضهم بالمنع فاغتاله في جهة تازا وسيق رأسه إلى
الرشيد بفاس فبعثه إلى مراكش وأوعز إلى نائبه بها أبي علي بن عبد العزيز بقتل العرب
الذين كانوا في اعتقاله وهم حسن بن زيد شيخ العاصم وقائد ابنا عامر شيخا بنى جابر
فقتلهم وانكفأ الرشيد راجعا إلى حضرته سنة أربع وثلاثين وستمائة
وكان ابن أوقاريط لما فصل ابن هود صاحب الأندلس أقام عنده إلى هذه السنة فركب
البحر في أسطول من أساطيل ابن هود وقصد مدينة سلا وبها يومئذ السيد أبو العلاء صهر
الرشيد فنازلها وكاد يغلب عليها ثم رجع عنها بلا طائل
وفي سنة خمس وثلاثين بعدها بايع أهل إشبيلية للرشيد ونقضوا طاعة ابن هود وتولى كبر
ذلك أبو عمر بن الجد ووصل وفدهم إلى الحضرة ومروا في طريقهم بسبتة فافتدى أهلها بهم
في بيعة الرشيد وقدموا على الحضرة وولى عليهم الرشيد أبا علي بن خلاص منهم وانصرف
وفد إشبيلية وسبتة راضين
واستقدم الرشيد رؤساء الخلط وكانوا راجعوا طاعته بعد مقتل يحيى فقدموا عليه وتقبض
عليهم وبعث عساكره فاستباحوا حللهم وأحيائهم ثم أمر بقتل مشيختهم وقتل معهم ابن
أوقاريط وكان أهل إشبيلية قد بعثوا به إليه فقطع دابرهم
وفي سنة ست وثلاثين وستمائة وصلت بيعة محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر
الثائر بالأندلس على ابن هود وكان قد بايع أولا أبا زكريا الحفصي صاحب إفريقية ثم
بدا له فرد البيعة إلى الرشيد
____________________
استيلاء العدو على قرطبة
وفي هذه السنة كان استيلاء العدو دمره الله على مدينة قرطبة قاعدة بلاد الأندلس
ودار مملكتها وذلك يوم الأحد الثالث والعشرين من شوال من السنة المذكورة
وفي سنة سبع وثلاثين بعدها انتشر بنو مرين ببلاد المغرب واشتدت شوكتهم به وزحف
إليهم الرشيد فهزموه ثم زحف ثانية وثالثة فهزموه وأقام في محاربتهم سنتين ورجع
عنهم إلى الحضرة فاشتد عدوانهم بالمغرب وألحوا على مكناسة حتى أعطوا الإتاوة لبني
حمامة منهم واتصل أغلبهم في نواحيها
وفي سنة تسع وثلاثين وستمائة قتل الرشيد كاتبه ابن المومياني لمداخلة له مع بعض
السادة وهو عمر بن عبد العزيز بن يوسف ووقف الرشيد على كتب بخطه غلط الرسول بها
فدفعها بدار الخلافة فوقعت إلى الرشيد فقتله وفاة الرشيد رحمه الله
مات الرشيد رحمه الله غريقا في بعض صهاريج بستانه بحضرة مراكش وذلك يوم الخميس
تاسع جمادى الآخرة سنة أربعين وستمائة ويقال إنه أخرج من الماء حيا فحم لوقته ومات
وذكر أبو عبد الله أكنسوس أن غرق الرشيد كان في البركة الكبرى التي بدار الهناء من
أجدال اليوم قال وكان يقال لها البحر الأصغر لأن ملوك بني عبد المؤمن الذين
أنشؤوها كانوا يرسلون فيها الزوارق والفلك الصغار بقصد النزهة والفرجة والله تعالى
أعلم
____________________
الخبر عن دولة أبي الحسن
السعيد علي بن المأمون بن المنصور رحمه الله
لما هلك الرشيد بويع أخوه لأبيه أبو الحسن على المدعو السعيد بتعيين أبي محمد بن
وانودين وتلقب بالمعتضد بالله واستوزر السيد أبا إسحاق ابن السيد أبي إبراهيم بن
يوسف بن عبد المؤمن ويحي بن عطوش وتقبض على جملة من مشيخة الموحدين واستصفى
أموالهم واصطنع لنفسه رؤساء العرب من جشم واستظهر بجموعهم على أمره وكان شيخ سفيان
كانون بن جرمون كبير مجلسه وكان ضرر بني مرين قد تفاقم بالمغرب وداؤهم قد أعضل
فخرج السعيد سنة اثنتين وأربعين وستمائة لتمهيد بلاد المغرب فانتهى إلى سجلماسة
وكان صاحبها عبد الله بن زكريا الهزرجي قد انتقض عليه فقتله واستولى عليها ثم رجع
حتى نزل المقرمدة من أرض فاس
وعقد المهادنة مع بني مرين وقفل إلى مراكش فكانت هدنة على دخن فلم يلبث إلا يسيرا
حتى عاود النهوض إليهم سنة ثلاثة وأربعين بعدها واستخلف السيد أبا زيد ابن السيد
أبي إبراهيم أخا الوزير المذكور آنفا على مراكش واستعمل أخاهما السيد أبا حفص وهو
المرتضى على سلا وسار نحو بني مرين فجمع له أميرهم أبو بكر بن عبد الحق جموع زناتة
وصمد نحوه حتى إذا تراءى الجمعان وتهيأ القوم للقاء خالف كانون بن جرمون إلى آزمور
فاستولى عليها وغلب الموحدين عليها فرجع السعيد أدراجه في أتباعه ففر كانون عنها
فاعترضه السعيد فأوقع به واستلحم كثير من قومه سفيان واستولى على ما كان لهم من
مال وماشية ولحق كانون ببني مرين ورجع السعيد إلى الحضرة
ثم تقدم الأمير أبو بكر بن عبد الحق المريني إلى مكناسة فضايقها وخطب طاعة أهلها
فثارت العامة بمكناسة على واليها من قبل السعيد فقتلوه
____________________
وحذر شيوخها وكبراؤها من سطوته فحولوا الدعوة إلى الأمير أبي زكريا الحفصي صاحب
إفريقية وكان استبد على بني عبد المؤمن ورام التغلب حتى على كرسيهم بمراكش فبايعه
أهل مكناسة بمواطأة الأمير أبي بكر بن عبد الحق فإنه كان يدعو إليه في أول أمره
وكذا أخوه السلطان يعقوب بن عبد الحق من بعده ثم استقل بنفسه واستبد بأمره عندما
تم له ملك المغرب حسبما نقصه بعد إن شاء الله
وفي هذه السنة بعث أهل إشبيلية وأهل سبتة بطاعتهم للأمير أبي زكريا الحفصي أيضا
وبعث أبو علي بن خلاص صاحب سبتة إليه بهدية مع ابنه في أسطول أنشأه لذلك فغرق عند
إقلاعه من المرسى وقبل هذه المدة بيسير كان الأمير أبو زكريا الحفصي قد تغلب على
تلمسان وبايعه صاحبها يغمراسن بن زيان العبد الوادي وهو جد ملك بني زيان أصحاب
تلمسان والمغرب الأوسط فعظم قدر أبي زكريا بسبب هذه البيعات التي انثالت عليه من
سائر الجهات وحدثته نفسه بالتوثب على كرسي الخلافة بمراكش وغص بنو عبد المؤمن
بمكانه وعظم عليهم استبداده ثم طمعه في كرسيهم وقرارة عزهم مع أنه ما كان إلا
جدولا من بحرهم وفرعا من دوحتهم والأمر كله لله نهوض السعيد من مراكش إلى غزو
الثوار بالمغربين ومحاصرته يغمراسن بن زيان وما آل إليه الأمر من مقتله رحمه الله
لما بلغ السعيد وهو بمراكش استبداد الأمير أبي زكريا بن أبي محمد عبد الواحد بن
أبي حفص الهنتاتي بإفريقية ومبايعة أمراء الجهات له أعمل نظره في الحركة إلى هؤلاء
الثوار والنهوض لتدويخ هذه الأقطار
وكان السعيد شهما حازما يقظا بعيد الهمة فنظر في أعطاف دولته وفاوض الملأ من
الموحدين في تثقيف أطرافها وتقويم أودها وحرك
____________________
هممهم وأثار حفائظهم وأراهم
كيف اقتطع عنهم الأمر شيئا فشيئا فابن أبي حفص اقتطع إفريقية ويغمراسن بن زيان
اقتطع المغرب الأوسط ثم أقام فيه الدعوة الحفصية وابن هود اقتطع الأندلس وأقام
فيها دعوة بني العباس وابن الأحمر بالجانب الآخر منها مقيم للدعوة الحفصية أيضا
وهؤلاء بنو مرين قد تغلبوا على ضواحي المغرب ثم سموا إلى تملك أمصاره وإن سكتنا
على هذا فيوشك أن يختل الأمر وتنقرض الدولة فتذامروا وتداعوا إلى النهوض إليهم
فحشد السعيد الجنود وجهز العساكر وأزاح عللهم واستنفر عرب المغرب وما يليه واحتشد
كافة المصامدة
ونهض من مراكش آخر سنة خمس وأربعين وستمائة يريد مكناسة وبني مرين أولا ثم تلمسان
ويغمراسن ثانيا ثم إفريقية وابن أبي حفص ثالثا
ولما نزل بوادي بهت أخذ في عرض عساكره وتمييزها فخرج الأمير أبو بكر بن عبد الحق
من مكناسة ليلا وحده يتجسس الأخبار فأشرف على جموع السعيد فرأى ما لا قبل له به
فعاد إلى قومه وأفرج للسعيد عن البلاد وتلاحقت به بنو مرين من أماكنها التي كان
الأمير أبو بكر أنزلهم بها واجتمعوا عليه بحصن تازا وطامن بلاد الريف
وتقدم السعيد إلى مكناسة فخرج إليه أهلها يطلبون منه العفو وقدموا بين أيديهم
الشيخ الصالح أبا علي منصور بن حرزوز وتلقوه بالصبيان من المكاتب على رؤوسهم
الألواح وبين أيديهم المصاحف وخرج النساء حاسرات يطلبن العفو فعفا عنهم
ثم ارتحل إلى تازا في أتباع بني مرين وانتقل أبو بكر بن عبد الحق إلى بني يزناسن
ثم راجع نظره في مسالمة الموحدين والدخول في أمرهم فبعث ببيعته إلى السعيد وهو
يومئذ بتازا مع جماعة من وجوه بني مرين فقبلها السعيد وعفا لهم عما سلف فسأله
وفدهم أن يستكفي بالأمير أبي بكر في أمر تلمسان وصاحبها يغمراسن بن زيان وقد كتب
إليه الأمير أبو بكر أيضا
____________________
بذلك يقول يا أمير المؤمنين
ارجع إلى حضرتك وقوني بالجيش وأنا أكفيك أمر يغمراسن وافتح لك تلمسان فاستشار
السعيد وزراءه فقالوا لا تفعل فإن الزناتي أخو الزناتي لا يخذله ولا يسلمه فكتب
إليه السعيد بأن يبعث إليه جماعة من قومه يعسكرون معه فأمده الأمير أبو بكر
بخمسمائة من قبائل بني مرين وعقد عليهم لابن عمه أبي عياد بن ابي يحيى بن حمامة
وخرجوا تحت رايات السعيد ونهض من تازا يريد تلمسان
وعند ابن أبي زرع أن السعيد لما فرغ من أمر مكناسة عسكر بظاهر فاس وهنالك أتته
بيعة بني مرين قال ثم ارتحل السعيد عن فاس في الرابع عشر من محرم سنة ست وأربعين
وستمائة وخسف القمر تلك الليلة خسوفا كليا وأصبح السعيد غاديا يريد تلمسان فلما
ركب فرسه انكسرت لؤلؤة المنصوري فتطير ونزل ولم يرتحل إلا في اليوم السادس عشر من
الشهر المذكور
ولما سمع يغمراسن بإقبال السعيد إليه خرج من تلمسان في عشيرته وقومه من سائر بني
عبد الواد وتحملوا بأهليهم وأولادهم إلى قلعة تامزردكت قبلة وجدة فاعتصموا بها
ووفد على السعيد الفقيه عبدون وزير يغراسن مؤديا للطاعة وساعيا في مذاهب الخدمة
ومتوليا من حاجات الخليفة بتلمسان ما يدعوه إليه ويصرفه في سبيله ومعتذرا تخلف
يغمراسن عن الوصول إلى حضرة السعيد فلج السعيد في شأنه ولم يعذره وأبى إلا مباشرة
طاعته بنفسه وساعده في ذلك كانون بن جرمون السفياني صاحب الشورى بمجلسه ومن حضر من
الملأ وردوا الفقيه عبدون إلى يغمراسن ليستقدمه فتثاقل يغمراسن عن القدوم خشية على
نفسه
واعتمد السعيد الجبل في عساكره حتى أناخ بها في ساحة القلعة وأخذ بمخنقهم ثلاثة
أيام وفي اليوم الرابع ركب مهجرا في وقت القيلولة على حين غفلة من الناس ليتطوف
بالقلعة ويتقرى مكامنها فبصر به فارس من بني عبد الواد يعرف بيوسف الشيطان كان
أسفل الجبل بقصد الحراسة واتفق أن يغمراسن بن زيان وابن عمه يعقوب بن جابر كانا
قريبين منه
____________________
فعرفوا السعيد فانفضوا عليه من
بعض الشعاب أمثال العقبان وطعنه يوسف الشيطان فكبه عن فرسه وعمد يعقوب بن جابر إلى
وزيره يحيى بن عطوش فقتله ثم استحلموا لوقتهم مواليه ناصحا من العلوج وعنبرا من
الخصيان وقائد جند النصارى وهو أخو القمط ووليدا يافعا من ولد السعيد ويقال إنما
كان ذلك يوم عبى السعيد العساكر وصعد الجبل للقتال وتقدم أمام الناس فاقتطعه بعض
الشعاب المتوعرة في طريقه فتواثب عليه هؤلاء الفرسان وكان ما ذكرناه وذلك منسلخ
صفر سنة ست وأربعين وستمائة
وانتهى الخبر إلى المحلة فارتجت وماجت وأخذ أهلها في الفرار وبادر يغمراسن إلى
السعيد فنزل إليه وهو صريع على الأرض فحياه وفداه وأقسم له على البراءة من دمه
والسعيد رحمه الله واجم بمصرعه يجود بنفسه إلى أن فاظ وانتهب المعسكر بجملته
واستولى بنو عبد الواد على ما كان به من الأخبية الحسنة والفازات الرفيعة واختص
يغمراسن بفسطاط السلطان فكان له خالصة دون قومه واستولى على الدخيرة التي كانت فيه
منها مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه يزعمون أنه أحد المصاحف التي انتسخت لعهد
خلافته وإنه كان في خزائن قرطبة عند ولد عبد الرحمن الداخل ثم صار في ذخائر لمتونة
فيما صار إليهم من ذخائر ملوك الطوائف بالأندلس ثم صار إلى خزائن الموحدين من يد
لمتونة
قال ابن خلدون وهو لهذا العهد في خزائن بني مرين فيما استولوا عليه من ذخيرة آل
زيان وذلك عند غلب السلطان أبي الحسن المريني على تلمسان سنة سبع وثلاثين وسبعمائة
كما نذكره اه
وقد تقدم لنا الخبر عن هذا المصحف العثماني وفيه مخالفة لبعض ما هنا وسيأتي لنا في
دولة السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق المريني ما يخالف ذلك كله والله أعلم
بحقيقة الأمر
ومن الذخائر التي صارت ليغمراسن من فسطاط السعيد العقد المنتظم
____________________
من خرزات الياقوت الفاخر والدر
النفيس المشتمل على مئين متعددة من حصبائه وكان يسمى بالثعبان
ثم صار إلى بني مرين أيضا إلى أن تلف في البحر عند غرق الأسطول بالسلطان أبي الحسن
بمرسى بجاية مرجعة من تونس حسبما نذكره بعد إلى ذخائر من أمثاله وطرف من أشباهه
مما يستخلصه الملوك لأنفسهم ويعتدونه من ذخائرهم
ولما سكنت الفتنة وركد عاصف تلك الهيعة نظر يغمراسن في شأن مواراة الخليفة فجهزه
ورفعه على أعواده فدفنه بالعباد بمقبرة الشيخ أبي مدين رضي الله عنه ثم نظر في شأن
حرمه وأخته تاعزونت الشهيرة الذكر بعد أن جاءها واعتذر إليها مما وقع وأصحبهن جملة
من مشيخة بني عبد الواد إلى مأمنهن فألحقوهن بدرعة من تخوم طاعتهم فكان ليغمراسن
بذلك حديث جميل في الإبقاء على الحرم ورعي حقوق الملك وأما أهل محلة السعيد فإنهم
بعد نهوضهم تداعوا واجتمعوا إلى عبد الله بن السعيد وقفلوا قاصدين مراكش
واتصل الخبر بالأمير أبي بكر بن عبد الحق وهو يومئذ ببني يزنسن وقدمت عليه الحصة
التي كان وجهها مع السعيد فتحقق الخبر وانتهز الفرصة في الموحدين فاعترض عسكرهم
بجهات تازا فقتل عبد الله بن السعيد واستلبهم واستولى على ما بقي من أثاثهم ثم جد
السير إلى مكناسة فدخلها وملكها ولحق فل الموحدين بمراكش فبايعوا عمر المرتضى كما
نذكره إن شاء الله الخبر عن دولة أبي حفص عمر المرتضى ابن السيد أبي إبراهيم بن
يوسف بن عبد المؤمن رحمه الله
لما توفي أبو الحسن السعيد كان عمر المرتضى واليا من قبله بقصبة رباط الفتح من سلا
كما قدمنا فاجتمع الموحدون بجامع المنصور من قصبة مراكش
____________________
وعقدوا له البيعة وبعثوا بها
إليه ونهض هو متوجها إلى مراكش فلقيه وفدهم أثناء طريقه بتامسنا واجتمع عليه أشياخ
العرب فبايعوه أيضا واستقام أمره وتلقب بالمرتضى وعقد ليعقوب بن كانون على بني
جابر ولعمه يعقوب بن جرمون على عرب سفيان بعد أن كان قومه قدموه عليهم ودخل الحضرة
واستوزر أبا محمد بن يونس من قرابته وقبض على حاشية السعيد ثم وصل أخوه السيد أبو
إسحاق الذي كان وزيرا للسعيد من قبل ناجيا من وقعة تامزردكت آخذا على طريق سجلماسة
فاستوزره أيضا وأسند إليه أمره واستولى أبو بكر بن عبد الحق أمير بني مرين بعد
مهلك السعيد على رباط تازا ومكناسة ثم استولى سنة سبع وأربعين وستمائة على فاس
وأعمالها فاقتطع عن المرتضى بلاد الغرب كلها ولم يبق له إلا بلاد الحوز من سلا إلى
السوس
ولأول دولة المرتضى كان استيلاء العدو على إشبيلية إحدى قواعد الأندلس فإن طاغية
قشتالة وهو الإصبنيول خذله الله حاصرها سنة خمس وأربعين وستمائة وفي يوم الاثنين
الخامس من شعبان من السنة بعدها ملكها صلحا بعد منازلتها حولا كاملا وخمسة أشهر
وانتقل كرسي المملكة الإسلامية بالأندلس إلى غرناطة وذلك في دولة بني الأحمر
وفي سنة تسع وأربعين وستمائة ملك الأمير أبو بكر المريني سلا ورباط الفتح ووفد على
المرتضى بمراكش موسى بن زيان الونكاسي وأخوه علي بن زيان من قبيل بني مرين وأغروه
بقتال بني عبد الحق فأسعفهم ولما انتهى إلى أمان إيملولين أشاع يعقوب بن جرمون
السفياني قضية الصلح بينهما وأصبح راحلا وقد استولى الجزع على قلوب الجيش فانفضوا
ووقعت الهزيمة من غير قتال ووصل المرتضى إلى الحضرة وأغضى ليعقوب عما صدر منه
وفي سنة خمسين وستمائة استرجع المرتضى سلا ورباط الفتح من يد بني مرين
وفي سنة إحدى وخمسين بعدها فر من حاشية المرتضى علي بن يدر
____________________
من بني باداسن ولحق ببلاد
السوس وتحصن ببعض جبالها ثم حاصر تارودانت قاعدة بلاد السوس فاستولى عليها واستخدم
الشبانات وذوي حسان من عرب معقل وأطاعته قبائل جزولة واستفحل أمره واستولى على
بسائط السوس فوجه إليه المرتضى عدة جيوش فهزم البعض وقتل البعض ثم جاء ابو دبوس من
بعد المرتضى فنهض إليه وحاصره ببعض حصونه قرب تارودانت
ولما اشتد عليه الحصار رغب في الإقالة ومعاودة الطاعة فقبل ذلك منه أبو دبوس وأقلع
عن حصاره وعاد إلى الحضرة ولما استولى بنو مرين على مراكش سنة ثمان وستين وستمائة
استبد على بني يدر هذا عليهم وتملك قطر السوس واستولى على تارودانت وسائر قراه
ومعاقله وأرهف حده للعرب وسامهم الهضيمة فزحفوا إليه وقتلوه في السنة المذكورة ثم
توارث قطر السوس من بعده جماعة من عشيرته واستمر ملكهم عليه إلى زمان السلطان أبي
الحسن المريني فغلبهم عليه وانقرض أمرهم رجع إلى أخبار عمر المرتضى
وفي سنة اثنتين وخمسين وستمائة خرج أبو الحسن بن يعلو قائد المرتضى في جيش من
الموحدين إلى تامسنا ليكشف أحوال العرب ومعه يعقوب بن شيخ بني جابر قبض عليه وعلى
وزيره ابن مسلم وطير بهما إلى الحضرة معتقلين
وفي سنة ثلاث وخمسين بعدها خرج المرتضى من مراكش لاسترجاع فاس وأعمالها من يد بني
مرين المتغلبين عليها واحتفل في الاحتشاد وبالغ في الاستعداد فكان جيشه ثمانين ألف
فارس من الموحدين والعرب والأغزاز وأهل الأندلس والفرنج فسار حتى نزل جبل بني
بهلول قبلة فاس وكانت هيبة بني مرين وناموسهم قد تمكن من قلوب جيش المرتضى فكانوا
منذ قربوا من أحواز فاس لا ينامون إلا غرارا فانطلق ذات ليلة فرس لبعض
____________________
الجنديين وجرى بين الأخبية
وجرى الناس خلفه ليأخذوه فظن أهل المحلة أن بني مرين قد أغاروا عليهم فركبوا
خيولهم وماج بعضهم في بعض وانقلبوا منهزمين لا يلوون على شيء
واتصل الخبر بأبي بكر بن عبد الحق وهو بفاس فخرج للوقت واحتوى على جميع ما في محلة
الموحدين من الأخبية والأثاث والسلاح والمال ومر المرتضى على وجهه فدخل مراكش في
جمع قليل من الأشياخ والإفرنج وأقام بها وأعرض عن بني مرين وتسلى عنهم سائر أيامه
وازدادت شوكة الموحدين ضعفا
واستبد أبو القاسم العزفي بسبتة واستتب أمره بها وتوارث الرياسة بها عشيرته من
بعده زمانا إلى أن غلبهم عليها بنو مرين
وفي سنة خمس وخمسين وستمائة استولى أبو بكر بن عبد الحق على سجلماسة وتقبض على
واليها عبد الحق بن أصكوا بمداخلة خديم له يعرف بمحمد القطراني وشرط على الأمير
أبي بكر أن يكون هو الوالي عليها فأمضى له شرطه وأنزل معه بها جماعة من رجالات بني
مرين حتى إذا هلك أبو بكر بن عبد الحق أخرجهم محمد القطراني واستبد بأمر سجلماسة
وراجع دعوة المرتضى واعتذر إليه واشترط عليه الاستبداد فأمضى له شرطه إلا في أحكام
الشريعة وبعث أبا عمر بن حجاج قاضيا من الحضرة وبعض السادة للنظر في القضية وقائدا
من النصارى بعسكر للحماية فأعمل القاضي ابن حجاج الحيلة في قتل القطراني وتولى
الفتك به قائد النصارى واستبد السيد بأمر سجلماسة بدعوة المرتضى
واستفحل أمر بني مرين أثناء ذلك ونزل الأمير يعقوب بن عبد الحق بسائط تامسنا فسرح
إليهم المرتضى عساكر الموحدين لنظر يحيى بن عبد الله بن وانودين فأجفلوا إلى وادي
أم الربيع واتبعهم الموحدون وألحوا عليهم فعطف عليهم بنو مرين واقتتلوا ببطن
الوادي فانهزمت عساكر الموحدين وغدر بهم بنو جابر وكان في مسيل الوادي كدى يحسر
عنها
____________________
الماء فتبدو كأنها أرجل فسميت
الواقعة من أجل ذلك بأم الرجلين وذلك في سنة ستين وستمائة وبقي المرتضى يعالج أمر
علي بن بدر الثائر بالسوس إلى سنة اثنتين وستين وستمائة فأقبل الأمير يعقوب بن عبد
الحق في جموع بني مرين حتى نزل على مراكش واتصل الحرب بينه وبين الموحدين بظاهرها
أياما هلك فيها عبد الله بن يعقوب بن عبد الحق فبعث المرتضى إلى أبيه يعقوب
بالتعزية ولاطفه وضرب إتاوة يبعث بها إليه في كل سنة فرضي يعقوب وارتحل عنها وقيل
إن مقتل عبد الله بن يعقوب كان سنة ستين قبل وقعة أم الرجلين والله تعالى أعلم انتقاض
أبي دبوس على المرتضى واستيلاؤه على مراكش ومقتل المرتضى عقب ذلك
لما ارتحل بني مرين عن مراكش بعد مهلك عبد الله بن يعقوب فر من الحضرة قائد حروب
المرتضى وابن عمه وهو السيد أبو العلاء إدريس الملقب بأبي دبوس ابن السيد أبي عبد
الله محمد ابن السيد أبي حفص عمر بن عبد المؤمن لسعاية تمكنت فيه عند المرتضى وأنه
يطلب الأمر لنفسه فاحس أبو دبوس بالشر ولحق بيعقوب بن عبد الحق فأدركه عند مقدمه
إلى فاس قافلا من منازله مراكش فأقبل عليه الأمير يعقوب وبالغ في إكرامه فطلب منه
أبو دبوس الإعانة على حرب المرتضى وكان بطلا محربا وضمن له فتح مراكش واشترط له
المقاسمة فيما يغلب عليه من السلطان وما يستفيده من الذخيرة والمال فأمده الأمير
يعقوب بخمسة آلاف من بني مرين وبالكفاية من المال وبالمستجاد من آلة الحرب من طبول
وبنود ونحو ذلك وكتب له مع ذلك إلى عرب جشم وأميرهم يومئذ علي بن أبي الخلطي أن
يكونوا معه يدا واحدة فسار أبو دبوس حتى وصل إلى سلا فكتب منها إلى العرب وأشياخ
الموحدين والمصامدة الذين في طاعة المرتضى يدعوهم
____________________
إلى بيعته ويعدهم ويمنيهم
فتلقته وفود العرب والهساكرة وصنهاجة آزمور ببعض الطريق فبايعوه وساروا معه حتى
نزل بلاد هسكورة ثم كتب إلى خاصته من وزراء المرتضى أن يعلموه بحال البلد والدولة
فراجعوه أن أسرع السير وأقبل ولا تخشن شيئا فإنا قد فرقنا الجند في أطراف البلاد
وهذا وقت انتهاز الفرصة فزحف أبو دبوس إلى مراكش حتى إذا انتهى إلى أغمات وجد بها
الوزير أبا زيد بن يكيت في جيش من حاميتها فناجزه الحرب فانهزم ابن يكيت وقتل عامة
أصحابه
وسار أبو دبوس يؤم مراكش ومعه سفيان وبنى جابر وكبيرهم يومئذ علوش بن كانون
السفياني فلما دنوا من مراكش أغار علوش على باب الشريعة منها والناس في صلاة
الجمعة حتى ركز رمحه بمصراع الباب ودخلت سنة خمس وستين وستمائة والمرتضى بمراكش
غافل عن شأن أبي دبوس والأسوار خالية من الحامية والحراص فقصد أبو دبوس باب أغمات
وتسور البلد من هنالك ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها وصمد إلى القصبة فاقتحمها
من باب الطبول واستولى عليها
وقال ابن أبي زرع إن دخول أبي دبوس مراكش كان من باب الصالحة وذلك ضحى يوم السبت
الثاني والعشرين من المحرم سنة خمس وستين وستمائة والصالحة التي اضيف إليها هذا
الباب هي بستان كبير من جملة بساتين أجدال دار الخلافة بمراكش ولا زال هذا البستان
مشهور بهذا الإسم إلى الآن وهو من إنشاء عبد المؤمن بن علي رحمه الله فقد ذ كر
الشيخ أبو عبد الله بن محمد عذارى الأندلسي في كتاب البيان المعرب عن أخبار المغرب
أن بستان المسرة الذي بظاهر جنان الصالحة أنشأه عبد المؤمن بن علي كبير الموحدين
قال وهو بستان طوله ثلاثة أميال وعرضه قريب منها فيه كل فاكهة تشتهى وجلب إليه
الماء من أغمات واستنبط له عيونا كثيرة
قال ابن اليسع وما خرجت أنا من مراكش في سنة ثلاث وأربعين
____________________
وخمسمائة إلا وهذا البستان
الذي غرسه عبد المؤمن يبلغ مبيع زيتونه وفواكهه ثلاثين ألف دينار مؤمنية على رخص
الفاكهة بمراكش اه
قلت ولشهرة هذا البستان وموقعه من الناس لهجت به صبيانهم وسجعوا به فيقولون يا
جردة مالحة أين بت سارحة في جنان الصالحة في أسجاع غير هذه تجري على ألسنة الصبيان
والله أعلم رجع إلى خبر أبي دبوس
قال ابن أبي زرع لما اقتحم أبو دبوس مراكش سار حتى وقف بباب البنود من القصبة
فغلقت الأبواب دونه وقام عبيد المخزن عليها يقاتلونه
ولما رأى المرتضى أن أبا دبوس قد التحف معه كساء دار الملك خرج من القصر ناجيا
بنفسه من باب الفاتحة ومعه الوزير أبو زيد بن يعلو الكومي وأبو موسى بن عزوز
الهنتاتي ثم انتقل منها إلى كدميوة ثم إلى شفشاوة ثم لحق آخرا بآزمور ونزل على صهر
له من بني عطوش كان واليا عليها من قبله وكان ابن عطوش هذا قد أسره العدو فافتكه
المرتضى بمال جسيم وزوجه ابنته وولاه آزمور فلما وقعت عليه الكائنة بمراكش ذهب
إليه مستجيرا به ومطمئنا إليه فكان من جزائه له أن قبض عليه وقيده وكتب إليه أبي
دبوس يعلمه بشأنه فكتب أبو دبوس إليه يستكشفه في شأن الذخيرة فأنكر المرتضى أن
يكون قد أذخر شيئا وحلف على ذلك ومت إليه بالرحم حتى كاد أبو دبوس يعطف عليه ثم
أغراه خاصته به فوجه إليه من قتله في الطريق وأتى إليه برأسه وسار ابن عطوش بفعلته
هذه أظلم من الخيفقان
وكان مقتل المرتضى في العشر الآواخر من شهر ربيع الأخر سنة خمس وستين وستمائة وكان
رحمه الله ينتمي إلى التصوف والزهد والورع وتسمى بثالث العمرين وكان مولعا بالسماع
لا يكاد يخلو منه ليلا ولا نهارا وكان في أيامه رخاء مفرط لم ير أهل مراكش مثله
____________________
وقال ابن الخطيب كان المرتضى فاضلا خيرا عفيفا مغمد السيف مائلا إلى الهدنة رحمه
الله الخبر عن دولة أبي العلاء إدريس الواثق بالله المعروف بأبي دبوس
لما تقدم أبو دبوس حضرة الخلافة على المرتضى وفر المرتضى عنها ملكها أبو دبوس
واستتب أمره بها وبايعه كافة الموحدين وأهل العقد والحل من الوزراء والفقهاء
والأشياخ وكان ذلك بجامع المنصور يوم الأحد الثالث والعشرين من المحرم سنة خمس
وستين وستمائة واستقل أبو دبوس بمملكة مراكش وأعمالها وتلقب بالواثق بالله والمعتمد
على الله وبذل العطاء ونظر في الولايات ورفع المكوس عن الرعية
ولما اتصل بالأمير يعقوب بن عبد الحق ما كان من أبي دبوس واستيلائه على المملكة
كتب إليه يهنئه بالفتح ويطلب منه أن يمكنه من الشرط الذي شرط له فلما وصل إليه
الكتاب أدركته النخوة وغلب عليه الكبر وقال للرسول قل ليعقوب بن عبد الحق يغتنم
سلامته ويبعث إلي ببيعته حتى أقره على ما بيده وإلا غزوته بجنود لا قبل له بها
فعاد الرسول إلى الأمير يعقوب وأبلغه الخبر ودفع إليه كتاب أبي دبوس فإذا هو
يخاطبه مخاطبة الخلفاء لعمالهم والرؤساء لخدمهم فتحقق الأمير نكثه وغدره فنهض إليه
في جموع بني مرين وعساكر المغرب
فلما اشرف على مراكش خام أبو دبوس عن اللقاء وتحصن بداره ولجأ إلى أسواره فتقدم
الأمير يعقوب حتى نزل على مراكش وحاصرها أياما وعادت في نواحيها وانتسف ما حولها
ولما رأى أبو دبوس ما نزل به منه كتب إلى قريعه يغمراسن بن زيان صاحب تلمسان يطلب
منه أن يشغل عنه الأمير يعقوب بما وراءه من أعمال
____________________
فاس والمغرب وأسنى له الهدية
في ذلك وأكد العهد في الموالاة والمناصرة فأجابه يغمراسن إلى ذلك نهض من حينه فشن
الغارات على ثغور المغرب واضرم نار الفتنة بها
واتصل ذلك بالأمير يعقوب وهو محاصر لمراكش فرجع عوده على بدنه وسار إلى يغمراسن
فناجزه الحرب وانتصف منه على ما ينبغي وحسم مادة فساده
ثم كر راجعا إلى مراكش في شعبان سنة ست وستين وستمائة ولما عبر وادي أم الربيع شن
الغارات على النواحي وبث السرايا في الجهات وطال عيثه في البلاد وأبدأ في ذلك
وأعاد حتى ضاقت صدور بني عبد المؤمن بمراكش وتكدر عيشهم فحرضهم أولياؤهم من عرب
جشم وأغروهم باستنهاض أبي دبوس لمدافعة عدوه ووعدوهم النصر من أنفسهم فتحرك أبو
دبوس لذلك واشرأبت نفسه إلى القتال فحشد وأبلغ وبرز من الحضرة في جيوش ضخمة وجموع وافرة
ولما علم الأمير يعقوب بخروجه ودنوه منه أظهر من نفسه العجز عن لقائه وكر راجعا
إلى جهة بلاده يستجره بذلك ليبعد عن الحضرة ومددها وتمادى أبو دبوس في اتباعه حتى
انتهى إلى وادي ودغفو فكر عليه الأمير يعقوب والتحم القتال وقامت الحرب على ساق
فلم تمض إلا ساعة حتى انهزم الموحدين وأطلق أبو دبوس عنانه للفرار يريد مراكش
فأدركته خيل بني مرين وتناولته رماحهم وخر صريعا لليدين وللفم واحتز رأسه وجيء به
إلى الأمير يعقوب فسجد شكرا لله تعالى ثم بعث به إلى فاس وتقدم هو إلى مراكش
فاستولى عليها في أوائل محرم سنة ثمان وستين وستمائة وفر الموحدون الذين كانوا
بمراكش إلى جبل تينملل فبايعوا إسحاق بن أبي إبراهيم أخا المرتضى فبقي ذبالة هنالك
إلى سنة أربع وسبعين وستمائة فقبض عليه وجيء به إلى السلطان يعقوب بن عبد الحق هو
وابن عمه السيد أبو سعيد بن أبي الربيع ووزيره القبائلي وأولاده فقتلوا جميعا
وانقرضت دولة بني عبد المؤمن من الأرض وذهبت محاسن مراكش يومئذ
____________________
بذهاب دولتهم والبقاء لله وحده
لا رب غيره ولا معبود سواه
ولنذكر ما كان في هذه المدة من الأحداث
ففي سنة إحدى وستمائة توفي الشيخ أبو العباس أحمد بن جعفر الخزرجي المعروف بالسبتي
دفين مراكش وذلك يوم الاثنين الثالث من جمادى الآخرة من السنة المذكورة ودفن خارج
باب تاغزوت وكان شيخه أبو عبد الله الفخار من أصحاب القاضي أبي الفضل عياض
وكان الشيخ أبو العباس رضي الله عنه جميل الصورة أبيض اللون حسن الثياب فصيح
اللسان قادرا على الكلام لا يناظره أحد إلا أفحمه حتى كأن مواقع الحجج من الكتاب
والسنة موضوعة على طرف لسانه وكان مع ذلك حليما صبورا عطوفا يحسن إلى من يؤذيه
ويحلم عمن يسفه عليه برا باليتامى والمساكين رحيما بهم يجلس حيث أمكنه الجلوس من
الأسواق والطرقات ويحض الناس على الصدقة ويأتي بما جاء في فضلها من الآيات والآثار
فتنثال عليه من كل جانب فيفرقها على المساكين وينصرف وكان له مع الله تعالى في
التوكل عليه عقد أكيد ومقام حميد قد ظهر أثره على روضته المباركة بعد وفاته
حدث أبو القاسم عبد الرحمن بن إبراهيم الخزرجي قال بعثني أبو الوليد بن رشد من
قرطبة وقال لي إذا رأيت أبا العباس السبتي بمراكش فانظر مذهبه واعلمني به قال
فجلست مع السبتي كثيرا إلى أن حصلت على مذهبه فأعلمته بذلك فقال لي أبو الوليد هذا
رجل مذهبه أن الوجود ينفعل بالجود
وقال الوزير ابن الخطيب كان سيدي أبو العباس السبتي رضي الله عنه مقصودا في حياته
مستغاثا به في الأزمات وحاله من أعظم الآيات الخارقة للعادة ومبنى أمره على انفعال
العالم عن الجود وكونه حكمة في تأثر الوجود له في ذلك أخبار ذائعة وأمثال باهرة
____________________
ولما توفي ظهر هذا الأثر على تربته وانسحبت على مكانه عادة حياته ووقع الإجماع على
تسليم هذه الدعوى وتخطى الناس مباشرة قبره بالصدقة إلى بعثها له من أماكنهم على
بعد المدى وانقطاع الأماكن القصى تحملهم أجنحة نياتهم فتهوي إليه بمقاصدهم من كل
فج عميق فيجدون الثمرة المعروفة والكرامة المشهورة
وفي سنة عشر وستمائة كان الوباء العظيم بالمغرب والأندلس
وفي سنة ست عشرة وستمائة توفي الشيخ الفقيه الصالح أبو إسحاق إبراهيم بن محمد
السلمي البلفيقي ينتهي نسبه إلى العباس بن مرداس السلمي صاحب رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان أبو إسحاق رحمه الله من كبار العلماء العاملين والزهد المحققين مثابرا
على الاجتهاد والانقطاع إلى الله تعالى وظهرت عليه ببلده المرية من عدوة الأندلس
كرامات واجتمع عليه خلق كثير وشاع ذكره هنالك فوشوا به إلى الخليفة صاحب مراكش وهو
يوسف المنتصر الموحدي فكتب إلى عامله على المرية يأمره بتوجيهه الشيخ أبي إسحاق
مكرما غير مروع
ولما عزم العامل على توجيهه قام العامة والأتباع دون الشيخ وأرادوا أن يحولوا بينه
وبين العامل فقال لهم الشيخ طاعة السلطان واجبة ولما انتهى إلى مراكش ودخل على
المنتصر هابه وجله وندم على ما كان منه إليه ثم بالغ في إكرامه وبعد ذلك مرض الشيخ
أبو إسحاق وتوفي في السنة المذكورة واحتفل الناس لجنازته وحضرها الأمراء والكبراء
وكسر العامة نعشه واقتسموا أعواده تبركا به وقبره مشهور بمراكش بسوق الدقيق منها
وبقرب ضريحه مسجد جامع ينسب إليه والعامة تقول جامع سيدي إسحاق بدون لفظ الكنية
وليس كذلك
وفي سنة سبع عشرة وستمائة كان الجراد والقحط والغلاء الشديد بالمغرب وفيها ألف
الفقيه أبو يعقوب يوسف بن يحيى التادلي المراكشي الدار عرف بابن الزيات كتابه
المسمى بالتشوف إلى رجال التصوف وذكر
____________________
فيه أنه لم يتعرض لذكر أحد من
أولياء زمانه الأحياء غير أنه ذكر أن من جملة أولياء زمانه الذين كانوا قيد الحياة
الشيخ الصالح الصوفي أبا محمد صالح بن ينضارن بن عفيان الدكالي ثم الماجري نزيل
ربط آسفي قال وهو الآن يفتر من الجهاد والمحافظة على المواصلة والأوراد ومن كلامه
الفقير ليس له نهاية إلا الموت قال وحدثني عنه تلامذته بعجائب من الكرامات والكلام
على الخواطر وهو على سنن المشايخ الأول رضي الله عنه
وفي سنة اثنتين وعشرين وستمائة توفي الشيخ أبو محمد عبد السلام بن مشيش رضي الله
عنه وقيل فيما بعد إلى سنة خمس وعشرين وتوفي رضي الله عنه شهيدا بجبل العلم من
جبال غمارة وقبره هناك مشهور من أعظم مزارات المغرب
وكان سبب شهادته أن محمدا بن أبي الطواجين الكتامي كان قد ثار بتلك البلاد وانتحل
صناعة الكيمياء ثم ادعى النبوة حسبما سلف وتبعه على ضلالته طغاة غمارة والبربر
فكان عدو الله يغص بمكان الشيخ رضي الله عنه لما آتاه الله من شرف التقوى
والاستقامة المؤيد بشرف النسب الصميم والعنصر الكريم فسول له الشيطان أنه لا يتم
أمر مخرقته في تلك الناحية إلا بقتل الشيخ فدس له جماعة من أتباعه وأشياعه فرصدوا
الشيخ حتى نزل من خلوته في سحر من الأسحار إلى عين هنالك قرب الجبل المذكور فتوضأ
منها وولى راجعا إلى محل عبادته وارتقاب فجره فعدوا عليه وقتلوه ومن الشائع أنه
ألقي عليهم ضباب كثيف أضلهم عن الطريق ودفعوا إلى شواهق تردوا منها في مهاوي سحيقة
تمزقت فيها أشلاؤهم ولم يرجع منهم خبر
والشيخ عبد السلام هذا هو ابن مشيش بن أبي بكر بن علي بن حرمة بن عيسى بن سلام
بتشديد اللام بن مزوار بفتح الميم وبالراء المهملة أخيرا ابن حيدرة واسمه علي بن
محمد بن إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى ابن الحسن السبط ابن علي بن أبي طالب
رضي الله عنهم
____________________
وفي هذه السنة أيضا استأسد العدو الكافر على المسلمين بالأندلس وتوالت له عليهم
الهزائم بمواضع متعددة واستولى على كثير من الحصون واستلحم منهم عدة ألوف حتى خلت
المساجد والأسواق
وفي سنة أربع وعشرين وستمائة اشتد الغلاء بالمغرب والأندلس حتى بيع القفيز من
القمح بخمسة عشرة دينارا وعم الجراد بلاد المغرب
وفي سنة ست وعشرين وستمائة كان السيل العظيم بفاس هدم من سورها القبلي نحو مسافتين
وهدم من جامع الأندلس ثلاثة بلاطات وهدم دورا كثيرة وفنادق متعددة من عدوة الأندلس
وفي سنة ثلاثين وستمائة كان الغلاء ببلاد المغرب وكثر بها الجوع والوباء حتى بلغ
القفيز من القمح ثمانين دينارا وخلت الأمصار من أهلها
وفي سنة خمس وثلاثين وستمائة عاود الغلاء والوباء أرض المغرب فأكل الناس بعضهم
بعضا وكان يدفن في الحفير الواحد المائة من الناس
وفي سنة ست وأربعين وستمائة وقع الحريق بأسواق فاس فاحترقت حارة باب السلسلة
بأسرها إلى حمام الرحبة وبالله تعالى العصمة والتوفيق
____________________
3
____________________
بسم الله الرحمن الرحيم الدولة
المرينية الخبر عن دولة بني مرين ملوك فاس والمغرب وذكر أوليتهم وأصلهم
اعلم أن العلامة الرئيس أبا زيد عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله قسم جبل زناتة إلى
طبقتين الطبقة الأولى هي التي كان منها مغراوة ملوك فاس وبنو يفرن ملوك سلا وقد
تقدم الكلام على دولتهم مستوفى والطبقة الثانية هي التي كان منهم بنو عبد الواد
ملوك تلمسان والمغرب الأوسط وبنو مرين ملوك فاس والمغرب الأقصى وهؤلاء هم الذين
تعلق الغرض الآن بذكرهم
فاعلم أن جبل زناتة في المغرب كما قال الرئيس المذكور جبل قديم معروف العين والأثر
وهم لهذا العهد آخذون من شعار العرب في سكنى الخيام واتخاذ الإبل وركوب الخيل
والتقلب في الأرض وإيلاف الرحلتين وتخطف الناس من العمران والإباية من الانقياد
إلى النصفة وشعارهم من بين البربر اللغة التي يتراطنون بها وهي مشتهرة بنوعها عن
سائر رطانة البربر ومواطنهم في سائر مواطن البربر بإفريقية والمغرب
فمنهم ببلاد النخيل ما بين غدامس والسوس الأقصى حتى أن عامة تلك القرى الجريدية
بالصحراء منهم قوم بالتلول بجبال طرابلس وضواحي إفريقية وبجبل أوراس بقايا منهم
سكنوا مع العرب الهلاليين لهذا العهد وأذعنوا لحكمهم والأكثر منهم بالمغرب الأوسط
حتى أنه ينسب إليهم ويعرف بهم فيقال وطن زناته ومنهم بالمغرب الأقصى أمم أخر وكان
بنو مرين منهم قبل استيلائهم على ملك المغرب أحياء ظواعن بمجالات الفقر من فيجج
إلى
____________________
سجلماسة إلى ملوية وربما يخطون
في ظعنهم إلى بلاد الزاب ويذكر نسابتهم أن الرياسة كانت فيهم في تلك العصور لمحمد
بن ورزيز بن فكوس بن كرماط بن مرين ومرين يتصل نسبه بزانا بن يحيى أبي الجيل
وكان لمحمد المذكور سبعة من الولد اثنان منهم شقيقان وهم حمامة وعسكر وخمسة أبناء
علات وكان يقال لهم بلسان زناتة تيربعين ومعناه الجماعة
ويزعمون أن محمد بن ورزيز لما هلك قام بأمره من قومه ابنه حمامة بن محمد وكان
الأكبر من ولده ثم من بعده شقيقه عسكر بن محمد ثم من بعده ابنه المخضب بن عسكر
وهلك سنة أربعين وخمسمائة في بعض الحروب التي كانت بين عبد المؤمن والمرابطين
ثم قام بأمر بني مرين بعد المخضب ابن عمه أبو بكر بن حماقة بن محمد إلى أن هلك
فقام بأمرهم ابنه أبو خالد محيو بن أبي بكر ولم يزل مطاعا فيهم إلى أن استنفرهم
يعقوب المنصور إلى غزوة الأرك بالأندلس فشهدوها وأبلوا فيها البلاء الحسن وأصابت
محيو بن أبي بكر يومئذ جراحات هلك منها بصحراء الزاب سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة
وكان من رياسة عبد الحق ابنه من بعده وبقائها في عقبة ما نذكره إن شاء الله الخبر
عن دخول بني مرين أرض المغرب الأقصى واستيلائهم عليه والسبب في ذلك
كان السبب في دخول بني مرين لهذا القطر المغربي أنه لما كانت وقعة العقاب بالأندلس
سنة تسع وستمائة وهزم الناصر وهلك الجمهور من حامية المغرب ورعاياه حتى خلت البلاد
من أهلها ثم حدث عقب ذلك الوباء العظيم الذي تحيف الناس إلا قليلا وهلك الناصر سنة
عشر بعدها فبايع
____________________
الموحدون ابنه يوسف المنتصر
وهو يومئذ صبي حدث لا يحسن التدبير وشغلته مع ذلك أحوال الصبا ولذات الملك عن
القيام بأمر الرعية فتضافرت هذه الأسباب على الدولة الموحدية فأضعفتها لحينها
وأمرضتها المرض الذي كان سببا لحينها وكان بنو مرين يومئذ موطنين ببلاد القبلة من
زاب إفريقية إلى سجلماسة يتنقلون في تلك القفار والصحارى لا يدخلون تحت حكم سلطان
ولا تنالهم الدولة بهضيمة ولا يؤدون إليها ضريبة كثيرة ولا قليلة ولا يعرفون تجارة
ولا حرثا إنما شغلهم الصيد وطراد الخيل والغارات على أطراف البلاد
وكانت طائفة منهم ينتجعون تخوم المغرب وتلوله زمان الربيع والصيف فيكتالون من
أطراف البلاد ما يحتاجون إليه من الميرة ويرعون فيها تلك المدة أنعامهم وشاءهم حتى
إذا أقبل فصل الشتاء اجتمع نجعهم بأكرسيف ثم شدوا الرحلة إلى بلادهم فكان ذلك
دأبهم على مر السنين
فلما كانت سنة عشر وستمائة أقبل نجعهم على عادته للارتفاق والمبرة حتى إذا أطلوا
على المغرب من ثناياه ألفوه قد تبدلت أحواله وبادت خيله ورجاله وفنيت حماته
وأبطاله وعريت من أهله أوطانه وخف منها سكانه وقطانه ووجدوا البلاد مع ذلك طيبة
المنبت خصيبة المرعى غزيرة الماء واسعة الأكناف فسيحة المزارع متوفرة العشب لقلة
راعيها مخضرة التلول والربى لعدم غاشيها فأقاموا بمكانهم وبعثوا إلى إخوانهم
فأخبروهم بحال البلاد وما هي عليه من الخصب والأمن وعدم المحامي والمدافع فاغتنموا
الفرصة وأقبلوا مسرعين بنجعهم وحللهم وانتشروا في نواحي المغرب وأوجفوا عليها
بخيلهم وركابهم واكتسحوا بالغارات والنهب بسيطها ولجأت الرعايا إلى حصونها
ومعاقلها وتم لهم ما أرادوا من الاستيلاء على بسيط المغرب وسهله وانتجاع مواقع طله
ووبله الخبر عن رياسة الأمير أبي محمد عبد الحق بن محيو المريني رحمه الله
لما دخل بنو مرين المغرب كان الأمير عليهم يومئذ عبد الحق بن
____________________
محبو بن أبي بكر بن حمامة بن
محمد المريني فكثر عيثهم وضررهم بالمغرب وأعضل داؤهم وتضاعف على الرعية بلاؤهم
فرفعت الشكايات بهم إلى الخليفة بمراكش وهو يومئذ يوسف المنتصر بن الناصر بن
المنصور فجهز لهم جيشا كثيفا من عشرين ألفا وعقد عليه لأبي علي بن وانودين وكتب له
إلى صاحب فاس السيد أبي إبراهيم بن يوسف بن عبد المؤمن يأمره بالخروج معه لغزو بني
مرين والإثخان فيهم وعدم الإبقاء عليهم مهما قدر على ذلك
واتصل الخبر ببني مرين وهم في جهات الريف وبلاد بطوية فتركوا أثقالهم وعيالهم بحصن
تازوطا من أرض الريف وصمدوا إلى الموحدين فالتقى الجمعان بوادي نكور فكان الظهور
لبني مرين على الموحدين فهزموهم وقتلوهم وامتلأت الأيدي من أسلابهم وأمتعتهم ورجع
الموحدون إلى فاس يخصفون عليهم من ورق النبات المعروف عند أهل المغرب بالمشعلة
لكثرة الخصب يومئذ واعتمار الفدن بالزرع وأصناف الباقلي فسميت تلك السنة يومئذ
بعام المشعلة وهي سنة ثلاث عشرة وستمائة ثم زحف الأمير عبد الحق في ذي الحجة من
السنة المذكورة بجموع بني مرين إلى رباط تازة حتى وقف بإزاء زيتونها فخرج عاملها
لحربه في جيش كثيف من الموحدين والعرب والحشد من قبائل تسول ومكناسة وغيرهم فقتلت
بنو مرين العامل المذكور وهزموا جيوشه
وجمع عبد الحق الأسلاب والخيل والسلاح وقسم ذلك كله في قبائل بني مرين ولم يمسك
منها لنفسه شيئا وقال لبنيه إياكم أن تأخذوا من هذه الغنائم شيئا فإنه يكفيكم منها
الثناء والظهور على أعدائكم
____________________
حرب بني مرين مع عرب رياح
ومقتل الأمير عبد الحق رحمه الله
لما انتصر بنو مرين على أعدائهم الموحدين حصل في نفوس بني عسكر بن محمد من عشيرتهم
نفاسة عليهم وضاقت صدورهم من استقلال بني عمهم حمامة بن محمد بالرياسة دونهم
فخالفوا الأمير عبد الحق وعشيرته إلى مظاهرة الموحدين وأوليائهم من عرب رياح وكانت
رياح يومئذ أشد قبائل المغرب قوة وأقواهم شوكة وأكثرهم خيلا ورجالا لحدوث عهدهم
بالعز والبداوة فأغراهم الموحدون يومئذ ببني مرين لينتصفوا لهم منهم واتفقت كلمتهم
عليهم وسمعت بنو مرين بإقبال العرب والموحدين وبني عسكر إليهم فاجتمعوا إلى أميرهم
عبد الحق فقالوا له ما ترى في أمر هؤلاء العرب المقبلين إلينا فقال يا معشر مرين
أما ما دمتم في أمركم مجتمعين وفي آرائكم متفقين وكنتم على حرب عدوكم أعوانا وفي
ذات الله إخوانا فلا أخشى أن ألقى بكم جميع أهل المغرب وإن اختلفت أهواؤكم وتشتت
آراؤكم ظفر بكم عدوكم فقالوا له إنا نجدد لك الآن بيعة على السمع والطاعة وأن لا
نختلف عليك ولا نفر عنك أو نموت دونك فانهض بنا إليهم على بركة الله فنهض الأمير
عبد الحق في جموع بني مرين فكان اللقاء بمقربة من وادي سبو على أميال من تافرطاست
فكانت بينهم حرب بعد العهد بمثلها وقتل فيها الأمير عبد الحق وكبير أولاده إدريس
ولما رأيت بنو مرين ما وقع بأميرها وابنه حميت وغضبت وأقسمت بأيمانها أن لا يدفن
حتى يأخذوا بثاره فصمموا العزم لقتال رياح واستأنفوا الجد لقراعهم وصبروا صبرا
جميلا فنصرهم الله على عدوهم فهزموا رياحا وقتلوا منهم خلقا كثيرا وشردوهم في
الشعاب والأودية ورؤوس الهضاب واحتووا على ما كان في محلتهم من السلاح والخيل
والأثاث وقام بأمر بني مرين بعد هلاك عبد الحق ابنه عثمان على ما نذكره إن شاء
الله
____________________
بقية أخبار الأمير عبد الحق
وسيرته
قالوا كان الأمير عبد الحق المريني مشهورا في قومه بالتقى والفضل والدين موسوما
بالصلاح وصحة اليقين معروفا بالورع والعفاف موصوفا في سيرته بالعدل والإنصاف يطعم
الطعام ويكفل الأيتام ويؤثر المساكين ويحنو على المستضعفين وكانت له بركة معروفة
ودعوة مستجابة موصوفة وكانت قلنسوته وسراويله يتبرك بهما في جميع أحياء زناتة
وكانوا يحملون فضلة وضوئه فيستشفون بها لمرضاهم وكان يسرد الصوم فلا يزال صائما
طول عمره في الحر والبرد لا يرى مفطرا إلا في أيام الأعياد كثير الذكر والأوراد لا
يفتر عنها في سائر الحالات متحريا لأكل الحلال لا يقتات إلا من لحوم إبله وألبانها
أو ما يعانيه من الصيد معظما في بني مرين مطاعا فيهم يقفون عند أمره ولا يصدرون
إلا عن رأيه
حكى ابن أبي زرع عمن حدثه من الثقات أنه قدم على أمير المسلمين يعقوب بن عبد الحق
في وفد من أعيان فاس وفقهائها وذلك في رمضان سنة ثلاث وثمانين وستمائة والأمير
يعقوب يومئذ برباط الفتح يريد العبور إلى ألأندلس برسم الجهاد قال فجرى في مجلسه
ذكر والده الأمير عبد الحق فقال الأمير يعقوب كان الأمير عبد الحق رحمه الله صادق
القول إذا قال فعل وإذا عاهد وفى لم يحلف بالله قط بارا ولا حانثا ولم يشرب مسكرا
قط ولا ارتكب فاحشة تضع الحوامل ببركة إزاره متى عسرت عليهن الولادة وكان يسرد
الصوم ويقوم أكثر الليل وإذا سمع بخبر صالح أو عابد قصد لزيارته واستوهب منه
الدعاء شديد الخوف من الصالحين متواضعا لهم وكان مع ذلك سما لأعدائه قاهرا لهم وما
وجدنا إلا بركته وبركة من دعا له من الصالحين
قالوا وكان الأمير عبد الحق في ابتداء أمره قليل الأولاد فرأى ذات ليلة في منامه
كان شعلا أربعا من نار خرجن منه فعلون في جو المغرب ثم احتوين على جميع أقطاره
فكان تأويلها تمليك بنيه الأربعة من بعده وهذا
____________________
مثل الرؤيا التي رآها عبد
الملك بن مروان من يوله في المحراب أربع مرات فكان تأويلها أن ولي الخلافة أربعة
من بنيه الوليد وسليمان ويزيد وهشام
وكان للأمير عبد الحق تسعة من الولد إدريس وهو أكبرهم وقتل معه في حرب رياح وعثمان
ومحمد وأبو بكر ويعقوب وهؤلاء الأربعة هم الذين ولوا الأمر بعده وعبد الله وعبد
الرحمن ويقال له بلسانهم رحو وزيان وأبو عياد وبنت هي العاشرة والله أعلم
الخبر عن رياسة الأمير أبي سعيد عثمان بن عبد الحق رحمه الله
لما فرغ بنو مرين من حرب رياح ورجعوا من اتباعهم اجتمعوا إلى الأمير أبي سعيد
عثمان بن عبد الحق وكان أكبر بني أبيه بعد إدريس فعزوه بمصاب أبيه وأخيه وبايعوه
عن رضى منهم فاجتمعت عليه كلمتهم ولما فرغ الأمير أبو سعيد من تجهيز أبيه وأخيه
ودفنهما أقسم أن لا يرجع عن حرب رياح حتى يثأر بمائة شيخ منهم فسار إليهم وأثخن
فيهم حتى شفى نفسه وأذعنوا إلى الطاعة ولاذوا بالسلم فسالمهم على إتاوة يؤدونها إليه
كل سنة
ثم ضعفت شوكة الموحدين وتداعى أمرهم إلى الاختلال واشرف ملكهم على ربوة الاضمحلال
وتقلص ظل حكامهم عن البدو جملة وفسدت السابلة واختلط المرعى بالهمل
فلما رأى الأمير أبو سعيد ما عليه أمر الموحدين من الضعف وما نزل برغايا المغرب من
الجور والعسف جمع أشياخ مرين وندبهم إلى القيام بأمر الدين والنظر في مصالح
المسلمين فأسرعوا إلى إجابته وبادروا لتلبية دعوته
فسار بهم أبو سعيد في نواحي المغرب يتقرى مسالكه وشعوبه ويتتبع تلوله ودروبه ويدعو
الناس إلى طاعته والدخول في عهده وحمايته فمن أجابه منهم أمنه ووضع عليه قدرا معلوما
من الخراج ومن أبى عليه نابذه وأوقع به فبايعه من قبائل المغرب هوارة وزكارة ثم
تسول ومكناسة ثم بطوية وفشتالة ثم
____________________
سدرانة وبهلولة ومديونة ففرض
عليهم الخراج وفرق فيهم العمال ثم فرض على أمصار المغرب مثل فاس ومكناسة وتازا
وقصر كتامة ضريبة معلومة يؤدونها على رأس كل حول على أن يكف الغارة عنهم ويصلح
سابلتهم
ثم لما كانت سنة عشرين وستمائة غزا بلاد فازاز ومن بها من ظواعن زناتة فأثخن فيهم
حتى أذعنوا للطاعة وقبض أيديهم عن إذابة الناس بالغارات والنهب في الطرقات
ثم في سنة إحدى وعشرين بعدها غزا عرب رياح أهل أزغار وبلاد الهبط فأثخن فيهم حتى
كاد يأتي عليهم ولم يزل دأبه ذلك من تدويخ بلاد المغرب وأقطاره حتى هلك باغتيال
علج له كان رباه صغيرا فشب وسول له الشيطان الفتك به فترصد غرته وطعنه بحربة في
منحره فمات لوقته سنة ثمان وثلاثين
وكان ذا نجدة وشجاعة وعزم وكرم وإيثار مكرما للفقهاء وأهل الصلاح سالكا في ذلك سنن
أبيه رحمه الله الخبر عن رياسة الأمير أبي معرف محمد بن عبد الحق رحمه الله
لما هلك الأمير أبو سعيد قام بالأمر بعده أخوه أبو معرف محمد بن عبد الحق فاقتفى
سنن أخبه في تدويخ بلاد المغرب وأخذ الضريبة من أمصاره وجباية المغارم من باديته
وبعث الرشيد بن المأمون صاحب مراكش قائده أبا محمد بن وانودين لحرب بني مرين وعقد
له على مكناسة فأجحف بأهلها في المغارم ثم نزل بنو مرين في بعض الأحيان بنواحيها
وأجلبوا عليها فنادى أبو محمد في عسكره وخرج إليهم فدارت بينهم حرب شديدة هلك فيها
خلق من الجانبين وبارز محمد بن إدريس بن عبد الحق قائدا من قواد الفرنج فاختلفا
ضربتين هلك العلج بإحداهما وجرح محمد بالأخرى فاندمل جرحه وصار أثرا في وجهه لقب
من أجله بأبي ضربة ثم شد بنو مرين على الموحدين فانكشفوا ورجع بن وانودين إلى
مكناسة مفلولا
____________________
وبقي بنو عبد المؤمن من أثناء ذلك في مرض من الأيام وتثاقل عن الحماية ثم أومضت
دولتهم إيماضة الخمود وذلك أنه لما هلك الرشيد بن المأمون سنة أربعين وستمائة وولي
أخوه علي وتلقب بالسعيد وبايعه أهل المغرب انصرفت عزائمه إلى غزو بني مرين وقطع
أطماعهم عما سمت إليه من تملك المواطن فجهز عساكر الموحدين لقتالهم ومعهم قبائل
العرب والمصامدة وجموع الفرنج فنهضوا سنة اثنتين وأربعين وستمائة في جيش كثيف
يناهز عشرين ألفا فسمع الأمير أبو معروف بإقبالهم فاستعد لقتالهم وزحف إليهم فكان
اللقاء بموضع يعرف بصخرة أبي بياش من أحواز فاس فدارت بينهم حرب شديدة وصبر
الفريقان ولما كان عشي النهار قتل الأمير أبو معرف بن عبد الحق في الجولة بيد زعيم
من زعماء الفرنج تحاملا فعثر فرس أبي معرف به وأمكنت العلج فيه الفرصة فاغتنمها
وطعنه فمات فانهزمت بنو مرين وتبعهم الموحدون فاتخذوا الليل جملا وأسروا طول
ليلتهم بحللهم وعيالاتهم وأموالهم فأصبحوا بجبال غياثة من نواحي تازا فاعتصموا بها
أياما ثم خرجوا إلى بلاد الصحراء وولوا عليهم أبا بكر بن عبد الحق على ما نذكره
وكانت هذه الوقعة وهلاك الأمير أبي معرف عشية يوم الخميس تاسع جمادى الآخرة سنة
اثنتين وأربعين وستمائة الخبر عن دولة الأمير أبي بكر بن عبد الحق رحمه الله
هذا الأمير هو الذي رفع من راية بني مرين وسما بها إلى مرتبة الملك وكنيته أبو
يحيى وهو أول من جند الجنود منهم وضرب الطبول ونشر البنود وملك الحصون والبلاد
واكتسب الطارف والتلاد بايعه بنو مرين بعد مهلك أخيه أبي معرف في التاريخ المتقدم
فكان أول ما ذهب إليه ورآه من النظر لقومه أن قسم بلاد المغرب وقبائل جبايته بين
بني مرين وأنزل كلا منهم يناحية منه سوغهم إياها سائر الأيام طعمة لهم وأمر كل
واحد من أشياخ بني مرين أن يستركب الرجل ويستلحق الأتباع فحسنت حالهم وكثرت
غاشيتهم وتوفرت جموعهم
____________________
استيلاء الأمير أبي بكر على
مكناسة وبيعة أهلها لابن أبي حفص بواسطته
ثم سار الأمير أبو بكر بمحلته فنزل جبل زرهون ودعا أهل مكناسة إلى بيعة الأمير أبي
زكرياء بن أبي حفص صاحب إفريقية لأنه كان يومئذ على دعوته وفي ولايته وحاصرها وضيق
عليها بمنع المرافق وترديد الغارات إلى أن أذعنوا لطاعته فافتتحها صلحا بمداخلة
أخيه يعقوب بن عبد الحق لزعيمها أبي الحسن بن أبي العافية وبعثوا ببيعتهم إلى
الأمير أبي زكرياء الحفصي وكانت البيعة من إنشاء أبي المطرف بن عميرة المخزومي
وكان من أعلام ذلك العصر ومشاهيره ولي القضاء لبني عبد المؤمن بمدينة سلا ثم
استقضوه بعدها بمكناسة فشهد هذه القضية وكتب البيعة
ولما فتح الأمير أبو بكر مكناسة أقطع أخاه يعقوب ثلث جبايتها جزاء له على وساطته
وكان فتح مكناسة سنة ثلاث وأربعين وستمائة ثم آنس الأمير أبو بكر من نفسه
الاستبداد ومن قبيله الاستيلاء فاتخذ الآلة لذلك وسما بنفسه إلى مرتبة الملك وأعد
له عدته وانتهى الخبر إلى السعيد صاحب مراكش بتغلب الأمير أبي بكر على مكناسة
وصرفها لابن أبي حفص فوجم لها وفاوض الملأ من أهل دولته في أمره وأراهم كيف اقتطع
الأمر عنهم شيئا فشيئا حتى لم يبق بيدهم إلا قرارة مراكش وما حولها بعد امتداد ظل
ملكهم على المغربين وإفريقية والأندلس
ثم نهض السعيد من مراكش سنة خمس وأربعين وستمائة يريد مكناسة وبني مرين أولا ثم
تلمسان ويغمراسن بن زيان ثانيا ثم إفريقية وابن أبي حفص آخرا
ولما وصل إلى وادي بهت عرض جيوشه وميزها واتصل الخبر بالأمير أبي بكر وهو بمكناسة
فخرج وحده ليلا يتجسس الأخبار ويستطلع أحوال السعيد وجموعه فتقدم حتى أشرف على
محلة السعيد من كثب ولا علم
____________________
لأحد به فرأى ما لا طاقة له به
ورأى من الرأي أن يتخلى للسعيد عن البلاد ولا يناجزه الحرب فلحق بمكناسة واستدعى
بني مرين من أماكنهم التي عين لهم فتلاحقوا به وساروا إلى قلعة تازوطا من بلاد
الريف فتحصنوا بها
وتقدم السعيد إلى مكناسة فتلقاه أهلها خاضعين مستشفعين إليه بشيوخهم وصبيانهم فعفا
عنهم ثم سار إلى فاس فنزل بظاهرها من ناحية القبلة وخرج إليه أشياخها فسلموا عليه
وسألوه الدخول إلى البلد فتكرم عنهم وأبي ثم ارتحل إلى رباط تازا فنزل بظاهرها
وهناك بعث إليه الأمير أبو بكر ببيعته فقبلها وكتب له ولقومه بالأمان وكان فيما
خاطبه به الأمير أبو بكر أن قال له ارجع يا أمير المؤمنين إلى حضرتك وأنا أكفيك
أمر يغمراسن وافتح لك تلمسان فشاور السعيد خاصته في ذلك فقالوا لا تفعل يا أمير
المؤمنين فإن الزناتي أخو الزناتي لا يسلمه ولا يخذله وإنا نخاف أن يصطلحا على
حربك فاسعفهم وكتب إلى الأمير أبي بكر يقول له أقم بموضعك وابعث إلي بحصة من قومك
فأمده بخمسمائة من بني مرين وعقد عليها لابن عمه أبي عياد بن أبي يحيى بن حمامة
وتقدم السعيد إلى تلمسان فكان من هلاكه على قلعة تامذردكت ما قدمناه في أخبار
دولته وكان الأمير أبو بكر لما نزل حصن تازوطا وأهل ذلك الحصن يومئذ هم بنو وطاس
بطن من بني مرين أجمعوا الفتك به غيره ونفاسة عليه فدس إليه بذلك بعض شيوخهم
وأعلمه بما تواطؤوا عليه من غدره فارتحل الأمير أبو بكر عنهم إلى بني بزناسن
وكانوا نازلين يومئذ بعين الصفا فأقام هنالك معهم حتى رجعت إليه الحصة التي كانت
مع السعيد وأعلموه بمقتله وافتراق جموعه فانتهز الأمير أبو بكر الفرصة في فل
الموحدين واعترضهم بأكرسيف فاستلبهم وانتزع الآلة من أيديهم وأدار إليه كتيبة
الفرنج والناشبة من الأغزاز واتخذ المركب الملوكي من يومئذ ثم أغذ السير إلى
مكناسة فدخلها واستولى عليها وأقام بها أياما ثم نهض إلى أعمال وطاط وحصون ملوية
فافتتحها ودوخ جبالها وذلك أواخر صفر سنة ست وأربعين وستمائة
____________________
استيلاء الأمير أبي بكر على
فاس وبيعة أهلها لها
لما فرغ الأمير أبو بكر من فتح حصون ملوية صرف عزمه إلى فتح فاس وانتزاعها من يد
بني عبد المؤمن وكان العامل بها يومئذ السيد أبا العباس من بني عبد المؤمن فأناخ
عليها الأمير أبو بكر بخيله ورجله وتلطف في مداخلة أهلها وضمن لهم جميل النظر
وحميد السيرة وكف الأذى عنهم فأجابوه ووثقوا بعهده وغنائه وأووا إلى ظله وركنوا
إلى طاعته وانتحال الدعوة الحفصية بأمره ونبذوا طاعة بني عبد المؤمن بأسا من صريخهم
فبايعوه بالرابطة خارج باب الشريعة وحضر هذه البيعة الشيخ أبو محمد الفشتالي ونشده
الله على الوفاء بما اشترط على نفسه من النظر لهم والذب عنهم وسلوك طريق العدل
فيهم فكان حضوره ملاك تلك العقدة والبركة التي يتعرف أثرها خلفهم في تلك البيعة
ودخل الأمير أبو بكر مدينة فاس زوال يوم الخميس السادس والعشرين من ربيع الآخر سنة
ست وأربعين وستمائة بعد موت السعيد صاحب مراكش بشهرين ولما دخل الأمير أبو بكر
قصبة فاس أمن السيد أبا العباس عامل الموحدين بها وأخرجه من القصبة بعياله وأولاده
وبعث معه سبعين فارسا يبلغونه إلى مأمنه فأجازوه وادي أم الربيع ورجعوا
ثم نهض الأمير أبو بكر إلى منازلة تازا وبها يومئذ السيد أبو علي بن محمد أخو أبي
دبوس فنازلها أربعة أشهر حتى نزلوا على حكمه فقتل بعضهم ومن على آخرين منهم وسد
ثغورها وأقطع أخاه يعقوب بن عبد الحق رباط تازا وحصون ملوية ورجع إلى فاس فأقام
بها نحو سنة واستقامت له الأمور وقدمت عليه الوفود وأمر القبائل بالنزول في
البسائط وعمارة القرى والمداشر وأمنت الطرقات وتحركت التجار ورخصت الأسعار وصلح
أمر الناس واغتبطوا بولايته
____________________
انتقاض أهل فاس على الأمير أبي
بكر ومحاصرته إياهم
لما استولى الأمير أبو بكر على المغرب وملك مدينة فاس كما ذكرنا نهض في ربيع الأول
سنة سبع واربعين وستمائة إلى معدن العوام من بلاد فازاز لفتح بلاد زناتة وتدويخ
نواحيها واستخلف على فاس مولاه السعود بن خرباش من جماعة الحشم أحلاف بني مرين
وكان الأمير أبو بكر لما فتح فاسا استبقى من كان فيها من عسكر بني عبد المؤمن من
غير نسبهم على الوجه الذي كانوا عليه من الخدمة مع الموحدين وكان من جملتهم طائفة
من النصارى نحو المائتين وعليهم قائد منهم يقال له شريد الفرنجي فكانوا من حصة
السعود هنالك فوقعت بينهم وبين شيعة الموحدين من أهل فاس مداخلة وعزم الفاسيون على
الفتك بالسعود وتحويل الدعوة إلى المرتضى فاجتمعوا إلى القاضي أبي عبد الرحمن
المغيلي وفاوضوه في ذلك فوافقهم على رأيهم فاستدعوا شريدا وقالوا له تقتل هذا
الأسود وتضبط البلد حتى نكتب إلى المرتضى فيبعث إلينا من يقوم بأمرنا فأجابهم إلى
ذلك وكان ميله إلى الموحدين وهواه معهم لكونه صنيعتهم وكان الذي مشى في هذه الثورة
وتولى كبرها المشرف ولد القاضي المذكور وابن جشار وأخوه وابن أبي طاط وولده
فلما كانت صبيحة الثلاثاء الموفي عشرين من شوال سنة سبع وأربعين وستمائة طلع
الأشياخ المذكورون إلى القصبة للسلام على السعود على عادتهم في ذلك فدخلوا عليه
بمجلس حكمه وهاجوه ببعض المحاورات فغضب وانتهرهم فوثبوا به ونادوا بشعارهم وكان
شريد الفرنجي واقفا في عسكره أمام القصبة قد وأطأهم على ذلك فاقتحم على السعود
فقتله وقتل معه أربعين من رجاله واحتز العامة رأسه ورفعوه على عصا وطافوا به في
أسواق البلد وسككها واقتحموا القصر فانتهبوه وسبوا الحرم ونصبوا النصراني لضبط
البلد وبعثوا ببيعتهم إلى المرتضى صاحب مراكش واتصل الخبر بالأمير أبي بكر وهو
منازل بلاد فازاز فأفرج عنها وأخذ السير إلى فاس فأناخ عليها بعساكره وشمر لحصارها
وقطع المادة عنها
____________________
وبعث أهل فاس إلى المرتضى بالصريخ فلم يرجع إليهم قولا ولا ملك له ضرا ولا نفعا
ولا وجد لكشف ما نزل بهم حيلة ولا وجها سوى أنه استجاش على الأمير أبي بكر
بيغمراسن بن زيان صاحب تلمسان وأمله لكشف هذه النازلة عمن انحاش إلى طاعته فأجابه
يغمراسن إلى ذلك وطمع أن يكون ذلك سببا له في تملك المغرب وسلما للصعود إلى ذروة
ملكه فاحتشد لحركته ونهض من تلمسان للأخذ بحجزة الأمير أبي بكر عن فاس وأهلها
واتصل بالأمير أبي بكر خبر نهوضه إليه لتسعة أشهر من منازلته فاسا فجمر الكتائب
عليها وصمد إليه قبل فصوله عن تخوم بلاده فلقيه بوادي أيسلي من بسيط وجدة فتزاحف
القوم وكانت ملحمة عظيمة هلك فيها عبد الحق بن محمد بن عبد الحق بيد إبراهيم بن
هشام من بني عبد الواد
ثم انكشفت بنو عبد الواد ونجا يغمراسن بن زيان إلى تلمسان برأس طمرة ولجام وترك
محلته بما فيها فاحتوى عليها الأمير أبو بكر وانكفأ راجعا إلى فاس للأخذ بمخنقها
فوصل إليها في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وستمائة وأناخ عليها بكلكله واستأنف
الجد وأرهف الحد وشدد في الحصار وأيس أهل فاس من إغاثة المرتضى وسقط في أيديهم
ورأوا أنهم قد ضلوا ولم يجدوا وليجة من دون مراجعة طاعة بني مرين فسألوا الأمير
أبا بكر الأمان فبذله لهم على غرم ما أتلفوا له بالقصر من المال يوم الثورة وقدره
مائة ألف دينار فتحملوها وأمكنوه من قياد البلد فدخلها في الثالث والعشرين من
الشهر المذكور فأقام بها إلى رجب الموالي له وطالبهم بالمال فسوفوه وتلووا في
المقال
فلما رأى ذلك منهم قبض على جماعة من أشياخها وأمنائها وأثقلهم بالحديد وطالبهم
بالمال والأثاث الذي انتهبوه من القصر فقال له شيخ يعرف بابن الخبا إنما فعل الذنب
منا ستة فكيف تهلكنا بما فعل السفهاء منا ولو فعل الأمير ما أشير به عليه لكان صوابا
من الرأي فقال وما ذلك قال تعمد إلى هؤلاء النفر الستة والذين سعوا في الفتنة
فتأخذ رؤوسهم وتشرد بهم من خلفهم ثم تأخذنا نحن بغرم المال فقال لعمري لقد أصبت
____________________
ثم أمر بالقاضي المغيلي وابنه
وابن أبي طاط وابنه وابن جشار وأخيه فقتلوا ورفعت على الشرفات رؤوسهم وأخذ الباقين
بغرم المال طوعا وكرها قال ابن خلدون فكان ذلك مما عبد رعية فاس وقادها لأحكام بني
مرين وضرب الرهب على قلوبهم فخشعت منهم الأصوات وانقادت منهم الهمم ولم يحدثوا
بعدها أنفسهم بغمس يد في فتنة وكان مقتل النفر المذكورين خارج باب الشريعة يوم
الأحد الثامن من رجب المذكور استيلاء الأمير أبي بكر على مدينة سلا ثم ارتجاعها
منه وهزيمة المرتضى بعد ذلك
لما أكمل الله للأمير أبي بكر فتح مدينة فاس واستوسق أمر بني مرين بها رجع إلى ما
كان فيه من منازلة بلاد فازاز فافتتحها ودوخ أوطان زناتة واقتضى مغارمهم وحسم علل
الثائرين بها ثم تخطى ذلك إلى مدينة سلا ورباط الفتح سنة تسع وأربعين وستمائة
فملكها وتاخم الموحدين بثغرها واستعمل عليها ابن أخيه يعقوب بن عبد الله بن عبد
الحق وعقد له على ذلك الثغر وضم الأعمال إليه
وبلغ الخبر بذلك إلى المرتضى بمراكش فأهمه الشأن وأحضر الملأ من الموحدين وفاوضهم
واعتزم على حرب بني مرين وسرح العساكر سنة خمسين وستمائة فأحاطت بسلا ثم افتتحوها
وعادت إلى طاعة المرتضى وعقد عليها لأبي عبد الله بن يعلو من مشيخة الموحدين ثم
اجمع المرتضى النهوض بنفسه إلى بني مرين فبعث في المدائن والقبائل حاشرين فأهرعت
إليه أمم الموحدين والعرب والمصامدة وغيرهم وفصل من مراكش سنة ثلاث وخمسين وستمائة
في نحو الثمانين ألفا وولى السير حتى انتهى إلى جبال بهلولة من نواحي فاس وصمد
إليه الأمير أبو بكر في عساكر بني مرين ومن اجتمع إليهم من ذويهم
____________________
والتقى الجمعان هنالك وصدقهم بنو مرين الجلاد فاختل مصاف الموحدين وانهزمت عساكر
المرتضى وأسلمه قومه ورجع إلى مراكش مفلولا واستولى بنو مرين على معسكره واستباحوا
سرادقة وانتهبوا فساطيطه وغنموا جميع ما وجدوا لها من المال والذخيرة واستاقوا
سائر الكراع والظهر وامتلأت أيديهم من الغنائم واعتز أمرهم وانبسط سلطانهم وكان
يوما له ما بعده وفي القرطاس أن انهزام جيش المرتضى في هذه المرة كان عن جولان فرس
بين أخبيتهم ليلا فحسبوا أن بني مرين قد أغاروا عليهم فانهزموا لا يلوون على شيء
والله أعلم
ثم غزا الأمير أبو بكر بعد هذا بلاد تادلا فاستباح حاميتها من بني جابر عرب جشم
واستلحم أبطالهم والآن من جدهم وخضد من شوكتهم وفي خلال هذه الحروب كان مقتل علي
بن عثمان بن عبد الحق وهو ابن أخي الأمير أبي بكر شعر منه بفساد الدخيلة والإجماع
للتوثب على الأمر فدس لابنه أبي حديد مفتاح بن أبي بكر بقتله فقتله في جهات مكناسة
سنة إحدى وخمسين وستمائة والله تعالى أعلم استيلاء الأمير أبي بكر على سجلماسة
ودرعه وسائر بلاد القبلة
لما كانت سنة خمس و خمسين وستمائة نهض الأمير أبو بكر إلى محاربة يغمراسن بن زيان
وسمع به يغمراسن فنهض إليه أيضا فكان اللقاء بأبي سليط فاقتتلوا وانهزم يغمراسن
واعتزم الأمير أبو بكر على اتباعه فثناه عن رأيه في ذلك أخوه يعقوب بن عبد الحق
لعهد تأكد بينه وبين يغمراسن فرجع
ولما انتهى إلى المقرمدة من أحواز فاس بلغه أن يغمراسن قصد سجلماسة ودرعة لمداخلة
كانت له من بعض أهلها وعورة أطمعته في ملكها فأسرع الأمير أبو بكر السير بجموعه
إلى سجلماسة فدخلها قبل وصول يغمراسن إليها بيوم ثم جاء يغمراسن حتى نزل خارجها
بباب تاحسنت وسقط في يده ويئس من غلبة الأمير أبي بكر عليها ودارت بينهما حرب
تكافأ
____________________
الفريقان فيها وهلك سليمان بن
عثمان بن عبد الحق ابن أخي الأمير أبي بكر وانقلب يغمراسن إلى بلده وعقد الأمير
أبو بكر على سجلماسة ودرعة وسائر بلاد القبلة ليوسف بن يزكاسن واستعمل على الجباية
عبد السلام الأوربي وجعل مسلحة الجند بها لنظر أبي يحيى القطراني وملكه قيادتهم
وانكفأ راجعا إلى فاس والله تعالى أعلم وفاة الأمير أبي بكر رحمه الله
لما رجع الأمير أبو بكر من حرب يغمراسن على سجلماسة أقام بفاس أياما ثم نهض إلى
سجلماسة أيضا متفقدا لثغورها فانقلب منها عليلا ووصل إلى فاس فتوفي بقصره من
قصبتها أواسط رجب سنة ست وخمسين وستمائة ودفن داخل باب الجيزيين من أبواب عدوة
الأندلس بإزاء الشيخ أبي محمد الفشتالي حسبما أوصى بذلك وتصدى للقيام بالأمر بعده
ابنه عمر على ما نذكره الخبر عن دولة أبي حفص الأمير عمر بن أبي بكر بن عبد الحق
رحمه الله
لما مات الأمير أبو بكر رحمه الله اشتمل العامة من بني مرين على ابنه أبي حفص عمر
فبايعوه ونصبوه للأمر وتباروا في خدمته ومالت المشيخة وأهل العقد والحل إلى عمه
يعقوب بن عبد الحق وكان غائبا عند مهلك أخيه بتازا فلما بلغه الخبر أسرع اللحاق
بفاس وتوجهت إليه وجوه الأكابر وأحس عمر بميل الناس إلى عمه يعقوب فقلق لذلك
وأغراه أتباعه بالفتك بعمه فاعتصم بالقصبة ثم سعى الناس في الإصلاح بينهما فتفادى
يعقوب من الأمر ودفعه إلى ابن أخيه على أن تكون له بلاد تازا وبطوية وملوية التي
كان أقطعه إياها أخوه من قبل فانفصلوا على ذلك وخلص الأمر لعمر واستمر بفاس أشهرا
إلى أن غلب عليه عمه المذكور حسبما نقص عليك
____________________
الخبر عن دولة السلطان المنصور
بالله يعقوب بن عبد الحق رحمه الله
هذا السلطان جليل القدر عظيم الشان وهو سيد بني مرين على الإطلاق وستسمع من أخباره
الحسنة ما يستغرق الوصف ويستوقف السمع والطرف وهو رابع الإخوة الأربعة الذين ولوا
الأمر بالمغرب من بني عبد الحق وكانت أمه واسمها أم اليمن بنت علي البطوي رأت وهي
بكر كأن القمر خرج من قبلها حتى صعد إلى السماء وأشرق نوره على الأرض فقصت رؤياها
على أبيها فسار إلى الشيخ الصالح أبي عثمان الورياكلي فقصها عليه فقال إن صدقت
رؤياها فستلد ملكا عظيما فكان كذلك ولما انفصل الأمير يعقوب بن عبد الحق عن ابن
أخيه عمر بولاية تازا وما أضيف إليها اجتمع إليه كافة بني مرين وعذلوه فيما كان
منه من التخلي عن الملك وحملوه على العود في الأمر ووعدوه من أنفسهم المظاهرة
والنصر إلى أن يتم أمره فأجاب وبايعوه وصمد الى فاس فبرز الأمير عمر للقائه
ولما تراءى الجمعان خذل عمر جنوده وأسلموه فرجع إلى فاس مفلولا ووجه الرغبة إلى
عمه أن يقطعه مكناسة وينزل له عن الأمر فأجابه إلى ذلك ودخل السلطان يعقوب مدينة
فاس فملكها سنة سبع وخمسين وستمائة ونفذت كلمته في بلاد المغرب ما بين ملوية وأم
الربيع وما بين سجلماسة وقصر كتامة واقتصر عمر على إمارة مكناسة فتولاها اياما ثم
اغتاله بعض عشيرته فقتلوه لنحو سنة من إمارته فكفى الأمير يعقوب أمره واستقام
سلطانه وذهب التنازع والشقاق عن ملكه
وكان يغمراسن بن زيان لما سمع بموت قرنه الأمير أبي بكر سما له أمل في الإجلاب على
المغرب فجمع لذلك قومه من بني عبد الواد واستظهر ببني توجين ومغراوة ووعدهم ومناهم
وأطمعهم في غيل الأسد ثم نهض بهم الى المغرب حتى إذا انتهوا إلى كلدمان صمد إليهم
الأمير يعقوب ففلهم وردهم على أعقابهم ومر يغمراسن في طريقه بتافرسيت من بلاد
بطوية فأحرق
____________________
وانتسف واستباح وأعظم النكاية
ورجع الأمير يعقوب إلى فاس واقتفى مذهب أخيه الأمير أبي بكر في فتح أمصار المغرب
وتدويخ أقطاره وكان مما أكرمه الله به أن فتح أمره باستنقاذ مدينة سلا من أيدي
نصارى الإصبنيول فكان له بها أثر جميل وذكر خالد رحمه الله استيلاء نصارى
الإصبنيول على مدينة سلا وإيقاع السلطان يعقوب بهم وطردهم عنها
كان يعقوب بن عبد الله بن عبد الحق قد استعمله عمه الأمير أبو بكر بن عبد الحق على
مدينة سلا لما ملكها كما ذكرناه ولما استرجعها الموحدون من يده أقام يتقلب في
جهاتها مترصدا للفرصة وإمكانها فيها ولما بويع عمه السلطان يعقوب بن عبد الحق
آسفته بعض الأحوال منه فذهب مغاضبا حتى نزل عين غبولة وألطف الحيلة في تملك رباط
الفتح وسلا ليعتدهما ذريعة لما اسر في نفسه من التوثب على الأمر فتمت له الحيلة
وملك سلا وركب عاملها أبو عبد الله بن يعلو البحر فارا إلى آزمور وخلف أمواله
وحرمه فتملك يعقوب بن عبد الله ذلك وتمكن من البلد وجاهر بالخلع وصرف إلى منازعة
عمه السلطان يعقوب وجوه العزم وتمكنت الوحشة بين اليعقوبين
وداخل يعقوب سلا تجار الحرب من الإصبنيول في الإمداد بالسلاح فتباروا في ذلك وكثرت
سفن المترددين منهم إليها حتى كثروا أهلها وزاد عددهم فعزموا على الثورة بها
واهتبلوا فيها غرة عيد الفطر من سنة ثمان وخمسين وستمائة عند اشتغال الناس بعيدهم
وثاروا بسلا في اليوم الثاني من شوال فوضعوا السيف في أهلها وقتلوا الرجال وسبوا
الحرم وانتهبوا الأموال وكان الحادث بها عظيما وضبطوا البلد وتحصن يعقوب بن عبد
الله برباط الفتح
وطار الصريخ إلى السلطان يعقوب بن عبد الحق وهو يومئذ بمدينة تازا
____________________
دخلها أوائل شعبان من السنة
المذكورة لاستشراف أحوال يغمراسن بن زيان فوصل إليه الخبر في اليوم الرابع من شوال
المذكور فنهض السلطان يعقوب من فوره بعد أن صلى العصر بتازا من ذلك اليوم فأسرى
ليلته تلك في نحو الخمسين فارسا ومن الغد صلى العصر بظاهر سلا فكان قطعه مسافة ما
بينهما في يوم وليلة وهذا أمر خارق للعادة بلا شك أظهره الله على يد هذا السلطان
لصدق عزمه وحسن نيته وإلا فالمسافة ما بين تازا وسلاست مراحل أو أكثر ثم تلاحقت به
جيوش المسلمين من القبائل المتطوعة من جميع آفاق المغرب فحاصر النصارى بها وضيق
عليهم ووالى القتال عليهم بالليل والنهار حتى اقتحمها عليهم عنوة لأربع عشرة ليلة
من حصارها وأثخن فيهم بالقتل ونجا من نجا منهم إلى سفنهم فنشروا قلوعهم وذهبوا
يلتفتون وراءهم ثم شرع السلطان يعقوب رحمه الله في بناء السور الغربي من سلا الذي
يقابل الوادي منها فإنها كان لا سور لها من تلك الجهة من أيام عبد المؤمن بن علي
فإنه كان قد هدم أسوار قواعد المغرب مثل فاس وسبتة وسلا حسبما قدمنا الخبر عنه في دولته
ومن هذه التلمة كان دخول النصارى الى سلا فشرع السلطان يعقوب رحمه الله في بنائه
فبناه من أول دار الصناعة قبلة إلى البحر جوفا وكان رحمه الله يقف على بنائه بنفسه
ويناول الحجر بيده ابتغاء ثواب الله وتواضعا وسعيا في صلاح المسلمين حتى تم السور
المذكور على أحصن وجه وأكمله
ودار الصناعة المذكورة في هذا الخبر هي الدار التي كانت تصنع بها الأساطيل البحرية
والمراكب الجهادية يجلب إليها العود من غابة المعمورة فتصنع هنالك ثم ترسل في
الوادي وكان ذلك من الأمر المهم في دولة الموحدين حسبما سلف قال في الجذوة دار
الصناعة بسلا بناها المعلم أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله بن محمد بن الحاج
من أهل إشبيلية وكان من العارفين بالحيل الهندسية ومن أهل المهارة في نقل الأجرام
ورفع الأثقال بصيرا باتخاذ الآلات الحربية الجافية اه
وأما يعقوب بن عبد الله الثائر فإنه خشي بادرة السلطان يعقوب بن
____________________
عبد الحق فخرج من رباط الفتح
وأسلمه فضبطه السلطان وثقفه ثم نهض إلى بلاد تأمسنا فاستولى عليها وملك مدينة آنفى
وهي المسماة الآن بالدار البيضاء فضبطها ولحق يعقوب بن عبد الله بحصن علودان من
جبال غمارة فامتنع به وسرح السلطان ابنه أبا مالك عبد الواحد وعلي بن زيان
لمنازلته وسار هو إلى لقاء يغمراسن فلقيه وعقد معه المهادنة وافترقا على السلم
ووضع أوزار الحرب ورجع السلطان إلى المغرب فخرج عليه بنو أخيه إدريس على ما نذكره خروج
بني إدريس بن عبد الحق على عمهم السلطان يعقوب بن عبد الحق رحمه الله
قد تقدم لنا أن الأمير عبد الحق المريني كان له تسعة من الولد أكبرهم إدريس وقتل
مع والده في حرب رياح وكان لإدريس هذا عدة أولاد بقوا في كفالة أعمامهم ولما أفضى
الأمر إلى السلطان يعقوب وكان أولاد إدريس قد ملكوا أمر أنفسهم واشتدت شكيمتهم
فنفسوا عليه ما أتاه الله من الملك ورأوا أنهم أحق به منه لأن أباهم هو الأكبر من
ولد عبد الحق كما مر فخرجوا على عمهم يعقوب ولحقوا بقصر كتامة وتابعوا ابن عمهم
يعقوب بن عبد الله على رأية واجتمعوا الى كبيرهم محمد بن ادريس بن عبد الحق وانضم
اليه من كان على رأيهم من عشيرتهم ومواليهم واعتصموا بجبال غمارة فنهض إليهم
السلطان يعقوب وتلطف بهم حتى استنزلهم واسترضاهم وعقد لعامر بن إدريس منهم سنة
ستين وستمائة على عسكر من ثلاثة آلاف فارس أو يزيدون من المتطوعة من بني مرين
وأغزاهم الأندلس لجهاد العدو بها وحملهم وفرض لهم في العطاء وشفع بهذه الفعلة
الحسنة عمله في واقعة سلا وهو أول جيش عبر البحر إلى الأندلس من بني مرين فكان لهم
في الجهاد والمرابطة مواقف مذكورة ومقامات محمودة تبع الخلف فيها السلف ودام ذلك
فيهم برهة من الدهر وقاموا عن أهل المغرب والأندلس بهذا الواجب العظيم رحمهم الله
وجزاهم عن المسلمين خيرا
____________________
وأما يعقوب بن عبد الله صاحب سلا فإنه أقام خارجا بالنواحي متنقلا في الجهات إلى
أن قتله طلحة بن محلي من أولياء السلطان يعقوب على ساقيه غبولة من ناحية رباط
الفتح سنة ثمان وستين وستمائة فكفى السلطان يعقوب أمره حصار السلطان يعقوب حضرة
مراكش ونزوع أبي دبوس منها إليه وهلاك المرتضى بعد ذلك
لما فرغ السلطان يعقوب من شأن الخارجين عليه من عشيرته أجمع رأيه لمنازلة المرتضى
والموحدين في دارهم وحضرتهم ورأى أنه أوهن لشوكتهم وأقوى لأمره عليهم فبعث في قومه
وحشد أهل مملكته واستكمل التعبئة وسار سنة ستين وستمائة حتى انتهى إلى جبل جيليز
فشارف دار الخلافة ونزل بعقرها وأخذ بمخنقها وخفقت ألويته على جنباتها وعقد
المرتضى على حربه لأبي دبوس إدريس بن محمد بن أبي حفص بن عبد المؤمن فعبأ كتائبه
ورتب مصافه وبرز لمدافعتهم ظاهر الحضرة فكانت بينهم حرب بعد العهد بمثلها هلك فيها
الأمير عبد الله بن يعقوب بن عبد الحق ففت مهلكه في عضدهم وارتحلوا عنها إلى
أعمالهم واعترضتهم عساكر الموحدين بوادي أم الربيع وعليهم يحيى بن عبد الله بن
وانودين فاقتتلوا في بطن الوادي وانهزمت عساكر الموحدين هزيمة شنعاء وتركوا
الأموال والأثاث فاحتوى بنو مرين على ذلك كله وهي واقعة أم الرجلين
ثم سعى سماسرة الفتن عند الخليفة المرتضى في ابن عمه وقائد حربه أبي دبوس بأنه
يطلب الأمر لنفسه وشعر هو بالسعاية في جانبه فخشي بادرة المرتضى ولحق بالسلطان
يعقوب سنة إحدى وستين وستمائة عند دخوله إلى فاس من محاصرته مراكش فأقام عنده مليا
ثم سأله الإعانة على أمره بعسكر يمده به وآلة يتخذها لملكه ومال يصرفه في ضرورياته
على أن يشركه في
____________________
الفتح والغنيمة والسلطان فأمده
السلطان يعقوب بخمسة آلاف من بني مرين وبالمستجاد من الآلة والكفاية من المال
وأهاب له بالعرب والقبائل من أهل مملكته وغيرهم أن يكونوا معه يدا واحدة حتى يبلغ
مراده في فتح مراكش وسار أبو دبوس في الكتائب حتى شارف الحضرة ودس إلى أشياعه من
الموحدين بأمره فثاروا بالمرتضى فكان من فراره إلى آزمور ونزوله على صهره ابن عطوش
ومقتله على يده ما قدمنا ذكره في دولته واستتب أمر أبي دبوس بمراكش وثبت قدمه بها
فبعث إليه السلطان في الوفاء بالمشارطة فاستنكف واستكبر ونقض العهد وأساء الرد
فنهض إليه السلطان يعقوب في جموع بني مرين وعساكر المغرب فخام عن اللقاء واعتصم
بالأسوار فزحف إليه السلطان يعقوب وحاصره أياما ثم سار في الجهات والنواحي يحطم
الزروع وينسف الأقوات وعجز أبو دبوس عن مدافعته فاستجاش عليه بيغمراسن بن زيان
ليفت في عضده ويشغله عما أمامه بما وراءه فكان ما نذكره وقعة تلاغ بين يعقوب بن
عبد الحق ويغمراسن بن زيان
لما نزل السلطان يعقوب حضرة مراكش وربض على ترائبه للتوثب عليها لم يجد أبو دبوس
ملجأ من دون الاستظهار عليه بيغمراسن بن زيان ليأخذ بحجزته عنها فبعث إليه بالصريخ
في ذلك وأكد العهد وأسنى الهدية فشمر يغمراسن لاستنفاذه وجذب السلطان يعقوب عنه من
خلفه بشن الغارات على ثغور المغرب وإيقاد نار الفتنة بها فهاج عليه من السلطان
يعقوب ليث عاديا وأرهف منه حدا ماضيا فأفرج للوقت عن مراكش ورجع عوده على بدئه
يريد تلمسان وصاحبها يغمراسن بن زيان فنزل فاسا وتلوم بها أياما حتى أخذ أهبة
الحرب وعدة النزال ثم نهض إلى تلمسان منتصف محرم سنة ست وستين وستمائة وسلك على
أكرسيف ثم على تافرطاست
____________________
وتزاحف الفريقان بوادي تلاغ وعبأ كل منهما كتائبه ورتب مصافه وبرز النساء في
القباب سافرات على سبيل التحريش والتحريض والتحم القتال وطال القراع والنزال ولما
فاء الفيء ومال النهار وكثرت حشود بني مرين جموع بني عبد الواد ومن إليهم انكشفوا
ومنحوا العدو أكتافهم وهلك في الحومة أبو حفص عمر بن يغمراسن بن زيان وكان كبير
أولاده وولي عهده وهلك معه جماعة من عشيرته ولما انهزم بنو عبد الواد بقي يغمراسن
في ساقتهم حاميا لهم من بني مرين أن تركبهم من خلفهم فكان ردءا لهم إلى أن وصلوا
إلى بلادهم وكانت وقعة تلاغ يوم الاثنين الثاني عشر من جمادى الأخيرة من السنة
المذكورة ورجع السلطان يعقوب إلى مكانه من حصار مراكش والله غالب على أمره فتح
حضرة مراكش ومقتل أبي دبوس وانقراض دولة الموحدين بها
لما قفل السلطان يعقوب من حرب يغمراسن صرف عزمه إلى غزو مراكش والعود إلى حصارها
كما كان أول مرة فنهض إليها من فاس في شعبان سنة ست وستين وستمائة ولما عبروا وادي
أم الربيع بث السرايا وشن الغارات وأطلق الأعنة والأيدي للنهب والعيث فحطموا
زروعها وانتسفوا آثارها وتقرى نواحيها كذلك بقية عامه ثم غزا عرب الخلط من جشم
بتادلا فأثخن فيهم واستباحهم ثم نزل وادي العبيد فأقام هنالك أياما ثم غزا بلاد
صنهاجة فاستباحها ولم يزل ينقل ركابه في أحواز مراكش ويجوس خلالها إلى آخر ذي
القعدة من سنة سبع وستين وستمائة فاجتمع أشياخ القبائل من العرب والمصامدة عند أبي
دبوس وقالوا له يا مولانا كم تقعد عن حرب بني مرين وقد ترى ما نزل بنا في حريمنا
وأموالنا منهم فاخرج بنا إليهم لعل الله يجعله سبب الفتح فإنهم قليلون وجمهورهم
وذوو الشوكة منهم قد بقوا
____________________
برباط تازا لحراسة ذلك الثغر
من بني عبد الواد ولم يزالوا يفتلون له في الذروة والغارب حتى أجابهم إلى رأيهم
فاستعد للحرب وبرز من حضرة مراكش في جيوش ضخمة وجموع وافرة فاستجره السلطان يعقوب
بالفرار أمامه ليبعد عن مدد الصريخ فيستمكن منه فلم يزل أبو دبوس يسعى خلفه حتى
نزل ودغفوا فحينئذ كر عليه السلطان يعقوب فالتحمت الحرب واختل مصاف أبي دبوس وفر
يسابق إلى مراكش وأين منه مراكش فأدركته الخيول وحطمته الرماح فخر صريعا واحتز
رأسه وجيء به إلى السلطان يعقوب فسجد شكرا لله تعالى وذلك يوم الأحد ثاني محرم سنة
ثمان وستين وستمائة ثم تقدم السلطان يعقوب نحو مراكش وفر من كان بها من الموحدين
إلى تينملل وبايعوا إسحاق أخا المرتضى فبقي ذبالة هنالك إلى أن قبض عليه سنة أربع
وسبعين وستمائة وجيء به في جماعة من قومه إلى السلطان يعقوب فقتلوا جميعا وانقرض
أمر بني عبد المؤمن والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ثم خرج الملأ
وأهل الشورى من الحضرة إلى لقاء السلطان يعقوب ففرح بهم وأمنهم ووصلهم ودخل مراكش
في عسكر ضخم وموكب فخم يوم الأحد التاسع من محرم المذكور وورث ملك آل عبد المؤمن
وتملاه واستوسق أمره بالمغرب وتطامن الناس لبأسه وسكنوا لظل سلطانه وأقام بمراكش
إلى رمضان من سنته ثم أغزا ابنه الأمير أبا مالك عبد الواحد بن يعقوب بلاد السوس
فافتتحها وأوغل في ديارها ودوخ أقطارها ورجع إلى أبيه واستمر السلطان يعقوب بمراكش
يصلح شؤونها إلى رمضان من سنة تسع وستين وستمائة فخرج بنفسه إلى بلاد درعة فأوقع
بعربها الوقيعة المشهورة التي خضدت من شوكتهم ورجع لشهرين من غزاته ثم أجمع الرحلة
إلى دار ملكه بفاس فعقد على مراكش لمحمد بن علي بن يحيى من كبار أوليائهم ومن أهل
خؤلته وكان من طبقة الوزراء وأنزله بقصبة مراكش وجعل المسالح في أعمالها لنظره
وعهد إليه بتدويخ الأقطار ومحو آثار بني عبد المؤمن وفصل من مراكش قاصدا حضرة فاس
في شوال من السنة المذكورة والله تعالى أعلم
____________________
مراسلة السلطان أبي عبد الله
محمد المستنصر بالله الحفصي للسلطان المنصور بالله يعقوب بن عبد الحق رحمهما الله
كانت دولة بني أبي حفص أصحاب تونس وإفريقية فرعا من دولة بني عبد المؤمن وشعبة
منها حسبما نبهنا عليه غير مرة ولما ضعفت دولة بني عبد المؤمن بمراكش والمغرب كان
صاحب إفريقية أبو زكرياء يحيى بن عبد الواحد الهنتاني يأمل الاستيلاء عليها
والتملك لها ويتمنى ذلك لو ساعده القدر لأنه كان يرى انه اولى بتلك الحضرة من غيره
حتى من بني عبد المؤمن لأنها أرض سلفه وموطن أصله وعشيرته لأن عمالة مراكش لم تعرف
إلا للمصامدة من قديم الزمان وقبيلة هنتانة هي صميمها وذؤابتها فبهذا ونحوه كان
بنو أبي حفص يتطاولون إلى ملك مراكش ولما نبغ بنو مرين بالمغرب وغلبوا على الكثير
من ضواحيه كانوا يدعون إلى أبي زكرياء الحفصي تأليفا لأهل المغرب واستجلابا
لمرضاتهم وإتيانا لهم من ناحية أهوائهم إذ كانت صبغة الدعوة الموحدية قد رسخت في
قلوبهم فلو دعوا إلى غيرها من أول الأمر لحاصوا عنها حيصة حمر الوحش ولما لم يمكن
بني مرين أن يدعوا إلى بني عبد المؤمن لأنهم أقتالهم وإياهم ينازعون ولهم يحاربون
ويجالدون دعوا إلى طاعة الحفصيين الذين هم فرع منهم والدعوة إلى الفرع كالدعوة إلى
أصله فلم تنفر نفوس أهل المغرب عنها وإنما كان بنو مرين يسرون من ذلك حسوا في
ارتغاء ولهذا لما استقل السلطان يعقوب بالأمر وتمكن له السلطان بالمغرب قطع دعوة
الحفصيين حالا بعد أن كان أولا يدعو إليها هو وإخوته من قبله وكان بنو أبي حفص
ينشطون لذلك ويهادون بني مرين ويمدونهم بالمال والسلاح وغير ذلك ولما عزم السلطان
يعقوب على منازلة مراكش كتب إلى أبي عبد الله محمد المستنصر بالله بن أبي زكريا
يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص يخبره بذلك ويستمده حتى
____________________
كأنه نائب عنه لا غير وأرسل
بكتابه مع ابن أخيه عامر بن إدريس بن عبد لحق في جماعة من وجوه دولته فأكرم
المستنصر وفادتهم ثم لما فتح السلطان يعقوب مراكش واستولى عليها بعث إليه المستنصر
بهدية فيها من أصناف الخيل الجياد والسلاح والثياب الرفيعة ما اختاره واستحسنه
وبعث بذلك مع جماعة من وجوه دولته أيضا وفيهم الكاتب أبو عبد الله محمد الكناني
فتلطف الكاتب المذكور في ذكر المستنصر على منبر مراكش حتى تم له ذلك بمحضر وفد
الموحدين فعظم سرورهم وانقلبوا إلى صاحبهم بالخبر واتصلت المودة والمهاداة بين
المستنصر والسلطان يعقوب سائر أيامهم ولما هلك المستنصر وبويع ابنه أبو زكرياء
يحيى المدعو بالواثق اقتفى سنن أبيه في ذلك فبعث إلى السلطان يعقوب بهدية حافلة مع
قاضي بجاية أبي العباس الغماري سنة سبع وسبعين وستمائة فعظم موقعها من السلطان
يعقوب وكان لأبي العباس الغماري هذا بالمغرب ذكر تحدث الناس به ذهرا وقطع السلطان
يعقوب لأول أمره الدعوة إلى الحفصيين كما قلنا والله تعالى أعلم عقد السلطان يعقوب
ولاية العهد لابنه أبي مالك بسلا وما نشأ عن ذلك من خروج قرابته عليه
كان السلطان يعقوب حين خرج من مراكش بعد فتحها قاصدا حضرة فاس دار ملك بني مرين
اجتاز بمدينة سلا فأراح بها أياما فطرقه مرض وعك منه وعكا شديدا فلما أبل من مرضه
جمع قومه وعقد العهد لأكبر أولاده أبي مالك عبد الواحد بن يعقوب لما علم من أهليته
لذلك وأخذ له البيعة عليم جميعا فأعطوها طواعية وعز ذلك على القرابة من بني عبد
الحق وهم أولاد سوط النساء بنو إدريس بن عبد الحق وبنو عبد الله بن عبد الحق وبنو
رحو بن عبد الحق وإنما قيل لهم أولاد سوط النساء لأن هؤلاء الثلاثة من بني عبد
الحق كانوا أشقاء أمهم اسمها سوط النساء فلما بايع السلطان
____________________
يعقوب لابنه أبي مالك بولاية
العهد آسفهم ذلك لأنهم كانوا يرون أنهم أحق بالأمر حسبما سلف فارتدوا على أعقابهم
وقلبوا لعمهم ظهر المجن وعادت هيف إلى أديانها وأسروا من ليلتهم من سلا ولم يصبحوا
إلا بجبل علودان من بلاد غمارة عش خلافهم ومدرج فتنتهم وكان ذلك في عيد الفطر من
سنة تسع وستين وستمائة وانضم إليهم بنو أبي عياد بن عبد الحق وشايعوهم على رأيهم
فخرج السلطان يعقوب في أثرهم وقدم بين يديه ابنه لاأمير يوسف بن يعقوب في خمسة
آلاف فأحاط بهم وأخذ بمخنقهم ولحق به أخوه أبو مالك في عسكره ومعه مسعود بن كانون
شيخ سفيان ثم لحق بهم السلطان يعقوب في عساكره فحاصروهم ثلاثة ولما رأوا أن قد أحيط
بهم سألوا الأمان فبذله لهم وأنزلهم ومسح صدورهم واسترضاهم واستل سخائمهم ووصل بهم
إلى حضرته فسألوا منه الأذن في اللحاق بتلمسان حياء مما ارتكبوه من الخلاف فأذن
لهم فأجازوا البحر إلى الأندلس وخالفهم عامر بن إدريس لما آنس من ميل عمه إليه
فبقي بتلمسان حتى توثق لنفسه بالعهد وعاد إلى قومه بعد منازلة السلطان يعقوب
لتلمسان حسبما نذكره عن قريب
قال ابن خلدون واحتل هؤلاء القرابة من بني عبد الحق بأرض الأندلس على حين أقفر من
الحامية جوها واستأسد العدو على ثغورها وتحلبت شفاهه لالتهامها فتبوءوها أسودا
ضارية وسيوفا ماضيا معودين لقاء الأبطال وقراع الحتوف والنزال مستغلظين بخشونة
البداوة وصرامة العز وبساله التوحش فعظمت نكايتهم في العدو واعترضوا في صدره سجى
دون الوطن الذي كان طعمة له في ظنه وارتدوه على عقبه ونشطوا من همم المسلمين
المستضعفين وراء البحر وبسطوا من آمالهم لمدافعة طاغيتهم وزاحموا أمير الأندلس قي
رياستها بمنكب قوي فتجافى لهم عن خطة الحرب ورياسة الغزاة من أهل العدوة من
أعياصهم وغيرهم من أمم البربر وثافنوه في مستقر عزه وساهموه في الجباية بفرض
العطاء والديوان فبذله لهم واستعدوا على العدو وحسن أثرهم فيه حسبما تلمع بالبعض من
ذلك إن شاء الله
____________________
هجوم النصارى على العرائش
وتيشمس من ثغور المغرب
لما كان المحرم من سنة ثمان وستين وستمائة هجم النصارى على مدينة العرائش وتيشمس
من ثغور العدوة المغربية فقتلوا رجالها وسبوا نساءها وانتهبوا أموالها وأضرموها
نارا ورجعوا عودهم على بدءهم فركبوا أجفانهم ولحقوا ببلادهم ولم تنلهم شوكة
السلطان يعقوب لأنه كان مشغولا بفتح مراكش في التاريخ المذكور ولم يبين في القرطاس
هؤلاء النصارى من هم وقعة إيسلي بين السلطان يعقوب ابن عبد الحق ويغمراسن بن زيان
لما أنعم الله على السلطان يعقوب بامتداد ظل ملكه في أقطار المغرب ونواحيه ونفوذ
كلمته في حواضره وبواديه وتمم له الصنع بفتح مراكش ووراثة كرسي بني عبد المؤمن بها
وعاد إلى فاس كما قلنا تحرك ما كان في نفسه من ضغائن يغمراسن بن زيان وما آسفه به
من تخذيل عزائمه ومجاذبته عن قصده ورأى أن وقعة تلاغ لم تشف صدره ولا أطفأت نار
موجدته فأجمع أمره لغزوة ونشطه لذلك ما صار إليه من الملك وسعة السلطان فحشد جميع
أهل المغرب وعزم على استئصاله وقطع دابره فعسكر بفاس وبعث ولده أبا مالك إلى مراكش
في جماعة من خواصة حاشرين في مدائنها وضواحيها فاجتمع عليه من قبائل العرب والمصامدة
وصنهاجة وبقايا عساكر الموحدين بالحضرة وحامية الأمصار من جند الفرنج وناشبة الغزو
استكثر من ذلك كله واحتفل السلطان يعقوب بفاس كذلك ثم نهض منها غرة صفر سنة سبعين
وستمائة فسار حتى نزل وادي ملوية فأقام عليه أياما حتى لحقه ابنه أبو مالك في
جموعه وتوافت لديه أمداد العرب من قبائل جشم أهل تامسنا الذين هم سفيان والخلط
والعاصم وبنو جابر ومن معهم من الأثبج وقبائل ذوي حسان والشبانات من معقل أهل
السوس الأقصى وقبائل رياح أهل أزغار وبلاد الهبط فعرض هنالك عساكره وميزها ورتبها
فيقال إنها بلغت ثلاثين ألفا
____________________
وارتحل يريد تلمسان
ولما انتهى إلى أنكاد قدمت عليه رسل ابن الأحمر ووفد أهل الأندلس يستصرخونه على
العدو ويسألونه الإعانة والنصر ويخبرونه بأنه قد كلب عليهم وشره لالتهام بلادهم
فتحركت همته رحمه الله للجهاد ونصر المسلمين وإغاثة المستضعفين منهم ونظر في صرف
الشواغل عن ذلك وجنح للسلم مع يغمراسن وعزم عليها واستشار الملأ من أشياخ العرب
وبني مرين في ذلك فصوبوا رأيه لما كانوا عليه أيضا من إيثار الجهاد ومحبته فبعث
السلطان يعقوب جماعة من أشياخ القبائل إلى يغمراسن يدعونه إلى الصلح واجتماع
الكلمة وقال لهم في جملة قوله إن الصلح خير كله فإن جنح يغمراسن إليه وأناب فذاك
وإلا فأسرعوا إلي بالخبر فسار الأشياخ إلى يغمراسن فوافوه بظاهر تلمسان وقد أخذ
أهبته واستعد للقاء وحشد قبائل زناتة المجاورين له في تلك البلاد من بني عبد الواد
وبني راشد وأحلافهم ومغراوة من عرب بني زغبة فبلغوه الرسالة وعرضوا عليه مقالة
السلطان يعقوب فأبى واستكبر وصم عن سماع قولهم وموعظتهم وقال أبعد مقتل ولدي
أصالحه والله لا كان ذلك أبدا حتى أثأر به وأذيق أهل المغرب النكال من أجله فرجعت
الرسل إلى السلطان يعقوب بالخبر وتزاحف الفريقان فكان اللقاء على وادي ايسلي من
بسيط وجدة وعبأ السلطان يعقوب كتائبه ورتب مصافه وجعل ابنه عبد الواحد في الميمنة
وابنه يوسف في الميسرة ووقف هو في القلب ودارت بينهم رحى الحرب وركدت مليا وهلك في
الحومة أبو عنان فارس بن يغمراسن بن زيان في جماعة من بني عبد الواد وهلك عامة
عسكر الفرنج الذين كانوا معهم لثباتهم بثبات يغمراسن فطحنتهم رحى الحرب وتقبض على
قائدهم برنيس وانهزم الباقون ونجا يغمراسن في فله حاميا لهم ومدافعا عنهم من خلفهم
ومر في هزيمته بفساطيطه فأضرمها نارا تفاديا من حصرة استيلاء العدو عليها وانتهبت
بنو مرين باقي معسكره واستبيحت حرمه وارتحل السلطان يعقوب من الغد في أثره حتى إذا
انتهى إلى وجدة وقف عليها فأمر بهدمها فتسارعت أيدي الجند إليها وجعلوا عاليها
____________________
سافلها وألصقوا بالرغام
جدرانها وتركوها قاعا صفصفا وكانت هذه الوقعة منتصف رجب من سنة سبعين وستمائة
ثم تقدم إلى تلمسان فنزل عليها وحاصرها أياما وأطلق الأيدي في ساحتها بالنهب
والعيث ثم شن الغارات على البسائط فاكتسحها سببا ونسفها نسفا وهلك في طريقه إلى
تلمسان وزيره عيسى بن ماساي وكان من عليه وزرائه وحماة ميدانه وله في ذلك أخبار
مذكورة وكان مهلكه في شوال من السنة المذكورة وقدم عليه وهو محاصر لتلمسان الأمير
أبو زيان محمد بن عبد القوي بن العباس بن عطية كبير بني توجين من زناتة في جيش
كثيف من قومه مباهيا ببنوده وطبوله وآلة حربه وكان قدومه هذا بقصد مظاهرة السلطان
يعقوب على يغمراسن وتلمسان لعداوة كانت بينهما فأكرم السلطان يعقوب وفادته واستركب
الناس للقائه واتخذ رتبة السلاح لمباهاته واستمر الحصار على تلمسان وعظمت نكاية
بني توجين فيها بتخريب الرباع وانتساف الجنات وقطع الثمار وإفساد الزرع وتحريق
القرى والضياع لما كان يغمراسن يعاملهم في بلادهم بمثل ذلك أو أكثر ولما امتنعت
تلمسان على السلطان يعقوب وأيس من فتحها لحصانتها واشتداد شوكة حاميتها عزم على
الإفراج عنها وأشار على الأمير محمد بن عبد القوي بالقفول إلى مأمنه قبل أن ينهض
هو عن تلمسان ووصله وقومه وملأ حقائبهم من التحف وجنب لهم مائة من الخيل المقربات
الجياد بمراكبها وأراح عليهم ألف ناقة حلوب وعمهم بالخلع الفاخرة والصلات الوافرة
واستكثر لهم من السلاح والفازات والفساطيط وحملهم على الظهر وارتحلوا إلى منجاتهم
ومقرهم من جبل وانشريس وتلوم السلطان يعقوب عليهم أياما ريثما وصلوا حذرا عليهم من
يغمراسن أن ينتهز الفرصة في اتباعهم ثم أقلع السلطان عن تلمسان وثنى عنانه إلى
المغرب فوصل إلى رباط تازا في أول يوم من ذي الحجة من السنة المذكورة فعيد بها عيد
النحر ثم ارتحل إلى فاس فدخلها فاتح سنة إحدى وسبعين وستمائة فأقام بها إلى اليوم
الحادي عشر من صفر فتوفي ولده وولي عهده الأمير أبو مالك عبد الواحد بن يعقوب فأسف
لفقده ثم
____________________
صبر واحتسب ثم نهض إلى مراكش
فدخلها أوائل ربيع الثاني من السنة المذكورة فأقام بها شهرا حتى أصلح من شأنها ثم
نهض إلى طنجة وسبتة على ما نذكره فتح طنجة وسبتة وما كان من أمر العزفي بهما
قد تقدم لنا في دولة أبي حفص عمر المرتضي أن الفقيه أبا القاسم العزفي استبد عليه
بسبتة وتوارث ذلك بنوه من بعده وكان هؤلاء العزفيون من بيوتات سبتة وأهل الرياسة
والعلم والدين فيهم ولما ضعف أمر بني عبد المؤمن بالمغرب استقل الفقيه أبو القاسم
بن أبي العباس العزفي برياستها وضبطها وانتظم في طاعته سائر أعمالها ولما كانت سنة
ثلاث وستين وستمائة بعث الفقيه المذكورة أجفانه إلى مدينة أصيلا فهدموا أسوارها
ونقضوا قصبتها لأنه خاف عليها من خلائها أن يملكها العدو ويتمنع بها واستمرت أموره
في سبتة ونواحيها على الشداد وكانت طنجة تالية لسبتة في سائر أحوالها وكانتا معا
من أحصن بلاد المغرب فدخل صاحب طنجة وهو أبو الحجاج يوسف بن محمد الهمداني المعروف
بابن الأمير في طاعة أبي القاسم المذكور ثم انتفض عليه لمضي سنة من طاعته واستبد
وخطب لابن أبي حفص صاحب إفريقية ثم للخليفة العباسي صاحب بغداد ثم لنفسه وسلك في
طنجة مسلك العزفي في سبتة ولبثوا على ذلك ما شاء الله حتى إذا ملك بنو مرين المغرب
وافتتحوا معاقله وحصونه وهلك الأمير أبو بكر بن عبد الحق وابنه أبو حفص عمر من
بعده فتحيز بنوه في أتباعهم وحشمهم إلى ناحية طنجة وأصيلا فأوطنوا
____________________
ضاحيتها وعاثوا في نواحيها
وضيقوا على أهل طنجة حتى شارطهم ابن الأميرعلى خراج معلوم على أن يكفوا الأذية
ويحموا الحوزة ويصلحوا السابلة فاتصلت يده بيدهم وترددوا إلى البلد لاقتضاء
حاجاتهم ثم مكروا وأضمروا الغدر فدخلوا في بعض الأيام متأبطين السلاح وفتكوا بابن
الأمير غيلة فثارت بهم عامة أهل طنجة واستلحموهم لحينهم في مصرع واحد سنة خمس
وستين وستمائة واجتمعوا على ولده فبايعوه وبقيت في ملكته خمسة أشهر ثم استولى
عليها أبو القاسم العزفي فنهض إليها بعساكره من الرجل برا وبحرا وملكها وفر ابن
الأمير فلحق بتونس ونزل على المستنصر الحفصي واستقرت طنجة في إيالة العزفي فضبطها
وقام بأمرها وولي عليها من قبله وأشرك الملأ من أشرافها في الشورى
ولما استولى السلطان يعقوب على حضرة مراكش ومحا دولة آل عبد المؤمن منها وفرغ من
أمر عدوه يغمراسن هم بتلك الناحية وأحب أن يضيفها إلى ما بيده ليصفوا له أمر
المغرب الأقصى كله فنهض إلى طنجة ونازلها مفتتح اثنتين وسبعين وستمائة لأنها كانت
في البسيط دون سبتة فكان أمرها أسهل فحاصرها نحو ثلاثة أشهر فامتنعت عليه ويئس
منها وعزم على الإفراج عنها فبينما هو يقاتل في عشي اليوم الذي عزم على النهوض في
غده إذا بجماعة من رماتها قاموا على برج ورفعوا لواء أبيض ونادوا بشعار بني مرين
وذلك لخلاف وقع بينهم داخل البلد فتسارع الجند إليهم فملكوهم البرج فتسوروا إليه
الحيطان وقاتلوا عليه سائر ليلتهم إلى الصباح ثم تكاثرت جيوش بني مرين واقتحموا
البلد عنوة ونادى منادي السلطان يعقوب بالأمان فلم يهلك من أهلها إلا نفر يسير ممن
رفع يده للقتال وشهر السلاح ساعة الدخول وكان ذلك في ربيع الأول سنة اثنتين وسبعين
وستمائة ولما فرغ السلطان يعقوب من طنجة بعث ولده الأمير يوسف إلى سبتة فحاصر بها
العزفي أياما ثم لاذ بالطاعة على أن يبقى ممتنعا بحصنه ويؤدي للسلطان خراجا معلوما
كل سنة فقبل السلطان منه ذلك وأفرجت عنه عساكره وعاد إلى فاس والله غالب على أمره
____________________
فتح سجلماسة وما كان من أمرها
قد ذكرنا ما كان من استيلاء الأمير أبي بكر بن عبد الحق على سجلماسة ودرعة وأنه
عقد على مسلحتها لأبي يحيى الفطراني الذي كان السبب في غلبه عليها المرتضى وقتل
القطراني بواسطة القاضي ابن حجاج حسبما تقدم ذلك كله ثم غلب عليها بعد حين يغمراسن
بن زيان بواسطة عرب المنبات من بني معقل أهل الصحراء وعقد عليها لعبد الملك بن
محمد العبد الوادي المعروف بابن حنينة نسبة إلى أمه وهي أخت يغمراسن بن زيان ولما
فتح السلطان يعقوب بلاد المغرب وانتظمها في ملكته وجه عزمه إلى افتتاح سجلماسة
وانتزاعها من أيدي بني عبد الواد المتغلبين عليها فنهض إليها في رجب سنة اثنتين
وسبعين وستمائة في جموع بني مرين وقبائل المغرب من العرب والبربر ونازلها ونصب
عليها آلات الحصار من المجانيق والعرادات وغير ذلك
قال ابن خلدون ونصب عليها هندام النفط القاذف بحصى الحديد ينبعث من خزانة أمام
النار الموقدة في البارود بطبيعة غريبة ترد الأفعال إلى قدرة بارئها اه كلامه قلت
وفيه فائدة أن البارود كان موجودا في ذلك التاريخ وأن الناس كانوا يقاتلون به ويستعملونه
في محاصراتهم وحروبهم يومئذ وفيه رد لما نقله أبو زيد الفاسي في شرج منظومته
الموضوعة في العمل الجاري بفاس قال كان حدوث البارود سنة ثمان وستين وسبعمائة
حسبما ذكره بعضهم في تأليف له في الجهاد وأنه استخرجه حكيم كان يعمل الكيمياء
ففرقع له فأعاده فأعجبه فاستخرج منه هذا البارود اه وصرخ الشيخ أبو عبد الله بناني
في حاشيته على مختصر الشيخ خليل بأن حدوثه كان في وسط المائة الثامنة وهو غير صواب
لما علمت من كلام ابن خلدون أنه كان موجودا قبل ذلك بنحو مائة سنة ويغلب على ظني
أن لفظ الستمائة تصحف بالسبعمائة فسرى الغلط من ذلك والله أعلم
____________________
وأقام السلطان يعقوب على حصار سجلماسة حولا كاملا وكان سفهاؤها يصعدون فوق الأسوار
ويعلنون بالسب والفحش إلى أن هتك المنجنيق ذات يوم طائفة من سورها فدخلت من هنالك
عنوة بالسيف وعاث الجند في أهلها فقتلوا المقاتلة وسبوا الذرية وأتى القتل على
عاملها عبد الملك بن حنينة ومن كان بها من أشياخ بني عبد الواد وعرب المنبات وكان
فتحها آخر صفر وقيل يوم الجمعة ثالث ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين وستمائة وكمل
بفتحها للسلطان يعقوب فتح بلاد المغرب وتمشت طاعته في أقطاره فلم يبق فيه أهل حصن
يدينون بغير دعوته ولا جماعة تتحيز إلى غير فئته أخبار السلطان المنصور بالله
يعقوب بن عبد الحق المريني في الجهاد وما كان له بالأندلس من الذكر الجميل والفخر
الجزيل رحمه الله
قد تقدم لنا ما كان للعدو الكافر على المسلمين في وقعة العقاب من الظهور والغلبة
وأن تلك الوقعة كانت سبب ضعف المسلمين بالمغرب والأندلس واستيلاء العدو الكافر على
جل ثغورها وحصونها ولما ضعف أمر الموحدين بالمغرب استبد السادة منهم بالأندلس
وصاروا إلى المنافسة فيما بينهم واستظهار بعضهم على بعض بالطاغية وإسلام حصون
المسلمين إليه في سبيل تلك الفتنة فمشت رجالات الأندلس بعضهم إلى بعض وأجمعوا على
إخراج الموحدين من أرضهم فثاروا بهم لوقت واحد وأخرجوهم وتولى كبر ذلك محمد بن
يوسف بن هود الجذامي ثم من بعده محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر ونازع
ابن هود الرياسة بالأندلس ولا الشهيرة التي منها قرطبة وإشبيلية قاعدتا أرض
الأندلس كان كل واحد من هذين الثائرين يتقرب إلى الطاغية بما غلب عليه من ذلك
ليعينه على صاحبه
____________________
والأمر لله وحده وانقرض أمر
ابن هود عن أمد قريب واستمرت دولة ابن الأحمر في عقبه إلى آخر المائة التاسعة ولما
استتب أمر ابن الأحمر بالأندلس عقد السلم مع الطاغية على أن ينزل له عن جميع بسائط
عرب الأندلس فنزل له عنها أجمع ولجأ بالمسلمين إلى سيف البحر معتصمين بأوعاره
ومتشبثين بمعاقله وحصونه واختار ابن الأحمر لنزوله مدينة غرناطة واتخذها كرسي
مملكته وابتنى بها لسكناه حصن الحمراء
وكان ابن الأحمر هذا يدعى بالشيخ وكان قد عهد إلى ولده القائم من بعده محمد
المعروف بالفقيه لانتحاله طلب العلم في صغره وأوصاه إذا نابه أمر من العدو أو وصل
إليه مكروه أن يستنصر عليه ببني مرين ويدرا بهم في نحره ويجعلهم وقاية بين العدو
وبين المسلمين فلما تكالب الطاغية على بلاد الأندلس بادر محمد الفقيه إلى العمل
بإشارة والده وأوفد مشيخة الأندلس كافة على السلطان يعقوب رحمه الله فلقيه وفدهم
منصرفا من فتح سجلماسة فتبادروا للسلام عليه وألقوا إليه كنه الخبر عن كلب العدو
على المسلمين وثقل وطأته فحيا وفدهم واستبشر بمقدمهم وبادر لإجابة داعي الله
وإيثار الجنة وكان السلطان يعقوب رحمه الله منذ أول أمره مؤثرا عمل الجهاد كلفا به
مختارا له لو أعطي الخيار على سائر أعماله حتى لقد كان اعتزم على الغزو إلى
الأندلس أيام أخيه الأمير أبي بكر وطلب إذنه في ذلك فلم يأذن له فكان في نفسه من
ذلك شغل وله إليه صاغية فلما قدم عليه هذا الوفد نبهوا عزيمته وأيقظوا همته فأعمل
في الاحتشاد وبعث في النفير ونهض من فاس في شوال سنة ثلاث وسبعين وستمائة فوصل إلى
طنجة وأقام هنالك وجهز خمسة آلاف من قومه أزاح عللهم وأجزل أعطياتهم وعقد عليهم
لابنه أبي
____________________
زيان وأعطاه الراية واستدعى من
العزفي صاحب سبتة السفن لإجازتهم فوافاه بقصر المجاز منه عشرون أسطولا فأجاز
العسكر المذكور ونزل بطريف في السادس عشر من ذي القعدة من السنة المذكورة فأراح
الأمير أبو زيان بطريف ثلاثا ثم دخل دار الحرب وتوغل فيها وأجلب على ثغورها
وبسائطها وامتلات أيديهم من المغانم وأثخنوا بالقتل والأسر وتخريب العمران ونسف
الآثار حتى نزل بساحة شريش فخام حاميتها عن اللقاء وتحصنوا بالأسوار وقفل الأمير
أبو زيان الجزيرة الخضراء وقد أمتلأت أيدي عسكره من الأموال وحقائبهم من السبي
وركائبهم من السلاح والأثاث ورأى أهل الأندلس أن قد ثأروا بعام العقاب بعد أن لم
تنصر لهم راية من ذلك اليوم إلى الآن والله غالب على أمره الجواز الأول للسلطان
يعقوب إلى الأندلس برسم الجهاد
ثم اتصل الخبر بالسلطان يعقوب رحمه الله أن العدو قد أخذ في الاستعداد وعزم على
الخروج إلى بلاد المسلمين فاعتزم على الغزو بنفسه وخشي على ثغور بلاده من عادية
يغمراسن صاحب تلمسان فبعث حافده تاشفين بن عبد الواحد بن يعقوب في وفد من بني مرين
لعقد السلم مع يغمراسن والرجوع للاتفاق والموادعة ووضع أوزار الحرب بين المسلمين
للقيام بوظيفة الجهاد فأكرم موصله وموصل قومه وبادر إلى الإجابة والألفة وأوفد
مشيخة بني عبد الواد على السلطان يعقوب لعقد السلم وبعث معهم الرسل وأسني الهدية
وجمع الله كلمة الإسلام وعظم موقع هذا السلم من السلطان يعقوب لما كان في نفسه من
الميل الى الجهاد وإيثار مبرورات الأعمال فبث الصدقات شكرا لله تعالى على ما منحه
من التفرغ لذلك ثم استنفر الكافة واحتشد القبائل والجموع ودعا المسلمين إلى جهاد
عدوهم وخاطب في ذلك سائر أهل المغرب من زناتة والعرب والموحدين والمصامدة وصنهاجة
وغمارة وأروبة ومكناسة وجميع قبائل البربر من المرتزقة والمتطوعة وأهاب بهم وشرع في
عبور البحر فأجازهم من فرضة قصر المجاز في صفر
____________________
سنة أربع وسبعين وستمائة واحتل
بساحل طريف وكان السلطان يعقوب حين استصرخه ابن الأحمر وأوفد عليه مشايخ الأندلس
اشترط عليه السلطان يعقوب النزول عن بعض الثغور بساحل الفرضة لاحتلال عساكره بها
فتجافى له عن رندة وطريف
ولما أحس الرئيس أبو محمد بن أشقيلولة بإجازة السلطان يعقوب قدم إليه الوفد من أهل
مالقة ببيعتهم وصريخهم وكان أبو محمد بن أشقيلولة وأخوه أبو إسحاق من أصهار ابن
الأحمر وكانا مستوليين على مالقة ووادي آش وقمارش ووقعت بينهما وبين ابن الأحمر منافسة
فخرجا عن طاعته ولما عبر السلطان يعقوب إلى الأندلس بادر أبو محمد بن أشقيلولة
إليه واتصل به وأمحضه الود والنصح وسابق ابن الأحمر في ذلك ونازعه في برور مقدمه
والإذعان له وربما صدرت من ابن أشقيلولة في حق ابن الأحمر جفوة بمحضر السلطان
يعقوب أدت إلى بعض الفساد وانصرف ابن الأحمر مغاضبا للسلطان من أجل ذلك
ولما احتل السلطان بناحية طريف ملأت كتائبه ساحة الأرض ما بينها وبين الجزيرة
الخضراء ثم نهض إلى العدو قبل أن يسبق إليهم الخبر فدخل دار الحرب وانتهى إلى
الوادي الكبير فعقد هنالك لولده الأمير يوسف على خمسة آلاف من عسكره قدمها بين
يديه ثم تبعه على أثره وسرح كتائبه في البسائط وخلال المعاقل تنسف الزروع وتخطم
الغروس وتخرب العمران وتنتهب الأموال وتكتسح السرح وتقتل المقاتلة وتسبي النساء
والذرية حتى انتهى إلى حصن المدور وبياسة وأبدة واقتحم حصن بلمة عنوة وأتى على
سائر الحصون في طريقه فطمس معالمها واكتسح أموالها
وقفل السلطان يعقوب رحمه الله والأرض تموج سبيا إلى أن عرس بأستجه من تخوم دار
الحرب وجاءه النذير باتباع العدو آثاره لاستنقاذ أسراه واسترجاع أمواله وأن زعيم
الفرنج وعظيمهم نونه خرج في طلبهم في أمم النصرانية من المحتلم إلى الشيخ فقدم
السلطان الغنائم بين يديه وسرح ألفا من الفرسان أمامها وسار يقتفيها من خلفها حتى
إذا أطلت رايات العدو مر ورائهم كان
____________________
الزحف ورتب المصاف وجرد السيف
وذكر اسم الله وراجعت زناتة بصائرها وعزائمها وتحركت هممها وأبلت في طاعة ربها
والذب عن دينها وجاءت بما يعرف من بأسها وبلائها في مقاماتها ومواقفها فلم يكن إلا
كلا ولا حتى هبت ريح النصر وظهر أمر الله وانكشفت جموع النصرانية وقتل الزعيم نونه
وكان هذا اللعين زعيم النصرانية بالأندلس قد قدمه الفنش على جيوشه واستعمله على
حروبه وفوض له في جميع أموره وكان النصارى قد سعدوا بطائرة وتيمنوا بنقيبته لأنه
لم تهزم له قط راية وكان وبالا على بلاد الإسلام كثير الغارات عليها حتى جمع الله
بينه وبين السلطان يعقوب فأراحه من تعب الحرب وكد الغارات وألحقه بأمه الهاوية
ومنح المسلمين رقاب الفرنج واستحر فيهم القتل حتى بلغت قتلاهم عدد الألوف وجمعوا
من رؤوسهم مآذن أذنوا عليها لصلاتي الظهر والعصر واستشهد من المسلمين ما يناهز
الثلاثين أكرمهم الله تعالى بالشهادة وآثرهم بما عنده ونصر الله حزبه وأعز أوليائه
وأظهر دينه وبدا للعدو ما لم يكن يحتسبه بمحاماة هذه العصابة عن الملة وقيامها
بنصر الكلمة وبعث السلطان يعقوب رحمه الله برأس الزعيم نونه إلى ابن الأحمر فيقال
إنه بعثه سرا إلى قومه بعد أن طيبه وأكرمه ولاية أخلصها لهم ومداراة وانحرافا عن
السلطان يعقوب ظهرت شواهد ذلك عليه بعد حين
واعلم أن هذا الزعيم يسميه كثير من المؤرخين دون نونه ولفظه دون معناها في لسانهم
السيد أو العظيم أو ما أشبه ذلك فلذا أسقطناها
وقفل السلطان يعقوب من غزاته هذه إلى الجزيرة الخضراء منتصف ربيع من السنة
المذكورة فقسم في المجاهدين الغنائم وما نفلوه من أموال عدوهم وسباياهم وأسراهم
وكراعهم بعد الاستئثار بالخمس لبيت المال على موجب الكتاب والسنة ليصرفه في مصارفه
ويقال كان مبلغ الغنائم في هذه الغزاة مائة ألف من البقر وأربعة وعشرين ألفا من
السبي ومن الأسارى سبعة آلاف وثمانمائة وثلاثون ومن الكراع أربعة عشر ألفا وستمائة
وأما الغنم فاتسعت عن الحصر
____________________
كثرة حتى لقد زعموا أنه قد
بيعت الشاة الواحدة بدرهم وكذلك السلاح
وأقام السلطان يعقوب بالجزيرة أياما ثم نهض في جمادى الأولى من السنة المذكورة
غازيا إشبيليه فجاس خلالها وتقرى نواحيها وأقطارها وأثخن بالقتل والنهب في جهاتها
وعاث في عمرانها وأوغل في مسيره حتى وقف على بابها وزعقت طبوله في جوها وخفقت
ألويته على جنباتها ولجأت الفرنج إلى الأسوار واعتمدوا على الحصار ولم يخرج إليه
منهم أحد ثم ارتحل إلى شريش فأذاقها من وبال العيث والاكتساح مثل ذلك أو أكثر ورجع
إلى الجزيرة لشهرين من غزاته فبيعت الفرنجية من سبيه بها بمثقال ونصف لكثرة السبي
حينئذ
ودخل فصل الشتاء فنظر السلطان يعقوب في اختطاط مدينة بفرضة المجاز من العدوة لنزول
عسكره منتبذا عن الرعية لما يلحقهم من ضرر العسكر وجفائهم وتخير لها مكانا ملاصقا
للجزيرة فأوعز ببناء المدينة المشهورة بالبنية ثم أجاز البحر إلى المغرب في رجب من
سنته أعني سنة أربع وسبعين وستمائة فكان مغيبه وراء البحر ستة أشهر واحتل بقصر
مصمودة وأمر ببناء السور على باديس مرفأ السفن ومحل العبور من بلاد غمارة ثم رحل
إلى فاس فدخلها في النصف من شعبان من السنة المذكورة فتح جبل تينملل ونبش قبور بني
عبد المؤمن على يد الملياني عفا الله عنه
قد تقدم لنا أن جبل تينملل كان حصنا للموحدين وملجأ لهم إذا نابهم مكروه وكان
مسجده مزارا عظيما لهم لأنه مدفن إمامهم وملحد خلفائهم فكانوا يعكفون عليه
ويلتمسون بركة زيارته ويقدمون ذلك بين يدي غزواتهم
____________________
قربة يتقربون بها إلى الله
تعالى ولما استولى السلطان يعقوب على مراكش فر من كان بها من الموحدين إلى الجبل
المذكور واعتصموا به وبايعوا إسحاق أخا المرتضى وأملوا منه رجع الكرة وإدالة
الدولة واستمر الحال على ذلك إلى هذه السنة فنهض عامل مراكش من قبل السلطان يعقوب
وهو محمد بن علي بن محلي أحد خؤلته ونازل الجبل المذكور وحاصره مدة ثم اقتحمه عنوة
وافتض عذرته وفك ختامه وتقبض عل خليفة الموحدين إسحاق وابن عمه السيد أبي سعيد بن
أبي الربيع ومن معهما من الأولياء وجنبوا إلى مصارعهم بباب الشريعة من مراكش فضربت
أعناقهم وصلبت أشلاؤهم وكان فيمن قتل منهم الكاتب القبائلي وأولاده
وعاثت عساكر بني مرين في جبل تينملل واكتسحوا أمواله ونبشوا قبور خلفاء بني عبد
المؤمن واستخرجوا أشلاءهم وكان فيها شلو يوسف بن عبد المؤمن وابنه يعقوب المنصور
فقطعت رؤوسهم وتولى كبر ذلك أبو علي أحمد الملياني كان أبو علي هذا ثار على
الحفصيين بمدينة مليانة فجهزوا إليه عساكره وأجهضوه عنها ففر إلى السلطان يعقوب
فقبله وآواه وأقطعه بلد أغمات إكراما له فحضر هذه الوقعة في جملة العسكر وارتكب
هذا الفعل الشنيع ورأى أنه قد شفى نفسه باستخراج هؤلاء الخلائق من أرماسهم والعبث
بأشلائهم وقد أنكر الناس عامة والسلطان يعقوب خاصة هذه الفعلة منه ولم يرضوها ومع
ذلك فقد تجاوز له السلطان يعقوب عنها تأنيسا لغربته ورعيا لجواره ولما توفي
السلطان يعقوب وولي بعده ابنه يوسف سعى إليه في الملياني هذا فنبكه على ما نذكره
إن شاء الله
ولما وصل السلطان يعقوب من غزوته إلى فاس انتقض عليه طلحة بن محلي أحد أخواله
وتمنع بجبل آصروا من بلاد فازاز فسار إليه لسلطان يعقوب وحاصره به فأناب إلى
الطاعة ونزل على الأمان وذلك في منتصف
____________________
رمضان سنة أربع وسبعين وستمائة
وفي ثاني يوم من شوال من هذه السنة ثارت العامة باليهود بفاس بسبب حدث أحدثوه
فقتلوا منهم أربعة عشر يهوديا ولولا أن السلطان ركب بنفسه ورد العامة عنهم لكانت
إياها بناء المدينة البيضاء المسماة اليوم بفاس الجديد
لما فتح جبل تينملل ومحيت منه بقية آل عبد المؤمن وتمهد ملك المغرب للسلطان يعقوب
واستفحل أمره وكثرت غاشيته رأى أن يختط بلدا ينسب إليه ويتميز بسكناه وينزل فيه
بحاشيته وأوليائه الحاملين لسرير ملكه فأمر ببناء المدينة البيضاء ملاصقة لمدينة
فاس على ضفة واديها المخترق لها من جهة أعلاه وشرع في تأسيسها ثالث شوال من سنة
أربع وسبعين وستمائة وركب السلطان بنفسه فوقف عليها حتى خطت مساحتها وأسست جدرانها
وجمع الأيدي عليها وحشر الصناع والعملة لبنائها وأحضر لها أهل النجامة والمعدلين
لحركات الكواكب فاختاروا لها من الطوالع ما يرضون أثره ويحمدون سيره وأسست فيه
وكان في أولائك االمعدلين إمامان شهيران أبو الحسن بن القطان وأبو عبد الله بن
الحباك المقدمان في الصناعة فكمل تشييد هذه المدينة على ما رسم رحمه الله وكما رضي
ونزلها بحاشيته وذويه سنة أربع وسبعين المذكورة واختط الناس بها الدور والمنازل
وأجريت فيها المياه إلى القصور وكانت من أعظم آثار هذه الدولة وأبقاها على الأيام
قال ابن أبي زرع ومن سعادة طالعها أنه لا يموت فيها خليفة ولم يخرج منها لواء قط
إلا كان منصورا ولا جيش إلا كان ظافرا
ثم أمر رحمه الله ببناء قصبة مكناسة فشرع في بنائها وبناء جامعها في السنة
المذكورة ثم استوزر صنيعته أبا سالم فتح الله السدراتي وأجرى له رزق الوزارة على
عادتهم
ثم كافأ يغمراسن بن زيان على هديته التي كان بعث بها إليه قبل إجازته
____________________
إلى الأندلس فبعث إليه فسطاطا
رائقا كان صنع له بمراكش وثلاثين من البغال الفارهة ذكرانا وإناثا وغير ذلك مما
يباهي به ملوك المغرب
وفي سنة خمس وسبعين وستمائة أهدى إليه الأمير محمد بن عبد القوي التوجيني صاحب جبل
وانشريس أربعة من الجياد انتقاها من خيل المغرب كافة ورأى أنها على قلة عددها أحفل
هدية وفي نفسه أثناء هذا كله من أمر الجهاد شغل شاغل يتخطى إليه سائر أعماله حسبما
نذكره إن شاء الله الجواز الثاني للسلطان يعقوب إلى الأندلس برسم الجهاد
لما قفل السلطان يعقوب من غزوته الأولى واستنزل الخوارج وثقف الثغور وهادى الملوك
واختط المدينة البيضاء لنزوله كما ذكرنا خرج فاتح سنة خمس وسبعين وستمائة إلى جهة
مراكش لسد ثغورها وتثقيف أطرافها وتوغل في أرض السوس وبعث وزيره فتح الله السدراتي
في العساكر فجاس خلالها ثم انكفأ راجعا وهناك خاطب السلطان يعقوب رحمه الله قبائل
المغرب كافة بالنفير إلى الجهاد فتثاقلوا عليه فلم يزل يحرضهم وهم يسوفون إلى أن
دخلت سنة ست وسبعين بعدها ولما رأى تثاقل الناس عليه نهض إلى رباط الفتح وتلوم به
أياما في انتظار الغزاة فأبطؤوا عليه فخف في خاصته وتقدم في حاشيته حتى انتهى إلى
قصر المجاز وقد تلاحق به الناس من كل جهة لما رأوا من عزمه وتصميمه فأجاز بهم
البحر واحتل بطريف آخر محرم من السنة المذكورة ثم ارتحل إلى الجزيرة الخضراء ثم
إلى رندة فوافاه بها الرئيسان أبو محمد عبد الله بن أبي الحسن علي بن أشقيلولة
صاحب مالقة وأخوه أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الحسن برسم الجهاد معه
ثم ارتحل السلطان من رندة فاتح ربيع الأول من السنة المذكورة حتى انتهى إلى
إشبيلية فعرس عليها يوم المولد النبوي وكان بها يومئذ ملك الجلالقة أن أذفونش فلم
يجد بدا من الخروج إليه بعد أن خام عن اللقاء أولا فبرز في جموعه وصفها على ضفة
الوادي الكبير من ناحية السلطان وأظهر من أبهة الحرب ما قدر عليه فكانت جيوشه كلها
في الدروع السوابغ والبيض اللوامع
____________________
والسيوف البواتر وغير ذلك من
آلات الحرب التي يكاد شعاعها يدهش البصر وزحف إليه السلطان يعقوب رحمه الله بعد أن
صلى ركعتين ودعا الله تعالى ووعظ الناس وذكرهم فرتب مصافه وجعل ولده الأمير يوسف
في المقدمة وزحف على التعبية فاقتتلوا مليا ثم انهزمت الفرنج فتساقط بعضهم في
الوادي وانحدر آخرون مع ضفته وتصاعد آخرون كذلك واقتحم المسلمون عليهم وسط الماء
وقتلوهم في لجته حتى صار الماء أحمر وطفت جيفهم من الغد عليه فكان فيهم عبرة لمن
اعتبر وبات السلطان والمسلمون تلك الليلة على صهوات خيولهم يقتلون ويأسرون وأضرموا
النيران بساحة إشبيلية حتى صار الليل نهارا وباتت الفرنج على الأسوار ينفخون في
القرون ويحترسون طول ليلتهم
ثم ارتحل السلطان من الغد إلى جبل الشرف وبث السرايا في نواحيه فلم يزل يتقرى تلك
الجهات حتى أباد عمرانها وطمس معالمها ودخل حصن قطنيانة وحصن جليانة وحصن القليعة
عنوة وأثخن في القتل والسبي ثم ارتحل بالغنائم والأثقال إلى الجزيرة الخضراء
فدخلها في الثامن والعشرين من ربيع الأول المذكور فأراح بها وقسم الغنائم في
المجاهدين ثم خرج غازيا مدينة شريش منتصف ربيع الآخر فنازلها وأذاقها نكال الحرب
ووبال الحصار وقطع الزياتين والأعناب وسائر الأشجار وأباد خضراءها وحرق ديارها
وأثخن فيها بالقتل والأسر وكان السلطان يعقوب يباشر قطع الشجر والثمر بيده وسرح
ولده الأمير يوسف من معسكره في سرية للغارة على إشبيلية وحصون الوادي الكبير فبالغ
في النكاية واكتسح حصن روطة وشلوقة وغليانة والقناطر ثم صبح إشبيلية فاكتسحها
وانكفأ راجعا بالمغانم والسبي إلى السلطان يعقوب فسر بمقدمه وقفلوا جميعا إلى
الجزيرة الخضراء فأراح السلطان بها أياما وقسم في المجاهدين غنائمهم ثم جمع أشياخ
القبائل وندبهم إلى غزو قرطبة وقال يا معشر المجاهدين إن إشبيلية وشريش وأحوازهما
قد ضعفت وبادت ولم يبق لكم بها كبير نفع ولا نكاية وإن قرطبة وأعمالها بلاد حصينة
عامرة وعليها اعتماد الفرنج ومنها معاشهم ومادتهم فإن عزوتموها واستأصلتم خضراءها
مثل ما فعلتم بإشبيلية وشريش كان ذلك سبب ضعف النصرانية بهذا القطر فأجابوا
____________________
بالسمع والطاعة فدعا لهم وفرق
فيهم الأموال والخلع وخاطب ابن الأحمر يستنفره للجهاد معه وقال إن خروجك معي إلى
قرطبة يكون لك مهابة في قلوب الفرنج ما عشت سوى ما تستوجبه من الله تعالى من
الثواب في ذلك
ونهض السلطان إلى قرطبة فاتح جمادى الأولى من سنة ست وسبعين المذكورة فوافاه ابن
الأحمر بناحية شدونه فأكرم موصله وشكر خفوفه إلى الجهاد وبداره إليه ونازلوا حصن
بني بشير فدخلوه عنوة وقتلت المقاتلة وسبيت النساء ونفلت الأموال وهدم الحصن حتى
لم يبق له أثر ثم بث السلطان رحمه الله السرايا والغارات في البسائط فاكتسحها
وامتلأت الأيدي وأثرى العسكر وفاض عليهم من الغنم والبقر والمعز والخيل والبغال
والحمير والقمح والشعير والزيت والعسل ما لا يوصف ثم ساروا يتقترون المنازل
والعمران في طريقهم حتى احتلوا بساحة قرطبة فنازلوها وخفقت ألوية السلطان في
نواحيها وزعقت طبوله في فضائها وتقدم في أبطاله وحماته حتى وقف على بابها ثم
داربأسوارها ينظر كيف الحيلة في قتالها ووقف ابن الاحمر بعساكر الأندلس أمام محلة
المسلمين يحرسونها خوفا من كرة العدو وخنس الفرنج وراء الأسوار وانبثت بعوث
المسلمين وسراياهم في نواحي قرطبة وقراها فنسفوا آثارها وخربوا عمرانها وترددوا
على جهاتها ودخلوا حصن الزهراء بالسيف وأقام السلطان على قرطبة ثلاثا ثم ارتحل
عنها إلى حصن بركونة فدخله عنوة ثم أرجونة كذلك ثم قدم بعثا إلى مدينة جيان
فقاسمها حظها من الخسف والدمار وخام الطاغية عن اللقاء وأيقن بخراب عمرانه وإتلاف
بلاده فجنح إلى السلم وخطبه من السلطان يعقوب ورغب فيه إليه وبعث الأقسة والرهبان
للوساطة في ذلك فرفعهم السلطان يعقوب إلى ابن الأحمر وجعل الأمر في ذلك إليه تكرمة
لمشهده ووفاء بحقه وقال لوفد الفرنج إنما أنا ضيف والضيف لا يصالح على رب المنزل
فساروا إلى ابن الأحمر وقالوا له إن السلطان يعقوب قد رد الأمر إليك ونحن قد جئناك
لنعقد معك صلحا مؤبدا لا يعقبه غدر ولا حرب وأقسموا له بصلبانهم إن لم يرضه الفنش
ليخلعنه لأنه لم ينصر الصليب ولا حمى الحوزة فأجابهم ابن
____________________
الأحمر إليه بعد عرضه على أمير
المسلمين والتماس إذنه فيه لما فيه من المصلحة وجنوح أهل الأندلس إليه منذ المدد الطويلة
فانعقد السلم في آخر شهر رمضان من السنة المذكورة وقفل السلطان يعقوب من غزاته هذه
وجعل طريقه على غرناطة احتفاء بالسلطان وخرج له عن الغنائم كلها فاحتوى عليها ابن
الأحمر وساقها إلى غرناطة وقال له السلطان يعقوب يكون حظ بني مرين من هذين الغزاة
الأجر والثواب مثل ما فعل يوسف بن تاشفين رحمه الله مع أهل الأندلس يوم الزلاقة
ولما قفل السلطان يعقوب من هذه الغزوة اعتل الرئيس أبو محمد بن أشقيلولة ثم هلك
غرة جمادى من السنة المذكورة فلحق ابنه محمد بالسلطان يعقوب آخر شهر رمضان وهو
متلوم بالجزيرة الخضراء منصرفة من الغزو كما ذكرناه فنزل له عن مالقة ودعاه إلى
حوزها منه وقال له إن لم تحزها أعطيتها للفرنج ولا يتملكها ابن الأحمر فحازها
السلطان يعقوب منه وعقد عليها لابنه أبي زيان منديل بن يعقوب فسار إليها وتملكها
وعز ذلك على ابن الأحمر غاية لأنه لما بلغه وفاة أبي محمد بن أشقيلولة سما أمله
إليها وأن ابن أخته وهو محمد الوافد على السلطان يعقوب شيعة له لا يبغي به بدلا
فأخطأ ظنه وخرج الأمر بخلاف ما كان يرتقب ولما قضى السلطان يعقوب بالجزيرة الخضراء
صومه ونسكه خرج إلى مالقة فدخلها سادس شوال من السنة ويرز إليه أهلها في يوم مشهود
واحتفلوا له احتفال أيام الزينة سرورا بمقدم السلطان واغتباطا بدخولهم في دعوته
وانخراطهم في سلك رعيته وأقام فيهم إلى خاتم سنته ثم عقد عليها لعمر بن يحيى بن
محلي من صنائع دولتهم وأنزل معه المسالح وترك عنده زيان بن أبي عياد بن عبد الحق
في طائفة لنظره من أبطال بني مرين واستوصاه بمحمد بن اشقيلولة وارتحل إلى الجزيرة
الخضراء ثم أجاز منها إلى المغرب فاتح سنة سبع وسبعين وستمائة وقد اهتزت الدنيا
لمقدمه وامتلأت القلوب سرورا بما هيأه الله من نصر المسلمين بالأندلس وعلو راية
الإسلام على كل راية وعظمت بذلك كله موجدة ابن الأحمر ونشأت الفتنة كما نذكره إن
شاء الله
____________________
حدوث الفتنة بين السلطان يعقوب
وابن الأحمر وما نشأ عن ذلك من حصار الجزيرة الخضراء وغير ذلك
قد تقدم لنا أن بنو اشقيلولة كانوا أصهارا لابن الأحمر وانهم لما قدموا على
السلطان يعقوب بالجزيرة الخضراء في جوازه الأول صدرت من ابن اشقيلولة كلمات أحفظت
ابن الأحمر وغاظته فذهب لأجلها مغاضبا وانحرف عن السلطان يعقوب ولم يشهد معه الغزو
ولا عرج على الجهاد ولما نصر الله السلطان يعقوب على عدوه وقتل العلج وبعث برأسه
إلى ابن الأحمر طيبه وبعثه إلى قومه انحرافا عن السلطان وموالاة للعدو ولما جاز
السلطان يعقوب الجواز الثاني انقض عنه ابن الأحمر ولم يلقه حتى خاطبه السلطان
واستنفره إلى الجهاد فلحقه بشدونة كما مر ولما صنع الله للسلطان ما صنع من الظهور
والعز الذي الذي لا كفاء له واستولى على مالقة من يد ابن اشقيلولة ارتاب ابن الأحمر
بمكانه وظن به الظنون وتخوف منه ما كان من يوسف بن تاشفين للمعتمد بن عباد وغيره
من ملوك الطوائف فغص بمكانه وأظلم الجو بينهما ودارت بينهما مخاطبات شعرية على
ألسنة الكتاب في معنى العتاب ولم تزل القوارص بين السلطانين تجري وعقارب السعاية
تدب وتسري وخوف ابن الأحمر على ملكه يشتد ويزيد وأواصر الأخوة الإسلامية تتلاشى
وتبيد إلى أن استحكمت البغضاء وضاق بينهما رحب الفضاء ففزع ابن الأحمر إلى مداخلة
الطاغية في شأنه واتصال يده بيده وحبله بحبله وأن يعود إلى منزله أبيه معه من
ولايته ليدافع به السلطان يعقوب وقومه عن أرضه ويأمن معه من زوال سلطانه فاغتنم
الطاغية هذه الفرصة ونكث عهد السلطان يعقوب ونقض السلم واعلن بالحرب وأغزا أساطيله
الجزيرة الخضراء حيث كانت مسالح السلطان يعقوب وجنوده وأرست بالزقاق حيث فراض
المجاز وانقطعت عساكر السلطان وراء البحر وحال العدو بينهم وبين إغاثته إياهم
واتصلت يد ابن الأحمر بيد الطاغية واتفقا على منع السلطان يعقوب من عبور
____________________
البحر وداخل ابن الأحمر عمر بن
يحيى بن محلى صاحب مالقة في النزول له عنها بعوض ففعل واستولى ابن الأحمر عليها ثم
راسل هو والطاغية يغمراسن بن زيان من وراء البحر وراسلهم هو في مشاقة السلطان
وإفساد ثغوره وإنزال العوائق المانعة له من حركته والأخذ بأذياله عن النهوض إلى
الغزو وأسنوا فيما بينهما الهدايا والتحف وجنب يغمراسن إلى ابن الأحمر ثلاثين من
عتاق الخيل مع ثياب من عمل الصوف وبعث إليه ابن الأحمر مكافأة على ذلك عشرة آلاف
دينار فلم يرض بالمال ورده وأصفقت آراؤهم جميعا على السلطان يعقوب ورأوا أن قد
أبلغوا في أحكام أمرهم وسد مذاهبه إليهم
واتصل خبر هذا كله بالسلطان وهو بمراكش كان خرج إليها مرجعه من الغزو في المحرم
سنة سبع وسبعين وستمائة لما كان من عيث عرب جشم بتامسنا وإفسادهم السابلة فثقف
أطرافها وحسم مادة فسادها ثم اتصل به خبر ابن محلي ونزوله عن مالقة لابن الأحمر
ومنازلة الطاغية بأساطيله للجزيرة الخضراء وتضييقه على المسلمين بها فبلغ ذلك منه
كل مبلغ ونهض من مراكش ثالث شوال من السنة يريد طنجة فوصل إلى قرية مكول من بلاد
تامسنا فتوالت عليه بها الأمطار والسيول وعاقته عن النهوض وبينما هو في ذلك ورد
عليه الخبر أيضا بنزول الطاغية على الجزيرة الخضراء برا وإحاطة عسكره بها بعد أن
كانت أساطيله منازلة لها في البحر منذ ستة أشهر أو سبعة وأنه مشرف على التهامها
وبعثوا إليه يستصرخونه ويخبرونه بالحال فاعتزم على الرحيل
ثم اتصل به الخبر ثالثا بخروج مسعود بن كانون السفياني ببلاد نفيس من أرض المصامدة
خامس ذي القعدة من السنة وأن الناس اجتمعوا إليه من قومه وغيرهم فانخرقت على
السلطان الفتوق وتوالت عليه الخطوب ولم يدر ما يصنع إلا أنه رأى أن يقدم أمر ابن
كانون والعرب فكر راجعا إليه وقدم بين
____________________
يديه حافده تاشفين بن أبي مالك
ووزيره يحيى بن حازم العلوي وجاء هو على ساقتهم وفر مسعود بن كانون وجموعه أمام
السلطان فانتهب معسكرهم وحللهم واستباح عرب الحارث من سفيان ولحق مسعود بجبل
سكسيوة فاعتصم به وشايع عبد الواحد السكسيوي القائم به على خلافه ونازله السلطان
يعقوب بعساكره أياما وسرح ابنه الأمير أبا زيان منديل إلى بلاد السوس لتمهيدها
وتدويخ أقطارها فأوغل في ديارها وقفل إلى أبيه في آخر يوم من السنة المذكورة
واتصل بالسلطان ما تضاعف على أهل الجزيرة من ضيق الحصار وشدة القتال وإعواز
الأقوات وأنهم ختنوا الأصاغر من أولادهم خشية عليهم من معرة الكفر فأهمه ذلك
وكان أقسم أن لا يرتحل عن ابن كانون حتى ينزل على حكمه أو يهلك دون ذلك فأعمل
النظر فيما يكون به خلاص أهل الجزيرة فعقد لولي عهده ابنه الأمير يوسف وكان بمراكش
عل الغزو إليها وكان أهل الجزيرة كما قلنا قد أحاط بهم العدو برا وبحرا وانقطعت
عنهم المواد وعميت عليهم الأنباء إلا ما يأتيهم به الحمام من جبل طارق وفني أكثرهم
بالقتل والجوع وسهر الليل على الأسوار وشدة الحصار حتى أشرف بقيتهم على الهلاك
وأيسوا من الحياة فحينئذ جمعوا صبيانهم وختنوهم كما مر وبينما هم على ذلك قدم
الأمير يوسف بجيوشه إلى طنجة وكان قدومه في أوائل صفر من سنة ثمان وسبعين وستمائة
وكان السلطان يعقوب لما بعث ابنه الأمير يوسف إلى طنجة قد كتب إلى الثغور بإعداد
الأساطيل وعمارتها وتوجيهها إليه وقسم الإعطاءات وحض الناس على النهوض فتوفرت همم
المسلمين على الجهاد وأجابوا من كل ناحية وأبلى الفقيه أبو خاتم العزفي صاحب سبتة
لما بلغه الخطاب من السلطان في شأن الأساطيل البلاء الحسن وقام فيه المقام المحمود
فهيأ
____________________
خمسة وأربعين أسطولا واستنفر
كافة أهل بلده من المحتلم إلى الشيخ فركبوا البحر أجمعون ولم يبق بسبتة إلا النساء
والشيوخ والصبيان ورأى ابن الأحمر ما نزل بأهل الجزيرة وإشراف الطاغية على أخذها
فندم على ممالاته إياه وأعد أساطيل سواحله من المنكب والمرية ومالقة فكانت اثني
عشر أسطولا فبعثها مددا للمسلمين وقدم من بادس وسلا وآنفى خمسة عشر أسطولا فنهض في
الوقت اثنان وسبعون أسطولا واجتمعت كلها بمرفأ سبتة وقد أخذت بطرفي الزقاق في أحفل
زي وأكمل استعداد ثم تقدمت إلى طنجة ليراها الأمير يوسف فشاهدها وسر بها وعقد لهم
رايته مع جماعة من أبطال بني مرين رغبوا في الجهاد
ثم أقلعت الأساطيل عن طنجة ثامن ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وستمائة وانتشرت
قلوعهم في البحر فأجازوه وباتوا ليلة المولد الكريم بمرفأ جبل الفتح وصبحوا العدو
وأساطيله يومئذ تناهز أربعمائة فتظاهر المسلمون في دروعهم وأسبغوا من شكتهم
وأخلصوا لله عزائمهم وتنادوا بالجنة وشعارها ووعظ خطباؤهم وذكر صلحاؤهم والتحم
القتال ونزل الصبر فلم يكن إلا كلا ولا حتى نضحوا العدو بالنبل ففسدت أفروطتهم
واختل مصافهم وانكشفوا وتساقطوا في عباب البحر فاستلحمهم السيف وغشيهم اليم
واستولى المسلمون على أساطيلهم فملكوها وأسروا قائدها الملند في جماعة من حاشيته
واستمر مثقفا بفاس حتى فر بعد ذلك وسر المسلمون الذين بداخل الجزيرة بفساد أفروطة
العدو وهلاكها
ولما رأى عسكر الطاغية الذي في البر ما أصاب أهل البحر منهم من القتل والأسر
داخلهم الرعب وخافوا من هجوم الأمير يوسف عليهم إذ كان مقيما بساحل طنجة مستعدا
للعبور فقوضوا أبنيتهم وأفرجوا عن البلد لحينهم وانتشر المسلمون والنساء والصبيان
بساحة البلد كأنما نشروا من قبر وغلبت مقاتلتهم كثيرا من عسكر العدو على متاعهم
فغنموا من الحنطة والإدام
____________________
والفواكه ما ملأ أسواق البلد
أياما حتى وصلتها الميرة من النواحي
وأجاز الأمير يوسف البحر من حينه فاحتل بساحل الجزيرة وأرهب العدو في كل ناحية
لكنه صده عن الغزو شأن الفتنة مع ابن الأحمر فرأى أن يعقد مع الطاغية سلما ويصل
يده بيده لمنازلة غرناطة دار ابن الأحمر فأجابه الطاغية إلى ذلك رهبة من بأسه
وموجدة على ابن الأحمر في مدد أهل الجزيرة وبعث أساقفته لعقد ذلك وإحكامه فأجازهم
الأمير يوسف إلى أبيه وهو بناحية مراكش فغضب لها وأنكر على ابنه وزوى عنه وجه رضاه
وأقسم أن لا يرى أسقفا منهم إلا أن يراه بأرضه ورجعهم إلى طاغيتهم مخفقي السعي
كاسفي البال
ووصلت في هذه السنة هدية السلطان أبي زكرياء يحيى الواثق الحفصي مع أبي العباس
الغماري حسبما مرت الإشارة إليه قبل هذا
ثم إن السلطان يعقوب رحمه الله رجع إلى فاس وبعث خطابه إلى الآفاق مستنفرا للجهاد
وفصل عنها غرة رجب من سنة ثمان وسبعين وستمائة حتى انتهى إلى طنجة وعاين ما اختل
من أحوال المسلمين في تلك الفترة وما جرت إليه فتنة ابن الأحمر من اعتزاز الطاغية
وما حدثته نفسه من التهام الجزيرة الأندلسية ومن فيها وكان قد أمر أمره في هذه
المدة وظاهره أعداء ابن الأحمر من بني اشقيلولة وغيرهم عليه حتى حاصروا غرناطة
ومرج أمر الأندلس ونغلت أطرافها وأشفق السلطان يعقوب رحمه الله على المسلمين الذين
بها وعلى ابن الأحمر مما ناله من خسف الطاغية فراسله في الموادعة واتفاق الكلمة
على أن ينزل له عن مالقة التي خادع عنها ابن محلي كما تقدم فامتنع ابن الأحمر
وأساء الرد في ذلك فرجع السلطان يعقوب إلى إزالة العوائق عن شأنه في الجهاد وكان
من أعظمها فتنة يغمراسن واستيقن ما دار بينه وبين ابن الأحمر والطاغية ابن أذفونش
من الاتصال والإصفاق على تعويقه عن الغزو فبعث إلى يغمراسن يسأله عن الذي بلغه عنه
ويطلب منه تجديد الصلح وجمع الكلمة فلج في الخلاف وكشف وجه العناد وأعلن بما
____________________
وقع بينه وبين أهل العدوة
الأندلسية مسلمهم وكافرهم من الوصلة وأنه معتزم على وطء بلاد المغرب فصرف السلطان
يعقوب عزمه إلى غزو يغمراسن وقفل إلى فاس لثلاثة أشهر من حلوله بطنجة فدخلها آخر
شوال من السنة المذكورة وأعاد الرسل إلى يغمراسن لإقامة الحجة عليه وقال له فيما
خاطبه به إلى متى يا يغمراسن هذا النفور والتمادي في الغرور أما آن أن تنشرح
الصدور وتنقضي هذه الشرور في كلام غير هذا فصم يغمراسن عن ذلك كله ولم يرفع به
رأسا ولما أيس السلطان يعقوب من إقلاعه ورجوعه نهض إليه من فاس آخر سنة تسع وسبعين
وستمائة وقدم ابنه الأمير يوسف في العساكر وتبعه فأدركه بتازا ولما انتهى إلى
ملوية تلوم أياما في انتظار العساكر ثم ارتحل حتى نزل وادي تافنا وصمد إليه
يغمراسن بجموع زناتة والعرب بحللهم ونجعهم وشائهم ونعمهم والتقت طوالع القوم أولا
فكانت بينهما حرب ثم ركب على آثارهما العسكران والتحم القتال سائر النهار وكان
الزحف بالموضع المعروف بالملعب من أحواز تلمسان ثم انكشف بنو عبد الواد عندما أراح
القوم وانتهب معسكرهم بما فيه من الكراع والسلاح والفساطيط والمتاع وبات عسكر
السلطان يعقوب تلك الليلة على متون جيادهم واتبعوا من الغد آثار عدوهم واكتسحت
أموال العرب الناجعة الذين كانوا مع يغمراسن وامتلأت أيدي بني مرين من شائهم
ونعمهم وتوغلوا في أرض يغمراسن ووافاه هنالك محمد بن عبد القوي أمير بني توجين
لقيه بناحية القصبات وعاثوا جميعا في بلاده تخريبا ونهبا ثم أذن السلطان يعقوب لبني
توجين في اللحاق ببلادهم وأخذ هو بمخنق تلمسان محاصرا لها حتى يصل محمد بن عبد
القوي إلى مأمنه من جبل وانشريس خوفا عليه من غائله يغمراسن واتباعه إياه ثم أفرج
عنها وقفل إلى المغرب فدخل حضرة فاس في رمضان سنة ثمانين وستمائة ثم نهض الى مراكش
فدخلها فاتح سنة إحدى وثمانين بعدها فبنى بها بامرأة مسعود بن كانون السفياني لأنه
كان قد هلك قبل هذه السنة وسرح ابنه الأمير يوسف إلى السوس لتدويخ أقطاره ثم وافاه
وهو بمراكش صريخ الطاغية على ما نذكره الآن
____________________
الجواز الثالث للسلطان يعقوب
إلى الأندلس مغيثا للطاغية ومغتنما فرصة الجهاد
لما كان السلطان يعقوب رحمه الله بمراكش سنة إحدى وثمانين وستمائة قدم عليه كتاب
طاغية الإضبنيول واسمه هراندة مع وفد من بطارقته وزعماء دولته مستصرخا له على ابنه
سانجة الخارج عليه في طائفة من النصارى وأنهم غلبوه على أمره زاعمين بأنه شاخ وضعف
عن تدبيرهم ولم يقدر على القيام بنصرتهم فاستنصره عليهم ودعاه لحربهم وأمله
لاسترجاع ملكه من يدهم فاغتنم السلطان يعقوب هذه الفرصة في الحال وجعل جوابه نفس
النهوض والارتحال فسار معهم لم يعرج على شيء حتى أتى قصر المجاز وهو قصر مصمودة
فعبر منه واحتل لوقته بالجزيرة الخضراء في ربيع الثاني من سنة إحدى وثمانين
المذكورة وأوعز الى الناس بالنفير إلى الجهاد واجتمعت عليه مسالح الثغور بالأندلس
وسار حتى نزل صخرة عباد وهناك قدم عليه الطاغية هراندة ذليلا لعزة الإسلام مؤملا
صريخ السلطان فأكرم موصله وأكرم وفادته
وذكر ابن خلدون وابن الخطيب وغيرهما من الأثبات أن هذا الطاغية لما اجتمع بالسلطان
يعقوب قبل يده إعظاما لقدره وخضوعا لعزه فدعا السلطان رحمه الله بماء فغسل يده من
تلك القبلة بمحضر من كان هناك من جموع المسلمين والفرنج ثم التمس الطاغية من
السلطان أن يمده بشيء من المال ليستعين به على حربه ونفقاته فأسلفه السلطان مائة
ألف دينار من بيت مال المسلمين رهنة الطاغية فيها تاجه الموروث عن سلفه قال ابن
خلدون وبقي هذا التاج بدار بني يعقوب بن عبد الحق فخرا للأعقاب لهذا العهد قلت وما
أبعد حال هذا الطاغية المهين من حال عطارد بن حاجب التميمي الذي لم يسلم قوس أبيه
على تطاول السنين والقصة مشهورة فانظر ما بين الهمم العربية والعجمية من البون
وحال الفريقين في الابتذال والصون
ثم إن السلطان يعقوب رحمه الله تقدم مع الطاغية ودخل دار الحرب غازيا حتى نازل
قرطبة وبها يومئذ سانجة ابن الطاغية الخارج عليه مع طائفته
____________________
فقاتلها أياما ثم أفرج عنها
وتنقل في جهاتها وبعث سراياه إلى جيان فأفسدوا زروعها ثم ارتحل إلى طليطلة فعاث في
جهاتها وخرب عمرانها حتى انتهى إلى حصن مجريط من أقصى الثغر فامتلأت أيدي المسلمين
وضاق معسكرهم بالغنائم التي استاقوها فقفل السلطان من أجل ذلك إلى الجزيرة فاحتل
بها في شعبان وأقام بها إلى آخر السنة المذكورة وكانت غزوة لم يسمح الدهر بمثلها
وفي هذه السنة توفي يغمراسن بن زيان على ما في القرطاس وذكر ابن خلدون أنه لما
حضرته الوفاة أوصى ابنه عثمان وقال له يا بني إن بني مرين بعد استفحال ملكهم
واستيلائهم على حضرة الخلافة بمراكش لا طاقة لنا بلقائهم فإياك أن تحاربهم فإن
مددهم موفور ومددك محصور ولا يغرنك أني كنت أحاربهم ولا أنكص عن لقائهم لأني كنت
أخشى معرة الجبن عنهم بعد التمرس بهم والاجتراء عليهم وأنت لا يضرك ذلك لأنك لم
تحاربهم ولم تتمرس بهم فعليك بالتحصن ببلدك متى زحفوا إليك وحاول ما استطعت
الاستيلاء على ما جاورك من عمالات الموحدين أصحاب تونس يستفحل بها ملكك وتكافئ حشد
العدو بحشدك قال فعمل ابنه عثمان على وصيته وأوفد أخاه محمد بن يغمراسن على
السلطان يعقوب وهو بالأندلس في جوازه الرابع فعقد معه السلم على ما أحب وانكفأ
راجعا إلى أخيه فطابت نفسه وتفرغ لافتتاح البلاد الشرقية انعقاد الصلح بين السلطان
يعقوب وابن الأحمر والسبب في ذلك
لما اتصلت يد السلطان يعقوب رحمه الله بيد الطاغية وقام معه في ارتجاع ملكه خشي
ابن الأحمر عاديته فجنح إلى موالاة ابنه سانجة الخارج عليه ووصل يده بيده وأكد له
العقد واضطرمت الأندلس نارا وفتنة بسبب هذا الخلاف ولما قفل السلطان يعقوب من
غزوته مع الطاغية وقد ظهر على ابنه أجمع على منازلة مالقة التى استحوذ عليها ابن
الأحمر وخدع عنها ابن محلي فنهض السلطان إليها من الجزيرة الخضراء فاتح سنة اثنتين
وثمانين وستمائة
____________________
فغلب أولا على الحصون الغربية
كلها ثم أسف إلى مالقة فأناخ عليها بعساكره وضاق على ابن الأحمر النطاق ولم تغن
عنه موالاة سانجة شيئا وبدا له سوء المغبة في شأن مالقة وندم على تناولها فأعمل
نظره في الخلاص من ورطتها ولم ير لها إلا الأمير يوسف ابن السلطان يعقوب فخاطبه
بمكانه من المغرب مستصرخا له لرقع هذا الخرق ورتق هذا الفتق وجمع كلمة المسلمين
على عدوهم فأجابه واغتنم المثوبة في مسعاه وعبر البحر إلى الأندلس في صفر سنة
اثنتين وثمانين المذكورة فوافى أباه بمعسكره على مالقة ورغب منه السلم لابن الأحمر
في شأنها والتجافي له عنها فأسعف رغبة ابنه لما يؤمل في ذلك من رضى الله عز وجل في
جهاد عدوه وإعلاء كلمته وانعقد السلم وانبسط أمل ابن الأحمر وتجددت عزائم المسلمين
للجهاد وقفل السلطان يعقوب الى الجزيرة الخضراء فبث السرايا في دار الحرب فأوغلوا
وأثخنوا ثم أستأنف الغزو بنفسه الى طليطلة فخرج من الجزيرة غازيا غرة ربيع الثاني
من سنة اثنتين وثمانين المذكورة حتى انتهى إلى قرطبة فأثخن وغنم وخرب العمران
وافتتح الحصون ثم ارتحل نحو البرت وترك محلته على بياسة بالمغانم والأثقال وترك
معها خمسة آلاف فارس يحمونها من كرة العدو ثم أغذ السير في أرض قفرة ليلتين حتى
انتهى إلى البرت من نواحي طليطلة فسرح الخيل في البسائط وجالت في أكنافها ولم تنته
إلى طليطلة لتثاقل الناس بكثرة الغنائم وأثخن في القتل وقفل على غير طريقة فأثخن
وخرب
وانتهى إلى أبذة فوقف بساحتها وقاتلها ساعة من نهار فرماه علج من خلف السور بسهم
أصاب فرسه فارتحل عنها إلى معسكره ببياسة فأراح بها ثلاثا ينسف آثارها ويقتلع
أشجارها وقفل إلى الجزيرة وبين يديه من السبي والغنائم ما يعجز عنه الوصف فدخلها
في شهر رجب من السنة المذكورة فقسم الغنائم ونفل من الخمس وولى على الجزيرة حافده
عيسى بن عبد الواحد بن يعقوب فهلك شهيدا على شريش بسهم مسموم لشهرين من ولايته
ثم عبر السلطان إلى المغرب فاتح شعبان ومعه ابنه أبو زيان منديل فأراح
____________________
بطنجة ثلاثا ثم نهض إلى فاس
فدخلها آخر شعبان ولما قضى صيامه ونسك عيده ارتحل إلى مراكش لتمهيدها وتفقد
أحوالها وقسم من نظره لنواحي سلا حظا فأقام برباط الفتح شهرين اثنين وتوفيت في هذه
المدة الحرة أم العز بنت محمد بن حازم العلوي وهي أم الأمير يوسف وكانت وفاتها
برباط الفتح فدفنت بشالة ثم نهض السلطان يعقوب إلى مراكش فدخلها فاتح ثلاث وثمانين
وستمائة وبلغه مهلك الطاغية هراندة بن أذفونش واجتماع النصرانية على ابنه سانجة
الخارج عليه فحركت همته إلى الجهاد ثم سرح ابنه الأمير يوسف ولي عهده بالعسكر إلى
بلاد السوس لغزو العرب الذين بها وكف عاديتهم ومحو آثار الخوارج المنتزين على
الدولة فأجفلوا أمامه واتبع آثارهم إلى الساقية الحمراء آخر العمران من بلاد السوس
فهلك أكثر العرب في تلك القفار جوعا وعطشا وقفل راجعا لما بلغه من اعتلال والده
السلطان يعقوب فوصل إلى مراكش وقد أبل من مرضه وعزم على الجهاد شكرا لله تعالى على
نعمة العافية وفي هذه السنة وصل ماء عين غبولة إلى قصبة رباط الفتح بأمر السلطان
يعقوب وكان ذلك على يد المعلم المهندس أبي الحسن علي بن الحاج والله تعالى أعلم الجواز
الرابع للسلطان يعقوب إلى الأندلس برسم الجهاد
لما اعتزم السلطان يعقوب على العبور إلى الأندلس عرض جنوده وحاشيته وأزاح عللهم
وبعث في قبائل المغرب بالنفير ونهض من مراكش في جمادى الآخرة لثلاث وثمانين
وستمائة واحتل برباط الفتح منتصف شعبان فقضى به صومه ونسكه ثم ارتحل إلى قصر
المجاز وشرع في إجازة العساكر والحشود من المرتزقة والمتطوعة خاتم سنته ثم أجاز
البحر بنفسه غرة صفر من سنة أربع وثمانين بعدها واحتل بظاهر طريف ثم سار إلى
الجزيرة الخضراء فأراح بها أياما ثم خرج غازيا حتى انتهى إلى وادي لك وسرح الخيول
في بلاد العدو وبسائطه يحرق وينسف فلما خرب بلاد النصرانية
____________________
ودمر أرضهم قصد مدينة شريش
فنزل بساحتها وأناخ عليها في العشرين من صفر سنة أربع وثمانين المذكورة وبث
السرايا والغارات في جميع نواحيها وبعث عن المسالح التي كانت بالثغور فتوافت لديه
ولحقه حافده عمر بن عبد الواحد بجمع وافر من المجاهدين من أهل المغرب فرسانا
ورجالا ووافته حصة العزفي صاحب سبتة غزاه ناشبة تناهز خمسمائة وأوعز إلى ولي عهده
الأمير يوسف باستنفار من بقي من أهل العدوة
وكان السلطان رحمه الله لما أناخ على شريش بعث وزيره محمد بن عطوا ومحمد بن عمران
عيونا فوافوا حصن القناطر وروطة واستكشفوا ضعف الحامية واختلال الثغور وعادوا إلى
السلطان فأخبروه ثم عقد السلطان لحافده منصور بن عبد الواحد على ألف فارس من بني
مرين والغز وعرب العاصم والخلط والأثبج وأعطاه الراية وبعثه لغزو إشبيلية وذلك في
يوم الأحد التاسع والعشرين من صفر من السنة المذكورة فغنموا ومروا بقرمونة في
منصرفهم فاستباحوها وأثخنوا بالقتل والأسر ورجعوا وقد امتلأت أيديهم من الغنائم ثم
عقد ثانية لحافده عمر بن عبد الواحد على مثلها من الفرسان في يوم الخميس الثالث من
شهر ربيع الأول من السنة وأعطاه الراية وسرحه إلى بسائط وادي لك فرجعوا من الغنائم
بما ملأ العساكر بعد أن أثخنوا فيها بالقتل والتخريب وتحريق الزروع واقتلاع الثمار
وأبادوا عمرانها
ثم سرح ثامن ربيع المذكور عسكرا من خمسمائة فارس للإغارة على حصن ركش فوافوه على
غرة فاكتسحوا أموالهم وسبوا ثم عقد تاسع ربيع أيضا لابنه أبي معرف على ألف من
الفرسان وسرحه لغزو إشبيلية فساروا حتى هجموا عليها يوم المولد الكريم وتحصنت منه
حاميتها بالأسوار فخرب عمرانها وقطع أشجارها وامتلأت أيدي عسكره سبيا وأموالا ورجع
إلى محلة السلطان وهي نازلة على شريش كما قدمنا مملوء الحقائب
ثم عقد ثالثة لحافده عمر منتصف ربيع المذكور لغزو حصن كان بالقرب
____________________
من معسكره كان أهله يقطعون
الطريق على من خرج من المحله مفردا أو في قلة وسرح معه الرجل من الناشبة والفعلة
بآلات من المساحي والفؤوس وأمده بالرجل من المصامدة وغزاة سبتة فاقتحموه عنوة على
أهله وقتلوا المقاتلة وسبوا النساء والذرية وألصقوا خده بالتراب ونسفوا آثاره نسفا
ولسبعة عشر من الشهر ركب السلطان إلى حصن مرتقوط قريبا من معسكره فخربه وحرقه
بالنار واستباحه وقتل المقاتلة وسبى الأهل ولعشرين من شهره المذكور وصل ولي عهده
الأمير يوسف من العدوة المغربية بنفير أهل المغرب وكافة القبائل في جيوش ضخمة
وعساكر موفورة وركب السلطان للقائهم وبرور مقدمهم وعرض العساكر القادمة معه يومئذ
فكانت ثلاثة عشر ألفا من المصامدة وثمانية آلاف من برابرة المغرب كلهم متطوع
بالجهاد فعقد السلطان لولي العهد على خمسة آلاف من المرتزقة وألفين من المتطوعة
وثلاثة عشر ألفا من الرجل وألفين من الناشبة وذلك في يوم الجمعة الخامس والعشرين
من ربيع الأول المذكور وسرحه لغزو إشبيلية والإثخان في نواحيها فعبأ كتائبه ونهض
لوجهه وبث الغارات بين يديه فأثخنوا وسبوا وقتلوا واقتحموا الحصون واكتسحوا
الأموال وعاج ولي العهد على الشرف والغابة من بسيط إشبيلية فنسف قراها واقتحم بعض
حصونها وقفل إلى معسكر السلطان وهو بمكانه من حصار شريش وفي يوم الاثنين السادس من
ربيع الثاني قدم أبو زيان منديل ابن السلطان يعقوب من المغرب في جيش كثيف فيهم
خمسمائة فارس من عرب بني جابر أهل تادلا مع كبيرهم يوسف بن قيطون وفيهم من
المتطوعة والناشبة عدد كثير فعقد له السلطان غداة وصوله وأمده بعسكر آخر وأغزاه
قرمونة والوادي الكبير فأغار على قرمونة وطمعت حاميتها في المدافعة فبرزوا له
وصدقهم القتال فانكشفوا حتى أدخلوهم البلد ثم أحاطوا ببرج كان قريبا من البلد
فقاتلوه ساعة من نهار واقتحموه عنوة ولم يزل يتقرى المنازل والعمران حتى وقف بساحة
إشبيلية فأغار واقتحم برجا
____________________
كان هنالك عينا على المسلمين
وأضرمه نارا وامتلأت أيدي عساكره وقفل إلى معسكر السلطان على شريش ولثلاث عشرة
ليلة من ربيع الثاني عقد السلطان لولي العهد الأمير يوسف لمنازلة جزيرة كبتور فصمد
إليها وقاتلها واقتحمها عنوة وفي ثاني جمادى الأولى عقد السلطان للحاج أبي الزبير
طلحة بن يحيى بن محلى وكان بعد مداخلته أخاه عمر في شأن مالقة سنة خمس وسبعين خرج
إلى الحج فقضى فرضه ورجع ومر في طريقه بتونس فاتهمه الدعي ابن أبي عمارة كان بها
يومئذ فاعتقله سنة اثنتين وثمانين ثم سرحه ولحق بقومه بالمغرب ثم عبر إلى الأندلس
غازيا مع السلطان يعقوب فعقد له في هذا اليوم على مائتين من الفرسان وسرحه إلى
إشبيلية ليكون ربيئة للمعسكر وبعث معه لذلك عيونا من اليهود والمعاهدين من النصارى
يتعرفون أخبار الطاغية سانجة والسلطان يعقوب رحمه الله أثناء هذا كله يغادي شريش
ويراوحها بالقتل والتخريب ونسف الآثار وبث السرايا كل يوم وليلة في بلاد العدو فلا
يخلو يوم من تجهيز عسكر أو إغزاء جيش أو عقد راية أو بعث سرية حتى انتسف العمران
في جميع بلاد النصرانية وخرب بسائط إشبيلية ولبلة وقرمونة وإستجة وجبال الشرف وجميع
بسائط الفرنتيرة
وأبلى في هذه الغزوات عياد بن أبي عياد العاصمي من شيوخ جشم والخضر الغزي من أمراء
الأكراد بلاء عظيما وكان لهم فيها ذكر وصيت وكذلك غزاة سبتة وكذا سائر المجاهدين
من عرب جشم وغيرهم مثل مهلهل بن يحيى الخلطي صهر السلطان ويوسف بن قيطون الجابري
وغير هؤلاء ممن يطول ذكرهم
فلما دمرها تدميرا وأوسعها تخريبا ونسفها نسفا واكتسحها غارة ونهبا وهجم فصل
الشتاء وانقطعت الميرة عن العسكر اعتزم السلطان على القفول وأفرج عن شريش لآخر
جمادى الأولى من السنة المذكورة بعد أن حاصرها نحوا من ثلاثة أشهر وعشرة أيام واتصل
به أن العدو أوعز إلى أساطيله
____________________
باحتلال الزقاق والاعتراض دون
الفراض فأوعز السلطان إلى جميع سواحله من سبتة وطنجة وبلاد الريف ورباط الفتح
والمنكب والجزيرة وطريف بتوجيه أساطيلهم فتوافت منها ستة وثلاثون أسطولا متكاملة
في عدتها فأحجمت اساطيل العدو عنها وارتدت على أعقابها واحتل السلطان يعقوب
بالجزيرة الخضراء وهي المسماة اليوم بخوزيرت غرة رمضان من سنة أربع وثمانين
وستمائة ونزل بقصره من المدينة الجديدة التي بناها بإزائها فبرزت أساطيل المسلمين
أمامه بالمرسى وهو جالس بمشور قصره فلعبوا بمرأى منه في البحر وتجاولوا وتناطحوا
وتطاردوا كفعلهم ساعة الحرب فسر بذلك وأحسن إليهم وصرفهم إلى حال سبيلهم وفادة
الطاغية على السلطان يعقوب بأحواز الجزيرة الخضراء وعقد الصلح بينهما والسبب في
ذلك
قال ابن خلدون رحمه الله لما نزل ببلاد النصرانية من السلطان يعقوب ما نزل من
تدمير قراهم واكتساح أموالهم وسبي نسائهم وإبادة مفاتلتهم وتخريب معاقلهم وانتساف
عمرانهم زاغت منهم الأبصار وبلغت القلوب الحناجر واستيقنوا أن لا عاصم لهم من أمير
المسلمين فاجتمعوا إلى طاغيتهم سانجة خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة متوجعين مما أذاقهم
جنود الله من سوء العذاب وأليم النكال وحملوه على الضراعة لأمير المسلمين في السلم
وإيفاد الملأ من كبار النصرانية عليه في ذلك وإلا فلا تزال تصيبهم منه قارعة أو
تحل قريبا من دارهم فأجاب إلى ما دعوه إليه من الخسف والهضيمة لدينه وأوفد على
أمير المسلمين وهو بالجزيرة الخضراء وفدا من بطارقتهم وشمامستهم يخطبون السلم
ويضرعون في المهادنة والإبقاء ووضع أوزار الحرب فردهم أمير المسلمين اعتزازا عليهم
ثم أعادهم الطاغية بترديد الرغبة على أن يشترط ما شاء من عز دينه وقومه فأسعفهم
أمير المسلمين وجنح إلى السلم لما تيقن من صاغيتهم إليه وذلهم لعز الإسلام وأجابهم
إلى ما سألوه
____________________
واشترط عليهم ما تقبلوه من
مسالمة المسلمين كافة من قومه وغير قومه والوقوف عند مرضاته في ولاية جيرانه من
الملوك أو عدواتهم ورفع الضريبة عن تجار المسلمين بدار الحرب من بلاده وترك
التضريب بين ملوك المسلمين والدخول بينهم في فتنة واستدعى السلطان الشيخ أبا محمد
عبد الحق الترجمان وبعثه لاشتراط ذلك وإحكام عقده فسار عبد الحق إلى الطاغية سانجة
وهو بإشبيلية فعقد معه الصلح واستبلغ وأكد في الوفاء بهذه الشروط ووفدت رسل ابن
الأحمر على الطاغية وهو عنده لعقد السلم معه على قومه وبلاده دون أمير المسلمين
وأن يكون معه يدا واحدة عليه فأحضرهم الطاغية بمشهد عبد الحق وأسمعهم ما عقد مع
أمير المسلمين على قومه وأهل ملته كافة وقال لهم إنما أنتم عبيد آبائي فلستم معي
في مقام السلم والحرب وهذا أمير المسلمين على الحقيقة ولست أطيق مقاومته ولا دفاعه
عن نفسي فكيف عنكم فانصرفوا ولما رأى عبد الحق ميله إلى رضا السلطان وسوس إليه
بالوفادة عليه لتتمكن الألفة وتستحكم العقدة وأراه مغبة ذلك في سل السخيمة وتسكين
الحفيظة فمال إلى موافقته وسأله لقي الأمير يوسف ولي عهد السلطان أولا ليطمئن قلبه
فوصل إليه ولقيه على فراسخ من شريش وباتا بمعسكر المسلمين هنالك ثم ارتحلا من الغد
للقاء السلطان يعقوب وكان قد أمر الناس بالاحتفال للقاء الطاغية وقومه وإظهار
شعائر الإسلام وأبهته وأن لا يلبسوا إلا البياض فاحتفلوا وتأهبوا وأظهروا عز الملة
وشدة الشوكة ووفور الحامية
وقدم الطاغية في جماعته سود اللباس خاضعين ذليلين فاجتمعوا بالأمير بحصن الصخرات
على مقرب من وادي لك وذلك يوم الأحد العشرين من شعبان سنة أربع وثمانين وستمائة
وتقدم الطاغية فلقيه أمير المسلمين بأحسن مبرة وأتم كرامة يلقى بها مثله من عظماء
الملل وقدم الطاغية بين يديه هدية من طرف بلاده أتحف بها السلطان وولي عهده كان
فيها زوج من الخيول
____________________
الوحشي المسمى بالفيل وحمارة
من حمر الوحش إلى غير ذلك من الطرف فقبلها السلطان وابنه وأضعفوا له المكافأة وكمل
عقد السلم وقبل الطاغية سائر الشروط ورضي بعز الإسلام عليه وانقلب إلى قومه بملء
صدره من الرضى والمسرة وسأل منه السلطان أن يبعث إليه بكتب العلم التي بأيدي
النصارى منذ استيلائهم على مدن الإسلام فبعث إليه منها ثلاثة عشر حملا فيها جملة
من مصاحف القرآن الكريم وتفاسيره كابن عطية والثعلبي ومن كتب الحديث وشروحاتها
كالتهذيب والاستذكار ومن كتب الأصول والفروع واللغة والعربية والأدب وغير ذلك فأمر
السلطان رحمه الله بحملها إلى فاس وتحبيسها على المدرسة التي أسسها بها لطلبة
العلم وقفل السلطان فاحتل بقصره من الجزيرة لليلتبن بقيتا من شعبان فقضى صومه ونسك
عيده وجعل من قيام ليلة جزأ لمحاضرة أهل العلم وأعد الشعراء كلمات أنشدوها يوم عيد
الفطر بمشهد الملأ في مجلس السلطان وكان من أسبقهم في ذلك الميدان شاعر الدولة أبو
فارس عبد العزيز الملزوزي الأصل المكناسي الدار ويعرف بعزوز أتى بقصيدة طويلة من
بحر الوافر على روي الباء المفتوحة المردوفة بالألف ذكر فيها سيرة السلطان وغزواته
وغزوات بنيه وحفدته وامتدح قبائل مرين ورتبهم على منازلهم وذكر فضلهم وقيامهم
بالجهاد وذكر قبائل العرب على اختلافها وأنشدت بمحضر السلطان والحاشية فأمر
لمنشئها بألف دينار وخلعة ولمنشدها بمائتي دينار ثم أعمل السلطان نظره في الثغور
فرتب بها المسالح وبعث ولده الأمر أبا زيان منديلا ليقف على الحد بين أرضه وأرض
ابن الأحمر وعقد له على تلك الناحية وأنزله بحصن ذكوان قرب مالقة وأوصاه أن لا
يحدث في بلاد ابن الأحمر حدثا وعقد لعياد بن أبي عياد العاصمي على مسلحة أخرى
وأنزله بأسطبونة وأجاز ابنه الأمير يوسف إلى المغرب لتفقد أحواله ومباشرة أموره
وأمره أن يبني على قبر والده أبي الملوك عبد الحق بتافر طاست زاوية فاختط هنالك
رباطا حفيلا وبنى على قبر الأمير
____________________
عبد الحق إدريس أسنمة من
الرخام ونقشها بالكتابة ورتب عليها قراء لتلاوة القرآن ووقف على ذلك ضياعا وأرضا
تسع حرث أربعين زوجا رحم الله الجميع بمنه وفاة السلطان يعقوب بن عبد الحق رحمه
الله
وفي آخر ذي القعدة من سنة أربع وثمانين وستمائة مرض السلطان يعقوب بن عبد الحق
مرضه الذي توفي منه فلم يزل ألمه يشتد وحاله يضعف إلى أن توفي بقصره من الجزيرة
الخضراء من ارض الأندلس في ضحى يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من المحرم فاتح سنة
خمس وثمانين وستمائة وحمل إلى رباط الفتح من بلاد العدوة فدفن بمسجد شالة وقبره
اليوم طامس الأعلام رحمه الله بقية أخبار السلطان يعقوب بن عبد الحق وسيرته
كان السلطان يعقوب رحمه الله أبيض اللون تام القد معتدل الجسم حسن الوجه واسع
المنكبين كامل اللحية معتدلها أشيب نقي البياض حليما متواضعا جوادا مظفرا منصور
الراية ميمون النقيبة لم يقصد جيشا إلا هزمه ولا عدوا إلا قهره ولا بلدا إلا فتحه
صواما قواما دائم الذكر كثير البر لا تزال سبحته في يده مقربا للعلماء مكرما
للصلحاء صادرا في أكثر أموره عن رأيهم ولما استقام له الأمر بنى المرستانات للمرضى
والمجانين ورتب لهم الأطباء لتفقد أحوالهم وأجرى على الكل المرتبات والنفقات من
بيت المال وكذا فعل بالجذمى والعمي والفقراء رتب لهم مالا معلوما يقبضونه في كل
شهر من جزية اليهود وبنى المدارس لطلبة العلم ووقف عليها الأوقاف وأجرى عليهم بها
المرتبات كل ذلك ابتغاء ثواب الله تعالى نفعه الله بقصده
____________________
الخبر عن دولة السلطان الناصر
لدين الله يوسف بن يعقوب بن عبد الحق رحمه الله تعالى
لما مرض السلطان يعقوب بقصره من الجزيرة الخضراء مرضه نساؤه وطيرن بالخبر الى ولي
عهده الأمير يوسف وكان يومئذ بالمغرب فاتصل به الخبر وهو بأحواز فاس فأسرع السير
إلى طنجة وقد مات أبوه قبل وصوله فأخذ البيعة له الوزراء والأشياخ ولما عبر إليهم
البحر واحتل بالجزيرة جددوا له البيعة غرة صفر سنة خمس وثمانين وستمائة وأخذوها له
على الكافة فاستتب ملكه واستقام أمره ففرق الأموال وأجزل الصلات وسرح السجون ورفع
عن الناس الأخذ بزكاة الفطر ووكلهم فيها إلى أمانتهم وكف أيدي الظلمة والعمال عن
الناس وأزال المكوس ورفع الأنزال عن دور الرعية وصرف اعتناءه إلى إصلاح السابلة
فأزال أكثر الرتب والقبالات التي كانت بالمغرب إلا ما كان منها في الأقطار الخالية
والمفازات المخوفة فخضعت مرين تحت قهره وصلح أمر الناس في أيامه وكان أول شيء أحدث
من أمره أن بعث إلى ابن الأحمر وضرب له موعدا للإجتماع به فبادر إليه ولقيه بظاهر
مربالة في العشر الأول من ربيع الأول من السنة المذكورة فلقاه السلطان مبرة
وتكريما وتجافى له عن جميع الثغور الأندلسية التي كانت في مكلة أبيه ونزل له عنها
ما عدى الجزيرة ورندة وطريف وتفرقا من مكانهما على أكمل حالات المصافاة والوصلة
ورجع السلطان يوسف إلى الجزيرة فقدم عليه بها وفد الطاغية سانجة مجددين عقد السلم
الذي عقده لهم السلطان يعقوب رحمه الله
ولما تمهد للسلطان يوسف أمر الأندلس عقد لأخيه أبي عطية العباس بن يعقوب على
الثغور الغربية وأوصاه بضبطها وعقد للشيخ المجاهد أبي الحسن علي بن يوسف بن يزكاتن
على مسلحتها وجعل إليه أمر الحرب وأعنة الخيل وأمده بثلاثة آلاف من بني مرين
والعرب ثم عبر البحر إلى المغرب يوم
____________________
الاثنين سابع ربيع الآخر من
السنة المذكورة فنزل بقصر المجاز ثم سار إلى حضرة فاس فدخلها ثاني عشر جمادى
الأولى منها ولحين استقراره بها خرج عليه محمد بن إدريس بن عبد الحق في بنيه
وإخوته ومن انضم إليه ولحق بجبال ورغة ودعا لنفسه فسرح إليه السلطان يوسف أخاه أبا
معرف محمد بن يعقوب فبدا له في النزوع إليهم فلحق بهم وشايعهم على رأيهم من الخلاف
فأغزاهم السلطان يوسف عساكره وردد إليهم البعوث والكتائب ثم تلطف في استنزال أخيه
حتى نزل على الأمان وفر بنو إدريس إلى تلمسان فقبض عليهم اثناء طريقهم وجيء بهم في
الحديد إلى تازا فبعث السلطان يوسف أخاه أبا زيان فقتلهم خارج باب الشريعة منها في
رجب من السنة ورهب الأعياص من بني عبد الحق يومئذ وخافوا بادرة السلطان يوسف
فلحقوا بغرناطة ملتفين على بني إدريس منهم ثم ارتحل السلطان في رمضان من السنة
المذكورة إلى مراكش لتمهيد نواحيها وتثقيف أطرافها فدخلها في شوال وأقام بها إلى
رمضان القابل من سنة ست وثمانين وستمائة فنهض من مراكش لغزو عرب معقل بصحراء درعة
لأنهم كانوا قد اضروا بالرعايا وأفسدوا السابلة فسار إليهم في اثني عشر الفا من
الخيل ومر على بلاد هسكورة معترضا جبل درن وأدركهم نواجع بالقفر فأثخن فيهم بالقتل
والسبي واستكثر من رؤوسهم فعلقت بشرفات مراكش وسجلماسة وفاس وقفل من غزوه آخر شوال
من السنة المذكورة الى مراكش فنكب محمد بن علي بن محلى عاملها القديم الولاية بها
من لدن انقراض الدولة الموحدية لما وقع من الإرتياب بأولاد محلى بكثرة خروجهم على
الدولة وكانت نكبته غرة محرم سنة سبع وثمانين وستمائة وهلك في السجن في صفر الموالي
له وعقد السلطان يوسف على مراكش وأعمالها لمحمد بن عطوا الجاناتي من موالي دولتهم
ولاء حلف وترك معه ابنه أبا عامر عبد بن يوسف ثم ارتحل السلطان يوسف إلى فاس
فدخلها منتصف ربيع من السنة المذكورة
____________________
قدوم بني اشقيلولة على السلطان
يوسف بسلا وإقطاعه إياهم قصر كتامة والسبب في ذلك
قد تقدم لنا أن بني اشقيلولة كانوا من وجوه الأندلس وأهل الرياسة بها حتى صاهرهم
ابن الأحمر بابنته وأخته وقاموا معه في إثبات قواعد ملكه ثم انحرفوا عنه إلى
موالاة بني مرين ونزل محمد بن عبد الله بن أبي الحسن منهم إلى السلطان يعقوب عن
مالقة وكان عمه أبو إسحاق بن أبي الحسن صاحب وادي آش وأعمالها واتصل ذلك في بنيه
إلى أن بويع السلطان يوسف فقاموا بدعوته فيها ثم حصلت المصافاة وتأكدت المودة بين
السلطان يوسف وابن الأحمر على ما أسلفناه آنفا فطلب ابن الأحمر من السلطان يوسف أن
ينزل له عن واد آش التي هي لبني اشقيلولة المتمسكين بدعوته كما نزل له عن غيرها من
الثغور فأجابه السلطان إلى ذلك وكتب إلى أبي الحسن بن إسحاق بن اشقيلولة يأمره
بالتخلي له عنها فتركها له وعبر هو وحاشيته البحر إلى السلطان يوسف سنة سبع
وثمانين المذكورة فلقيه بمدينة سلا فأعطاه السلطان يوسف القصر الكبير وأعماله طعمه
سوغه إياها فلم تزل ولايته متوارثة في بنيه حتى انقرضوا آخر دولة بني مرين واستمكن
ابن الأحمر من وادي آش وحصونها ولم يبق له بالأندلس منازع من قرابته والله أعلم
حدوث الفتنة بين السلطان يوسف وعثمان بن يغمراسن بن زيان صاحب تلمسان
قد تقدم لنا أن يغمراسن لما حضرته الوفاة أوصى ابنه عثمان أن لا يحدث مع بني مرين
حربا ولا يوافقهم في زحف ما استطاع لاستغلاظ أمرهم عليه بملكهم المغرب الأقصى
وأعماله وأن عثمان قد عمل على ذلك فأوفد أخاه محمد بن يغمراسن على السلطان يعقوب
بالأندلس وعقد معه السلم
____________________
ورجع إلى أخيه كما تقدم ولما
ولي السلطان يوسف وقفل من مراكش إلى فاس في هذه المرة بعد أن ترك ابنه أبا عامر
عبد الله مع محمد بن عطوا عامل مراكش ثار أبو عامر المذكور بها وخلع طاعة أبيه
ودعا إلى نفسه وشايعه ابن عطوا على ذلك واتصل الخبر بالسلطان يوسف وهو بفاس فأسرع
السير إلى مراكش وبرز إليه ابنه أبو عامر فاقتتلوا ثم انهزم أبو عامر فعاد إلى
مراكش واكتسح بيت المال بها وفر إلى تلمسان ومعه ابن عطوا المذكور فقدماها سنة
ثمان وثمانين وستمائة فآواهم عثمان بن يغمراسن ومهد لهم المكان فلبثوا عنده مليا
ثم عطف السلطان على ابنه الرحم فرضي عنه وأعاده إلى مكانه وطالب عثمان بن يغمراسن
أن يسلم إليه ابن عطوا الناجم في النفاق مع ابنه فأبى من إضاعة جواره وإخفار ذمته
وأغلظ له الرسول في القول فسطا به عثمان واعتقله فثارت من السلطان يوسف الحفائظ
الكامنة وتحركت منه إلاحن القديمة والنزغات المتوارثة فاعتزم على غزو تلمسان ونهض
إليها من مراكش في صفر من سنة تسع وثمانين وستمائة بعد أن عقد عليها لابنه الأمير
أبي عبد الرحمن يعقوب بن يوسف ثم نهض من فاس إليها آخر ربيع الآخر من سنته في
عساكره وجنوده وحشد القبائل وكافة أهل المغرب وسار حتى نازل تلمسان فتحصن منه
عثمان وقومه بأسوارها فحاصره السلطان يوسف وضيق عليه ونصب عليه المجانيق وكان
حصاره إياها في رمضان من السنة المذكورة ثم سار في نواحيها ينسف الآثار ويخرب
القرى ويحطم الزروع ثم نزل بذراع الصابون من ناحيتها ثم انتقل منه إلى تامت
وحاصرها أربعين يوما وقطع أشجارها وأباد خضراءها ولما امتنعت عليه أفرج عنها
وانكفأ راجعا إلى المغرب وقضى نسك الفطر بعين الصفا من بلاد بني يزناسن ونسك
الأضحى وقربانه بتازا وتلبث بها أياما ثم نهض منها إلى الأندلس بقصد الجهاد على ما
نذكره
____________________
انتقاض الطاغية سانجة وإجازة
السلطان يوسف إليه
لما رجع السلطان يسف من غزو تلمسان وافاه الخبر وهو بتازا أن الطاغية سانحة قد
انتقض ونبذ العهد وتجاوز التخوم وأغار على الثغور فأوعز السلطان إلى قائد المسالح
بالأندلس علي بن يوسف بن يزكاتن بالدخول إلى دار الحرب ومنازلة شريش وشن الغارات
على بلاد الطاغية فنهض لذلك في ربيع الآخر من سنة تسعين وستمائة وجاس خلالها وتوغل
في أقطارها وابلغ في النكاية
ثم فصل السلطان يوسف من تازا غازيا أثره في جمادى الأولى من السنة المذكورة واحتل
قصر مصمودة وهو قصر المجاز واستنفر أهل المغرب وقبائله فنفروا وشرع في إجازتهم
البحر فبعث الطاغية أساطيله إلى الزقاق حجزا لهم دون الإجازة فأوعز السلطان يوسف
إلى قواد أساطيله بالسواحل بمعمارتها لمقابلة أساطيل العدو ففعلوا وقدمت فالتقت مع
أساطيل العدو ببحر الزقاق في شعبان من السنة فاقتتلوا وانكشف المسلمون ومحصهم الله
وقتل قواد الأساطيل فأمر السلطان يوسف باستئناف العمارة ثم أغزاهم ثانية فخامت
أساطيل العدو عن اللقاء وصاعدوا عن الزقاق فملكته أساطيل السلطان فأجاز أخريات
رمضان من السنة واحتل بطريف ثم دخل دار الحرب غازيا فنازل حصن بجير ثلاثة أشهر وضيق
عليهم وبث السرايا في أرض العدو وردد الغارات على شريش وإشبيلية ونواحيها إلى أن
بلغ في النكاية والإثخان غرضه وقضى من الجهاد وطره وهجم عليه فصل الشتاء وانقطعت
الميرة عن العسكر فأفرج عن الحصن ورجع إلى الجزيرة الخضراء ثم عبر إلى المغرب فاتح
سنة إحدى وتسعين وستمائة فتظاهر ابن الأحمر والطاغية على منعه من الجواز مرة أخرى
كما نذكره الآن
____________________
حدوث الفتنة بين السلطان يوسف
وابن الأحمر واستيلاء الطاغية على طريف بمظاهرة ابن الأحمر له عليها
لما قفل السلطان يوسف من الأندلس وقد أبلغ في نكاية العدو كما قلنا عظم على
الطاغية أمره وثقلت عليه وطأته فشرع في إعمال الحيلة في الإفساد بينه وبين ابن
الأحمر وكان ابن الأحمر يتخوف من السلطان يوسف أن يغلبه على بلاده فخلص مع الطاغية
نجيا وتفاوضا في أمر السلطان يوسف وأن تمكنه من الإجازة إليهم إنما هو لقرب مسافة
بحر الزقاق وانتظام ثغور المسلمين حفافيه وتصرف شوانيهم وسفنهم فيه متى أرادوا
فضلا عن الأساطيل الجهادية وأن أم تلك الثغور هي طريف وأنهم إذا استمكنوا منها
منعوا السلطان من العبور وكانت عينا لهم على الزقاق وكان أسطولهم بمرفئها رصدا
لأساطيل صاحب المغرب الخائضة لجة ذلك البحر فاعتزم الطاغية على منازلة طريف وبها
يومئذ مسلحة بني مرين وتكفل له ابن الأحمر بمظاهرته على ذلك والتزم له بالمدد
والميرة للعسكر أيام منازلتها على أن تكون له إن خلصت للطاغية وتعاهدوا على ذلك
وأناخ الطاغية بعساكر النصرانية على طريف وألح عليها بالقتال ونصب الآلات من
المجانيق والعرادات وأحاط بها برا وبحرا وانقطع المدد والميرة عن أهلها وحالت
أساطيل العدو بينهم وبين صريخ السلطان واضطرب ابن الأحمر معسكره بمالقة قريبا من
عسكر الطاغية وسرب إليه المدد من الرجال والسلاح والميرة وأصناف الأقوات وبعث
عسكرا لمنازلة حصن إسطبونة فتغلب عليه بعد مدة من الحصار واتصلت هذه الحال أربعة
أشهر حتى أصاب أهل طريف الجهد ونال منهم الحصار فراسلوا الطاغية في الصلح والنزول
عن البلد فصالحهم واستنزلهم وتملكها آخر يوم من شوال سنة إحدى وتسعين وستمائة ووفى
لهم بما عاهدهم عليه واستشرف ابن الأحمر إلى تجافي الطاغية له عنها حسبما تعاهدا
عليه فأعرض عن ذلك واستأثر بها بعد أن كان نزل له عن ستة من الحصون عوضا عنها فخرج
من يده الجميع ولم
____________________
يحصل على طائل فكانت حاله في
ذلك كحال صاحبة النعامة المضروب بها المثل عند العرب وبالله تعالى التوفيق
ثورة عمر بن يحيى بن الوزير الوطاسي بحصن تازوطا
اعلم أن بني وطاس فخذ من بني مرين لكنهم ليسوا من بني عبد الحق وكانت الرياسة فيهم
لبني الوزير منهم وبنو الوزير يزعمون أن نسبهم دخيل في مرين وأنهم من أعقاب يوسف
بن تاشفين اللمتوني لحقوا بالبادية ونزلوا على بني وطاس فالتحموا بهم ولبسوا
جلدتهم وحازوا رياستهم ولما دخل بنو مرين المغرب واقتسموا أعماله كما قدمنا بقيت
بلاد الريف خالصة لبني وطاس هؤلاء فكانت ضواحيها لنزولهم وأمصارها ورعاياها
لجبايتهم وكان حصن تازوطا بها من أمنع معاقل المغرب ولما غلب الأمير أبو بكر بن
عبد الحق على مكناسة وأقام فيها دعوة الحفصيين ونهض السعيد بن المأمون الموحدي من
مراكش لغزوه فر أمامه إلى حصن تازوطا هذا ونزل به على بني الوزير هؤلاء لاجئا
إليهم ومستجيرا بهم فأرادوا الفتك به غيرة منه وحسدا له فشعر بهم وتحول عنهم إلى
عين الصفا من بلاد بني يزناسن حسبما تقدم ذلك كله
ولما انقرض أمر بني عبد المؤمن واستقام ملك المغرب لبني مرين صرفوا عنايتهم إلى
هذا الحصن فكانوا ينزلون به من الحامية من يثقون بغنائه واضطلاعه ليكون آخذا
بناصية هؤلاء الرهط من بني وطاس لما يعلمون من سموهم إلى الرياسة وتطلعهم إليها وكان
السلطان يوسف رحمه الله قد عقد على هذا الحصن لابن أخيه منصور بن عبد الواحد بن
يعقوب وكان عمر وعامر ابنا يحيى ابن الوزير رئيسين على بني وطاس لذلك العهد
فاستهونوا أمر السلطان يوسف بعد موت والده وحدثوا أنفسهم بالثورة في ذلك الحصن
والاستبداد بتلك الناحية فوثب عمر بن يحيى منهم بمنصور بن عبد الواحد في شعبان من
سنة إحدى وتسعين
____________________
وستمائة وفتك بحاشيته ورجاله
وأزعجه عن الحصن وغلبه على ما كان بقصره من مال وسلاح ومتاع وأعشار للروم كانت
مختزنة هنالك وضبط الحصن وشحنه برجاله ووجوه قومه ولحق منصور بن عبد الواحد بعمه
السلطان يوسف فهلك لليال أسفا على ما أصابه
وسرح السلطان يوسف وزيره الناصح أبا عمر بن السعود بن خرباش الحشمي بالحاء المهملة
في العساكر لمنازلة حصن تازوطا فأناخ عليه بكلكله ثم تبعه السلطان يوسف على أثره
وفي صحبته عامر بن يحيى بن الوزير أخو عمر الثائر فإنه كان قد نزع إليه فأحاط
السلطان بالحصن وضيق عليه حتى اشفق عمر لشدة الحصار ويئس من الخلاص وظن أنه قد
أحبط به فدس إلى أخيه عامر في كشف ما نزل به فضمن عامر للسلطان يوسف نزول أخيه إن
هو تركه يصعد إليه حتى يجتمع به فأذن له السلطان يوسف في ذلك فصعد إليه وتفاوضا في
أمرهما وآخر الأمر أن عمر احتمل الذخيرة وفر ليلا الى تلمسان وبدا لعامر في النزول
عندما صار في الحصن فامتنع به قيل لأنه بلغه أن السلطان يوسف عزم على قتله أخذا
بثار ابن أخيه منصور ولإفلاته أخاه من يده
واستمر على ذلك إلى أن قدم على السلطان يوسف وفد الأندلس وفيهم الرئيس أبو سعيد
فرج بن إسماعيل بن الأحمر صاحب مالقة راغبا في الصلح مع ابن عمه ومعتذرا عنه فأرسى
أساطيله بمرسى غساسة ونزل إلى السلطان وقدم بين يده هدية تناسب الحال فسمع بهم
عامر الوطاسي وهو في الحصن فبعث إليهم يسألهم الشفاعة له عند السلطان يوسف
لوجاهتهم لديه فشفع له الرئيس أبو سعيد فقبل السلطان يوسف شفاعته بشرط أن ينتقل
بحاشيته إلى المرسى وركب أكثرهم الأسطول وتأخر عامر إلى جوف الليل فنزل من الحصن
وخاض الفلاة إلى تلمسان فتبعت الخيل أثره ففاتهم وأدركوا ولده أبا الخيل فجيء به
إلى السلطان يوسف فبعث به إلى فاس فضربت عنقه وصلب
____________________
هنالك وأنزل السلطان يوسف بقية
الحاشية من الأسطول فأمر بهم فاستلحموا مع من كان من بالحصن من أتباعهم وقرابتهم
وذرياتهم وتملك السلطان يوسف حصن تازوطا وأنزل به عماله ومسلحته وقفل إلى حضرته
بفاس أخر جمادى الأولى من سنة اثنتين وتسعين وستمائة
ولما كان السلطان نازلا على تازوطا قدم عليه رجل من فرنج جنوة بهدية جليلة فيها
شجرة مموهة بالذهب عليها أطيار تصوت بحركات هندسية مثل ما صنع للمتوكل العباسي وفي
هذه المدة سعي عند السلطان يوسف بأولاد الأمير أبي بكر بن عبد الحق وأنهم أرادوا
الخروج عليه فحقد عليهم لذلك وأحسوا بالشر ففروا إلى تلمسان وأقاموا هنالك إلى أن
بعث السلطان يوسف إليهم بالأمان فأقبلوا حتى إذا كانوا بصبرة من ناحية ملوية
اعترضهم الأمير أبو عامر عبد الله ابن السلطان يوسف فاستلحمهم أجمعين وهو يرى أنه
قد أرضى أباه بذلك الفعل واتصل الخبر بالسلطان يوسف فسخطه وأقصاه وتبرأ منه فلم
يزل طريدا ببلاد الريف وجبال غمارة إلى أن هلك ببني سعيد منهم آخر سنة ثمان وتسعين
وستمائة وحمل إلى فاس فدفن بالزاوية التي داخل باب الفتوح وخلف ثلاثة أولاد عامر
وسليمان وداود فكفلهم جدهم السلطان يوسف إلى أن هلك فولي الأمر بعده حافده عامر
وبعد عامر سليمان وسيأتي ذكرهما إن شاء الله انعقاد الصلح بين السلطان يوسف وابن
الأحمر ووفادته عليه بطنجة
لما استولى الطاغية على طريف بمظاهرة ابن الأحمر له عليها ونقض الطاغية عهد ابن
الأحمر في النزول له عنها سقط في يد ابن الأحمر وندم على فعله ورجع إلى التمسك
بالسلطان يوسف فأوفد عليه ابن عمه الرئيس أبا سعيد فرج بن إسماعيل ووزيره أبا
سلطان عزيز الداني في وفد من أهل حضرته لتجديد العهد وتأكيد المودة وتقرير المعذرة
عن شأن طريف فوافوه
____________________
بمكانه من حصار تازوطا كما
قدمنا فأبرموا العقد وأحكموا الصلح وانصرفوا إلى ابن الأحمر سنة اثنتين وتسعين
وستمائة بإسعاف غرضه من المؤاخاة واتصال اليد فوقع ذلك منه أجمل موقع وطار سرورا
من أعواده وأجمع الرحلة إلى السلطان لإحكام العقد والاستبلاغ في العذر عن واقعة
طريف والرغبة إليه في نصره بلاد الأندلس وإغاثة المسلمين الذين بها فتهيأ لذلك
وعبر البحر في ذي القعدة من سنة اثنتين وتسعين وستمائة واحتل بجبل بيونش من ناحية
سبتة ثم ارتحل إلى طنجة فلقيه بها الأميران أبو عامر عبد الله وأبو عبد الرحمن
يعقوب ابنا السلطان يوسف وكان أبو عامر لا زال يومئذ من أبيه بعين الرضا
ولما علم السلطان يوسف بقدومه خرج من فاس للقائه وبرور مقدمه فوافاه بطنجة فقدم
ابن الأحمر بين يدي نجواه هدية أتحف بها السلطان يوسف كان من أحسنها موقعا لديه
المصحف الكبير الذي يقال إنه مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه كان
بنو أمية يتوارثونه بقرطبة ثم خلص إلى ابن الأحمر فأتحف به السلطان يوسف في هذه
المرة فقبل السلطان ذلك وكافأه بأضعافه وبالغ في تكرمته وأسعفه بجميع مطالبه وأراد
ابن الأحمر أن يبسط العذر عن شأن طريف فتجافى السلطان يوسف عن سماع ذلك وأضرب عن
ذكره صفحا وبر وأحفى ووصل وأجزل ونزل لابن الأحمر عن الجزيرة ورندة والغربية
وعشرين حصنا من ثغور الأندلس كانت قبل في ملكته وملكة أبيه وعاد ابن الأحمر إلى
أندلسه آخر سنة اثنتين وتسعين وستمائة محبوا محبورا وعبرت معه عساكر السلطان يوسف
لحصار طريف ومنازلته وعقد على حربها لوزيره الشهير الذكر عمر بن السعود بن خرباش
الحشمي فنازلها مدة فامتنعت عليه وأفرج عنها
وفي سنة ثلاث وتسعين بعدها فرغ السلطان يوسف من بناء جامع تازا
____________________
وعلقت به الثريا الكبرى من
النحاس الخالص وزنها اثنان وثلاثون قنطارا وعدد كؤوسها خمسمائة كأس وأربعة عشر
كأسا وأنفق السلطان في بناء الجامع وعمل الثريا المذكورة ثمانية آلاف دينار ذهبا
وفي سنة أربع وتسعين بعدها خرج السلطان يوسف لغزو تلمسان فوصل إلى تاوريرت وكانت
تخما لعمل بني مرين وبني عبد الواحد فنصفها للسلطان يوسف ونصفها لعثمان بن يغمراسن
ولكل واحد منهما بها عامل من ناحيته فطرد السلطان يوسف عامل ابن يغمراسن وشرع في
بناء الحصن الذي هنالك فأدار سوره وشيده وركب أبوابه مصفحة بالجديد وكان يقف على
بنائه بنفسه من صلاة الغداة إلى المساء لا يغيب عن العملة إلا في أوقات الضرورة
وفرغ من بنائه وتحصينه في رمضان من السنة المذكورة ولما تم شحنه بالعسكر والسلاح
وعقد عليه لأخيه أبي بكر بن يعقوب ويكنى أبا يحيى وانكفأ راجعا إلى الحضرة ثم خرج
من فاس سنة خمس وتسعين بعدها بقصد تلمسان فسار حتى نزل على ندرومة فحاصرها وشدد في
قتالها ورماها بالمنجنيق أربعين يوما فامتنعت عليه فأفرج عنه ثاني عيد الفطر من
السنة المذكورة ثم دخلت سنة ست وتسعين وستمائة فسار إلى تلمسان وبرز عثمان بن
يغمراسن لمدافعته فانهزم وتحصن بالأسوار وتقدم السلطان يوسف حتى نزل على تلمسان
وقتل من أهلها خلقا ثم أقلع عنها ورجع إلى المغرب فقضى نسك الأضحى من السنة المذكورة
برباط تازا وأمر ببناء القصر بها وسار إلى فاس فدخلها فاتح سنة سبع وتسعين وستمائة
ثم ارتحل إلى مكناسة فقضى بها بعض الوطر ثم عاد إلى فاس ثم خرج منها في جمادى
الأولى من السنة المذكورة غازيا تلمسان ومر في طريقه بمدينة وجدة فأمر ببنائها
وكان أبوه السلطان يعقوب قد هدمها كما مر فبناها السلطان يوسف في هذه المرة وحصن
أسوارها وبنى بها قصبة ودارا لسكناه وحماما ومسجدا ثم سار إلى تلمسان فنزل بساحتها
وأحاطت عساكره بها إحاطة الهالة بالقمر ونصب عليها القوس البعيدة النزع العظيمة
الهيكل المسماة بقوس الزيار اخترعها المهندسون والصناع وتقربوا إلى السلطان
____________________
بعملها فأعجبته وكانت تحمل على
أحد عشر بغلا ولما امتنعت تلمسان عليه أفرج عنها فاتح سنة ثمان وتسعين وستمائة ومر
في عوده إلى المغرب بوجدة فأنزل بها الحامية من بني عسكر بن محمد لنظر أخيه الأمير
أبي بكر بن يعقوب كما كانوا بتاوريرت وأمرهم بشن الغارات على أعمال تلمسان مع
الساعات والأحيان ففعلوا واستولى الأمير أبو بكر بذلك على أكثر تلك الجهات والله
تعالى أعلم فتكة ابن الملياني بشيوخ المصامدة وتزويره الكتاب بهم والسبب في ذلك
قد تقدم لنا عند الكلام على فتح جبل تنيملل أن أبا علي الملياني كان قد سعى في نبش
قبور بني عبد المؤمن والعبث بأشلائهم وأن الناس قد غاظهم ذلك لا سيما المصامدة
منهم ولما هلك السلطان يعقوب وولي بعده ابنه يوسف استعمل أبا علي الملياني على
جباية المصامدة فباشرها مدة ثم سعى به شيوخ المصامدة عند السلطان بأنه احتجن المال
لنفسه فأمر السلطان بمحاسبته فحوسب وظهرت مخايل صدقهم عليه فنكبه السلطان يوسف
أولا ثم قتله ثانيا واصطنع ابن أخيه أبا العباس أحمد بن علي الملياني واستعمله في
كتابته وأقامه ببابه في جملة كتابه وكان السلطان يوسف قد سخط على بعض شيوخ المصامدة
منهم علي بن محمد كبير هنتانة وعبد الكريم بن عيسى كبير قدميوة وأوعز إلى ابنه
الأمير علي بن يوسف بمراكش باعتقالهما فاعتقلهما فيمن لهما من الولد والحاشية وأحس
بذلك أحمد بن الملياني فاستعجل الثأر الذي كان يعتده عليهم في عمه أبي علي
وكانت العلامة السلطانية يومئذ موكولة إلى كتاب الدولة لم تختص بواحد منهم لما
كانوا كلهم ثقات أمناء وكانوا عند السلطان كأسنان المشط فكتب أحمد بن الملياني إلى
الأمير أبي علي كتابا على لسان والده يأمره فيه أمرا جزما
____________________
بقتل مشيخة المصامدة ولا
يمهلهم طرفة عين ووضع عليه العلامة التي تنفذ بها الأوامر السلطانية وختم الكتاب
وبعث به مع البريد قال ابن الخطيب ولما أكد على حامله في العجل وضايقه في تقدير
الأجل تأنى حتى إذا علم أنه قد وصل وأن غرضه قد حصل فر الى تلمسان وهي بحال حصارها
فاتصل بأنصارها حالا بين أنوفها وأبصارها وتعجب الناس من فراره وسوء اغتراره ورجمت
الظنون في آثاره ثم وصلت الأخبار بتمام الحيلة واستيلاء القتل على أعلام تلك
القبيلة فتركها شنعاء على الأيام وعارا في الأقاليم على حملة الأقلام اه ولما وصل
الكتاب إلى ولد السلطان أخرج أولئك الرهط المعتقلين إلى مصارعهم وحكم السيف في
رقاب جميعهم فقتل علي بن محمد الهنتاني وولده وعبد الكريم بن عيسى القدميوي وبنوه
الثلاثة عيسى وعلي منصور وابن أخيه عبد العزيز بن محمد وطير الأمير علي بالأعلام
إلى والده مع بعض وزرائه وهو يرى أنه قد امتثل الأمر واستوجب الشكر
فلما وصل الرسول بالخبر إلى السلطان يوسف بطش به فقتله غيظا عليه وأنفذ البريد في
الحال باعتقال ولده وقام وقعد لذك ومن ذلك الوقت قصر السلطان علامته على من يختاره
من ثقات الكتاب وعدولهم وجعلها يومئذ للفقيه الكاتب أبي محمد عبد الله بن أبي مدين
وكان من الكفاة المضطلعين بأمور الدولة المتحملين للكثير من أعبائها وأما ابن
الملياني فإنه فر إلى تلمسان والسلطان يوسف محاصر لها ولما وقع الإفراج عنها بعد
حين انتقل إلى الأندلس فبقي هنالك إلى أن توفي بغرناطة سنة خمس عشرة وسبعمائة ومن
شعره يفخر بهذه الفعلة وغيرها قوله
( العز ما ضربت عليه قبابي ** والفضل ما اشتملت عليه ثيابي )
( والزهر ما أهداه غصن يراعتي ** والمسك ما أبداه نقس كتابي )
فالمجد يمنع أن يزاحم موردي ** والعزم يأبى أن يضام جنابي )
( فإذا بلوت صنيعة جازيتها ** بجميل شكري أو جزيل ثوابي )
( وإذا عقدت مودة أجريتها ** مجرى طعامي من دمي وشرابي )
( وإذا طلبت من الفراقد والسهى ** ثارا فأوشك أن أنال طلابي )
____________________
الحصار الطويل وما تخلل ذلك من
الأحداث على تلمسان
تقدم لنا أن السلطان يوسف لما رجع من محاصرة تلمسان فاتح سنة ثمان وتسعين وستمائة
مر في طريقه بوجدة فأنزل بها الحامية من بني عسكر إلى نظر أخيه الأمير أبي بكر
وأمره بشن الغارات على أعمال بني زيان فامتثل الأمير أبو بكر أمره وألح على
النواحي بالغارات وإفساد السابلة فضاق أهل ندرومة بذلك ذرعا وأوفدوا وفدا منهم على
الأمير أبي بكر يسألونه الأمان لهم ولمن وراءهم من قومهم على أن يمكنوه من قياد
بلدهم ويدينوا بطاعة السلطان يوسف فبذل لهم من ذلك ما ارضاهم ونهض الى البلد فدخله
بعسكره وتبعهم على ذلك أهل تاونت فأوفد الأمير أبو بكر جماعة من أهل البلدين على
أخيه السلطان يوسف فقدموا عليه منتصف رجب من سنة ثمان وتسعين المذكورة فادوا
طاعتهم فقبلها ورغبوا إليه في الحركة إلى بلادهم ليريحهم من ملكة عدوه وعدوهم
عثمان بن يغمراسن ووصفوا له من عسفه وجورة وضعفه عن الحماية ما أكد عزمه على
النهوض فنهض لحينه من فاس في رجب المذكور بعد أن استكمل حشده ونادى في قومه وعرض
عسكره وأجزل أعطياتهم وأزاح عللهم وسار في التعبية حتى نزل بساحة تلمسان ثاني
شعبان سنة ثمان وتسعين وستمائة فأناخ عليها بككله وربض قبالتها على ترائبه وأنزل
محلته بفنائها وأحاط بجميع جهاتها وتحصن يغمراسن وقومه بالجدران وعولوا على الحصار
ولما رأى السلطان يوسف ذلك أدار سورا عظيما جعله سياجا على تلمسان وما اتصل بها من
العمران وصيرها في وسطه ثم أردف ذلك السور من ورائه بحفير بعيد المهوى وفتح فيه
مداخل لحربها ورتب على ابواب تلك المداخل مسالح تحرسه وأوعد بالعقاب من يختلف إلى
تلمسان برفق أو يتسلل إليها بقوت وأخذ بمخنقها من بين يديها ومن خلفها حتى لم يخلص
____________________
إليها الطير لا بل الطيف
واستمر مقيما عليها كذلك مائة شهر ولما دخلت سنة اثنتين وسبعمائة اختط إلى جانب
ذلك السور بمكان فسطاطه وقبابه قصرا لسكانه واتخذ به مسجدا لصلاته وأدار عليهما
سورا يحرزهما ثم أمر الناس بالبناء حول ذلك فبنوا الدور الواسعة والمنازل الرحيبة
والقصور الأنيقة واتخذوا البساتين وأجروا المياه وأمر السلطان باتخاذ الحمامات
والفنادق والمارستان وابتنى مسجدا جامعا أقامه على الصهريج الكبير وشيد له منارا
رفيعا وجعل على رأسه تفافيح من ذهب صير عليها سبعمائة دينار ثم أدار السور على ذلك
كله فصارت مدينة عظيمة استبحر عمرانها ونفقت أسواقها ورحل إليها التجار بالبضائع
من جميع الآفاق وسماها المنصورة فكانت من أعظم أمصار المغرب وأحفلها إلى أن خربها
آل يغمراسن عند مهلك السلطان يوسف وارتحال جيوشه عنها ولما تمكن السلطان يوسف من
حصار تلمسان سرح كتائبه وسراياه في أعمالها وحصونها فاستولى في مدة قريبة على
ندرومة وهنين ووهران وتالموت وتامزردكت ومستغانم وتنس وشرشال وبرشك والبطحاء
ومازونة ووانشريس ومليانة والقصبات ولمدية وتافرجينت وجميع بلاد بني عبد الواد
وبلاد بني توجين وبلاد مغراوة وبايعه ابن علان صاحب الجزائر وأخذ رعبه بملوك
الناحي وكانت دولة بني أبي حفص يومئذ قد انقسمت بقسمين فصار كرسي منها بتونس وآخر
ببجاية فتنافس صاحب تونس وصاحب بجاية في مصانعة السلطان يوسف والتقرب إليه
بالهدايا والتحف وصار السلطان يوسف في ذلك الوقت ملك المغرب على الحقيقة والإطلاق
والله غالب على أمره نكبة بين وقاصة من يهود فاس
كان بنو وقاصة هؤلاء من يهود ملاح فاس وكانوا مداخلين للسلطان يوسف من صغره إلى
كبره وكانوا يتولون قهرمة داره ويقضون أموره الخاصة
____________________
به ويخلصون إلى الكثير من باطن
أمره قد التحموا به التحاما وامتزجوا به امتزاجا يجالسونه في خلواته وينادمونه في
أنسه فعظم جاههم عند الحاشية لإقبال السلطان عليهم واستتبعوا الوزراء فمن دونهم من
رجال الدولة وتعددت فيهم الرؤساء والقهارمة فكان منهم خليفة بن وقاصة وأخوه إبراهم
وصهره موسى بن السبتي وابن عمه خليفة الأصغر وغيرهم واستمروا على ذلك برهة من
الدهر ثم إن السلطان يوسف استفاق استفاقة والتفت إليهم التفاتة وراجع بصيرته في
شأنهم فأهمه أمرهم وشعر كاتبه بذلك القائم بأمور دولته أبو محمد عبد الله بن ابي
مدين فسعى عنده فيهم وأوجده السبيل عليهم فسطا بهم سطوة منكرة واعتقلوا في شعبان
من سنة إحدى وسبعمائة بمعسكره من حصار تلمسان وقتل خليفه الكبير وأخوه إبراهيم
وموسى بن السبتي وإخوته بعد أن امتحنوا ومثل بهم وأتت النكبة على حاشيتهم وأقاربهم
فلم تبق منهم باقية إلا أن السلطان استبقى مهم خليفة الأصغر احتقارا لشأنه حتى كان
من قتله بعد ما نذكره وعبث بسائرهم وطهرت الدولة من رجسهم وأزيل منها معرة رياستهم
والأمور بيد الله سبحانه
ثم لما كانت سنة ثلاث وسبعمائة توفي عثمان بن يغمراسن في الحصار عقب شربة لبن يقال
إنه جعل فيها سما وشربه فعل ذلك بنفسه تفاديا من معرة غلبه عدوه عليه فاجتمع بنو
عبد الواد لحينهم وبايعوا ابنه محمد بن عثمان واجتمعوا عليه ثم برزوا إلى قتال
عدوهم على العادة حتى كأن عثمان لم يمت وبلغ الخبر إلى السلطان يوسف فتفجع على
عثمان وعجب من صرامة قومه من بعده
____________________
انتقاض ابن الأحمر واستيلاء
الرئيس أبي سعيد على سبتة
كان محمد بن الأحمر المعروف بالفقيه قد هلك سنة إحدى وسبعمائة وولي الأمر بعده
ابنه محمد المعروف بالمخلوع واستبد عليه كاتبه أبو عبد الله محمد بن الحكيم الرندي
وكان من أول ما فعله محمد المخلوع بعد استقلاله بالأمر المبادرة إلى أحكام عقد
الموالاة بينه وبين السلطان يوسف فأوفد عليه وزير أبيه أبا سلطان عبد العزيز بن
سلطان الداني ووزيره الكاتب أبا عبد الله بن الحكيم فوصلا إلى السلطان يوسف
بمعسكره من حصار تلمسان فتلقاهما بالقبول والمبرة وجددت لهما أحكام الود والولاية
وانقلبا إلى مرساهما خير منقلب وطلب السلطان منهما أن يمدوه بالرجل من عسكر
الأندلس وناشبتهم المعودين منازلة الحصون والمثاغرة بالرباط فأسعفوه ثم فسد ما
بينهما لمنافسات جرت إلى ذلك فانتقض ابن الأحمر وعاد لسنة سلفه من موالاة الطاغية
وممالاته على المسلمين أهل المغرب وأحكم العهد مع هراندة بن سانجة من بني أذفونش
ملوك قشتالة خذلهم الله
ثم أوعز ابن الأحمر الى ابن عمه الرئيس أبي سعيد فرج بن إسماعيل صاحب مالقة في
إعمال الحيلة في الغدر بأهل سبتة ففعل وداخل في ذلك بعض عمال بني العزفي بها
فأمكنه من البلد فاقتحمها بأساطيله وجنده على حين غفلة من أهلها وتقبض على بني
العزفي ولى حاشيتهم وأركبهم الأسطول وبعث بهم إلى مالقة ثم منها إلى غرناطة
فتلقاهم ابن الأحمر واحتفل لهم وأنزلهم بقصوره وأجرى عليهم النفقة واستقروا
بالأندلس برهة من الدهر ثم عادوا إلى المغرب كما نذكر وأسند الرئيس أبو سعيد بأمر
سبتة وثقف أطرافها وسد ثغورها وبلغ الخبر بذلك إل السلطان يوسف فحمى أنفه وعظم
عليه الأمر فبعث ولده الأمير أبا سالم إبراهيم في جيش كثيف إلى حصارها وحشد إليها
قبائل الريف وقيائل تازا فلم يغن شيئا ورجع مهزوما فسخطه السلطان لذلك وأهمله وبقي
على ذلك الى وفاة السلطان رحمه الله وكان انتقاض ابن الأحمر سنة ثلاث وسبعمائة
____________________
ثورة عثمان بن ابي العلاء
بجبال غمارة
كان عثمان بن أبي العلاء إدريس بن عبد الحق من أعياص الملك المريني وكان قد قدم من
الأندلس في صحبة الرئيس أبي سعيد عند استيلائه على سبتة ثم ثار بعد ذلك ببلاد
غمارة ودعا لنفسه وبقي متنقلا هنالك مدة فتغلب على تكساس وآصيلا والعرايش وانتهى
إلى قصر كتامة وخب في الفتنة ووضع إلى أن لحق بالأندلس لأول دولة السلطان أبي
الربيع فولي بها مشيخة الغزاة وكانت له في جهاد العدو اليد البيضاء كما سيأتي إن
شاء الله
وفي سنة ثلاث وسبعمائة بعث السلطان يوسف وهو محاصر لتلمسان ركب الحاج المغربي إلى
الحرمين الشريفين واعتنى بشأن هذا الركب فبعث معهم حامية من زناتة تناهز خمسمائة
فارس من الأبطال وخاطب صاحب الديار المصرية لعهده وهوالملك الناصر محمد بن قلاوون
الصالحي من مماليك بني أيوب المعروفين بالبحرية واستوصاه بحاج أهل المغرب وأتحفه
بهدية استكثر فيها من الخيل العراب والمطايا الفارهة يقال كان عدد الخيل والمطايا
أربعمائة إلى غير ذلك ما يناسب من طرف المغرب وماعونه وبعث معهم إلى حرم مكة مصحفا
ضخما اعتنى به واستكتبه وجعل له غشاء مكللا بنفيس الدر وشريف الياقوت ورفيع
الأحجار ونهج السلطان يوسف رحمه الله بهذا الركب والهدية السبيل لحاج المغرب
فأجمعوا الحج سنة أربع بعدها فاجتمع منهم عدد وافر وركب ضخم فعقد السلطان يوسف على
دلالتهم لأبي زيد الغفاري وفصلوا من تلمسان في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة
وفي شهر ربيع الآخر بعده قدم حاج الركب الأول الذين حملوا المصحف والهدية ووفد
معهم على السلطان يوسف شريف مكة السيد لبيدة بن أبي نمي نازعا عن سلطان الترك صاحب
مصر لما كان قد قبض
____________________
على أخويه حميضة ورميثة بعد
مهلك أبيهم أبي نمي صاب مكة فاستبلغ السلطان يوسف من إكرامه والتنويه بقدره وسرحه
إلى المغرب ليجول في أقطاره ويطوف على معالم الملك وقصوره وأوعز إلى العمال
بالبرور به وإتحافه على ما يناسب قدره ورجع هذا الشريف إلى حضرة السلطان من تلمسان
سنة خمس وسبعمائة ثم فصل منها إلى مشرقه وفي شعبان من هذه السنة قدم أبو زيد
الغفاري دليل ركب الحاج الثاني ومعه بيعة الشرفاء أهل مكة للسلطان يوسف لما كان
صاحب مصر قد آسفهم بالتقبض على إخوانهم وكان ذلك شأنهم متى غاظهم السلطان وأهدوا
إلى السلطان يوسف ثوبا من كسوة الكعبة أعجب به فاتخذ منه ثوبا للبوسه في الجمع
والأعياد كان يتبطنه بين ثيابه تبركا به
وأما الملك الناصر صاحب مصر فإنه كافأ السلطان يوسف على هديته بأن جمع من طرف بلاد
المشرق ما يستغرب جنسه وشكله من الثياب والحيوانات ونحو ذلك مثل الفيل والزرافة
ونحوهما وأوفد به مع عظماء دولته وفصلوا من القاهرة آخر سنة خمس وسبعمائة فوصلوا
إلى السلطان يوسف وهو بالمنصورة في جمادى الآخرة سنة ست بعدها واهتز لقدومهم وأركب
الناس للقيهم وأكرم وفادتهم وبعثهم إلى المغرب للتطوف به على العادة في مبرة
أمثالهم وهلك السلطان يوسف أثناء ذلك وأفضى الأمر إلى حافده أبي ثابت فأحسن
منقلبهم ملأ حقائبهم وفصلوا من المغرب إلى بلادهم في ذي الحجة من سنة سبع وسبعمائة
ولما انتهوا إلى بلاد بني حسن في ربيع من سنة ثمان بعدها اعترضهم الأعراب بالقفر
فانتهبوهم وخلصوا إلى مصر بجريعة الذقن فلم يعاودوا بعدها إلى المغرب سفرا ولا
لفتوا إليه وجها وطالما أوفد عليهم ملوك المغرب بعدها من رجال دولتهم من يوبه له
ويهادونهم ويكافئون ولا يزيدون في ذلك كله على الخطاب شيئا
____________________
وفاة السلطان يوسف رحمه الله
كان السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق رحمه الله قد اتخذ في جملة حاشيته ومماليكه
خصيا اسمه سعادة وكان هذا الخصي قد تصير إليه من جهة أبي علي الملياني أيام كان عاملا
له على مراكش وكان السلطان يوسف في ابتداء أمره يخلط الخصيان بأهله ولا يحجبهم عن
حرمه وعياله ثم حدثت للسلطان ريبة في بعض الخصيان فأعتق جملة منهم كان فيهم عنبر
الكبير عريفهم وحجب سائرهم فارتاعوا لذلك وفسدت نياتهم فسولت لهذا الخصي الخبيث
نفسه الشيطانية الفتك بالسلطان فعمد إليه وهو في بعض حجر قصره فاستأذن عليه فأذن
له فألفاه مستلقيا على فراشه مختضبا بحناء فوثب عليه وطعنه طعنات قطع بها أمعاءه
وخرج هاربا وانطلق بعض الأولياء في أثره فأدركه من العشي بناحية تاسلت فقبض عليه
وجيء به إلى القصر فقتلته العبيد والحاشية وصابر السلطان يوسف منيته إلى آخر
النهار ثم قضى رحمه الله يوم الأربعاء سابع ذي القعدة من سنة ست وسبعمائة وقبر
هنالك ثم نقل بعد ما سكنت الهيعة إلى مقبرتهم بشالة فدفن بها مع سلفه وأطلال ضريحه
لا زالت مائلة إلى الآن
وبموت السلطان يوسف انقضت مدة الحصار عن آل يغمراسن وقومهم من بني عبد الواد وسائر
أهل تلمسان وكانت المدة في ذلك مائة شهر كما قلنا نالهم فيها من الجهد والشدة ما
لم ينل أمة من الأمم واضطروا إلى أكل الجيف والقطوط والفيران حتى أنهم أكلوا فيها
أشلاء الموتى من الناس وخربوا السقوف للوفود وغلت أسعار الأقوات والحبوب وسائر
المرافق بما
____________________
تجاوز حد العادة وعجز وجدهم
عنها فكان ثمن مكيال القمح ومقداره اثنا عشر رطلا ونصف مثقالين ونصفا من الذهب
العين وثمن الشخص الواحد من البقر ستين مثقالا ومن الضأن سبعة مثاقيل ونصفا وأثمان
اللحم من الجيف الرطل من لحم البغال والحمير بثمن المثقال ومن الخيل بعشر المثقال
والرطل من الجلد البقري ميتة أو مذكى بثلاثين درهما والهر الداجي بمثقال ونصف
والكلب بمثله والفأر بعشرة دراهم والحية بمثل ذلك والدجاجة بثلاثين درهما والبيض
واحدة بستة دراهم والعصافير كذلك والأوقية من الزيت باثني عشر درهما ومن السمن
بمثلها ومن الشحم بعشرين درهما ومن الملح بعشرة دراهم ومن الحطب كذلك والأصل
الواحد من الكرنب بثلاثة أثمان المثقال ومن الخس بعشرين درهما ومن اللفت بخمسة عشر
درهما والواحدة من القثاء والفقوس بأربعين درهما والخيار بثلاثة أثمان الدينار
والبطيخ بثلاثين ردهما والحبة من التين والإجاص بدرهمين واستهلك الناس أموالهم
وموجودهم وضاقت أحوالهم وهلكت حاميتهم فاعتزموا على الإلقاء باليد والخروج
للاستماتة فهيأ الله لهم الصنع الغريب ونفس عن مخنقهم بمهلك السلطان يوسف على يد
الخصي المريب وأذهب الله العناء عن آل زيان وقومهم وخرجوا كأنما نشروا من القبور
وكتبوا بعد هذه الحادثة في سكنهم ما أقرب فرج الله استغرابا لها
قال ابن خلدون حدثني شيخنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الابلي قال جلس السلطان
أبو زيان بن عثمان بن يغمراسن صبيحة يوم الفرج وهو يوم الأربعاء سابع ذي القعدة في
زاوية من زوايا قصره يفكر واستدعى ابن جحاف خازن الزرع فسأله كم بقي من الأهراء
والمطامير المختومة فقال له إنما بقي عولة اليوم وغد فاستوصاه بكتمان ذلك وبينما
هم يتذاكرون في ذلك دخل عليهم أخوه أبو حمو فأخبروه بذلك فوجم وجلسوا سكوتا لا
ينطقون
____________________
وإذا بدعد قهرمانة القصر وكانت
وصيفة من وصائف بنت السلطان أبي إسحاق حظية أبيهم قد خرجت من القصر إليهم وحيتهم
وقالت لهم تقول لكم خطايا قصركم وبنات زيان حرمكم ما لنا وللبقاء وقد أحيط بكم
وأسف عدوكم لالتهامكم ولم يبق الأفواق ناقة لمصارعكم فأريحونا من معرة السبي
وقربونا إلى مصارعنا وأريحوا أنفسكم فينا فالحياة في الذل عذاب والوجود بعدكم عدم
فالتفت أبو حمو إلى أخيه أبي زيان وكان من الشفقة بمكان فقال قد صدقتك الخبر فما
تنتظر بهن فقال يا موسى أرجئني ثلاثا لعل الله يجعل بعد عسر يسرا ولا تشاورني بعدها
فيهن بل سرح اليهود والنصارى إلى قتلهن وتعالى إلي نخرج مع قومنا إلى عدونا
فنستميت ويقضي الله ما شاء فغضب أبو حمو وأنكر عليه التأخير في ذلك وقال إنما نحن
والله نتربص المعرة بهن وبأنفسنا وقام عنه مغضبا وجهش السلطان أبو زيان بالبكاء
قال أين جحاف وأنا بمكاني بين يديه لا أملك متأخرا ولا متقدما إلى أن غلب عليه
النوم فما راعني إلا حرسي يالباب يشير إلي أن أعلم السلطان بمكان رسول جاء من محلة
بني مرين وها هو بسدة القصر قال ابن جحاف فلم أطق رد جوابه إلا بالإشارة وانتبه
السلطان من همسنا فزعا فأعلمته فاستدعاه للحين فلما وقف بين يديه قال إن السلطان
يوسف بن يعقوب هلك الساعة وأنا رسول حافده أبي ثابت إليكم فاستبشر السلطان أبو
زيان واستدعى أخاه وقومه حتى بلغ الرسول المذكور رسالته بمسمع منهم فكانت إحدى
المغربات في الأيام وكان من خبر هذه الرسالة أن السلطان يوسف لما هلك تطاول للأمر
بعده القربابه من إخوته وولده وحفدته وتحيز حافده أبو ثابت إلى بني ورتاجن لخؤلة
كانت له فيهم فاستجاش بهم واعصوصبوا عليه وبعث إلى بني زيان أن يعطوه آلة الحرب
ويكونوا مفزعا له إن أخفق مسعاه على أنه إن تم أمره قوض عنهم معسكر بني مرين وأفرج
عنهم فعاقدوه على ذلك فوفى لهم لما تم أمره ونزل لهم عن جميع الأعمال التي كان
السلطان يوسف غلب عليها من بلادهم ورحلوا إلى مغربهم والله غالب على أمره
____________________
بقية أخبار السلطان يوسف
وسيرته
كان السلطان يوسف رحمه الله أبيض حسن القد مليح الوجه أقنى الأنف مهيبا لا يكاد
أحد يبدأه بالكلام جوادا مشفقا على الرعية متفقدا لأحوالها شجاعا شهما ذا عزيمة
( إذا هم ألقى بين عينيه همه ** ونكب عن ذكر العواقب جانبا )
وهو أول من هذب ملك بني مرين وأكسبه رون لحضارة وبهاء الملك وكان غليظ الحجاب لا
يكاد يوصل إليه إلا بعد الجهد ومن أعيان كتابه الكاتب أبو محمد عبد الله بن أبي
مدين العثماني ومن أعيان شعرائه أبو الحكم مالك بن المرحل السبتي وأبو فارس عبد
العزيز الملزوزي المكناسي وغيرهما والله تعالى أعلم
ولنذكر ما كان في هذه المدة من الأحداث ففي سنة ست وخمسين وستمائة وهي السنة التي
بويع فيها السلطان يعقوب بن عبد الحق كان الرخاء المفرط بالمغرب بحيث كان الدقيق
يباع بفاس وغيرها ربع منه بدرهم والقمح ستة دراهم للصحفة والشعير ثلاثة دراهم
للصحفة وأما القطاني فلم يكن لها ثمن والعسل ثلاثة أرطال بدرهم والزيت أربعون
أوقية بدرهم والزبيب درهم ونصف للربع والثمر ثمانية أرطال بدرهم واللوز صاع بدرهم
والشابل الطري فردة بقيراط والملح حمل بدرهم ولحم البقر مائة أوقية بدرهم ولحم
الضأن سبعون أوقية بدرهم والكبش بخمسة دراهم وهكذا
وفي سنة إحدى وستين وستمائه ظهر النجم أبو الذوائب وكان ابتداء ظهوره ليلة
الثلاثاء الثاني عشر من شعبان من السنة المذكورة وبقي يطلع كل ليلة وقت السحر نحوا
من عشرين يوما
وفي سنة أربع وستين وستمائة كان دخول الشريف المولى حسن بن قاسم الحسني من أرض
ينبع الحجاز إلى سجلماسة وهذا الشريف هو جد الأشراف العلويين السجلماسيين ملوك
المغرب الأقصى في عصرنا هذا أعلى
____________________
الله تعالى قدرهم وخلد مجدهم
وفخرهم وعند الكلام على دولتهم السعيدة نذكر كيفية دخول هذا الشريف إلى المغرب
والسبب فيه إن شاء الله
وفي سنة ست وستين وستمائة سرق من بيت المال بقصبة فاس اثنا عشر ألف دينار وثلاث
قلائد يساوين أكثر من ذلك
وفي حدود السبعين وستمائة كان ظهور البارود على ما مر من أن السلطان يعقوب بن عبد
الحق فتح به سجلماسة في هذه المدة والله تعالى أعلم
وفي سنة سبع وسبعين وستمائة بنى المسجد الجامع بفاس الجديد وفي سنة تسع وسبعين
وستمائة علقت به ثرياه وذلك يوم السبت السابع والعشرين من ربيع الأول منها ووزن
هذه الثريا سبعة قناطير وخمسة عشر رطلا وعدد كؤوسها مائتا كأس بالتثنية وسبع
وثمانون كأسا وفيها كان الجراد العام بالمغرب أكل الجسر والزرع ولم يترك خضراء على
وجه الأرض وبلغ القمح عشرة دراهم للصاع
وفي سنة ثمانين وستمائة بنيت قنطرة وادي النجاة وقنطرة ماريج
وفي سنة ثلاث وثمانين وستمائة كان بالمغرب قحط شديد لم ير الناس قطرة ماء حتى كان
اليوم السابع والعشرون من رمضان وهو اليوم الذي توفيت فيه الحرة أم العز بنت محمد
بن حازم العلوية من بني علي بن عسكر وهي أم السلطان يوسف فغاث الله العباد وأحيى
برحمته البلاد
وفي سنة خمس وثمانين وستمائة بنيت قصبة تطاوين وفيها ركبت الناعورة الكبرى على واد
فاس شرع في عملها في رجب من السنة المذكورة ودارت في صفر من السنة بعدها
وفي سنة ست وثمانين وستمائة بني سور قصر المجاز وركبت أبوابه وفيها غرس بستان
المصارة بفاس الجديد وبنيت الدار البيضاء بها أيضا
وفي سنة تسع وثمانين وستمائة كانت الريح الشرقية المتوالية الهبوب ونشأ عنها القحط
الشديد واستمر ذلك إلى آخر سنة تسعين بعدها فرحم الله
____________________
بلاده وعباده وفيها توفي الشيخ
الصالح أبو يعقوب الأشقر بالكندرتين من بلاد بني بهلول من أحواز فاس ولعل أبا
يعقوب هذا هو الذي تنسب إليه الحمة التي قدمنا الكلام عليها في أخبار المنصور
الموحدي والله أعلم وفيها بني المسجد الجامع بمدينة تازا وبنيت قبة مكناسة الزيتون
ورباعها
وفي سنة إحدى وتسعين وستمائة أمر السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق بعمل المولد
النبوي وتعظيمه والاحتفال له وصيره عيدا من الأعياد في جميع بلاده وذلك في شهر
ربيع الأول من السنة المذكورة وكان الأمر به قد صدر عنه وهو بصبره من بلاد الريف
في آخر صفر من السنة فوصل برسم إقامته بحضرة فاس الفقيه ابو يحيى بن أبي الصبر
واعلم أنه قد كان سبق السلطان يوسف إلى هذه المنقبة المولدية بنو العزفي أصحاب
سبتة فهم أول من أحدث عمل المولد الكريم بالمغرب والله تعالى أعلم
وفي سنة ثلاث وتسعين وستمائة كان كسوف الشمس وذلك قرب زوال يوم الأحد التاسع
والعشرين من رجب من السنة المذكورة كسف منها نحو الثلثين وصلى بالناس صلاة الكسوف
بجامع القرويين من فاس الخطيب أبو عبد الله بن أبي الصبر حتى انجلت فخرج من
المحراب ووقف بإزائه فوعظ الناس وذكرهم في هذه السنة رفعت أيدي الموثقين من
الشهادة بفاس ولم يبق بها منهم سوى خمسة عشر رجلا من أهل العدالة والمعرفة وكانوا
قيل ذلك أربعة وتسعين وكان ذلك يوم الاثنين الحادي عشر من شوال من السنة المذكورة
وفيها كانت الجماعة الشديدة والوباء العظيم عم ذلك بلاد المغرب وإفريقية ومصر
فكانت الموتى تحمل اثنين وثلاثة وأربعة على المغتسل وبلغ القمح عشرة دراهم للمد
والدقيق ست أواق بدرهم وأمر السلطان يوسف
____________________
بتبديل الصيعان وجعلها على مد
النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك بالحضرة على يد الفقيه ابي فارس عبد العزيز
الملزوزي الشاعر المشهور
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وستمائة فيها صلح أمر الناس وانجبرت أحوالهم ورخصت الأسعار
في جميع الأمصار فبيع القمح بعشرين درهما للصحفة وفي هذه السنة كسفت الشمس أيضا
الكسوف الكلي بحيث غاب قرص الشمس كله وصار النهار ليلا كالحالة التي تكون ما بين
العشاءين وظهرت النجوم وماج الناس وضاقت نفوسهم ولولا أن الله سبحانه تداركهم
بسرعة انجلائها لهلكوا جزعا وكان ذلك بعد صلاة ظهر الثلاثاء الثامن والعشرين من ذي
الحجة من سنة أربع وتسعين المذكورة
وفي سنة سبعمائة أسس السلطان يوسف بن يعقوب مدينته المنصورة بإزاء تلمسان وهو
محاصر لها الحصار الطويل حسبما مر الخبر على ذلك مستوفى وبالله تعالى التوفيق الخبر
عن دولة السلطان أبي ثابت عامر بن عبد الله ابن يوسف ابن يعقوب بن عبد الحق رحمه
الله
قد تقدم لنا أن أبا عامر عبد الله ابن السلطان يوسف كان قد انتبذ عن أبيه وبقي
متنقلا في جهات الريف وبلاد غمارة إلى أن هلك في بلاد بني سعيد منهم وأنه خلف
ثلاثة أولاد أحدهم أبو ثابت عامر بن عبد الله هذا الذي ولي الأمر بعد جده وذلك أنه
لما هلك السلطان يوسف رحمه الله بالمنصورة كما تقدم كان حافده أبو ثابت هذا في
جملته وكان له في بني ورتاجن من أهل تلك البلاد خؤلة فلحق بهم ودعا لنفسه فبايعوه
وقاموا معه في أمره وبايعه معهم أشياخ بني مرين والعرب بظاهر المنصورة يوم الخميس
ثاني يوم وفاة جده يوسف وبادر الحاشية والوزراء ومن شايعهم بداخل المنصورة إلى
بيعة الأمير أبي سالم بن السلطان يوسف وكاد أمر بني
____________________
مرين يفسد وكلمتهم تتفرق فبعث
السلطان أبو ثابت لحينه وكان شهما مقداما إلى صاحبي تلمسان أبي زيان وأبي حمو ابني
عثمان بن يغمراسن فعقد لهما عهدا على أن يرحل عنهم بجموعه وأن يمدوه بالآلة
ويرفعوا له كسر بيتهم ويضموه إليهم إن خاب أمله ولم يتم له أمر فأجابوه إلى ذلك
وحضر العقد أبو حمو فأحكمه وشرط عليه السلطان أبو ثابت أن لا يتعرضوا لمدينة جده
المنصورة بسوء وأن يتعاهدوا مساجدها وقصورها بالإصلاح وأن من أراد الإقامة بها من
أهلها فما لأحد عليه من سبيل لأن الناس كانوا قد استوطنوها وألفوها وطاب مقامهم
بها وتأثلوا بها الأثاث والمتاع والخرثي وسائر الماعون مما يثبط المرتحل ويثقل
جناح الناهض فقبل أبو حمو ذلك كله
وتفرغ السلطان أبو ثابت لشأنه وجمع كلمة قومه واختل أمر أبي سالم فلم يتم وكتب
السلطان أبو ثابت إلى حامية بني مرين وحصصها التي كانت متفرقة في الثغور الشرقية
التي استولى عليها السلطان يوسف أيام حياته فأقبلوا إليه ينسلون من كل حدث وأسلموا
البلاد إلى أهلها من بني عبد الواد وقتل السلطان أبو ثابت عمه أبا سالم بن يوسف ثم
أتبعه بعم أبيه أبي بكر بن يعقوب في آخرين من القرابة وغيرهم ممن يتوقع منه الشر
وفر بقية القرابة خشية على أنفسهم من سطوة أبي ثابت فلحقوا بعثمان بن أبي العلاء
الثائر بجبال غمارة من عهد السلطان يوسف فشايعوه على أمره وتقوى بهم على ما نذكره
ثم ارتحل السلطان أبو ثابت قاصدا حضرة فاس في جموع لاتحصى وأمم لا تستقصى فعيد عيد
الأضحى من سنة ست وسبعمائة في طريقه بن تلمسان ووجدة ثم نهض إلى فاس فدخلها فاتح
سنة سبع وسبعمائة ثم نهض بعد ذلك إلى مراكش على ما نذكره ولما علم بنو يغمراسن أن
أبا ثابت قد أبعد عنهم وأنه توغل في البلاد المراكشية واشتغل بحروب الثائرين بها
عمدوا إلى المنصورة فجعلوا عاليها سافلها وطمسوا معالمها ومحوا آثارها فأصبحت كأن
لم تغن بالأمس
____________________
ثورة يوسف بن محمد بن أبي عياد
ابن عبد الحق وما كان من أمره
كان السلطان أبو ثابت لما فصل من تلمسان قدم بين يديه ابن عمه الحسن بن عامر بن
عبد الله بن يعقوب وأمره بالنظر في أحوال فاس والمغرب وأمره بضبطها وتسريح سجونها
ورد مظالمها وتفريق الأموال على الخاصة والعامة ففعل ولما قدم حضرة فاس عقد لابن
عمه يوسف بن محمد بن أبي عياد بن عبد الحق على مراكش ونواحيها وعهد إليه بالنظر في
أحوالها وضبطها صمد إليها واحتل بها وتمكن منها ثم حدثته نفسه بالإنتزاء فاستلحق
واستركب واتخذ الآلة وجاهر بالخلعان وتقبض على الوالي بمراكش الحاج المسعود فقتله
من تحت السياط في جمادى الآخرة سنة سبع وسبعمائة ودعا لنفسه واتصل الخبر بالسلطان
أبي ثابت وهو بفاس فسرح إليه وزيره يوسف بن عيسى بن السعود بن خرباش الحشمي بالحاء
المهملة ويعقوب بن آصناك في خمسة آلاف فارس فساروا إلى مراكش وبرز يوسف بن محمد بن
أبي عياد إلى حربهم وعبر إليهم وادي أم الربيع فالتقوا معه على ضفته الشرقية
فهزموه وعاد إلى مراكش واتبعه الوزير ودخل ابن أبي عياد مراكش فقتل جماعة من جند
الفرنج الذين بها وسبى ذراريهم وخرج منها إلى أغمات فلم يستقر بها ثم إلى جبال
هسكورة فنزل على كبيرها مخلوف بن هنو الهسكوري ولحق به موسى بن سعيد الصبيحي من
أغمات تدلى من سورها فلحق به
ودخل السلطان أبو ثابت مراكش منتصف رجب من سنة سبع وسبعمائة وأمر بقتل أوربة
المداخلين لابن أبي عياد في انتزائه فاستلحموا جميعا ولما لحق ابن أبي عياد بمخلوف
بن هنو الهسكوري واستجار به فلم يجره على السلطان أبي ثابت بل قبض عليه مع ثمانية
من كبار أصحابه وبعثهم في
____________________
الحديد إليه وهو بمراكش فقتلوا
في مصرع واحد بعد أن مثل بهم بالسياط وبعث برأس ابن أبي عياد إلى فاس فطيف به ونصب
على سورها ثم أثخن أبو ثابت في كل من كان على رأي ابن أبي عياد وخاض معه في الفتنة
فاستلحم منهم بمراكش ما ينيف على الستمائة وصلبهم على سورها من باب الرب أحد أبواب
مراكش إلى برج دار الحرة عزونه وقتل في أغمات منهم مثل ذلك وخرج منتصف شعبان إلى
منازلة السكسيوي وتدويخ جهات مراكش فنزل بتامزوارت وتلقاه السكسيوي بالبيعة
والهدية والضيافة فقبل السلطان أبو ثابت ذلك منه ثم بعث قائده يعقوب بن آصناك في
جيش من ثلاثة آلاف فارس إلى بلاد حاحة برسم غزو قبائل زكنة ففروا بين يديه حتى
دخلوا بلاد القبلة وانقطع أثرهم ورجع إلى معسكر السلطان بتامزوارت وأخبره بسكون
البلاد وأمنها فانكفأ السلطان أبو ثابت راجعا إلى مراكش فدخلها غرة رمضان من سنة
سبع وسبعمائة ثم خرج منها في منتصفه قاصدا رباط الفتح فاجتاز على بلاد صنهاجة وعبر
وادي أم الربيع من مشرع كتامة في القوارب لزيادة الماء يومئذ ثم ارتحل فاجتاز
ببلاد تامسنا فتلقاه بها عرب جشم من قبائل الخلط وسفيان وبني جابر والعاصم
فاستصحبهم معه إلى مدينة آنفي بعد أن استأذنوه في الرجوع فلم يأذن لهم ولما أحتل
بآنفي دعا بأشياخهم فحضروا عنده فقبض على ستين منهم أودعهم سجن آنفى وضرب أعناق
عشرين من فسادهم القاطعين للسبل وصلبهم على سور آنفى ثم نهض إلى رباط الفتح فدخله
في السابع والعشرين من رمضان فعيد هنالك عيد الفطر وقتل به ثلاثين من فتاك لعرب
المتهمين بالحرابة وقطع الطريق وصلبهم على أسوار العدوتين ثم ارتحل منتصف شوال
لغزو عرب رياح الموطنين بأبي طويل وفحص آزغار وبلاد الهبط فغزاهم وأخذهم بالإجن
القديمة فقتل منهم خلقا وسبى ذراريهم وانتهب أموالهم ونهض إلى فاس فاحتل بها منتصف
ذي القعدة وعيد بها عيد الأضحى ثم نهض إلى سبتة على ما نذكره
____________________
غزو السلطان أبي ثابت بلاد
غمارة وسبتة ومحاصرته لعثمان بن أبي العلاء
قد تقدم لنا أن عثمان بن أبي العلاء كان قد ورد من الأندلس صحبة الرئيس أبي سعيد
بن الأحمر المتغلب على سبتة أيام السلطان يوسف وأنه ثار بجبال غمارة ودعا لنفسه
واستحوذ عليها وكان السلطان يوسف بلغه خبره وأهمه شأنه إلا أنه كان يرجو أن يفتح
تلمسان عن قريب ثم ينهض إليه فعاجله الحمام دون ذلك ولما أفضى الأمر إلى السلطان
أبي ثابت وقدم حضرة فاس شغله عن عثمان بن أبي العلاء ما كان من ثورة يوسف بن محمد
بن أبي عياد بمراكش كما قدمناه فعقد على حرب عثمان بن أبي العلاء لابن عمه عبد
الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق فزحف إليه ونهض عثمان بن أبي العلاء الى لقائه
منتصف ذي الحجة سنة سبع وسبعمائة فهزمه عثمان بن ابي العلاء واستلحم من كان معه من
جند الفرنج وهلك في تلك الوقعة عبد الواحد الفودودي من رجالات الدولة المرشحين
للوزارة وسار عثمان بن أبي العلاء إلى قصر كتامة فدخله واستولى على جهاته وكان
بطلا من الأبطال وعلى أثر ذلك كان رجوع السلطان أبي ثابت من غزاة مراكش وقد حسم
الداء ومحى أثر النفاق فاعتزم على النهوض إلى بلاد غمارة ليمحو منها أثر دعوة ابن
أبي العلاء التي كادت تلج عليه دار ملكه ويستخلص سبتة من يد ابن الأحمر المتغلب
عليها لأنها صارت ركابا لمن يروم الخروج على السلطان من القرابة المستقرين وراء
البحر غزاة في سبيل الله
فنهض السلطان أبو ثابت من فاس عقب عيد الأضحى من سنة سبع وسبعمائة حتى انتهى إلى
قصر كتامة فتلوم به ثلاثا حتى تلاحق به قبائل مرين والعرب والرماة من سائر البلاد
فعرض جيشه وارتحل قاصدا جبال غمارة وكان عثمان بن أبي العلاء قد فر أمامه إلى
ناحية سبتة فسار السلطان أبو ثابت في أتباعه حتى نازل حصن علودان واقتحمه عنوة
واستلحم به زهاء أربعمائة ثم نازل بلد الدمنة على شاطئ البحر فقتل الرجال وسبى
النساء والذرية
____________________
وانتهب الأموال وكانوا قد
تمسكوا بطاعة ابن أبي العلاء وأجازوه إلى القصر في وسط بلادهم وبالغوا في تضييفه
وإكرامه ودخلوا معه القصر وآصيلا ونهبوا كثيرا من مال أهلهما ثم ارتحل السلطان أبو
ثابت إلى طنجة فدخلها فاتح سنة ثمان وسبعمائة وتحصن ابن أبي العلاء بسبتة مع
أوليائه من ابن الأحمر وسرح السلطان أبو ثابت عسكره فتفرقت في نواحي سبتة بالغارات
واكتساح الأموال بناء مدينة تطاوين
ثم أمر السلطان باختطاط مدينة تطاوين لنزول عسكره وللأخذ بمخنق سبتة هكذا عند ابن
أبي زرع وابن خلدون واعلم أن تطاوين هذه هي تطاوين القديمة وقد تقدم لنا أن قصبتها
بنيت في سنة خمس وثمانين وستمائة وذلك لأول دولة السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد
الحق ثم بنى السلطان أبو ثابت هذه المدينة عليها في هذا التاريخ الذي هو فاتح سنة
ثمان وسبعمائة وكان بناؤها خفيفا شبه القرية عدا قصبتها فإن بناءها كان محكما
وثيقا واستمرت هذه المدينة عامرة إلى صدر المائة التاسعة فخربت ثم جدد بناؤها بعد
نحو تسعين سنة حسبما يأتي الخبر عن ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى قالوا ولفظ
تطاوين مركب من كلمتين تبط ومعناها في لسان البربر العين ووين وهي كناية عن
المخاطب نحو يا فلان وما أشبه ذلك قالوا والسبب في تسميتها بذلك أنهم في وقت
اختطاطهم لها كانوا يضعون الحرس على تطاوين أي يا فلان افتح عينك لأن عادة الحارس
أن يقول ذلك فصار هذا بعضهم تيط معناها العين ووين معناها المقلة ومعنى مجموع
الكلمتين مقلة العين والإضافة مقلوبة كما هي في لسان بعض الأمم العجمية فإنه لا
مستند له والله تعالى أعلم
____________________
ولما شرع السلطان أبو ثابت في بناء مدينة تطاوين أوفد كبير الفقهاء بمجلسه أبا
يحيى بن أبي الصبر إلى ابن الأحمر صاحب سبتة في شأن النزول له عن البلد وأقام هو
بقصبة طنجة ينتظر الجواب بماذا يكون وفي أثناء ذلك مرض مرض موته وتوفي يوم الأحد
الثامن من شهر صفر سنة ثمان وسبعمائة ودفن بظاهر طنجة ثم حمل شلوه بعد أيام إلى
مدفن آبائه بشالة فووري هنالك رحمة الله عليه وعليهم الخبر عن دولة السلطان أبي
الربيع سليمان بن أبي عامر عبد الله بن يوسف بن يعقوب بن عبد الحق رحمه الله
لما هلك السلطان أبو ثابت تصدى للقيام بالأمر عمه علي بن يوسف المعروف بابن زريقاء
وهي أمه وعلى هذا هو الذي قتل شيوخ المصامدة بكتاب ابن الملياني كما تقدم وخلص
الملأ من بني مرين أهل الحل والعقد إلى أبي الربيع المذكور أخي أبي ثابت فبايعوه
واستتب أمره فتقبض على عمه علي بن زريقاء وسجنه بطنجة فبقي مسجونا بها إلى أن هلك
سنة عشر وسبعمائة وبث السلطان أبو الربيع العطاء في الناس وأجزل الصلات فأرضى
الخاصة والعامة وصفا له الأمر ثم ارتحل نحو فاس واستدعى من كان بمحلة تطاوين من
الجند فأقبلوا إليه وأرضاهم بالمال كذلك ولما فصل من طنجة تبعه عثمان بن أبي
العلاء من سبتة في جيش كثيف ليضرب في محلته ليلا فنذر به عسكر السلطان أبي الربيع
فأسهروا ليلتهم وباتوا على صهوات خيولهم فوافاهم عثمان بساحة علودان وهم على ذلك
فناجزهم الحرب فهزموه وتقبض على ولده وكثير من عسكره وقتل آخرون وكان للسلطان أبي
الربيع الظهور الذي لا كفاء له ووصل أبو يحيى بن أبي الصبر من الأندلس وقد أحكم
عقدة الصلح مع ابن الأحمر صاحب غرناطة
____________________
ولما رأى عثمان بن أبي العلاء ذلك سقط في يده وأيس من المغرب فعبر البحر فيمن معه
من القرابة إلى الأندلس وولي مشيخة الغزاة بها فكانت له في جهاد العدو اليد
البيضاء وعلا أمره بالأندلس وزاحم بني الأحمر ملوكها في رياستهم وجبايتهم حتى كاد
يستولي على الأمر من أيديهم وشرقوا بدائه ومارسهم ومارسوه مدة طويلة وعدلوا في
أمره إلى المصانعة والمجاملة في أخبار ليس جلبها من غرضنا إلى أن توفي لكنا نذكر
من ذلك أنموذجا يستدل به الواقف عليه على ما وراءه فنقول لما توفي عثمان بن أبي
العلاء رحمه الله كتب على قبره ما صورته هذا قبر شيخ الحماة وصدر الأبطال والكماة
واحد الجلالة ليث الإقدام والبسالة علم الأعلام حامي ذمار الإسلام صاحب الكتائب
المنصورة والأفعال المشهورة والمغازي المسطورة وإمام الصفوف القائم بباب الجنة تحت
ظلال السيوف سيف الجهاد وقاصم الأعاد وأسد الآساد العالي الهمم الثابت القدم
الهمام الماجد الأرضى البطل الباسل الأمضى المقدس المرحوم أبي سعيد عثمان ابن
الشيخ الجليل الهمام الكبير الأصيل الشهير المقدس المرحوم أبي العلاء إدريس بن عبد
الله بن عبد الحق
كان عمره ثمانيا وثمانين سنة أنفقه ما بين روحة في سبيل الله وغدوة حتى استوفى في
المشهورر سبعمائة واثنتين وثلاثين غزوة وقطع عمره مجاهدا مجتهدا في طاعة الرب
محتسبا في إدارة الحرب ماضي العزائم في جهاد الكفار مصادما بين جموعهم تدفق التيار
وصنع الله تعالى له فيهم من الصنائع الكبار ما سار ذكره في الأقطار أشهر من المثل
السيار حتى توفي رحمه الله وغبار الجهاد طي أثوابه وهو مراقب لطاغية الكفار
وأحزابه فمات على ما عاش عليه وفي ملحمة الجهاد قبضه الله إليه واستأثر به سعيدا
مرتضى وسيفه على رأس ملك الروم منتضى مقدمة قبول وإسعاد ونتيجة جهاد وجلاد ودليلا
على نيته الصالحة وتجارته الرابحة فارتجت الأندلس لبعده أتحفه الله برحمة من عنده
توفي يوم الأحد الثاني لذي الحجة من سنة ثلاثين وسبعمائة رحمه الله
____________________
وأما السلطان أبو الربيع فإنه لما سار عن طنجة دخل حضرة فاس حادي عشر ربيع الأول
من سنة ثمان وسبعمائة فأقام بها سنة المولد الكريم وفرق الأموال واستقامت الأمور
وتمهد الملك وعقد السلم مع صاحب تلمسان أبي حمو موسى بن عثمان بن يغمراسن وأقام
وادعا بحضرته مجتنيا ثمرة ملكه وكان في أيامه غلاء إلا أن الناس انفتحت لهم فيها
أبواب المعاش والترف حتى تغالوا في أثمان العقار فبلغت قيمتها فوق المعتاد حتى لقد
بيع كثير من الدور بفاس بألف دينار من الذهب العين وتنافس الناس في البناء فاتخذوا
القصور المشيدة وتأنفوا فيها بالزليج والرخام وأنواع النقوش وتناغو في لبس الحرير
وركوب الفاره وأكل الطيب واقتناء الحلي من الذهب والفضة واستبحر العمران وظهرت
الزينة والأمور كلها بيد الله تعالى نكبة الفقيه الكاتب أبي محمد عبد الله بن أبي
مدين واستئصال بني وقاصة اليهوديين بعد ذلك
كان الفقيه الكاتب أبو محمد عبد الله بن أبي مدين شعيب بن مخلوف من بني أبي عثمان
إحدى قبائل كتامة المجاورين للقصر الكبير وكان بيته بيت العلم والدين واتصلوا خدمة
بني مرين أيام دخولهم المغرب واستيلائهم عليه وكان أبو محمد هذا من خاصة السلطان
يوسف بن يعقوب وجعل بيده وضع العلامة على الرسائل وفوض إليه في حسبان الخراج
والضرب على أيدي العمال وتنفيذ الأوامر بالقبض والبسط فيهم واستخلصه لمناجاته
والإفضاء إليه بسره ولما هلك السلطان يوسف وولي بعده السلطان أبو ثابت ضاعف رتبة
هذا الرجل وشفع لديه حظه ومنصبه ورفع على الأقدار قدره ثم ولي بعده أخوه أبو
الربيع فسلك فيه مذهب سلفه واضطلع أبو محمد بن أبي مدين بأمور دولته وكان بنو
وقاصة اليهود حين نكبوا أيام السلطان يوسف يرون أن نكبتهم كانت بسعاية أبي محمد
فيهم وكان خليفة الأصغر منهم قد أفلت من تلك النكبة كما ذكرناه
____________________
فلما أفضى الأمر إلى السلطان أبي الربيع استعمل خليفة هذا بداره في بعض المهن فباشر
الأمور وترقى فيها حتى اتصل بالسلطان فجعل غاية قصده السعاية بأبي محمد بن أبي
مدين وكان يؤثر عن السلطان أبي الربيع أنه يختلي مع حرم حاشيته وتعرف خليفة ذلك من
مقالات الناس فدس إلى السلطان بأن ابن أبي مدين يعرض باتهامك في ابنته وأن صدره قد
وغر لذلك وأنه مترصد بالدولة ومتربص بها الدوائر فتمكنت سعايته من السلطان وظن أنه
صادق وكان يخشى غائلة ابن أبي مدين بما كان له من الوجاهة في الدولة ومداخلة
القبيل فاستعجل السلطان أبو الربيع دفع غائلته ودس إلى قائد جند الفرنج بقتله فسار
إليه ولقيه بمقبرة الشيخ أبي بكر بن العربي فرصده وأتاه من خلفه فطعنه طعنة كبته
على ذقنه واحتز رأسه وألقاه بين يدي السلطان أبي الربيع ودخل الوزير سليمان بن
يرزيكن فوجد الرأس بين يديه فذهبت نفسه عليه وعلى مكانه من الدولة حسرة وأسفا
وأيقظ السلطان لمكر اليهودي وأطلعه على خبثه وأخرج له براءة كان بعث بها ابن أبي
مدين معه إلى السلطان يتنصل فيها ويحلف على كذب ما رمي به عنده فتنبه السلطان لمكر
اليهودي وعلم أنه قد خدعه وندم حيث لم ينفعه الندم وفتك لحينه بخليفة بن وقاصة
وحاشيته من اليهود المتصدين للخدمة وسطا بهم سطوة الهلكة فأصبحوا مثلا للآخرين انتقاض
أهل سبتة على بني الأحمر ومراجعتهم طاعة بني مرين
كان أهل سبتة قد سئموا ملكة أهل الأندلس وثقلت عليهم ولايتهم لا سيما حين رحل عنهم
عثمان بن أبي العلاء وعبر البحر بقصد الجهاد كما مر واتصل خبر ذلك بالسلطان أبي
الربيع فانتهز الفرصة فيهم وعقد لثقته تاشفين بن يعقوب الوطاسي أخي وزيره عبد
الرحمن بن يعقوب على عسكر ضخم من بني مرين وسائر طبقات الجند وبعثه إلى سبتة فأغذ
السير إليها ونزل بساحتها ولما أحس به أهل البلد تمشت رجالاتهم فيما بينهم وتنادوا
____________________
بشعار بني مرين وثاروا على من
كان بسبتة من حامية ابن الأحمر فأخرجوهم منها واقتحم تاشفين بن يعقوب البلد عاشر
صفر من سنة تسع وسبعمائة وتقبض على قائد القصبة أبي زكرياء يحيى بن مليلة وعلى
قائد البحر أبي الحسن بن كماشة وعلى قائد الحرب بها من القرابة عمر بن رحو بن عبد
الله بن عبد الحق وطير تاشفين بالخبر إلى السلطان أبي الربيع فعم السرور وعظم
الفرح واتصل ذلك بابن الأحمر فضاق ذرعه وخشي عادية بني مرين وجيوش المغرب حين
انتهوا إلى الفرضة وملكوها فقلب رأيه ورأى أن يجنح إلى السلم مع السلطان أبي
الربيع لشدة شوكته ولكلب الطاغية عليه في أرضه لولا أن غزاه بني مرين يكفون من غربه
فبادر السلطان ابن الأحمر وهو أبو الجيوش نصر بن محمد أخو المخلوع الذي كان قبله
وأوفد رسله على السلطان أبي الربيع راغبين في السلم خاطبين للولاية وتبرع بالنزول
عن الجزيرة ورندة وحصونها ترغيبا للسلطان أبي الربيع في الجهاد فقبل منه ذلك وعقد
له الصلح على ما أراد وخطب منه أخته فأنكحه ابن الأحمر إياها وبعث السلطان أبو
الربيع إليه بالمدد للجهاد أموال و خيولا جنائب مع ثقته عثمان بن عيسى اليريناني
أخي وزيره إبراهيم بن عيسى واتصلت بينهما الولاية إلى أن توفي السلطان أبو الربيع
رحمه الله انتقاض الوزير عبد الرحمن بن يعقوب الوطاسي على السلطان أبي الربيع
ومبايعته لعبد الحق بن عثمان والسبب في ذلك
لما انعقد الصلح بين السلطان أبي الربيع وابن الأحمر وحصلت المصاهرة بينهما
والمودة كانت رسل ابن الأحمر لا تزال تتردد إلى حضرة السلطان بفاس فقدم منهم ذات
يوم بعض المنهمكين في اللهو المدمنين للشرب والقصف فكشف صفحة وجهه في معاقرة الخمر
وتجاهر بذلك بين الناس وكان السلطان أبو الربيع قد عزل قاضي فاس أبا غالب المغيلي
وولى القضاء مكانه الشيخ الفقيه أبا الحسن الزرويلي المعروف بالصغير صاحب
____________________
التقييد على المدونة وكان رحمه
الله قد شدد على أهل الفسوق والمناكر فسيق إليه ذات يوم هذا الأندلسي وهو سكران
فأمر العدول فاستروحوه واشتموا منه رائحة الخمر وأدوا شهادتهم على ذلك فأمضى
القاضي حكم الله فيه وجلده الحد فاضطرم الأندلسي غيظا وتعرض للوزير عبد الرحمن بن
يعقوب الوطاسي ويقال له رحو باللسان الزناتي فكشف له عن ظهره يريه أثر السياط
وينعي عليه سوء هذا الفعل مع رسل الدول فضجر الوزير من ذلك وأخذته العزة بالإثم
ولعله كان في قلبه شيء على القاضي فأمر وزعته بإحضاره على أسوأ الحالات وعزم على
البطش به فتبادروا إليه واعتصم القاضي بالمسجد الجامع ونادى في المسلمين فثارت
العامة بهم ومرج أمر الناس وقامت الفتنة على ساق واتصل الخبر بالسلطان فتلافى
الأمر وأحضر أصحاب الوزير فضرب أعناقهم وشرد بهم من خلفهم جزاه الله خيرا فأسرها
الوزير في نفسه وداخل الحسن بن علي بن أبي الطلاق من بني عسكر بن محمد وكان من
شيوخ بني مرين وأهل الشورى فيهم وداخل قائد الفرنج غنصالوا المنفرد برياسة العسكر
وشوكة الجند وكان لهؤلاء الفرنج بالوزير اختصاص بحيث آثروه على السلطان فدعاهم
لخلع طاعة السلطان أبي الربيع وبيعة عبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق كبير
القرابة وأسد الأعياص فأجابوه وبايعوا له وتم أمرهم ولما كان يوم السبت الثالث
والعشرون من ربيع الآخر من سنة عشر وسبعمائة فر الوزير المذكور وقائده الفرنجي ومن
شايعهم على رأيهم فخرجوا إلى ظاهر البلد الجديدة وجاهروا بالخلعان وأقاموا الآلة
والرسم وبايعوا سلطانهم عبد الحق على عيون الملأ وعسكروا بالعدوة القصوى من سبو ثم
ساروا إلى ناحية تازا ولما استقروا برباطها أخذوا في جمع الجيوش ومكاتبة الخاصة من
بني مرين والعرب يدعونهم إلى بيعة سلطانهم والمشايعة لهم على رأيهم وأوفدوا على
أبي حمو موسى بن عثمان بن يغمراسن صاحب تلمسان يدعونه إلى المظاهرة على أمرهم
واتصال اليد والمدد بالعسكر والمال فتوقف أبو حمو ولم يقدم ولم يحجم وبقي ينتظر
عماذا ينجلي أمرهم واتصل خبر ذلك كله بالسلطان أبي
____________________
الربيع فنهض إليهم وقدم بين
يديه يوسف بن عيسى الحشمي وعمر بن موسى الفودودي في جيش كثيف من بني مرين وسار هو في
ساقتهم واتصل خبر خروجه بعبد الحق بن عثمان ووزيره فانكشفوا عن تازا ولحقوا
بتلمسان وكانوا يظنون أن السلطان لايخرج إليهم وحمد أبو حمو عاقبة توقفه عن نصرهم
ويئسوا من صريخه إياهم ولما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت أجاز عبد الحق بن عثمان
ووزيره إلى الأندلس ورجع الحسن بن علي ومن معه إلى السلطان أبي الربيع بعد أن أخذ
منه الأمان وهلك رحو بن يعقوب بالأندلس لمدة قريبة ولما احتل السلطان أبو الربيع
بتازا حسم الداء ومحا أثر الشقاق وأثخن في حاشية الخوارج وشيعتهم بالقتل والسبي ثم
اعتل أياما أثناء ذلك فتوفي بتازا بين العشاءين ليلة الأربعاء منسلخ جمادى الأخيرة
من سنة عشر وسبعمائة ودفن من ليلته تلك بصحن الجامع الأعظم من تازا رحمه الله الخبر
عن دولة السلطان أبي سعيد عثمان ابن يعقوب بن عبد الحق رحمه الله
كان هذا السلطان من أهل العلم والحلم والعفاف جوادا متواضعا متوقفا في سفك الدماء
لقبه السعيد بفضل الله وأمه حرة اسمها عائشة بنت الأمير أبي عطية مهلهل بن يحيى
الخلطي ولما هلك السلطان أبو الربيع بتازا في التاريخ المتقدم تطاول للأمر عمه أبو
سعيد الأصغر وهو عثمان بن السلطان يوسف وخب في ذلك ووضع وأسدى وألحم فلم يحصل على
شيء
واجتمع الوزراء والمشيخة بالقصر بعد هدأة من الليل وتفاوضوا في أمرهم حتى وقع
اختيارهم على أبي سعيد الأكبر وهو عثمان ابن السلطان يعقوب بن عبد الحق فاستدعوه
فحضر فبايعوه ليلتئذ وتم أمره وأنفذ كتبه إلى النواحي والجهات باقتضاء البيعة وسرح
ابنه الأكبر الأمير أبا الحسن علي بن عثمان إلى فاس فدخلها غرة رجب من سنة عشر
وسبعمائة وملك قصر الخلافة بالحضرة واحتوى على أمواله وذخيرته وفي غد ليلته أخذت
____________________
البيعة للسلطان أبي سعيد بظاهر
تازا على بني مرين وسائر زناتة والعرب والعسكر والحاشية والموالي والصنائع
والعلماء والصلحاء ونقباء الناس وعرفائهم والخاصة والدهماء فقام بالأمر واستوسق له
الملك وفرق الأعطيات وأسنى الجوائز وتفقد الدواوين ورفع الظلامات وحط المغارم
والمكوس وسرح السجون ورفع عن أهل فاس ما كان يلزم رباعهم من الوظائف المخزنية في
كل سنة فصلح حال الناس في أيامه
ثم ارتحل لعشرين من رجب من السنة فدخل حضرة فاس فاستقر بها وقدم عليه وفود التهنئة
من جميع بلاد المغرب ثم خرج في ذي القعدة الى رباط الفتح لتفقد الأحوال والنظر في
أمور الرعية وإنشاء الأساطيل الجهادية فعيد هنالك عيد الأضحى وباشر أمور الناس
وأمر بإنشاء الأساطيل بدار الصناعة من سلا برسم جهاد الفرنج ثم رجع إلى فاس فعقد
سنة إحدى عشرة وسبعمائة لأخيه الأمير أبي البقاء يعيش على ثغور الأندلس الجزيرة
ورندة وما إليهما من الحصون ثم نهض سنة ثلاث عشرة وسبعمائة إلى ناحية مراكش لما
كان بها من اختلال الأحوال وخروج عدي بن هنو الهسكوري ونقضه للطاعة فنازله السلطان
أبو سعيد وحاصره مدة ثم اقتحم عليه حصنه عنوة وقبض عليه وبعثه موثقا في الحديد إلى
فاس فأودعه المطبق وقفل راجعا إلى حضرته فاحتل بها مؤيدا منصورا والله تعالى أعلم غزو
السلطان أبي سعيد ناحية تلمسان
كان بنو مرين قد حقدوا على أبي حمو صاحب تلمسان من أجل توقفه في أمر عبد الحق بن
عثمان ووزيره رحو بن يعقوب الوطاسي وتسهيله الطريق لهم إلى الأندلس ومداهنته في
ذلك وكان مقتضى الصلح المنعقد بينه وبين السلطان أبي الربيع أن يقبض عليهم ويبعث
بهم إليه حالا فحقد بنو مرين على أبي حمو ووجدوا في أنفسهم عليه ولم أفضى الأمر
إلى السلطان أبي سعيد واستوسق ملكه ودوخ الجهات المراكشية وفرغ من شأن
____________________
المغرب اعتزم على غزو تلمسان
فنهض إليها سنة أربع عشرة ولما انتهى إلى وادي ملوية قدم ابنيه الأميرين أبا الحسن
وأبا علي في عسكرين عظيمين في الجناحين وسار هو في ساقتهما فدخل بلاد بني عبد
الواد على هذه التعبية فاكتسح نواحيها واصطلم نعمتها ثم نازل وجدة فقاتلها قتالا
شديدا فمتنعت عليه ثم نهض إلى تلمسان فنزل بالملعب من ساحتها وتحصن أبو حمو
بالأسوار وغلب السلطان ابو سعيد على معاقلها وسائر ضواحيها فحطمها حطما ونسفها
نسفا ودوخ جبال بني يزناسن وأثخن فيهم وانتهى في قفوله إلى وجدة ففر أخوه أبو
البقاء يعيش وكان في معسكره من أجل استرابة لحقته من السلطان وسار إلى تلمسان فنزل
على أبي حمو ورجع السلطان أبو سعيد على التعبية فانتهى إلى تازا فأقام بها وبعث
ابنه الأمير أبا علي إلى فاس فكان من خروجه عليه ما نذكره خروج الأمير أبي علي على
أبيه السلطان أبي سعيد والسبب في ذلك
كان للسلطان أبي سعيد ولدان أحدهما وهو الأكبر من أمته الحبشية وهو أبو الحسن علي
بن عثمان وثانيهما وهو الأصغر من علجة من سبي الفرنج وهو أبو علي عمر بن عثمان
وكان هذا الأصغر أعلق بقلب السلطان وأحبهما إليه ولما استولى على ملك المغرب رشحه
لولاية العهد وهو شاب لم يطر شاربه ووضع له ألقاب الإمارة وصير معه الجلساء
والخاصة والكتاب وأمره باتخاذ العلامة في كتبه ولم يدخر عنه شيئا من مراسم الرياسة
والملك وعقد على وزارته لإبراهيم بن عيسى اليريناني من كبار الدولة ووجوهها وكان
أخوه الأكبر أبو الحسن شديد البرور بأبيه فلما رأى إقبال أبيه على أخيه علي انحاش
هو أيضا إليه وصار في جملته وخلط نفسه بحاشيته طاعة لأبيه ومسارعة في هواه واستمرت
حال الأمير أبي علي على هذا وخاطبه ملوك النواحي وخاطبهم وهادوه وهاداهم وعقد
الرايات وأثبت في الديوان ومحا وزاد في العطاء ونقص وكاد يستبد بالأمر كله
____________________
ولما قفل السلطان أبو سعيد من تلمسان أواخر سنة أربع عشرة وسبعمائة أقام بتازا
وبعث ولديه إلى فاس فلما استقر الأمير أبو علي بها حدثته نفسه بالقيام على أبيه
وخلع طاعته فراوده المداخلون له على التربص حتى يمكر بأبيه ويقبض عليه باليد فابى
واستعجل الأمر وركب الخلاف وجاهر بالخلعان ودعا لنفسه فأطاعه الناس ولم يتوقفوا
عنه لما كان أبوه جعله إليه من أمرهم وعسكر بساحة البلد الجديد يريد غزو أبيه فبرز
السلطان أبو سعيد من تازا في عسكره يقدم رجلا ويؤخر أخرى ثم بدا للأمير أبي علي في
وزيره إبراهيم بن عيسى وعزم على القبض عليه لأنه بلغه أنه يكاتب أباه فبعث للقبض
عليه عمر بن يخلف الفودودي وتفطن الوزير لما أراده من المكر به فقبض هو على
الفودودي ونزع إلى السلطان أبي سعيد فتقبله ورضي عنه وكان الأمير أبو الحسن قد لحق
بأبيه قبل ذلك نازعا عن جملة أخيه فقوي جناح السلطان بهما وارتحل إلى لقاء ابنه
أبي علي ولما تراءى الجمعان بالمقرمدة ما بين فاس وتازا اختل مصاف السلطان وانهزم
جريحا إلى تازا فتبعه ابنه أبو علي وحاصره بها ويقال إن أبا الحسن إنما لحق بأبيه
بعد المحنة ثم سعى الخواص بين السلطان وابنه أبي علي بالصلح على أن يخرج له
السلطان عن الأمر ويقتصر على تازا وجهاتها فقط فرضي السلطان بذلك وشهد الملأ من
مشيخة العرب وزناتة وأهل الأمصار واستحكم العقد بينهما وانكفأ الأمير أبو علي
راجعا إلى حضرة فاس مملكا على المغرب وتوافت إليه بيعات الأمصار ووفودهم واستوسق
أمره
ثم تدارك الله السلطان أبا سعيد بلطفه ورد عليه من حقه من حيث لا يحتسب وذلك أن
الأمير أبا علي اعتل عقب وصوله إلى فاس واشتد وجعه حتى أشرف على الهلاك وخشي الناس
على أنفسهم اختلال الأمر بموته فتسايلوا إلى والده السلطان أبي سعيد بتازا ولحق به
سائر خواص الدولة وحملوه على تلافي الأمر وانتهاز الفرصة فنهض من تازا واجتمع إليه
كافة بني مرين والجند وعسكر على البلد الجديد وأقام محاصرا له وابتنى دارا لسكناه
وجعل لابنه الأمير أبي الحسن ما كان لأخيه أبي علي من ولاية العهد
____________________
وتفويض الأمر ولما تبين للأمير
أبي علي اختلاف أمره بعث إلى أبيه في الصلح على أن يعوض سجلماسة وما والاها فأجيب
إلى ذلك وفى له السلطان بما اشترط وارتحل إلى سجلماسة سنة خمس عشرة وسبعمائة فأقام
بها دولة فخيمة واستولى على بلاد القبلة ودون الدواوين واستلحق واستركب واستخدم
ظواعن العرب من بني معقل وافتتح معاقل الصحراء وقصور توات وتيكرارين وتامنطيت وغير
ذلك
وأما السلطان أبو سعيد فإنه دخل إلى فاس الجديد ونزل بقصره وأصلح شؤون ملكه وأنزل
ابنه الأمير أبا الحسن بالدار البيضاء من قصوره وفوض إليه في سلطانه تفويض
الاستقلال وأذن له في اتخاذ الوزراء والكتاب ووضع العلامة على كتبه وسائر ما كان
لأخيه ووفدت عليه بيعات الأمصار بالمغرب ورجعوا إلى طاعته وفي سنة خمس عشرة
وسبعمائة أمر السلطان أبو سعيد ببناء الباب أمام القنطرة من الجزيرة الخضراء ثم
بعد ذلك أدار الستارة بالمدينة المذكورة وفيها سار إلى مراكش فأقام بها أياما حتى
اصلح شؤونها وعاد إلى الحضرة
وفي سنة ثمان عشرة وسبعمائة نكب السلطان أبو سعيد كاتبه منديل بن محمد الكناني
وكان السبب في ذلك أنه لما ثار الأمير أبو علي على ابيه وخلعه انحاش إليه منديل
هذا ثم لما اختل أمر أبي على عاد منديل إلى السلطان أبي سعيد وترتب في منزلته التي
كان عليها قبل وكان الأمير أبو الحسن يحقد عليه لأجل انحياشه إلى أخيه لما كان
بينهما من المنافسة وكان هو كثيرا ما يوغر صدر أبي الحسن بإيجاب حق أخيه عليه
وامتهانه في خدمته فطوى له أبو الحسن على البث حتى إذا فصل أبو علي إلى سجلماسة
وانفرد أبو الحسن بمجلس أبيه وخلاله وجهه أحكم السعاية في منديل عند أبيه وكان
منديل كثيرا ما يغضب السلطان في المحاورة والخطاب دالة عليه وكبرا فاعتد السلطان
عليه بشيء من ذلك مع ما كان ابنه أبو الحسن يغريه به فسخطه سنة ثمان عشرة وسبعمائة
وأذن لابنه أبي الحسن في نكبته فاعتقله واستصفى أمواله وطوى ديوانه وامتحنه أياما
ثم قتله بمحبسه
____________________
خنقا وقيل جوعا وذهب في
الذاهبين وأبوه أبو عبد الله محمد الكناني هو الذي بعثه السلطان يعقوب بن عبد الحق
إلى المستنصر الحفصي عند فتح مراكش وعاد إليه منه بالهدية صحبة وفد أهل تونس وتلطف
أبو عبد الله الكناني حتى ذكر المستنصر في الخطبة على منبر مراكش وفرح الوفد بذلك
حسبما تقدم الخبر عنه مستوفى ونشأ ابنه منديل هذا في ظل الدولة المرينية فكان من
أمره ما قصصناه عليك وفادة أهل الأندلس على السلطان أبي سعيد واستصراخهم إياه على
الطاغية وما نشأ عن ذلك
كان الملوك من بني مرين قد انقطع غزوهم عن الأندلس برهة من الدهر منذ دولة السلطان
يوسف بن يعقوب لاشتغاله في آخر أمره بحصار تلمسان واشتغال حفدته من بعده بأمر
المغرب مع قصر مدتهم فتطاول العدو وراء البحر على المسلمين بسبب هذه الفترة واشتد
كلبه كلبه على ثغورها مع أن القرابة من بني مرين كانوا شجى في صدره وقذى في عينيه
في تلك البلاد حسبما ألمعنا إليه غير مرة ولما أفضى الأمر الى السلطان أبي سعيد
اشتغل في صدر دولته بأمر ابنه علي وخروجه عليه فاهتبل الطاغية الغرة في الأندلس
وزحف في جموعه إلى غرناطة سنة ثمان عشرة وسبعمائة وكان من خبر هذه الوقعة أن
الطاغية بطرة بن سانجة ويقال دون بطرة وقد نبهنا على لفظه دون فيما سبق ذهب إلى
طليطلة ودخل على مرجعهم الذي يقال له البابا وسجد له وتضرع بين يديه وطلب منه
استئصال ما بقي من المسلمين بأرض الأندلس وأكد عزمه وتأهب لذلك غاية الأهبة فوصلت
أثقاله ومجانيقه وآلات الحصار والأقوات في المراكب وتقدم في جموعه حتى نزل بأحواز
غرناطة وكان رديفه في ذلك الجند علجا آخر يقال له جوان وانضم إليهم ملوك آخرون من
ملوك الأطراف قيل سبعة وقيل أكثر وامتلأت الأرض بهم وعزموا على استئصال بقية
المسلمين بالأندلس وكان جيشهم فيما قيل يشتمل على خمسة وثلاثين ألفا من الفرسان
وعلى نحو مائة ألف من الرجالة المقاتلة
____________________
ولما رأى أهل الأندلس ذلك بعثوا صريخهم إلى السلطان أبي سعيد فقدم عليه وفدهم
بحضرته من فاس وفيهم من وجوه الأندلس وصلحائها الشيخ أبو عبد الله الطنجالي والشيخ
ابن الزيات البلشي والشيخ أبو إسحاق بن أبي العاص وغيرهم فاعتذر إليهم السلطان أبو
سعيد بمكان عثمان بن أبي العلاء من دولتهم ومحله من دار ملكهم وكان عثمان بن أبي
العلاء يتولى يومئذ مشيخة الغزاة بالأندلس لأن وفاته تأخرت إلى سنة ثلاثين
وسبعمائة حسبما مر فشرط عليهم السلطان أبو سعيد أن يمكنوه منه ليتأتى له العبور
إلى تلك البلاد وجهاد العدو بها من غير تشويش وقال ادفعوه إلينا برمته حتى يتم أمر
الجهاد ثم نرده عليكم حياطة على المسلمين وخشية من تفريق كلمتهم فاستصعب أهل
الأندلس هذا الشرط لما يعلمونه من صرامة عثمان بن أبي العلاء وإدلاله ببأسه وبأس
عشيرته فأخفق سعيهم ورجعوا منكسرين وأطالت الفرنج المقام على غرناطة وطمعوا في
التهامها
ثم إن الله تعالى نفس عن مخنقهم ودافع بقدرته عنهم وهيأ لعثمان بن أبي العلاء في
الفرنج واقعة كانت من أغرب الوقائع وذلك أنه لما كان يوم المهرجان وهو الخامس من
جمادى الأولى من سنة تسع عشرة وسبعمائة عمد عثمان بن أبي العلاء إلى جماعة جنده
واختار من أنجاد بني مرين منهم نحو المائتين وقيل أكثر وتقدم بهم نحو جيش الفرنج
فظن النصارى أنهم إنما خرجوا لأمر غير القتال من مفاوضة أو إبلاغ رسالة أو نحو ذلك
حتى إذا سامتوا موقف الطاغية ورديفه جوان صمموا نحوهما حتى خالطوهما في مراكزهما
فصرعوهما في جملة من الحاشية وانهزم ذلك الجمع من حينه وولوا الأدبار واعترضهم من
ورائهم مسارب الماء للشرب على نهر شنيل فتطارحوا فيها وهلك أكثرهم واكتسحت أموالهم
وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون ثلاثة أيام وخرج أهل غرناطة لجمع الأموال وأخذ
الأسرى فاستولوا على أموال عظيمة منها من الذهب فيما قيل ثلاثة وأربعون قنطارا ومن
الفضة مائة وأربعون قنطارا ومن السبي سبعة آلاف نفس حسبما كتب بذلك بعض الغرناطيين
إلى الديار المصرية وكان من جملة الأسارى امرأة الطاغية وأولاده
____________________
فبذلت في نفسها مدينة طريف
وجبل الفتح وثمانية عشر حصنا فيما حكى بعض المؤرخين فلم يقبل المسلمون ذلك قلت هذا
خطأ في الرأي وضعف في السياسة قالوا وزادت عدة القتلى في هذه الغزوة على خمسين
ألفا ويقال إنه هلك منهم بالوادي مثل هذا العدد لعدم معرفتهم بالطريق وأما الذين
هلكوا بالجبال والشعاب فلا يحصون وقتل الملوك السبعة جميعهم وقيل خمسة وعشرون
واستمر البيع في الأسرى والسبي والدواب ستة أشهر ووردت البشائر بهذا النصر العظيم
إلى سائر البلاد ومن العجب أنه لم يقتل من المسلمين سوى ثلاثة عشر نفسا وقيل عشرة
أنفس وسلخ الطاغية بطرة وحشى جلده قطنا وعلق على باب غرناطة وبقي معلقا سنين وطلبت
النصارى الهدنة فعقدت لهم والله تعالى أعلم انتقاض الأمير أبي علي على أبيه
السلطان أبي سعيد وما نشأ عن ذلك
لما كانت سنة عشرين وسبعمائة انتقض الأمير أبو علي صاحب سجلماسة والصحراء على أبيه
السلطان أبي سعيد وتغلب على درعة وسما إلى طلب مراكش فعقد السلطان أبو سعيد على
حربه لأخيه الأمير أبي الحسن واغزاه إياه ثم نهض على اثره فاحتل بمراكش وثقف
أطرافها وحسم عللها وعقد عليها لكندوز بن عثمان من صنائع دولتهم وقفل إلى الحضرة
ثم لما كانت سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة نهض الأمير أبو علي في جموعه من سجلماسة
وأغذ السير إلى مراكش فاقتحمها بعساكره قبل أن يجتمع لكندوز أمره وتقبض عليه وضرب
عنقه ورفعه على القناه وملك مراكش وسائر ضواحيها
وبلغ الخبر إلى السلطان أبي سعيد فخرج من حضرته في عساكره بعد أن احتشد وأزاح
العلل واستوفى الأعطيات وقدم بين يديه ابنه الأمير أبا الحسن
____________________
ولي عهده وجاء هو على ساقته
وساروا على هذه التعبية ولما انتهوا إلى وادي ملوية اتصل بهم الخبر أن أبا علي
يريد أن يبيتهم فأسهروا ليلتهم وباتوا على ظهور خيلهم وبعد مضي جزء من الليل طرقهم
أبو علي في جموعه فكانت الدبرة عليه وفل عسكره وارتحلوا من الغد في أثره وكان قد
سلك جبل درن فافترقت جنوده في أوعاره ولحقهم من المشاق ما يفوت الوصف حتى ترجل
الأمير أبو علي عن فرسه وسعى على قدميه وخلص من ورطة ذلك الجبل بعد عصب الريق ولحق
بسجلماسة ومهد السلطان أبو سعيد نواحي مراكش وعقد عليها لموسى بن علي الهنتاتي
فعظم غناؤه في ذلك واضطلاعه وامتدت أيام ولايته وارتحل السلطان إلى سجلماسة فدافعه
الأمير أبو علي بالخضوع ورغب إليه في الصفح والرضا والعود إلى السلم فأجابه
السلطان إلى ذلك لما كان قد شغفه من حبه فقد كان يؤثر عنه من ذلك غرائب ورجع إلى
الحضرة وأقام الأمير أبو علي بمكانه ومن مملكه القبلة إلى أن هلك السلطان أبو سعيد
وتغلب عليه أخوه السلطان أبو الحسن كما نذكره إن شاء الله بناء مدارس العلم بحضرة
فاس حرسها الله
قد تقدم لنا أن السلطان يعقوب بن عبد الحق رحمه الله كان قد بنى مدرسته التي بفاس
مع غيرها مما سبق التنبيه عليه ووقف عليها كتب العلم التي بعث بها إليه الطاغية سانجة
عند عقد الصلح معه ووقف عليها غير ذلك واقتفى أثره في هذه المنقبة الشريفة بنوه من
بعده فاستكثروا من بناء المدارس العلمية والزوايا والربط ووقفوا عليها الأوقاف
المغلة وأجروا على الطلبة بها الجرايات الكافية فأمسكوا بسبب ذلك من رمق العلم
وأحيوا مراسمه وأخذوا بضبعيه جزاهم الله عن نيتهم الصالحة خيرا
ولما كانت سنة عشرين وسبعمائة أمر السلطان أبو سعيد رحمه الله ببناء المدرسة التي
بفاس الجديد فبنيت أتقن بناء وأحسنه ورتب فيها الطلبة لقراءة
____________________
القرآن والفقهاء لتدريس العلم
وأجرى عليهم المرتبات والمؤن في كل شهر وحبس عليها الرباع والضياع ابتغاء ثواب
الله ورغبة فيما عنده
وفي سنة إحدى وعشرين بعدها بنى ولي عهده الأمير أبو الحسن المدرسة التي بغربي جامع
الأندلس من حضرة فاس فجاءت على أكمل الهيئات وأعجبها وبنى حولها سقاية ودار الوضوء
وفندقا لسكنى طلبة العلم وجلب الماء إلى ذلك كله من عين خارج باب الجديد أحد أبواب
فاس وأنفق على ذلك أموالا جليلة تزيد عن مائة ألف دينار وشحنها بطلبة العلم وقراء
القرآن وحبس عليها رباعا كثيرة ورتب فيها الفقهاء للتدريس وأجرى عليهم الإنفاق
والكسوة نفعه الله بقصده
وفي سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة في فاتح شعبان منها أمر السلطان أبو سعيد أيضا ببناء
المدرسة العظمى بإزاء جامع القرويين بفاس وهي المعروفة اليوم بمدرسة العطارين فنيت
على يد الشيخ أبي محمد عبد الله بن قاسم المزوار وحضر السلطان أبو سعيد بنفسه في
جماعة من الفقهاء وأهل الخير حتى أسست وشرع في بنائها بمحضره فجاءت هذه المدرسة من
أعجب مصانع الدول بحيث لم يبن ملك قبله مثلها وأجرى بها ماء معينا من بعض العيون
هنالك وشحنها بالطلبة ورتب فيها إماما ومؤذنين وقومة يقومون بأمرها ورتب فيها
الفقهاء لتدريس العلم وأجرى على الكل المرتبات والمؤن فوق الكفاية واشترى عدة
أملاك ووقفها عليها احتسابا بالله تعالى وسيأتي التنبيه على ما بناه ابنه أبو
الحسن من ذلك أيام ولايته وحافده أبو عنان وغيرهما إن شاء الله وبالجملة فقد كان
لبني مرين جنوح إلى الخير ومحبة في العلم وأهله تشهد بذلك آثارهم الباقية إلى الآن
في مدارسهم العلمية وغيرها وفي مثل ذلك يحسن أن ينشد
( همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ** من بعدهم فبألسن البنيان )
( إن البناء إذا تعاظم شأنه ** أضحى يدل على عظيم الشان )
____________________
أخبار بني العزفي أصحاب سبتة
قد تقدم لنا أن الرئيس أبا سعيد فرج بن إسماعيل بن الأحمر صاحب مالقة كان قد غدر
بأهل سبتة وقبض على رؤسائها من بني العزفي وغربهم إلى غرناطة سنة خمس وسبعمائة
فاستقروا هنالك في إيالة السلطان ابن الأحمر المعروف بالمخلوع مدة ولما استولى
السلطان أبو الربيع المريني على سبتة ونفى بني الأحمر عنها استأذنه بنو العزفي في
الرجوع إلى المغرب والقدوم عليه فأذن لهم واستقروا بفاس وكان أبو زكرياء يحيى وأبو
زيد عبد الرحمن ابنا أبي طالب عبد الله بن أبي القاسم محمد بن أبي العباس احمد
العزفي من سرواتهم وأهل المروءة والدين فيهم وكانوا يغشون مجالس العلم بمسجد
القرويين من فاس لما كانوا عليه من انتحاله وكان السلطان أبو سعيد أيام ولاية بني
أبيه من قبله يحضر مجلس الشيخ الفقيه أبي الحسن الصغير وكان أبو زكرياء يحيى بن
أبي طالب يلازمه ويتودد إليه فاتصل به وصارت له بذلك وسيلة عنده فلما أفضى الأمر
إلى السلطان أبي سعيد رعى لبني العزفي تلك الوسيلة فأنعم عليهم وعقد لأبي زكرياء
منهم على سبتة وردهم إلى موطن سلفهم ومقر رياستهم فقدموها سنة عشر وسبعمائة
وأقاموا فيها دعوة السلطان أبي سعيد والتزموا طاعته
ولما فوض السلطان أبو سعيد إلى ابنه ابي علي الأمر وجعل له الإبرام والنقض عقد أبو
علي على سبتة لأبي زكرياء حيون بن أبي العلاء القرشي وعزل أبا زكرياء يحيى بن أبي
طالب منها واستقدمه إلى فاس فقدمها هو وأبوه أبو طالب وعمه أبو حاتم واستقروا في
جملة السلطان وهلك أبو طالب بفاس أثناء تلك المدة ثم كان من خروج الأمير أبي علي
على أبيه وانتقاضه عليه ما قدمناه فلحق أبو زكرياء بن أبي طالب وأخوه أبو زيد
بالسلطان أبي
____________________
سعيد نازعين إليه ومفارقين
لابنه الثائر عليه واستمروا في جملته إلى أن مرض الأمير أبو علي وزحف أبوه إليه
وحاصره بفاس حسبما مر فحينئذ عقد السلطان أبو سعيد لأبي زكرياء على سبتة ثانيا
وبعثه إليها ليقيم دعوته في تلك الجهات وترك ابنه محمد بن أبي زكرياء تحت يده رهنا
على الطاعة فاستقل أبو زكرياء بإمارتها وأقام دعوة السلطان أبي سعيد بها واتصل ذلك
منه نحو سنتين ثم هلك عمه أبو حاتم بسبتة سنة ست عشرة وسبعمائة وانتقض أبو زكرياء
بن أبي طالب على السلطان أبي سعيد ورجع إلى حال سلفه من الاستبداد وإقامة الشورى
بالبلد واستقدم من الأندلس عبد الحق بن عثمان الذي كان خرج على السلطان أبي الربيع
مع الوزير عبد الرحمن الوطاسي فقدم عليه وعقد له على الحرب ليفرق به كلمة بني مرين
بالمغرب ويوهن بأسهم فتخف عليه وطأتهم
واتصل ذلك كله بالسلطان أبي سعيد فقام وقعد وجهز إلى سبتة العساكر من بني مرين
وعقد على حربها للوزير إبراهيم بن عيسى اليريناني فزحف إليها وحاصرها فاعتذر إليه
أبو زكرياء بحبس ابنه عنه ومفارقته له وأنه إذا رجع إليه ابنه بذل الطاعة وراجع
الدعوة فأعلم الوزير السلطان بذلك فبعث إليه بالولد ليسلمه إلى أبيه بعد أن يقتضي
منه موجبات الطاعة وأسبابها وجاء الخبر إلى أبي زكرياء بأن ابنه قد قدم وأنه كائن
بفسطاط الوزير بساحل البحر بحيث تتأتى الفرصة في أخذه فبعث أبو زكرياء إلى عبد
الحق بن عثمان قائد الحرب وأعلمه بمكان ابنه فواطأه عبد الحق على انتزاعه منهم ثم
هجم ليلا في جماعة من حاشيته على فسطاط الوزير فاحتمل الولد وأصبح به عند أبيه
وسمع أهل عسكر الوزير بالهيعة فركبوا وتبعوا الأثر فلم يقفوا على خبر وتفقد الوزير
الولد الذي كان عنده فلم يجده واتهم الجيش الوزير بأنه مالأ شيعة أبيه على أخذه
وإلا فلا يقدم أحد هذا الإقدام بدون مداخلة من بعض الجيش فتقبضوا على الوزير
وحملوه الى السلطان إبلاء في الطاعة وابلاغا في العذر فشكر لهم ذلك واطلق الوزير
لعلمه ببراءته ونصحه
ثم رغب أبو زكرياء بعدها في رضا السلطان وطاعته وولايته فنهض
____________________
السلطان أبو سعيد رحمه الله
سنة ست عشرة إلى طنجة لاختبار طاعة أبي زكرياء فبان له صدقه وعقد له على سبتة
واشترط هو على نفسه حمل الجباية إلى السلطان وإسناء الهدية في كل سنة واستمر الحال
على ذلك إلى أن هلك أبو زكرياء سنة عشرين وسبعمائة وقام بالأمر بعده ابنه محمد بن
أبي زكرياء إلى نظر ابن عمه محمد بن علي بن الفقيه أبي القاسم شيخ قرابتهم وكان
قائد الأساطيل بسبتة ولي النظر فيها بعد أن نزع القائد يحيى الرنداحي إلى الأندلس
وتغلب محمد بن علي هذا بسبتة واختلفت كلمة الغوغاء واضطرب الأمر على بني العزفي
بها
فانتهز السلطان أبو سعيد الفرصة فيها وأجمع النهوض إليها فنهض سنة ثمان وعشرين
وسبعمائة ونزل عليها فبادر أهل سبتة بإيتاء طاعتهم وعجز محمد بن أبي زكرياء عن
المناهضة وظنها محمد بن علي من نفسه فتعرض للأمر في أوغاد من لفيفها اجتمعوا إليه
فدافعهم الملأ من أهل سبتة عن ذلك وحملوهم على الطاعة واقتادوا بني العزفي إلى
السلطان أبي سعيد فانقادوا إليه واحتل السلطان بقصبة سبتة وثقف جهاتها ورم مثلما
واصلح خللها واستعمل كبار رجالاته وخواص مجلسه في أعمالها فعقد لحاجبه عامر بن فتح
الله السدراتي على حاميتها وعقد لأبي القاسم بن أبي مدين العثماني على جبايتها
والنظر في مبانيها وإخراج الأموال للنفقات فيها وأسنى جوائز الملأ من مشيختها ووفر
إقطاعاتهم وجراياتهم وأوعز ببناء البلد المسمى أفراك على سبتة فشرعوا في بنائها
سنة تسع وعشرين وسبعمائة وانكفأ راجعا إلى حضرته وقد ذكر ابن الخطيب في كتاب الإكليل
محمد بن أبي زكرياء هذا فقال فيه ما صورته فرع تأود من الرياسة في دوحة وتردد بين
غدوة في المجد وروحة نشأ والرياسة العزفية تعله وتنهله والدهر ييسر أمله الأقصى
ويسهله حتى اتسقت اسباب سعده وانتهت إليه رياسة سلفه من بعده فألقت إليه رحالها
وحطت ومتعته بقربها بعد ما شطت ثم كلح له الدهر بعد ما تبسم وعاد زعزعا نسيمه الذي
كان تنسم وعاق هلاله عن تمه ما كان من تغلب ابن عمه واستقر بهذه البلاد نازح الدار
بحكم الأقدار وإن كان نبيه المكانة
____________________
والمقدار وجرت عليه جراية
واسعة ورعاية متتابعة إلى آخر كلامه ويعني بقوله هذه البلاد بلاد الأندلس والله
أعلم المصاهرة بين السلطان أبي سعيد في ابنه أبي الحسن وبين أبي بكر بن أبي زكرياء
الحفصي والسبب في ذلك
كان أبو تاشفين عبد الرحمن بن أبي حمو موسى بن عثمان بن يغمراسن صاحب تلمسان قد
ضايق بني أبي حفص أصحاب تونس وإفريقية في بلادهم واستولى على كثير من ثغورهم وردد
البعوث والسرايا إلى أطراف ممالكهم وفي سنة تسع وعشرين وسبعمائة جهز ابو تاشفين
إليهم جيشا كثيفا وعقد عليه ليحي بن موسى من صنائع دولته ونصب مع ذلك لملك تونس
وإفريقية بعض أعقاب الحفصيين وهو محمد بن ابي عمران كان لجأ إليه في بعض الفتن
التي كانت له مع بني عمه وتقدم هذا الجيش إلى أبي بكر بن أبي زكرياء الحفصي فهزموه
واقتحموا مدينة تونس فاستولوا عليها ونصبوا لملكها والولاية عليها محمد بن أبي
عمران المذكور ليس له من الملك إلا الاسم والأمر كله بيد يحيى بن موسى قائد الجيش وخلص
السلطان أبو بكر بن أبي زكرياء الحفصي إلى بونة جريحا مطرودا عن كرسي ملكه ودار
عزه فعزم حينئذ على الوفادة على السلطان أبي سعيد المريني ليأخذ له حقه من آل
يغمراسن المتغلبين عليه وأراد مع ذلك تجديد الوصلة التي كانت لسلفه مع بني مرين
فأشار عليه حاجبه محمد بن سيد الناس بإنفاذ ابنه الأمير أبي زكرياء صاحب الثغر
استنكافا له عن مثلها فقبل إشارته وأركب ابنه المذكور البحر وبعث معه وزيره أبا
محمد عبد الله بن تافراجين نافضا أمامه طرق المقاصد والمحاورات ونزلوا بمرسى غساسة
من ساحل المغرب وقدموا على السلطان أبي سعيد بحضرته فأبلغوه رسالة أبي بكر الحفصي
فاهتز لذلك هو وابنه الأمير أبو الحسن وقال لوفد الحفصيين
والله لأبذلن في مظاهرتكم مالي وقومي ونفسي ولأسيرن بعساكري إلى
____________________
تلمسان فأنازلها وكان فيما شرط
عليهم السلطان أبو سعيد مسير أبي بكر الحفصي بعساكره إلى منازلة تلمسان معه فقبلوا
وانصرفوا إلى منازلهم مسرورين
ونهض السلطان أبو سعيد إلى تلمسان سنة ثلاثين وسبعمائة ولما انتهى إلى وادي ملوية
وعسكر بصبره جاءه الخبر اليقين بعود أبي بكر الحفصي إلى تونس وجلوسه على كرسيه بها
فاستدعى السلطان أبو سعيد ابنه أبا زكرياء ووزيره أبا محمد بن تافراجين وأعلمهما
الخبر وأسنى جوائزهم وأمرهم بالانصراف إلى صاحبهم فركبوا أساطيلهم من غساسة
وبعث معهم إبراهيم بن أبي حاتم العزفي والقاضي بحضرته أبا عبد الله بن عبد الرزاق
يخطبون بنت السلطان أبي بكر الحفصي لابنه الأمير أبي الحسن فوصلوا إلى الحفصي
وأدوا الرسالة وانعقد الصهر بينهم في ابنته فاطمة شقيقة الأمير أبي زكرياء وزفها
إليهم في أساطيله مع مشيخة الموحدين وكبيرهم ابي القاسم بن عتو فوصلوا إلى مرسى
غساسة سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة فقام بنو مرين لها على أقدام البر والكرامة
وبعثوا بالظهر إلى غساسة لركوبها وحمل أثقالها صنعت حكمات الذهب والفضة ومدت ولايا
الحرير المغشاة بالذهب واحتفل السلطان أبو سعيد رحمه الله لوفدها وأعراسها بما لم
يسمع بمثله في دولتهم وتحدث الناس به دهرا وهلك السلطان أبو سعيد بين يدي موصلها
كما نذكر وفاة السلطان أبي سعيد بن يعقوب رحمه الله
كان السلطان أبو سعيد رحمه الله لما بلغه الخبر بوصول العروس فاطمة بنت السلطان
أبي بكر بن أبي زكرياء الحفصي سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة ارتحل بنفسه إلى تازا
ليشارف أحوالها كرامة لها ولأبيها وسرورا بعرس ابنه فاعتل هنالك وازداد مرضه حتى
إذا أشفا على الهلكة ارتحل به ولي العهد لأمير أبو الحسن إلى الحضرة وحمله في
فراشه على أكتاد الحاشية والجند
____________________
حتى نزل بواد سبو ثم أدخله
كذلك ليلا إلى قصره فأدركته المنية في طريقه فتوفي ليلة الجمعة الخامس والعشرين من
ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة وكان مرضه بعلة النقرس فوضعوه بمكانه من بيته
واستدعى ابنه أبو الحسن الصالحين لمواراته فدفن ببعض قبابه رحمه الله وكانت أيامه
أعيادا ومواسم ومن أكابر كتابه الرئيس أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي السبتي الخبر
عن دولة السلطان المنصور بالله أبي الحسن علي ابن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق رحمه
الله
هذا السلطان هو أفخم ملوك بني مرين دولة وأضخمهم ملكا وأبعدهم صيتا وأعظمهم أبهة
وأكثرهم آثارا بالمغربين والأندلس ويعرف عند العامة بالسلطان الأكحل لأن لأمه كانت
حبشية فكان أسمر اللون والعامة تسمي الأسمر والأسود أكحل وإنما الأكحل في لسان
العرب أكحل العينين فقط وكان أخوه أبو علي لمملوكة من سبي النصارى فكان أبيض
وانضاف لذلك أن كان أبو الحسن ملكا على الحضرة وأبو علي ملكا على بلاد القبلة
فكانا أخوين ملكين في عصر واحد أحدهما أسمر والآخر أبيض فعرف هذا بالأكحل والآخر
بالأبيض للمقابلة
ولما هلك السلطان أبو سعيد رحمه الله اجتمع الخاصة من المشيخة ورجالات الدولة على
ولي عهده أبي الحسن المذكور وعقدوا له على أنفسهم وآتوه طاعتهم فأمر للحين بنقل
معسكره من ناحية سبو إلى الزيتون من ناحية فاس ولما فرغ من دفن أبيه خرج إلى
معسكره بالمحل المذكور واجتمع الناس إليه على طبقاتهم لأداء البيعة بفسطاطة وتولى
أخذ البيعة له يومئذ على الناس الشيخ أبو محمد عبد الله بن قاسم المزوار والمزوار
في لسان
____________________
زناتة معناه الرئيس وكان هذا
الرجل رئيس الوزعة والمتصرفين وحاجب الباب السلطاني قديم الولاية في ذلك منذ عهد
السلطان يوسف بن يعقوب ثم زفت على السلطان أبي الحسن زوجته الحفصية فبنى بها
بمكانه من المعسكر المذكور وأجمع رأيه على الإنتقام لأبيها من عدوه أبي تاشفين
الزياني على ما نذكره حدوث الفتنة بين الأخوين أبي الحسن وأبي علي ثم مقتل أبي علي
والسبب في ذلك
كان السلطان أبو سعيد رحمه الله لما عهد بالأمر لابنه أبي الحسن وتحقق مصيره إليه
كثيرا ما يستوصيه بأخيه أبي علي لكلفه به وشفقته عليه فلما خلص الأمر إلى أبي
الحسن وكان موثرا رضا أبيه جهده اعتزم على الحركة إلى سجلماسة لمشارفة أحوال أخيه
واختيار أمره وما هو عليه من سلم أو حرب ليعمل على مقتضى ذلك فارتحل من معسكره
بالزيتون قاصدا سجلماسة فتلقته وفود أخيه أبي علي أثناء الطريق مؤديا حقه وموجبا
مبرته ومهنئا له بما آتاه الله من الملك ويعمله مع ذلك بأنه متجاف عن المنازعة له
قانع من تراث أبيه بما في يده طالب منه أن يعقد له بذلك فأجابه السلطان أبو الحسن
إلى ما سأل وعقد له على سجلماسة وما والاها من بلاد القبلة كما كان لعهد أبيه
وأشهد على ذلك الملأ من بني مرين وسائر زناتة والعرب وانكفأ السلطان أبو الحسن
راجعا إلى تلمسان عازما على الإنتقام من أبي تاشفين الزياني فسار حتى انتهى إلى
تلمسان ثم تجوزها إلى جهة الشرق حتى نزل بتاسالت منتظرا لقدوم صهره السلطان أبي
بكر الحفصي عليه وفاء بالعهد الذي كان انعقد له مع السلطان أبي سعيد أيام وفادة
ابنه أبي زكرياء عليه من أنهما يكونان يدا واحدة على حصار تلمسان حتى يحكم الله
بينهما وبين صاحبها فعسكر أبو الحسن بتاسالت ثم بعث بحصة من جنده في البحر إلى
صهره الحفصي مددا له وهو يومئذ ببجايه يقاتل جيش بن زيان عليها
ولم اتصل الخبر بأبي تاشفين صاحب تلمسان فكر في أمر أبي الحسن
____________________
وأعمل الحيلة بأن دس الى أخيه
الأمير أبي علي صاحب سجلماسة في اتصال اليد به والاتفاق معه على أخيه أبي الحسن
وأن يأخذ كل واحد منهما بحجزته عن صاحبه ويشغله عنه حتى يتمكنا منه ووعده أبو
تاشفين ومناه ولم يزل به حتى انتقض على أخيه ونهض من سجلماسة إلى درعة فقتل عاملها
وولى عليها عاملا من قبله ثم سرح العساكر إلى جهة مراكش وأجلب عليها بخيله ورجله
واتصل الخبر بالسلطان أبي الحسن وهو بمعسكره من تاسالت ينتظر قدوم الحفصي عليه
فانكفأ راجعا إلى الحضرة مجمعا الانتقام من أخيه ولما انتهى في طريقه إلى حصن
تاوريرت شحنه بالعسكر وعقد عليه لابنه تاشفين بن أبي الحسن ووقف أمره على نظر منديل
بن حمامة شيخ بني تيربعين ثم أغذ السير إلى سجلماسة فنزل عليها وأخذ بمخنقها وحشر
الفعلة والصناع لصنع الآلات والبناء بساحتها وأقام عليها يغاديها بالقتال ويراوحها
حولا كاملا ونهض أبو تاشفين في عساكره من تلمسان يريد الغارة على أطراف المغرب كي
يشغل أبا الحسن عن أخيه بذلك فانتهى إلى تاوريرت فبرز إليه تاشفين بن ابي الحسن في
عساكر مرين فهزموه وردوه على عقبه إلى تلمسان ثم بعث بحصة من جنده مددا للأمير أبي
علي فتسربوا إلى سجلماسة جماعات وأفذاذا حتى تكاملوا لديه فلم يغنوا شيئا وطاولهم
السلطان أبو الحسن الحصار أنزل بهم أنواع النكال حتى اقتحم البلد عنوة تاسع عشر
محرم سنة أربع وثلاثين وسبعمائة وتقبض على الأمير أبي علي عند باب قصره وجيء به
إلى أخيه أبي الحسن وقد خامره الجزع فلما مثل بين يديه تضرع إليه وقبل حافر فرسه
فأمر أبو الحسن بتثقيفه وحمله على بغل إلى فاس وانكفأ هو راجعا إلى الحضرة فلما
دخلها اعتقل أخاه ببعض حجر القصر أشهرا ثم قتله فصدا وخنقا وكانت سن أبي علي يومئذ
سبعا وثلاثين سنة وكانت دولته بسجلماسة تسع عشرة سنة وأشهرا وكان رقيق الحاشية
ينتمي إلى الأدب وهو الذي استقدم ابا محمد عبد المهيمن الحضرمي من سبتة واستكتبه أيام
أبيه ومن شعر الأمير أبي علي يخاطب أخاه أبا الحسن أيام حصاره له بسجلماسة وقد
أيقن بزوال أمره
____________________
( فلا يغرنك الدهر الخؤون فكم ** أباد من كان قبلي يا أبا الحسن )
( الدهر مذ كان لا يبقى على صفة ** لابد من فرح فيه ومن حزن )
( أين الملوك التي كانت تهابهم ** أسد العرين ثووا في اللحد والكفن )
( بعد الأسرة والتيجان قد محيت ** رسومها وعفت عن كل ذي حسن )
( فاعمل لأخرى وكن بالله مؤتمرا ** واستغن بالله في سر وفي علن )
( واختر لنفسك أمرا أنت آمره ** كأنني لم أكن يوما ولم تكن ) وفادة السلطان ابن
الأحمر على السلطان أبي الحسن بحضرة فاس وفتح جبل طارق
لما هلك السلطان أبو الوليد إسماعيل بن الرئيس أبي سعيد فرج بن الأحمر المتغلب على
ملك الأندلس من يد ابن عمه أبي الجيوش قام بالأمر بعده ابنه محمد طفلا صغيرا
واستبد عليه وزيره محمد بن المحروق فقتله بعدما شب وعقل وكان الطاغية قد استولى
على جبل الفتح وهو جبل طارق سنة تسع وسبعمائة وزاحم الفرنج به ثغور المسلمين وصار
شجى في صدر الدولتين المرينية والأحمرية واستمر الحال على ذلك إلى أن بويع الأمير
السلطان أبو الحسن وكان له رغبة في الجهاد اقتداء بمذهب جده يعقوب بن عبد الحق
فبادر السلطان محمد بن إسماعيل بن الأحمر إلى الوفادة عليه لإحكام عقد المودة معه
وللمفاوضة في أمر الجهاد وغير ذلك مما فيه صلاح لدولته فقدم عليه بدار ملكه بفاس
سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة فأكبر السلطان أبو الحسن موصله وأركب الناس للقائه
وأنزله بروض المصارة لصق داره واستبلغ في إكرامه وفاوضه ابن الأحمر في شأن
المسلمين وراء البحر وما أهمهم من عدوهم وشكى إليه حال الجبل واعتراضه شجى في صدور
الثغور قبل وشكى إليه أمر بني عثمان بن أبي العلاء لأنهم كانوا قد استطالوا عليه
في أرضه فأشكاه أبو الحسن وعامل الله تعالى في أسباب الجهاد وكان يومئذ مشغولا
بفتنة أخيه أبي علي ومع ذلك فقد أمده بالجند وعقد لابنه أبي مالك
____________________
على خمسة آلاف من آنجاد بني
مرين وأنفذهم مع ابن الأحمر لمنازلة جبل الفتح فاحتل أبو مالك بالجزيرة الخضراء
وتتابعت إليه الأساطيل بالمدد وأرسل ابن الأحمر في الأندلس حاشرين فتسايل الناس
إليه من كل جهة وزحفوا جميعا إلى الجبل وأحاطوا به وأبلوا في منازلته البلاء الحسن
إلى أن فتحوه سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة واقتحمه المسلمون عنوة ونفلهم الله من كان
به من النصارى بما معهم وشرع المسلمون في شحنه بالأقوات ينقلونها من الجزيرة
الخضراء على خيولهم خوفا من كرة العدو وباشر نقلها الأميران أبو مالك وابن الأحمر
بأنفسهما ونقلها الناس عامة وتحيز الأمير أبو مالك إلى الجزيرة الخضراء وترك
بالجبل يحيى بن طلحة بن محلي من وزراء أبيه ووصل الطاغية بعد ثلاث من فتحه فأناخ عليه
وحاصره وبرز أبو مالك بعساكره من الجزيرة فنزل بإزائه وزحف ابن الأحمر فنزل بإزائه
أيضا ثم خاف ابن الأحمر عادية العدو لقرب العهد بارتجاع الجبل وخفة من به من
الحامية والسلاح فبادر إلى لقاء الطاغية وسبق الناس إلى فسطاطة عجلا بائعا نفسه من
الله في رضا المسلمين وسد خلتهم فتلقاه الطاغية راجلا حاسرا إعظاما له وأجابه إلى
ما سأل من الإفراج عن هذا المعقل وأتحفه بذخائر مما لديه وارتحل من فوره وشرع
الأمير أبو مالك في تحصين ذلك الثغر وسد فروجه
وقال أبو العباس المقري في النفخ ارتجع السطلان أبو الحسن جبل طارق بعد أن أنفق
عليه الأموال وصرف إليه الجنود والحشود ونازلته جيوشه مع ولده وخواصه وضيقوا به
إلى أن استرجعوه ليد المسلمين واهتم ببنائه وتحصينه وأنفق عليه أحمال المال في
بنائه وحصنه وسوره وبنى أبراجه وجامعه ودوره ومحاربيه ولما كاد يتم ذلك نازله
العدو برا وبحرا فصبر المسلمون وخيب الله سعي الكافرين فأراد السلطان المذكور أن
يحصن سفح الجبل بسور محيط به من جميع جهاته حتى لا يطمع عدو في منازلته ولا يجد
سبيلا للتضييق عليه بمحاصرته ورأى الناس ذلك من المحال فأنفق الأموال وأنصف العمال
فأحاط بمجموعه إحاطة الهالة بالهلال وكان بقاء هذا الجبل بيد العدو نيفا وعشرين
سنة وحاصره السلطان أبو الحسن ستة
____________________
أشهر وزاد في تحصينه ابنه
السلطان أبو عنان رحمهما الله تعالى
وأما ابن الأحمر فإن أولاد عثمان بن أبي العلاء شيوخ الغزو بالأندلس لما رأوا ما
حصل بينه وبين السلطان أبي الحسن من الوفاق واتصال اليد خافوا أن تعود موافقتهم
بالضرر عليهم إذ كانوا أعداء للدولتين معا أما دولة المغرب فبخروجهم عليهم
ومنابذتهم إياهم غير مرة وأما دولة الأندلس فباستحواذهم على أهلها ومزاحمتهم إياهم
في رياستها فتشاوروا فيما بينهم وفتكوا بابن الأحمر يوم رحيله عن الجبل إلى غرناطة
فتقاصفوه بالرماح وقدموا أخاه ابا الحجاج يوسف بن إسماعيل مكانه فقام بالأمر بعده
وشمر للأخذ بثار أخيه فاحتال على بني أبي العلاء حتى قبض عليهم وأودعهم المطبق ثم
غربهم إلى تونس إلى أن كان من أمرهم ما نذكره فتح تلمسان ومقتل صاحبها أبي تاشفين
وانقراض الدولة الأولى لبني زيان بمهلكه
لما استقام ملك المغرب للسلطان أبي الحسن بمقتل أخيه أبي علي صاحب سجلماسة ونصر
الله جنده على الطاغية بالأندلس تفرغ لشأن تلمسان والانتقام من صاحبها أبي تاشفين
الذي ضايق أصهاره من بني أبي حفص في أرضهم ونازعهم في ملكهم وكان السلطان أبو
الحسن قد بعث لأول بيعته شفعاء إلى أبي تاشفين في أن يتخلى عن عمل الموحدين ويرجع
إلى تخوم أعماله التي ورثها عن سلفه وقال له في جملة ذلك كف عنهم ولو سنة واحدة
ليسمع الناس أني نافحت عن صهري ويقدروا قدري فاستنكف أبو تاشفين من ذلك وأغلظ
للرسل في القول وأفحش بعض السفهاء من عبيده في الرد عليهم بمجلسه ونالوا من
السلطان أبي الحسن بمحضره فعادت الرسل إليه وأعلموه بالقضية على وجهها فحمي لذلك
وغضب وتأكد عزمه على النهوض إلى تلمسان فكان من نهوضه أولا وانتقاض أخيه عليه
وعوده إليه من تاسالت ما قصصناه قبل مستوفى
____________________
ثم عاود السلطان النهوض إلى تلمسان في هذه المرة فعسكر بظاهر فاس الجديد وبعث
وزراءه ووجوه دولته إلى قاصية البلاد المراكشية لحشد القبائل والجموع ثم تعجل وعرض
جنوده وأزاح عللهم وعبى مواكبه وفصل في التعبية من فاس أواسط خمس وثلاثين وسبعمائة
فسار يجر الشوك والمدر من أمم المغرب وجنوده ومر بوجدة فجمر عليها الكتائب للحصار
ثم مر بندرومة فقاتلها بعض يوم ثم اقتحمها عنوة فاستولى عليها وقتل حاميتها ثم سار
على التعبية حتى أناخ على تلمسان ثم بلغه الخبر بتغلب عسكره على وجدة سنة ست
وثلاثين وسبعمائة فأوعز إليهم بتخريب أسوارها فأضرعوها بالأرض وتوافت لديه أمداد
النواحي وحشودها ووفدت عليه قبائل مغراوة وبنى توجين فأتوه طاعتهم وسرح كتائبه إلى
القاصية فتغلب على وهران وهنين ثم على مليانة وتنس والجزائر وغيرها واستولى على
الضواحي ونزع إليه يحيى بن موسى كبير قواد أبي تاشفين وصاحب الثغور الشرقية من
أعماله فلقاه مبرة وكرامة ورفع بساطه ونظمه في طبقات وزرائه وجلسائه وعقد على فتح
البلاد الشرقية ليحيى بن سليمان العسكري شيخ بني عسكر بن محمد وصهر السلطان على
ابنته فسار في الألوية والجنود فطوع ضاحية الشرق وافتتح أمصاره حتى انتهى إلى
لمدية ونظم البلاد في طاعة السلطان أبي الحسن واحتشد جموعها فلحقوا بمعسكره
واستعمل السلطان أبو الحسن عماله على الجهات
واختط بغربي تلمسان البلد الجديد لسكناه ونزول عساكره وأحيا معالم المنصورة التي
كان اختطها عمه يوسف بن يعقوب وخربها بنو زيان من بعده فأدار عليها سياجا من السور
ونطاقا من الخندق ونصب المجانيق وآلات من وراء خندقه وجعلت رماته تنضح رماة العدو
بالنبل ويشغلونهم بأنفسهم حتى شيد برجا آخر يقرب منهم وترتفع شرفاته فوق خندقهم
وتماصع المقاتلة بالسيوف من أعاليه ورتب المجانيق لرجمها وأحكم عملها لدكها فنالت
من ذلك فوق الغاية وعظم أثرها في القصور العظيمة والقباب الرفيعة التي تأنق أبو
تاشفين في تشييدها وكان السلطان أبو الحسن يصبح المقاتلة كل يوم
____________________
ويطوف على البلد من جميع جهاته
لتفقد رؤساء العسكر في مراكزهم وربما انفرد في طوافه فطاف في بعض الأيام منتبذا عن
الحاشية فاهتبل بنو عبد الواد غرته حتى إذا سلك ما بين الجبل والبلد فتحوا أبوابها
وأرسلوا عليه عقبان جنودهم يحسبونها فرصة كالتي كانت ليغمراسن بن زيان في السعيد
الموحدي واضطروه إلى سفح الجبل حتى لحق بأوعاره وكاد ينزل عن فرسه هو ووليه عريف
بن يحيى أمير عرب سويد وأحس أهل المعسكر بذلك فركبوا زرافات ووحدانا وركب ابناه
الأميران أبو عبد الرحمن وأبو مالك وهما جناحا عسكره وعقابا جحافله وتهاوت إليهم
صقور بني مرين من كل جو فانكشفت عساكر بني عبد الواد وولوا الأدبار منهزمين لا
يلوي أحد منهم على أحد واعترضهم مهوى الخندق فتطارحوا فيه وتهافتوا على ردمه فكان
الهالك يومئذ فيه أكثر من الهالك بالسلاح وهلك من بني توجين يومئذ عمر بن عثمان
كبير الحشم وعامل جبل وانشريس ومحمد بن سلامة بن علي كبير بني يدللتن وصاحب قلعة
تاوغروت وهما ما هما في زناتة إلى أشباه لهما استلحموا في هذه الوقعة فحص هذا
اليوم من جناج دولة بني زيان وحطم منها واتصل الحصار مدة من ثلاث سنين حتى إذا كان
السابع والعشرون من رمضان من سنة سبع وثلاثين وسبعمائة اقتحم السلطان أبو الحسن
مدينة تلمسان عنوة ووقف أبو تاشفين رحمه الله عند باب قصره في جماعة من أصحابه
منهم ولداه عثمان ومسعود ووزيره موسى بن علي ووليه عبد الحق بن عثمان وهو الذي كان
خرج على السلطان أبي الربيع وبايعه عبد الرحمن بن يعقوب الوطاسي حسبما مر فإنه لحق
به بعد تلك الوقعة بتلمسان ثم منها إلى الأندلس ثم حضر انتقاض العزفي بسبتة سنة ست
عشرة كما مر ثم لحق بأبي بكر الحفصي ثم نزع عنه إلى أبي تاشفين واستمر عنده إلى
هذا اليوم فشهده في جماعة من بنيه وبني أخيه وكانوا أحلاس حرب وفتيان كريهة
فمانعوا دون القصر واستماتوا عليه إلى أن استلحموا ورفعت رؤوسهم على عصا الرماح
فطيف بها وغصت سكك البلد من داخلها وخارجها بالعساكر وكظت أبوابها بالزحام حتى لقد
كب الناس على أذقانهم
____________________
وتواقعوا على مساربهم فوطئوا
بالحوافر وتراكمت أشلاؤهم ما بين البابين حتى ضاق المسلك ما بين السقف ورحبة الباب
وانطلقت الأيدي على المنازل نهبا واكتساحا
وأما أبو تاشفين فإنه قاتل حتى قتل ابناه عثمان ومسعود أمامه وخلصت إليه جراحات
فأثخنته وتقبض عليه بعض الفرسان فساقه إلى السلطان فلقيه ابنه الأمير أبو عبد
الرحمن فأمر به فقتل في الحين واحتز رأسه وسخط السلطان ذلك من فعله لأنه كان حريصا
على توبيخه وتقريعه وقال ابن الخطيب وقف أبو تاشفين وبنوه بإزاء القصر مدافعين عن
أنفسهم وقاموا مقام الصبر والإستجماع وصدقوا عن أنفسهم الدفاع إلى أن كوثروا
وأعجلتهم ميتة العز عن شد الوثاق وإمكان الشمات فكان في شأنهم عبرة رحمهم الله
وخلص السلطان أبو الحسن إلى المسجد الجامع بحاشيته واستدعى شيوخ الفتيا بتلمسان
وهما الإمامان الشهيران أبو زيد عبد الرحمن وأبو موسى عيسى ابنا الإمام فخلصوا
إليه بعد الجهد ووعظوه وذكروه بما نال الناس من النهب والعيث فركب لذلك بنفسه وسكن
الناس وقبض أيدي الجند عن الفساد وعاد إلى معسكره بالبلد الجديد وقد كمل الفتح وعز
النصر واستولى السلطان أبو الحسن على تلك الإمارة المؤثلة بما اشتملت عليه من نفيس
الحلى وثمين الذخيرة وفاخر المتاع وخطير العدة وبديعة الآلة وصامت المال وضروب
الرقيق وصنوف الأثاث والماعون ورفع القتل عن بني عبد الواد أعدائه وشفا نفسه بقتل
سلطانهم وعفا عنهم وأثبتهم في الديوان وفرض لهم العطاء واستتبعهم على راياتهم
ومراكزهم وجمع كلمة بني واسين من بني مرين وبني عبد الواد وبني توجين وسائر زناتة
وصاروا عصبا تحت لوائه وسد بكل طائفة منهم ثغرا من أعماله فأنزل منهم بقاصية السوس
وبلاد غمارة وأجاز منهم إلى ثغور عمله بالأندلس حامية ومرابطين واندرجوا في جملته
واتسع نطاق مملكته وأصبح أبو الحسن ملك زناتة بعد أن كان ملك بني مرين وسلطان
العدوتين بعد أن كان سلطان المغرب فقط { إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده
والعاقبة للمتقين }
____________________
مراسلة السلطان أبي الحسن
لسلطان مصر وبعثه المصاحف من خطه إلى المساجد الثلاثة شرفها الله
كان للسلطان أبي الحسن مذهب ورأى في ولاية ملوك المشرق والمكلف بالمعاهد الشريفة
اقتداء في ذلك بعمه يوسف بن يعقوب وغيره من سلفه وضاعف ذلك لديه متين ديانته ورفيع
همته ولما قضى من أمر تلمسان ما قضى واستولى على المغربين خاطب لحينه صاحب مصر
والشام والحجاز الملك الناصر محمد بن قلاوون وعرفه بالفتح وارتفاع العوائق عن ركب
الحاج في سابلتهم وكان سفيره في ذلك فارس بن ميمون بن وردار وعاد بجواب الكتاب
وتقرير المودة بين الخلف كما كانت بين السلف فأجمع السلطان أبو الحسن حينئذ على
كتب نسخة عتيقة من المصحف الكريم بخط يده ليوقفها بالحرم الشريف حرم مكة قربة إلى
الله تعالى وابتغاء للمثوبة فانتسخها بيده وجمع الوراقين لتنميقها وتذهيبها
والقراء لضبطها وتهذيبها وصنع لها وعاء مؤلفا من الآبنوس والعاج والصندل فائق
الصنعة وغشي بصفائح الذهب ورصع بالجوهر والياقوت واتخذ له أصونة الجلد المحكمة
الصنعة المرقوم أديمها بخطوط الذهب ومن فوقها غلائف الحرير والديباج وأغشية الكتان
وأخرج من خزائنه أملا عينها لشراء الضياع بالمشرق لتكون وقفا على القراء فيها
وأوفد على الملك الناصر خواص مجلسه وكبار أهل دولته مثل عريف بني حيى أمير بني
زغبة من عرب بني هلال ومثل السابق المقدم في بساطه على كل خالصة عطية بن مهلهل بن
يحيى كبير أخواله من عرب الخلط وبعث كاتبه أبا الفضل بن محمد بن أبي مدين وعريف
الوزعة ببابه الشيخ أبا محمد عبد الله بن قاسم المزوار
واحتفل في الهدية للسلطان صاحب مصر احتفالا تحدث الناس به دهرا قال ابن خلدون وقفت
على برنامج الهدية بخط أبي الفضل بن أبي مدين الرسول المذكور ووعيته ثم أنسيته
وذكر لي بعض قهارمة الدار أنه كان فيها خمسمائة من
____________________
عتاق الخيل المقربات بسروج
الذهب والفضة ولجمها خالصا ومغشى ومموها وخمسمائة حمل من متاع المغرب وماعونه
وأسلحته ومن نسج الصوف المحكم ثيابا وأكسية وبرانس وعمائم وإزرا معلمة وغير معلمة
ومن نسج الحرير الفائق المعلم بالذهب ملونا وغير ملون وساذجا ومنمقا ومن الدرق
المجلوبة من بلاد الصحراء المحكمة الدبغ المنسوبة إلى الملط ومن خرثي المغرب وما
عونة ما تستطرف صناعته بالمشرق حتى لقد كان فيها مكيل من حصى الجوهر والياقوت
واعتزمت حظية من حظايا أبيه على الحج في ذلك الركب فأذن لها واستبلغ في تكرمتها
واستوصى بها وفده وسلطان مصر في كتابه وفصلوا من تلمسان سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة
ووصلوا إلى مصر في الثاني والعشرين من رمضان من السنة المذكورة وأدوا رسالتهم إلى
الملك الناصر وقدموا هديتهم إليه فقبلها وحسن موقعها لديه وكان يوم وفادتهم عليه
بمصر يوما مشهودا تحدث الناس به دهرا ولقاهم سلطان مصر في طريقهم أنواع البر
والكرامة حتى قضوا فرضهم ووضعوا المصحف الكريم حيث أمرهم صاحبه وأسنى الملك الناصر
هدية السلطان من الفساطيط المشرقية الغريبة الشكل والصنعة بالمغرب ومن ثياب
الإسكندرية البديعة النسج المرقومة بالذهب ورجعهم بها إلى مرسلهم وقد استبلغ في
تكرمتهم وصلتهم وبقي حديث هذه الهدية مذكورا بين الناس لهذا العهد اه كلام ابن
خلدون ببعض إيضاح
وقد ذكر الإمام الخطيب أبو عبد الله بن مرزوق في كتابه المسند الصحيح الحسن من
أخبار السلطان أبي الحسن هذه الهدية وفصل منها بعض ما أجمله إبن خلدون فقال أرسل
السلطان أبو الحسن للناصر بن قلاوون صاحب الديار المصرية من أحجار الياقوت العظيم
القدر و الثمن ثمانمائة وخمسة وعشرين ومن الزمرد مائة وثمانية وعشرين ومن الزبرجد
مائة وثمانية وعشرين ومن الجوهر النفيس الملوكي ثلاثمائة وأربعة وستين وأرسل حللا
كثيرة منها مذهبة ثلاثة عشر ومن الأنان عشرين مذهبة ومن الخلادي ستة وأربعين ومن
القنوع ستة وعشرين مذهبة ومن المحرارت المختمة ثمانمائة ومن الرصان عشرين شقة ومن
الأكسية المحررة أربعة وعشرين ومن
____________________
البرانس المحررة ثمانية عشر
ومن المشقفات مائة وخمسين ومن أحارم الصوف المحررة عشرين ومن شقق الملف الرفيع ستة
عشر ومن الفضالي المنوعة والفرش والمخاد المنبوق والحلل ثمانمائة ومن أوجه اللحف
المذهبة عشرين وحائطين حلة وحنابل مائة واثني عشر كلها حرير وفرش جلد مخروز بالذهب
والفضة ومن السيوف المحلات بالذهب المنظم بالجوهر عشرة والسروج عشرة بركب الذهب
كذلك ومهاميز الذهب وثلاثة ركب فضة وستة مزججة ومذهبة ومضمتان من ذهب مما يليق
بالملوك وشاشية حديد بذهب مكلل بالجوهر ومن لزمات الفضة عشرة وسروج مخروزة بالفضة
عشرة وعشر علامات مغشاة مذهبة وعشر رايات مذهبة وعشر براقع مذهبة وعشر أمثلة
مرقومة وثلاثون جلدا شرك وأربعة آلاف درقة لمط منها مائتان بنهود الذهب وثمانمائة
بنهود الفضة وخباء قبة كبيرة من مائة بنيقة لها أربعة أبواب وقبة أخرى مضربة من ست
وثلاثين بنيقة مبطنة بحلة مذهبية وهي من حرير أبيض ومرابطها حرير ملون وعمودها عاج
وآبنوس وأكبارها من فضة مذهبة ومن البزات الأحرار المنتقات أربعة وثلاثين ومن عتاق
الخيل العراب ثلاثمائة وخمسا وثلاثين ومن البغال الذكور والإناث مائة وعشرين ومن
الجمال سبعمائة وتوجهت مع هذه الهدية أمم برسم الحج مع الربعة المكرمة يعني ربعة
المصحف الكريم وأعطى السلطان الحرة أم أخته أم ولد أبيه مريم ثلاثة آلاف وخمسمائة
ذهبا ولقاضي الركب ثلاثمائة وكسوة ولقائد الركب أربعمائة وكساوى متعددة وبغلات
وللرسول المعين للهدية ألفا ولشيخ الركب أحمد بن يوسف بن أبي محمد صالح خمسمائة
ولجماعة الضعفاء من الحجاج ستمائة وبرسم العطاء للعرب ثلاثة آلاف وثمانمائة ولشراء
الرباع ستة عشر ألفا وخمسمائة ذهبا اه وذكر في الكتاب المذكور أن السلطان أبا
الحسن أهدى هدايا غير هذه لكثير من الملوك منها لصاحب الأندلس صلة وصدقة وهدية في
مرات ومنها لملوك النصارى بعد هداياهم ومنها لسلاطين السودان كصاحب مالي ومنها
لصاحب إفريقية ومنها لصاحب تلمسان اه وقال العلامة المقريزي مؤرخ مصر في كتاب
السلوك ما نصه
____________________
وفي ثاني وعشرين من رمضان سنة
ثمان وثلاثين وسبعمائة قدمت الحرة من عند السلطان أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب
المريني صاحب فاس تريد الحج ومعها هدية جليلة إلى الغاية نزل لحملها من الأسطول
السلطاني ثلاثون قطارا من بغال النقل سوى الجمال وكان من جملتها أربعمائة فرس منها
مائة حجرة ومائة فحل ومائتا بغل وجميعها بسروج ولجم مسقطة بالذهب والفضة وبعضها
سروجها وركبها ذهب وكذلك لجمها وعدتها اثنان وأربعون رأسا منها سرجان من ذهب مرصع
بجوهر وفيها اثنان وثلاثون بازا وفيها سيف قرابه ذهب مرصع وحياصة ذهب مرصع وفيها
مائة كساء وغير ذلك من القماش العالي وكان قد خرج المهمندار إلى لقائهم وأنزلهم
بالقرافة قريب مسجد الفتح وهم جمع كثير جدا وكان يوم طلوع الهدية من الأيام
المذكورة ففرق السلطان الهدية على الأمراء بأسرهم على قدر مراتبهم حتى نفدت كلها
سوى الجوهر واللؤلؤ فإنه اختص به فقدرت قيمة هذه الهدية بما يزيد على مائة ألف
دينار ثم نقلت الحرة إلى الميدان بمن معها ورتب لها من الغنم والدجاج والسكر
والجلواء والفاكهة في كل يوم بكرة وعشية ما عمهم وفضل عنهم فكان مرتبهم كل يوم عدة
ثلاثين رأسا من الغنم ونصف أردب أرزا وقنطارا حب رمان وربع قنطار سكرا وثمان
فانوسيات شمعا وتوابل الطعام وحمل إليها برسم النفقة مبلغ خمسة وسبعين ألف درهم
وأجرة حمل أثقالهم مبلغ ستين ألف درهم ثم خلع على جميع من قدم مع الحرة فكانت عدة
الخلع مائتين وعشرين خلعة على قدر طبقاتهم حتى خلع على الرجال الذين قادوا الخيول
وحمل إلى الحرة من الكسوة ما يجل قدره وقيل لها أن تملي ما تحتاج إليه ولا يعوزها
شيء وإنما تريد عناية السلطان إكرامها وإكرام من معها حيث كانوا فتقدم السلطان إلى
النشو وإلى الأمير أحمد إن بغى بتجهيزها اللائق بها فقاما بذلك واستخدما لها
السقائين والضوئية وهيأ كل ما تحتاج إليه في سفرها من أصناف الحلاوات والسكر
والدقيق والبجماط وطلبا الحمالة لحمل جهازها وأزودتها وندب السلطان للسفر معها
جمال الدين متولي الجيزة وأمره أن يرحل بها في مركب لها
____________________
بمفردها قدام المحمل ويمتثل
كلما تأمر به وكتب لأميري مكة والمدينة بخدمتها أتم خدمة اه وفيه بعض مخالفة لما
وصفه ابن مرزوق في الهدية والخطب سهل
ثم انتسخ السلطان أبو الحسن رحمه الله نسخة أخرى من المصحف الكريم على القانون
الأول ووقفها على القراء بالمدينة وبعث بها من تخيره لذلك العهد من أهل دولته سنة
أربعين وسبعمائة وفعل مثل ذلك بحرم بيت المقدس قال العلامة أبو العباس المقري في
نفح الطيب كان السلطان أبو الحسن المريني قد كتب ثلاثة مصاحف شريفة بخطه وأرسلها
إلى المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال ووقف عليها أوقافا جليلة كتب سلطان مصر
والشام توقيعه بمسامحتها من إنشاء الأديب الشهير جمال الدين بن نباتة المصري ونص
ما يتعلق به الغرض منه هنا قوله
وهو الذي مد يمينه بالسيف والقلم فكتب في أصحابها وسطر الختمات الشريفة فأيد الله
حزبه بما سطره من أحزابها واتصلت ملائكة النصر بلوائه تغدو وتروح وكثرت فتوحه
لأملياء الغرب فقالت أوقاف الشرق لا بد للفقراء من فتوح ثم وصلت ختمات شريفة كتبها
بقلمه المجيد المجدي وخط سطورها بالعربي وطالما خط في صفوف الأعداء بالهندي ورتب
عليها أوقافا تجري أقلام الحساب في إطلاقها وطلقها وحبس أملاكا شامية تحدث بنعم
الأملاك التي سرت من مغرب الأرض إلى مشرقها والله تعالى يمتع من وقف هذه الختمات
بما سطر له في أكرم الصحائف وينفع الجالس من ولاة الأمور في تقريرها ويتقبل من
الواقف اه قال المقري وقد رأيت أحد المصاحف المذكورة وهو الذي ببيت المقدس وربعته
في غاية الصنعة اه والله تعالى أعلم
واتصلت الولاية بين السلطان أبي الحسن وبين الملك الناصر إلى أن هلك سنة إحدى
وأربعين وسبعمائة وولي أمر مصر من بعده ابنه أبو الفداء إسماعيل بن محمد بن قلاوون
فخاطبه السلطان أبو الحسن أيضا على ما نذكره بعد إن شاء الله
____________________
نكبة الأمير أبي عبد الرحمن
يعقوب ابن السلطان أبي الحسن وفرار وزيره زيان بن عمر الوطاسي والسبب في ذلك
كان السلطان أبو الحسن رحمه الله عندما نهض إلى تلمسان أولا وثانيا ينتظر قدوم
صهره السلطان أبي بكر بن أبي زكرياء الحفصي عليه لما كان انعقد بينه وبين أبيه أبي
سعيد رحمه الله من الاجتماع على تلمسان والتعاون على حصارها ولما فتح أبو الحسن
تلمسان في التاريخ المتقدم كان وزير الحفصيين الشيخ أبو محمد بن تافرجين شاهدا
لذلك الفتح قدم رسولا من عند مخدومه السلطان أبي بكر المذكور فأسر إلى السلطان أبي
الحسن بأن مخدومه قادم عليه للقائه وتهنئته بالظفر بعدوه فتشوف السلطان أبو الحسن
إليها لما كان يحب الفخر ويعنى به وارتحل عن تلمسان سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة
وعسكر بمتيجة منتظرا لوفادة صهره عليه فتكاسل الحفصي عن القدوم بسبب تثبيط محمد بن
الحكيم من رجال دولته إياه عن ذلك وقال له إن لقاء سلطانين لا يتفق إلا في يوم على
أحدهما فكره الحفصي ذلك وتقاعد عنه وطال مقام السلطان أبي الحسن في انتظاره ثم
طرقه بفسطاطه مرض ألزمه الفراش حتى تحدث أهل العسكر بمهلكه
وكان ابناه الأميران أبو عبد الرحمن وأبو مالك متناغيين في ولاية عهد منذ أيام
جدهما أبي سعيد وكان أبوهما قد جعل لهما لأول دولته ألقاب الإمارة وأحوالها من
اتخاذ الوزراء والكتاب ووضع العلامة وتدوين الدواوين وإثبات العطاء واستلحاق
الفرسان وانفراد كل بعسكره على حدة وجعل لهما مع ذلك الجلوس بمقعد فصله مناوبة
لتنفيذ الأوامر السلطانية فكانا لذلك رديفين له في سلطانه ولما اشتد وجع السلطان
في هذه المرة تمشت سماسرة الفتن بينهما وتحزب أهل العسكر لهما حزبين وشوشوا
بواطنهما فبث كل واحد منهما المال وحمل على المقربات وصار الجيش شيعا وهم الأمير
أبو عبد الرحمن بالتوثب على الأمر قبل أن يتبين حال السلطان بإغراء
____________________
وزرائه وبطانته بذلك وتفطن
خاصة السلطان لما وقع فأخبروه الخبر وحضوه على الخروج إلى الناس قبل أن يتفاقم
الأمر ويتسع الخرق فبرز السلطان إلى فسطاط جلوسه وتسامع أهل المعسكر به فازدحموا
إلى بساطة وتقبيل يده وتقبض على أهل الظنة من الجيش فأودعهم السجن وسخط على الأميرين
وأمر برحيل من كان معهما من الجند فردهم إلى معسكره ثم رجع إلى فسطاطه وطفئت نار
الفتنة وسكن سعي المفسدين وانتبذ الناس عن الأميرين المذكورين فبقيا أوحش من وتد
بقاع فاشتد جزع الأمير أبي عبد الرحمن وركب من فسطاطه وخاض الليل فأصبح بحلة أولاد
على أمراء بني زغبة من هلال الموطنين بأرض حمزة فتقبض عليه أميرهم موسى بن أبي
الفضل ورده إلى أبيه فاعتقله بوجدة ورتب العيون لحراسته ولحق وزيره زيان بن عمر
الوطاسي بالموحدين أصحاب تونس فأجاروه ورضي السلطان صبيحة فرار أبي عبد الرحمن عن
أخيه أبي مالك وعقد له على ثغور عمله بالأندلس وصرفه إليها وانكفأ راجعا إلى
تلمسان والله أعلم ثورة ابن هيدور الجزار وما كان من أمره
لما تقبض السلطان أبو الحسن على ابنه عبد الرحمن وأودعه السجن تفرق خدمه وحشمه في
الجهات وكان منهم رجل جزار مرتب في مطبخه يعرف بابن هيدور وكان له شبه في الصورة
بأبي عبد الرحمن فلحق ببني عامر بن زغبة وكانوا لذلك العهد منحرفين عن طاعة
السلطان أبي الحسن لاختصاصه عريف بن يحيى أمير بني سويد أعدائهم فلما لحق بهم ابن
هيدور هذا انتسب لهم إلى السلطان أبي الحسن وأنه ابنه أبو عبد الرحمن فشبه لهم
وبايعوه وأجلبوا به على نواحي لمدية فبرز إليهم قائدها فهزموه ثم جمع لهم ونزمار
بن عريف بن يحيى فهزمهم وافترق جمعهم ونبذوا للجزار عهده فلحق ببني يزناتن من
زواوة فنزل على شيختهم شمسي من بني
____________________
عبد الصمد منهم وكانت هذه
المرأة قد ملكتهم وغلبت عليهم بقومها ورجالها وكان لها بنون عشرة فاستفحل أمرها
بهم ولما نزل عليها الجزار المذكور وانتسب لها إلى السلطان أبي الحسن قامت بأمره
وشمرت عزائمها لإجارته وحملت قومها على طاعته وشاع في الناس خبره فمن مصدق ومن
مكذب وسرب السلطان أبو الحسن الأموال في قومها وبنيها على إسلامه إليه فأبت ثم نمى
إليها الخبر بكذبه وتمويهه فنبذت إليه عهده وخرج عنها إلى بلاد العرب فلحق
بالذواودة أمراء رياح من بني هلال ونزل على سيدهم يعقوب بن علي وانتسب له في مصل
ذلك فأجاروه إن صدق نسبه وأوعز السلطان أبو الحسن إلى صهره أبي بكر الحفصي في شأن
الجزار فبعث الحفصي إلى يعقوب بن علي في ذلك فأشخصه إلى السلطان أبي الحسن مع بعض
حاشيته فلحق به بمكانه بسبتة يريد الجهاد فامتحنه وقطعه من خلاف وانحسم داؤه وبقي
المغرب تحت جراية من الدولة إلى أن هلك في بعض السنين وأما الأمير أبو عبد الرحمن
فإنه لما سجن بوجدة بقي هنالك إلى سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة فوثب ذات يوم
بالسجان فقتله واتصل الخبر بالسلطان أبي الحسن فأنفذ حاجبه علان بن محمد فقضى عليه
رحم الله الجميع أخبار السلطان أبي الحسن في الجهاد وما كان من وقعة طريف التي محص
الله فيها المسلمين وغير ذلك
لما فرغ السلطان أبو الحسن من شأن عدوه وعلت على الأيدي يده وانفسح نطاق ملكه دعته
همته إلى الجهاد وكان كلفا به فأوعز إلى ابنه الأمير أبي مالك أمير الثغور
الأندلسية سنة أربعين وسبعمائة بالدخول إلى دار الحرب وجهز إليه العساكر من حضرته
وأنفذ إليه الوزراء فشخص أبو مالك غازيا وتوغل في بلاد النصرانية واكتسحها وخرج
بالسبي والغنائم إلى أدنى صدر من أرضهم وأناخ بها فاتصل به الخبر أن النصارى قد
جمعوا له وأنهم
____________________
أغذو السير في اتباعه فأشار
عليه الملأ بالخروج من أرضهم وعبور الوادي الذي كان تخما بين أرض المسلمين ودار
الحرب ويتحيز إلى مدن المسلمين فيمتنع بها فلج في إبايته وصمم على التعريس وكان
قرما ثبتا إلا أنه غير بصير بالحرب لصغر سنه فصحبتهم عساكر النصرانية في مضاجعهم
قبل أن يركبوا وخالطوهم في بياتهم وأدركوا الأمير أبا مالك بالأرض قبل أن يستوي
على فرسه فجدلوه واستلحموا الكثير من قومه واحتووا على المعسكر بما فيه من أموال
المسلمين وأموالهم ورجعوا على اعقابهم واتصل الخبر بالسلطان أبي الحسن فتفجع لهلاك
ابنه واسترحم له واحتسب عند الله أجره ثم أنفذ وزراءه إلى سواحل المغرب لتجهيز
الأساطيل وفتح ديوان العطاء وعرض الجنود وأزاح عللهم واستنفر أهل المغرب كافة ثم ارتحل
إلى سبتة ليباشر أحوال الجهاد وتسامعت به أمم النصرانية فاستعدوا للدفاع وأخرج
الطاغية أسطوله إلى الزقاق ليمنع السلطان من الإجازة واستحث السلطان أساطيل
المسلمين من مراسي المغرب وبعث إلى أصهاره الحفصيين بتجهيز أسطولهم إليه فعقدوا
عليه لزيد بن فرحون قائد أسطول بجاية ووافى سبتة في ستة عشر أسطولا من أساطيل
إفريقية كان فيها من طرابلس وقابس وجربة وتونس وبونة وبجاية وتوافت أساطيل
المغربين بمرسى سبتة تناهز المائة وعقد السلطان عليها لمحمد بن علي العزفي الذي
كان صاحب سبتة يوم فتحها أيام السلطان أبي سعيد وأمره بمناجزة أسطول النصارى
بالزقاق وقد تكامل عديدهم وعدتهم فاستلأموا وتظاهروا في السلاح وزحفوا إلى أسطول
النصارى وتواقفوا مليا ثم قربوا الأساطيل بعضها من بعض وقرنوها للمصاف فلم يمض إلا
كلا ولا حتى هبت ريح النصر وأظفر الله المسلمين
____________________
بعدوهم وخالطوهم في أساطيلهم
واستلحموهم هبرا بالسيوف وطعنا بالرماح وألقوا أشلاءهم في اليم وقتلوا قائدهم
الملند واستاقوا أساطيلهم مجنوبة إلى مرسى سبتة فبرز الناس لمشاهدتها وطيف بكثير
من رؤوسهم في جوانب البلد ونظمت أصفاد الأسرى بدار الإنشاء وعظم الفتح وجلس
السلطان للتهنئة وأنشد الشعراء بين يديه وكان ذلك يوم السبت سادس شوال سنة أربعين
وسبعمائة فكان من أعز أيام الإسلام ثم شرع السلطان أبو الحسن في إجازة العساكر من
المتطوعة والمرتزقة وانتظمت الأساطيل سلسلة واحدة من العدوة إلى العدوة ولما
تكاملت العساكر بالعبور وكانت نحو ستين ألفا أجازهو في أسطوله مع خاصته وحشمه آخر
سنة أربعين وسبعمائة ونزل بساحة طريف وأناخ عليها ثالث محرم من السنة بعدها وشرع
في منازلتها ووافاه سلطان الأندلس أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل بن الأحمر في عسكر
الأندلس من غزاة بني مرين وحامية الثغور ورجالة البدو فعسكروا حذاء معسكره وأحاطوا
بطريف نطاقا واحدا وأنزلوا بها أنواع القتال ونصبوا عليها الآلات وجهز الطاغية
أسطولا آخر اعترض به الزقاق لقطع المرافق عن المعسكر وطال مقام المسلمين بمكانهم
حول طريف ففنيت أزوادهم وقلت العلوفات فوهن الظهر واختلت أحوالهم ثم احتشد الطاغية
أمم النصرانية وظاهره البرتقال صاحب أشبونة وغرب الأندلس وزحفوا إلى المسلمين لستة
أشهر من نزولهم على طريف ولما قرب الطاغية من معسكر المسلمين سرب إلى طريف جيشا من
النصارى أكمنه بها إلى وقت الحاجة إليه فدخلوها ليلا على حين غفلة من العسس الذين
أرصدوا لهم وأحسوا بهم آخر الليل فثاروا بهم من مراصدهم وأدركوا أعقابهم قبل دخول
البلد فقتلوا منهم عددا وقد نجا أكثرهم فلبسوا على السلطان أنه لم يدخل البلد
سواهم حذرا من سطوته ثم زحف الطاغية من الغد في جموعه إلى المسلمين وعبأ السلطان
مواكبه صفوفا وتزاحفوا ولما نشبت الحرب برز الجيش الكمين من البلد وهو الذي
____________________
دخل ليلا وخالفوا المسلمين إلى
معسكرهم وعمدوا إلى فسطاط السلطان فدافعهم عنه الناشبة الذين كانوا على حراسته
فاستلحموهم لقلتهم ثم دافعهم النساء عن أنفسهم فقتلوهن كذلك وخلصوا إلى حظايا
السلطان منهن عائشة بنت عمه أبي بكر بن يعقوب بن عبد الحق وفاطمة بنت السلطان أبي
بكر بن أبي زكرياء الحفصي وغيرهما من حظاياه فقتلوهن واستلبوهن ومثلوا بهن
وانتهبوا سائر الفسطاط وأضرموا المعسكر نارا ثم أحس المسلمون بما وراءهم في
معسكرهم فاختل مصافهم وارتدوا على أعقابهم بعد أن كان تاشفين ابن السلطان أبي
الحسن صمم في طائفة من قومه وحاشيته حتى خالطهم في صفوفهم فأحاطوا به وتقبضوا عليه
وعظم المصاب بأسره وكان الخطب على الإسلام قلما فجع بمثله وذلك ضحوة يوم الاثنين
سابع جمادى الآخرة من سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وولى السلطان أبو الحسن متحيزا إلى
فئة المسلمين واستشهد كثير من الغزاة وتقدم الطاغية حتى انتهى إلى فسطاط السلطان
من المحلة فأنكر قتل النساء والولدان وكان ذلك منتهى أثره ثم انكفأ راجعا إلى
بلاده ولحق ابن الأحمر بغرناطة وخلص السلطان أبو الحسن إلى الجزيرة الخضراء ثم
منها إلى جبل الفتح ثم ركب الأسطول إلى سبتة في ليلة غده ومحص الله المسلمين وأجزل
ثوابهم استيلاء العدو على الجزيرة الخضراء
لما رجع الطاغية من طريف استأسد على المسلمين بالأندلس وطمع في التهامهم وجمع
عساكر النصرانية ونازل أولا قلعة بني سعيد ثغر غرناطة وعلى مرحلة منها وجمع الآلات
والأيدي على حصارها وأخذ بمخنقها فأصابهم الجهد من العطش فنزلوا على حكمة سنة
اثنتين وأربعين وسبعمائة وأدال الله الطيب منها بالخبيث وانصرف الطاغية إلى بلاده
وكان السلطان أبو الحسن لما أجاز إلى سبتة أخذ نفسه بالعود إلى الجهاد لرجع الكرة
فأرسل في المدائن حاشرين وأخرج قواده إلى سواحل المغرب لتجهيز الأساطيل فتكامل
____________________
له منها عدد معتبر ثم ارتحل
إلى سبتة لمشارفة ثغور الأندلس وقدم عساكره إليها مع وزيره عسكر بن تاحضريت وعقد
على الجزيرة الخضراء لمحمد بن العباس بن تاحضريت من قرابة الوزير وبعث إليها مددا
من العسكر مع موسى بن إبراهيم اليريناني من المرشحين للوزارة نيابة وبلغ الطاغية
خبره فجهز أسطوله وأجراه إلى بحر الزقاق لمدافعته وتلاقت الأساطيل ومحص الله
المسلمين واستشهد منهم أعداد وتغلب اسطول الطاغية على بحر الزقاق فملكه دون
المسلمين وأقبل الطاغية من إشبيلية في عساكر النصرانية حتى أناخ بها على الجزيرة
الخضراء مرفأ أساطيل المسلمين وفرضة المجاز ورجا أن ينظمها في مملكته مع جارتها
طريف وحشر الفعلة والصناع للآلات وجمع الأيدي عليها وطاولها الحصار واتخذ أهل
المعسكر بيوتا من الخشب للمطاولة وجاء السطلان أبوالحجاج بن الأحمر بعساكر الأندلس
فنزل قبالة الطاغية بظاهر جبل الفتح في سبيل الممانعة وأقام السلطان أبو الحسن
بمكانه من سبتة يسرب إلى أهل الجزيرة المدد من الفرسان والمال والقوت في أوقات
الغفلة من أساطيل العدو تحت جناح الليل وأصيب كثير من المسلمين في ذلك ولم يغن على
أهل الجزيرة ذلك المدد شيئا واشتد عليهم الحصار وأصابهم الجهد وأجاز السلطان أبو
الحجاج إلى السلطان أبي الحسن يفاوضه في شأن السلم مع الطاغية بعد أن أذن الطاغية
له في الإجازة مكرا بها وأصدر له بعض الأساطيل في طريقه فصدقهم المسلمون القتال
وخلصوا إلى الساحل بعد غص الريق وضاقت أحوال أهل الجزيرة ومن كان بها من عسكر
السلطان فسألوا الطاغية الأمان على أن ينزلوا له عن البلد فبذله لهم وخرجوا فوفى
لهم وأجازوا إلى المغرب سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة فأنزلهم السلطان ببلاده على خير
نزل ولقاهم من المبرة والكرامة ما عوضهم بما فاتهم وخلع عليهم وحملهم ووصلهم بما
تحدث الناس به وتقبض على وزيره عسكر بن تاحضريت عقوبة له على تقصيره في المدافعة
مع تمكنه منها وانكفأ السلطان أبو الحسن راجعا إلى حضرته موقنا بظهور أمر الله
وإنجاز وعده والله متم نوره ولو كره الكافرون
____________________
بقية أخبار بني أبي العلاء
قد تقدم لنا أن عثمان بن أبي العلاء كان يلي مشيخة الغزاة بالأندلس وأنه استشهد
سنة ثلاثين وسبعمائة وقام بأمره ابنه أبو ثابت فاستحوذ بعصبيته وقومه على بني
الأحمر فقتلوا محمد بن إسماعيل منهم مرجعه من فتح جبل الفتح ونصبوا للأمر أخاه
يوسف بن إسماعيل حسبما تقدم الإلماع بذلك ثم إن السلطان أبا الحجاج هذا بقي بين
جنبيه داء دخيل من بني أبي العلاء الذين فتكوا بأخيه فلم يزل يسعى في أمرهم حتى
قبض عليهم وأودعهم المطبق ثم غربهم إلى تونس فنزلوا على السلطان أبي بكر بن أبي
زكريا الحفصي واتصل الخبر بالسلطان أبي الحسن فكتب إليه باعتقالهم ففعل ثم بدا له
فبعث إليه مع عريف الوزعة ببابه ميمون بن بكرون في إشخاصهم إلى حضرته فتوقف الحفصي
عن ذلك وأبى من إخفار ذمتهم فأشار عليه وزيره أبو محمد بن تافراجين ببعثهم إليه
وأنه لا يريد بهم إلا الخير فبعثهم وبعث كتابه بالشفاعة فيهم فقدموا على السلطان
أبي الحسن مرجعه من الجهاد سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة فتلقاهم بالبر والكرامة
إكراما لشفيعهم وأنزلهم بمعسكره وحملهم على الخيول المسومة بالمراكب الثقيلة وضرب
لهم الفساطيط وأسنى لهم الخلع والجوائز وفرض لهم في أعلى رتب العطاء وصاروا في جملته
ولما احتل بسبتة لمشارفة أحوال الجزيرة الخضراء سعى عنده فيهم بأن كثيرا من
المفسدين يداخلونهم في الخروج والتوثب على الأمر فتقبض عليهم وأودعهم السجن
بمكناسة الزيتون واستمروا هنالك إلى أن قام أبو عنان فأطلقهم واستعان بهم على أمره
حسبما نذكره إن شاء الله
____________________
مراسلة السلطان أبي الحسن
لصاحب مصر أبي الفداء إسماعيل بن محمد بن قلاوون
قد تقدم لنا أن السلطان أبا الحسن راسل الملك الناصر صاحب مصر وهاداه بما عظم وقعه
عند الخاصة والعامة واتصلت الولاية بينه وبين الملك الناصر إلى أن هلك سنة إحدى
وأربعين وسبعمائة وولي الأمر من بعده ابنه أبو الفداء إسماعيل فخاطبه السلطان أبو
الحسن أيضا وأتحفه وعزاه عن أبيه وأوفد عليه كاتبه وصاحب ديوان الخراج أبا الفضل
بن أبي عبد لله بن أبي مدين وفي صحبته الحرة أخت السلطان أبي الحسن فقضى من وفادته
ما حمل وأصحبه السلطان أبو الحسن كتابا إلى الملك الصالح أبي الفداء وكان وصوله
إلى مصر منتصف شعبان سنة خمس وأربعين وسبعمائة
ونص الكتاب بعد البسملة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من عند أمير
المسلمين المجاهد في سبيل الله رب العالمين المنصور بفضل الله المتوكل عليه
المعتمد في جميع أموره لديه سلطان البرين حامي العدوتين مؤثر المرابطة والمثاغرة
موازر حزب الإسلام حق الموازرة ناصر الإسلام مظاهر دين الملك العلام ابن أمير
المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين فخر السلاطين حامي حوزة الدين ملك البرين
إمام العدوتين ممهد البلاد مبدد شمل الأعاد مجند الجنود المنصور الرايات والبنود
محط الرحال مبلغ الآمال أبي سعيد ابن أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين
حسنة الأيام حسام الإسلام أبي الأملاك مشجي أهل العناد والإشراك مانع البلاد رافع
علم الجهاد مدوخ أقطار الكفار مصرخ من ناداه للانتصار القائم لله بإعلاء دين الحق
أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق أخلص الله لوجهه جهاده ويسر في قهر عداة الدين مراده
إلى محل ولدنا الذي طلع في أفق العلا بدرا تما وصدع بأنواع الفخار فجلى ظلاما
وظلما وجمع شمل المملكة الناصرية فأعلى منها علما وأحيى رسما حائط الحرمين القائم
بحفظ القبلتين باسط الأمان قابض كف
____________________
العدوان الجزيل النوال الكفيل
تأمينه بحياطة النفوس والأموال قطب المجد وسماكه حسب الحمد وملاكه السلطان الجليل
الرفيع الأصيل الحافل العادل الفاضل الكامل الشهير الخطير الأضخم الأفخم المعان
المؤزر المؤيد المظفر الملك الصالح أبي الوليد إسماعيل بن محل أخينا الشهير علاؤة
المستطير في الآفاق ثناؤه زين الأيام والليال كمال عين إناس المجد وإنسان عين
الكمال وارث الدول النافث بصحيح رأيه في عقود أهل الملل والنحل حامي القبلتين
بعدله وحسامه النامي في حفظ الحرمين أجر اضطلاعه بذلك وقيامه هازم أحزاب المعاندين
وجيوشها هادم الكنائس والبيع فهي خاوية على عروشها السلطان الأجل الهمام الأحفل
الأفخم الأضخم الفاضل العادل الشهير الكبير الرفيع الخطير المجاهد المرابط المقسط
عدله في الجائر والقاسط المؤيد المظفر المنعم المقدس المطهر زين السلاطين ناصر
الدنيا والدين أبي المعالي محمد بن الملك الأرضى الهمام الأمضى والد السلاطين
الأخيار عاقد لواء النصر في قهر الأرمن والفرنج والتتار محيي رسوم الجهاد معلي
كلمة الإسلام في البلاد جمال الأيام ثمال الأعلام فاتح الأقاليم صالح ملوك عصره
المتقادم الإمام المؤيد المنصور المسدد قسيم أمير المؤمنين فيما تقلد الملك
المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون مكن الله له تمكين أوليائه ونمى دولته التي
أطلعها له السعد شمسا في سمائه وأحسن إيزاعه للشكر أن جعله وارث آبائه سلام كريم
يفاوح زهر الربى مسراه وينافح نسيم الصبا مجراه يصحبه رضوان يدوم ما دامت تقل
الفلك حركاته ويتولاه روح وريحان تحييه به رحمة الله وبركاته أما بعد حمد الله
مالك الملك جاعل العاقبة للتقوى صدعا باليقين ودفعا للشك وخاذل من أسر النفاق في
النجوى فاصر على الدخن والإفك والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسوله الذي محى بأنوار
الهدى ظلم الشرك ونبيه الذي ختم به الأنبياء وهو واسطة ذلك السلك ودعا به حجة الحق
فمادت بالكفرة محمولة الأفلاك وماجت بهم حاملة الفلك والرضا عن آله وصحبه الذين
سلكوا سبيل هداه فسلك في قلوبهم أجمل السلك وملكوا أعنه هواهم فلزموا من محجة
الصواب أنجح السلك وصابروا في جهاد
____________________
الأعداء فزاد خلوصهم مع
الابتلاء والذهب يزيد خلوصا على السبك والدعاء لأولياء الإسلام وحماته الأعلام
بنصر لمضائه في العدي أعظم الفتك ويسر بقضائه درك آمال الظهور وأحفل بذلك الدرك
فكتبناه إليكم كتب الله لكم رسوخ القدم وسبوغ النعم من حضرتنا مدينة فاس المحروسة
وصنع الله سبحانه يعرف مذاهب الألطاف ويكيف مواهب تلهج الألسنة في القصور عن شكرها
بالاعتراف ويصرف من أمره العظيم وقضائه المتلقى بالتسليم ما يتكون بين النون
والكاف ومكانكم العتيد سلطانه وسلطانكم المجيد مكانه وولاؤكم الصحيح برهانه
وعلاؤكم الفسيح في مجال الجلال ميدانه وإلى هذا زاد الله سلطانكم تمكينا وأفاد
مقامكم تحصينا وتحسينا وسلك بكم من سنن من خلفتموه سبيلا مبينا فلا خفاء بما كانت
عقدته أيدي التقوى ومهدته الرسائل التي على الصفاء تطوى بيننا وبين والدكم نعم
الله روحه وقدسه وبقربه مع الأبرار في عليين أنسه من مؤاخاة أحكمت منها العهود
تالية الكتب والفاتحة وحفظ عليها محكم الإخلاص معوذاتها المحبة والنية الصالحة
فانعقدت على التقوى والرضوان واعتضدت بتعارف الأرواح عند تنازح الأبدان حتى
استحكمت وصلة الولاء والتأمت كلحمة النسب لحمة الإخاء فما كان إلا وشيكا من الزمان
ولا عجب قصر زمن الوصلة أن يشكوه الخلان ورد وارد أورد رنق المشارب وحقق قول ومن
يسأل الركبان عن كل غائب أنبأ باستثارة الله تعالى بنفسه الزكية وإكنان درته
السنية وانقلابه إلى ما أعد له من المنازل الرضوانية بجليل ما وقر لفقده في الصدور
وعظيم ما تأثرت له النفوس لوقوع ذلك المقدور حنانا للإسلام بتلك الأقطار وإشفاقا
من أن يعتور قاصدي بيت الله الحرام من جراء الفتن عارض الإضرار ومساهمة في مصاب
الملك الكريم والوصي الحميم ثم عميت الأخبار وطويت طي السجل الآثار فلم نر مخبرا
صدقا ولا معلما بمن استقر له ذلكم الملك حقا وفي أثناء ذلك حفزنا للحركة عن حضرتنا
استصراخ أهل الأندلس وسلطانها وتواتر الأخبار بأن النصارى أجمعوا على خراب أوطانها
ونحن أثناء ذلك الشأن نستخبر الوراد من تلكم البلدان عما أجلى عنه ليل الفتن بتلكم
الأوطان فبعد لأي
____________________
وقعنا منها على الخبير وجاءنا
بوقاية حرم الله بكم البشير وتعرفنا أن الملك استقر منكم في نصابه وتداركه الله
تعالى منكم بفاتح الخير من أبوابه فأطفأ بكم نار الفتنة وأخمدها منه أدواء النفاق
ما أعل البلاد وأفسدها فقام سبيل الحج سابلا وعبر طريقه لمن جاء قاصدا وقافلا ولما
احتفت بهذا الخبر القرائن وتواتر بنقل الحاضر المعاين أثار حفظ الإعتقاد البواعث
والود الصحيح تجره حقا الموارث فأصدرنا لكم هذه المخاطبة المتفننة الأطوار الجامعة
بين الخبر والإستخبار الملبسة من العزاء والهناء ثوبي الشعار والدثار ومثل ذلك
الملك رضوان الله عليه من تجل المصائب لفقدانه وتحل عرى الإصطبار بموته ولات حين
أوانه ولكن الصبر اجمل ما ارتداه ذو عقل حصين والأجر أولى ما اقتناه ذو دين متين
ومثلكم من لا يخف وقاره ولا يشف عن ظهور الجزع الحادث اصطباره ومن خلفتموه فما مات
ذكره ومن قمتم بأمره فما زال بل زاد فخره وقد طالت والحمد لله العيشه الراضية
بالحقب وطاب بين مبداه ومحتضره هنيئا بما من الأجر اكتسب وصار حميدا إلى خير منقلب
ووفد من كرم الله على أفضل ما منح موقنا ووهب فقد ارتضاكم الله بعده لحياطة أرضه
المقدسة وحماية زوار بيته مقيلة أو معرسة ونحن بعد بسط هذه التعزية نهنيكم بما
خولكم الله أجمل التهنية وفي ذات الله الإيراد والإصدار وفي مرضاته سبحانه الإضمار
والإظهار فاستقبلوا دولة ألقى العز عليها رواقه وعقد الظهور عليها نطاقه وأعطاه
أمان الزمان عقده وميثاقه ونحن على ما عاهدنا عليه الملك الناصر رضوان الله عليه
من عهود موثقة وموالاة محققة وثناء كمائمه عن أذكى من الزهر غب القطر مفتقه ولم
يغب عنكم ما كان من بعثنا المصحفين الأكرمين اللذين خطتهما منا اليمين وآوت بهما
الرغبة من الحرمين الشريفين إلى قرار مكين وإنه كان لوالدكم الملك الناصر تولاة
الله برضونه وأورده موارد إحسانه في ذلكم من الفعل الجميل والصنع الجليل ما ناسب
مكانه الرفيع وشاكل فضله من البر الذي لا يضيع حتى طبق فعله الآفاق ذكرا وطوق
أعناق الوراد والقصاد برا وكان من أجمل ما به تحفى وأتحف وأعظم ما بعرفه إلى الملك
العلام في ذلك تعرف إذنه
____________________
للمتوجهين إذا ذاك في شراء
رباع توقف على المصحفين ورسم المراسم المباركة بتحرير ذلك الوقف مع اختلاف
الجديدين فجرت أحوال القراء فيها بذلك الخراج السمتفاد ريثما يصلهم من خراج ما
وقفناه عليهم بهذه البلاد على ما رسمه رحمة الله عليه من عناية به متصلة واحترام في
تلك الأوقاف فوائدها به متوفرة متحصلة وقد أمرنا مؤدي هذا لكما لكم وموفده على
جلالكم كاتبنا الأسنى الفقيه الأجل الأحظى الأكمل أبا المجد ابن كاتبنا الشيخ
الفقيه الأجل الحاج الأتقى الأرضى الأفضل الأحظى الأكمل المرحوم أبي عبد الله بن
أبي مدين حفظ الله عليه رتبته ويسر في قصد البيت الحرام بغيته بأن يتفقد أحوال تلك
الأوقاف ويتعرف تصرف الناظر عليها وما فعله من سداد وإسراف وأن يتخير لها من يرتضي
لذلك ويحمد تصرفه فيما هنالك وخاطبنا سلطانكم في هذا الشأن جريا على الود الثابت
الأركان وإعلاما بما لوالدكم رحمه الله تعالى في ذلك من الأفعال الحسان وكما لكم
يقتضي تخليد ذلكم البر الجميل وتجديد علم ذلك الملك الجليل وتشييد ما اشتمل عليه
من الشراء الأصيل والأجر الجزيل والتقدم بالإذن السلطاني في إعانة هذا الوافد بهذا
الكتاب على ما يتوخاه في ذلك الشأن من طرق الصواب وثناؤنا عليكم الثناء الذي يفاوح
زهر الربا ويطارح نغم حمام الأيك مطربا وبحسب المصافاة ومقتضى الموالاة نشرح لكم
المتزايدات بهذه الجهات وننبئكم بموجب إبطاء إنفاذ هذا الخطاب على ذلكم الجناب
وذلك أنه لما وصلنا من الأندلس الصريخ ونادى منا للجهاد عزما لمثل ندائه يصيخ
أنبأنا أن الكفار قد جمعوا أحزابهم من كل صوب وفرض عليهم باباهم اللعين التناصر من
كل أوب وأن تقصد طوائفهم البلاد الأندلسية بإيجافها وتنقص بالمنازلة أرضها من
أطرافها ليمحو كلمة الإسلام منها ويقلصوا ظل الإيمان عنها فقدمنا من يشتغل
بالأساطيل من القواد وسرنا على اثرهم إلى سبتة منتهى الغرب الأقصى وباب الجهاد فما
وصلناها إلا وقد أخذه العدو الكفور وسدت أجفان الطواغيت على التعاون مجاز العبور
وأتوا من أجفانهم بما لا يحصى عددا وأرصدوها بمجمع البحرين حيث المجاز إلى دفع
العدا وتقلصوا عن
____________________
الانبساط في البلاد واجتمعوا
إلى الجزيرة الخضراء أعادها الله بكل من جمعوه من الأعاد لكنا مع انسداد تلك
السبيل وعدم أمور نستعين بها في ذلكم العمل الجليل حاولنا إمداد تلكم البلاد بحسب
الجهد وأصرخناهم بما أمكن من الجند وجهزنا أجفانا مختلسين فرصة الإجازة تتردد على
خطر بمن جهز للجهاد جهازه وأمرنا لصاحب الأندلس من المال بما يجهز به حركته
لمداناة محلة حزب الضلال وأجرينا له ولجيشه العطاء الجزل مشاهرة وأرضخنا لهم من
النوال ما نرجو به ثواب الآخرة وجعلت أجفاننا تتردد في مينا السواحل وتلج أبواب
الخوف العاجل لإحراز الأمن الآجل مشحونة بالعدد الموفورة والأبطال المشهورة والخيل
المسومة والأقوات المقومة فمن ناج حارب دونه الأجل وشهيد مضى لما عند الله عز وجل
وما زالت الأجفان تتردد على ذلك الخطر حتى تلف منها سبع وستون قطعة غزوية أجرها
عند الله يدخر ثم لم نقنع بهذا العمل في الإمداد فبعثنا أحد أولادنا أسعدهم الله
مساهمة به لأهل تلك البلاد فلقي من هول البحر وارتجاجه وإلحاح العدو ولجاجه ما به
الأمثال تضرب وبمثله يتحدث ويستغرب ولما خلص لتلك العدوة بمن أبقته الشدائد نزل
بإزاء الكافر الجاحد حتى كان منه بفرسخين أو أدنى وقد ضرب بعطن يصابح العدو
ويماسيه بحرب بها يمنى وقد كان من مددنا بالجزيرة جيش شريت شرارته وقويت في الحرب
إدارته يبلون البلاء الأصدق ولا يبالون بالعدو وهم منه كالشامة البيضاء في البعير
الأورق إلا أن المطاولة بحصارها في البحر مدة ثلاثة أعوام ونصف ومنازلتها في البر
نحو عامين معقودا عليها الصف بالصف أدى إلى فناء الأقوات في البلد حتى لم يبق
لأهليه قوت شهر مع انقطاع المدد وبه من الخلق ما يربى على عشرة آلاف دون الحرم
والولد فكتب إلينا سلطان الأندلس يرغب في الأذن له في عقد الصلح ووقع الاتفاق على
أنه لاستخلاص المسلمين من وجوه النجع فأذنا له فيه الإذن العام إذ في إصراخه
وإصراخ من بقطره من المسلمين توخينا ذلك المرام هنالك دعا النصارى إلى السلم
فاستجابوا وقد كانوا علموا فناء القوت وما استرابوا فتم الصلح إلى عشر سنين وخرج
من بها من فرسان
____________________
ورجال وأهل وبنين ولا رزئوا
مالا ولا عدة ولا لقوا في خروجهم غير النزوح عن أول أرض مس الجلد ترابها شدة
ووصلوا إلينا فأجزلنا لهم العطاء وأسليناهم عما جرى بالحباء فمن خيل تزيد على
الألف عتاقها وخلع تربى على عشرة آلاف أطواقها وأموال عمت الغني والفقير ورعاية
شملت الجميع بالعيش النضير كف الله ضر الطواغيت عما عداها وما انقلبوا بغير مدرة
عفا رسمها وصم صداها وقد كان من لطف الله حين قضى بأخذ هذا الثغر أن قدر لنا فتح
جبل طارق من أيدي الكفر وهو المطل على هذه المدرة والفرصة منه إن شاء الله تعالى
متيسرة حتى يفرق عقد الكفار ويفرج بهذه الجهة منهم مجاورو هذه الأقطار فلولا إجلابهم
من كل جانب وكونهم سدوا مسلك العبور بما لجميعهم من الأجفان والمراكب لما بالينا
بأصفاقهم ولحللنا بعون الله عقد اتفاقهم ولكن للموانع أحكام ولا راد لما جرت به
الأقلام وقد أمرنا لذلك الثغر بمزيد المدد وتخيرنا له ولسائر تلك البلاد العدد
والعدد وعدنا لحضرتنا فاس لتستريح الجيوش من وعثاء السفر ونرتبط الجياد وننتخب
العدد لوقت الظهور المنتظر ونكون على أهبة الجهاد وعلى مرقبة الفرصة عند تمكنها في
الأعاد وعند عودنا من تلك المحاولة نيسر الركب الحجازي موجها إلى هناكم رواحله
فأصدرنا إليكم هذا الخطاب إصدار الود الخالص والحب اللباب وعندنا لكم ما عند أحنى
الآباء واعتقادنا فيكم في ذات الله لا يخشى جديده من البلاء ومالكم من غرض بهذه
الأنحاء موفي قصده على أكمل الأهواء موالي تتميمه على أجمل الأراء والبلاد باتحاد
الود متحدة والقلوب والأيدي على ما فيه مرضاة الله عز وجل منعقدة جعل الله ذلكم
خالصا لرب العباد مدخورا ليوم التناد مسطورا في الأعمال الصالحة يوم المعاد بمنه
وفضله هو سبحانه يصل إليكم سعدا تتفاخر به سعود الكواكب وتتضافر على الانقياد له
صدور المواكب وتتقاصر عن نيل مجده متطاولات المناكب والسلام الأتم يخصكم كثيرا
أثيرا ورحمة الله وبركاته وكتب في يوم الخميس السادس والعشرين لشهر صفر المبارك من
عام خمسة وأربعين وسبعمائة وصورة العلامة وكتب في التاريخ المؤرخ
____________________
قال ابن خلدون فقضى أبو الفضل بن أبي عبد الله بن ابي مدين من وفادته ما حمل وكان
شأنه عجبا في إظهار أبهة سلطانه والإنفاق على المستضعفين من إلحاج في طريقه وإتحاف
رجال الدولة التركية بذات يده والتعفف عما في أيديهم رحمه الله وقال العلامة
المقريزي وفي منتصف شعبان من سنة خمس وأربعين وسبعمائة قدمت الحرة أخت صاحب المغرب
في جماعة كثيرة وعلى يدها كتاب السلطان أبي الحسن يتضمن السلام وأن يدعو له
الخطباء في يوم الجمعة ومشايخ الصلاح وأهل الخير بالنصر على عدوهم ويكتب إلى أهل
الحرمين بذلك اه ولعل هذا الكتاب آخر غير الذي سردناه يتضمن ما ذكره والله أعلم
ونشخة الجواب عن الكتاب الذي سردناه من إنشاء خليل الصفدي شارح لآمية العجم بعد
البسملة في قطع النصف بقلم الثلث عبد الله ووليه صورة العلامة ولده إسماعيل بن
محمد السلطان الملك الصالح السيد العالم العادل المؤيد المجاهد المرابط المظفر
المنصور عماد الدنيا والدين سلطان الإسلام والمسلمين محيي العدل في العالمين منصف
المظلومين من الظالمين وارث الملك ملك العرب والعجم والترك فاتح الأقطار واهب
الممالك والأمصار إسكندر الزمان مملك أصحاب المنابر والأسرة والتخوت والتيجان ظل
الله في أرضه القائم بسنته وفرضه مالك البحرين خادم الحرمين الشريفين سيد الملوك
والسلاطين جامع كلمة الموحدين ولي أمير المؤمنين أبو الفداء إسماعيل بن السلطان
الشهيد السعيد الملك الناصر ناصر الدنيا والدين أبي الفتح محمد بن السلطان الشهيد
السعيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون خلد الله تعالى سلطانه وجعل
الملائكة أنصاره واعوانه يخص المقام العالي الملك الأجل الكبير المجاهد المؤيد المرابط
المثاغر المعظم المكرم المظفر المعمر الأسعد الأصعد الأوحد الأمجد السني السري
المنصور أبا الحسن علي بن أمير المسلمين أبي سعيد عثمان بن أمير المسلمين أبي يوسف
يعقوب بن عبد الحق أمده الله بالظفر وقرن عزمه بالتأييد في الآصال والبكر سلام وشت
البروق وشائعه وادخرت الكواكب ودائعه
____________________
واستوعب الزمان ماضيه ومستقبله
ومضارعه وثناء اتخذ النفحات المسكية طلائعه ونبه بالتغريد في الروض سواجعه وجلى في
كأسه من الشفق المحمر مدامه ومن النجوم فواقعه أما بعد حمد الله على نعم أدت لنا
الأمانة في عود سلطنة والدنا الموروثة وأجلستنا على سرير مملكة زرابيها بين النجوم
مبثوثة وأحسنت بنا الخلف عن سلف عهدوه في الأعناق غير منكورة ولا منكوثة وصلاته
على سيدنا محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه الذين بلغ بجهادهم في الكفرة غاية أمله
وسؤله صلاة تحط بالرضوان سيولها وتجر بالغفران ذيولها ما تراسل أصحاب وتواصل أحباب
فيوضح للعلم الكريم ورود كتابكم العظيم وخطابكم الفائق على الدر النظيم تفاخر
الخمائل سطوره ويصبغ خد الورد بالخجل منثوره ويحكي الرياض اليانعة فالألفات غصونه
والهمزات عليها طيوره ويخلع على الآفاق حلل الأيام والليالي فالطرس صباحه والنقس
ديجوره لفظه يطرب ومعناه يعرب فيغرب وبلاغته تدل على أنه آية لأن شمس بيانها طلعت
من المغرب فاتخذنا سطوره ريحانا ورجعنا ألفاظه ألحانا ورجعنا إلى الجد فشبهنا
ألفاته بظلال الرماح وورقه بصقال الصفاح وحروفه المفرقه بأفواه الجراح وسطوره
المنتظمة بالفرسان المزدحمة يوم الكفاح وانتهينا إلى ما أودعتموه من اللفظ المسجوع
والمعنى الذي يطرب طائره المسموع والبلاغة التي فضح التطبع بيانها المطبوع فأما
العزاء بأخيكم الوالد قدس الله روحه وسقى عهده وأحسن لسلفه خلفا بعده فلنا برسول
الله أسوة حسنة ولولا الوثوق بأنه في عدة الشهداء ما رام القلب قراره ولا الطرف
وسنة عاش سعيدا يملك الأرض ومات شهيدا . 000 يفوز بالجنة يوم العرض قد خلد الله
ذكره يسير مسير الشمس في الآفاق ويوقف عند نضارة حدائقه الأحداق وورثنا منه حسن
الآخاء لكم والوفاء بعهود مودة تشبه في اللطف شمائلكم وأما الهناء بوراثة ملكه
والإنخراط مع الملوك في سلكه فقد شكرنا لكم منحى هذه المنحة وقابلناها بثناء يعطر
النسيم في كل نفحه ووقفنا عليها حمدا جعل الود علينا إيراده وعلى أنفاس سرحة الروض
شرحه وتحققنا به حسن ودكم الجميل وكريم إخائكم الذي لا يميد طود رسوخه ولا يميل
____________________
وأما ما ذكرتموه من أمر
المصحفين الكريمين الشريفين الذين وقفتموهما على الحرمين المنيفين وإنكم جهزتم
كاتبكم الفقيه الأجل الأسنى الأسمى أبا المجد ابن كاتبكم أبي عبد الله بن أبي مدين
أعزه الله لتفقد أحوالهما والنظر في أمر أوقافهما فقد وصل المذكور بمن معه في حرز
السلامة وأكرمنا نزلهم وسهلنا بالترحيب سبلهم وجمعنا على بذل الإحسان إليهم شملهم
وحضر المذكور بين أيدينا وقربناه وسمعنا كلامه وخاطبناه وأمرنا في أمر المصحفين
الشريفين بما أشرتم ورسمنا لنوابنا في توخي أوقافهما بما ذكرتم وهذا الوقف المبرور
جار على أحسن عادة ألفها وأثبت قاعدة عرفها مرعي الجوانب محمي المنازل والمضارب
آمن إزالة رسمه أو إذالة حكمه بدره أبدا في مطالع تمه وزهرة دائما يرقص في كمه لا
يزداد إلا تخليدا ولا إطلاق ثبوته إلا تقييدا ولا عنق اجتهاده إلا تقليدا جريا على
قاعدة أوقاف ممالكنا وعادة تصرفاتنا في مسالكنا وله مزيد الرعاية وإفادة الحماية
ووفادة العناية وأما ما وصفتموه من أمر الجزيرة الخضراء وما لاقاه أهلها ومني به
من الكفار حزنها وسهلها فإنه شق علينا سماعه الذي أنكى أهل الإيمان وعدد به نوب
الزمان كل قلب بأنامل الخفقان وطالما فزتم بالظفر ورزقتم النصر على عدوكم فجر ذيل
الهزيمة وفر ولكن الحرب سجال وكل زمان لدوائره دولة ولرجائه رجال ولو أمكنت
المساعدة لطارت بنا إليكم عقبان الجياد المسومة وسالت على عدوكم أباطحهم بقسينا
المعوجة وسهامنا المقومة وكحلنا عين النجوم بمراود الرماح وجعلنا ليل العجاج ممزقا
ببروق الصفاح واتخذنا رؤوسهم لصوالج القوائم كرات وفرجنا مضايق الحرب بتوالي
الكرات وعطفنا عليهم الأعنة وخضنا جداول السيوف ودسنا شوك الأسنة وفلقنا الصخرات
بالصرخات وأسلنا العبرات بالرعبات ولكن أين الغاية من هذا المدى المتطاول وأين
الثريا من يد المتناول وما لنا غير إمدادكم بجنود الدعاء الذي نرفعه نحن ورعايانا
والتوجه الصادق الذي تعرفه ملائكة القبول من سجايانا أما ما فقدتموه من
____________________
الأجفان التي طرقها طيف
الإتلاف وأم حرم فنائها الفناء وطاف به بعد الألطاف فقد روع هذا الخبر قلب الإسلام
ونوع له الحزن على اختلاف الإصباح والإظلام وهذه الدار لا يخلو صفوها من كدر القدر
وطالما انامت بالأمن أول الليل وخاطبت بالخطب في السحر ولكن في بقائكم ما يسلي عن
خطب العطب ومع سلامة نفسكم الكريمة فالأمر هين لأن الدر يفدى بالذهب وأما ما
رأيتموه من الصلح فرأى عقده مبارك وأمر ما فيه فارط عزم وإن كان فيتدارك والأمر
يجيء كما يحب لا كما نحب والحروب يزورها نصرها تارة ويغب مع اليوم غدا وقد يرد
الله الردى ويعيد الظفر بالعدا وأما عودكم إلى فاس المحروسة طلبا لإراحة من عندكم
من الجنود وتجهيزا لمن يصل من عندكم إلى الحجاز الشريف من الوفود فهذا أمر ضروري
التدبير سروري التثمير لأن النفوس تمل وثير المهاد فكيف ملازمة صهوات الجياد وتسأم
من مجالسة الشرب فكيف بممارسة الحرب وتعرض عن دوام اللذة فكيف بمباشرة المنايا
الفذة وهذا جبل طارق الذي فتح الله به عليكم وساق هدي هديته إليكم لعله يكون سببا
إلى ارتجاع ما شرد وحسما لهذا الطاغية الذي مرد وردا لهذا النازل الذي كدرر ورد
الصبر لما ورد فعادة الألطاف بكم معروفة وعزماتكم إلى جهات الجهاد مصروفة وقد
تفاءلنا لكم من هذا الجبل بأنه طارق خير من الرحمن يطرق وجبل يعصم من سهم يمر من
قسي الكفار ويمرق وأما ما منحتموه من الخيل العتاق والملابس التي تطلع بدور الوجوه
من مشارق الأطواق والأموال التي زكت عند الله تعالى ونمت على الإنفاق فعلى الله عز
وجل خلفها ولكم في منازل الدنيا والآخرة سرفها وشرفها وإليكم تساق هدايا أثنيتها
وتحفكم تحفها وإذا وصل وفدكم الحاج وأنار له بوجه إقبالنا عليهم ليلهم الداج
وكانوا مقيمين تحت ظل إكرامنا وشمول إسعافنا لهم وإنعامنا يتخولون تحفا أنتم سببها
ويتناولون طرفا في كؤوس الاعتناء بهم ينضد حببها وإذا كان أوان الرحيل إلى الحج
فسحنا لهم الطريق وسهلنا لهم الرفيق وبلغناهم بحول الله تعالى مناهم من منى وسألهم
ممن إذا
____________________
زاروا حجراته الشريفة حازوا
الشريفة حازوا الراحة من العناء وفازوا بالغنى وإذا عادوا عاملناهم بكل جميل
ينسبهم مشقة ذلك الدرب ويخيل إليهم أن لا مسافة لمسافر بين الشرق والغرب وغمرناهم
بالإحسان في العود إليكم وأمرناهم بما ينهونه شفاها لديكم وعناية الله تعالى تحوط
ذاتكم وتوفر لأخذ الثار حماتكم وتخصكم بتأييد تنزلون روضه الأنضر وتجنون به ثمر
النصر اليانع من ورق الحديد الأخضر وتتحفكم بسعد لا يبلى قشيبه وعز لا يمحو شبابه
مشيبة وتحيته المباركة تغاديكم وترواحكم وتفاوحكم أنفاسها المعتبرة وتنافحكم بمنه
وكرمه في سادس رمضان سنة خمس وأربعين وسبعمائة
قال ابن خلدون ثم شرع السلطان أبو الحسن بعد استيلائه على إفريقية كما نذكره في
كتب نسخة أخرى من المصحف الكريم ليوقفها ببيت المقدس فلم يقدر إتمامها وهلك قبل
فراغه من نسخها اه وهو يقتضي أن السلطان المذكور ماا كتب سوى مصحفين اثنين ويؤيده
ظاهر الكتابين المسرودين آنفا مع أنه تقدم النقل عن الشيخ أبي العباس المقري أنه
وقف على النسخة الموقوفة ببيت المقدس والله تعالى أعلم بحقيقة الأمر هدية السلطان
أبي الحسن إلى ملك مالي من السودان المجاورين للمغرب
اعلم أن أرض السودان المجاورة للمغرب تشتمل على ممالك منها مملكة غانة ومنها مملكة
مالي ومنها مملكة كاغو ومنها مملكة برنو وغير ذلك وكان ملك مالي وهو السلطان منسى
موسى بن أبي بكر من أعظم ملوك السودان في عصره ولما استولى السلطان أبو الحسن على
المغرب الأوسط وغلب بني زيان على ملكهم عظم قدره وطال ذكره وشاعت أخباره في الآفاق
فسما هذا السلطان وهو منسى موسى إلى مخاطبة السلطان أبي الحسن وكان مجاورا لمملكة
المغرب على نحو مائة مرحلة في القفر فأوفد
____________________
عليه جماعة من أهل مملكته مع
ترجمان من الملثمين المجاورين لبلادهم من صنهاجة فوفدوا على السلطان أبي الحسن في
سبيل التهنئة بالظفر فأكرم وفادتهم وأحسن مثواهم ومنقلبهم ونزع إلى مذهبه في الفخر
فانتخب طرفا من متاع المغرب وماعونه وشيئا من ذخيرة داره وأسنى الهدية وعين رجالا
من أهل دولته كان فيهم كاتب الديوان أبو طالب بن محمد بن أبي مدين ومولاه عنبر
الخصي فأوفدهم بها على ملك مالي منسى سليمان لمهلك أخيه موسى قبل مرجع وفده وأوعز
إلى أعراب الفلاة من بني معقل بالسير معهم ذاهبين وجاءين فشمر لذلك علي بن غانم
أمير أولاد جرار من معقل وصحبهم في طريقهم امتثالا لأمر لسلطان وتوغل ذلك الركب في
القفر إلى بلد مالي بعد الجهد وطول الشقة فأحسن منسى سليمان مبرتهم وأعظم موصلهم
وأكرم وفادتهم ومنقلبهم وعادوا إلى مرسلهم في وفد من كبار مالي يعظمون السلطان أبا
الحسن ويوجبون حقه ويؤدون طاعته ويذكرون من خضوع مرسلهم وقيامه بحق السلطان أبي الحسن
واعتماله في مرضاته ما استوصاهم به
واعلم أن منسى موسى الذي ذكرناه كان من كبار الملوك كما قلنا وهو الذي صحبه أبو
إسحاق الساحلي المعروف بالطويجي من شعراء الأندلس كان قد لقيه في لموسم بعرفة فحلى
بعينه وحظيت منزلته عنده فصحبه إلى بلاده وأقام عنده مصحوبا بالبر والكرامة وبنى
للسلطان المذكور قبة رائعة فازدادت حظوته عنده قال ابن خلدون أطرف أبو إسحاق
الطويجن السلطان منسى موسى ببناء قبة مربعة الشكل استفرغ فيها إجادته وكان صناع
اليدين وأضفى عليها من الكلس ووالى عليها بالأصباغ المشبعة فجاءت من أتقن المباني
ووقعت من السلطان منسى موسى موقع الاستغراب لفقدان صنعة البناء بأرضهم ووصله باثني
عشر ألفا من مثاقيل التبر مثوبة عليها اه وكانت وفاة أبي إسحاق بتنبتكوا يوم
الاثنين السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وسبعمائة
____________________
مصاهرة السلطان أبي الحسن
ثانيا مع السلطان أبي بكر الحفصي رحمهما الله
قد تقدم لنا ما كان من وقعة طريف وإنه هلك فيها حرم السلطان أبي الحسن من جملتهن
فاطمة بنت السلطان أبي بكر الحفصي فلما فقدها أبو الحسن بقي في نفسه منها حنين إلى
ما شغفته به من خلالها ولذادة العيش في عشرتها فسما له من الإعتياض عنها ببعض
أخواتها فأوفد في خطبتها وليه عريف بن يحيى أمير عرب سويد من بني زغبة الهلاليين
وكاتب الجباية والعسكر بدولته أبا الفضل بن محمد بن أبي مدين وفقيه الفتوى بمجلسه
أبا عبد الله محمد بن سليمان السطي ومولاه عنبر الخصي فوفدوا على السلطان أبي بكر
سنة ست وأربعين وسبعمائة فأنزلهم منزل البر والكرامة ثم دس إليه حاجبه أبو محمد
عبد الله بن تافراجين غرض وفادتهم وأنهم قدموا خاطبن بعض كرائمه لسلطانهم فأبى من
ذلك صونا لحرمه عن جولة الأقطار وتحكم الرجال مثل ما وقع في ابنته الأولى فلم يزل
حاجبه المذكور يخفض عليه الشأن ويعظم عليه حق السلطان أبي الحسن في رد خطبته مع ما
بينهما من الصهر السابق والمخالصة القديمة والعهود المتأكدة إلى أن أجاب وأسعف من
الصهر السابق والمخالصة القديمة والعهود المتأكدة إلى أن أجاب وأسعف وجعل ذلك
للحاجب المذكور فانعقد الصهر بين السلطانين على ابنته عزونه شقيقة ابنه أبي العباس
الفضل بن أبي بكر صاحب بونة وأخذ الحاجب في شوار العرس وتأنق فيه واحتفل واستكثر
وطال مقام الرسل بتونس إلى أ ، استكمل الجهاز فارتحلوا منها في ربيع سنة سبع
وأربعين وسبعمائة وأوعز السلطان أبو بكر إلى ابنه الفضل شقيق العروس المذكورة أن
يزفها على السلطان أبي الحسن قياما بحقه وبعث من بابه جماعة من مشيخة الموحدين
فوفدوا جميعا على السلطان أبي الحسن واتصل بهم الخبر في طريقهم بوفاة السلطان أبي
بكر فجأة ليلة الأربعاء ثاني رجب من السنة المذكورة فعزاهم السلطان أبو الحسن عنه
عند ما وصلوا إليه واستبلغ في إكرامهم وأجمل موعد
____________________
أخيها الفضل بسلطانه ومظاهرته
على تراث أبيه فاطمأنت به الدار عند السلطان أبي الحسن إلى أن سار في جملته وتحت
لوائه إلى إفريقية كما نذكره إن شاء الله غزو السلطان أبي الحسن إفريقية واستيلاؤه
على تونس وأعمالها
كان السلطان أبو بكر الحفصي رحمه الله قد عهد بالأمر بعده لابنه أبي العباس أحمد
وكان أوفد على السلطان أبي الحسن حاجبه ابا القاسم بن عتو في غرض له وأصحبه كتاب
العهد إلى السلطان المذكور ليوافق عليه فوقف عليه السلطان أبو الحسن وكتب على
حشايته بخطه ووافقه عليه رحمه الله وأحكم العقد في ذلك ولما مات السلطان أبو بكر
كان ولي العهد غائبا عن الحضرة فبايع أبو محمد بن تافراجين لابنه عمر
ذكر الشيخ أبو العباس الوانشريسي في أقضية المعيار عن الشيخ ابن عرفة أن سلطان
إفريقية أبا بكر الحفصي كتب العهد لولده أحمد فلما توفي السلطان المذكور أحضر أبو
محمد بن تافراجين قاضيي تونس قاضي الجماعة أبا عبد الله محمد بن عبد السلام وقاضي
الأنكحه أبا عبد الله الآجمي وأمرهما أن يبايعا ولد الخليفه عمر فقالا كيف نبايعه
ونحن شهدنا بيعة أخيه أحمد والتزمناها وكان الحاجب ابن تافراجين نبيلا فلما دخلا
أحضر الحاجب المذكور أهل العقد والحل وأمرهم أن يباييعوا عمر فبايعوه فلما خرج
القاضيان وجدا البيعة قد حصلت وكان في انتظار أحمد المشهود له بالعهد وهو غائب
بقفصة خوف الفتنة فبايع القاضيان وكان ابن عرفة يستصوب فعل الحاجب وامتناع
القاضيين أولا وبيعتهما ثانيا ثم قدم ولي العهد ووقع بينه وبين أخيه قتال وجرت
خطوب كان في آخرها قتل ولي العهد وقتل وليه أبي الهول بن حمزة أمير الكعوب من عرب
سليم في آخرين منهم وقطع عمر
____________________
أيضا أخويه عبد العزيز وخالدا
من خلاف فهلكا وكان الحاجب أبو محمد بن تافراجين قد حس بالشر من جهة عمر المتغلب
وتوقع النكبة من جانبه فتسلل إلى قصره و أخذ ما خف من ذخيرته ولحق بالسلطان أبي
الحسن وقص عليه الخبر وأغراه بتملك إفريقية وأوجب عليه النظر للمسلمين فيها وكان
السلطان أبو الحسن يتمنى ذلك لولا مكان صهره أبي بكر فأقام بتحين لها الأوقات
ويترقب لها الفرص حتى كانت هذه وإنما تنجع المقالة في المرء إذا صادقت هوى في
القؤاد فأظهر أبوا لحسن الإمتعاض لما فعله عمر بأخيه ولي العهد من منعه من حقه
أولا ثم غراقة دمه ثانيا لا سيما وقد كان أعطى خط يده بالموافقة على العهد المذكور
فأجمع الحركة إلى إفريقية ولحق به خالد بن حمزة بن عمر أخو أبي الهول المقتول مع
ولي العهد فاستعداه على عدوه ففتح السلطان أبوة الحسن ديوان الطعاء ونادى في الناس
بالمسير إلى إفريقية وأزاح عللهم وعسكر بظاهر تلمسان ثم نهض في صفر من سنة ثمان
وأربعين وسبعمائة يجر الدنيا بما حملت بعد أن عقد لابنه الأمير أبي عنان على
المغرب الأوسط وعهد إليه بالنظر في أموره كافة وجعل إليه جبايته وقدمت عليه في
طريقه أعراب إفريقية وولاة قابس وبلاد الجريد وأطاعته طرابلس والزاب وبجاية
وصاحبها يومئذ أبو عبد الله محمد بن أبي زكرياء بن أبي بكر ولما وصل قسنطينة خرج
غليه أبناء الأمير أبي عبد الله بن أبي بكر ولما وصل إلى قسنطينة خرج إليه أبناء
الأمي أبي عبد الله بن أبي بكر فبايعوه فأقبل عليهم وصرفهم إلى المغرب وأنزلهم
بوحدة وأقطعهم جبايتها وأنزل بقسنطينة خلفاءه وعماله وقد كان صرف أبا عبد الله
صاحب بجاية إلى ندرومة فأنزله بها وأقطعه الكفاية من جبايتها ثم وفد عليه بنو حمزة
بن عمر أمراء الكعوب من سليم فأخبروه بإجفال عمر المتغلب بتونس مع ظاعنة أولاد
مهلهل واستحثوه في اعتراضهم قبل لحاقهم بالقفر فسرح معهم العساكر في طلبه لنظر حمو
بن يحيى العسكري
وتلوم السلطان أبو الحسن بقسنطينة وعرض جيوشه بسطح الجعاب منها ثم ارتحل على أثرهم
وأغذ حمو بن يحيى السير مع ناجعة أولاد أبي الليل فلحقوا بعمر صاحب تونس بأرض
الحامة من ناحية قابس فدافعوا عن
____________________
أنفسهم بعض الشيء ثم انهزموا
وكبا بعمر جواده في نافقاء بعض اليرابيع وانجلى الغبار عنه وعن مولاه ظافر راجلين
فتقبض عليهما وأوثقهما قائد العسكر بيده حتى إذا جن الليل ذبحهما خوفا من أن
تفتكهما العرب من يده وبعث برأسيهما إلى السلطان أبي الحسن فوصلا إليه بباجية وخلص
الفل من تلك الوقعة إلى قابس فتقبض عبد ا لملك بن مكي صاحبها على رجالات من أهل
الدولة كان فيهم أبو القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين وصخر بن موسى من رجالات
سدويكش وغيرهما من أعيان الدولة فبعث بهم ابن مكي إلى السلطان أبي الحسن ممقرنين
في الأصفاد فأما ابن عتو وصخر بن موسى وعلي بن منصور فقطعهم من خلاق لفتيا الفقهاء
بجرابتهم واعتقل الباقي
وسرح السلطان عساكره إلى تونس وعقد عليهم لصهره على ابنته يحيى بن سليمان من بني
عسكر فاحتلوا بتونس ثم جاء السلطان على أثرهم فنزل بظاهرها يوم الأربعاء الثامن من
جمادى الآخرة من سنة ثمان وأربعين وسبعمائة وتلقاه وفد تونس وشيوخها من أهل الفتيا
وأرباب الشورى فآتوه طاعتهم وانقلبوا مسرورين بولايته مغتبطين بملكته وكانت تونس
يومئذ مشحونة بالأعلام الأكابر منهم ابن عبد السلام وابن عرفة وابن عبد الرفيع
وابن راشد القفصي وابن هارون وأعلام آخرون ثم عبا السلطان أبو الحسن يوم السبت
مواكبه لدخول الحضرة فصف جنوده سماطين من معسكره بسيجوم إلى باب البلد نحو أربعة
أميال وركبت بنو مرين من مراكزهم من جموعهم وتحت راياتهم وركب السلطان من فسطاطه
وعن يمينه وليه عريف بن يحييى كبير سويد ويليه أبو محمد عبد الله بن تافراجين وعن
يساره الأمير أ [ و عبد الله محمد بن أبي زكرياء وهو أخو السلطان أبي بكر ويليه
الأمير أبو عبد الله ابن أخيه خالد كانا معتقلين بقسنطينة فأطلقهما السلطان أبو
الحسن وصحببوه إلى تونس فكانوا طراز ذلك الموكب فيمن لا يحصى من أعياص بني مرين
وكبرائهم وهدرت طبوله وخفقت راياته وكانت يومئذ نحو المائة وجاء السلطان والمواكب
تجتمع عليه صفاصفا إلى أن وصل إلى البلد
____________________
وقد ماجت الأرض بالجيوش قال
ابن خلدون وكان يوما لم ير مثله فيما عقلناه قلت كان سن أبن خلدون يومئذ ست عشرة
سنة لأنه ولد غرة رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة
وكان قدم في جملة السلطان أبي الحسن جماعة كبيرة من أعلام المغرب كان يلزمهم شهود
مجلسه ويتجمل بمكانهم نيه ثم دخل القصر الخلافي وخلع على أبي محمد بن تافراجين
وقرب إليه فرسا بسرجه ولجامه وطعم الناس بين يديه وانتشروا إلى منازلهم ثم دخل
السلطان أبو الحسن مع ابن تافراجين إلى حجر القصر ومساكن الخلفاء فطاف عليها ودخل
منها الى الرياض المتصلة بها المدعوة برأس الطابية فطاف على تلك البساتين وسرح
نظره فيها واعتبر بحالها ثم أفضى منها إلى معسكره وأنزل يحيى بن سليمان بقصبة تونس
في عسكر لحمايتها ثم ارتحل من الغد إلى القيروان فجال في نواحيها ووقف على اثار
الأولين ومصانع الأقدمين والطلول الماثلة لصنهاجة والعبيديين والتمس البركة في
زيارة القبور التي نذكر للصحابة والسلف من التابعين والأولياء في ساحتها ثم سار
إلى سوسة ثم إلى المهدية ووقف على ساحل البحر منها وتطوف في معالمها ونظر في عاقبة
الذين كانوا من قبله أشد قوة وآثارا في الأرض واعتبر باحوالهم ومر في طريقه بقصر
الأجم ورباط المنستير وانكفأ راجعا إلى تونس فاحتل بها غرة رمضان من السنة ونزل
المسالح على ثغور إفريقية وأقطع بني مرين البلاد والضواحي وأمضى إقطاعات العرب
التي كانت لهم من قبل الحفصيين واستعمل على الجهات وخفتت الأصوات وسكنت الدهماء
وانقبضت أيدي أهل الفساد وانقرض أمر الحفصيين في هذه المدة إلا أنه عقد على بونة
لصهره الفضل ابن السلطان أبي بكر إكراما لصهره ووفادته عليه واتصلت ممالك السلطان
أبي الحسن ما بين مسراته إلى السوس الأقصى من هذه العدوة وإلى رندة من عدوة الأندلس
ودخل المغرب بأسره في طاعته وحذر ملوك مصر والشام ما شاع من بسطته وانفساخ دولته
ونفوذ كلمته والملك لله يؤتيه من يشاء من عبادة والعاقبة للمتقين وقد كان الشعراء
رفعوا إليه قصائد في سبيل التهنئة بالفتح وكان سابق
____________________
الحلبة يومئذ أبو القاسم
الرحوي في قصيدة يقول في مطلعها
( أجابك شرق إذ دعوت ومغرب ** فمكة هشت للقاء ويشرب ) وهي طويلة تخطيناها اختصارا
والله تعالى ولي التوفيق بمنه انتقاض عرب سليم بإفريقية على السلطان أبي الحسن وما
نشأ عن ذلك
قد تقدم لنا عند الكلام على العرب الداخلين إلى المغرب أن جمهورهم كان من بني جشم
بن معاوية بن بكر وبني هلال بن عامر بن صعصعه وبني سليم بن منصور وإن الذين بقوا
منهم بإفريقية هم بنو سليم وبعض هلال وكان لهم استطالة على الدول واعتزاز عليها
فكان ملوك الحفصيين يتألفونهم بالولايات والإقطاعات ونحو ذلك وكان السلطان أبو
الحسن المريني حاله مع عرب المغرب الأقصى غير حال الحفصين مع عرب إفريقية وملكته
لأهل باديته غير ملكتهم لأهل باديتهم فلما ورد إفريقية واستولى عليها رأي من
اعتزاز العرب بها على الدولة وكثرة إقطاعاتهم من الضواحي والأمصار ما تجاوز الحد
المعتاد عنده فأنكر ذلك وضرب على أيديهم وعوضهم عنه بأعطيات فرضها لهم في الديوان
من جملة الجند واستكثر جبايتهم فنقصهم الكثير منها ثم شكا إليه الرعية من أولئك
العرب وما ينالونهم به من الظلامات وضرب الإتاوة التي يسمونها الخفارة فقبض أيديهم
عن ذلك كله وتقدم إلى الرعايا بمنعهم منها فارتابت العرب لذلك وفسدت ضمائرهم وثقلت
وطأة الدولة المرينية عليهم فتربصوا بها وتحزبوا لها وتعاوت ذئابهم في بواديهم
فاجتمعوا وأغاروا على قياطين بني مرين ومسالحهم في ثغور إفريقية حتى أنهم أغاروا
على ضواحي تونس فاستاقوا الظهر الذي كان في مرعاها والسلطان يومئذ بها فعظم عليه
ذلك وحقد على كبرائهم وأظلم الجو بينه وبينهم ثم وفد عليه أيام الفطر من رجالاتهم
خالد بن حمزة أمير بني كعب وأخوه أحمد وخليفة بن عبد الله من بني مسكين وابن عمه
خليفة بن
____________________
أبي زيد أولاد القوس فأنزلهم
السلطان أبو الحسن وأجمل لقاءهم مغضبا عما صدر من غوغاتهم ثم رفع إليه عبد الواحد
بن اللحياني من أولاد الملوك الحفصيين أنهم بعثوا إليه مع بعض حاشيته يطلبون منه
الخروج معهم لينصبوه للأمر بإفريقية وأنه خشي على نفسه بادرة السلطان فتبرأ إليه
من ذلك فقامت قيامة السلطان أبي الحسن عند سماعه ذلك فأحضرهم وأحضر الحفصي معهم
وقرره بما دار بينه وبينهم فبهتوا وأنكروا فوبخهم وأمر بهم فسحبوا إلى السجن ثم
فتح ديوان العطاء وعرض الجند لغزوهم وعسكر بسيجوم من ظاهر تونس وذلك بعد قضاء نسك
الفطر من سنة ثمان وأربعين وسبعمائة
واتصل الخبر بأولاد أبي الليل وأولاد القوس باعتقال وفدهم وجمع السلطان لغزوهم
فضاقت عليهم الأرض بما رحبت وانطلقوا في إحيائهم يحزبون الأحزاب ويستشيرون الثوار
وعطفوا على أعدائهم من أولاد مهلهل فوصلوهم بعد القطيعة وكانوا بعد مقتل سلطانهم
عمر بن أبي بكر قد لحقوا بالقفر خوفا من أبي الحسن لأنهم كانوا شيعة لعمر المذكور
فلما وقع بين أبي الحسن وبين أولاد أبي الليل ما وقع ركب قتيبة بن حمزة إليهم ومعه
أمه ونساء أولادها فتطارحوا عليهم ورغبوا إليهم في الإجتماع معهم على الخروج على
السلطان ومنابذته فكان أولاد مهلهل إليها مسرعين فارتحلوا معهم وتوافت أحياء سليم من
بني كعب وبني حكيم بتوزر من بلاد الجريد فتذامروا وتصافوا وأهدروا الدماء بينهم
وتبايعوا على الموت وصاروا نفسا واحدة على تباين أغراضهم وفساد ذات بينهم والتمسوا
من أعياص الملك من ينصبونه للأمر فدلهم بعض سماسرة الفتن على رجل من ببني عبد
المؤمن وهو أحمد بن عثمان بن أبي دبوس آخر ملوك بني عبد المؤمن وكان يحترف
بالخياطة في توزر بعد ما طوحت به الطوائح فانطلقوا إليه وجاؤوا به ونصبوه للأمر
وجمعوا له شيئا من الفساطيط والخيل والآلات والكسوة وأقاموا له رسم السلطان
وعسكروا عليه بقياطينهم وحللهم وتحالفوا على نصره
ولما قضى السلطان ابو الحسن نسك عيد الأضحى من السنة المذكورة
____________________
ارتحل من ساحة تونس يريد العرب
فوافاهم بالموضع المعروف بالتينة بين بسيط تونس وبسيط القيروان فأجفلوا أمامه
فأتبعهم وألح عليهم إلى أن وصلوا إلى القيروان فلما رأوا أن لا ملجأ لهم منه عزموا
على الثبات له وتحالفوا على الإستماتة وكان عسكر السلطان أبي الحسن يومئذ مشحونا
بأعدائه من بني عبد الواد المغلوبين على ملكهم ومغراوة وبني توجين وغيرهم فدسوا
إلى العرب أثناء هذه المناوشة بأن يناجزوا السلطان غدا حتى يتميزوا إليهم ويجروا
عليه الهزيمة فأجابوهم إلى ذلك وصبحوا معسكر السلطان من الغد فركب إليهم في
التعبية ولما تقابلوا تحيز إليهم الكثير ممن كان معه واختل مصافه فانهزم هزيمة
شنعاء وبادر الى القيروان فدخلها فيمن معه من الفل مستجيرا بها ودافع عنه أهلها
وتسابقت العرب إلى معسكره فانتهبوه بما فيه من المضارب والعدد والآلات ودخلوا
فسطاط السلطان فاستولوا على ذخيرته والكثير من حرمه وأحاطوا بالقيروان وزحفت إليها
حللهم فدارت بها سياجا واحدا وتعاوت ذئابهم بأطراف البقاع وأجلب ناعق الفتنة منهم
بكل قاع واضطرمت إفريقية نارا وكانت الهزيمة يوم الإثنين سابع محرم من سنة تسع
وأربعين وسبعمائة وبلغ الخبر إلى تونس وكان السلطان قد خلف بها عند رحيله الكثير
من أبنائه وحرمه ووجوه قومه وأمناء بيت ماله وبعض الحاشية من جنده فتحصنوا بالقصبة
وأحاط بهم الغوغاء كي يستنزلوهم عنها فامتنعوا عليهم وكانوا بها أملك منهم وكان
الأمير أبو سالم إبراهيم بن السلطان أبي الحسن قد جاء من المغرب في هذا التاريخ
فوافاه الخبر قرب القيروان فانفض معسكره ورجع إلى تونس فكان معهم في القصبة ثم نزع
أبو محمد بن تافراجين عن السلطان أبي الحسن وكان محصورا معه بالقيروان وكان قد سئم
صحبته ومل خدمته لأنه كان أيام حجابته للسلطان الحفصي مستبدا عليه مفوضا إليه في
جميع أموره فلما استوزره السلطان أبو الحسن لم يجره على تلك العادة لأنه كان قائما
على أموره بنفسه وليس التفويض للوزراء من شأنه وكان ابن تافراجين يظن أنه سيوكل
إليه أمر إفريقية وينصب معه لملكها الفضل ابن السلطان أبي بكر شقيق زوجته وربما
زعموا أنه عاهده على ذلك
____________________
فكان في قلبه من الدولة
المرينية مرض وكان العرب أيام عزمهم على الخروج يفاوضونه بذات صدورهم فلما حصلوا
على البغية من الظهور على السلطان وحصاره بالقيروان احتالوا في أمر ابن تافراجين
فبعثوا إلى السلطان يطلبون منه بعثه إليهم ليفاوضوه في الرجوع إلى الطاعة
والانخراط في سلك الجماعة فأذن له فخرج إليهم ووصل يده بيدهم ولم يرجع الى السلطان
أبي الحسن فقلدوه حجابة سلطانهم ابن أبي دبوس ثم سرحوه إلى حصار من بالقصبة من بني
مرين وطمعوا في الإستيلاء عليها وفض ختامها فسار ابن تافراجين إليها وانضم إليه
أشياخ الموحدين في زعانف من الغوغاء وأحاطوا بالقصبة ثم لحق بهم ابن أبي دبوس
فعاودوها القتال ونصبوا عليها المجانيق فامتنعت عليهم ولم يغنوا شيئا وابن تافرجين
في أثناء ذلك يحاول الفرار بنفسه لاضطراب الأمور واختلال الرسوم إلى أن بلغه خلوص
السلطان أبي الحسن من القيروان إلى سوسة
وكان من خبره أن العرب بعد حصارهم إياه بالقيروان اختلفت كلمتهم لديه وكان قد دخل
أولاد مهلهل في الإفراج عنه واشترط لهم على ذلك أموالا ونذر بنو أبي الليل بذلك
فاضربت كلمتهم ودخل عليه قتيبة بن حمزة منهم بمكانه من القيروان زعيما بالطاعة
فتقبله وأطلق أخويه خالدا وأحمد ومع ذلك فلم يطمئن إليهم ثم جاء إليه محمد بن طالب
من أولاد مهلهل وخليفة بن أبي زيد وأبو الهول بن يعقوب من أولاد القوس وعاهدوه على
الإفراج عنه والقيام معه حتى يصل إلى مأمنه فخرج معهم ليلا على التعبية وذؤبان
العرب تطأ أذياله وضباعها تنوشه إلى أن استقر بسوسة وأمن على نفسه وقد أتى النهب
على جل ما كان معه ولما سمع ابن تافراجين وهو محاصر للقصبة بوصول السلطان إلى سوسة
تسلل من أصحابه وركب البحر إلى الإسكندرية فأصبحوا وقد فقدوه فاضطرب أمرهم وارتاب
سلطانهم ابن أبي دبوس لما علم بخبره فانفض جمعهم عن القصبة وأفرجوا عنها وخرج بنو
مرين فملكوا البلد وخربوا منازل الحاشية بها ثم ركب السلطان أبو الحسن من سوسة
البحر فاحتل بتونس في ربيع الآخر سنة تسع وأربعين
____________________
وسبعمائة فاجتمع شمله واستتب
أمره وكتب إلى صاحب مصر في التقبض على ابن تافراجين فأجاره بعض الأمراء وانصرف
لقضاء فريضة الحج واعتمل السلطان أبو الحسن في إصلاح أسوار تونس وإدارة الخندق
عليها وأقام لها من الصيانة والحصانة رسما دفع به في نحر عدوه وبقي له ذكره من
بعده ثم أجلب العرب وسلطانهم ابن أبي دبوس على تونس ونازلوا أبا الحسن بها
واستبلغوا في حصاره وخلصت ولاية أولاد مهلهل للسلطان فعول عليهم ثم راجع بنو حمزة
بصائرهم وصاروا إلى مهادنته فعقد لهم السلم ودخل عليه عمر بن حمزة وافدا فحبسه حتى
قبض إخوانه على أميرهم ابن أبي دبوس وقادوه إليه استبلاغا في الطاعة وإمحاضا
للولاية فتقبل فئتهم وأودع ابن أبي دبوس السجن وعقد الصهر بينه وبين عمر بن حمزة
فزوج ابنه عمر بابنه أبي الفضل واختلفت أحوال هؤلاء العرب على السلطان أبي الحسن
في الطاعة تارة والانحراف أخرى مدة إقامته بتونس إلى أن كان ما نذكره والله غالب
على أمره انتقاض الأطراف وثورة أبي عنان ابن السلطان أبي الحسن واستيلاؤه على
المغرب
قد تقدم لنا أن السلطان أبا بكر الحفصي رحمه الله لما زوج ابنته من السلطان أبي
الحسن بعث معهما في زفافها شقيقها أبا العباس الفضل بن أبي بكر وأن خبر وفاة والده
أدركه وهو بالطريق ولما وصل إلى السلطان أبي الحسن عزاه عن مصاب أبيه ووعده
بالمظاهرة على ملكه فبقي عنده بتلمسان إلى أن نهض في صحبته إلى إفريقية فلما غلب
السلطان أبو الحسن على بجاية وقسنطينة وارتحل إلى تونس عقد له على بونة التي كان
يلي عملها أيام أبيه فانقطع أمله وفسد ضميره وطوى على البث حتى إذا كانت نكبة
القيروان سما إلى التوثب على ملك سلفه وكان أهل قسنطينة وبجاية قد سئموا ملكة بني
مرين وبرموا بولايتهم لمخالفتهم بعض العوائد التي كانت لهم مع الملوك
____________________
الحفصيين ولأن الصبغة الحفصية
كانت قد رسخت في نفوسهم جيلا بعد جيل فصعب عليهم نزعها
( نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ** ما الحب إلا للحبيب الأول )
( كم منزل في الأرض يألفه الفتى ** وحنينه أبدا لأول منزل )
فأشرأبوا إلى الثورة على المرينيين لما سمعوا بنكبة القيروان واتفق أن قدم قسنطينة
ركب من أهل المغرب قاصدين إلى السلطان أبي الحسن وكان فيهم عمال الجباية قدموا
بجبايتهم عند راس الحول كما جرت به عادتهم في ذلك ومعهم ابن صغير للسلطان اسمه عبد
الله وفيهم وفد من رؤساء الفرنج بعثهم طاغيتهم بقصد التهنئة بفتح إفريقية ومعهم
تاشفين ابن السلطان الذي أسر يوم طريف أطلقه الطاغية بعد أن أصابه خبال في عقله
وأرسل معه بهدية نفيسة وفيهم وفد من أهل مالي بعثهم السلطان منسا سليمان بقصد
التهنئة أيضا فتوافت هؤلاء الوفود بقسنطينة وقد طم عباب الفتنة على إفريقية فأراد
غوغاؤها وانتهاب ما معهم ثم تخلصوا منهم في خبر طويل
وفي أثناء ذلك ثار الفضل بن السلطان أبي بكر صاحب بونة فراسله أهل قسنطينة في
القدوم عليهم والقيام بأمرهم فقدمها وجرت خطوب واتصل بأهل بجاية ما فعله أهل
قسنطينة فتبعوهم على رأيهم من الانتقاض ووثبوا على من كان عندهم من حامية بني مرين
فاستلبوهم وأخرجوهم عراة واستدعوا الفضل بن أبي بكر من قسنطينة فبادر إليهم
واستولى على بجاية واستتب أمره بها وأعاد ألقاب الخلافة وبينما هو يحدث نفسه بغزو
تونس ثار عليه أبناء أخيه أبي عبد الله بن أبي بكر فانتزعوا منه بجاية وردوه إلى
عمله الأول وانتقض على السلطان أبي الحسن أيضا سائر زناتة من بني عبد الواد
ومغراوة وبني توجين وبايع بنو عبد الواد لعثمان بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن
بن زيان وساروا إلى تلمسان فاستجدوا بها ملك سلفهم في أخبار طويلة
وجرت هذه الخطوب والسلطان أبو الحسن مقيم بتونس تغاديه العرب
____________________
بالقتال وترواحه وتعوج عليه
تارة وتستقيم أخرى وطال مقامه بها وعميت أنباؤه على أهل المغرب وحدث في الخلق
الوباء العظيم الذي عم المشرق والمغرب فأرجف بموته واضطربت الأحوال بالمغارب
الثلاثة الأدنى والأوسط والأقصى واتصل ذلك بالأمير أبي عنان وهو يومئذ بتلمسان كان
أبوه قد ولاه عليها عند ذهابه إلى إفريقية حسبما مر فلما أرجف بمهلك أبيه وتساقط
إليه الفل من عسكره عراة زرافات ووحدانا تطاول إلى الاستئثار بملك أبيه دون سائر
إخوته وكان مرشحا عنده لذلك لمزيد فضله عليه في غير وصف واتفق أن كان عنده رجل من
بني عبد الواد اسمه عثمان بن يحيى بن محمد بن جرار وكان ينسب إلى علم الحدثان ولما
سافر السلطان إلى إفريقية كان هذا الرجل أول المرجفين به وأنه لا يرجع من سفرته
وأن الأمر صائر إلى أبي عنان ونجع ذلك في أبي عنان لموافقته هواه فاشتمل على ابن
جرار وخلطه بنفسه فلما ورد الخبر بنكبة السلطان وانحصاره أولا بالقيروان ثم بتونس
لم يستزب أبو عنان في صدق ابن جرار وأنه على بصيرة من أمره فتحفز للوثبة وصمم على
الثورة ثم أكد عزمه على ذلك ما اتصل به من خبر ابن أخيه منصور بن أبي مالك عبد
الواحد بن أبي الحسن بفاس الجديد وأنه ثار بها وفتح ديوان العطاء واستلحق واستركب
ورام التغلب على المغرب واحتياز الأمر لنفسه دون غيره وروى في ذلك بأنه إنما عزم
على الذهاب إلى إفريقية لاستنفاذ السلطان من هوة الحصار يسر من ذلك حسوا في ارتغاء
وتفطن لشأنه الحسن بن سليمان بن يزريكن عامل القصبة بفاس وصاحب الشرطة بالضواحي
فاستأذنه في اللحاق بالسلطان فأذن له راحة منه فلحق بأبي عنان على حين أمضى عزيمته
على التوثب فأخرج ما كان بقصر السلطان بالمنصورة من المال والذخيرة وجاهر بالدعاء
لنفسه وجلس للبيعة بمجلس السلطان من قصره في ربيع الثاني من سنة تسع وأربعين
وسبعمائة فبايعه الملأ وقرأ كتاب بيعتهم على الأشهاد ثم بايعه العامة وانفض المجلس
وقد استتب سلطانه ورست قواعد ملكه وركب في التعبية والآلة حتى نزل بقبة الملعب
وطعم الناس وانتشروا وعقد على وزارته للحسن بن سليمان بن
____________________
يرزيكن القادم عليه ثم لفارس
بن ميمون بن وردار وجعله رديفا له ورفع مكان ابن جرار عليهم كلهم واختص لمناجاته
كاتبه أبا عبد الله محمد بن محمد بن أبي عمرو ثم فتح الديوان وجعل يستركب كل من
تساقط إليه من قبل أبيه ويخلع عليهم وارتحل إلى المغرب وعقد على تلمسان لابن جرار
وأنزله بالقصر القديم منها فاستمر بها واستبد إلى أن قدم عليه بنو عبد الواد
مجتمعين على سلطانهم عثمان بن عبد الرحمن فقتلوه غرقا في خبر طويل ولما انتهى
الأمير أبو عنان إلى وادي الزيتون وشى إليه بالوزير الحسن بن سليمان وأنه عازم على
الفتك به بتازا تقربا إلى السلطان أبي الحسن ووفاء بطاعته وأنه قد داخل في ذلك
حافده منصور بن أبي مالك الثائر بفاس وأطلعه هذا الواشي على كتاب الوزير في ذلك
فلما قرأه تقبض عليه ثم قتله خنقا في مساء ذلك اليوم وأغذ السير إلى المغرب
وانتهى الخبر إلى منصور صاحب فاس فزحف للقائه والتقى الجمعان بوادي أبي الأجراف من
ناحية تازا فاختل مصاف منصور وانهزمت جموعه ولحق بفاس الجديد فتحصن بها وتبعه أبو
عنان فأناخ عليه خارجها وقد تسايل الناس على طبقاتهم إليه وآتوه طاعتهم وكان قد
سلك مع الرعية والجند من البذل والاستيلاف طريقا لم يسبق إليه وكانت منازلته لفاس
الجديد في ربيع الآخر من السنة المذكورة فأخذ بمخنقها وأجمع الأيدي والفعلة على
الآلات لحصارها ثم أرسل إلى مكناسة بإطلاق أولاد أبي العلاء المعتقلين بالقصبة
منها فأطلقوا ولحقوا به وحاصروا معه فاس الجديد وضيقوا عليها إلى أن ضاقت أحوال
أهلها واختلفت أهواؤهم ونزع إلى أبي عنان أهل الشوكة منهم ثم إن إدريس بن عثمان بن
أبي العلاء احتال في فتح البلد بأن أظهر النزوع عن أبي عنان إلى منصور المحصور
فدخل البلد وتمكن منه وثار به فيمن معه من حاشيته واقتحمه الأمير أبو عنان عليهم
ونزل منصور على حكمه فاعتقله إلى أن قتله بمحبسه واستولى على ذلك الملك وتسابقت
إليه وفود الأمصار للتهنئة بالبيعة وتمسك أهل سبتة بطاعة السلطان
____________________
أبي الحسن ثم رجعوا عن ذلك
وثاروا على عاملهم عبد الله بن علي بن سعيد من طبقة الوزراء فقبضوا عليه وقادوه
إلى أبي عنان مبايعين له متقربين به إليه وتولى كبر ذلك فيهم زعيمهم الشريف أبا
العباس أحمد بن محمد بن رافع الصقلي من آل الحسين السبط رضي الله عنه كان سلفه قد
انتقلوا من صقلية ( ) إلى سبتة فاستوطنوها ثم استوطنوا بعدها حضرة فاس واستوسق
للأمير أبي عنان ملك المغرب واجتمع إليه قومه من بني مرين إلا من أقام مع أبيه
بتونس وفاء بحقه وحص جناح أبيه عن الكرة على بني كعب الناكثين لعهده الناكبين عن طاعته
فأقام السلطان أبو الحسن رحمه الله بتونس يرجو الأيام ويأمل الكرة والأطراف تنتقض
والخوارج تتجدد وقنط من كان معه من حاشيته وسئموا المقام بأرض ليست لهم بدار مقام
فحسنوا له النهوض إلى المغرب فأسعفهم وعزم على الرحلة كما نذكره إن شاء الله وفي
هذه المدة كتب إليه السلطان أبو الحجاج يوسف بن الأحمر كتابا من إنشاء وزيره لسان
الدين ابن الخطيب يسائله عن أحواله ويعزيه عن مصابه ويتأسف له ونص الكتاب المقام
الذي أقمار أسعده في انتظام واتساق وجياد عزه الى الغاية القصوى ذات استباق
والقلوب على حبه ذات اتفاق وعناية الله تعالى عليه مديدة الرواق وأياديه الجمة في
الأعناق ألزم من الأطواق وأحاديث مجده سمر النوادي وحديث الرفاق مقام محل أبينا
الذي شأن قلوبنا الاهتمام بشأنه وأعظم مطلوبنا من الله تعالى سعادة سلطانه السلطان
الكذا ابن السلطان الكذا إبن السلطان الكذا أبقاه الله تعالى والصنائع الإلهية تحط
ببابه والألطاف الخفية تعرس في جنابه والنصر العزيز يحف بركابه وأسباب التوفيق
متصلة بأسبابه والقلوب الشجية لفراقه مسرورة باقترابه معظم سلطانه الذي له الحقوق
المحتومة والفواضل المشهورة المعلومة والمكارم المسطورة المرسومة والمفاخر
المنسوقة المنظومة الداعي إلى الله تعالى في وقاية ذاته المعصومة وحفظها على هذه
الأمة المرحومة الأمير عبد الله يوسف بن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج
بن نصر سلام كريم طيب عميم
____________________
كما سطعت في غياهب الشدة أنوار
الفرج وهبت نواسم ألطاف الله عاطة الأرج يخص مقامكم الأعلى ورحمة الله وبركاته أما
بعد حمد اله جالي الظلم بعد اعتكارها ومقيل الأيام من عثارها ومزين سماء الملك
بشموسها المحتجبة وأقمارها ومريح القلوب من وحشة أفكارها ومنشئ سحاب الرحمة على
هذه الأمة بعد افتقارها وشدة اضطرابها ومتداكها باللطف الكفيل بتمهيد أوطانها
وتيسير أوطارها والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله صفوة النبوة
ومختارها ولباب مجدها السامي ونجارها نبي الملاحم وخائض تيارها ومذهب رسوم الفتن
ومطفئ نارها الذي لم ترعه الشدائد باضطراب بحارها حتى بلغت كلمة الله ما شاءت من
سطوع أنوارها ووضوح أثارها والرضا عن آله وأصحابه الذين تمسكوا بعهده على إجلاء
الحوادث وإمرارها وباعوا نفوسهم في إعلاء دعوته الحنيفية وإظهارها والدعاء لمقامكم
الأعلى باتصال السعادة واستمرارها وانسحاب العناية الإلهية وإسدال أستارها حتى تقف
الأيام بباكم موقف اعتذارها وتعرض على مثابتكم ذنوبها راغبة في اغتفارها فإنا
كتبناه إليكم كتب الله تعالى لكم أوفى ما كتب لصالحي الملوك من مواهب السعادة
وعرفكم عوارف الآلاء في إصدار أمركم الرفيع وإيراده وأجرى الفلك الدوار بحكم مراده
وجعل لكم العاقبة الحسنى كما وعد به في محكم كتابه المبين للصالحين من عباده من
حمراء غرناطة حرسها الله تعالى وليس بفضل الله الذي عليه في الشدائد الاعتماد وإلى
كنف فضله الاستناد ثم ببركة جاه نبينا الذي وضح بهدايته سبيل الرشاد إلا الصنائع
التي تشام بوراق اللطف من خلالها وتخبر سيماها بطلوع السعود واستقبالها وتدل مخايل
يمنها على حسن مآلها لله الحمد على نعمه التي نرغب في كمالها ونستدر عذب زلالها
وعندنا من الاستبشار باتساق أمركم وانتظامه والسرور بسعادة أيامه والدعاء إلى الله
تعالى في إظهاره وإتمامه ما لا تفي العبارة بأحكامه ولا تتعاطى حصر أحكامه وإلى
هذا أيد الله تعالى أمركم وعلاه وصان سلطانكم وتولاه فقد علم
____________________
الحاضر والغائب وخلص الخلوص
الذي لا تغيره الشوائب ما عندنا من الحب الذي وضحت منه المذاهب وإنه لما اتصل بنا
ما جرت به الأحكام من الأمور التي صحبت مقامكم فيها العناية من الله والعصمة وجعل
على العباد والبلاد الوقاية والنعمة لا يستقر بقلوبنا القرار ولا تتأتى بأوطاننا
الأوطار تشوفا لما تتيحه لكم الأقدار ويبرزه من سعادتكم الليل والنهار ورجاؤنا في
استئناف سعادتكم يشتد على الأوقات ويقوي علما بأن العاقبة للتقوى وفي هذه الأيام
عميت الأنباء وتكالبت في البر والبحر الأعداء واختلفت الفصول والأهواء وعاقت
الوارد الأنواء وعلى ذلك من فضل الله الرجاء ولو كنا نجد للاتصال بكم سببا أو نلقي
لإعانتكم مذهبا لما شغلنا البعد الذي بيننا اعترض والعدو بساحتنا في هذه الأيام
ربض وكان خديمكم الذي رفع من الوفاء راية خافقة واقتنى منه في سوق الكساد بضاعة
نافقة الشيخ الأجل الأوفى الأود الأخلص الأصفى على أبو محمد بن آجانا سنى الله
مأموله وبلغه من سعادة أمركم سؤله وقد ورد على بابنا وتحيز إلى اللحاق بجانبنا
ليتيسر له من جهتنا القدوم ويتأتى له بإعانتنا الغرض المروم فبينما نحن ننظر في تتميم
غرضه وإعانته على الوفاء الذي قام بمفترضه إذا اتصل بنا خبر قرقورتين من الأجفان
التي استعنتم بها على الحركة والعزمة المقترنة بالبركة حطت إحداهما بمرسى المنكب
والأخرى بمرسى المرية في كنف العناية الإلهية فتلقينا من الواصلين فيها الأنباء
المحققة بعد التباسها والأخبار التي يغني نصها عن قياسها وتعرفنا ما كان من عزمكم
على السفر وحركتكم المقرونة باليمن والظفر وإنكم استخرتم الله تعالى في اللحاق
بالأوطان التي يؤمن قدومكم خائفها ويؤلف طوائفها ويسكن راجفها ويصلح أحوالها ويذهب
أهوالها وإنكم سبقتم حركتها بعشرة أيام مستظهرين بالعزم المبرور والسعد الموفور
واليمن الرائق السفور والأسطول المنصور فلا تسألوا عن انبعاث الآمال بعد سكونها
ونهوض طيور الرجاء من وكونها واستبشار الأمة المحمدية منكم بقرة عيونها وتحقق
ظنونها وارتياح البلاد إلى دعوتكم التي ألبستها ملابس العدل والإحسان وقلدتها
____________________
قلائد السير الحسان وما منها
إلا من باح بما يخفيه من وجده وجهر بشكر الله تعالى وحمده وابتهل إليه في تيسير
غرض مقامكم الشهير وتتميم قصده واستئناس نور سعده وكم مطل الانتظار بديون آمالها
والمطاولة من اعتلالها وأما نحن فلا تسألوا عمن استشعر دنو حبيبه بعد طول مغيبه
إنما هو صدر راجعه فؤاده وطرف ألفه رقاده وفكر ساعده مراده فلما بلغنا هذا الخبر
بادرنا إلى إنجاز ما بذلنا لخديمكم المذكور من الوعد واغتنمنا ميقات هذا السعد
ليصل سببه بأسبابكم ويسرع لحاقه بجنابكم فعنده خدم نرجو أن ييسر الله تعالى بحوله
أسبابها ويفتح بنيتكم الصالحة أبوابها وقد شاهد من امتعاضنا لذلك المقام الذي ندين
له بالتشيع الكريم الوداد ونصل له على بعد المزار ونزوح الأقطار سبب الاعتداد ما
يغني عن القلم والمداد وقد القينا إليه من ذلك كله ما يلقيه إلى مقامكم الرفيع
العماد وكتبنا إلى من بالسواحل من ولاتنا نحد لهم ما يكون عليه عملهم في بر من يرد
عليهم من جهة أبوتكم الكرمية ذات الحقوق العظيمة والأيادي الحديثة والقديمة وهم
يعملون في ذلك بحسب المراد وعلى شاكلة جميل الاعتقاد ويعلم الله تعالى أننا لو لم
تعق العوائق الكبيرة والموانع الكثيرة والأعداء الذين غصت بهم في الوقت هذه
الجزيرة ما قدمنا عملا على اللحاق لكم والاتصال بسببكم حتى نوفي لأبوتكم الكريمة
حقها ونوضح من المسرة طرقها لكن الأعذار واضحة وضوح المثل السائر وإلى الله تعالى
نبتهل في أن يوضح لكم من التيسير طريقا ويجعل لكم السعد مصباحا ورفيقا ولا يعدمكم
عناية منه وتوفيقا ويتم سرورنا عن قريب بتعريف أنبائكم السارة وسعودكم الدارة فذلك
منه سبحانه غاية آمالنا وفيه أعمال ضراعتنا وابتهالنا هذا ما عندنا بادرنا
لإعلامكم به أسرع البدار والله تعالى يوفد علينا أكرم الأخبار بسعادة ملككم السامي
المقدار وييسر ما له من الأوطار ويصل سعدكم ويحرس مجدكم والسلام عليكم ورحمة الله
تعالى وبركاته اه
____________________
ركوب السلطان أبي الحسن البحر
من تونس إلى المغرب وما جرى عليه من المحن في ذلك
كان الأمير أبو العباس الفضل أبو السلطان أبي بكر الحفصي بعد أن لحق بعمله القديم
من بونة قد وفد عليه مشيخة العرب من اولاد أبي الليل وأغروه بملك إفريقية والنهوض
إلى تونس ومحاصرة السلطان أبي الحسن بها فأجابهم إلى ذلك ونهض إليها بعد عيد الفطر
سنة تسع وأربعين وسبعمائة فحاصرها مدة ثم انفض عنها ثم عاود حصارها ثم انفض عنها
ودخل الفقر مع أولاد أبي الليل إلى أن بايعه أهل بلاد الجريد بإشارة أبي القاسم بن
عتو المقطوع ودخل في طاعته توزر وقفصة ونفطة والحامة وقابس وجربة وانتهى الخبر إلى
السلطان أبي الحسن باستيلاء الفضل على هذه الأمصار واستفحال أمره بها وأنه ناهض
إلى تونس فأهمه شأنه وخشي على الأمر وكانت بطانته توسوس إليه بالرحلة إلى المغرب
لاسترجاع نعمتهم باسترجاع ملكه مع ما أصابهم بتونس من الغلاء والموت الذريع
فاجابهم إلى ذلك وشحن أساطيله بالأقوات وأزاح علل المسافرين ولما قضى نسك عيد
الفطر من سنة خمسين وسبعمائة ركب البحر في فصل الشتاء وهيجان البحر وكلب البرد بعد
أن عقد لابنه أبي الفضل على تونس ثقة بما بينه وبين عمر بن حمزة من المصاهرة
وتفاديا بمكانه من معرة الغوغاء وثورتهم به وكانت مدة محاصرة السلطان أبي الحسن
بتونس سنة ونصفا واتصل خبر رحيله بالفضل بن أبي بكر وهو ببلاد الجريد فأغذ السير إلى
تونس ونزل بها على أبي الفضل المريني ومن كان معه من حاشيته وأهل دولته ثم اقتحمها
واتصلت يده بيد أهد البلد ثم أحاطوا بالقصبة يوم منى حتى استنزلوا أبا الفضل على
الأمان فخرج إلى دار أصهاره من بني حمزة فبقي عندهم حتى أنفذوا معه من أوصله إلى
أبيه فلحق به بثغر الجزائر
وأما السلطان أبو الحسن وجيشه الراكب البحر معه فإنهم لما لججوا احتاجوا إلى الماء
فدخلوا مرسى بجاية لخمس ليال من إقلاعهم عن تونس فمنعهم صاحب بجاية الحفصي من
الورود وأوعز إلى سائر سواحله بمنعهم
____________________
فزحفوا إلى الساحل وقاتلوا من
صدهم عن الماء إلى أن غلبوهم واستقوا وأقلعوا ثم عصفت بهم الريح في تلك الليلة
وجاءهم الموج من كل مكان وتكسرت الأجفان وغرق الكثير من بطانة السلطان وعامة الناس
وقذف الموج بالسلطان فألقاه على حجر قرب الساحل من بلاد زواوة عاري الجسد مباشرا
للموت وقد هلك من كان معه من الفقهاء والعلماء والكتاب والأشراف والخاصة وهو يشاهد
مصارعهم واختطاف الموج لهم من فوق الصخور التي تعلقوا بها فمكثوا ليلتهم على ذلك
وصبحهم جفن من بقيه الأساطيل كان قد سلم من ذلك العاصف فبادر أهل الجفن إليه حين
رأوه فاحتملوه وقد تصايح به البربر من الجبال وتواثبوا إليه حين وضح النهار
وأبصروه فتداركه الله بهذا الجفن فاحتملوه وقذفوا به في مدينة الجزائر
وفي نفح الطيب أن أساطيل السلطان أبي الحسن كانت نحو الستمائة فغرقت كلها ونجا هو
على لوح وهلك من كان معه من أعلام المغرب وهم نحو أربعمائة عالم منهم أبو عبد الله
محمد بن سليمان السطي شارح الحوفي وأبو عبد الله محمد بن الصباغ المكناسي الذي
أملى في مجلس درسه بمكناسة على حديث يا ابا عمير ما فعل النغير أربعمائة فائدة
والأستاذ الزواوي أبو العباس وغير واحد وكان غرق الأسطول على ساحل تدلس وذكر الشيخ
أبو عبد الله الأبي في شرح مسلم كلامه على أحاديث العين ما معناه أن رجلا كان بتلك
الديار معروفا بإصابة العين فسأل منه بعض الموتورين للسلطان أبي الحسن أن يصيب
أساطيله بالعين وكانت كثيرة نحو الستمائة فنظر إليها الرجل العائن فكان غرقها
بقدرة الله الذي يفعل ما يشاء ونجى السلطان بنفسه وجرت عليه محن اه
ولما احتل بالجزائر وقد تمسك أهلها بطاعته استنشق ريح الحياة ولأم الصدع وأقام
الرسم وخلع على من وصل إليه من قل الأساطيل واستلحق واستركب ولحق به ابنه الناصر
من بسكرة والتف عليه بعض العرب من أحواز الجزائر ووفد عليه أولياؤه من عرب سويد
فنهض إلى جهة تلمسان وقد استولى عليها بنو زيان وسلطانهم عثمان بن عبد الرحمن فبرز
إليه أبو ثابت
____________________
أخو عثمان المذكور ولما التقى
الجمعان اختل مصاف السلطان أبي الحسن واستبيح معسكره وانتبهت فساطيطه وقتل ابنه
الناصر وظهر يومئذ من بسالته وصدق دفاعه وشدة حملاته حتى أنه أركب ظعائنه وخلص
محاميا عنها واحتمل ولده جريحا فتوفي بالطريق فواراه في التراب وأخفى قبره ثم خلص
إلى الصحراء مع وليه ونزمار بن عريف بن يحيى السويدي ولحق بحلل قومه قبلة جبل
وانشريس وأجمع أمره على قصد المغرب موطن قومه ومنبت عزه ودار ملكه فارتحل معه وليه
ونزمار بالناجعة من قومه وخرجوا إلى جبل راشد ثم قطعوا المفاوز إلى سجلماسة في
القفر فلما أطلوا عليها وعاين أهلها السلطان تهافتوا عليه تهافت الفراش على ضوء
السراج حتى خرج إليه العذارى من ستورهن ميلا إليه ورغبة في ولايته وفر العامل
بسجلماسة إلى منجاته
وكان الأمير أبو عنان لما بلغه الخبر بقصد أبيه سجلماسة نهض إليه في قومه وجموعه
بعد أن أزاح عللهم وأفاض عطاءه فيهم وكانت بنو مرين نافرة عن السلطان أبي الحسن
حاذرة من عقوبته لجنايتهم بالتخاذل في المواقف والفرار عنه في الشدائد ولما كان
يبعد بهم في الأسفار ويتجشم بهم المهالك والأخطار فكانوا لذلك مجمعين على منابذته
ومخلصين في طاعة ابنه ولما اتصل خبر قدومهم بالسلطان أبي الحسن علم من حاله أنه لا
يطيق دفاعهم وكان ونزمار قد أجفل عنه في قومه سويد لأن أباه عريف بن يحيى كان قد
نزع إلى أبي عنان قبل قدوم السلطان من تونس فأكرم محله ورفع منزلته فكتب إلى ابنه
ونزمار ينهاه عن ولاية السلطان أبي الحسن ومظاهرته له وأقسم له لئن لم يفارق
السلطان ليوقعن بابنه عنتر وكان معه في جملة الأمير أبي عنان فآثر ونزمار رضا أبيه
وعلم أن غناءه عن السلطان في وطن المغرب قليل فأجفل عنه ولحق بسكرة فكان بها إلى
أن رجع إلى أبي عنان بعد هذا ولما قرب أبو عنان من سجلماسة أجفل السلطان عنها إلى
ناحية مراكش ودخل أبو عنان سجلماسة فثقف أطرافها وسد فروجها وعقد عليها ليحتاتن بن
عمر بن عبد المؤمن كبير بني ونكاسن وبلغه أن أباه قد سار إلى مراكش فاعتزم على
اتباعه إليها فلم تطاوعه بنو مرين فرجع بهم إلى فاس إلى أن كان ما نذكره
____________________
استيلاء السلطان أبي الحسن على
مراكش ثم انهزامه عنها إلى هنتاته أهل جبل درن ووفاته هناك
لما أجفل السلطان أبو الحسن عن سجلماسة سنة إحدى وخمسين وسبعمائة قصد مراكش وركب
إليها الأوعار من جبال المصامدة ولما شارفها تسارع إليه أهل جهاتها بالطاعة من كل
أوب ونسلوا إليه من كل حدب وفر عامل مراكش إلى أبي عنان ونزع إلى السلطان أبي
الحسن صاحب ديوان الجباية أبو المجد بن محمد بن أبي مدين بما كان في الخزانة من
مال الجباية فاختصه واستكتبه وجعل إليه علامته واستركب واستلحق وجبى الأموال وبث
العطاء ودخل في طاعته قبائل العرب من جشم وسائر المصامدة وثاب له بمراكش ملك رجى
معه أن يستولي على سلطانه ويرتجع فارط أمره
وكان أبو عنان لما رجع إلى فاس عسكر بساحتها وشرع في العطاء وإزاحة العلل ثم ارتحل
في جموع بني مرين إلى مراكش وبرز السلطان أبو الحسن للقائه وانتهى كل واحد من
الفريقين إلى وادي أم الربيع وتربص كل واحد بصاحبه عبور الوادي فعبره أبو الحسن
وكان اللقاء بتامد غوست في آخر صفر من سنة إحدى وخمسين وسبعمائة فاختل مصاف
السلطان وانهزم عسكره ولحق به أبطال بني مرين ثم راجعوا عنه حياء وهيبة وكبى به
فرسه يومئذ في مفره فسقط إلى الأرض والفرسان تحوم حوله فاعترضهم دونه أبو دينار
سليمان بن علي بن أحمد أمير الذواودة من عرب رياح ورديف أخيه يعقوب كان هاجر مع
السلطان من الجزائر ولم يزل في جملته إلى هذا اليوم فدافع عنه حتى ركب وسار من
ورائه ردا له وأسر حاجبه علال بن محمد فأودعه أبو عنان السجن ثم امتن عليه بعد
وفاة أبيه
وخلص السلطان أبو الحسن رحمه الله إلى جبل هنتانة من جبال درن ومعه كبيرهم عبد
العزيز بن محمد بن علي الهنتاني فنزل عليه وأجاره واجتمع إليه الملأ من قومه
هنتانة ومن انضاف إليهم من المصامدة وتآمروا
____________________
وتعاهدوا على المدافعة عنه
وبايعوه على الموت وجاء أبو عنان على أثره حتى احتل بمراكش وأنزل عساكره على جبل
هنتانة ورتب المسالح لحصاره وحربه وطال عليه ثواؤه حتى طلب السلطان من ابنه
الإبقاء عليه وأن يبعث إليه حاجبه أبا عبد الله محمد بن محمد بن أبي عمر فحضر عنده
وأحسن العذر عن الأمير أبي عنان والتمس له الرضا منه فرضي عنه وكتب له بولاية عهده
وأوعز إليه بأن يبعث له مالا وكسى فسرح الحاجب ابن أبي عمر بإخراجها من المودع
بدار ملكهم واعتل السلطان خلال ذلك فمرضه أولياؤه وخاصته وافتصد لإخراج الدم ثم
باشر الماء للطهارة فورم محل الفصادة ومات رحمه الله في الثالث والعشرين من ربيع
الثاني سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة هكذا عند ابن خلدون وابن الخطيب وغيرهما والذي
رأيته مكتوبا بالنقش على رخامة قبره بشالة أن وفاته كانت ليلة الثلاثاء السابع
والعشرين من ربيع الأول من السنة المذكورة وبعث أولياء السلطان بالخبر إلى ابنه
وهو بمعسكره من ساحة مراكش ورفعوه على أعواد نعشه إليه فتلقاه حافيا حاسرا وقبل
أعواده وبكى واسترجع ورضني عن أوليائه وخاصته وأنزلهم بالمحل الذي رضوه من دولته
ثم دفن أباه بمراكش قبلي جامع المنصور من القصبة بالموضع الذي به اليوم قبور
الملوك الأشراف السعديين ثم لما نهض أبو عنان إلى فاس احتمل شلو أبيه معه حتى دفنه
بشالة مقبرة سلفهم ولا زال ضريحه قائم العين والأثر إلى الآن رحمه الله تعالى بقية
أخبار السلطان أبي الحسن وسيرته
كان السلطان أبو الحسن رحمه الله أسمر طويل القامة عظيم الهيكل معتدل اللحية حسن
الوجه وكان عفا مائلا إلى التقوى مولعا بالطيب لم يشرب الخمر قط لا في صغره ولا في
كبره محبا للصالحين عدلا في رعيته
____________________
يحب الفخر ويعنى به وقال بعض
المشارقة في حقه ما صورته ملك أضاء المغرب بأنوار هلاله وجرت إلى المشرق أنواء
نواله وطابت نسماته واشتهرت عزماته كان حسن الكتابة كثير الإنابة ذا بلاغة وبراعة
وشهامة وشجاعة اه وبنى رحمه الله عدة مدارس منها المدرسة العظمى بمراكش قبلي جامع
ابن يوسف قال العلامة اليفرني في النزهة إن الذي بناها هو السلطان أبو الحسن
المذكور قلت ومن وقف على هذه المدرسة وتأمل تنجيدها وتنميقها قدر هذا السلطان وعلم
عظم أهميته ومحبته للعلم وأهله ومنها المدرسة العظمى بطالعه سلا قبلي المسجد
الأعظم منها بناها رحمه الله على هيئة بديعة وصنعة رفيعة وأودع جوانبها من أنواع
النقش وضروب التخريم ما يحير البصر ويدهش الفكر ووقف عليها عدة أوقاف رصع أسماءها
بالنقش والأصباغ على رخامة عظيمة ثم نصب الرخامة بالحائط الجوفي منها كل ذلك
محافظة على تلك الأوقاف أن تغير وأما المسجد الأعظم ومدرسته الجوفية فهما من بناء
يعقوب المنصور الموحدي حسبما تقدم ذلك في أخباره وعندي أن السور المحمول عليه
الماء الداخل إلى سلا المعروف عندهم بسور الأقواس من بناء السلطان أبي الحسن رحمه
الله ولي في ذلك مستند غريب وهو أني كنت ذات يوم أفاوض بعض القناقنة بسلا ممن كان
يباشر أمر المياه بها ويصلح ما احتاج إلى الإصلاح منها فقلت كالمستفهم لنفسي من
غير قصد توجيه الخطاب إليه يا ترى من الذي بنى سور الماء الداخل إلى البلد فقال
على البديهة الذي بنى المدرسة هو الذي بنى سور الماء فقلت له وكنت متشوفا يومئذ
لتحقيق ذلك وما علمك بهذا فقال إن بيلة المدرسة بنيت يوم بنيت المدرسة بدليل
الزليج المرصوف حولها بالعمل الكبير الموجود نظيره في سائر حيطان المدرسة وسواريها
وهذه البيلة لم تتغير عن حالها إلى أن باشرت إصلاحها في هذه الأيام فحفرت عن
قنواتها وتتبعت مادة الماء الواصل إليها فإذا عمل تلك القوادس وصنعة بنائها حتى
الكلس المفرغ عليها الجامع بينها مماثل لعمل قنوات مبنية بالسور المذكور داخلة فيه
بحيث بنى عليها يوم تأسيسه من غير
____________________
فوق بين هذه وتلك في جميع
عملهما وليس بشيء من القنوات الحادثة بعدهما يشبههما فعلمت أن الذي بناهما واحد
فأعجبني كلامه وباحثته في ذلك فصمم على معتقده وحاولت تشكيكه بكل وجه فلم يتشكك
فظهر لي صدق دليله وغلب على ظني ما جزم به وعند الله علم حقيقة الأمر
واعلم أن هذا السور من المباني العادية والهياكل العظيمة التي تدل على فخامة
الدولة وكمال قوتها مثل ما يقال عن حنايا قرطاجنة ونحوها وهذا السور مسوق من عيون
البركة خارج مدينة سلا على أميال كثيرة ممتدا من القبلة إلى الجوف على أضخم بناء
وأحكمه موزون سطحه بالميزان الهندسي ليأتي جريان الماء فوقه على استواء ولذلك
ينخفض إلى الأرض متى ارتفعت ويعلو عنها إذا انخفضت ويجري على متنه من الماء مقدار
النهر الصغير في ساقيه قد اتخذت له ولما شارف البلد عظم ارتفاعه جدا لأجل انخفاض
الأرض عنه وكلما مر في سيره بطريق مسلوك فتحت له فيه أقواس فسمي لذلك سور الأقواس
وبالجملة فهو شاهد لبانية بضخامة الدولة وعظم الهمة
وللسلطان أبي الحسن رحمه الله بفاس ومكناسة وغيرهما من بلاد المغرب آثار كثيرة فمن
آثاره بفاس بيلة الرخام الأبيض المجلوبة من المرية زنتها مائة قنطار وثلاثة
وأربعون قنطارا سيقت من المرية الى موسى العرائش ثم طلعت في وادي قصر كتامة ثم
حملت على عجل الخشب تجرها القبائل إلى منزل أولاد محبوب الذين على ضفة وادي سبو
فوسقت فيه إلى أن وصلت إلى ملتقاه مع وادي فاس ثم حملت على عجل الخشب أيضا يجرها
الناس إلى أن وصلت إلى مدرسة الصهريج التي بعدوة الأندلس ثم نقلت منها بعد ذلك
بأعوام إلى مدرسة الرخام التي أمر رحمه الله ببنائها جوف جامع القرويين المعروفة
اليوم بمدرسة مصباح ومصباح هذا هو أبو الضياء مصباح بن عبد الله الياصلوتي الفقيه
المشهور وإنما نسبت إليه لأن السلطان أبا الحسن لما بناها كان أبو الضياء أول من
تصدى للدرس بها فنسبت إليه وقد تقدم لنا خبر المدرسة التي بناها غربي جامع الأندلس
أيام أبيه وأنفق عليها أكثر من مائة ألف دينار ومن آثاره بمكناسة الزيتون
الزاويتان القدمى والجديدة وكان بنى القدمى
____________________
في زمان أبيه والجديدة حين ولي
الخلافة وله في هذه المدينة عدة آثار سوى الزاويتين من القناطر والسقايات وغيرها
ومن أجل ذلك المدرسة الجديدة بها وكان قدم للنظر على بنائها قاضيه على المدينة
المذكورة ولما تم بناؤها جاء إليها من فاس ليقف عليها ويرى عملها وصنعتها فقعد على
كرسي من كراسي الوضوء حول صهريجها وجيء بالرسوم المتضمنة للتنفيذات اللازمة فيها
فغرقها من الصهريج قبل أن يطالع ما فيها وأنشد
( لا بأس بالغالي إذا قيل حسن ** ليس لما قرت به العين ثمن )
وكان له معرفة بالشعر فمن شعره قوله
( أرضي الله في سر وجهر ** وأحمي العرض عن دنس ارتياب )
( وأعطي الوفر من مالي اختيارا ** وأضرب بالسيف طلي الرقاب )
وأخباره كثيرة ومن أراد الوقوف على تفاصيلها فعليه بكتاب الخطيب بن مرزوق الذي
ألفه في دولته وسيرته وسماه المسند الصحيح الحسن من أحاديث السلطان أبي الحسن ولما
ذكر الوزير ابن الخطيب في كتابه رقم الحلل هذا السلطان وصفه بقوله
( الملك المعدود من خير سلف ** ومجموع القول إذا القول اختلف )
( الدين والعفاف والجلالة ** والعز والقدرة والجزالة )
( والعلم والحلم وفضل الدين ** وصفوه الصفوة من مرين )
( ممهد الملك ومسدي المنن ** وواحد الدهر وفخر الزمن )
( باني المباني النخبة الشريفة ** بمقتضى همته المنيفة )
( وتارك المدارس الظريفة ** شاهدة بأنه الخليفة )
( وقاطع الدهر بغير لهو ** في مجلس معظم أو بهو )
( أما لتدريس وعلم يدرس ** أو لبلاد من عدو تحرس )
( أو لأياد في عباد ثغرس ** أو لثواب ورضا يلتمس )
( أو نسخ قرآن وعرض حزب ** أو عدة معدة لحرب )
ومن أعيان وزرائه عامر بن فتح الله السدراتي وعبد الله بن إبراهيم
____________________
الفودودي ومن أعيان كتابه أبو
محمد عبد المهيمن الحضرمي وأبو محمد بن عبد الله بن أبي مدين العثماني وأبو الحسن
علي بن القبايلي التينمللي رحم الله الجميع بمنه
ولنذكر ما كان من الأحداث في هذه المدة
ففي سنة سبعمائة أسس السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق تلمسان الجديدة المسماة
بالمنصورة حسبما تقدم الخبر عنها مستوفى
وفي سنة إحدى عشرة وسبعمائة كان القحط بالمغرب فاستسقى الناس وخرج السلطان أبو
سعيد ماشيا على قدميه لإقامة سنة الاستسقاء وذلك يوم الأربعاء الرابع والعشرين من
شعبان من السنة المذكور وتقدمت أمامه الصلحاء والفقهاء والقراء يدعون الله تعالى
وقدم بين يدي نجواه صدقات وفرق أموالا وفي يوم السبت بعده خرج في جنده إلى قبر
الشيخ أبي يعقوب الأشقر بجبل الكندرتين فدعا هنالك ورحم الله تعالى عباده وغاث
أرضه وبلاده
وفي سنة تسع عشرة وسبعمائة توفي الشيخ أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الحق الزرويلي
المعروف بالصغير بضم الصاد وفتح الغين وكسر الياء المشددة قال ابن الخطيب في
الإحاطة وكان ربعة آدم اللون خفيف العارضين يلبس أحسن زي ويدرس بجامع الأجدع من
فاس يقعد على كرسي عال ليسمع القريب والبعيد على انخفاض كان في صوته وكان حسن
الإقراء وقورا صبورا ثبتا وكان أحد الأقطاب الذين تدور عليهم الفتيا بالمغرب فيحسن
____________________
التوقيع عليها على طريق
الاختصار وترك فضول القول ولاه السلطان أبو الربيع القضاء بفاس وشد عضده فجرى في
العدل على صراط مستقيم
وفي سنة إحدى وعشرين وسبعمائة توفي الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي
المراكشي المعروف بابن البناء الإمام المشهور في علم التعاليم والهيئة والنجوم
والأزياج وغير ذلك وكان رحمه الله عز وجل معروفا باتباع السنة موسوما بطهارة
الاعتقاد منعوتا بالصلاح وكان انتفاعه بصحبة الشيخ أبي زيد الهزميري رضي الله عنه
وفي سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة في ذي القعدة منها هبت ريح شديدة بفاس ومكناسة
وأحوازهما واستمر هبوبها يومين وليلتين فعاقت عن الأسفار وهدمت الدور وقلعت
الأشجار
وفي سنة ثلاث وعشرين بعدها في المحرم منها جرت العين الموالية للمشرق من عيون
صنهاجة بأحواز فاس بدم عبيط من وقت العصر إلى نصف الليل ثم عادت إلى حالها وفيها
كان المطر العظيم والثلج الكثير بالمغرب وعدم الفحم والحطب حتى بيع الفحم بفاس
بدرهمين للرطل وفي جمادى الأولى منها احترق سوق العطارين الكبرى بفاس فجدده
السلطان أبو سعيد من باب مدرسة العطارين إلى رأس عقبة الجزارين وعقد عليه هنالك
بابا ضخما وأفرده للعطارين دون غيرهم
وفي سنة أربع وعشرين وسبعمائة كانت المجاعة بالمغرب وارتفعت الأسعار في جميع
البلاد فبلغ المد من القمح بفاس خمسة عشر درهما والصحفة منه تسعين دينارا وغلا
الإدام وعدمت الخضر بأسرها وكسى السلطان أبو سعيد وأطعم في هذه المسغبة شيئا كثيرا
ودام ذلك إلى قرب منتصف السنة بعدها وفيها في يوم الثلاثاء ثالث عشر رمضان منها
نشأ خارج فاس من جهة جوفيها سحاب عظيم وظلمة شديدة ورياح عاصفة أعقب ذلك برد كثير
عظيم الجرم تزن الواحدة منه ربع رطل وأقل وأكثر ونزل في خلاله مطر وابل جاءت منه السيول
طامية حملت الناس والدواب وأهلكت جميع ما بجبل زالغ من الكروم والزيتون وسائر
الشجر
____________________
وفي سنة خمس وعشرين بعدها ليلة الجمعة السادس والعشرين من جمادى منها دخل السيل
العظيم مدينة فاس وكاد يأتي عليها بحيث هدم الدور والمساجد والأسواق وأهلك آلافا
من الخلق حتى خيف على البلد التلف
وفي سنة ست وعشرين وسبعمائة انتهى تاريخ ابن أبي زرع المسمى بالأنيس المغرب
القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس ومما هو الغاية في باب الأغراب ما
ذكره ابن خلدون قال حضر أشياخنا بمجلس السلطان أبي الحسن وقد رفع إليه امرأتان من
أهل الجزيرة الخضراء ورندة حبستا أنفسهما عن الأكل جملة منذ سنين وشاع أمرهما ووقع
اختبارهما فصح شأنهما واتصل على ذلك حالهما إلى أن ماتتا وذكرهما أيضا الشيخ أبو
عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقري في كتابه المسمى بالمحاضرات قال وردت على تلمسان
في العشرة الخامسة من المائة الثامنة امرأة من رندة لا تأكل ولا تشرب ولا تبول ولا
تتغوط وتحيض فلما اشتهر هذا من أمرها أنكره الفقيه أبو موسى ابن الإمام وتلى كانا
يأكلان الطعام فأخذ الناس يبثون ثقات نسائهم ودهاتهن إليها فكشفوا عنها بكل وجه
يمكنهن فلم يقفن على غير ما ذكر وسئلت هل تشتهين الطعام فقالت هل تشتهون التبن بين
يدي الدواب وسئلت هل يأتيها شيء فأخبرت أنها صامت ذات يوم فأدركها الجوع والعطش
فنامت فأتاها آت في النوم بطعام وشراب فأكلت وشربت فلما أفاقت وجدت نفسها قد
استغنت فهي على تلك الحال تؤتى في المنام بالطعام والشراب إلى الآن ولقد جعلها
السلطان في موضع بقصره وحفظها بالعدول ومن يكشف عما عسى تجيء أمها بها إذا أتت
إليها أربعين يوما فلم يوقف لها على أمر قال بيد أني أردت أن يزاد في عدد العدول
ويضم إليهم الأطباء ومن يخوض في المعقولات من علماء الملل المسلمين وغيرهم ويوكل
من نساء الفرق من يبالغ في كشف من يدخل إليها ولا يترك أحدا يخلو بها وبالجملة
يبالغ في ذلك ويستدام رعيها عليه سنة لاحتمال أن يغلب عليها طبع فتستغني في فصل
دون فصل ثم يكتب هذا في العقود ويشاع أمره في العالم وذلك لأنه يهدم حكم الطبيعة
الذي
____________________
هو أضر الأحكام على الشريعة
ويبين كيفية غذاء أهل الجنة وأن الحيض ليس من فضلات الغذاء ويبطل التأثير والتولد
ويوجب ان الاقترانات بالعادات لا باللزوم وعند الأسباب لا بها إلى غير ذلك إلا إني
لما أشرت بهذا انقسم من أشرت عليه بتبليغه إلى من لم يفهم ما قلت ومن لم يرفع به
رأسا لإيثار الدنيا على الدين فإنا لله وإنا إليه راجعون
قال المقري وقد ذكر أن امرأة أخرى كانت معها على تلك الحالة وحدثني غير واحد من
الثقات ممن أدرك عائشة الجزرية أنها كانت كذلك وإن عائشة بنت أبي بكر يعني زوجة
السلطان أبي الحسن التي استشهدت في طريف اختبرتها أربعين يوما أيضا وكم من آية
أضيعت وحجة نسيت مما لم يعرف مثله قبل المائة الثامنة وكذلك الوباء العام القريب
فروطه يوشك أن يطول أمره فينسى ذكره ويكذب المحدث به اذا انقضى عصره وكم فيه من
أدلة على أصول الملة اه كلام الشيخ أبي عبد الله المقري رحمه الله ويعني بالوباء
القريب فروطه وباء منتصف المائة الثامنة أيام كان السلطان أبو الحسن بتونس فإنه
كان وباء عظيما لم يعهد مثله قد عم أقطار الأرض وتحيف العمران جملة حتى كاد يأتي
على الخليقة أجمع والأمور كلها بيد الله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون الخبر عن
دولة السلطان المتوكل على الله أبي عنان فارس بن أبي الحسن رحمه الله
كان هذا السلطان محبوبا في قومه وعشيرته أثيرا عند والده متميزا بذلك عن سائر
اخوته لفضله وعمله وصيانته وعفافه واستظهار القرآن الكريم وغير ذلك من الأوصاف
الحسنة أمه أم ولد رومية اسمها شمس الضحى وقبرها بشالة معروف إلى الآن رأيت مكتوبا
عليه بالنقش أنها توفيت ليلة السبت رابع رجب الفرد سنة خمسين وسبعمائة ودفنت إثر
صلاة الجمعة في الخامس والعشرين من الشهر المذكور وحضر لدفنها أعيان المشرق
____________________
والمغرب اه وكان مولد السلطان
أبي عنان بفاس الجديد في الثاني عشر من ربيع الأول سنة تسع وعشرين وسبعمائة وبويع
في حياة والده يوم ثار عليه بتلمسان حسبما فدمنا الخبر عنه وذلك يوم الثلاثاء
منسلخ ربيع الأول سنة تسع وأربعين وسبعمائة ولما هلك والده أبو الحسن بجبل هنتانة
وانقضى شأن الحصار ارتحل السلطان أبو عنان إلى فاس ونقل شلو أبيه إلى شالة فدفنه
بها وأغذ السير إلى فاس وقد استتب أمره وخلا له الجو فاحتل بدار ملكه وأجمع أمره
على غزو بني عبد الواد لارتجاع ما بأيديهم من الملك الذي تطاولوا إليه ولما دخلت
سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة نادى بالعطاء وأزاح العلل وعسكر بساحة البلد الجديد وعرض
جيشه ثم نهض يريد تلمسان
واتصل خبره بسلطانها أبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن الزياني فجمع له قومه ومن
شايعهم من زناتة والعرب ثم نهض إليه ومعه أخوه ووزيره أبو ثابت فكان اللقاء ببسيط
أن كاد آخر ربيع الثاني من السنة المكذورة وأجمع بنو عبد الواد على صدمة المرينيين
وقت القائلة وعند ضرب الأبنية وسقاء الركاب وافتراق أهل المعسكر في حاجاتهم فحملوا
عليهم وأعجلوهم عن ترتيب المصاف وركب السلطان أبو عنان لتلافي الأمر وخاض بحر
القتال وقد أظلم الجو بالغبار حتى إذا خلص إليهم وخالطم في صفوفهم ولوا الأدبار
واتبع بنو مرين آثارهم فاستولوا على معسكرهم واستباحوهم قتلا وسبيا وصفدوهم أسرى
ولم يزالوا في اتباعهم إلى الليل وتقبضوا على سلطانهم أبي سيعد فساقوه إلى السلطان
أبي عنان فاعتقله وتقدم على التعبية إلى تلمسان فدخلها في ربيع المذكور واستوت في
ملكها قدمه وأحضر أبا سعيد فوبخه وأراه أعماله حسرات عليه ثم أحضر الفقهاء وأرباب
الفتيا
____________________
فافتوا بحرابته وقتله فأمضى
حكم الله فيه فذبح فيمحبسه لتاسعة من أعتقاله
وفر أخوه الزعيم أبو ثابت إلى قاصية الشرق بعد أن احتمل معه حرمه وحرم أخيه
ومتخلفهم واحتل بوادي شلف من بلاد مغرواة فعسكر هنالك واجتمع عليه أو شاب من زناتة
وحدث نفسه باللقاء ووعدها بالصبر والثبات واتصل خبره بالسلطان أبي عنان فسرح إليه
وزيره فارس بن ميمون في عساكر بني مرين والجند فأغذ السير إليهم ثم ارتحل السلطان
أبو عنان من تلمسان على أثره ولما تراءى الجمعان تصادقا الحملة وخاض النهر بعضهم
إلى بعض ثم صدق بنو مرين الحملة فاجتازوا النهر وانكشفت بنو عبد الواد واتبع
بنومرين آثارهم فاستلحموهم ثانية واستباحوا معسركهم واستاقوا نساءهم وأموالهم
ودوابهم وكتب الوزير بالتفح إلى السلطان أبي عنان وفر أبو ثابت إلى قاصية الشرق في
نفر من عشيرته وبني أبيه فاعترضتهم قبائل زواوة فانتهبوا أسلابهم وأرجلوهم عن
خيولهم ومروا على وجوهم حفاة عراة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا وكتب الوزير
إلى أمراء الثغور في شأن أبي ثابت وأصحابه فأذكوا العيون عليهم وقعدوا لهم
بالمراصد حتى عثر عليهم بعض الحشم فقبضوا على أبي ثابت وابن أخيه أبي زيان بن أبي
سعيد المقتول ووزيرهم يحيى بن داود فرفعوهم إلى أمير بجاية أبي عبد الله محمد بن
أبي زكرياء بن أبي بكر الحفصي وكان خالصة للسلطان أبي عنان منذ أيام والده
فاعتقلهم عنده حتى وفد بهم عليه بالمدية فأكرم السلطان أبو عنان وفادته وركب
للقائه لما تراءيا نزل الحفصي عن فرسه إعظاما للسلطان فنزل السلطان مكافأة له
ولقاه مبرة وكرامة وأودع أبا ثابت السجن وتوافت إليه وفود الذواودة بمكانه من
لمدية فأكرم وفادتهم وأسنى عطاياهم من الخلع والحملان والذهب والفضة وانقلبوا خير
منقلب ووافته بمكانه ذلك بيعة ابن مزني عامل بسكرة والزاب مع وفدهم فأكرمهم ووصلهم
وفرغ السلطان أبو عنان من شأن المغرب الأوسط وبث عماله في نواحيه وثقف أطرافه وسمى
إلى تملك إفريقية على ما نذكره إنشاء الله
____________________
تملك السلطان أبي عنان بجاية
وتولية عمر بن علي الوطاسي عليها
لما وفد أبو عبد الله الحفصي على السلطان أبي عنان بلمدية في شعبان من سنة ثلاث
وخمسين وسبعمائة وبالغ في إكرامه ناجاه بذات صدره وشكا إليه ما يلقاه من رعيته من
الامتناع من الجباية والسعي في الفساد وما يتبع ذلك من شقاق الحامية واستبداد
البطانة وكان السلطان أبو عنان متشوفا لمثلها فأشار عليه بالنزول عنها وأن يعوضه
عنها ما شاء من بلاده فسارع إلى قبول ذلك ودس إليه السلطان مع حاجبه محمد بن أبي
عمرو أن يشهد بذلك على رؤوس الملأ ففعل وعوضه عنها مكناسة الزيتون ونقم بطانة
الحفصي عليه ونزع بعضهم عنه إلى إفريقية وأمره السلطان أبو عنان أن يكتب بخطه إلى
عامله على بجاية بالنزول عنها وتمكين عمال السلطان منها ففعل وعقد أبو عنان عليها
لعمر بن علي الوطاسي من بني الوزير الذين قدمنا خبر ثورتهم بحصن تازوطا أيام يوسف
بن يعقوب ولما قضى السلطان أبو عنان حاجته من المغرب الأوسط واستولى على بجاية ثغر
إفريقية انكفأ راجعا إلى تلمسان لشهود عيد الفطر بها ودخلها في يوم مشهود حمل أبا
ثابت الزياني ووزيره يحيى بن داود على جملين ودخل بهما تلمسان يخطوان بهما في ذلك
المحفل بين السماطين فكانا عبرة لمن حضر ثم جنبا من الغد إلى مصارعهما فقتلا قعصا
بالرماح وإلى الله عاقبة الأمور ثورة أهل بجاية ومقتل عمر بن الوطاسي بها
لما قدم عمر بن علي الوطاسي بجاية واستقر بها ثقل أمره على نفوس أهلها لألفهم ملكة
الحفصيين وانصباغهم بالميل إليهم فتربصوا بالوطاسي الدوائر وكان أبو عبد الله
الحفصي قد استصحب معه في وفادته على السلطان أبي عنان حاجبه فارحا مولى ابن سيد
الناس فلما نزل
____________________
للسلطان عن بجاية نقم فارح
عليه ذلك وأسرها في نفسه إلى أن بعثه الحفصي المذكور مع الوطاسي لينقل حرمه ومتاعه
وماعون داره إلى المغرب فانتهى إلى بجاية وبينما هو يحاول ما أرسل في شأنه شكا
إليه الصنهاجيون سوء ملكة بني مرين فنجع كلامهم فيه ونفث لهم بما عنده من الضغن
ودعاهم إلى الثورة بالمرينيين والقيام بدعوة الحفصيين فأجابوه إلى ذلك وتواعدوا
للفتك بعلي بن عمر الوطاسي بمجلسه من القصبة وتولى كبرها منصور بن إبراهيم بن
الحاج من مشيختهم وباكره في داره على عادة الأمراء ولما أكب عليه ليلثم أطرافه
طعنه بخنجره ثم ولج عليه الباقون فاستلحموه وذلك في ذي الحجة من سنة ثلاث وخمسين
وسبعمائة وثارت الغوغاء بالبلد وهتف الهاتف بدعوة أبي زيد بن محمد بن أبي بكر
الحفصي صاحب قسنطينة وطيروا إليه بالخبر واستدعوه فتثاقل عنهم وبلغ الخبر إلى
السلطان أبي عنان فاتهم أبا عبد الله الحفصي بمداخلة حاجبه فارح في ذلك فاعتقله
بداره واعتقل وفدا من أشراف بجاية كانوا ببابه ثم راجع شيوخ بجاية بصائرهم
وتداركوا أمرهم في الرجوع إلى طاعة السلطان أبي عنان واتفق رأيهم على أن يرقعوا
هذا الخرق ويسدوا هذه الثلمة براس الحاجب فارح وصنهاجة الثائرين معه وداخلهم في
ذلك القائد هلال مولى ابن سيد الناس ولما عزموا على أمرهم دعوا الحاجب فارحا إلى
المسجد ليفاوضوه فيما نزل بهم فأحس بالشر ولجأ إلى دار الشيخ أبي العباس أحمد بن إدريس
البجائي إمام بجاية ومفتيها فاقتحموا عليه الدار وباشره مولاه محمد بن سيد الناس
بطعنة فأنفذه ورمى بشلوه من أعلى الدار فاحتزوا رأسه وبعثوا به إلى السلطان أبي
عنان وفر منصور بن إبراهيم بن الحاج وقومه صنهاجة عن البلد وسرح السلطان أبو عنان
إليها حاجبه أبا عبد الله محمد بن أبي عمرو في الكتائب فدخلها فاتح سنة أربع
وخمسين وسبعمائة وذهبت صنهاجة في كل وجه ولحق أصحاب الفعلة منهم بتونس وتقبض
الحاجب ابن أبي عمرو على جماعة من غوغاء بجاية
____________________
المتهمين بالخوض في الفتنة
يناهزون المائتين فاعتقلهم وأركبهم الأسطول إلى المغرب فاطمأن الناس وسكنوا وتوافت
لديه وفود الذواودة من كل جهة فأجزل صلاتهم ووفد عليه عامل الزاب يوسف بن مزني
فأكرم وفادته ثم ارتحل إلى تلمسان غرة جمدى الأولى من السنة ومعه شيوخ الذواودة
ووجوه بجاية
قال ابن خلدون وكنت يومئذ في جملتهم فجلس السلطان للوفد وعرض ما جنب إليه من
الجياد والهدايا وكان يوما مشهودا وانصرفوا إلى مواطنهم فاتح شعبان من السنة
المذكورة قال وانقلبت مع الحاجب بعد إسناء الجائزة والخلع والحملان من السلطان
والوعد الجميل بتجديد ما إلى قومي ببلدي من الإقطاعات ولما احتل الحاجب ابن أبي
عمرو ببجاية ضبط أمرها وأقام أودها وألح على قسنطينة بترديد البعوث وتجهيز الكتائب
إلى أن أذعنوا للطاعة ومكنوه من تاشفين ابن السلطان أبي الحسن المنصوب هناك للفتنة
وأوفد أبو زيد الحفصي صاحب قسنطينة ابنه على السلطان أبي عنان فقبل وفادته وشكر
سعيه وانكفأ الحاجب ابن أبي عمرو إلى بجاية وأقام بها إلى أن هلك في المحرم سنة ست
وخمسين وسبعمائة فذهب حميد السيرة عند أهل البلد وعقد السلطان أبو عنان على بجاية
لعبد الله بن علي بن سعيد أحد وزرائه فنهض إليها في ربيع من سنة ست وخمسين
المذكورة فاستقر بها وسلك سنن الحاجب قبله وسيرته وجهز العساكر إلى حصار قسنطينة
إلى أن كان من فتحها ما نذكره بعد إن شاء الله خروج أبي الفضل ابن السلطان أبي
الحسن ببلاد السوس ثم مقتله عقب ذلك
قد تقدم لنا أن السلطان أبا الحسن لما ركب البحر من تونس إلى المغرب عقد على تونس
لابنه أبي الفضل هذا وأنه لما أقلع عنها ثار أهل البلد وشيعة الحفصيين عليه
فأخرجوه عنها ولحق بأبيه فكان معه إلى أن هلك وخلص الأمر إلى السلطان أبي عنان
فلحق به هو وأخوه أبو سالم ففكر أبو
____________________
عنان في أمرهما وخشي عاقبة
ترشيحهما فأشخصهما إلى الأندلس ليكونا مع الغزاة والقرابة في إيالة السلطان أبي
الحجاج يوسف بن الأحمر ثم ندم على ذلك ولما استولى على تلمسان والمغرب الأوسط ورأى
أن قد استفحل أمره واعتز سلطانه أنفذ الرسل إلى أبي الحجاج في أن يشخصهما إليه لأن
مقامهما عنده أحوط لجمع الكلمة بخلاف ما إذا غابا عن حضرته وخشي أبو الحجاج غائلته
عليهما فأبى من إسلامهما اليد وأجاب الرسل بأنه لا يخفر ذمته ولا يسيء جوار
المسلمين المجاهدين لديه فغضب السلطان أبو عنان لذلك وقام وقعد وأمر حاجبه ابن أبي
عمرو أن يكتب إله ويبالغ في التوبيخ واللوم ففعل الحاجب المذكور
قال ابن خلدون وقد أوقفني الحاجب على ذلك الكتاب ببجاية فقضيت عجبا من فصوله
وأغراضه ولما قرأه أبو الحجاج ابن الأحمر دس إلى أبي الفضل وكان أكبر الأخوين
باللحاق بالطاغية وكانت بينهما ولاية ومخالصة فنزع إليه أبو الفضل وجهز الطاغية له
أسطولا أركبه فيه وأنزله بساحل السوس من أرض المغرب ونذر السلطان أبو عنان بذلك
فأوعز إلى قائد أسطوله باعتراض أسطول الطاغية فاعترضه وأوقع به وكتب ابن الأحمر
أثناء ذلك كتابا إلى السلطان أبي عنان يعتذر عن أمر أبي الفضل من إنشاء وزيره لسان
الدين ابن الخطيب ونصه
المقام الذي شهد الليل والنهار بأصالة سعادته وجرى الفلك الدوار بحكم إرادته وتعود
الظفر بمن يناويه فاطرد والحمد لله جريان عادته فوليه متحقق لإفادته وعدوه مرتقب
لإبادته وحلل الصنائع الإلهية تضفو على أعطاف مجادته مقام محل أخينا الذي سهم سعده
صائب وأمل من كاده خاسر خائب وسير الفلك المدار في مرضاته دائب وصنائع الله تعالى
له تصحبها الألطاف العجائب فسيان شاهد منه في عصمة وغائب السلطان الكذا ابن
السلطان الكذا أبقاه الله تعالى مسددا لسهم ماضي العزم تجل سعوده عن تصور الوهم
ولا زال مرهوب الحد ممتثل الرسم موفور الحظ من نعمة الله تعالى عند تعدد القسم
فائزا بفلج الخصام عند لد الخصم معظم قدره
____________________
وملتزم بره مبتهج بما يسببه
الله تعالى له من إعزاز نصره وإظهار أمره فلان سلام كريم طيب بر عميم يخص مقامكم
الأعلى ومثابتكم الفضلى التي حازت في الفخر الأمد البعيد وفازت من التأييد والنصر
بالحظ السعيد ورحمة الله تعالى وبركاته أما بعد حمد الله الذي فسح لملككم الرفيع
في العز مدى وعرفه عوارف آلائه وعوائد النصر على أعدائه يوما وغدا وحرس سماء علائه
بشهب من قدره وقضائه فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا وجعل نجح آماله وحسن مآله
قياسا مطردا فرب مريد ضره ضر نفسه وهاد إليه الجيش أهدى وما هدي والصلاة والسلام
على سيدنا ومولانا محمد نبيه ورسوله الذي ملأ الكون نورا وهدى وأحيا مراسم الحق
وقد صارت طرائق قددا أعلى الأنام يدا وأشرفهم محتدا الذي بجاهه نلبس أثواب السعادة
جددا ونظفر بالنعيم الذي لا ينقطع أبدا والرضا عن آله وأصحابه الذين رفعوا لسماء سنته
عمدا وأوضحوا لسبيل اتباعه مقصدا وتقبلوا شيمه الطاهرة ركعا وسجدا سيوفا على من
اعتدى ونجوما لمن اهتدى حتى علت فروع ملته صعدا وأصبح بناؤها مديدا مخلدا والدعاء
لمقامكم الأسمى بالنصر الذي يتوالى مثنى وموحدا كما جمع لملككم ما تفرق من الألقاب
على توالي الأحقاب فجعل سيفكم سفاحا وعلمكم منصورا ورأيكم رشيدا وعزمكم مؤيدا فإنا
كتبناه إليكم كتب الله تعالى لكم صنعا يشرح للإسلام خلدا ونصرا يقيم للدين الحنيفي
أوادا وعزما يملأ أفئدة الكفر كمدا وجعلكم ممن هيأ له من أمره رشدا ويسر لكم
العاقبة الحسنى كما وعد به في كتابه العزيز والله أصدق موعدا من حمراء غرناطة
حرسها الله ولا زائد بفضل الله سبحانه إلا استطلاع سعودكم في آفاق العناية واعتقاد
جميل صنع الله في البداية والنهاية والعلم بأن ملككم تحدى من الظهور على أعدائه
بآية وأجرى جياد السعد في ميدان لا يحد بغاية وخرق حجاب المعتاد بما لم يظهر إلا
لأصحاب الكرامة والولاية ونحن على ما علمتم من السرور بما يهز لملككم المنصور عطفا
ويسدل عليه من العصمة سجفا فقاسمه الارتياح لمواقع نعم الله تعالى نصفا و نصفا
ونعقد بين أنباء مسرته وبين الشكر لله حلفا ونعد التشيع له مما يقربنا إلى الله
زلفى
____________________
ونؤمل من إمداده ونرتقب من
جهاده وقتا يكفل به الدين ويكفى وتروى غلل النفوس وتشفى وإلى هذا وصل الله سعدكم
ووالى نصركم وعضدكم فإنا من لدن صدر عن أخيكم أبي الفضل ما صدر من الانقياد لخدع
الآمال والاغترار بموارد الآل وقال رأيه في اقتحام الأهوال وتورط في هفوة حار فيها
حيرة أهل الكلام في الأحوال وناصب من أمركم السعيد جبلا قضى الله له بالاستقرار
والاستقلال ومن ذا يزاحم الأطواد ويزحزح الجبال وأخلف الظن منا في وفائه وأضمر
عملا استأثر عنا بإخفائه واستعان من عدو الدين بمعين فلا ورى لمن استنصر به زند ولا
خفق لمن تولاه بالنصر بند وإن الطاغية أعانه وأنجده ورأى أنه سهم على المسلمين
سدده وعضب للفتنة جرده فسخر له الفلك وأمل أن يستخدمه بسبب ذلك الملك فأورده الهلك
والظلم الحلك علمنا أن طرف سعادته كاب وسحائب آماله غير ذات انسكاب وقدم عزته لم
يستقر من السداد في غرز ركاب فإن نجاح أعمال النفوس مرتبط بنياتها وغايات الأمور
تظهر في بداياتها وعوائد الله تعالى فيمن نازع قدرته لا تجهل ومن غالب أمر الله
خاب منه المعول فبينما نحن ترنقب خسار تلك الصفقة المعقودة وخمود تلك الشعلة
الموقودة وصلنا كتابكم يشرح الصدور ويشرح الأخبار ويهدي طرف المسرات على أكف
الاستبشار ويعرب بلسان حال المسارعة والابتدار عن الود الواضح وضوح النهار والتحقق
بخلوصنا الذي يعلمه عالم الأسرار فأعاد في الإفادة وأبدأ وأسدى من الفضائل الجلائل
ما أسدى فعلم منه مآل من رام يقدح زند الشتات من بعد الالتئام ويثير عجاجة
المنازعة من بعد ركوب القتام هيهات تلك قلادة الله تعالى التي ما كان ليتركها بغير
نظام ولم يدر أنكم نصبتم له من الحزم حبالة لا يفلتها قنيص سددتم له من السعد سهما
ما له عنه من محيص بما كان من إرسال جوارح الأسطول السعيد في مطاره حائلا بينه
وبين أوطاره فما كان إلا التسمية والإرسال ثم الإمساك والقتال ثم الاقتيات
والاستعمال فيا له من زجر استنطق لسان الوجود مجدله واستنصر البحر فخذله وصارع
القدر فجدله لما جد له وإن خدامكم استولوا على ما كان فيه من مؤمل غاية بعيدة
ومنتسب إلى نسبة غير سعيدة
____________________
وشانئ غمرته من الكفار خدام
الماء وأولياء النار تحكمت فيهم أطراف العوالي وصدور الشفار وتحصل منهم من تخطاه
الحمام في قبضة الأسار فعجبنا من تيسير هذا المرام وإخماد الله لهذا الضرام وقلنا
تكييف لا يحصل في الأوهام وتسديد لا تستطيع إصابته السهام كلما قدح الخلاف زندا
أطفأ سعدكم شعلته أو أظهر الشتات ألما أبرأ يمن طائركم علته ما ذاك إلا لنية صدقت
معاملتها في جنب الله تعالى وصحت واسترسلت بركتها وسحت وجهاد نذرتموه إذا فرغت
شواغلكم وتمت واهتمام بالإسلام يكفيه الخطوب التي أهمت فنحن نهنيكم بمنح الله
ومننه ونسأله أن يلبسكم من إعانته أوقى جننه فأملنا أن تطرد آمالكم وتنجح في مرضات
الله أعمالكم فمقامكم هو العمدة التي يدافع العدو بسلاحها وتنبلج ظلماته بصفاحها
وكيف لانهنئكم بصنع على جهتنا يعود وبشابقنا تطلع منه السعود فتيقنوا ما عندنا من
الاعتقاد الذي رسومه قد استقلت وكتفت وديمه بساحة الود قد وكفت والله عز وجل يجعل
لكم الفتوح عادة ولا يعدمكم عناية وسعادة وهو سبحانه يعلي مقامكم وينصر أعلامكم
ويهني الإسلام أيامكم والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله وبركاته اه
ولما نزل أبو الفضل بساحل السوس لحق بعبد الله السكسيوي صاحب الجبل المنسوب إليه
ودعا لنفسه وكان ذلك إثر مقدم الحاجب ابن أبي عمرو من فتح بجاية سنة أربع وخمسين
وسبعمائة فجهز السلطان أبو عنان إليه عسكره من تلمسان وعقد على حرب السكسيوي وابي
الفضل لوزيره فارس بن ميمون بن وردار فسار حتى نزل على جبل السكسيوي وأحاط به وأخذ
بمخنقه واختط مدينة لمعسكره وتجمير كتائبه بسفح ذلك الجبل سماها القاهرة ولما اشتد
الحصار على السكسيوي بعث إلى الوزير يسأله الرجوع إلى طاعته المعروفة وأن ينبذ
العهد إلى أبي الفضل ففارقه وانتقل إلى جبال المصامدة ودخل الوزير فارس أرض السوس
فدوخ أقطارها ومهد أكنافها وسارت الألوية والجيوش في جهاتها ورتب المسالح في
ثغورها وأمصارها
وسار أبو الفضل ينتقل في جبال المصامدة إلى أن انتهى إلى صناكة
____________________
وألقى بنفسه على ابن الحميدي
منهم مما يلي بلاد درعة فأجاره وقام بأمره ونازله عامل درعة يومئذ عبد الله بن
مسلم الزردالي من مشيخة بني عبد الواد كان السلطان أبو الحسن رحمه الله قد اصطنعه
أيام فتحه لتلمسان فاستقر في دولتهم واندرج في صنائعهم فأخذ بمخنق ابن الحميدي
وأرهبه بوصول العساكر والوزراء إليه وداخله في التقبض على أبي الفضل وأن يبذل له
من المال في ذلك ما أحب فأجاب ولاطف عبد الله بن مسلم الأمير أبا الفضل ووعده من
نفسه الدخول في الأمر وطلب لقاءه فركب إليه أبو الفضل ولما استمكن منه ابن مسلم
تقبض عليه ودفع لابن الحميدي ما اشترط له من المال وأشخصه معتقلا إلى أخيه السلطان
أبي عنان سنة خمس وخمسين وسبعمائة فأودعه السجن وكتب بالفتح إلى القاصية ثم قتله
لليال يسيرة من اعتقاله خنقا بمحبسه وانقضى أمر الخوارج وتمهدت الدولة إلى أن كان
ما نذكره إن شاء الله وفادة الوزير ابن الخطيب من قبل سلطانه الغني بالله على
السلطان أبي عنان رحمهم الله
كان السلطان أبو الحجاج يوسف بن الأحمر قد أوفد وزيره لسان الدين ابن الخطيب على
السلطان أبي عنان إثر مهلك السلطان أبي الحسن معزيا له بمصابه فقدم ابن الخطيب
وأدى الرسالة وجلى في اغراض تلك السفارة وعاد إلى غرناطة ثم هلك السلطان أبو
الحجاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة بمصلى عيد الفطر وهو ساجد طعنه بعض الزعانف فأصماه
لوقته وبايع الناس ابنه محمد بن يوسف الغني بالله وقام بأمر دولته مولاه رضوان
الراسخ القدم في قيادة عساكرهم وكفالة الأصاغر من ملوكهم واستبد بالأمر وانفرد ابن
الخطيب بوزارته كما كان لأبيه من قبل واتخذ لكتابته غيره وجعل ابن الخطيب رديفا
لرضوان في أمره وتشاركا في الاستبداد
____________________
معا فجرت الدولة على أحسن حال
ثم إن السلطان الغني بالله بعث وزيره ابن الخطيب سفيرا عنه إلى السلطان أبي عنان
مستمدا له على عدوه الطاغية على عادة سلفه في ذلك قال ابن الخطيب لما أشرفت على
مدينة فاس في غرض هذه الرسالة خاطبني الخطيب الرئيس أبو عبد الله محمد بن مرزوق
التلمساني بمنزل الشاطبي على مرحلة منها بما نصه
(
( يا قادما وافي بكل نجاح ** أبشر بما تلقاه من أفراح )
( هذي ذرى ملك الملوك فلذ بها ** تنل المنى وتفز بكل سماح )
( مغنى الإمام أبي عنان يممن ** تظفر ببحر بالندا طفاح )
( من قاس جود أبي عنان في الندا ** بسواه قاس البحر بالضحضاح )
( ملك يفيض على العفاة نواله ** قبل السؤال وقبل بسطة راح )
( فلجود كعب وابن سعد في الندا ** ذكر محاه عن نداه ماح )
( ما أن سمعت ولا رأيت بمثله ** من أريحي للندا مرتاح )
( بسط الأمان على الأنام فأصبحوا ** قد ألحفوا منه بظل جناح )
( وهم على العافين سيب نواله ** حتى حكى سح الغمام الساح )
( فنواله وجلاله وفعاله ** فاقت وأعيت السن المداح )
( وبه الدنا أضحت تروق وأصبحت ** كل المنى تنقاد بعد جماح )
( من كان ذا ترح فرؤية وجهه ** متلافة الأحزان والأتراح )
( فانهض أبا عبد الإله تفز بما ** تبغيه من أمل ونيل نجاح )
( لا زلت ترتشف الأماني راحة ** من راحة المولى بكل صباح )
فالحمد لله يا سيدي وأخي على نعمه التي لا تحصى حمد يؤم به جميعنا المقصد الأسنى
فيبلغ الأمد الأقصى فطالما كان معظم سيدي للأسى في خبال وللأسف بين اشتغال بال
واشتعال بلبال ولقدومكم على هذا المحل المولوي في ارتقاب ولمواعيدكم بذلك في تحقق
وقوعه من غير شك ولا ارتياب فها أنت تجتني من هذا المقام العلي بتشيعك وجوه المسرة
صباحا وتتلقى أحاديث مكارمه ومواهبه مسندة صحاحا بحول الله تعالى ولسيدي
____________________
الفضل في قبول مركوبة الواصل
إليه بسرجه ولجامه فهو من بعض ما لدى المعظم من إحسان مولاه وإنعامه ولعمري لقد
كان وافدا على سيدي في مستقره مع غير فالحمد لله الذي يسر في إيصاله على أفضل
أحواله قال ابن الخطيب فراجعته بما نصه
( راحت تذكرني كؤوس الراح ** والقرب يخفض للجنوح جناح )
( وسرت تدل على القبول كأنما ** دل النسيم على انبلاج صباح )
( حسناء قد غنيت بحسن صفاتها ** عن دملج وقلادة ووشاح )
( أمست تحض على اللياد بمن جرت ** بسعوده الأقلام في الألواح )
( بخليفة الله المؤيد فارس ** شمس المعالي الأزهر الوضاح )
( ما شئت من شيم ومن همم غدت ** كالزهر أو كالزهر في الأوداح )
( فضل الملوك فليس يدرك شأوه ** أنى يقاس الغمر بالضحضاح )
( أسنى بني عباسهم بلوائه ** المنصور أو بحسامه السفاح )
( وغدت مغاني الملك لما حلها ** تزري ببدر هدى وبحر سماح )
( وحياة من أهداك تحفة قادم ** في العرف منها راحة الأرواح )
( ما زلت أجعل ذكره وثناءه ** روح وريحاني الأريح وراح )
( ولقد تمازج حبه بجوارحي ** كتمازج الأجسام بالأرواح )
( ولو أنني أبصرت يوما في يدي ** أمري لطرت إليه دون جناح )
( فالآن ساعدني الزمان وأيقنت ** من قربه نفسي بفوز قداح )
( إيه أبا عبد الإله وإنه ** لنداء ود في علاك صراح )
( أما إذا استنجدتني من بعد ما ** ركدت لما جنت الخطوب رياح )
( فإليكها مهزولة وأنا امرؤ ** قررت عجزي وأطرحت سلاح )
سيدي أبقاك الله لعهد تحفظه وولاء بعين الوفاء تلحظه وصلتني رقعتك التي ابتدعت
وبالحق من مولى الخليفة صدعت والفتنى وقد سطت بي الأوحال حتى كادت تتلف الرحال
والحاجة إلى الغداء قد شمرت عن كشح البطين وثانية العجماوين قد توقع فوات وقتها
وإن كانت صلاتها صلاة الطين
____________________
والفكر قد غاض معينة وضعف وعلى
الله جزاء المولى الذي يعينه فغزتني بكتيبتي بيان أسدها هسور وعلمها منصور
وألفاظها ليس فيها قصور ومعانيها عليها الحسن مقصور واعتراف مثلي بالعجز في
المضايق حول ومنه وقول لا أدري للعالم فكيف بغيره جنة لكنها بشرتني بما يقل لمؤديه
بذل النفوس وإن جلت وأطلعتني من السراء على وجه تحسده الشمس إذا تجلت بما أعلمتني
به من جميل اعتقاد مولانا أمير المؤمنين أيده الله في عبده وصدق المخيلة في كرم
مجده وهذا هو الجود المحض والفضل الذي شكره هو الفرض وتلك الخلافة المولوية تتصف
بصفات من يبدأ بالنوال من قبل الضراعة والسؤال من غير اعتبار للأسباب ولا مجازات
للأعمال نسأل الله تعالى أن يبقي منها على الإسلام أو في الظلال ويبلغها من فضله
أقصى الآمال ووصل ما بعثه سيدي صحبتها من الهدية والتحفة الودية وقبلتها امتثالا
واستجليت منها عتقا وجمالا وسيدي في الوقت أنسب باتخاذ ذلك الجنس وأقدر على
الاستكثار من إناث البهم والإنس وأنا ضعيف القدرة غير مستطيع لذلك إلا في الندرة
فلو رأى سيدي ورايه سداد وقصده فضل ووداد أن ينقل القضية إلى باب العارية من باب
الهبة مع وجود الحقوق المترتبة لبسط خاطري وجمعه وعمل في رفع المؤنة على شاكلة
حالي معه وقد استصحبت مركوبا يشق علي هجره ويناسب مقامي شكله ونجره وسيدي في
الإسعاف على الله أجره وهذا أمر عرض وفرض فرض وعلى نظره المعول واعتماد إغضائه هو
المعقول الأول والسلام على سيدي من معظم قدره وملتزم بره ابن الخطيب في ليلة الأحد
السابع والعشرين لذي القعدة سنة خمس وخمسين وسبعمائة والسماء قد جادت بمطر سهرت
منه الأجفان وظن أنه طوفان واللحاق في غدها بالباب المولوي مؤمل بحول الله اه
ولما قدم الوزير المذكور على السلطان المذكور تقدم الوفد الذين معه من وزراء
الأندلس وفقهائها وممثل بين يديه واستأذنه في إنشاد شيء من الشعر يقدمه بين يدي
نجواه فأذن له وأنشد وهو قائم
____________________
( خليفة الله ساعد القدر ** علاك ما لاح في الدجى قمر )
( ودافعت عنك كف قدرته ** ما ليس يستطيع دفعه البشر )
( وجهك في النائبات بدر دجى ** لنا وفي المحل كفك المطر )
( والناس طرا بأرض أندلس ** لولاك ما أوطنوا ولا عمروا )
( ومن به مذ وصلت حبلهم ** ما جحدوا نعمة ولا كفروا )
( وجملة الأمر أنه وطن ** في غير علياك ما له وطر )
( وقد أهمتهم نفوسهم ** فوجهوني إليك وانتظروا )
فاهتز السلطان أبو عنان لهذه الأبيات وأذن له في الجلوس وقال له قبل أن يجلس ما
ترجع إليهم إلا بجميع طلباتهم ثم أدى الرسالة ودفع الكتاب ولما عزموا على الانصراف
أثقل كاهلهم بالإحسان وردهم بجميع ما طلبوه
قال ابن خلدون قال شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف وكان معه في ذلك الوفد لم نسمع
بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا
ونص الكتاب الذي قدم به ابن الخطيب المقام الذي يغني عن كل مفقود بوجوده ويهز إلى
جميل العوائد أعطاف بأسه وجوده ونستضيء عند إظلام الخطوب بنور سعوده ونرث من
الاعتماد عليه أسنى ذخر يرثه الولد عن آبائه وجدوده مقام محل أبينا الذي رعى
الأذمة شأنه وصلة الراعي سجية انفرد بها سلطان ومواعد النصر ينجزها زمانه والقول
والفعل في ذات الله تعالى تكفلت بهما يده الكريمة ولسانه وتطابق فيهما إسراره
وإعلانه السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله تعالى
محروسا من غير الأيام جنابه موصولة بالوقاية الإلهية أسبابه مسدولا على ذاته
الكريمة ستر الله تعالى وحجابه مصروفا عنه من صروف القدر ما يعجز عن رده بوابه ولا
زال ملجأ تنفق لديه الوسائل التي تدخرها لأولادها أولياؤه وأحبابه ويسطر في صحف
الفخر ثوابه وتشتمل على مكارم الدين والدنيا أثوابه وتتكفل بنصر الإسلام وجبر
القلوب عند طوارق الأيام كتائبه وكتابه معظم ما عظم من حقه
____________________
السائر من إجلاله وشكر خلاله
على لاحب طرقه المستضيء في ظلمة الخطب بنور أفقه الأمير عبد الله محمد بن أمير
المسلمين أبي الحجاج ابن أمير المسلمين أبي الوليد بن فرج بن نصر سلام كريم بر
عميم يخص مقامكم الأعلى ورحمة الله تعالى وبركاته أما بعد حمد الله الذي لاراد
لأمره ولا معارض لفعله مصرف الأمر بقدرته وحكمته وعدله الملك الحق الذي بيده ملاك
الأمر كله مقدر الآجال والأعمار فلا يتأخر شيء عن ميقاته ولا يبرح عن محله جاعل
الدنيا مناخ نقله لا يغتبط العاقل بمائة ولا بظله وسبيل رحلة فما أكثب ظعنه من حله
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد صفوة خلقه وخيرة أنبيائه وسيد رسله الذي
نعتصم بسببه الأقوى ونتمسك بحبله ونمد يد الافتقار إلى فضله ونجاهد في سبيله من
كذب به أو حاد عن سبله ونصل إليه ابتغاء مرضاته ومن أجله والرضا عن آله وأحزابه وأنصاره
وأهله المستولين من ميدان الكمال على خصله والدعاء لمقامكم الأعلى بعز نصره ومضاء
فضله فإنا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لكم وقاية لا تطرق الخطوب حماها وعصمة ترجع
عنها سهام النوائب كلما فوقها الدهر ورماها وعناية لا تغير الحوادث اسمها ولا
مسماها وعزا يزاحم أجرام الكواكب منتماها من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى ونعم
الله سبحانه تتواتر لدينا دفعا ونفعا وألطافه نتعرفها وترا وشفعا ومقامكم الأبوي
هو المستند الأقوى والمورد الذي ترده آمال الإسلام فتروي وتهوي إليه أفئدتهم فتجد
ما تهوى ومثابتكم العدة التي تأسست مبانيها على البر والتقوى وإلى هذا وصل الله
تعالى سعدكم وأبقى مجدكم فإنا لما نعلم من مساهمة مجدكم التي يقتضيها كرم الطباع
وطباع الكرم وتدعو إليها ذمم الرعي ورعي الذمم نعرفكم بعد الدعاء لملككم بدفاع
الله تعالى عن إرتقائه وامتاع المسلمين ببقائه بما كان من وفاة مولانا الوالد نفعه
تعالى بالسعادة التي ألبسه حلتها والشهادة التي في أعمالها الزكية كتبها والدرجة
العالية التي حتمها له وأوجبها وبما تصير لنا من أمره وضم بنا من نشره وسدل على من
خلفه من ستره وإنها لعبرة لمن ألقى السمع وموعظة تهز الجمع وترسل الدمع وحادثة أجمل
الله تعالى فيها
____________________
الدفع وشرح مجملها وإن اخرس
اللسان هولها وأسلم العبارة قوتها وحولها إنه رضي الله تعالى عنه لما برز لإقامة
سنة هذا العيد مستشعرا شعار كلمة التوحيد مظهرا سمة الخضوع للمولى الذي تضرع بين
يديه رقاب العبيد آمنا بين قومه وأهله متسربلا في حلل نعم الله تعالى وفضله قرير
العين باكتمال عزه واجتماع شمله قد احترس بأقصى استطاعته واستظهر بخلصان طاعته
والأجل المكتوب قد حضر والإرادة الإلهية قد أنفذت القضاء والقدر وسجد بعد الركعة
الثانية من صلاته أتاه أمرالله لميقاته على حين الشباب غض جلبابه والسلاح زاخر
عبابه والدين بهذا القطر قد أينع بالأمن جنابه وأمر من يقول للشيء كن فيكون قد بلغ
كتابه ولم يرعه وقد اطمأنت بذكر الله تعالى القلوب وخلصت الرغبات إلى فضله المطلوب
إلا شقي قيضه الله تعالى لسعادته غير معروف ولا منسوب وخبيث لم يكن بمعتبر ولا محسوب
تخلل الصفوف المعقودة وتجاوز الأبواب المسدودة وخاض الجموع المشهودة والأمم
المحشورة إلى طاعة الله المحشودة لا تدل العين عليه شارة ولا بزة ولا تحمل على
الحذر من مثله أنفه ولا عزة وإنما هو خبيث ممرور وكلب عقور وحية سمها وحي محذور
وآلة مصرفة لينفذ بها قدر مقدور فلما طعنه وأثبته وأعلق به شرك الحين فما أفلته
قبض عليه من الخلصان الأولياء من خبر ضميره وأحكم تقريره فلم يجب عند الاستفهام
جوابا يعقل ولا عثر على شيء عنه ينقل لطفا من الله أفاد براءة الذمم وتعاورته
للحين أيدي التمزيق واتبع شلوه بالتحريق واحتمل مولانا الوالد رحمه الله إلى القصر
وبه ذماء لم يلبث بعد الفتكة العمرية إلا أيسر من اليسير وتخلف الملك ينظر من
الطرف الحسير وينهض بالجناح الكسير وقد عاد جمع السلامة إلى جمع التكسير إلا أن
الله تعالى تدارك هذا القطر الغريب أن أقامنا مقامه لوقته وحينه ورفع عماد بناء ملكه
ولم شعث دينه وكان جميع من حضر المشهد من شريف الناس ومشروفهم وأعلامهم ولفيفهم قد
جمعه ذلك الميقات وحضر الأولياء الثقات فلم تختلف علينا كلمة ولا شذت منهم عن
بيعتنا نفس مسلمة ولا أخيف بري ولا حذر جري ولا فرى فري ولا وقع لبس ولا استوحشت
____________________
نفس ولا نبض للفتنة ولا أغفل
للدين حق فاستند النقل إلى نصه ولم يعدم من فقيدنا غير شخصه وبادرنا إلى مخاطبة
البلاد نمهدها ونسكنها ونقرر الطاعة في النفوس ونمكنها وأمرنا الناس بها بكف
الأيدي ورفع التعدي والعمل من حفظ شروط المسالمة المعقودة بما يجدي من شره منهم
للفرارا عاجلناه بالإنكار وصرفنا على النصارى ما أوصاه مصحبا بالإعتذار وخاطبنا
صاحب قشتالة نرى ما عنده في صلة السلم إلى أمدها من الأخبار واتصلت بنا البيعات من
جميع الأقطار وعفى على حزن المسلمين بوالدنا ما ظهر عليهم بولايتنا من الإستبشار
واستبقوا تطير بهم أجنحة الإبتدار جعلنا الله تعالى ممن قابل الحوادث بالإعتبار
وكان على حذر من تصاريف الأقدار واختلاف الليل والنهار وأعاننا على إقامة دينه في
هذا الوطن الغريب المنقطع بين العدو الطاغي والبحر الزخار وألهمنا من شكره ما
يتكفل بالمزيد من نعمه ولا قطع عنا عوائد كرمه وإن فقدنا والدنا فأتم لنا من بعده
الوالد والذخر الذي تكرم منه العوائد و الحب يتوارث كما ورد في الأخبار التي صحت
منها الشواهد ومن أعد مثلكم لبنيه فقد تيسرت من بعد الممات أمانيه وتأسست قواعد
ملكه وتشيدت مبانيه فالإعتقاد الجميل موصول والفروع لها في التشيع إليكم أصول وفي
تقرير فخركم محصول وأنتم ردء المسلمين بهذه البلاد المسلمة الذي يعينهم بإرفاده
وينصرهم بإنجاده ويعامل الله تعالى فيها بصدق جهاده وعندما استقر هذا الأمر الذي
تبعت المحنة فيه المنحة وراقت من فضل الله تعالى ولطفه فيه الصفحة وأخذنا البيعة
من أهل حضرتنا بعد استدعاء خواصهم وأعيانهم وتزاحمت على رقها المنشور خطوط أيمانهم
وتأصلت قواعد ألفاظها ومعانيها في قلوبهم وآذانهم وضمنوا الوفاء بما عاهدوا الله
عليه وقد خبر سلفنا والحمد لله وفاء ضمانهم بادرنا تعريف مقامكم الذي نعلم مساهمته
فيما ساء وسر أحلى وأمر عملا بمقتضى الخلوص الذي ثبت واستقر والحب الذي ما مال
يوما ولا أزور وما أحق تعريف مقامكم بوقوع هذا الأمر المحذور وانجلاء ليله عن صبح
الصنع البادي السفور وإن كنا قد خاطبنا من خدامكم من يبادر إعلامكم بالأمور إلا
____________________
أنه أمر له ما بعده وحادث يأخذ
حده ونبعث إلى بابكم من شاهد الحال ما بين وقوعها إلى استقرارها رأي العيان وتولى
تسديد الأمور بأعماله الكريمة ومقاصده الحسان ليكون أبلغ في البر وأشرح للصدر
وأوعب للبيان فوجهنا إليكم وزير أمرنا وكاتب سرنا الفقيه الأجل أبا عبد الله محمد
بن الخطيب وألقينا إليه من تقرير تعويلنا على ذلك المقام الأسنى واستنادنا من
التشيع إليه إلى الركن الوثيق المبني ما نرجو أن يكون له فيه المقام الأغنى
والثمرة العذبة المجني فلاهتمامه بهذا الغرض الأكيد الذي هو أساس بنائنا وقامع
أعدائنا آثرنا توجيهه على توفر الاحتياج إليه ومدار الحال عليه والمرغوب من أبوتكم
المؤملة أن يتلقاه قبولها بما يليق بالملك العالي والخلافة السامية المعالي والله
عز وجل يديم أيامكم لصلة الفضل المتوالي ويحفظ مجدكم من غير الأيام والليالي وهو
سبحانه يصل سعدكم ويحرس مجدكم ويوالي نصركم وعضدكم والسلام الكريم يخصكم ورحمة
الله وبركاته اه
وللسلطان الغني بالله هذا مع السلطان أبي عنان رحمهما الله مراسلات عديدة ومكاتبات
مديدة قد ذكر صاحب نفح الطيب منها جملة وافرة مع التنبيه على أسبابها فانظرها فيه
إن شئت وأكرم السلطان أبو عنان الوزير ابن الخطيب في هذه الوفادة وغيرها إكراما بليغا
ولما انصرف عنه مدحه بقصيدة طويلة طنانة يقول في أولها
( أبدى لداعي الفوز وجه منيب ** وأفاق من عذل ومن تأنيب )
ويقول في أثنائها
( يا ناصر الدين الحنيف وأهله ** إنضاء مسغبة وفل خطول )
( حقق ظنون بنيه فيك فإنهم ** يتعللون بوعدك المرقوب )
( ضاقت مذاهب نصرهم فتعلقوا ** بجناب عز من علاك رحيب )
( ودجا ظلام الكفر في آفاقهم ** أو ليس صبحك منهم بقريب )
( فانظر بعين العز من ثغر غدا ** حذر العدا يرنو بطرف مريب )
( نادتك أندلس ومجدك ضامن ** ألا يخيب لديك ذو مطلوب ) وهي طويلة
____________________
وفي سنة ست وخمسين وسبعمائة انتقض على السلطان أبي عنان وزيره وصاحب شواره عيسى بن
الحسين بن علي بن أبي الطلاق من شيوخ بني مرين ووجوها وكان السلطان أبو عنان قد
استعمله على جبل طارق فتمكنت رياسته به وانتقض على السلطان لأسباب يطول شرحها ثم
التاثت حاله وضاقت مذاهبه فقبض عليه وأحضر بين يدي السلطان أبي عنان هو وابنه يوم
منى من سنة ست وخمسين المذكورة فتنصلا واعتذرا فلم يقبل منهما وأودعهما السجن وضيق
عليهما ولما كان آخر السنة أمر بهما فجنبا إلى مصارعهما وقتل عيسى قعصا بالرماح
وقطع ابنه أبو يحيى من خلاف وأبى من مداواة قطعه فلم يزل يتخبط في دمه إلى أن هلك
بعد ثلاثة أيام من قطعه وعقد السلطان على جبل طارق وسائر ثغور الأندلس لسليمان بن
داود ثم عقد بعده لولده أبي بكر السعيد وهو الذي تولى الملك بعده والله أعلم رحلة
السلطان أبي عنان الى سلا وتطارحه على وليها الأكبر أبي العباس بن عاشر رضي الله
عنه
كان لبني مرين عموما وللسلطان أبي عنان خصوصا جنوح إلى الخير ومحبة في أهله وتعرض
لمن يشار إليه بالصلاح واستمطار لطله ووبله وكان الشيخ الأشهر أبو العباس أحمد بن
عاشر الأندلس رضي الله عنه قد استوطن في هذا التاريخ مدينة سلا وكان من الأفراد
الجامعين بين العلم والعمل المتمسكين بالكتاب والسنة الناهجين سنن السلف الصالح في
الزهد والورع والإنقطاع عن الخلق جملة بحيث طار ذكره وعظم لدى الخاص والعام
____________________
قدره فتحركت همة السلطان أبي
عنان لزيارته والإقتباس مما يفتح الله به من وعظه وإشارته فارتحل سنة سبع وخمسين
وسبعمائة إلى سلا فقدمها وحرص على الإجتماع بالشيخ المذكور ووقف ببابه مرارا فلم
يأذن له وترصده يوم الجمعة بعد الصلاة ولما انفض الناس تبعه على قدميه والناس
ينظرون إليه وهو لا يراه فقال السلطان عند ذلك لقد منعنا من هذا الولي ثم أرسل
إليه ولده راغبا ومستعطفا فأجابه بما قطع رجاءه من لقائه غير أنه كتب إليه كتابا
وعظه فيه وذكره فسر السلطان أبو عنان بذلك الكتاب وحزن لما فاته من الإجتماع
بالشيخ وقد ذكر الفقيه العلامة البركة أبو العباس أحمد بن عاشر بن عبد الرحمن
السلاوي المدعو بالحافي في كتابه تحفة الزائر في مناقب الشيخ ابن عاشر نص هذا
الكتاب ولم يحضرني الآن فانظره فيه وبالله تعالى التوفيق غزوة السلطان أبي عنان
إفريقية وفتح قسنطينة ثم فتح تونس بعدها
لما كان أيام التشريق من سنة سبع وخمسين وسبعمائة اعتزم السلطان أبو عنان على
النهوض إلى إفريقية واضطرب معسكره بساحة فاس الجديد وبعث في الحشد إلى مراكش وأوعز
إلى بني مرين بأخذ الأهبه للسفر وجلس للعطاء وعرض الجنود من لدن عزمه على النهوض
إلى شهر ربيع الأول من سنة ثمان وخمسين بعدها ثم ارتحل من فاس وسرح في مقدمته
وزيره فارس بن ميمون في العساكر وسار هو في ساقته على التعبية إلى أن احتل ببجاية
وتلوم لإزاحة العلل ثم نازل الوزير قسنطينة وجاء السلطان على أثره ولما أطلت
راياته وماجت الأرض بجنوده ذعر أهل البلد وألقوا بأيديهم إلى الأذعان وانفضوا من
حول سلطانهم أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر الحفصي وجاؤوا مهطعين إلى السلطان
أبي عنان وتحيز الحفصي في خاصته إلى القصبة ثم طلبوا الأمان من السلطان أبي عنان
فبذله لهم وخرجوا وأنزلهم بمعسكره أياما ثم بعث بأبي العباس في
____________________
الأسطول إلى سبتة فاعتقله بها
وعقد على قسنطينة لمنصور بن الحاج خلوف الياباني من شيوخ بني مرين وأهل الشورى
منهم وأنزله بالقصبة في شعبان من السنة المذكورة ووصلت إليه بيعات أمراء الأطراف
من توزر ونفطة وقابس وغيرها ووفد عليه أولاد مهلهل أمراء بني كعب من سليم وأقبال
بني أبي الليل منهم يستحثونه لملك تونس فسرح معهم العساكر وعقد عليها ليحيى بن عبد
الرحمن بن تاشفين وبعث أسطوله في البحر مددا لهم وعقد عليه للرئيس محمد بن يوسف
المعروف بالأبكم من أمراء بني الأحمر
وكان سلطان تونس يومئذ أبا إسحاق إبراهيم بن أبي بكر الحفصي ولما اتصل به خبر بني
مرين أخرج حاجبه أبا محمد بن تافراجين لقتالهم فزحفت الجيوش إلى تونس ووصل الأسطول
إلى مرساها فقاتلهم ابن تافارجين يوما أو بعض يوم ثم ركب الليل إلى المهدية فتحصن
بها ودخل أولياء السلطان إلى تونس في رمضان من سنة ثمان وخمسين وسبعمائة وأقاموا
بها الدعوة المرينية واحتل يحيى بن عبد الرحمن بالقصبة وأنفذ الأوامر وكتب إلى
السلطان أبي عنان بالفتح فعظم سروره ونظر بعد ذلك في أحوال ذلك القطر وقبض أيدي
العرب من رياح عن الإتاوة التي يسمونها الخفارة فارتابوا وطالبهم بالرهن عن الطاعة
فأجمعوا الخلاف والتفوا على أميرهم يعقوب بن علي ولحقوا بالزاب وارتحل السلطان في
اثرهم فأجفلوا أمامه إلى القفر فخرب حصونهم التي بالزاب ورجع عنهم وحمل له ابن
مزني عامل بسكرة والزاب جبايته وأطلق المؤن للعسكر من الإدام والحنطة والحملان
والعلوفة ثلاثة أيام وكافأه السلطان على صنيعه فخلع عليه وعلى أهله وولده وأسنى
جوائزهم
ورجع إلى قسنطينة واعتزم على الرحلة إلى تونس وضاقت العساكر ذرعا بشأن النفقات
والإبعاد في الرحلة وارتكاب الخطر في دخول إفريقية
____________________
فتمشت رجالاتهم في الانفضاض عن
السلطان وداخلو الوزير فارس بن ميمون في ذلك فوفقهم ثم أذن شيوخ العسكر ونقباؤه
لمن تحت أيديهم من القبائل في اللحاق بالمغرب حتى يبقو منفردين وأنهى إلى السلطان
أبي عنان أن شيوخ العسكر قد عزموا على قتله ونصب إدريس بن عثمان بن أبي العلاء
للأمر فأسرها في نفسه ولم يبدها لهم ورأى قلة من معه من الجند فارتاب وكر راجعا
إلى المغرب بعد أن كان ارتحل عن قسنطينة إلى جهة تونس مرحلتين فانكفأ وأغذ السير إلى
فاس فاحتل بها غرة ذي الحجة من سنة ثمان وخمسين المذكورة وتقبض يوم دخوله على
وزيره فارس بن ميمون لأنه اتهمه بمداخلة بني مرين في شأنه وقتله رابع أيام التشريق
قعصا بالرماح وتقبض على مشيخة بني مرين فاستلحمهم وأودع طائفة منهم السجن
ولما رجع السلطان أبو عنان من إفريقية بلغ خبره إلى الجهات فارتحل أبو محمد بن
تافرجين من المهدية إلى تونس ولما أطل عيها ثارت شيعة الحفصيين على من كان بها من
جيش بني مرين فنجوا إلى السفن وركبوا البحر إلى المغرب وجاء على أثرهم يحيى بن عبد
الرحمن فيمن كان معه من العساكر وأولاد مهلهل وكان يوم الهيعة بناحية الجريد
لاقتضاء جبايته فصوب إلى المغرب واجتمعوا كلهم بباب السلطان أبي عنان فأرجأ حركته
إلى العام لقابل وكان ما نذكره إن شاء الله وزارة سليمان بن داود ونهوضه بالعساكر
إلى إفريقية
لما رجع السلطان أبو عنان من إفريقية ولم يستتم فتحها بقي في نفسه منها شيء وخشي
على ضواحي قسنطينة من يعقوب بن علي ومن معه من الذواودة المخالفين فأهمه شأنهم
واستدعى سليمان بن داود من مكانه بجبل طارق وعقد له على وزارته وسرحه في العساكر
إلى إفريقية فنهض إليها في ربيع من سنة تسع وخمسين وسبعمائة وكان السلطان أبو عنان
لما خالف عليه يعقوب بن علي وفر إلى القفر أقام مكانه أخاه المنازع له في رياسة
رياح
____________________
ميمون بن علي وقدمه على أولاد
محمد من الذواودة وأحله بمكانه من رياسة البدو فنزع إليه عن أخيه يعقوب الكثير من
قومه وتمسك بطاعة السلطان أيضا طوائف من أولاد سباع بن يحيى فانحاشوا جميعا للوزير
ونزلوا بحللهم على معسكره
ثم ارتحل السلطان ابو عنان من فاس حتى احتل بتلمسان فأقام بها لمشارفة أحوال
الوزير المذكور واحتل الوزير بوطن قسنطينة وبعث إلى عامل بسكرة والزاب يوسف بن
مزني بأن تكون يده معه وأن يفاوضه في أحوال الذواودة لرسوخه في معرفتها فارتحل
إليه من بسكرة ونازلوا جبل أوراين واقتضوا جبايته ومغارمه وشردوا المخالفين من
الذواودة عن العيث في الوطن فتم غرضهم من ذلك وانتهى الوزير وعساكر السلطان إلى
أول أوطان إفريقية من آخر مجالات رياح وانكفأ راجعا إلى المغرب فوافى السلطان أبا
عنان بتلمسان ووصلت معه وفود العرب الذين أبلوا في الخدمة فوصلهم السلطان وخلع
عليهم وحملهم وفرض لهم في العطاء بالزاب وكتب لهم بذلك وانقلبوا إلى أهليهم فرحين
مغتبطين ووفد على اثرهم أحمد بن يوسف بن مزني اوفده أبوه بهدية إلى السلطان من
الخيل والرقيق والدرق فتقبلها السلطان وأكرم وفادته ثم استصحبه إلى فاس ليريه
أحوال كرامته وليستبلغ في الاحتفاء به واحتل بدار ملكه منتصف ذي القعدة من سنة تسع
وخمسين وسبعمائة وفاة السلطان أبي عنان رحمه الله
لما وصل السلطان أبو عنان إلى دار ملكه بفاس احتل بها بين يدي العيد الأكبر حتى
إذا قضى الصلاة من يوم الأضحى أدركه المرض بالمصلى وأعجله طائف الوجع عن الجلوس
للناس يوم العيد على العادة فدخل قصره ولزم فراشه
____________________
وذكر ابن خلدون ما حاصله إنه كانت بين الوزير حسن بن عمر الفودودي وبين ولي العهد
أبي زيان محمد بن السلطان أبي عنان نفرة مستحكمة لسوء طويته وشر ملكته فاتفق
الوزير المذكور مع من كان على رأيه من أهل مجلس السلطان على تحويل الأمر عنه إلى
غيره من أبناء السلطان فأجمعوا الفتك به والبيعة لأخيه أبي بكر السعيد طفلا خماسيا
ثم أغروا الوزير مسعود بن عبد الرحمن بن ماساي بتطلب أبي زيان ولي العهد في نواحي
القصر والتقبض عليه فدخل إليه وتلطف في إخراجه من بين الحرم وقاده إلى أخيه السعيد
فبايع وثل إلى بعض حجر القصر فاتلفت فيها مهجته واستقل الحسن بن عمر بالأمر يوم
الأربعاء الرابع والعشرين من ذي الحجة والسلطان أبو عنان أثناء ذلك يجود بنفسه
وارتقب الناس دفنه يوم الأربعاء والخميس بعده فلم يدفن فارتابوا وفشى الكلام فدخل
الوزير زعموا إليه بمكانه من قصره ثم غطه حتى أتلفه ودفن يوم السبت وحجب الحسن بن
عمر الولد المنصوب للأمر وأغلق عليه بابه وتفرد بالأمر والنهي دونه انتهى وهذا أول
مرض نزل بالدولة المرينية
وقال في الجذوة توفي السلطان أبو عنان قتيلا خنقه وزيره الحسن بن عمر الفودودي يوم
السبت الثامن والعشرين من ذي الحجة متم سنة تسع وخمسين وسبعمائة وسنة يوم توفي
ثلاثون سنة بقية أخبار السلطان أبي عنان وسيرته
كان السلطان أبو عنان رحمه الله أبيض اللون تعلوه صفرة طويل القامة يشرف على الناس
بطوله نحيف البدن عالي الأنف حسنه أعين أدعج جهوري الصوت في كلامه عجلة حتى لا
يكاد السامع يفهم ما يقول عظيم اللحية تملأ صدره أسودها وإذا مرت بها الريح تفرقت
نصفين حتى يستبين موضع الذقن وكان فارسا شجاعا يقوم في الحرب مقام جنده وكان فقيها
____________________
يناظر العلماء الجلة عارفا بالمنطق وأصول الدين وله حظ صالح من علمي العربية
والحساب وكان حافظا للقرآن عارفا بناسخه ومنسوخه حافظا للحديث عارفا برجاله فصيح
القلم كاتبا بليغا حسن التوقيع شاعرا أنشد له صاحب الجذوة اشعارا حسنة من ذلك في
الحكمة قوله
( وإذا تصدر للرياسة خامل ** جرت الأمور على الطريق الأعوج )
وقال ابن الأحمر كنت يوما جالسا معه بمقعد ملكه من المدينة البيضاء بفاس فدخل عليه
رجل يتصلح فلما نظر إليه قال بديهة
تراهم في ظواهرهم كراما ** ويخفون المكيدة والخداعا )
وللسلطان أبي عنان رحمه الله آثار دينية من بناء المدارس والزوايا وغير ذلك
ومدرسته العنانية بفاس مشهورة إلى الآن ومن مدارسه المدرسة العجيبة بحومة باب حسين
من سلا وقد صارت اليوم فندقا يعرف بفندق أسكور ومما قاله أبو بكر بن جزي في بعض ما
أنشأه السلطان المذكور من الزوايا قوله
( هذا محل الفضل والإيثار ** والرفق بالسكان والزوار )
( دار على الإحسان شيدت والتقى ** فجزاؤها الحسنى وعقبى الدار )
( هي ملجأ للواردين ومورد ** لابن السبيل وكل ركب ساري )
( آثار مولانا الخليفة فارس ** أكرم بها في المجد من آثار )
( لا زال منصور اللواء مظفرا ** ماضي العزائم سامي المقدار )
( بنيت على يد عبدهم وخديم ** بابهم العلي محمد بن حدار )
( في عام أربعة وخمسين انقضت ** من بعد سبعمئين في الأعصار )
وقال صاحب الجذوة حدثني شيخنا أبو راشد اليدري أن السلطان أبا عنان هو الذي أحدث
بفاس العلم الأزرق في الصومعة يوم الجمعة
وقال في موضوع آخر منها حكي أن السلطان ابا عنان المريني صعد الصومعة يعني
بالقرويين ليعتبر المدينة وترتيبها ووقف على المنجانة وما اتصل بها فاستحسن ذلك
وأنعم على الناظر فيها بمرتب وسع عليه فيه
____________________
ليستعين به على القيام بشعائر
الإسلام وذلك في سنة تسع وأربعين وسبعمائة قال وأمر بإثر ذلك بأن ينصب بأعلى
الصومعة صاري من خشب وينشر فيه علم في الأوقات التي يصلى فيها وفنار فيه سراج مزهر
في أوقات صلاة الليل ليستدل بذلك من بعد ومن لم يسمع النداء وفي ذلك اعتناء بأمور
الأوقاف وما يتعلق بها من وجوب الصلوات ويترتب عليها من وجوه الحقوق في العادات و
العبادات ومما قيل في ذلك
( نور به علم الإيمان مرتفع ** للمهتدين به للحق إرشاد )
( يأتون من كل صوب نحوه فلهم ** لديه للرشد إصدار وإيراد )
وقد لخص ابن الخطيب رحمه الله في رقم الحلل سيرة السلطان أبي عنان فقال
( وخلص الأمر لكف فارس ** باني الزوايا الكثر والمدارس )
( الأسد المفترس المصنوع له ** من نال من كل المساعي أمله )
( واحد آحاد الملوك العظما ** ومطلع النصر إذا ما أقدما )
( ومخجل الغيث إذا الغيث هما ** الملك وملك العلما )
( أوجب حق الشعر والكتابة ** فأملت أعلامها جنابه )
( واستجلب الأماثل الكبارا ** النبهاء العلية الأخيارا )
( يجبرهم على حضور الدولة ** فهم بدور وشموس حوله )
( وكان جبارا على خدامه ** ينالهم في القسر في أحكامه )
( مذهبه ألا يقيل عثره ** حتى لأرباب التقى والثرة )
( فطرة السيف تناغي الدرة ** إذ غلبت على المزاج المرة )
( ومات فيما قيل شر ميتة ** بغيلة لنفسه مفيته )
( لم يغن عنه البأس والبسالة ** وأصبحت مهجته مسالة )
( وألقيت أزمة التدبير ** من بعده في راحة الوزير )
ومن أعيان كتابه أبو القاسم بن رضوان وأبو القاسم البرجي
ومن أعيان قضاته أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقري وهو
____________________
جد أبي العباس المقري صاحب نفح
الطيب وغيره من التآليف الحسان وأبو عبد الله محمد بن أحمد الفشتالي وغيرهما رحم
الله الجميع
____________________
4
____________________
بسم الله الرحمن الرحيم الدولة
المرينية القسم الثاني الخبر عن دولة السلطان السعيد بالله أبي بكر بن أبي عنان بن
أبي الحسن المريني
هذا السلطان أول من استبد عليه من ملوك بني مرين أمه أم ولد اسمها الياسمين كنيته
أبو يحيى وهي كنية كل من اسمه أبو بكر لقبه السعيد بالله صفته دري اللون مستدير
الوجه حسن الأنف ألعس الشفتين براق الثنايا جعد الشعر بويع وأبوه مريض في التاريخ
المتقدم وكان محجوبا بوزيره حسن بن عمر الفودودي لا يملك معه ضرا ولا نفعا ولما
بويع لحق أخوه عبد الرحمن بن أبي عنان بجبل الكاي وكان أسن منه وإنما آثروه لمكان
ابن عمه مسعود بن عبد الرحمن بن ماساي من وزارته فبعثوا إليه من لاطفه واستنزله
على الأمان وجاء به إلى أخيه فاعتقله الحسن ابن عمر بقصبته من فاس وبعث على أبناء
السلطان الأصاغر الأمراء بالثغور فجاء المعتصم من سجلماسة وامتنع المعتمد بمراكش
وكان بها في كفالة عامر بن محمد الهنتاتي وكان عامر هذا من بيوتات هنتاتة وأهل
الرياسة والشرف فيهم وكان السلطان أبو عنان قد أوصى إليه بولده المذكور وجعله
هنالك لنظره فلما بعثوا عليه منعه من الوصول إليهم وخرج به من
____________________
مراكش إلى حصنه من جبل هنتاتة
فجهز إليه الوزير حسن بن عمر الجيوش لنظر الوزير سليمان بن داود مشاركة في
الاستبداد وسرحه في المحرم سنة ستين وسبعمائة فسار إلى مراكش فاستولى عليها ثم
تخطى إلى الجبل فأحاط به وضيق على عامر حتى أشرف على اقتحام الحصن إلى أن بلغه خبر
افتراق بني مرين بفاس وظهور منصور بن سليمان بها على ما نذكره فانفض العسكر من
حوله وتسابقوا إلى منصور فلحقوا به ولحق به سليمان ابن داود أيضا وتنفس الحصار عن
عامر ومكفوله والله غالب على أمره ظهور أبي حمو موسى بن يوسف الزياني واستيلاؤه
على تلمسان ونهوض مسعود بن عبد الرحمن إليه وطرده عنها
كان بنو عامر بن زغبة من عرب هلال خارجين على السلطان أبي عنان منذ استيلائه على
تلمسان وكانت رياستهم إلى صغير بن عامر بن إبراهيم ولما رجع أبو عنان إلى فاس
اعتزم صغير على الرحلة بقومه إلى وطنهم من صحراء المغرب لأنهم كانوا منتبذين عنها
بأطراف إفريقية فدعوا أبا حمو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن بن
زيان إلى الرحلة معهم لينصبوه للأمر ويجلبوا به على تلمسان فأجابهم إلى ذلك وأغذوا
السير إلى المغرب للعيث في نوا حيه فجمع لهم أعداؤهم من سويد وكانوا خالصة لبني
مرين فالتقوا بقبلة تلمسان فانهزمت سويد وهلك كبيرهم عثمان بن ونزمار واتصل بهم في
أثناء ذلك خبر وفاة السلطان أبي عنان بفاس فأغذوا السير إلى تلمسان وقاتلوا علهيا
حامية بني مرين ثم اقتحموها عليهم لليال خلون من ربيع الأول سنة ستين وسبعمائة
واستباحوا من كان بها منهم وامتلأت أيديهم من أسلابهم واستولى أبو حمو على ملك
تلمسان واستأثر بما ألفاه بها من متاع بني مرين ومن جملته هدية كان السلطان أبو
عنان أعدها هنالك ليبعث بها إلى طاغية برشلونة وفيها فرس أدهم من مقرباته بمركب
ولجام مذهبين ثقيلين فاتخذ أبو حمو الفرس لركوبه وصرف باقي الهدية في وجوه مقاصده
ولما انتهى إلى
____________________
الوزير حسن بن عمر خبر تلمسان
واستيلاء أبي حمو عليها جمع شيوخ بني مرين وأخبرهم بالنهوض إليها فأبوا عليه من
النهوض بنفسه وأشاروا بتجهيز العساكر ووعدوه من أنفسهم المسير كافة ففتح ديوان
العطاء وفرق الأموال وأسنى الصلات وأزاح العلل وعسكر بساحة البلد الجديد ثم عقد
عليهم لمسعود بن عبد الرحمن بن ماساي وحمل معه المال وأعطاه الآلة وسار في العساكر
والألوية ولما اتصل خبر مسيره بأبي حمو أفرج له عن تلمسان ودخلها مسعود في ربيع
الثاني من السنة المذكورة فاستولى عليها وخرج أبو حمو إلى الصحراء إلى أن كان ما نذكره
ظهور منصور بن سليمان وبيعة مسعود ابن عبد الرحمن له وما نشأ عن ذلك
منصور هذا هو منصور بن سليمان بن منصور بن عبد الواحد بن يعقوب ابن عبد الحق وكان
الناس يرجفون بأن ملك المغرب سائر إليه بعد وفاة أبي عنان وشاع ذلك على ألسنة
الناس حتى تحدث به السمر والندمان وخشي منصور على نفسه من ذلك فجاء إلى الوزير حسن
بن عمر وشكا إليه ذلك فنهاه أن يختلج بفكرة هذا الوسواس وانتهره انتهارا خلا عن
وجه السياسة فانزجر واستكان قال ابن خلدون ولقد شهدت هذا الموطن فرحمت ذلة انكساره
وخضوعه في موقفه ثم لما نهض مسعود بن عبد الرحمن إلى تلمسان واستولى عليها كان
منصور هذا في جملته ولما فر أبو حمو إلى الصحراء اجتمعت عليه جموع العرب من بني
زغبة وبني معقل ثم خالفوا بني مرين إلى المغرب واحتلوا بانكاد بحللهم وظواعنهم
فجهز إليهم مسعود بن عبد الرحمن عسكرا من جنوده انتقى فيه مشيخة بني مرين وأمراءهم
وعقد عليهم لابن عمه عامر بن عبد الله بن ماساي وسرحه فزحف إلى العرب بساحة وجدة
فصدقه العرب القتال فانكشفت بنو مرين واستبيح معسكرهم واستلبت مشيختهم وأرجلوا عن
خيولهم ودخلوا إلى وجدة عراة وبلغ الخبر
____________________
إلى بني مرين الذين بتلمسان
وكان في قلوبهم مرض من استبداد حسن بن عمر عليهم وحجره لسلطانهم فكانوا يتربصون
بالدولة الدوائر فلما بلغهم هذا الخبر حاصوا حيصة حمر الوحش وخلصوا نجيا بساحة
البلد فاتفقوا على البيعة ليعيش بن علي بن أبي زيان بن يوسف بن يعقوب فبايعوه
وانتهى الخبر إلى مسعود بن عبد الرحمن وكان في جملته منصور بن سليمان كما قلنا
فأكرهه على البيعة وبايعه معه الرئيس الأبكم من بني الأحمر وقائد النصارى
والقهردور وتسايل إليه الناس من كل جانب وتسامع الملأ من بني مرين بالخبر فتهاروا
إليه وذهب يعيش بن علي لوجهه فركب البحر إلى الأندلس واستتب أمر منصور بن سليمان
واجتمع بنو مرين على كلمته فارتحل بهم من تلمسان يريد المغرب واعترضتهم جموع العرب
في طريقهم فأوقعت بهم بنو مرين وامتلأت أيديهم من أسلابهم وظعنهم ثم أغذوا السير
إلى المغرب فاحتلوا بوادي سبو في منتصف جمادى الآخرة من سنة ستين وسبعمائة وبلغ
الخبر إلى الحسن بن عمر فبرز واضطرب معسكره بساحة البلد وأخرج السلطان السعيد في
الآلة والتعبية إلى أن أنزله بفسطاطه ولما غشيهم الليل انفض عنه الملأ إلى منصور
فأوقد الوزير الشموع وأذكى النيران وجمع الموالي والجند حول الفسطاط حتى أركب
السلطان وعاد به إلى قصره وتحصن بالبلد الجديد وأصبح منصور بن سليمان فارتحل في
التعبية حتى نزل بكدية العرائس في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من السنة
المذكورة وغدا على فاس الجديد بالقتال وجمع الأيدي على اتخاذ الآلات للحصار
وانثالت عليه وفود الأمصار بالمغرب للبيعة ولحقت به كتائب بني مرين التي كانت
مجمرة على حصن عامر بن محمد الهنتاني ولحق به أيضا قائدها سليمان بن داود وكاد
أمره يتم وأقام على فاس الجديد يغاديها القتال ويراوحها ثم بدا الخلل في عسكره
ونزع عنه إلى الوزير حسن بن عمر طائفة من بني مرين ولحق آخرون ببلادهم ووقفوا
ينتظرون مآل أمره واستمر هذا الحال إلى غرة شعبان فبينما الناس في ذلك إذ ظهر
السلطان أبو سالم بجبال غمارة فانصرفت إليه وجوه أهل المغرب وبطل أمر السلطانين
____________________
أبي بكر السعيد ومنصور بن
سليمان معا وذابا كما يذوب الملح فأما منصور بن سليمان فإنه فر إلى بادس فقبض عليه
وجيء به إلى السلطان أبي سالم فقتله وأما السعيد فإن وزيره الحسن بن عمر لما سمع
بظهور السلطان أبي سالم واستفحال أمره نبذ دعوة سلطانه المذكور وبعث بطاعته إلى
أبي سالم ووعده بالتمكين من دار الملك إن قدم عليه فكان الأمر كذلك وخلع السعيد
يوم الثلاثاء الثاني عشر من شعبان سنة ستين وسبعمائة ثم قتل بعد ذلك غرقا في البحر
فإن السلطان أبا سالم بعثه في جملة الأبناء المرشحين من بني أبي الحسن إلى الأندلس
ووكل بهم من يحرسهم ثم بعد ذلك بعث إلى الموكل بهم فحملهم في سفينة كأنه يريد بهم
المشرق ثم غرقهم في البحر والأمر لله وحده الخبر عن دولة السلطان المستعين بالله
أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن المريني
كان هذا السلطان جوادا جم العطاء معروفا بالوفاء كثير الحياء كنيته أبو سالم لقبه
المستعين بالله أمه أم ولد رومية اسمها قمر صفته آدم اللون معتدل القامة رحب الوجه
واسع الجبين بادن الجسم أعين أدعج معتدل اللحية أسودها وكان بعد مهلك والده
السلطان أبي الحسن رحمه الله قد استقر بالأندلس بعثه إليها أخوه أبو عنان كما مر
ولما مات أبو عنان المذكور وولي ابنه الصبي طمع أبو سالم هذا في الملك فاستأذن
الحاجب رضوان مدبر دولة ابن الأحمر بالأندلس في اللحاق ببلاده فأبى عليه فغاضه ذلك
ونزع عنه إلى طاغية قشتالة وتطارح عليه في أن يحمله إلى بر العدوة يطلب ملك أبيه
فأسعفه وأمر به فحمل في مركب وألقى به ملاحه في ساحل بلاد غمارة بعد أن تردد في أي
السواحل يلقيه ووافق
____________________
ذلك اختلاف الكلمة بفاس ومحاصرة
منصور بن سليمان للمدينة البيضاء فتسامع الناس بخروجه ببلاد غمارة أحوج ما كانوا
إليه فتسايلوا إليه من كل وجه وانفض الناس من حول منصور ومشى أهل معسكره بأجمعهم
على التعبية فلحقوا بالسلطان أبي سالم واستغذوه إلى دار ملكه فأغذ السير إليها
وخلع الحسن بن عمر سلطانه السعيد من الأمر لتسعة أشهر من خلافته وأسلمه إلى عمه
فخرج إليه وبايعه ودخل السلطان أبو سالم البلد الجديد يوم الجمعة منتصف شعبان من
سنة ستين وسبعمائة واستولى على ملك المغرب وتوافت وفود النواحي بالبيعات وعقد
للحسن بن عمر على مراكش وجهزه إليها بالعساكر تخففا منه وريبة بمكانه من الدولة
واستوزر مسعود بن عبد الرحمن بن ماساي والحسن بن يوسف الورتاجني واصطفى من خواصه
خطيب أبيه الفقيه أبا عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق وجعل إلى أبي زيد عبد الرحمن
بن خلدون صاحب التاريخ توقيعه وكتابة سره قال وكنت نزعت إليه من معسكر منصور بن
سليمان بكدية العرائس لما رأيت من اختلاف أحواله ومصير الأمر إلى السلطان أبي سالم
فأقبل علي وأنزلني بمحل التنويه واستخلصني لكتابته أه قدوم الغني بالله ابن الأحمر
ووزيره ابن الخطيب مخلوعين على السلطان أبي سالم والسبب في ذلك
قد قدمنا أن السلطان أبا الحجاج قتل يوم عيد الفطر بالمصلى سنة خمس وخمسين
وسبعمائة وولي الأمر من بعده ابنه الغني بالله محمد بن يوسف وكان له أخ اسمه
إسماعيل فجعله الغني بالله في بعض القصور من حمراء غرناطة احتفاظا به إلى أن كان
رمضان من سنة ستين وسبعمائة فخرج الغني بالله إلى بعض منتزهاته خارج القصبة ولما
كانت ليلة سبع وعشرين من رمضان المذكور أو ثمان وعشرين منه تسور جماعة من شيعة
إسماعيل
____________________
المحبوس عليه القصبة ليلا
وأخرجوه من محبسه وأعلنوا بدعوته ثم اقتحموا على حاجبه رضوان داره فقتلوه على
فراشه وبين نسائه وضبطوا القصبة وأعلنوا بالدعوة ولم يرع الغني بالله إلا قرع
الطبول بالقصبة في جوف الليل فاستكشف الخبر وتسمع فعلم بما تم عليه من خلعه وتولية
أخيه فركب فرسه وخاض الليل إلى وادي آش فاستولى عليها وضبطها وبايعه أهلها على
الموت ثم عمد شيعة إسماعيل الثائر إلى الوزير ابن الخطيب فأودعوه السجن بعد أن
أغروا به ثائرهم واكتسحوا داره واصطلموا نعمته وأتلفوا موجوده وكان شيئا يجل عن
الحصر واتصل ذلك كله بالسلطان أبي سالم وكانت له مصافاة مع ابن الأحمر من لدن كان
عنده بالأندلس فكتب إسماعيل الثائر وشيعته يأمرهم بتخلية طريق الغني بالله للقدوم
عليه ويشفع في تسريح ابن الخطيب وتخلية سبيله فأجابوا إلى ذلك وقدم الغني بالله بن
الأحمر ووزيره ابن الخطيب على السلطان أبي سالم في السادس من محرم فاتح سنة إحدى
وستين وسبعمائة فأجل السلطان أبو سالم قدومه وركب للقائه ودخل به إلى مجلس ملكه
وقد احتفل في ترتيبه وقد غص بالمشيخة والعلية ووقف وزيره ابن الخطيب على قدميه
فأنشد السلطان أبا سالم قصيدته الرائية يستصرخه لسلطانه ويستحثه لمظاهرته على أمره
واستعطف واسترحم بما أبكى الناس شفقة له ورحمه ونص القصيدة
( سلا هل لديها من مخبرة ذكر ** وهل أعشب الوادي ونم به الزهر )
( وهل باكر الوسمي دارا على اللوا ** عفت آيها إلا التوهم والذكر )
( بلادي التي عاطيت مشمولة الهوى ** بأكنافها والعيش فينان مخضر )
( وجوى الذي ربى جناحي وكره ** فها أنا ذا ما لي جناح ولا وكر )
( نبت بي لا عن جفوة وملالة ** ولا نسخ الوصل الهني بها هجر )
( ولكنها الدنيا قليل متاعها ** ولذاتها دأبا تزور وتزور )
( فمن لي بقرب العهد منها ودوننا ** مدى طال حتى يومه عندنا شهر )
( ولله عينا من رآنا وللأسى ** ضرام له في كل جانحة جمر )
____________________
( وقد بددت در الدموع يد النوى ** وللشوق أشجان يضيق لها الصدر )
( بكينا على النهر الشروب عشيه ** فعاد أجاجا بعدنا ذلك النهر )
( أقول لأظعاني وقد غالها السرى ** وآنسها الحادي وأوحشها الزجر )
( رويدك بعد العسر يسران أبشري ** بإنجاز وعد الله قد ذهب العسر )
( ولله فينا علم غيب وربما ** أتى النفع من حال أريد بها الضر )
( وإن تخن الأيام لم تخن النهى ** وأن يخذل الأقوام لم يخذل الصبر )
( وإن عركت مني الخطوب مجربا ** نقابا تساوى عنده الحلو والمر )
( فقد عجمت عودا صليبا على الردى ** وعزما كما تمضي المهندة البتر )
( إذا أنت بالبيضاء قررت منزلي ** فلا اللحم حل ما حييت ولا الظهر )
( زجرنا بإبراهيم برء همومنا ** فلما رأينا وجهه صدق الزجر )
( بمنتخب من آل يعقوب كلما ** دجا الخطيب لم يكذب لعزمته فجر )
( تناقلت الركبان طيب حديثه ** فلما رأته صدق الخبر الخبر )
( ندى لو حواه البحر لذ مذاقه ** ولم يتعقب مده أبدا جزر )
( وبأس غدا يرتاع من خوفه الردى ** وترفل في أذياله الفتكة البكر )
( أطاعته حتى العصم في قنن الربا ** وهشت إلى تأميله الأنجم الزهر )
( قصدناك يا خير الملوك على النوى ** لتنصفنا مما جنى عبدك الدهر )
( كففنا بك الأيام عن غلوائها ** وقد رابنا منها التعسف والكبر )
( وعدنا بذلك المجد فانصرم الردى ** ولدنا بذاك العزم فانهزم الذعر )
( ولما أتينا البحر يرهب موجه ** ذكرنا نداك العمر فاحتقر البحر )
( خلافتك العظمى ومن لم يدن بها ** فإيمانه لغو وعرفانه نكر )
( ووصفك يهدي المدح قصد صوابه ** إذا ظل في أوصاف من دونك الشعر )
( دعتك قلوب المؤمنين وأخلصت ** وقد طاب منها السر لله والجهر )
( ومدت إلى الله الأكف ضراعة ** فقال لهن الله قد قضى الأمر )
( وألبسها النعمى ببيعتك التي ** لها الطائر الميمون والمحتد الحر )
( فأصبح ثغر الثغر يبسم ضاحكا ** وقد كان مما نابه ليس يفتر )
( وآمنت بالسلم البلاد وأهلها ** فلا ظبة تعرى ولا روعة تعرو )
____________________
( وقد كان مولانا أبوك مصرحا ** بأنك في أولاده الولد البر )
( وكنت حقيقا بالخلافة بعده ** على الفور لكن كل شيء له قدر )
( فأوحشت من دار الخلافة هالة ** أقامت زمانا لا يلوح بها البدر )
( فرد عليك الله حقك إذ قضى ** بأن تشمل النعمى وينسدل الستر )
( وقاد إليك الملك رفقا بخلقه ** وقد عدموا ركن الإمامة واضطروا )
( وزادك بالتمحيص عزا ورفعة ** وأجرا ولولا السبك ما عرف التبر )
( وأنت الذي يدعى إذا دهم الردى ** وأنت الذي يرجى إذا أخلف القطر )
( وأنت إذا جار الزمان محكم ** لك النقض والإبرام والنهي والأمر )
( وهذا ابن نصر قد أتى وجناحه ** مهيض ومن علياك يلتمس الجبر )
( غريب يرجي منك ما أنت أهله ** فإن كنت تبغي الفخر قد جاءك الفخر )
( ففز يا أمير المؤمنين ببيعة ** موثقة قد حل عروتها الغدر )
( ومثلك من يرعى الدخيل ومن دعا ** بيا لمرين جاءه العز والنصر )
( وخذ يا إمام الحق ثاره ** ففي ضمن ما تأتي به العز والأجر )
( وأنت لها يا ناصر الحق فلتقم ** بحق فما زيد يرجى ولا عمرو )
( فإن قيل مال مالك الدثر وافر ** وإن قيل جيش عندك العسكر المجر )
( يكف بك العادي ويحيا بك الهدى ** ويبني بك الإسلام ما هدم الكفر )
( أعده إلى أوطانه عنك راضيا ** وطوقه نعماك التي ما لها حصر )
( وعاجل قلوب الناس فيه بجبرها ** فقد صدهم عنه التغلب والقهر )
( وهم يرقبون الفعل منك وصفقة ** تحاولها يمناك ما بعدها خسر )
( مرامك سهل لا يؤودك كلفة ** سوى عرض ما إن له في العلا خطر )
( وما العمر إلا زينة مستعارة ** ترد ولكن الثناء هو العمر )
( ومن باع ما يفنى بباق مخلد ** فقد أنجح المسعى وقد ربح التجر )
( ومن دون ما تبغيه يا ملك الهدى ** جياد المذاكي والمحجلة الغر )
( وراد وشقر واضحات شياتها ** فأجسامها تبر وأرجلها در )
( وشهب إذا ما ضمرت يوم غارة ** مصممة غارت بها الأنجم الزهر )
( وأسد رجال من مرين أعزة ** عمائمها بيض وآسالها سمر )
____________________
( عليها من المأذي كل مفاضة ** تدافع في أعطافها اللجج الخضر )
( هم القوم إن هبوا لكشف ملمة ** فلا الملتقى صعب ولا المرتقى وعر )
( إذا سئلوا أعطوا وإن نوزعوا سطوا ** وإن واعدوا وفوا وإن عاهدوا بروا )
( وإن مدحوا اهتزوا ارتياحا كأنهم ** نشاوى تمشت في معاطفهم خمر )
( وإن سمعوا العوراء فروا بأنفس ** حرام على هاماتها في الوغى الفر )
( وتبسم ما بين الوشيج ثغورهم ** وما بين قضب الدوح يبتسم الزهر )
( أمولاي غاضت فكرتي وتبلدت ** طباعي فلا طبع يعين ولا فكر )
( ولولا حنان منك داركتني به ** وأحييتني لم يبق عين ولا أثر )
( فأوجدت مني فائتا أي فائت ** وأنشرت ميتا ضم أشلاءه قبر )
( بدأت بفضل لم أكن لعظيمه ** بأهل فجل اللطف وانشرح الصدر )
( وطوقتني النعمى المضاعفة التي ** يقبل عليها مني الحمد والشكر )
( وأنت بتتميم الصنائع كافل ** إلى أن يعود الجاه والعز والوفر )
( جزاك الذي أسنى مقامك رحمة ** يفك بها عان وينعش مضطر )
( إذا نحن أثنينا عليك بمدحة ** فهيهات يحصى الرمل أو يحصر القطر )
( ولكننا نأتي بما نستطيعه ** ومن بذل المجهود حق له العذر )
ثم انفض المجلس وانصرف ابن الأحمر إلى منزله المعد له وقد فرشت القصور وقربت له
الجياد بالمراكب المذهبة وبعث إليه بالكسا الفاخرة ورتبت الجرايات له ولمواليه من
المعلوجي وبطانته من الصنائع وانحفظ عليه رسم سلطانه في الراكب والراجل ولم يفقد
من ألقاب ملكه إلا الأداة أدبا مع السلطان واستقر في جملته إلى أن لحق بعد
بالأندلس وعاد له ملكه سنة ثلاث وستين وسبعمائة وأرغد السلطان أبو سالم عيش ابن
الخطيب وأفاض عليه الجرايات ورتب له الإقطاعات غير أنه كان مضمرا لمفارقة السلطان
والتخلي عن خدمته والانفراد بنفسه لاغتنام ما بقي من عمره في طاعة الله تعالى فكان
من أمره في ذلك ما نذكره
____________________
سفر ابن الخطيب إلى مراكش
وأعمالها وزيارته لأوليائها ورجالها والسبب في ذلك
كان ابن الخطيب رحمه الله عندما حصلت له هذه النكبة وخلصه الله منها بانتقاله إلى
بلاد العدوة قد عن له رأي في التزهد والانقطاع إلى الله تعالى واغتنام بقية العمر
فيما يعود نفعه في العاجل والآجل ورفض السلطان وأسبابه وترك ما يلجئه للوقوف ببابه
فتلطف في استئذان السلطان أبي سالم رحمه الله وطلب منه الإذن في الذهاب إلى جهات
مراكش والوقوف على آثار الأقدمين بها والتطارح على أوليائها والمثول بأعتابها
والتعلق بأذيالها والتمسك بأسبابها جاعلا ذلك مفتاح العزلة والتخلي عن الدولة فأذن
له وكتب إلى العمال بإتحافه والاعتناء به فتباروا في ذلك كما يفصح عنه بعض شعره
الآتي وجعل طريقه على مدينة سلا فتأمل أحوالها ورآها أوفق لمراده في العزلة فأضمر
الاستيطان بها عند عوده من وجهته ولما دخل مدينة أنفى وهي الدار البيضاء مر بها
على دار عظيمة تنسب إلى والي جبايتها عبو من بني الترجمان قارون قومه وغني صنفه
وكان قد هلك قبل ذلك فقال ابن الخطيب
( قد مررنا بدار عبو الوالي ** وهي ثكلى تشكو صروف الليالي )
( أقصدت ربها الحوادث لما ** رشقته بصائبات النبال )
( كان بالأمس واليا مستطيلا ** وهو اليوم ما له من والي )
وأظنه في هذه الوجهة خاطب شيخ العرب مبارك بن إبراهيم بن عطية ابن مهلهل الخلطي
ونص ما خاطبه به
( ساحات دارك للضياف مبارك ** وبضوء نار قراك يهدي السالك )
( ونوالك المبذول قد شمل الورى ** طرا وفضلك ليس فيه مشارك )
( قل للذي قال الوجود قد انطوى ** والبأس ليس له حسام فاتك )
( والجود ليس له غمام هاطل ** والمجد ليس همام باتك )
( جمع الشجاعة والرجاحة والندى ** والبأس والرأي الأصيل مبارك )
( للدين والدنيا وللشيم العلا ** والجود إن شح الغمام السافك )
____________________
( عند الهياج ربيعة بن مكدم ** والفضل والتقوى الفضيل ومالك )
( ورث الجلالة عن أبيه وجده ** فكأنهم ما غاب منهم هالك )
( فجياده للآملين مراكب ** وخيامه للقاصدين أرائك )
( فإذا المعالي أصبحت مملوكة ** أعناقها بالحق فهو المالك )
( يا فارس العرب الذي من بيته ** حرم لها حج به ومناسك )
( يا من يبشر باسمه قصاده ** فلهم إليه مسارب ومسالك )
( أنت الذي استأثرت فيك بغبطتي ** وسواك فيه مآخذ ومتارك )
( لا زلت نورا يهتدي بضيائه ** من جنه للروع ليل حالك )
( ويخص مجدك من سلامي عاطر ** كالمسك صاك به الغوالي صائك )
الحمد لله تعالى الذي جعل بيتك شهيرا وجعلك للعرب أميرا وجعل اسمك فالا ووجهك
جمالا وقربك جاها ومالا وآل رسول الله صلى الله عليه وسلم آلا أسلم عليك يا أمير
العرب وابن أمرائها وقطب سادتها وكبرائها وأهنيك بما منحك الله تعالى من شهرة تبقى
ومكرمة لا يضل المتصف بها ولا يشقى إذ جعل خيمتك في هذا المغرب على اتساعه واختلاف
أشياعه مأمنا للخائف على كثرة المذاهب والطوائف وصرف الألسنة إلى مدحك والخلود إلى
حبك وما ذلك إلا لسريرة لك عند ربك ولقد كنت أيام تجمعني وإياك المجالس السلطانية
على معرفتك متهالكا وطوع الأمل سالكا لما يلوح لي على وجهك من سيما المجد والحياء
والشيم الدالة على العلياء وزكاء الأصول وكرم الأباء وكان والدي رحمه الله قد عين
للقاء خال السلطان قريبكم لما توجه في الرسالة إلى الأندلس نائبا في تأنيسه عن
مخدومه ومنوها حيث حل بقدومه واتصلت بعد ذلك بينهما المهاداة والمعرفة والرسائل
المختلفة فعظم لأجل هذه الوسائل شوقي إلى التشرف بزيارة ذلك الجناب الذي حلوله شرف
وفخر ومعرفته كنز وذخر فلما ظهر الآن لمحل الأخ القائد فلان اللحاق بك والتعلق
بسببك رأيت أنه قد اتصل بهذا الغرض المؤمل بعضي والله تعالى ييسر في البعض عند
تقرير الأمر وهدنة الأرض وهذا الفاضل بركة حيث حل لكونه من بيت أصالة وجهاد
____________________
وماجدا وابن أمجاد ومثلك لا
يوصى بحسن جواره ولا ينبه على إيثاره وقبيلك من العرب في الحديث والقديم وهو الذي
أوجب لها مزية التقديم لم تفتخر قط بذهب يجمع ولا ذخر يرفع ولا قصر يبنى ولا غرس
يجنى إنما فخرها عدو يغلب وثناء يجلب وجزر تنحر وحديث يذكر وجود على الفاقة وسماحة
بحسب الطاقة فلقد ذهب الذهب وفنى النشب وتمزقت الأثواب وهلكت الخيل العراب وكل
الذي فوق التراب تراب وبقيت المحاسن تروى وتنقل والأعراض تجلى وتصقل ولله در
الشاعر إذ يقول
( إنما المرء حديث بعده ** فكن حديثا حسنا لمن وعى )
( هذه مقدمة إن يسر الله بعد لقاء ** الأمير فيجلى اللسان عما في الضمير )
( ومدحي على الأملاك وقف وإنما ** رايتك منها فامتدحت على وسمي )
( وما كنت بالمهدي لغيرك مدحتي ** ولو أنه قد حل في مفرق النجم )
وقال في الشيخ ابن بطان الصنهاجي صنهاجة آزمور
( لله درك يا ابن بطان فما ** لشهير جودك في البسيطة جاحد )
( إن كان في الدنيا كريم واحد ** يزن الجميع فأنت ذاك الواحد )
( أجريت فضلك جعفرا يحيى به ** ما كان من مجد فذكرك خالد )
( فالقوم منك تجمعوا في مفرد ** ولد كما شاء العلاء ووالد )
( وهي الليالي لا تزال صروفها ** يشقى بموقعها الكريم الماجد )
( وبمستعين الله يصلح منك ما ** قد كان أفسده الزمان الفاسد )
وقال رحمه الله عندما توسط بسيط تامسنا
( كأنا بتامسنا نجوس خلالها ** وممدودها في سيرنا ليس يقصر )
( مراكب في البحر المحيط تخبطت ** ولا جهة تدري ولا البر يبصر )
وقال رحمه الله يخاطب أبا العباس أحمد بن يوسف حفيد المولى الصالح سيدي أبي محمد
صالح النائم في ظل صيته رضي الله عنه
( يا حفيد الولي يا وارث الفخر ** الذي نال في مقام وحال )
( لك يا أحمد بن يوسف جبنا ** كل قطر يعي أكف الرحال )
____________________
وقال في نفاضة الجراب لما خرجت من آسفي سرت إلى منزل ينسب إلى أبي حدو وفيه رجل من
بني المنسوب إليه اسمه يعقوب فألطف وأجزل وآنس في الليل وطلبني بتذكرة تثبت عندي
معرفة فكتبت له
( نزلنا على يعقوب نجل أبي حدو ** فعرفنا الفضل الذي ما له حد )
( وقابلنا بالبشر واحتفل القرى ** فلم يبق لحم لم ننله ولا زبد )
( يحق علينا أن نقوم بحقه ** ويلقاه منا البر والشكر والحمد )
وقال رحمه الله وقد انتابه البرغوث
( زحفت إلي ركائب البرغوث ** نم الظلام بركبها المحثوث )
( بالحبة السوداء قابل مقدمي ** لله أي قرى أعد خبيث )
( كسحت بهن ذباب سرح تجلدي ** ليلا فحبل الصبر جد رثيث )
( إن صابرت نفسي أذاه تعبدت ** أو صحت منه أنفت من تحنيثي )
( جيشان من ليل وبرغوث فهل ** جيش الصباح لصرختي بمغيث )
وقال رحمه الله وقد أشرف على الحضرة المراكشية حاطها الله تعالى
( ماذا أحدث عن بحر سبحت به ** من البحار فلا إثم ولا حرج )
( دعاه مبتدع الأشياء مستويا ** ما إن به درك كلا ولا درج )
( حتى إذا ما المنار الفرد لاح لنا ** صحت أبشري يا مطايا جاءك الفرج )
( قربت من عامر دارا ومنزلة ** والشاهد العدل هذا الطيب والأرج )
ولما وقف على مصانع مراكش وقصورها وقصبتها واعتبر ما صار إليه حالها بعد الموحدين
قال
( بلد قد غزاه صرف الليالي ** وأباح المصون منه مبيح )
( فالذي خر من بناة قتيل ** والذي خر منه بعض جريح )
( وكأن الذي يزور طبيب ** قد تأتي له بها التشريح )
( أعجمت منه أربع ورسوم ** كان قدما بها اللسان الفصيح )
( كم معان غابت بتلك المغاني ** وجمال أخفاه ذاك الضريح )
( وملوك تعبدوا الدهر لما ** أصبح الدهر وهو عبد صريح )
____________________
2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13
14 15 16 17 18 * وأصبحت
____________________
ديار الأندلس وهي البلاقع
وحسنت من استدعائك إياي المواقع وقوي العزم وإن لم يكن ضعيفا وعرضت على نفسي السفر
بسببك فألفيته خفيفا والتمست الإذن حتى لا نرى في قبلة السداد تحريفا واستقبلتك
بصدر مشروح وزند للعزم مقدوح والله سبحانه وتعالى يحقق السول ويسهل بمثوى الأمائل
المثول ويهيئ من قبيل هنتاتة القبول بفضله انتهى
ولما ذهب إلى عامر بن محمد المذكور ورقي الجبل زار الموضع الذي توفي به السلطان
أبو الحسن رحمه الله وقد ألم بذكر ذلك في نفاضة الجراب إذ قال وشاهدت بجبل هنتاتة
محل وفاة السلطان المقدس أمير المسلمين أبي الحسن رحمه الله حيث أصابه طارق الأجل
الذي فصل الخطة وأصمت الدعوة ورفع المنازعة وعاينته مرفعا عن الابتذال بالسكنى
مفروشا بالحصباء مقصودا بالابتهال والدعاء فلم أبرح يوم زيارته أن قلت
( يا حسنها من أربع وديار ** أضحت لباغي الأمن دار قرار )
( وجبال عز لا تذل أنوفها ** إلا لعز الواحد القهار )
( ومقر توحيد واس خلافة ** آثارها تبنى عن الأخبار )
( ما كنت أحسب أن أنهار الندى ** تجري بها في جملة الأنهار )
( ما كنت أحسب أن أنوار الحجا ** تلتاح في قنن وفي أ حجار )
( مجت جوانبها البرود وإن تكن ** شبت بها الأعداء جذوة نار )
( هدت بناها في سبيل وفائها ** فكأنها صرعى بغير عقار )
( لما توعدها على المجد العدا ** رضيت بعيث النار لا بالعار )
( عمرت بحلة عامر وأعزها ** عبد العزيز بمرهف بتار )
( فرسا رهان أحرزا قصب الندى ** والباس في طلق وفي مضمار )
( ورثا عن الندب الكبير أبيهما ** محض الوفاء ورفعة المقدار )
( وكذا الفروع تطول وهي شبيهة ** بالأصل في ورق وفي أثمار )
( أزرت وجوه الصيد من هنتاتة ** في جوها بمطالع الأقمار )
( لله أي قبيلة تركت لها النظراء ** دعوى الفخر يوم فخار )
( نصرت أمير المسلمين وملكه ** قد أسلمته عزائم الأنصار )
____________________
( وارت عليا عند ما عظم الردى ** والروع بالأسماع والأبصار )
( وتخاذل الجيش اللهام وأصبح ** الأبطال بين تقاعد وفرار )
( كفرت صنائعه فيمم دارها ** مستظهرا منها بعز جوار )
( وأقام بين ظهورها لا يتقي ** وقع الردى وقد ارتمى بشرار )
( فكأنها الأنصار لما أن سمت ** فيما تقدم غربة المختار )
( لما غدا لحظا وهم أجفانه ** نابت شفارهم عن الأشفار )
( حتى دعاه الله بين بيوتهم ** فأجاب ممتثلا لأمر الباري )
( لو كان يمنع من قضاء الله ما ** خلصت إليه نوافذ الأقدار )
( قد كان يأمل أن يكافئ بعض ما ** أولوه لولا قاطع الأعمار )
( ما كان يقنعه لو امتد المدى ** إلا القيام بحقها من دار )
( فيعيد ذاك الماء ذائب فضة ** ويعيد ذاك الترب ذوب نضار )
( حتى تفوز على النوى أوطانها ** من ملكه بجلائل الأوطار )
( حتى يلوح على وجوه وجوههم ** أثر العناية ساطع الأنوار )
( ويسوغ الأمل القصي كرامها ** من غير ما ثنيا ولا استعصار )
( ما كان يرضى الشمس أو بدر الدجا ** عن درهم فيهم ولا دينار )
( أو أن يتوج أو يقلد هامها ** ونحورها بأهلة ودراري )
( حق على المولى ابنه إيثار ما ** بذلوه من نصر ومن إيثار )
( فلمثلها ذخر الجزاء ومثله ** من لا يضيع صنائع الأحرار )
( وهو الذي يقضي الديون وبره ** يرضيه في علن وفي أسرار )
( حتى تحج محلة رفعوا بها ** علم الوفاء لأعين النظار )
( فيصير منها البيت بيتا ثانيا ** للطائفين إليه أي بدار )
( تغني قلوب القوم عن هدى به ** ودموعهم تكفي لرمي جمار )
( حييت من دار تكفل سعيها المحمود ** بالزلفى وعقبى الدار )
( وضفت عليك من الإله عناية ** ما كر ليل فيك أثر نهار )
ويعني بالمولى ابنه السلطان أبا سالم بن أبي الحسن ثم سار ابن الخطيب إلى أغمات
فزار مشاهدها وشاهد معاهدها فحكى عن نفسه رحمه الله
____________________
قال وقفت على قبر المعتمد بن عباد في مدينة أغمات في حركة أعملتها إلى الجهات
المراكشية باعثها لقاء الصالحين ومشاهدة الآثار سنة إحدى وستين وسبعمائة وهو
بمقبرة أغمات في نشز من الأرض وقد حفت به سدرة وإلى جنبه قبر اعتماد حظيته مولاة
رميك وعليهما أثر التغرب ومعاناة الخمول من بعد الملك فلم تملك العين دمعها عند
رؤيتهما فأنشدت في الحال
( قد زرت قبرك عن طوع بأغمات ** رأيت ذلك من أولى المهمات )
( لم لا أزورك يا أندى الملوك يدا ** ويا سراج الليالي المدلهمات )
( وأنت من لو تخطى الدهر مصرعه ** إلى حياتي لجادت فيه أبيات )
( أناف قبرك من هضب يميزه ** فتنتحيه حفيات التحيات )
( كرمت حيا وميتا واشتهرت علا ** فأنت سلطان أحياء وأموات )
( مارئي مثلك في ماض ومعتقدي ** ألا يرى الدهر في حال ولا آت )
ولما انكفأ ابن الخطيب رحمه الله راجعا من سفرته هذه وانتهى إلى سلا أقام بها
منتبذا عن سلطانه رافضا للملك وأسبابه طول مقامه بالمغرب على ما نذكره إن شاء الله
بقية أخبار ابن الخطيب بسلا حرسها الله
قد قدمنا أن ابن الخطيب كان قد عزم على التخلي عن الدنيا والانقطاع إلى الله تعالى
وأنه اختار أن يكون مقامه بسلا لكونها يومئذ أعون له على مراده من غيرها حسبما
يؤخذ ذلك من مواضع من كلامه من ذلك أنه لما وصف أمصار الأندلس والمغرب في مقاماته
المشهورة وصف مدينة سلا بقوله العقيلة المفضله والبطيحة المخضله والقاعدة المؤصله
والسورة المفصله ذات الوسامة والنضارة والجامعة بين البداوة والحضارة معدن القطن
والكتاب والمدرسة والمارستان والزاوية كأنها البستان والوادي المتعدد الأجفان
القطر الأمين عند الرجفان والعصير العظيم الشأن والأسواق السارة حتى برقيق الحبشان
اكتنفها المسرح والخصب الذي لا
____________________
يبرح والبحر الذي يأسو ويجرح
وشقها الوادي الذي يتمم محاسنها ويشرح وقابلها الرباط الذي ظهر به من المنصور
الاغتباط حيث القصبة والساباط ثم يقع الانحطاط إلى شالة مرعى الذمم ونتيجة الهمم
ومشمخ الأنوف ذوات الشمم وعنوان الرمم حيث الحسنات المكتتبة والأوقاف المرتبة
والقباب كالأزهار مجودة بذكر الله آناء الليل وأطراف النهار وطلل حسان المثل في
الاشتهار وهي على الجملة من غيرها أوفق ومغارمها لاحترام الملوك الكرام أرفق
ومقبرتها المنضدة عجب في الانتظام معدودة في المواقف العظام ويتأتى بها للعباد
الخلوة وتوجد عندها للهموم السلوة كما قال ابن الخطيب
( وصلت حثيث السير فيمن فلى الفلا ** فلا خاطري لما نأى وانجلا انجلا )
( ولا نسخت كربي بقلبي سلوة ** فلما سوى فيه نسيم سلا سلا )
وكفى بالشابل رزقا طريا وسمكا بالتفضيل حريا يبرز عدد قطر الديم ويباع ببخس القيم
ويعم المجاشر النائية والخيم أه
وما قاله في حق سلا من كونها تتأتى بها للعباد الخلوة هو كذلك معروف عند صلحاء
المغرب وعباده من لدن قديم ولذا لما قدم أبو العباس بن عاشر رضي الله عنه من
الأندلس وتنقل في بلاد المغرب مثل فاس ومكناسة لم يطب له القرار إلا بسلا وقد صرح
رضي الله عنه بذلك حيث قال
( سلا كل قلب غير قلبي ما سلا ** أيسلو بفاس والأحبة في سلا )
( بها خيموا فالقلب خيم عندهم ** فأجروا دموعي مرسلا ومسلسلا )
ولما ذكر أبو العباس الصومعي رحمه الله في كتابه الموضوع في مناقب الشيخ أبي يعزى
رضي الله عنه استحباب زيارة الأولياء قال ما نصه ولا سيما في مشاهد الأخيار إذا
اجتمعوا في مكان من الأمكنة المشرفة كما كانوا يجتمعون قبل هذا برباط شاكر وبساحل
دكالة وبسلا وبجبل العلم وعند
____________________
الشيخ أبي يعزى في أيام الربيع
وغير ذلك أه
وأقول على ذكر سلا فقد كتب إلي وأنا بمراكش حرسها الله الأخ في الله الفقيه الأديب
المحاضر أبو عبد الله محمد بن عزوز الرباطي أصلا المراكشي دارا بطاقة يقول فيها ما
نصه الحمد لله وحده السيد الأخ الذي ثوب إخائه ما اتسخ الفقيه العلامة اللابس من
أسلحة العلوم الدرع واللامة أبا العباس السيد أحمد الناصري سلام عليك سلاما ذكي
العرف رائج الصرف وبعد فقد اشتقنا إلى لذيذ مذكراتكم وحلو فكاهتكم والآن نحب من
السيادة أن تشرفونا بنقل قدمكم وتكرمونا بطلعتكم السعيدة بكرة غد إن شاء الله وعلى
المحبة والسلام في فاتح رجب الفرد سنة أربع وتسعين ومائتين وألف وألحق بأسفلها ما
نصه
( سلا البحر ما بحر بنيت بشطه ** كبحر علوم فيك أنشئ صالحا )
( فهذا هو الفياض بالعلم والتقى ** وذاك هو الفياض بالماء مالحا )
ولم ندر هل البيتان له أو تمثل بهما وعلى كل حال فما قاله حفظه الله إنما حمله
عليه حسن نيته وصفاء طويته وأما المكتوب إليه بهما فلا والله لا علم ولا تقى إلا
أن يتغمدنا الله برحمته ثم إني أجبته بنثر تركته للاختصار ووصلته بأبيات أقول فيها
ما نصه
( بعثت أبا عبد الإله مدائحا ** هو الدر حسنا والشذور لوائحا )
( فنبهت فكرا طالما بات نائما ** وروضت ذهنا طالما ظل جامحا )
( وشيدت من ذكري وقد كان خاملا ** وهيجت من قلبي الشجي القرائحا )
( وطوقتني النعمى بتقريضك الذي ** به ظل مجدي للنجوم مصافحا )
( وإلا فما قدري وإن جد جده ** وما قيمتي لو لم تكن لي مادحا )
( فأنت أديب العصر حقا ومن غذا ** لعمري لأبواب المعارف فاتحا )
( فخذ من أخيك العي واستر عيوبه ** وسامح فظني أن تكون مسامحا )
( فوصفك يعيي كل أشدق بارع ** ولو ظل في بحر البلاغة سابحا )
( فلقيت من ذي العرش كل كرامة ** ووقيت من هذا الزمان الطوائحا )
____________________
4
( ولا زال هذا الدهر طوعك خادما ** علاك وطرف السعد نحوك طامحا )
ومما مدح به سلا وأهلها قول الإمام العلامة الهمام أبي علي الحسن بن مسعود اليوسي
رضي الله عنه
( مرسى سلا مأوى الشمم ** والمجد عن طول الأمم )
( بلد بحسبك منظر منه ومخبره أتم ** مسري الهموم ومسرح الأبصار مسلاة الغمم )
( مترفلا في حلة من حسنه جنب العلم ** كالحرة الحسناء في كنف الهمام المحترم )
( وتراه من جناته متلألئا بين الأجم ** كالدر بين زمرد في قرط مارية انتظم )
( وكوجه خود حفه السوالف في دلم ** ( وكغرة في أدهم والصبح في حنج الإحم )
( والثغر من زنجية ترنو إليه وقد بسم ** والبدر ما بين الدجى والشيب في سود اللمم
)
( يعلو فويق جنبه علم تدلى من أمم ** فكأنه تاج اللجين على جبيني ذي عظم )
( أو كالكبير مزملا أودى بنهضته الهرم ** في رأسه صلع وفيما تحت جبهته غمم )
( أو كالجواد بأنفه من ذلك القصر الرثم ** يكفيك منه هواؤه لا خبث فيه ولا وخم )
( عجبا صحيح والهوى أبدا عليل ذو سقم ** وزلاله العذب الذي يشفي الفؤاد من الضرم )
( حاكى العقار وفاقها بصفاء لون الشيم ** أبناء مجد في الألى كانوا يراعون الذمم )
( من نبلهم دون العويص ونبلهم خلف الحرم ** ونفيسهم فقع الفلا ونفوسهم بيض الرخم )
( من كل أبيض وجهه تجلى به سدف الظلم ** في الخطب بدر لامع ولدى الندى بحر خضم )
( وأحبة كانوا لنا كالماء بالراح التأم ** لم يعد بين بيننا ولو الفراق بنا ألم )
( البين بين جسومنا لا بين أنفسنا يحم ** والعهد حبل ما انفصا عنه الوداد ولا
انفصم )
( والصدق نهج قد علا في كل أوجهه علم ** والبر مرعاة قرى من فيه للحسنى قرم )
( والنفس أرض قد كرا المعين ذوو الكرم ** والدين روض قد رعى فيه من العقبى رعم )
( والعلم ورد ما حلا إلا لمن نزع الحلم ** والسر برق ما أضا إلا لمن غسل الإضم )
( والدهر دولاب شما فيه سوى أهل الشمم ** من ذاق مورده الصري يوما فللدنيا صرم )
ولنرجع إلى بقية أخبار ابن الخطيب
ولما استقر بسلا واطمأن جنبه بها قال
( يا أهل هذا القطر ساعده القطر ** بليت فدلوني لمن يرفع الأمر )
____________________
( تشاغلت بالدنيا ونمت مفرطا ** وفي شغلي أو نومتي سرق العمر )
ثم حرص على لقاء الشيخ ابن عاشر رضي الله عنه حتى ظفر به فعظم سروره بذلك وتبجح به
إذ قال في نفاضة الجراب ولقيت من أولياء الله تعالى بسلا الولي الزاهد الكبير
المنقطع القرين فرارا عن زهرة الدنيا وعزوفا عنها وإغراقا في الورع وشهرة بالكشف
وإجابة الدعوة وظهور الكرامات أبا العباس بن عاشر يسر الله تعالى لقاءه على تعذره
لصعوبة تأتيه وكثافة هيبته قاعدا بين القبور في الخلاء رث الهيثة مطرق اللحظ كثير
الصمت مفرط الانقباض والعزلة قد ضرسه أهل الدنيا وتطارحهم فهو شديد الاشمئزاز من
قاصده مجرمز للوثبة من طارقه نفع الله تعالى به أه كلامه في النفاضة وقال رحمه
الله من قصيدته العينية السلاوية التي وجهها إلى سلا أيام خلف بها أهله وولده
( بولي الله فابدأ وابتدر ** واحدا الأحاد في باب الورع )
ومراده بولي الله ابن عاشر المذكور
ثم إن ابن الخطيب بعد رجوعه من مراكش جعل ينتاب رباط شالة مدفن الملوك من بني مرين
ومنهم السلطان أبو الحسن رحمه الله للدعاء وقراءة القرآن بها وتعاهدها وقد كتب
بذلك إلى السلطان أبي سالم وطلب منه أن يشفع له عند أهل الأندلس في رد متاعه الذي
أتلفوه عليه أيام النكبة ونص الكتاب مولاي المرجو لإتمام الصنيعة وصلة النعمة
وإحراز الفخر أبقاكم الله تعالى تضرب بكم الأمثال في البر والرضا وعلو الهمة ورعي
الوسيلة مقبل موطئ قدمكم المنقطع إلى تربة المولى والدكم ابن الخطيب من الضريح
المقدس بشالة وقد حط رحل الرجاء في القبة المقدسة وتيمم بالتربة الزكية وقعد بإزاء
لحد المولى أبيكم ساعة إيابه من الوجهة المباركة وزيارة الربط المقصودة والترب
المعظمة وقد عزم أن لا يبرح طوعا من هذا الجوار الكريم والدخيل المرعى حتى يصله من
مقامكم ما
____________________
يناسب هذا التطارح على قبر هذا
المولى العزيز على أهل الأرض ثم عليكم والتماس شفاعته في أمر سهل عليكم لا يجر
إنفاد مال ولا اقتحام خطر إنما هو إعمال لسان وخط بنان وصرف عزم وإحراز فخر وإطابة
ذكر وأجر وذلك أن العبد عرفكم يوم وداعكم أنه ينقل عنكم إلى المولى المقدس بلسان
المقال ما يحضر مما يفتح الله تعالى فيه ثم ينقل عنه لكم بلسان الحال ما يتلقى عنه
من الجواب وقال لي صدر دولتكم وخالصتكم وخالصة المولى والدكم سيدي الخطيب يعني ابن
مرزوق سنى الله تعالى أمله من سعادة مقامكم وطول عمركم أنت يا فلان والحمد لله ممن
لا ينكر عليه الوفاء بهذين الفرضين وصدر عنكم من البشر والقبول والإنعام ما صدر
جزاكم الله تعالى جزاء المحسنين وقد تقدم تعريف مولاي بما كان من قيام العبد بما
نقله إلى التربة الزكية عنكم حسبما أداه من حضر ذلك المشهد من خدامكم والعبد الآن
يعرض عليكم الجواب وهو أني لما فرغت من مخاطبته بمرأى من الملأ الكبير والجم
الغفير أكببت على اللحد الكريم داعيا ومخاطبا وأصغيت بإذني نحو قبره وجعل فؤادي
يتلقى ما يوحيه إليه لسان حاله فكأني به يقول لي قل لمولاك يا ولدي وقرة عيني المخصوص
برضاي وبري وستر حريمي ورد ملكي وصان أهلي وأكرم صنائعي ووصل عملي أسلم عليك وأسأل
الله تعالى أن يرضى عنك ويقبل عليك الدنيا دار غرور { والآخرة خير لمن اتقى } وما
الناس إلا هالك وابن هالك ولا تجد إلا ما قدمت من عمل يقتضي العفو والمغفرة أو
ثناء يجلب الدعاء بالرحمة ومثلك من ذكر فتذكر وعرف فما أنكر وهذا ابن الخطيب قد
وقف على قبري وتهمم بي وسبق الناس إلى رثائي وأنشدني ومجدني وبكى لي ودعا لي
وهنأني بمصير أمري إليك وعفر وجهه في تربتي وأملني لما انقطعت مني آمال الناس فلو
كنت يا ولدي حيا لما وسعني أن أعمل معه إلا ما يليق بي وأن أستقل فيه الكثير
وأحتقرن العظيم لكن لما
____________________
عجزت عن جزائه وكلته إليك
وأحلته يا حبيب قلبي عليك وقد أخبرني أنه سليب المال كثير العيال ضعيف الجسم قد
ظهر في عدم نشاطه أثر السن وأمل أن ينقطع بجواري ويستتر بدخيلي وخدمتي ويرد عليه
حقه بخدمتي ووجهي ووجوه من ضاجعني من سلفي ويعبد الله تعالى تحت حرمتك وحرمتي وقد
كنت تشوفت إلى استخدامه في الحياة حسبما يعلمه حبيبنا الخاص المحبة وخطيبنا العظيم
المزية القديم القربة أبو عبد الله بن مرزوق فاسأله يذكرك واستخبره يخبرك فأنا
اليوم أريد أن يكون هذا الرجل خديمي بعد الممات إلى أن نلحق جميعا برضوان الله
تعالى ورحمته التي وسعت كل شيء وله يا ولدي ولد نجيب يخدم ببابك وينوب عنه في
ملازمة بيت كتابك وقد استقر ببابك قراره وتعين بأمرك مرتبه ودثاره فيكون الشيخ
خديم الشيخ والشاب خديم الشاب هذه رغبتي منك وحاجتي إليك واعلم أن هذا الحديث لا
بد أن يذكر ويتحدث في الدنيا وبين أيدي الملوك والكبراء فاعمل ما يبقى لك فخره
ويتخلد ذكره وقد أقام مجاورا ضريحي تاليا كتاب الله تعالى على منتظرا ما يصله منك
ويقرأه على من السعي في خلاص ماله والاحتجاج بهذه الوسيلة في جبره وإجراء ما يليق
بك من الحرمة والكرامة والنعمة فالله الله يا إبراهيم اعمل ما يسمع عني وعنك فيه
ولسان الحال أبلغ من لسان المقال أه والعبد يا مولاي مقيم تحت حرمته وحرمة سلفه
منتظر منكم قضاء حاجته ولتعلموا وتتحقوا أنني لو ارتكبت الجرائم ورزأت الأموال
وسفكت الدماء وأخذت خسائف الملوك الأعزة ممن وراء النهر من التتار وخلف البحر من
الروم ووراء الصحراء من الحبشة وأمكنهم الله تعالى مني من غير عهد بعد أن بلغهم
تذلمي بهذا الدخيل ومقامي بين هذه القبور الكريمة ما وسع أحد منهم من حيث الحياء
والحشمة من الأحياء والأموات وإيجاب الحقوق التي لا يغفلها الكبار للكبار إلا
الجود الذي لا يتعقبه البخل والعفو الذي لا تفسده المؤاخذة =
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق