مجلد3.و4.الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى
3. مجلد3.الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى أبو العباس أحمد بن خالد بن محمد الناصري
سنة الولادة 22/ذو الحجة/ 1250هـ /1835م/ سنة الوفاة
فضلا عن سلطان الأندلس أسعده
الله تعالى وعلا بموالاتكم فهو فاضل وابن ملوك أفاضل وحوله أكياس ما فيهم من يجهل
قدركم وقدر سلفكم لا سيما مولاي والدكم الذي أتوسل به إليكم وإليهم فقد كان يتبنى
مولاي أبا الحجاج ويشمله بنظره وصارخه بنفسه وأمده بأمواله ثم صير الله تعالى ملكه
إليكم وأنتم من أنتم ذاتا وقبيلا فقد قرت يا مولاي عين العبد بما رأت في هذا الوطن
المراكشي من وفور حشودكم وكثرة جنودكم وترادف أموالكم وعددكم زادكم الله تعالى من
فضله ولا شك عند عاقل أنكم إن انحلت عروة تأميلكم وأعرضت عن ذلك الوطن الأندلسي
استوت عليه يد عدوه وقد علم تطارحي بين الملوك الكرام الذين خضعت لهم التيجان
وتعلقي بثوب الملك الصالح والد الملوك الكرام مولاي والدكم وشهرة حرمة شالة معروفة
حاش الله أن يضيعها أهل الأندلس وما توسل إليهم قط بها إلا الآن وما يجهلون اغتنام
هذه الفضيلة الغريبة وأملي منكم أن يتعين من بين يديكم خديم بكتاب كريم يتضمن
الشفاعة في رد ما أخذ لي ويخبر بمثواي متراميا على قبر والدكم ويقرر ما ألزمتكم
بسبب هذا الترامي من الضرورة المهمة والوظيفة الكبيرة عليكم وعلى قبيلكم حيث كانوا
وتطلبون منه عادة المكارمة بحل هذه العقدة ومن المعلوم أني لو طلبت بهذه الوسائل
من صلب ما وسعهم بالنظر العقلي إلا حفظ الوجه مع هذا القبيل وهذا الوطن فالحياء
والحشمة يأبيان العذر عن هذا في كل ملة ونحلة وإذا تم هذا الغرض ولا شك في إتمامه
بالله تعالى تقع صدقتكم على القبر الكريم بي وتعينوني لخدمة هذا المولى وزيارته
وتفقده ومدح النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المولد في جواره وبين يديه وهو غريب
مناسب لبركم به إلى أن أحج بيت الله بعناية مقامكم وأعود داعيا مثنيا مستدعيا
للشكر والثناء من أهل المشرق والمغرب وأتعوض من ذمتي بالأندلس ذمة بهذا الرباط
المبارك يرثها ذريتي وقد ساومت في شيء من ذلك منتظرا ثمنه مما يباع بالأندلس
بشفاعتكم ولو ظننت أنهم
____________________
يتوقفون لكم في مثل هذا أو
يتوقع فيه وحشة أو جفاء والله ما طلبته لكنهم أسرى وأفضل وانقطاعي أيضا لوالدكم مما
لا يسع مجدكم إلا عمل ما يليق بكم فيه وها أنا أترقب جوابكم بما لي عندكم من
القبول ويسعني مجدكم في الطلب وخروج الرسول لاقتضاء هذا الغرض والله سبحانه يطلع
من مولاي على ما يليق به والسلام وكتب في الحادي عشر من رجب سنة إحدى وستين
وسبعمائة وفي مدرج الكتاب بعد نثر هذه القصيدة
( مولاي ها أنا في جوار أبيكا ** فابذل من البر المقدر فيكا )
( أسمعه ما يرضيه من تحت الثرى ** والله يسمعك الذي يرضيكا )
( واجعل رضاه إذا نهدت كتيبة ** تهدي إليك النصر أو تهديكا )
( واجبر بجبري قلبه تنل المنا ** وتطالع الفتح المبين وشيكا )
( فهو الذي سن البرور بأمه ** وأبيه فاشرع شرعه لبنيكا )
( وابعث رسولك منذرا ومحذرا ** وبما تؤمل نيله يأتيكا )
( قد هز عزمك كل قطر نازح ** وأخاف مملوكا به ومليكا )
( فإذا سموت إلى مرام شاسع ** فغصونه ثمر المنا تجنيكا )
( ضمنت رجال الله منك مطالبي ** لما جعلتك في الثواب شريكا )
( فلئن كفيت وجوهها في مقصدي ** ورعيتها بركاتها تكفيكا )
( وإذا قضيت حوائجي وأريتني ** أملا فربك ما أردت يريكا )
( واشدد على قولي يدا فهو الذي ** برهانه لا يقبل التشكيكا )
( مولاي ما استأثرت عنك بمهجتي ** إني ومهجتي التي تفديكا )
( لكن رأيت جناب شالة مغنما ** يضفي على العز في ناديكا )
( وفروض حقك لا تفوت فوقتها ** باق إذا استجزيته يجزيكا )
( ووعدتني وتكرر الوعد الذي ** أبت المكارم أن يكون أفيكا )
( أضفى عليك الله ستر عناية ** من كل محذور الطريق يقيكا )
( ببقائك الدنيا تحاط وأهلها ** فالله جل جلاله يبقيكا )
وقال أيضا في الغرض المذكور
____________________
( عن باب والدك الرضي لا أبرح ** يأسو الزمان لأجل ذا أو يجرح )
( ضربت خيامي في حماه فصبيتي ** تجني الحميم به وبهمي بشرح )
( حتى يراعي وجهه في وجهتي ** بعناية تشفي الصدور وتشرح )
( أيسوغ عن مثواه سيري خائبا ** ومنابر الدنيا بذكرك تصدح )
( أنا في حماه وأنت أبصر بالذي ** يرضيه منك فوزن عقلك أرجح )
( في مثلها سيف الحمية ينتضى ** في مثلها زند الحفيظة يقدح )
( وعسى الذي بدأ الجميل يعيده ** وعسى الذي سدا المذاهب يفتح )
فأجابه السلطان أبو سالم رحمه الله بما صورته من عبد الله المستعين بالله إبراهيم
أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في
سبيل رب العالمين أبي الحسن ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين
أبي سعيد ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين يوسف بن يعقوب بن
عبد الحق أيد الله أمره وأعز نصره إلى الشيخ الفقيه الأجل الأسنى الأعز الأحظى
الأوجه الأنوه الصدر الأحفل المصنف البليغ الأعرف الأكمل أبي عبد الله ابن الشيخ
الأجل الأعز الأسنى الوزير الأرفع الأنجد الأصيل الأكمل المرحوم المبرور أبي محمد
بن الخطيب وصل الله عزته ووالى رفعته سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد حمد
الله تعالى و صلى الله عليه وسلم والرضا على آله وصحبه أعلام الإسلام وأئمة الرشد
والهدى وصلة الدعاء لهذا الأمر العلي العزيز المنصور المستعيني بالنصر الأعز
والفتح الأسنى فإنا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لكم بلوغ الأمر ونجح القول والعمل
من منزلنا الأسعد بضفة وادي ملوية يمنه الله وصنع الله جميل ومنه جزيل والحمد لله
ولكم عندنا المكانة الواضحة الدلائل والعناية المتكفلة برعي الوسائل ذلك بما
تميزتم به من التمسك بالجناب العلي المولوي العلوي جدد الله تعالى عليه ملابس
غفرانه وسقاه غيوث رحمته وحنانه وبما أهديتم إلينا من التقرب لدينا بخدمة ثراه
الطاهر والاشتمال بمطارف حرمته السامية المظاهر وإلى هذا وصل الله حظوتكم
____________________
ووالى رفعتكم فإنه ورد علينا خطابكم
الحسن عندنا قصده المقابل بالإسعاف المستعذب ورده فوقفنا على ما نصه واستوفينا ما
شرحه وقصه فآثرنا حسن تلطفكم في التوسل بأكبر الوسائل إلينا ورعينا أكمل الرعاية
حق ذلكم الجناب العزيز علينا وفي الحين عينا لكمال مطلبكم وتمام مأربكم والتوجه
بخطابنا في حقكم والاعتمال بوفقكم خديمينا أبا البقاء بن تاشكورت وأبا زكرياء بن
فرقاجة أنجدهما الله وتولاهما وأمس تاريخه انفصلا مودعين إلى الغرض المعلوم بعد
التأكيد عليهما فيه وشرح العمل الذي يوفيه فكونوا على علم من ذلكم وابسطوا له جملة
آمالكم وإنا لنرجو ثواب الله في جبر أحوالكم وبرء اعتلالكم والله سبحانه يصل
مبرتكم ويتولى تكرمتكم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته كتب في الرابع
والعشرين من رجب سنة إحدى وستين فراجعه ابن الخطيب بما نصه مولاي خليفة الله بحق
وكبير ملوك الأرض عن حجة ومعدن الشفقة والحكمة ببرهان وحكمة أبقاكم الله تعالى على
الدرجة في المنعمين وافري الحظ عند جزاء المحسنين وأراكم ثمرة بر أبيكم في البنين
وصنع لكم في عدوكم الصنع الذي لا يقف عند معتاد وأذاق العذاب الأليم من أراد في
مثابتكم بإلحاد عبدكم الذي ملكتم رقه وآويتم غربته وسترتم أهله وولده وأسنيتم رزقه
وجبرتم قلبه ويقبل موطئ الأخمص الكريم من رجلكم الطاهرة المستوجبة بفضل الله تعالى
لموقف النصر الفارغة هضبة العز المعملة الخطوة في مجال السعد ومسير الحظ ابن
الخطيب من شالة التي تأكد بملككم الرضى احترامها وتجدد برعيتكم عهدها واستبشر
بملككم دفينها وأشرق بحسناتكم نورها وقد ورد على العبد الجواب المولوي البر الرحيم
المنعم المحسن بما يليق بالملك الأصيل والقدر الرفيع والهمة السامية والعزة
القعساء من رعي الدخيل والنصرة للذمام والاهتزاز لبر الأب الكريم فثاب الرجاء
وانبعث الأمل وقوي العضد وزار اللطف فالحمد لله الذي أجرى الخير على يدكم الكريمة
وأعانكم على رعي ذمام الصالحين المتوسل إليكم أولا بقبورهم ومتعبداتهم وتراب
____________________
أجداثهم ثم بقبر مولاي ومولاكم
ومولى الخلق أجمعين الذي تسبب في وجودكم واختصكم بحبه وغمركم بلطفه وحنانه وعلمكم
آداب الشريعة وأورثكم ملك الدنيا وهيأتكم دعواه بالاستقامة إلى ملك الآخرة بعد طول
المدى وانفساخ البقاء وفي علومكم المقدسة ما تضمنت الحكايات عن العرب من النصرة عن
طائر داست أفراخه ناقة في جوار رئيس منهم وما انتهى إليه الامتعاض لذلك مما أهينت
فيه الأنفس وهلكت الأموال وقصارى من امتعض لذلك أن يكون كبعض خدامكم من عرب تامسنا
فما الظن بكم وأنتم الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم فيمن لجأ أولا إلى
حماكم بالأهل والولد عن حسنة تبرعتم بها وصدقة حملتكم الحرية على بذلها ثم فيمن حط
رحل الاستجارة بضريح أكرم الخلق عليكم دامع العين خافق القلب واهي الفزعة يتغطى
بردائه ويستجير بعليائه كأنني تراميت عليهم في الحياة أمام الذعر يذهل العقل ويحجب
عن التميز بقصر داره ومضجع رقاده ما من يوم إلا وأجهر بعد التلاوة ياليعقوب
يالمرين نسأل الله تعالى أن لا يقطع عني معروفكم ولا يسلبني عنايتكم ويستعملني ما
بقيت في خدمتكم ويتقبل دعائي فيكم ولحين وصول الجواب الكريم نهضت إلى القبر المقدس
ووضعته بإزائه وقلت يا مولاي يا كبير الملوك وخليفة الله وبركة بني مرين صاحب
الشهرة والذكر في المشرق والمغرب عبدك المنقطع إليك المترامي بين يدي قبرك المتوسل
إلى الله ثم ولدك بك ابن الخطيب وصله من مولاه ولدك ما يليق بمقامه من رعي وجهك
والتقرب إلى الله برعيك والاشتهار في مشرق الدنيا ومغربها ببرك وأنتم من أنتم من
إذا صنع صنيعه كملها وإذا من منة تممها وإذا أسدى يدا أبرزها طاهرة بيضاء غير
معيبة ولا ممنونة ولا منتقصة وأنا بعد تحت ذيل حرمتك وظل دخيلك حتى يتم أملي ويخلص
قصدي وتحف نعمتك بي ويطمئن إلى مأمنك قلبي ثم قلت للطلبة أيها السادة بيني وبينكم
تلاوة كتاب الله تعالى منذ أيام ومناسبة النحلة وأخوة التأليف بهذا الرباط المقدس
والسكنى بين أظهركم فأمنوا على دعائي بإخلاص من قلوبكم واندفعت في الدعاء
____________________
والتوسل الذي أرجو أن يتقبله
الله تعالى ولا يضيعه وخاطب العبد مولاه شاكرا لنعمته مشيدا بصنيعته ومسرورا
بقبوله وشأنه من التعلق والتطارح شأنه حتى يكمل القصد ويتم الغرض معمور الوقت
بخدمة يرفعها ودعاء يردده والله المستعان أه
ولما وصل كتاب السلطان أبي سالم إلى أهل الأندلس أعظموا وسيلته وقبلوا شفاعته
وردوا إلى ابن الخطيب ما تأتى رده مما كان ضاع له وأتلف عليه واستمر مقيما بسلا
سنتين وزيادة ثم استدعاه سلطانه الغني بالله إلى الأندلس بعد رجوعه إليها واحتوائه
على ملكها فأجاب حياء لا رغبة ومكرها لا بطلا إلى كان ما نذكره من شأنه بعد ذلك إن
شاء الله ونوادره بسلا وما جرياته كثيرة وفيما ذكرناه كفاية انتقاض الحسن بن عمر
الفودودي وخروجه بتادلا ثم مقتله عقب ذلك
قد قدمنا أن السلطان أبا سالم لما استولى على ملك فاس والمغرب عقد للحسن بن عمر
على مراكش ووجهه إليها تخففا منه وريبة بمكانه من الدولة فاستقر بها وتأثلت له بها
رياسة نفسها عليه أهل مجلس السلطان وسعوا فيه عنده حتى تنكر له وأظلم الجو بينهما
وأحس الحسن بن عمر بذلك فخشي على نفسه وخرج من مراكش في صفر سنة إحدى وستين
وسبعمائة فلحق بتادلا منحرفا عن السلطان ومرتكبا للخلاف فتلقاه بنو جابر من عرب
جشم وأجاروه واعصوصبوا عليه فسرح إليه السلطان أبو سالم وزيره الحسن بن يوسف
الورتاجني فاحتل بتادلا وانشمر الحسن بن عمر إلى الجبل بها فاعتصم به ومعه كبير
بني جابر الحسن بن علي الورديغي فأحاطت بهم العساكر وأخذوا بمخنقهم وداخل الوزير بعض
أهل الجبل من برابرة صناكة في الثورة بهم وسرب إليهم المال فثاروا بهم وانفض جمعهم
وتقبضوا على الحسن بن عمر وقادوه برمته إلى الحسن بن يوسف فاعتقله وانكفأ راجعا به
إلى الحضرة فدخلها في يوم مشهود استركب السلطان فيه الجند
____________________
وجلس ببرج الذهب مقعده من ساحة
البلد وحمل الحسن بن عمر على جمل فطيف به بين تلك الجموع ولما قرب من مجلس السلطان
أومأ إلى تقبيل الأرض من فوق جمله ثم ركب السلطان إلى قصره وانفض الجمع وقد شهر
الحسن بن عمر وأصحابه فصاروا عبرة لمن اعتبر
ولما دخل السلطان قصره جلس على كرسيه واستدعى خاصته وجلساءه وأحضر ابن عمر فوبخه
وقرر عليه ذنوبه فتلوى بالمعاذير وفزع إلى الإنكار قال ابن خلدون وحضرت هذا المجلس
يومئذ فيمن حضره من الخاصة فكان مقاما تسيل فيه العيون رحمة وعبرة ثم أمر به
السلطان فسحب على وجهه ونتفت لحيته وضرب بالعصى وثل إلى محبسه ثم قتل بعد ليال
قعصا بالرماح خارج البلد ونصب شلوه بباب المحروق رحمه الله تعالى نهوض السلطان أبي
سالم إلى تلمسان واستيلاؤه عليها
لما استوسق للسلطان أبي سالم ملك المغرب ومحا أثر الخوارج منه سمت همته إلى تملك
تلمسان كما كان لأبيه وأخيه من قبل وأكد عزمه على ذلك ما كان من فرار عبد الله بن
مسلم الزرد إلى عاملهم على درعة إليها فأجمع السلطان أبو سالم النهوض إليها وعسكر
بظاهر فاس الجديد منتصف سنة إحدى وستين وسبعمائة ولما توافت لديه الحشود وتكاملت
بسدته الجنود ارتحل إلى تلمسان
واتصل خبر نهوضه بسلطانها أبي حمو بن يوسف الزياني ووزيره عبد الله بن مسلم
الزردالي فنادوا في العرب من بني عامر بن زغبة وبني معقل فأجابوهم كافة الأشرذمة
قليلة من الأحلاف ثم خرج أبو حمو وشيعته عن تلمسان إلى الصحراء والتفت عليه العرب
بحللها
ولما دخل السلطان أبو سالم تلمسان واستولى عليها خالفه أبو حمو في عربه إلى المغرب
فنزلوا آكرسيف ووطاط وبلاد ملوية وحطموا زروعها وانتسفوا بركتها وخربوا عمرانها
وبلغ السلطان أبا سالم ما كان من إفسادهم فأهمه أمر المغرب وكان في جملته من بني
زيان محمد بن عثمان ابن
____________________
السلطان أبي تاشفين ويكنى أبا
زيان فعقد له على تلمسان وأعطاه الآلة وجمع له جيشا من مغراوة وبني توجين ودفع لهم
أعطياتهم وانكفأ راجعا إلى فاس فأجفل أبو حمو والعرب أمامه ثم خالفوه إلى تلمسان
فطردوا عنها أبا زيان واستولوا عليها وثبت قدم أبي حمو بها وعاد أبو زيان إلى
المغرب لاحقا بالسلطان أبي سالم قبله وعقد المهادنة مع أبي حمو واستقر الأمر على
ذلك وقد كان ابن الخطيب عندما بلغه استيلاء السلطان أبي سالم على تلمسان هنأه
بقصيدة طويلة يقول في مطلعها
( أطاع لساني في مديحك إحساني ** وقد لهجت نفسي بفتح تلمسان )
ويقول في أثنائها وقد ألم بشيء من علم الأحكام النجومية لميل السلطان إليه
( ولله من ملك سعيد ونصبة ** قضى المشتري فيها بعزلة كيوان )
( وسجل حكم العدل من بيوتها ** وقوفا مع المشهور من رأي يونان )
( فلم تخشى سهم القوس صفحة بدرها ** ولم تشك فيها الشمس من بخس ميزان )
( ولم يعترض مبتزها قطع قاطع ** ولا نازعت نوبهرها كف عدوان )
( تولى اختيار الله حسن اختيارها ** فلم يحتج الفرغان فيها لفرغان )
( ولا صرفت فيها دقائق نسبة ** ولا حققت فيها طوالع بلدان ) وفادة السودان من أهل
مالي على السلطان أبي سالم وإغرابهم في هديتهم بالزرافة الحيوان المعروف
قد تقدم لنا ما جرى من المواصلة بين السلطان أبي الحسن والسلطان منسا موسى وأخيه
أو ابنه من بعده منسا سليمان وتردد الوفود وإسناء الهدايا بينهم وقد كان السلطان
منسا سليمان قد هيأ هدية نفيسة بقصد أن يبعثها إلى السلطان أبي الحسن مكافأة له
على هديته فهلك السلطان أبو الحسن خلال ذلك ثم هلك السلطان منسا سليمان بعده
واختلف أهل مالي وافترق أمرهم وتقاتلوا على الملك إلى أن جمع الله كلمتهم على
السلطان منسا زاطة واستوسق له الأمر ثم نظر في أعطاف ملكه وأخبر بشأن الهدية التي
كان منسا
____________________
سليمان قد هيأها لملك المغرب
فأمر بإنفاذها إليه وضم إليها الزرافة الحيوان الغريب الشكل العظيم الهيكل المختلف
الشبه بالحيوانات وفصلوا بها من بلادهم فوصلوا إلى حضرة فاس في صفر من سنة اثنتين
وستين وسبعمائة
قال ابن خلدون وكان يوم وفادتهم يوما مشهودا جلس لهم السلطان ببرج الذهب بمجلسه
المعد لعرض الجنود ونودي في الناس بالبروز إلى الصحراء فبرزوا ينسلون من كل حدب
حتى غص بهم الفضاء وركب بعضهم بعضا في الازدحام على الزرافة إعجابا بخلقتها وحضر
الوفد بين يدي السلطان وأدوا رسالتهم بتأكيد الود والمخالصة والعذر عن إبطاء
الهدية بما كان من اختلاف أهل مالي وتواثبهم على الأمر وتعظيم سلطانهم وما صار
إليه والترجمان يترجم عنهم وهم يصدقونه بالنزع في أوتار قسيهم عادة معروفة لهم
وحيوا السلطان بأن جعلوا يحثون التراب على رؤوسهم على سنة ملوك العجم وأنشد
الشعراء في معرض المدح والتهنئة ووصف الحال ثم ركب السلطان إلى قصره وانفض ذلك
الجمع وقد طار به طائر الاشتهار واستقر الوفد تحت جراية السلطان أبي سالم إلى أن
هلك قبل انصرافهم فوصلهم القائم بالأمر من بعده وانصرفوا إلى مراكش ثم منها إلى
ذوي حسان عرب السوس الأقصى من بني معقل المتصلين ببلادهم ومن هناك لحقوا بسلطانهم
والأمر كله لله
وكان مما قيل من الشعر في ذلك اليوم قول ابن خلدون من قصيدة يقول في مطلعها
( قدحت يد الأشواق من زند ** وهفت بقلبي زفرة الوجد )
إلى أن قال في وصف الزرافة
( ورقيمة الأعطاف حالية ** موشية بوشائع البرد )
( وحشية الأنساب ما أنست ** في موحش البيداء بالقرد )
( تسمو بجيد بالغ صعدا ** شرف الصروح بغير ما جهد )
( طالت رؤوس الشامخات به ** ولربما قصرت عن الوهد )
____________________
( قطعت إليك تنائفا وصل ** أسئادها بالنص والوخد )
( تحدى على استصعابها ذللا ** وتبيت طوع القن والقد )
( بسعودك اللائي ضمن لنا ** طول الحياة بعيشة رغد )
( جاءتك في وفد الأحابش لا ** يرجون غيرك مكرم الوفد )
( وافوك أنضاء تقليبهم ** أيدي السرى بالغور والنجد )
( كالطيف يستقري مضاجعه ** أو كالحسام يسل من غمد )
( يثنون بالحسنى التي سبقت ** من غير إنكار ولا جحد )
( ويرون لحظك من وفادتهم ** فخرا على الأتراك والهند )
( يا مستعينا جل في شرف ** عن رتبة المنصور والمهدي )
( جازاك ربك عن خليقته ** خير الجزاء فنعم ما تسدى )
( وبقيت للدنيا وساكنها ** في عزة أبدا وفي سعد )
وقول الكاتب البارع أبي عبد الله بن زمرك الأندلسي من قصيدة يقول في مطلعها
( لولا تألق بارق التذكار ** ما صاب واكف دمعي المدرار )
( لكنه مهما تعرض خافقا ** قدحت يد الأشواق زند أواري )
إلى أن قال في الغرض المذكور
( وغريبة قطعت إليك على الونى ** بيدا تبيد بها هموم الساري )
( تنسيه طيته التي قد أمها ** والركب فيها ميت الأخبار )
( يقتادها من كل مشتمل الدجى ** فكأنما عيناه جذوة نار )
( تشدو بحمد المستعين حداتها ** يتعللون به على الأكوار )
( إن مسهم لفح الهجير أبلهم ** منه نسيم ثنائك المعطار )
( خاضوا بها لجج الفلا فتخلصت ** منها خلوص البدر بعد سرار )
( سلمت بسعدك من غوائل مثلها ** وكفى بسعدك حاميا لذمار )
( وأتتك يا ملك الزمان غريبة ** قيد النواظر نزهة الأبصار )
( موشية الأعطاف رائقة الحلى ** رقمت بدائعها يد الأقدار )
( راق العيون أديمها فكأنه ** روض تفتح عن شقيق بهار )
____________________
( ما بين مبيض وأصفر فاقع ** سال اللجين به خلال نضار )
( يحكي حدائق نرجس في شاهق ** تنساب فيه أراقم الأنهار )
( تحدو قوائم كالجذوع وفوقها ** جبل أشم بنوره متواري )
( وسمت بجيد مثل جذع مائل ** سهل التعطف لين خوار )
( تستشرف الجدرات منه ترائبا ** فكأنما هو قائم بمنار )
( تاهت بكلكلها وأتلع جيدها ** ومشى بها الإعجاب مشي وقار )
( خرجوا لها الجم الغفير وكلهم ** متعجب من لطف صنع الباري )
( كل يقول لصحبه قوموا انظروا ** كيف الجبال تقاد بالأسيار )
( ألقت ببابك رحلها ولطالما ** ألقى الغريب به عصا التسيار )
( علمت ملوك الأرض أنك فخرها ** فتسابقت لرضاك في مضمار )
( يتبوؤون به وإن بعد المدى ** من جاهك الأعلى أعز جوار )
( فارفع لواء الفخر غير مدافع ** واسحب ذيول العسكر الجرار )
( واهنأ بأعياد الفتوح مخولا ** ما شئت من نصر ومن أنصار )
( وإليكها من روض فكري نفحة ** شف الثناء بها على الأزهار )
( في فصل منطقها ورائق رسمها ** مستمتع الأسماع والأبصار )
( وتميل من أصغى لها فكأنني ** عاطيته منها كؤوس عقار ) مقتل السلطان أبي سالم
رحمه الله والسبب في ذلك
كان السلطان أبو سالم رحمه الله قد غلب على هواه الخطيب أبو عبد الله بن مرزوق
وألقى زمام الدولة بيده فنقم خاصة السلطان وحاشيته ذلك عليه وسخطوا الدولة من أجله
ومرضت قلوب أهل الحل والعقد من تقدمه فتربصوا بالدولة الدوائر إلى أن كانت أواخر
سنة اثنتين وستين وسبعمائة فتحول السلطان أبو سالم عن دار الملك من فاس الجديد إلى
القصبة من فاس القديم واختط بها إيوانا فخما لجلوسه فلما استولى عمر بن عبد الله
ابن علي بن سعيد الفودودي أحد كبراء الدولة ووزرائها على دار الملك إذ كان السلطان
أبو سالم قد خلفه أمينا عليها حدثته نفسه بالتوثب وسهل
____________________
ذلك عليه ما كان قد عرفه من
مرض القلوب على السلطان لمكان ابن مرزوق فداخل قائد جند النصارى غرسية بن أنطول
واتعدوا لذلك ليلة الثلاثاء السابع عشر من ذي القعدة من السنة المذكورة فعمدوا إلى
تاشفين الموسوس ابن أبي الحسن فخلعوا عليه وألبسوه شارة الملك وقربوا له مركبا
وأجلسوه مجلس السلطان وأكرهوا شيخ الحامية والناشبة محمد بن الزرقاء على البيعة
وجاهروا بالخلعان وقرعوا الطبول ودخلوا إلى بيت المال ففرضوا العطاء من غير تقدير
ولا حساب وماج الجند بفاس الجديد بعضهم في بعض واختطفوا ما وصلوا إليه من العطاء
ثم انتهبوا ما كان بالمخازن الخارجية من السلاح والعدة وأضرموا النيران في بيوتها سترا
على ما ضاع منها وأصبح السلطان أبو سالم بمكانه من قصبة فاس القديم وكان قد تحول
إليها فرارا من قاطع فلكي خوفه إياه بعض منجميه فكان البلاء فيه موكلا بالمنطق
فلما علم بالكائنة ركب واجتمع إليه من حضر من أوليائه وغدا على فاس الجديد وطاف
بها يروم اقتحامها فامتنعت عليه ثم اضطرب معسكره بكدية العرائس لحصارها ونادى في
الناس بالاجتماع إليه ولما كان وقت الهاجرة دخل فسطاطة للقيلولة فتسايل الناس عنه
إلى فاس الجديد فوجا بعد فوج بمرأى منه إلى أن انفض عنه خاصته وأهله مجلسه فطلب
النجاء بنفسه وركب في لمة من الفرسان وفيهم وزيراه سليمان بن داود ومسعود بن عبد
الرحمن بن ماساي ومقدم الموالي والجند ببابه سليمان بن ونصار وأذن لابن مرزوق في
الدخول إلى داره ومضى هو على وجهه فيمن معه ولما غشيهم الليل انفضوا عنه حتى بقي
وحده ورجع الوزيران إلى دار الملك فتقبض عليهما رئيس الثورة عمر بن عبد الله
الفودودي ومشاركه فيها غرسية بن أنطول النصراني واعتقلاهما متفرقين وبعث عمر بن
عبد الله الطلب في أثر السلطان أبي سالم فعثروا عليه نائما من الغد في بعض المجاشر
بوادي ورغة وقد غير لباسه اختفاء بشخصه وتواريا عن العيون بمكانه فتقبضوا عليه
وحملوه على بغل وطيروا بالخبر إلى عمر بن عبد الله فأزعج لتلقيه شعيب بن ميمون بن
داود وفتح الله بن عامر بن فتح الله
____________________
السدراتي وأمرهما بقتله وإنفاذ
رأسه فلقياه بخندق القصب إزاء كدية العرائس فأمرا بعض جند النصارى أن يتولى ذبحه
ففعل وحملوا رأسه في مخلاة ووضعوه بين يدي الوزير الثائر ومشيخته وكان ذلك يوم
الخميس الحادي والعشرين من ذي القعدة سنة اثنتين وستين وسبعمائة ودفن بالقلة خارج
باب الجيسة بأعلى جبل العرض المعروف بجبل الزعفران
قال ابن الخطيب في الإحاطة كان السلطان أبو سالم رحمه الله بقية البيت وآخر القوم
دماثه وحياء وبعدا عن الشرور وركونا للعافية قال وأنشدت على قبره الذي ووريت به
جثته قصيدة أديت فيها بعض حقه
( بنى الدنيا بني لمع السراب ** لدوا للموت وابنوا للخراب )
ومن أعيان وزرائه أبو عبد الله بن محمد بن أحمد بن مرزوق العجيسي الخطيب المشهور
الذي مر ذكره آنفا
ومن قضاة عسكره أبو القاسم محمد بن يحيى الأندلسي البرجي
ومن أعيان كتابه الرئيس أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون صاحب التاريخ
وأبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان النجاري من أهل مالقة صاحب كتاب السياسة
وغيره ومما نظمه هذا الفاضل عن إذن السلطان أبي سالم رحمه الله ليكتب في طرة قبة
رياض الغزلان من حضرته قوله
____________________
( هذا محل المنى بالأمن مغمور ** من حله فهو بالأمان محبور )
( مأوى النعيم به ما شئت من ترف ** تهوى محاسنه الولدان والحور )
( ويطلع الروض منه مصنعا عجبا ** يضاحك النور من لألائه النور )
( ويسطع الزهر من أرجائه أرجا ** ينافح الندى نشر منه منشور )
( مغنى السرور سقاه الله ما حملت ** غر الغمام وحلته الأزاهير )
( انظر إلى الروض تنظر كل معجبة ** مما ارتضاه لرأي العين تحبير )
( مر النسيم به يبغي القرا فقرا ** دراهم النور تبديد وتنثير )
( وهامت الشمس في حسن الظلال به ** ففرقت فوقه منها دنانير )
( كأنما الطير في أفنائها صدحت ** بشكر مالكها والفضل مشكور )
( والدوح ناعمة تهتز من طرب ** همسا وصوت غناء الطير مجهور )
( والنهر شق بساط الأرض تحسبه ** سيفا ولكنه في السلم مشهور )
( ينساب للجنة الخضراء أزرقه ** كالأيم جد انسياب وهو مذعور )
( هذي مصانع مولانا التي جمعت ** شمل السرور وأمر السعد مأمور )
( وهذه القبة الغراء ما نظرت ** لشكلها العين إلا عز تنظير )
( ولا يصورها في الفهم ذو فكر ** إلا ومنه لكل الحسن تصوير )
( ولا يرام بحصر وصف ما جمعت ** من المحاسن إلا صد تقصير )
( فيها المقاصير تحميها مهابته ** لله ما جمعت تلك المقاصير )
( كأنها الأفق تبدو النيرات به ** ويستقيم بها في السعد تسيير )
( وينشأ المزن في أرجائه وله ** من عنبر الشحر إنشاء وتسخير )
( وينهمي القطر منه وهو منسكب ** ماء من الورد يذكو منه تعطير )
( وتخفق الريح منه وهي ناسمة ** مما أهب به مسك وكافور )
( ويشرق الصبح منه وهو من غرر ** غر تلألأ منهن الأسارير )
( وتطلع الشمس فيه من سنا ملك ** تبسم الدهر منه وهو مسرور )
ومضى في مدح السلطان والله تعالى يتغمد الجميع برحمته بمنه وكرمه
____________________
الخبر عن دولة السلطان أبي عمر
تاشفين الموسوس ابن أبي الحسن المريني
هذا السلطان كان محجوبا لوزيره عمر بن عبد الله الفودودي لا يملك معه ضرا ولا نفعا
أمه أم ولد اسمها ميمونة صفته طويل القامة عظيم الهيكل بعيد ما بين المنكبين أعين
أدعج وكان فارسا بطلا قوي الساعد إلا أنه كان ناقص العقل
ولما ثار عمر بن عبد الله بالسلطان أبي سالم وسعى في هلاكه إلى أن قتل كما مر
استبد بأمر الدولة ونصب هذا الموسوس يموه به على الناس فبويع ليلة الثلاثاء التاسع
عشر من ذي القعدة سنة اثنتين وستين وسبعمائة حسبما سبق وكان نقصان عقل تاشفين من
أجل الأسر الذي أصابه بوقعة طريف أيام والده السلطان أبي الحسن إلى أن افتدي وبقي
ناقص العقل مختل المزاج إلى أن كان من أمره ما كان الفتك بغرسية بن أنطول قائد
النصارى ومقتل جنده معه والسبب في ذلك
لما قبض عمر بن عبد الله على الوزيرين مسعود بن عبد الرحمن بن ماساي وسليمان بن
داود سجنهما متفرقين فأخذ إليه ابن ماساي لمكان صهره منه ودفع لغرسية سليمان بن
داود وكان سليمان بن ونصار قد فر مع السلطان أبي سالم كما مر ولما رجع عنه فيمن
رجع نزل على غرسية فقبله وأكرمه وكان يعاقره الخمر ففاوضه ذات ليلة في الثورة بعمر
بن عبد الله واعتقاله وإقامة سليمان بن داود المسجون بداره مقامه لما هو عليه من
السن ورسوخ القدم في الأمر ونما الخبر بذلك إلى عمر بن عبد الله فارتاب
____________________
وكان خلوا من العصبية ففزع إلى
قائد المركب السلطاني من ناشبة الأندلس ورماتها وهو يومئذ إبراهيم البطروجي فعاقده
على أمره وبايعه على الاستماتة دونه ثم رأى أن ذلك لا يكفيه ففزع ثانيا إلى يحيى
بن عبد الرحمن شيخ بني مرين وصاحب شوارهم فشكا إليه فأشكاه ووعده الفتك بابن أنطول
وأصحابه وانبرم عقد ابن أنطول وسليمان بن ونصار أيضا على عمر بن عبد الله وغدوا
إلى القصر وداخل ابن أنطول طائفة من النصارى استظهارا بهم وتوافت بنو مرين بمجلس
السلطان على عادتهم وحضر ابن أنطول والبطروجي ويحيى بن عبد الرحمن وغير هؤلاء من
الوجوه فسأل عمر بن عبد الله من ابن أنطول تحويل سليمان بن داود من داره إلى السجن
فأبى وضن به عن الإهانة حتى سأل مثلها من ابن ماساي صاحبه فأمر عمر بالتقبض عليه
فكشر في وجوه الرجال واخترط سكينه للمدافعة فتواثبت بنو مرين عليه وقتلوه لحينه
واستلحموا من وجدوا بالدار من جنده النصارى عند دخولهم مع قائدهم وفر بعضهم إلى
معسكرهم ويعرف بالملاح جوار فاس الجديد وأرجف الغوغاء بالمدينة أن ابن أنطول قد
غدر بالوزير فقتلوا جند النصارى حيث وجدوهم من سكك المدينة وتزاحفوا إلى الملاح
لاستلحام من بقي به منهم وركبت بنو مرين لحماية جندهم من معرة الغوغاء وانتهب
يومئذ الكثير من أموالهم وآنيتهم وأمتعتهم وقتل النصارى أيضا كثيرا من مجان
المسلمين كانوا يعاقرون الخمر بالملاح ثم سكنت الهيعة وما كادت
واستبد عمر بن عبد الله بدار الملك واعتقل سليمان بن ونصار إلى الليل ثم بعث من
قتله بمحبسه وحول سليمان بن داود إلى بعض الدور من دار الملك فاعتقله بها واستولى
على أمره ثم خاطب عامر بن محمد الهنتاتي في اتصال اليد به واقتسام ملك المغرب بينه
وبينه وبعث إليه بأبي الفضل ابن السلطان أبي سالم اعتده عنده ليوم ما ثم فسد ما
بينه وبين مشيخة بني مرين فاجتمعوا على كبيرهم يحيى بن عبد الرحمن وعسكروا بباب
الفتوح واستدعوا عبد الحليم بن أبي علي ابن السلطان أبي سعيد من تلمسان على ما
نذكره
____________________
ظهور عبد الحليم بن أبي علي بن
أبي سعيد ومحاصرته لفاس الجديد ثم فراره عنها
قد قدمنا في أخبار السلطان أبي الحسن أن أخاه أبا علي صاحب سجلماسة كان قد انتقض
عليه فأمكنه الله منه فقتله وكفل أولاده فلم يميز بينهم وبين أولاده في شيء من
الأشياء ولما أفضى الأمر إلى أبي عنان بعث جماعة من إخوته وقرابته إلى الأندلس تحت
حياطة ابن الأحمر وكان فيهم أولاد أبي علي هؤلاء ثم بعد حين سرحوا وقدموا تلمسان
على سلطانها أبي حمو بن يوسف فكانوا عنده إلى هذا التاريخ فلما فسد ما بين عمر بن
عبد الله وشيوخ بني مرين بعثوا إلى تلمسان جملة منهم لاستقدام عبد الحليم المذكور
فسرحه أبو حمود وأعانه بشيء من الآلة وجمع عليه من رغب في طاعته وزحف إلى فاس
فتلقته جماعة بني مرين بسبو ونزلوا على فاس الجديد يوم السبت سابع محرم سنة ثلاث
وستين وسبعمائة واضطربوا معسكرهم بكدية العرائس وحاصروا دار الملك سبعة أيام
وتتابعت وفودهم وحشودهم ثم إن عمر بن عبد الله برز يوم السبت القابل في مقدمة
السلطان تاشفين بمن معه من جند المسلمين والنصارى رامحة وناشبة ووكل بالسلطان من
جاء به في الساقة على التعبية المحكمة وناوشهم الحرب فزحفوا إليه فاستطرد لهم
ليتمكن الناشبة من عقرهم من الأسوار حتى فشت فيهم الجراحات ثم صمم نحوهم فانفرج
القلب وانفضت الجموع ثم زحف السلطان تاشفين في الساقة فابذعروا في الجهات وافترق
بنو مرين إلى مواطنهم ولحق يحيى بن عبد الرحمن بمراكش مع مبارك بن إبراهيم شيخ
الخلط ولحق عبد الحليم وإخوته بتازا بعد أن شهد لهم رجال الدولة بصدق الجلاد وحسن
البلاء في ذلك المقام
____________________
ثم إن الوزير عمر بن عبد الله راجع بصيرته في تقديم المعتوه للأمر وعلم أن الأمر
لا يستقيم له بذلك فبادر باستقدام أبي زيان محمد بن أبي عبد الرحمن يعقوب ابن
السلطان أبي الحسن وكان عند الطاغية بدار الحرب فقدم وخلع الوزير المذكور سلطانه
الموسوس يوم الاثنين الحادي والعشرين من صفر سنة ثلاث وستين وسبعمائة فكانت دولته
ثلاثة أشهر ويومين ومات وسنه ستون سنة والله تعالى أعلم الخبر عن دولة السلطان
المتوكل على الله أبي زيان محمد بن أبي عبد الرحمن يعقوب بن أبي الحسن المريني
هذا السلطان كان محجوبا للوزير عمر بن عبد الله أيضا كنيته أبو زيان لقبه المتوكل
على الله أمه أم ولد اسمها فضة صفته آدم اللون شديد الأدمة معتدل القامة منفرج
الأنف دقيق العينين
وقال ابن الخطيب في الإحاطة حاله فاضل سكون منقاد مشتغل بخاصة نفسه قليل الكلام
حسن الشكل درب بركض الخيل مفوض للوزراء عظيم التأني لأغراضهم وكان قبل ولايته عند
الطاغية بالأندلس فر إليه خوفا على نفسه ولما التبست الأمور على عمر بن عبد الله
طلبه إلى الطاغية فسمح به بعد اشتراط واشتطاط وفصل من إشبيلية في المحرم فاتح سنة
ثلاث وستين وسبعمائة ونزل بسبته وبها سعيد بن عثمان من قرابة الوزير عمر بن عبد
الله أرصده لقومه فطير إليه بالخبر فحينئذ خلع عمر تاشفين الموسوس وبعث إلى
السلطان أبي زيان بالبيعة والآلة والفساطيط ثم جهز عسكرا للقائه فتلقوه بطنجة وأغذ
السير إلى الحضرة فنزل منتصف
____________________
صفر بكدية العرائس واضطرب
معسكره بها وتلقاه يومئذ الوزير عمر بن عبد الله الياباني وبايعه وأخرج فسطاطه
فاضطرب بمعسكره وتلوم السلطان أبو زيان هنالك ثلاثا ثم دخل في اليوم الرابع إلى
قصره واقتعد أريكته وتودع ملكه
وقال ابن الخطيب في الإحاطة كان دخوله داره مغرب ليلة الجمعة بطالع الثامن من
السرطان وبه السعد الأعظم كوكب المشتري من السيارة السبعة أه ولما تم له الأمر
خاطبه ابن الخطيب من سلا مهنئا له بقوله
( يا ابن الخلائف يا سمي محمد ** يا من علاه ليس يحصر حاصر )
( أبشر فأنت مجدد الملك الذي ** لولاك أصبح وهو رسم داثر )
( من ذا يعاند منك وارثه الذي ** بسعوده فلك المشيئة دائر )
( ألقت إليك يد الخلافة أمرها ** إذ كنت أنت لها الولي الناصر )
( هذا وبينك للصريخ وبينها ** حرب مضرسة وبحر زاخر )
( من كان هذا الصنع أول أمره ** حسنت له العقبى وعز الآخر )
( مولاي عندي في علاك محبة ** والله يعلم ما تكن ضمائر )
( قلبي يحدثني بأنك جابر ** كسرى وحظي منك حظ وافر )
( بثرى جدودك قد حططت حقيبتي ** فوسيلتي لعلاك نور باهر )
( وبذلت وسعي واجتهادي مثل ما ** يلقى لملكك سيف أمرك عامر )
( فهو الولي لك الذي اقتحم الردى ** وقضى العزيمة وهو سيف باتر )
( وولي جدك في الشدائد عندما ** خذلت علاه قبائل وعشائر )
( فاستهد منه النصح واعلم أنه ** في كل معضلة طبيب ماهر )
( إن كنت قد عجلت بعض مدائحي ** فهي الرياض وللرياض بواكر )
ثم أتبعها بنثر أضربنا عنه اختصارا والله تعالى الموفق
____________________
وفادة ابن الخطيب من سلا على
السلطان أبي زيان بن أبي عبد الرحمن رحمهما الله
قال في الإحاطة وفدت على السلطان أبي زيان بن أبي عبد الرحمن ابن أبي الحسن من محل
الانقطاع بسلا وأنشدته قولي
( لمن علم في هضبة الملك خفاق ** أفاقت به من غشية الهرج آفاق )
( تقل رياح النصر عنه غمامة ** تمد لها أيد وتخضع أعناق )
( وبيعة شورى أحكم السعد عقدها ** وأعمل إجماع عليها وإصفاق )
( قضى عمر فيها بحق محمد ** فسجل عهد للوفاء وميثاق )
( أحلما ترى عيناي أم هي فترة ** أعندكما في مشكل الأمر مصداق )
( وفاض لفضل الله في الأرض تبتغي ** ومجتمعات لا تريب وأسواق )
( وسرح تهنيه الكلاءة بالكلا ** وفلح لسقي الغيث قام له ساق )
( وقد كان طيف الحلم لا يعمل الخطا ** وللفتنة العمياء في الأرض إطباق )
( وللغيث إمساك وفي الأرض رجة ** وللدين والدنيا وجوم وإطراق )
( فكل فريق فيه للبغي راية ** وكل طريق فيه للعيث طراق )
( أجل إنه من آل يعقوب وارث ** يحن له البيت العتيق ويشتاق )
( له من جناح الروح ظل مسجف ** ومن رفرف العز الإلهي رستاق )
( أطل على الدنيا وقد عاد ضوءها ** ودجى وعلى الأحداق للذعر إحداق )
( فأشرقت الأرجاء من نور ربها ** وساح بها لله لطف وإشفاق )
( فمن ألسن بالشكر لله أعلنت ** وكان لها من قبل همس وإطباق )
( وليس لأمر أبرم الله ناقض ** وليس لمسعى النجح في الله إخفاق )
( محمد قد أحييت دين محمد ** وللخلق أدماء تفيض وأرماق )
( ولو لم تثبت غطى على شفق الضحا ** دم لسيوف البغي في الأرض مهراق )
( فأيمن بمشحون من الفلك سابح ** له باختيار الله حط وإيساق )
( أقلك والدأماء تظهر طاعة ** إليك صفح الماء أزرق رقراق )
( إلى هدف السعد انبرى منه والدجا ** تضل الحجى سهم من السعد رشاق )
____________________
( فخطت لتقويم القوام جداول ** وصحت من التوفيق واليمن أوفاق )
( تبارك من أهداك للخلق رحمة ** ومستبعد أن يهمل الخلق خلاق )
( هو الله يبلو الناس بالخير فتنة ** وبالشر والأيام سم وترياق )
( سمت منك أعناق الورى لخليفة ** له في مجال السعد عدو وأعناق )
( وقالوا بنان ما استقل بكفه ** تفيض على العافين أم هي أرزاق )
( وأطنب فيك المادحون وأغرقوا ** فلم يجد إطناب ولم يغن إغراق )
( ألست من القوم الذين أكفهم ** غمام ندى إن أخلف الغيث غيداق )
( ألست من القوم الذين وجوههم ** بدور لها في ظلمة الروع إشراق )
( رياض إذا العافي استظل ظلالها ** ففيها جنى ملء الأكف وإيراق )
( أبوك ولي العهد لو سالم الردى ** وجدك قد فاق الملوك وإن فاقوا )
( فمن ذا له جد كجدك أو أب ** لآلئ والمجد المؤثل نساق )
( وحسب العلا في آل يعقوب أنهم ** هم الأصل في العلياء والناس إلحاق )
( أسود سروج أو بدور أسرة ** فإن حاربوا راعوا وإن سالموا راقوا )
( يطول لتحصيل الكمال سهادهم ** فهم للمعالي والمكارم عشاق )
ومنها
( لقد نسيت إحسان جدك فرقة ** تزر على أعناقهم منه أطواق )
( أجازت خروج ابن ابنه عن تراثه ** ولم تدر ما ضمت من الذكر أوراق )
( ومن دون ما راموه لله قدرة ** ومن دون ما أموه للفتح إغلاق )
( خذ العفو وابذل فيهم العرف ولتسع ** جريرة من أبدى لك العذر أخلاق )
( فربما تنبو مهندة الظبي ** وتهفو حلوم القوم والقوم حذاق )
( وما الناس إلا مذنب وابن مذنب ** ولله إرفاد عليهم وإرفاق )
( ولا ترج في كل الأمور سوى الذي ** خزائنه ما ضرها قط إنفاق )
( إذا هو أعطى لم يضر منع مانع ** وإن حشدت طسم وعاد وعملاق )
( عرفت الردى واستأثرت بك للعدا ** تخوم لمختط الصليب وأعماق )
( فيسر لليسرى وأحيى بك الورى ** وللروع إرعاد عليك وإبراق )
____________________
( فجاز صنيع الله وازدد بشكره ** مواهب جود غيثها الدهر دفاق )
( وأوف لمن أوفى وكاف الذي كفى ** فأنت كريم طهرت منك أعراق )
( وتهنيك يا مولى الملوك خلافة ** شجتها تباريح إليك وأشواق )
( فقد بلغت أقصى المنى بك نفسها ** وكم فاز بالوصل المهنا مشتاق )
( فلا راع منها السرب للدهر رائع ** ولا نال منها جدة السعد أخلاق )
( أمولاي راع الدهر سربي وغالني ** فطرفي مذعور وقلبي خفاق )
( وليس لكسرى غيرك اليوم جابر ** ولا ليدي إلا بمجدك أعلاق )
( ولي فيك ود واعتداد غرسته ** فراقت به من يانع الحمد أوراق )
( وقد عيل صبري في ارتقابي خليفة ** تحل به للضر عني أوهاق )
( وأنت حسام الله والله ناصر ** وأنت أمين الله والله رزاق )
( وأنت الأمان المستجار من الردى ** إذا راع خطب أو توقع إملاق )
( وأهون ما يرجى لديك شفاعة ** إذا لم يكن عزم حثيث وإرهاق )
( ودونكها من ذائع الحمد مخلص ** له فيك تقييد يروق وإطلاق )
( إذا قال أما كل سمع لقوله ** فمصغ وأما كل أنف فنشاق )
( ودم خافق الأعلام بالنصر كلما ** ذهبت لمسعى لم يكن فيه إخفاق )
قال وعدت منه ببر كبير واحترام شهير يشير بذلك إلى ما أكرمه به وكتب له من الظهير
الذي يتضمن كمال الاحترام والتوقير ونصه هذا ظهير كريم من أمير المسلمين فلان أيده
الله ونصره وسنى له الفتح المبين ويسره للشيخ الفقيه الأجل الأسنى الأعز الأحظى
الأرفع الأمجد الأسمى الأوحد الأنور الأرقى العالم العلم الرئيس الأعرف المتفنن
الأبرع المصنف المفيد الصدر الأحفل الأفضل الأكمل أبي عبد الله ابن الشيخ الفقيه
الوزير الأجل الأسنى الأعز الأرفع الأمجد الوجيه الأنوه الأحفل الأفضل الحسيب
الأصل الأكمل المبرور المرحوم أبي محمد ابن الخطيب قابله أيده الله بوجه القبول
والإقبال وأضفى عليه ملابس الإنعام والإفضال ورعى له خدمة السلف الرفيع الجلال وما
تقرر من
____________________
مقاصده الحسنة في خدمة أمرنا
العال وأمر في جملة ما سوغه من الآلاء الوارفة الظلال الفسيحة المجال بأن يجدد له
حكم ما بيده من الأوامر المتقدم تاريخها المتضمنة تمشية خمسمائة دينار من الفضة
العشرية في كل شهر عن مرتب له ولولده الذي لنظره من مجبي مدينة سلا حرسها الله ومن
حيث جرت العادة أن تمشي له ورفع الاعتراض ببابها فيما يجلب من الأدم والأقوات على
اختلافها من حيوان وسواه وفيما يستفيده خدامه بخارجها وأحوازها من عنب وقطن وكتان
وفاكهة وخضر وغير ذلك فلا يطلب في شيء من ذلك بمغرم ولا وظيف ولا يتوجه فيه إليه
بتكليف يتصل له حكم جميع ما ذكر في كل عام تجديدا تاما واحتراما عاما أعلن بتجديد
الحظوة واتصالها وإتمام النعمة وإكمالها من تواريخ الأوامر المذكورة إلى الآن ومن
الآن إلى ما يأتي على الدوام واتصال الأيام وأن يحمل جانبه فيمن يشركه أو يخدمه
محمل الرعي والمحاشاة في السخر مهما عرضت والوظائف إذا افترضت حتى يتصل له تالد
العناية بالطارف وتتضاعف أسباب المنن والعوارف بفضل الله وتحرر له الأزواج التي
يحرثها بتالماغت من كل وجيبة وتحاشى من كل مغرم أو ضريبة بالتحرير التام بحول الله
وعونه ومن وقف على هذا الظهير الكريم فليعمل بمقتضاه وليمض ما أمضاه إن شاء الله
وكتب في العاشر من شهر ربيع الآخرة من سنة ثلاث وستين وسبعمائة وكتب في التاريخ أ
هـ وقوله وكتب في التاريخ هو العلامة السلطانية في ذلك الزمان يكتب بقلم غليظ وبعض
ملوك المغرب يكتب عند العلامة صح في التاريخ
____________________
وفادة ابن محمد الهنتاتي على
السلطان أبي زيان بن أبي عبد الرحمن رحمهما الله
كان الوزير عمر بن عبد الله الياباني مودة ومصافاة مع الرئيس الشهير أبي ثابت عامر
بن محمد الهنتاتي كبير جبل درن والبلاد المراكشية وكان الوزير عمر المذكور قد بعث
إليه بصهره وظهيره على الملك مسعود بن عبد الرحمن ابن ماساي يكون عنده عدة وعتادا
ليوم ما فلما بويع السلطان أبو زيان استقدم عمر بن عبد الله صهره المذكور لوزارته
وكان عامر بن محمد مجمعا القدوم على السلطان المذكور فقدم في صحبته مسعود ونزلا من
الدولة بخير منزل
وعقد السلطان أبو زيان لمسعود المذكور على وزارته بإشارة الوزير عمر بن عبد الله
فاضطلع بها ودفعه عمر إليها استمالة اليد وثقة بمكانه واستظهارا بعصبيته وعقد مع
عامر بن محمد الحلف على مقاسمة المغرب شق الأبلمة وجعل إمارة مراكش لأبي الفضل ابن
السلطان أبي سالم إسعافا لغرض عامر بن محمد في ذلك
وخطب إليهم عامر بنت السلطان أبي بكر الحفصي التي توفى عنها السلطان أبو عنان
فأجابوه وحملوا أولياءها على العقد عليها وانكفأ راجعا إلى مكان عمله بمراكش يجر
الدنيا وراءه عزا وثروة وتابعا وذلك في جمادى الأولى من سنة ثلاث وستين وسبعمائة
فاستقل بأمر الناحية الغربية من مراكش وجبال المصامدة وما إليها من الأعمال واستبد
بها ونصب أبا الفضل ابن السلطان أبي سالم صورة واستوزر له وتمكن سلطانه وعلا ذكره
وصارت كأنها دولة مستقلة فصرف إليه النازعون من بني مرين عن
____________________
الدولة وجوه مفرهم ولجؤوا إليه
فأجارهم على السلطان واجتمع إليه منهم ملأ واتسع الخرق على الرافع واضطربت الأحوال
بالمغرب وخرج على السلطان أبي زيان الأمير عبد الحليم بن أبي علي بن أبي سعيد
وتغلب على سجلماسة وأعمالها ثم غلب عليه أخوه عبد المؤمن بن أبي علي فخرج عبد
الحليم إلى المشرق لقضاء فريضة الحج واستمر عبد المؤمن بسجلماسة وأقام بها دولة
كما كان لوالده من قبل إلى أن فتحها الوزير مسعود بن عبد الرحمن بن ماساي وأضافها
إلى مملكة فاس ثم انتقض الوزير مسعود أيضا وبايع الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن
بن أبي علي ونصبه للأمر وصار يشوش به على الدولة وشرق عمر بن عبد الله بدائه في
أخبار طويلة ولما لم يتم له أمر عبر هو وسلطانه البحر من مرسى غساسة إلى الأندلس
فاتح سنة سبع وستين وسبعمائة وأقبلا على الجهاد واستراح الوزير عمر وسلطانه أبو
زيان من شغبهما والله غالب على أمره مقتل السلطان أبي زيان بن أبي عبد الرحمن رحمه
الله
لما طال استبداد الوزير عمر بن عبد الله على السلطان أبي زيان وحجره أباه إذ كان
وضع عليه الرقباء والعيون حتى من حرمه وأهل قصره عزم على الفتك بالوزير المذكور
وتناجى بذلك مع بعض ندمائه وأعد له طائفة من العبيد كانوا يختصون به فنما ذلك إلى
الوزير بواسطة بعض الحرم كانت عينا له عليه فعاجله وكان قد بلغ من الاستبداد عليه
أن كان الحجاب مرفوعا له عن خلوات السلطان وحرمه فدخل عليه وهو في وسط حشمه فطردهم
عنه ثم غطه حتى فاظ وأمر به فألقي في بئر بروض الغزلان واستدعى الخاصة فأراهم
مكانه بها وأنه سقط عن دابته وهو سكران وذلك في محرم فاتح سنة ثمان وستين وسبعمائة
كذا عند ابن خلدون وقال في الجذوة توفي يوم الأحد الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة
سبع وستين وسبعمائة وله ثمان وعشرون سنة ودفن بجامع
____________________
قصره فكانت دولته أربع سنين
وعشرة أشهر ويوما واحدا والله أعلم الخبر عن دولة السلطان أبي فارس عبد العزيز بن
أبي الحسن رحمه الله
هذا السلطان هو الذي أنعش دولة بني مرين بعد تلاشيها وأعاد إليها شبابها بعد هرمها
وتقاضيها وأزال عنها وصمة الحجر والاستبداد وأعادها من العز إلى حالها المعتاد وهو
الذي ذكره ابن خلدون في أول تاريخه الكبير وألفه برسمه وحلى ديباجته باسمه أمه
مولدة اسمها مريم صفته أدم اللون شديد الأدمة طويل القامة يشرف على الناس بطوله
نحيف الجسم أعين أدعج أخنس في وجهه أثر جدري وكان عفا متمسكا بالدين محبا في الخير
وأهله لم يشرب خمرا ولا وقع في فاحشة قط وبالجملة فقد كان من صالحي الملوك رحمه
الله
ولما كان من الوزير عمر بن عبد الله الياباني إلى السلطان أبي زيان رحمه الله ما
كان من الخنق والإلقاء في البئر استدعى عبد العزيز بن أبي الحسن هذا وكان في بعض
الدور من القصبة بفاس محتاطا عليه من قبل الوزير المذكور فأحضره بالقصر وأجلسه على
سرير الملك وبايعه وفتحت الأبواب لبني مرين وسائر الخاصة والعامة فازدحموا على
تقبيل يده معطين الصفقة بطاعته فتم أمره وثبت ملكه وذلك يوم الأحد الثاني والعشرين
من ذي الحجة سنة سبع وستين وسبعمائة ثم إن الوزير عمر جرى معه على عادته من
الاستبداد ومنع التصرف في شيء من أمور الملك فأنف السلطان عبد العزيز من ذلك وتأفف
منه ودارت بينه وبين الوزير أمور إلى أن عمل السلطان على الفتك به فأعد له جماعة
من الخصيان بزوايا داره ثم أحضره ووبخه وثار به أولئك الخصيان فتناولوه هبرا
بالسيوف وصاح الوزير المذكور صيحة أسمع بها بطانته خارج الدار فوثبوا على الأبواب
فكسروها
____________________
واقتحموا الدار فإذا صاحبهم
مضرج بدمائه قد فرغ منه فولوا الأدبار هاربين ثم تتبع السلطان عبد العزيز حاشية
الوزير بالاعتقال والقتل حتى أتى على الجميع في خبر طويل واستبد بملكه واضطلع به
وأدار الأمور فيه على ما ينبغي والله تعالى أعلم انتقاض أبي الفضل بن أبي سالم ثم
مقتله بعد ذلك
قد قدمنا أن أبا الفضل بن أبي سالم كان قد عقد له الوزير عمر بن عبد الله على مراكش
إسعافا لكافله عامر بن محمد الهنتاتي فلما فتك السلطان عبد العزيز بالوزير المذكور
سولت لأبي الفضل نفسه مثلها في عامر بن محمد لاستبداده عليه وأغراه بذلك بطانته
فأحس عامر بالشر فتمارض بداره من مراكش ثم استأذنه في الصعود إلى معتصمه من الجبل
ليمرضه هنالك حرمه وأقاربه فارتحل بجملته واحتل بحصنه وكان أعز من الأبلق الفرد
فيئس أبو الفضل من الاستمكان منه ثم أغرته بطانته إذ فاتهم عامر بالفتك بعبد
المؤمن بن أبي علي وكان قد انضاف إليه بعد إجفاله عن سجلماسة فسكر أبو الفضل ذات
ليلة وبعث عن قائد الجند من النصارى فأمره بقتل عبد المؤمن بمكان معتقله من قصبة
مراكش فجاء برأسه إليه وطار الخبر بذلك إلى عامر فارتاع وحمد الله إذ خلصه من
غائلته وبعث ببيعته إلى السلطان عبد العزيز وأغراه بأبي الفضل ورغبه في ملك مراكش
ووعده بالمظاهرة فأجمع السلطان أمره على النهوض إليها ونادى في الناس بالعطاء وقضى
أسباب حركته وارتحل من فاس سنة تسع وستين وسبعمائة وقد استبد أبو الفضل بمراكش
وأعملها
وأقام بها رسم الملك واستوزر واستلحق وجعل شوراه لمبارك بن إبراهيم بن عطية الخلطي
ولما نهض السلطان عبد العزيز من فاس اتصل خبره بأبي الفضل وهو
____________________
منازل لعامر بن محمد فانفض
معسكره ولحق بتادلا ليعتصم بجبل بني جابر منها فتبعه السلطان عبد العزيز إليها
ونازله وأخذ بمخنقه وقاتله ففل عسكره ثم داخل بعض بني جابر في جر الهزيمة عليه على
مال يعطيه لهم ففعلوا وانهزمت جيوشه وتقبض على أشياعه وسيق مبارك بن إبراهيم إلى
السلطان عبد العزيز فاعتقله إلى أن قتله مع عامر بن محمد كما نذكر
ولحق أبو الفضل بقبائل صناكة وراء بني جابر فداخل بنو جابر في شأنه وبذلوا لهم عن
السلطان مالا دثرا في إسلامه فأسلموه وبعث السلطان إليهم وزيره يحيى بن ميمون فجاء
به أسيرا وأحضره أمام السلطان فوبخه ثم اعتقله بفسطاط مجاور له ثم غط من الليل
فكان مهلكه في رمضان سنة تسع وستين وسبعمائة لمضي ثمان سنين من إمارته على مراكش
وبعث السلطان عبد العزيز إلى عامر بن محمد يختبر طاعته فأبى عليه وجاهر بالخلاف
إلى أن كان من شأنه ما نذكره انتقاض عامر بن محمد الهنتاتي وحصار السلطان عبد
العزيز إياه وظفره به
كان عامر بن محمد الهنتاتي مجير السلطان أبي الحسن من ابنه أبي عنان على ما وصفنا
من بلوغ الغاية في الرياسة والاعتزاز على الدولة وطول الاستبداد بمراكش وأحوازها
وكان قد حصل في مدة رياسته على ثروة عظيمة وجاه كبير وكان له معتصم بجبل درن أعز
من بيض الأنوق قد حصن فيه ماله وسلاحه وذخيرته وكان كلما هاجه هائج صعد إليه وأمن
على نفسه فلما صفا الأمر للسلطان عبد العزيز جعل عامرا هذا من أهم أمره فنصب له
واستعد لقتاله وعقد على وزارته لأبي بكر بن غازي بن يحيى بن الكاس ونهض إليه من
فاس سنة سبعين وسبعمائة فحاصره في جبله سنة كاملة ولما طال الحصار على عامر وشيعته
اختلفت كلمتهم عليه وفسد ما
____________________
بينه وبين ابن أخيه فارس بن
عبد العزيز بن محمد فبعث إلى السلطان وسهل له الطريق لاقتحام الجبل فزحفت العساكر
والجنود وشارفت المعتصم ولما استيقن عامر أن قد أحيط به بعث إلى ابنه أبي بكر أن
يلحق بالسلطان مختارا له ومشيرا عليه بالتي هي أحسن وأسلم فألقى الولد بنفسه إلى
السلطان فقبله وبذل له الأمان وألحقه بجملته وانتبذ عامر عن الناس وذهب لوجهه
ليخلص إلى السوس فرده الثلج وقد كانت السماء أرسلت به منذ أيام حتى تراكم بالجبل
بعضه على بعض وسد المسالك فاقتحمه عامر حتى هلك فيه بعض حرمه ونفق مركوبه وعاين
الهلكة العاجلة فرجع أدراجه مختفيا حتى آوى إلى غار مع أدلاء كان قد استخلصهم وبذل
لهم مالا على أن يسلكوا به ظهر الجبل إلى صحراء السوس فأقاموا ينتظرون إمساك الثلج
وقد شدد السلطان عبد العزيز في التنقير عنه والبحث فعثر عليه بعض البربر بالغار
المذكور فسيق إلى السلطان فأحضره بين يديه ووبخه فاعتذر واعترف بالذنب ورغب في
الإقالة فحمل إلى مضرب بني له بإزاء فسطاط السلطان واعتقل هنالك وانطلقت الأيدي
على معاقل عامر ودياره فانتهب من الأموال والسلاح والذخيرة والزرع والأقوات ما لا
عين رأت ولا أذن سمعت
واستولى السلطان على الجبل ومعاقله في رمضان من سنة إحدى وسبعين وسبعمائة لحول من
يوم حصاره وعقد على هنتاتة لابن أخي عامر وهو فارس بن عبد العزيز بن محمد بن علي
الهنتاتي وارتحل إلى فاس فاحتل بها آخر رمضان المذكور ودخلها في يوم مشهود برز فيه
الناس وحمل عامر وسلطانه تاشفين من بني عبد الحق كان نصبه للأمر مموها به على
عادته فحملا معا على جملين وقد أفرغ عليهما لباس رث وعبثت بهما أيدي الإهانة فكان
ذلك عبرة لمن رآه
ولما قضى السلطان عبد العزيز نسك عيد الفطر أحضر عامرا فقرعه بذنوبه وأتى بكتاب
بخطه يخاطب فيه أبا حمو بن يوسف الزياني ويستنجده على
____________________
السلطان فشهد عليه به وأمر
السلطان بامتحانه فلم يزل يجلد حتى انتشر لحمه وضرب بالعصى حتى ورمت أعضاؤه وهلك
بين يدي الوزعة وجنب تاشفين سلطانه إلى مصرعه فقتل قعصا بالرماح وجنب مبارك بن
إبراهيم الخلطي من محبسه بعد الاعتقال فألحق بهم ولكل أجل كتاب وصفا الجو للسلطان
عبد العزيز من المنازعين وتفرغ لغزو تلمسان على ما نذكره إن شاء الله ارتجاع
الجزيرة الخضراء من يد الإسبانيول
قد قدمنا ما كان من استيلاء الطاغية على الجزيرة الخضراء أيام السلطان أبي الحسن
رحمه الله فاستمرت في ملكتهم إلى هذا التاريخ فنشأت بينهم فتنة وتقاتلوا على الملك
وأعروا ثغورهم الموالية للمسلمين من الحامية والجند فبقيت عورة وتشوف المسلمون إلى
ارتجاع الجزيرة الخضراء التي قرب عهدهم بانتظامها في ملكة المسلمين
وكان السلطان عبد العزيز في شغل عن ذلك بفتنة أبي الفضل بن أبي سالم وعامر بن محمد
وانتقاضهما فبعث إلى ابن الأحمر صاحب الأندلس أن يزحف إليها بعساكره وعليه عطاؤهم
وإمدادهم بالمال والأساطيل على أن تكون مثوبة جهاده خالصة له فأجاب ابن الأحمر إلى
ذلك وبعث إليه السلطان عبد العزيز بأحمال المال وأوعز إلى أساطيله بسبتة فانعمرت
وأقلعت حتى احتلت بمرسى الجزيرة الخضراء لحصارها وزحف ابن الأحمر بعساكر المسلمين
على أثرها بعد أن قسم فيهم العطاء وأزاح العدد وأعد الآلات للحصار فنازلها أياما
قلائل ثم أيقن النصارى بالهلكة لبعدهم عن الصريخ ويأسهم من مدد ملوكهم فألقوا
باليد وسألوا النزول على الصلح فأجابهم ابن الأحمر إليه ونزلوا عن البلد وأقيمت
فيه شعائر الإسلام ومحيت منه كلمة الكفر وكتب الله أجرها لمن أخلص في معاملته
____________________
وكان ذلك سنة سبعين وسبعمائة
وولي ابن الأحمر عليها من قبله ولم تزل إلى نظره إلى أن وقع الاختيار على هدمها
خشية استيلاء النصرانية عليها مرة أخرى فهدمت أعوام الثمانين وسبعمائة وأصبحت
خاوية كأن لم تغن بالأمس نهوض السلطان عبد العزيز إلى تلمسان واستيلاؤه عليها
وفرار سلطانها أبي حمو بن يوسف عنها
كان أبو حمو بن يوسف الزياني قد فسد ما بينه وبين عرب سويد وقبض على بعض رؤسائهم
محمد بن عريف فاستصرخوا عليه السلطان عبد العزيز وكانت القوارص لا تزال تسري إليه
من أبي حمو المذكور فصادفوا منه صاغية إلى ما التمسوا منه واعتزم على النهوض إلى
تلمسان وبعث الحاشرين إلى الجهات المراكشية فتوافى الناس إليه على طبقاتهم
واجتمعوا عنده أيام منى سنة إحدى وسبعين وسبعمائة فأفاض العطاء وأزاح العلل ولما
قضى نسك عيد الأضحى عرض الجند ونهض إلى تلمسان فاحتل بتازا
واتصل خبره بأبي حمو فجمع الجموع وهم باللقاء ثم اختلفت كلمة أصحابه وتفرق عنه
العرب من بني معقل فأجفل هو وأشياعه من بني عامر بن زغبة فدخلوا القفر
وتقدم السلطان عبد العزيز فاحتل بتلمسان يوم عاشوراء من سنة اثنتين وسبعين
وسبعمائة فدخلها في يوم مشهود واستولى عليها وعقد لوزيره أبي بكر بن غازي بن الكاس
على عساكر مرين والعرب وسرحه في اتباع أبي حمو فأدركه ببعض بلاد زناتة الشرق
فأجهضوه عن ماله ومعسكره فانتهب بأسره واكتسحت أموال العرب الذين معه ونجا بذمائه
إلى مصاب وتلاحق به ولده وقومه متفرقين على كل مفازة ثم دخلوا القفر بعد ذلك ودوخ
الوزير المذكور بلاد المغرب الأوسط وشرد عصاته واستنزل ثواره في أخبار طويلة
____________________
واستولى السلطان عبد العزيز على سائر الوطن من الأمصار والأعمال وعقد عليها للولاة
والعمال واستوسق له ملك المغرب الأوسط كما كان لسلفه واستمر مقيما بتلمسان إلى أن
كان ما نذكره نزوع الوزير ابن الخطيب عن سلطانه الغني بالله إلى السلطان عبد
العزيز بتلمسان
قد قدمنا ما كان من رجوع الغني بالله ابن الأحمر إلى ملكه بالأندلس سنة ثلاث وستين
وسبعمائة ولما استولى على غرناطة وثبت قدمه بها بعث عن مخلفه بفاس من الأهل والولد
والقائم بالدولة يومئذ عمر بن عبد ا لله فاستقدم عمر ابن الخطيب من سلا وبعثهم إلى
نظره فسر السلطان ابن الأحمر بمقدمه ورده إلى منزلته ودفع إليه تدبير المملكة وخلط
بينه بندمائه وأهل خلوته وانفرد ابن الخطيب بالحل والعقد وانصرفت إليه الوجوه
وعلقت به الآمال وغشى بابه الخاصة والكافة وغصت به بطانة السلطان وحاشيته فتوافقوا
على السعاية فيه وقد صم السلطان عن قبولها ونما بذلك الخبر إلى ابن الخطيب فشمر عن
ساعده للرحلة عن الأندلس واللحاق بالمغرب وكان له حنين إليه ورغبة في الإيالة
المرينية من قبل ذلك فقدم الوسائل إلى السلطان عبد العزيز وأوعز إليه بما عزم عليه
من اللحاق بحضرته فوعده السلطان بالجميل وبسط أمله فحينئذ استأذن السلطان الغني
بالله في تفقد الثغور الغربية من أرض الأندلس فأذن له وسار إليها في جماعة من
فرسانه ومعه ابنه علي فلما حاذى جبل طارق مال إليه فخرج قائد الجبل لتلقيه وقد كان
السلطان عبد العزيز أوعز إليه بذلك وجهز إليه الأسطول من حينه فاحتل بسبتة ثم سار
منها فقدم على السلطان عبد العزيز بتلمسان سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة فاهتزت له
الدولة وأركب السلطان خاصته لتلقيه وأحله بمجلسه محل الأمن والغبطة ومن دولته
بمكان الشرف والعزة
____________________
وأخرج لوقته كاتبه أبا يحيى بن
أبي مدين سفيرا إلى الأندلس في مطلب أهله وولده فجاء بهم على أكمل الحالات من
الأمن والتكرمة ثم نزل بعد ذلك مدينة فاس القديمة فاستكثر بها من شراء الضياع
وتأنق في بناء المساكن واغتراس الجنات وحفظت عليه رسومه السلطانية وتوقيراته وأقام
مطمئنا بخير دار عند أعز جار وفاة السلطان عبد العزيز بن أبي الحسن رحمه الله
كان السلطان عبد العزيز قد أصابه مرض النحول في صغره ولأجل ذلك تجافى السلطان أبو
سالم عن بعثه مع الأبناء إلى الأندلس فأقام بالمغرب ولما شب أفاق من مرضه وصلح
بدنه ثم عاوده وجعه في مثواه بتلمسان وتزايد نحوله ولما كمل الفتح واستفحل الملك
اشتد به الوجع فصابره وكتمه عن الناس خشية الإرجاف ثم عسكر خارج تلمسان للحاق
بالمغرب
ولما كانت ليلة الخميس الثاني والعشرين من ربيع الآخر سنة أربع وسبعين وسبعمائة
قضى نحبه رحمه الله بظاهر تلمسان بين أهله وولده وسيق إلى فاس فدفن بجامع قصره
وسنه يومئذ أربع وعشرين سنة وكانت دولته ست سنين وأربعة أشهر
ومن نظمه ما ذكره ابن الأحمر في نثير الجمان مذيلا بيتي والده السلطان أبي الحسن
اللذين هما قوله
( أرضي الله في سر وجهر ** وأحمي العرض من دنس ارتياب )
( وأعطي الوفر من مالي اختيارا ** وأضرب بالسيوف طلي الرقاب )
فقال هو وأحسن
( وأرغب خالقي في العفو عني ** وأطلب حلمه يوم الحساب )
( وأرجو عونه في عز نصر ** على الأعداء محروس الجناب )
____________________
( وعبدك واقف بالباب فارحم ** عبيدا خائفا ألم العقاب ) الخبر عن دولة السلطان
السعيد بالله أبي زيان محمد بن عبد العزيز بن أبي الحسن
هذا السلطان ممن ولي الأمر وهو صبي وفيه ألف ابن الخطيب كتابه المسمى بأعلام
الأعلام بمن بويع من ملوك الإسلام قبل الاحتلام كنيته أبو زيان أمه عائشة بنت
القائد فارح العلج صفته آدم اللون شديد الأدمة
ولما مات السلطان عبد العزيز رحمه الله بظاهر تلمسان خرج الوزير أبو بكر بن غازي
بن الكاس على الناس وقد احتمل أبا زيان ابن السلطان عبد العزيز فعزاهم عن سلطانهم
ثم طرح ابنه بين أيديهم فازدحموا عليه باكين متفجعين يعطونه الصفقة ويقبلون يديه
للبيعة ثم أخرجوه للمعسكر وأنزلوه بفساطيط أبيه وتم أمره وكفله الوزير المذكور
فكان إليه الإبرام والنقض والصبي كالعدم إذ لم يكن في سن التصرف
ثم إن الوزير ارتحل بالناس وجد السير فدخل حضرة فاس وأجلس الصبي لبيعة العامة
فبايعوا ثم توافت لديه وفود الأمصار على العادة واستبد الوزير أبو بكر واستعمل على
الجهات وجلس بمجلس الفصل واشتغل بأمر المغرب إبراما ونقضا
ولما فصل بنو مرين عن تلمسان عاد إليها سلطانها أبو حمو بن يوسف الزياني والتفت
عليه بنو عبد الواد من كل جانب ومحا دعوة بني مرين من ضواحي المغرب الأوسط وأمصاره
واتصل الخبر بالوزير أبي بكر بن غازي فهم بالنهوض إليه ثم ثنى عزمه ما كان من خروج
الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن بن أبي علي بن أبي سعيد بناحية بطوية فإن السلطان
ابن الأحمر كان قد سرحه من الأندلس صحبة وزيره مسعود بن عبد الرحمن بن ماساي
____________________
لطلب ملك المغرب تشغيبا على
الوزير أبي بكر بن غازي ثم أتبعه بالأمير أبي العباس أحمد بن السلطان أبي سالم
الذي كان محتاطا عليه بطنجة فزحف الأمير أبو العباس المذكور إلى فاس وظاهره ابن
عمه الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن فحاصروا الوزير أبا بكر بن غازي وسلطانه أبا
زيان ابن عبد العزيز وضربوا على فاس الجديد سياجا بالبناء للحصار وأنزلوا به أنواع
القتال بعد أن بعث ابن الأحمر رسله إلى الأمير عبد الرحمن باتصال اليد بابن عمه
الأمير أبي العباس ومظاهرته على ملك سلفه بفاس واجتماعهما لمنازلتها وعقد بينهما
الاتفاق والمواصلة وأن يختص عبد الرحمن بملك سلفه من سجلماسة وأعمالها فتراضيا
وزحفا إلى فاس كما قلنا وأمدهم ابن الأحمر بجمع من جنده فاستمر الحال على حصار فاس
إلى أن أذعن الوزير أبو بكر لخلع سلطانه أبي زيان ومبايعة الأمير أبي العباس فخلعه
يوم الأحد السادس من محرم فاتح سنة ست وسبعين وسبعمائة وغرب إلى الأندلس فكانت
دولته سنة وثمانية أشهر وأربعة عشر يوما والله غالب على أمره الخبر عن الدولة
الأولى للسلطان المستنصر بالله أبي العباس أحمد بن أبي سالم بن أبي الحسن
هذا السلطان يقال له ذو الدولتين لأنه ولي الملك مرتين كما سيأتي أمه حرة بنت أبي
محمد السبائي كنيته أبو العباس لقبه المستنصر بالله صفته أبيض اللون ربعة تعلوه
صفرة رقيقة أدعج أسود الشعر أكحل الحاجبين ضيق البلج أسيل الخدين براق الثنايا
جميل الوجه مليح الصورة ظريف المنزع لطيف الشمائل حسن الشكل إذا ركب بويع أولا
بطنجة في شهر ربيع الآخر سنة خمس وسبعين وسبعمائة ثم بويع البيعة العامة بالمدينة
البيضاء بعد استيلائه عليها يوم الأحد السادس من محرم سنة ست وسبعين
____________________
وسبعمائة وكان الأمير عبد
الرحمن بن أبي يفلوسن عندما أشرفوا على فتح فاس شرط عليهم ولاية مراكش عوضا عن
سجلماسة فعقدوا له على كره مخافة أن تفترق كلمتهم ولا يتم أمرهم ففعلوا وطووا له
على النكث فارتحل إلى مراكش واستولى عليها ثم فارقه وزيره مسعود بن عبد الرحمن
وأجاز البحر إلى الأندلس فاستقر بها في إيالة ابن الأحمر
واستقل السلطان أبو العباس بن أبي سالم بملك فاس وأعمالها واستوزر محمد بن عثمان
بن الكاس وفوض إليه أموره فغلب على هواه وجعل أمر الشورى إلى سليمان بن داود
فاستقل بها وحاز رياسة المشيخة واستحكمت المودة بينه وبين ابن الأحمر وجعلوا إ ليه
المرجع في نقضهم وإبرامهم فصار له بذلك تحكم في الدولة المرينية وأصبح المغرب كأنه
من بعض أعمال الأندلس وذلك بما كان لابن الأحمر من إعانة السلطان أبي العباس على
ملك المغرب حتى تم له وبما كان تحت يده من أبناء الملوك المرشحين للأمر فكان أبو
العباس وحاشيته يصانعونه لأجل ذلك والله تعالى أعلم محنة الوزير ابن الخطيب ومقتله
رحمه الله
لما لجأ ابن الخطيب إلى بني مرين وأصاب عندهم دارا وقرارا عز ذلك على ابن الأحمر
وسعى بطانته عنده في ابن الخطيب لعداوتهم له ثم بلغه أنه يغري السلطان عبد العزيز
بتملك أرض الأندلس وقطع دعوة بني الأحمر منها فعظم عليه ذلك ودبر الحيلة في قتل
ابن الخطيب وتتبع أعداؤه كلمات زعموا أنها صدرت منه في بعض تآليفه فأحصوها عليه
ورفعوها إلى قاضي غرناطة أبي الحسن النباهي فاسترعاها وسجل عليه بالزندقة وبعث ابن
الأحمر برسم الشهادة مع هدية لم يسمع بمثلها إلى السلطان عبد العزيز وطلب منه
إقامة الحد على ابن الخطيب أو إ سلامه إليه فصم السلطان عبد العزيز عن ذلك وأنف
لذمته أن تخفر ولجواره أن يؤذى وقال للوفد هلا
____________________
انتقمتم منه وهو عندكم وأنتم
عالمون بما كان عليه وأما أنا فلا يخلص إليه بذلك أحد ما كان في جواري ثم وفر
الجراية والإقطاع له ولبنيه ولمن جاء من فرسان الأندلس في جملته
ثم لما مات السلطان عبد العزيز رحمه الله وولي ابنه أبو زيان وقام بأمره الوزير
أبو بكر ابن غازي عاود ابن الأحمر الكلام في شأن ابن الخطيب وبعث بهدية أخرى إلى
الوزير المذكور وطلب منه إسلامه إليه فأبى الوزير وأساء الرد وعادت رسل ابن الأحمر
إليه مخفقين وقد رهبوا سطوته فعند ذلك عمد ابن الأحمر إلى الأمير عبد الرحمن بن
أبي يفلوسن وكان عنده بالأندلس فأطمعه في ملك المغرب وأركبه البحر فقذف به بساحل
بطوية من بلاد الريف تشغيبا على الوزير أبي بكر بن غازي كما مر ثم ثاب له رأي آخر
فأغرى محمد بن عثمان بن الكاس وهو ابن عم أبي بكر بن غازي المذكور وكان يومئذ
بسبتة قائما على ثغرها فداخله في البيعة لأبي العباس ابن أبي سالم وكان يومئذ
بسبتة محتاطا عليه في جملة من القرابة والتزم أن يمده بالمال والرجال حتى يتم أمره
لكن بشرط أن ينزل له عن جبل طارق ويبعث له بالقرابة الذين هم بطنجة ليكونوا تحت
يده ويسلم إليه ابن الخطيب متى قدر عليه فكان الأمر كذلك فإن السلطان أبا العباس
لما استولى على الأمر نزل لابن الأحمر عن جبل طارق فمحا دعوة بني مرين من وراء
البحر ثم ملك بعد ذلك سبتة فاستولى عليها وبعث إليه بالقرابة المذكورين فأوسع لهم
جنابه بغرناطة ثم قبض السلطان أبو العباس ووزيره محمد بن عثمان على ابن الخطيب
وطيروا بالأعلام لابن الأحمر فحينئذ بعث وزيره أبا عبد الله بن زمرك وكان من
تلاميذه ابن الخطيب وبه تخرج فقدم على السلطان أبي العباس وأحضروا ابن الخطيب
بالمشور في مجلس الخاصة وأهل الشورى من الفقهاء وعرضوا عليه بعض كلمات وقعت له في
بعض كتبه فعظم عليه النكير فيها فوبخ ونكل وامتحن بالعذاب بمشهد ذلك
____________________
الملأ ثم ثل إلى محبسه
وتفاوضوا في قتله بمقتضى تلك المقالات المسجلة عليه فأفتى بعض الفقهاء بقتله فدس
سليمان بن داود إليه بعض الأوغاد حاشيته من حاشيته فطرقوا السجن ليلا ومعهم زعانفة
من أهل الأندلس جاؤوا في لفيف ذلك الوفد فقتلوه خنقا في محبسه وأخرجوا شلوه من
الغد فدفن في مقبرة باب المحروق ثم أصبح من الغد طريحا على شافة قبره وقد جمعوا له
أعوادا فأضرموها عليه نارا فاحترق شعره واسود بشره وأعيد إلى حفرته وكان في ذلك
انتهاء محنته وعجب الناس من هذه السفاهة التي جاء بها سليمان بن داود واعتدوها من
هنتاته وعظم النكير فيها عليه وعلى قومه وأهل دولته
وكان ابن الخطيب رحمه الله أيام مقامه بالسجن يتوقع مصيبة الموت فتجيش هواتفه
بالشعر يبكي نفسه فمما قال في ذلك
( بعدنا وإن جاورتنا البيوت ** وجئنا بوعظ ونحن صموت )
( وأنفسنا سكنت دفعة ** كجهر الصلاة تلاه القنوت )
( وكنا عظاما فصرنا عظاما ** وكنا نقوت فها نحن قوت )
( وكنا شموس سماء العلا ** غربنا فناحت عليها السموت )
( فكم جدلت ذا الحسام الظبي ** وذو البخت كم جدلته البخوت )
( وكم سيق للقبر في خرقة ** فتى ملئت من كساه التخوت )
( فقل للعدا ذهب ابن الخطيب ** وفات ومن ذا الذي لا يفوت )
( فمن كان يفرح منكم له ** فقل يفرح اليوم من لا يموت )
وكانت نكبته رحمه الله أوائل سنة ست وسبعين وسبعمائة وعند الله تجتمع الخصوم
____________________
بقية أخبار أمير مراكش عبد
الرحمن بن أبي يفلوسن رحمه الله
قد تقدم لنا ما كان من معاقدة السلطان أبي العباس والأمير عبد الرحمن ابن أبي
يفلوسن على ولاية سجلماسة أولا ثم التعويض عنها بمراكش ثانيا فلما فتح السلطان أبو
العباس فاسا وفى للأمير عبد الرحمن بعقده فسار إلى مراكش واستولى عليها وعلى
أعمالها واقتسمت مملكة المغرب الأقصى يومئذ بنصفين
وكان الحد بين الدولتين ثغر آزمور فكانت في إيالة صاحب فاس وما وراءها إلى مراكش
في إيالة صاحب مراكش ثم كانت بينهما بعد ذلك مواصلات ومناقضات ومسالمات ومحاربات
يطول جلبها واتصل ذلك إلى منتصف سنة أربع وثمانين وسبعمائة فظفر السلطان أبو
العباس بعبد الرحمن بعد محاصرته بقصبة مراكش تسعة أشهر ولما أشرف السلطان أبو
العباس على فتحها وانفض الناس من حول الأمير عبد الرحمن ونزلوا من الأسوار ناجين
إلى السلطان وبقي هو في قصبته منفردا بات ليلته يراود ولديه على الاستماتة وهما
سليم وأبو عامر وركب السلطان أبو العباس من الغد في التعبية إلى القصبة فاقتحمها
بمقدمته ولقيه الأمير عبد الرحمن وولداه مسابقين إلى الميدان ومباشرين القتال بين
أبواب دورهم فجالوا معهم جولة قتل فيها الولدان قتلهم علي بن إدريس وزيان بن عمر
الوطاسي
قال ابن خلدون وطالما كان زيان يمتري ثدي نعمتهم ويجر ذيله خيلاء في جاههم فذهب
مثلا في كفران النعمة وسوء الجزاء والله لا يظلم مثقال ذرة وكان ذلك خاتم جمادى
الآخرة سنة أربع وثمانين المذكورة لمضي عشر سنين من إمارة عبد الرحمن على مراكش ثم
رحل السلطان أبو العباس منقلبا إلى فاس وقد استولى على سائر أعمال المغرب وظفر
بعدوه ودفع النازعين عن ملكه والله غالب على أمره
____________________
ذكر الشاوية وبيان نسبهم
وأوليتهم وشرح لقبهم وتسميتهم
ذكر ابن خلدون أن الشاوية من ولد حسان بن أبي سعيد الصبيحي نسبة إلى صبيح بالتصغير
بطن من سويد وسويد إحدى قبائل بني مالك بن زغبة الهلاليين وكان دخول حسان وأخيه
موسى ابني أبي سعيد إلى المغرب الأقصى أيام السلطان يعقوب بن عبد الحق رحمه الله
قدموا في صحبة عبد الله بن كندوز العبد الوادي ثم الكمي وكان عبد الله هذا قد نزع
عن يغمراسن بن زيان إلى السلطان يعقوب المذكور فقدم عليه قبل فتح مراكش فاهتز
السلطان يعقوب لقدومه وأحله بالمكان الرفيع من دولته وأنزل قومه بجهات مراكش
وأقطعهم البلاد التي كفتهم مهماتهم وجعل انتجاع إبله ورواحله وسائر ظهره في
إحيائهم فقدم عبد الله بن كندوز على رعايتها حسان وأخاه موسى الصبيحيين وكانا
عارفين برعاية الإبل والقيام عليها فأقاموا يتقلبون في تلك البلاد ويتعدون في
نجعتها إلى أرض سوس وكانت ماشية السلطان يعقوب متفرقة في سائر المغرب فجمعها لعبد
الله بن كندوز وجمعها عبد الله لحسان الصبيحي المذكور فكان حسان يباشر أمور
السلطان في شأن تلك الماشية ويطالعه بمهماته فحصلت له مداخلة معه جلبت إليه الحظ
حتى ارتفع قدره ونشأ بنوه في ظل الدولة وعزها وتصرفوا في الولايات منها وانفردوا
بخطة الشاوية فلم تزل ولايتها متوارثة فيهم منقسمة بينهم لهذا العهد إلى ما كانوا
يتصرفون فيه من غير ذلك من الولايات وكان لحسان من الولد علي ويعقوب وطلحة وغيرهم
ومن حسان هذا تفرعت شعوبهم في ولده
قال ابن خلدون وهم لهذا العهد يتصرفون في الدولة على ما كان لسلفهم من ولاية
الشاوية والنظر في رواحل السلطان والظهر الذي يحمل من الإبل ولهم عدد وكثرة ونباهة
في الدولة أه قلت ولفظ الشاوية نسبة إلى الشاء التي هي جماعة الغنم مثلا قال
الصحاح والنسبة إلى الشاء شاوي قال الراجز
____________________
( لا ينفع الشاوي فيها شاته ** ولا حماراه ولا علاته )
وإن سميت به رجلا قلت شائي وإن شئت شاوي اه
واعلم أن الشاوية اليوم يطلقون على سكان تامسنا من قبائل شتى بعضها عرب وبعضها
زناتة وبربر غير أن لسان الجميع عربي وكان أصل جمهورهم من هؤلاء الذين ذكر ابن
خلدون ثم انضافت إليهم قبائل أخر واختلطوا بهم فأطلق على الجميع شاوية تغليبا
وهكذا وقع في سائر عرب المغرب الأقصى المواطنين بتلوله فإنهم وقع فيهم اختلاط كبير
حتى نسوا أنسابهم وأصولهم الأولى إلا في النادر وذلك بسبب تعاقب الأعصار وتناسخ
الأجيال وتوالي المجاعات والانتجاعات ووقعات الملوك بهم في كثير من الأحيان وتفريق
بعضهم من بعض ونقل بعضهم إلى بلاد بعض ومع ذلك فأسماؤهم الأولى لا زالت قائمة فيهم
لن تتغير إلى الآن فمنها يهتدي الفطن إلى التنقير عن أنسابهم وإلحاق فروعهم
بأصولهم متى احتاج إلى ذلك والله تعالى أعلم نهوض السلطان أبي العباس إلى تلمسان
وفتحها وتخريبها
لما نهض السلطان أبو العباس إلى مراكش وحاصر بها عبد الرحمن بن أبي يفلوسن خالفه
إلى المغرب أبو حمو بن يوسف الزياني في جمع من أولاد حسين عرب معقل وذلك بإغراء
عبد الرحمن المذكور فدخلوا إلى أحواز مكناسة وعاثوا فيها ثم عمدوا إلى مدينة تازا
فحاصروها سبعا وخربوا قصر الملك هنالك ومسجده المعروف بقصر تازروت وبينما هم على
ذلك بلغهم الخبر اليقين بفتح مراكش وقتل الأمير عبد الرحمن فأجفلوا من كل ناحية
ومر أبو حمو في طريقه إلى تلمسان بقصر ونزمار بن عريف السويدي في نواحي بطوية
المسمى بمرادة فهدمه
ووصل السلطان أبو العباس إلى فاس فأراح بها أياما ثم أجمع النهوض إلى تلمسان
فانتهى إلى تاوريرت وبلغ الخبر إلى أبي حمو فاضطرب رأيه
____________________
واعتزم على الحصار وجمع أهل
البلد عليه فاستعدوا له ثم بدا له فخرج في بعض تلك الليالي بولده وأهله وخاصته
وأصبح مخيما بالصفيصف فأهرع أهل البلد إليه بعيالهم وأولادهم متعلقين به تفاديا من
معرة هجوم العسكر عليهم فلم يزعه ذلك عن قصده وارتحل ذاهبا إلى البطحاء ثم قصد
بلاد مغراوة فنزل في بني بو سعيد قريبا من شلف وأنزل أولاده الأصاغرة وأهله بحصن
تاجحمومت وجاء السلطان أبو العباس إلى تلمسان فملكها واستقر بها أياما ثم هدم
أسوارها وقصور الملك بها بإغراء وليه ونزمار جزاء بما فعله أبو حمو في تخريب قصر
تازروت وحصن مرادة ثم خرج من تلسمان في اتباع أبي حمو ونزل على مرحلة منها وهنالك
بلغه الخبر بإجازة موسى بن أبي عنان من الأندلس إلى المغرب وأنه خالفه إلى دار
الملك فانكفأ راجعا عوده على بدئه ورجع أبو حمو إلى تلمسان فاستقر ملكه بها إلى أن
كان ما نذكره إن شاء الله خلع السلطان أبي العباس بن أبي سالم وتغريبه إلى الأندلس
والسبب في ذلك
قد قدمنا ما كان من تحكم ابن الأحمر في مملكة المغرب ودالته على السلطان أبي
العباس بما أنه كان السبب في ولايته وبما تحت يده من القرابة المرشحين الذين
أرصدهم للتشغيب على دار الملك بالمغرب متى رأى من أحدهم ما لا يوافق هواه وكان مع
كثرة تحكمه فيهم يتجنى عليهم في بعض الأوقات بما يأتونه من تقصير في شفاعة أو
مخالفة في أمر لا يجدون عنها محيصا فيضطغن ذلك عليهم وكان يعتد على السلطان أبي
العباس بشيء من هذه الهنات
فلما نهض إلى تلمسان واستولى عليها سنة خمس وثمانين وسبعمائة اتصل بابن الأحمر أن
دار الملك بفاس قد بقيت عورة من الجند والحامية فانتهز الفرصة وبادر بتسريح موسى
ابن السلطان أبى عنان إلى المغرب
____________________
واستوزر له مسعود بن عبد
الرحمن بن ماساي رئيس الفتنة وقطب رحاها وكان عنده بالأندلس بعد مفارقة عبد الرحمن
بن أبي يفلوسن فنزل موسى ابن أبي عنان سبتة فاستولى عليها وسلمها لابن الأحمر
فدخلت في طاعته ثم تقدم إلى فاس فدخلها من يومه واستقر قدمه بها
واتصل الخبر بالسلطان أبي العباس وهو بتلمسان فجاء مبادرا ونزل بتازا فأقام بها
أربعا ثم تقدم إلى الموضع المعروف بالركن فانتقض عليه رؤساء جيشه وتسللوا إلى موسى
طوائف وأفرادا ولما رأى ما نزل به رجع إلى تازا بعد أن انتهب معسكره وأضرمت النار
في خيامه وذلك يوم الأحد الموفي ثلاثين من ربيع الأول سنة ست وثمانين وسبعمائة
ثم بعث موسى بن أبي عنان من أتاه بالسلطان أبي العباس في الأمان فقدم عليه وقيده
وبعث به إلى ابن الأحمر فبقي عنده محتاطا عليه إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء
الله
وكانت دولته هذه عشر سنين وشهرين وأربعة وعشرين يوما ومن وزرائه في هذه الدولة
محمد بن عثمان بن الكاس المجذولي ومن كتابه عبد المهيمن ابن أبي سعيد بن عبد
المهيمن الحضرمي تغمد الله الجميع برحمته الخبر عن دولة السلطان المتوكل على الله
أبي فارس موسى ابن أبي عنان بن أبي الحسن
أمه مولدة اسمها تاملالت صفته أسمر مائل إلى السواد قصير القامة جاحظ العينين عظيم
اللحية تملأ صدره قائم الأنف وإذا تكلم يملأ لسانه فمه فيخرج من بين شفتيه ويتحرك
فيقبح كلامه بويع يوم الخميس الموفي عشرين من شهر ربيع الأول سنة ست وثمانين
وسبعمائة وقام بأمر دولته وزيره مسعود بن ماساي مستبدا عليه ولما استقر أمره
بالحضرة وجه إليه ابن الأحمر أمه وعياله وكانوا عنده وهناه وزيره أبو عبد الله بن
زمرك بتوشيح يقول في مطلعه
____________________
( قد نظم الشمل أتم انتظام ** ولاحت الأقمار بعد المغيب )
( وضاحك الروض ثغور الغمام ** عن مبسم الزهر البرود الشيب )
إلى أن قال في آخره
( مولاي يهنيك وحق الهنا ** قد نظم الشمل كنظم السعود )
( قد فزت بالفخر ونيل المنى ** وأنجز السعد جميع الوعود )
( وقرت العين وزال العنا ** وكلما مر صنيع يعود )
( ولم يزل ملكك حلف الدوام ** يحوز في التخليد أوفى نصيب )
( يتلو عليك الدهر بعد السلام ** نصر من الله وفتح قريب ) خروج الحسن بن الناصر
بغمارة ونهوض الوزير ابن ماساي إليه
كان الحسن بن الناصر بن أبي علي بن أبي سعيد قد لحق من مقره بالأندلس بحضرة تونس
في سبيل طلب الملك وكان الوزير مسعود بن ماساي قد قتل محمد بن عثمان بن الكاس
وافترقت حاشيته في الجهات فطلبوا بطن الأرض دون ظهرها ولحق منهم ابن أخيه العباس
بن المقداد بتونس فعثر على الحسن بن الناصر بها فثاب له رأي في الرجوع به إلى
المغرب لطلب الأمر فخرج به من تونس وقطع المفاوز إلى أن انتهى إلى جبال غمارة ونزل
على أهل الصفيحة منهم فأكرموا مثواه ومنقلبه وأعلنوا بالقيام بدعوته واستوزر العباس
بن المقداد
وبلغ الخبر إلى مسعود الوزير فجهز العساكر مع أخيه مهدي بن عبد الرحمن بن ماساي
فحاصره بجبل الصحيفة أياما فامتنع عليه فنهض إليه مسعود بنفسه على ما نذكره
____________________
وفاة السلطان موسى بن أبي عنان
رحمه الله
لما كان من استبداد ابن ماساي على السلطان موسى ما قدمناه استنكف من ذلك وداخل
بطانته في الفتك به فنما ذلك إليه وحصلت له نفرة من السلطان طلب لأجلها البعد عنه
وبادر إلى الخروج لدافعة الحسن بن الناصر القائم بغمارة واستخلف على دار الملك
أخاه يعيش بن عبد الرحمن بن ماساي فلما انتهى إلى قصر كتامة بلغه الخبر بوفاة
السلطان موسى وكانت وفاته في جمادى الآخرة طرقه المرض فهلك ليوم وليلة من مرضه
وكان الناس يرمون يعيش أخا الوزير بأنه سمه قاله ابن خلدون
وقال ابن القاضي في الجذوة توفي السلطان موسى بن أبي عنان مسموما يوم الجمعة
الثالث من شهر رمضان سنة ثمان وثمانين وسبعمائة وله إحدى وثلاثون سنة فكانت دولته
سنتين وأربعة أشهر وولي بعده محمد بن أحمد بن أبي سالم اه
ومن كتابه أبو الفضل محمد بن محمد بن أبي عمرو التميمي وأبو القاسم محمد بن سودة
المري ومن قضاته أبو عبد الله محمد بن محمد المغيلي والله تعالى أعلم الخبر عن
دولة المنتصر بالله السلطان أبي زيان محمد بن أبي العباس ابن أبي سالم بن أبي
الحسن
أمه حرة وهي رقية بنت السلطان أبي عنان صفته أبيض اللون قائم الأنف أسيل الخدين
بويع بعد خاله موسى بن أبي عنان يوم الجمعة الثالث من شهر رمضان سنة ثمان وثمانين
وسبعمائة وسنه يوم بويع خمس سنين وخلع يوم الجمعة الخامس عشر من شوال من السنة
المذكورة وغرب إلى الأندلس مع أبيه فكانت دولته ثلاثة وأربعين يوما تحت استبداد
الوزير مسعود عفا الله عنه
____________________
الخبر عن دولة السلطان الواثق
بالله أبي زيان محمد بن أبي الفضل بن أبي الحسن
أمه أم ولد اسمها عسيلة صفته أسود اللون عظيم الخلق رحب الوجه طويل القامة
والساقين ممتلئ الأنف عظيم الساعدين وكان قبل ولايته عند ابن الأحمر بالأندلس في
جملة القرابة ولما استوحش الوزير مسعود من السلطان موسى بن أبي عنان بعث ابنه يحيى
إلى ابن الأحمر يسأل منه إعادة السلطان أبي العباس إلى ملكه فأخرجه ابن الأحمر من
الاعتقال وجاء به إلى جبل الفتح يروم إجازته إلى العدوة فلما توفي السلطان موسى
بدا للوزير مسعود في أمره ودس لابن الأحمر في رده وأن يبعث إليه بالواثق هذا ورآه
أليق بالاستبداد والحجر فأسعفه ابن الأحمر في ذلك ورد السلطان أحمد إلى مكانه
بالحمراء وجيء بالواثق فحضر بجبل الفتح عنده فأجازه إلى سبتة واتفق أن جماعة من
الحاشية انتقضوا على الوزير مسعود ولحقوا بسبتة فقدم عليهم الواثق بها ورجعوا به
إلى المغرب وتقلبوا في نواحيه إلى أن وصلوا إلى جبل مغيلة قرب فاس فبرز الوزير
مسعود في العساكر ونزل قبالتهم وقاتلهم هنالك أياما ثم وقع الاتفاق على أن يبايع
مسعود للواثق بشرط الاستبداد فتم العقد على ذلك
قال في الجذوة بويع السلطان الواثق بالله أبو زيان محمد بن أبي الفضل يوم الجمعة
الخامس عشر من شوال سنة ثمان وثمانين وسبعمائة وقام بأمره الوزير مسعود بن ماساي
ثم حدثت الفتنة بين الوزير المذكور وابن الأحمر بسبب أن الوزير طلب منه إعادة سبتة
إلى الإيالة المرينية وكان موسى ابن أبي عنان قد نزل له عنها كما مر وكان طلبه على
سبيل الملاطفة فاستشاط ابن الأحمر غضبا وأساء الرد فجهز ابن ماساي العساكر لحصار
سبتة مع العباس بن عمر بن عثمان الوسنافي ويحيى بن علال بن آمصمود والرئيس محمد بن
أحمد الأبكم من بني الأحمر فاستولى عليها
____________________
ثم سرح ابن الأحمر السلطان أبي
العباس من اعتقاله وبعثه إلى المغرب لطلب ملكه وللتشغيب على ابن ماساي الجاحد
لإحسانه فعبر السلطان أبو العباس البحر إلى المغرب فاحتل سبتة واستولى عليها ثم
تقدم إلى فاس فحاصرها وضيق على ابن ماساي وسلطانه الواثق بالله وأهرع الناس إلى
الدخول في طاعته حتى من مراكش فاستمر الحصار على فاس الجديد ثلاثة أشهر ثم أذعن
الوزير مسعود للطاعة على شرط أن يبقى وزيرا ويغرب سلطانه إلى الأندلس فأجيب وخلع
الواثق بالله ثم خرج إلى السلطان أبي العباس فبايعه وتقدم أمامه فدخل داخل ملكه
يوم الخميس خامس رمضان سنة تسع وثمانين وسبعمائة ولحين دخوله قبض على الواثق بالله
فقيده وبعث به إلى طنجة فقتل بها بعد ذلك وسنه يوم قتل ثمان وثلاثون سنة وبها قبر
ومن وزرائه يعيش بن علي بن فارس الياباني ومسعود بن رحو بن ماساي ومن كتابه منصور
بن أحمد بن محمد التميمي وأبو يحيى محمد ابن محمد بن أبي القاسم بن أبي مدين ومن
قضاته أبو يحيى محمد بن محمد السكاك رحمهم الله تعالى بمنه الخبر عن الدولة
الثانية للسلطان أبي العباس بن أبي سالم بن أبي الحسن
لما دخل السلطان أبو العباس حضرة فاس الجديد في التاريخ المتقدم بويع البيعة
العامة في اليوم الثالث من دخوله وهو يوم السبت السابع من رمضان سنة تسع وثمانين
وسبعمائة لمضي ثلاث سنين وخمسة أشهر وستة أيام من خلعه
ولما ملك أمر نفسه قبض على الوزير ابن ماساي وعلى إخوته وحاشيته وامتحنهم امتحانا
بليغا فهلكوا من العذاب ثم سلط على مسعود من العذاب
____________________
والانتقام ما لا يعبر عنه
واعتد عليه بما كان يفعله في دور بني مرين النازعين عنه إليه فإنه كان متى هرب
منهم أحد عمد إلى بيوته فنهبها فأمر السلطان أبو العباس بعقابه في أطلالها فكان
يؤتى به إلى كل بيت فيها فيضرب عشرين سوطا إلى أن برح به العذاب وتجاوز الحد ثم
أمر به فقطعت أربعته فهلك عند قطع الثانية وذهب مثلا للآخرين ظهور محمد بن عبد
الحليم بن أبي علي بسجلماسة ثم اضمحلاله بعد ذلك
قد قدمنا أن الأمير عبد الحليم بن أبي سعيد كان تغلب على سجلماسة ثم غلبه عليها
أخوه عبد المؤمن وسافر عبد الحليم إلى المشرق فهلك في سفرته تلك وكان قد ترك ابنه
محمدا هذا رضيعا فشب متقلبا بين الدول من ملك إلى آخر على أن أكثر مقامه إنما كان
عند أبي حمو صاحب تلمسان ولما حاصر السلطان أبو العباس فاس الجديد كان محمد هذا
عند العرب الأحلاف فلما اشتد الحصار على مسعود بن ماساي دس إلى الأحلاف أن ينصبوا
محمد بن عبد الحليم للأمر ويجلبوا به على المغرب ليأخذ بحجزة السلطان أبي العباس
عنه ففعلوا ودخل محمد بن عبد الحليم سجلماسة فملكها حتى إذا استولى السلطان أبو
العباس على فاس الجديد وأوقع بمسعود ابن ماساي وإخوته خرج محمد بن عبد الحليم عن
سجلماسة ولحق بأحياء العرب فسارت طائفة منهم معه إلى أن أبلغوه مأمنه ونزل على أبي
حموا بتلمسان إلى أن هلك فسار إلى تونس ونزل على صاحبها أبي العباس الحفصي ثم
ارتحل بعد وفاته إلى المشرق لحج الفريضة والله تعالى أعلم
____________________
نكبة الكاتب ابن أبي عمرو
وحركات بن حسون ومقتلهما
كان محمد بن محمد بن أبي عمرو التميمي وقد تقدم ذكر والده في دولة السلطان أبي
عنان كاتبا عند السلطان أبي العباس في دولته الأولى فلما خلع وولي موسى بن أبي
عنان تقرب إليه بسالف المخالصة لأبيه من أبي عنان فقد كان أعز بطانته كما مر
فاستخلصه السلطان موسى للشورى ورفع منزلته على منازل أهل الدولة وجعل إليه كتابة
علامته على المراسم السلطانية كما كان لأبيه وكان يفاوضه في مهماته ويرجع إليه في
أموره حتى غص به أهل الدولة وسعى هو عند السلطان موسى في جماعة من بطانة السلطان
أبي العباس فأتى عليهم النكال والقتل لكلمات كانت تجري بينهم وبينه في مجالس
المنادمة عند السلطان أبي العباس حقدها عليهم فلما ظفر بالحظ من السلطان موسى سعى
بهم عنده فقتلهم وكان القاضي أبو إسحاق إبراهيم اليزناسني من بطانة السلطان أبي
العباس وكان يحضر مع ندمائه فحقد عليه ابن أبي عمرو وأغرى به السلطان موسى فضربه
وأطافه وجاء بها شنعاء غريبة في القبح ثم سفر ابن أبي عمرو عن سلطانه موسى إلى الأندلس
فكان يمر بمجلس السلطان أبي العباس من محل اعتقاله فلا يلم به وربما يلقاه فلا
يحييه ولا يوجب له حقا فأحفظ ذلك السلطان أبا العباس فلما رد الله عليه ملكه وفرغ
من ابن ماساي قبض على ابن أبي عمرو هذا وأودعه السجن ثم امتحنه بعد ذلك إلى أن هلك
تحت السياط وحمل إلى داره وبينما أهله يحضرونه إلى قبره إذا بالسلطان قد أمر بأن
يسحب في نواحي المدينة إبلاغا في النكال فحمل من نعشه وقد ربط في رجله حبل وسحب في
سكك المدينة ثم ألقي على بعض المزابل
ثم قبض السلطان على حركات بن حسون شيخ العرب وكان مجلبا في الفتنة وكان العرب المخالفون
من معقل لما أجاز السلطان أبو العباس إلى
____________________
سبتة وحركات هذا بتادلا راودوه
على طاعة السلطان فامتنع أولا ثم أكرهوه وجاؤوا به إلى السلطان فطوى على ذلك حتى
إذا استقام أمره وملك حضرة فاس الجديد قبض عليه وامتحنه إلى أن هلك وإلى الله عاقبة
الأمور أخبار تلمسان واستيلاء السلطان أبي العباس عليها
كان السلطان أبو حمو بن يوسف الزياني قد عاد إلى تلمسان وثبت قدمه بها كما قلنا
إلى أن خرج عليه ابنه أبو تاشفين آخر سنة ثمان وثمانين وسبعمائة فوقعت بينهما حروب
وشرق أبوه بدائه ثم عادت له الكرة عليه في أخبار طويلة فاستمد أبو تاشفين السلطان
أبا العباس فأمده بابنه الأمير أبي فارس ووزيره محمد بن يوسف بن علال عقد لهما على
جيش كثيف من بني مرين وغيرهم فانتصر أبو تاشفين على أبيه فقتله وبعث برأسه إلى
السلطان أبي العباس ثم تقدم فدخل تلمسان آخر سنة إحدى وتسعين وسبعمائة واستمر بها
مقيما لدعوة السلطان أبي العباس فكان يخطب له على منابر تلمسان ويبعث إليه
بالضريبة كل سنة كما شرط على نفسه عند توجيه العساكر معه واستمر على ذلك إلى أن
مات سنة خمس وتسعين وسبعمائة فتغلب على تلمسان أخوه الأخير يوسف بن أبي حمو
ولما اتصل الخبر بالسلطان أبي العباس خرج من الحضرة إلى تازا ومن
____________________
هنالك بعث ابنه الأمير أبا
فارس في العساكر إلى تلمسان فاستولى عليها وأقام فيها دعوة والده وفر يوسف بن أبي
حمو إلى بعض الحصون فاعتصم به إلى أن كان ما نذكره وصول هدية صاحب مصر السلطان
الظاهر برقوق إلى السلطان أبي العباس بتازا والسبب في ذلك
كان العلامة الرئيس ولي الدين ابن خلدون قد استوطن في آخر عمره مصر القاهرة ونزل
من سلطانها بالمنزلة الرفيعة قال رحمه الله وكان يوسف ابن علي بن غانم أمير أولاد
حسين من معقل ثم من أولاد جرار منهم قد حج سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة واتصل بصاحب
مصر الملك الظاهر برقوق أول ملوك الجراكسة من الترك قال فتقدمت إلى السلطان
المذكور فيه وأخبرته بمحله من قومه فأكرم تلقيه وحمله بعد قضاء حجه هدية إلى صاحب
المغرب يطرفه فيها بتحف من بضائع بلده على عادة الملوك فلما قدم يوسف بها على السلطان
أبي العباس أعظم موقعها وجلس في مجلس حفل لعرضها والمباهاة بها وشرع في المكافأة
عليها بمتخير الجياد والبضائع والثياب حتى إذا استكمل من ذلك ما رضيه وعزم على
بعثها مع يوسف بن علي حاملها الأول وإنه يبعثه بها من موضع مقامه بتازا اخترمته
المنية دون ذلك
____________________
وفاة السلطان أبي العباس بن
أبي سالم رحمه الله **
كانت وفاة السلطان أبي العباس بمحل مقامه من تازا وهو يشارف أحوال ابنه أبي فارس
ووزيره صالح بن حمو الياباني وكان قد قدمهما لفتح تلمسان والبلاد الشرقية فأصابه
حمامه هنالك ليلة الخميس السابع من محرم فاتح سنة ست وتسعين وسبعمائة وحمل إلى فاس
فدفن بالقلة وسنه يومئذ تسع وثلاثون سنة فكانت دولته الثانية ست سنين وأربعة أشهر
ومن وزرائه في هذه الدولة صالح بن حمو الياباني ومحمد بن يوسف بن علال الصنهاجي
ومن حجابه أبو العباس أحمد بن علي القبائلي ومن كتابه الشريف أبو القاسم محمد بن
عبد الله الحسني السبتي والقائد محمد بن موسى بن محمود الكردي ويحيى بن الحسن بن
أبي دلامة التسولي ومن قضاته القاضي أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم
اليزناسني قال في الجذوة وكان السلطان أبو العباس شاعرا مفلقا بديع التشبيه فمن نظمه
قوله
( أما الهوى يا صاحبي فألقته ** وعهدته من عهد أيام الصبا )
( ورأيته قوت النفوس وحليها ** فتخذته دينا إلي ومذهبا )
( ولبست دون الناس منه حلة ** كان الوفاء لها طرازا مذهبا )
( لكن رأيت له الفراق منغصا ** لا بفراقنا لا مرحبا )
ومن أخبار السلطان أبي العباس ما حكاه في نفح الطيب أن الأديب الكاتب أبا الحسن
علي ابن الوزير لسان الدين ابن الخطيب كان مصاحبا للسلطان أبي العباس هذا فحضر معه
ذات يوم في بستان سح فيه ماء المذاكرة الهتان وقد أبدى الأصيل شواهد الاصفرار
وأزمع النهار لما قدم الليل على الفرار فقال السلطان أبو العباس لما لان جانبه
وسألت بين سرحات البستان جداوله ومذانبه
( يا فاس أني وأيم الله ذو شغف ** بكل ربع به مغناه يسبيني )
( وقد أنست بقربك منك يا آملي ** ونظرة فيكم بالأنس تحييني )
____________________
فأجابه أبو الحسن ابن الخطيب بقوله المصيب
( لا أوحش الله ربعا أنت زائره ** يا بهجة الملك والدنيا مع الدين )
( يا أحمد الحمد أبقاك الإله لنا ** فخر الملوك وسلطان السلاطين )
ومن أخباره أيضا أن كاتبه أبا زكرياء يحيى بن أحمد بن عبد المنان دخل عليه عشاء
فقال له أنعم الله صباح مولانا فأنكر السلطان ذلك وظن أنه ثمل فتفطن أبو زكرياء
لما صدر منه وتدارك ذلك فأنشد مرتجلا
( صبحته عند المساء فقال لي ** ماذا الكلام وظن ذلك مزاحا )
( فأجبته إشراق وجهك غرني ** حتى توهمت المساء صباحا ) الخبر عن دولة السلطان
المستنصر بالله أبي فارس عبد العزيز ابن أبي العباس بن أبي سالم رحمه الله
من الاتفاق الغريب أن سلطان فاس والمغرب في هذا التاريخ كان اسمه عبد العزيز بن
أحمد وسلطان تونس وإفريقية كان اسمه أيضا عبد العزيز بن أحمد وكانت ولايتهما في
سنة واحدة إلا أن مدة الحفصي طالت جدا
أم هذا السلطان أم ولد اسمها جوهر صفته شاب السن ربعة من القوم أدعج العينين جميل
الوجه
لما توفي السلطان أبو العباس بن أبي سالم رحمه الله بتازا كان ابنه أبو فارس هذا
بتلمسان فاستدعاه رجال الدولة منها فقدم عليهم بتازا وبايعوه بها يوم السبت التاسع
من محرم سنة ست وتسعين وسبعمائة ولما تم أمره أطلق أبا زيان بن أبي حمو الزياني
وكان معتقلا عنده بفاس لالتجائه إلى أبيه من قبل في خبر ليس تفصيله من غرضنا وبعثه
إلى تلمسان أميرا عليها من قبله فسار إليها أبو زيان وملكها وأقام فيها دعوة
السلطان أبي فارس ثم
____________________
خرج عليه أخوه يوسف بن أبي حمو
واتصل بأحياء بني عامر بن زغبة وعزم على الإجلاب عليه بهم فسرب أبو زيان فيهم
الأموال فقتلوه وبعثوا إليه برأسه فسكنت أحوال تلمسان وذهبت الفتنة بذهاب يوسف
واستقامت أمور دولة السلطان أبي فارس قاله ابن خلدون وهو آخر ما ورخه عن دولة
المغرب
واعلم أن ما نسوقه بعد هذا من الأخبار عن هذه الدولة المرينية لم يسمح لنا الوقت
بالوقوف عليه في تأليف يخصها أو موضوع يقص أخبارها نسقا وينصها وإنما تتبعنا ما
أثبتناه من ذلك في مواضع ذكرت فيها بحسب التبع لا بالقصد الأول وعلى الله تعالى في
الهداية إلى الصواب المعول بقية أخبار السلطان عبد العزيز ووفاته
قالوا كان السلطان عبد العزيز بن أبي العباس رحمه الله كثير الشفقة رقيق القلب
منقبضا عن الغدر متوقفا في سفك الدماء وكان فارسا عارفا بركض الخيل ويحسن قرض
الشعر ويحب سماعه فمن نظمه وقد نزل المطر يشكر الله تعالى عليه قوله
( الله يلطف بالعباد فواجب ** أن يشكروا في كل حال نعمته )
( فهو الذي فيهم ينزل غيثه ** من بعد ما قنطوا وينشر رحمته )
توفي رحمه الله يوم السبت ثامن صفر سنة تسع وتسعين وسبعمائة ودفن مع أبيه بالقلة
فكانت دولته ثلاث سنين وشهرا ومن وزرائه صالح بن حمو الياباني ويحيى بن علال بن
آمصمود الهسكوري ومن كتابه يحيى بن الحسن ابن أبي دلامة ومن قضاته عبد الحليم بن
أبي إسحاق اليزناسني رحمهم الله تعالى بمنه
____________________
الخبر عن دولة السلطان
المستنصر بالله أبي عامر عبد الله ابن أبي العباس بن أبي سالم رحمه الله تعالى
هذا السلطان شقيق الذي قبله أمه الجوهر المتقدمة صفته أدعج العينين حسن الأنف لامي
العذار بويع بعد أخيه عبد العزيز يوم السبت الثامن من صفر سنة تسع وتسعين وسبعمائة
وكان التصرف والنقض والإبرام في هذه المدة كلها للوزراء وتوفي السلطان المذكور بعد
صلاة العصر من يوم الثلاثاء الموفي ثلاثين من جمادى الآخرة سنة ثمانمائة فكانت
دولته سنة وخمسة أشهر سوى أيام ومن وزرائه صالح بن حمو ويحيى بن علال ومن قضاته
عبد الرحيم اليزناسني ومن حجابه أبو العباس أحمد بن علي القبائلي وفارح بن مهدي
العلج والله تعالى أعلم
وأما أخبار الغني بالله ابن الأحمر بالأندلس فإنه كان أسقط رياسة الجهاد من بني
مرين بها ومحا رسمها من مملكته أيام أجاز عبد الرحمن بن أبي يفلوسن للتشغيب على
أبي بكر بن غازي بن الكاس حسبما تقدم وصار أمر الغزاة والمجاهدين إليه وباشر
أحوالهم بنفسه واستمر الحال على ذلك إلى أن هلك سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة فولي مكانه
ابنه أبو الحجاج يوسف وبايعه الناس وقام بأمره خالد مولى أبيه وتقبض على إخوته سعد
ومحمد ونصر فكان آخر العهد بهم ولم يوقف لهم بعد على خبر ثم سعى عنده في خالد
القائم بدولته وأنه أعد السم لقتله وأن يحيى بن الصائغ اليهودي طبيب دارهم قد
داخله في ذلك ففتك بخالد وتناوشته السيوف بين يديه لسنة أو نحوها من ملكه ثم حبس
الطبيب المذكور فذبح في محبسه ثم هلك سنة أربع وتسعين وسبعمائة لسنتين أو نحوها من
ولايته
وقد وقفت لبعض الإصبنيوليين واسمه منويل باولو القشتيلي على كتاب موضوع في أخبار
المغرب الأقصى فنقلت منه بعض أخبار لم أجدها إلا عنده وهو وإن كان ينقل الغث
والسمين والرخيص والثمين إلا أن الناقد
____________________
البصير يميز حصباءه من دره
ويفرق بين حشفه وثمره فمن ذلك أنه حكى عن السلطان أبي الحجاج المذكور ما صورته قال
كانت مراسلات السلطان المريني يعني السلطان أبا العباس مع السلطان يوسف بن الغني
بالله صاحب غرناطة حسنة في الظاهر تدل على الموافقة والمحبة وكان المريني في
الباطن يحب الاستيلاء على مملكة غرناطة ولما لم يمكنه ذلك بالسيف عدل إلى أعمال
الحيلة فأهدى إلى السلطان أبي الحجاج كسى رفيعة أحدها مسمومة فلبسها فهلك لحينه
ومع ذلك فلم يدرك المريني غرضه فإنه لم يلبث إلا يسيرا حتى توفي أيضا اه ولم توفي
أبو الحجاج بويع ابنه محمد بن يوسف وقام بأمره القائد أبو عبد الله محمد الخصاصي
من صنائع أبيه قال ابن خلدون والحال على ذلك لهذا العهد ولنذكر ما كان في هذه
المدة من الأحداث
ففي سنة خمسين وسبعمائة كان الوباء الذي عم المسكونة شرقا وغربا على ما نبهنا عليه
فيما مضى
وفي سنة خمس وستين وسبعمائة توفي الولي الزاهد أبو العباس أحمد ابن عمر بن محمد بن
عاشر الأندلسي نزيل سلا العارف المشهور قال أبو عبد الله بن سعد التلمساني في
كتابه النجم الثاقب فيما لأولياء الله من المناقب كان ابن عاشر أحد الأولياء
الأبدال معدودا في كبار العلماء مشهورا بإجابة الدعاء معروفا بالكرامات مقدما في
صدور الزهاد منقطعا عن الدنيا وأهلها ولو كانوا من صالحي العباد ملازما للقبور في
الخلاء المتصل ببحر مدينة سلا منفردا عن الخلق لا يفكر في أمر الرزق وله أخبار
جليلة وكرامات عجيبة مشهورة ممن جمع الله له العلم والعمل وألقى عليه القبول من
الخلق شديد الهيبة عظيم الوقار كثير الخشية طويل التفكير والاعتبار قصده أمير
المؤمنين أبو عنان وارتحل إليه سنة سبع وخمسين وسبعمائة فوقف ببابه طويلا فلم يأذن
له وانصرف وقد امتلأ قلبه من حبه وإجلاله ثم عاود
____________________
الوقوف ببابه مرارا فما وصل
إليه فبعث إليه بعض أولاده بكتاب كتبه إليه يستعطفه لزيارته ورؤيته فأجابه بما قطع
رجاءه منه وأيأسه من لقائه فاشتد حزنه وقال هذا ولي من أولياء الله تعالى حجبه
الله عنا اه ومناقب الشيخ ابن عاشر وكراماته كثيرة وقد ألف فيها أبو العباس بن
عاشر الحافي من علماء سلا كتابه المسمى بتحفة الزائر في مناقب الشيخ ابن عاشر
فانظره
وفي سنة ست وسبعين وسبعمائة وهي السنة التي قتل فيها ابن الخطيب كان الجوع بالمغرب
قال أبو العباس ابن الخطيب القسنطيني المعروف بابن قنفذ في كتابه أنس الفقير ما
حاصله أنه رجع من هجرته بالمغرب الأقصى في السنة المذكورة إلى بلده قسنطينة فاجتاز
في طريقه بتلمسان قال وفي هذه السنة كانت المجاعة العظيمة وعم الخراب المغرب فأقمت
بتلمسان نحو شهر أنتظر تيسر سلوك الطريق فالتجأت إلى قبر الشيخ أبي مدين ودعوت
الله عنده فوقع ما أملته وارتحلت بعد أيام يسيرة فرأيت في الطريق من الخير ما كان
يتعجب منه من شاهده وكان أمر الطريق في الخوف والجوع بحيث أن كل من نقدم عليه
يتعجب من وصولنا سالمين ثم عند ارتحالنا من عنده يتأسف علينا حتى أن منهم من
يسمعنا ضرب الأكف خلفنا تحسرا علينا حتى انتهى سفرنا على وفق اختيارنا والحمد لله
وفي سنة ثمان وسبعين وسبعمائة توفي الشيخ الفقيه المحدث أبو عبد الله محمد بن محمد
بن محمد بن عمران الفنزاري السلاوي المعروف بابن المجراد صاحب لامية الجمل وشرح الدرر
وغيرهما من التآليف الحسان قال صاحب بلغة الأمنية ومقصد البيت فيمن كان بسبتة في
الدولة المرينية من مدرس وأستاذ وطبيب في حق الشيخ المذكور كان محدثا حافظا راوية
له معرفة بالرجال والمغازي والسير وكان رجلا صالحا حسن السيرة صادق اللهجة انتفع
به الناس وظهرت بركته على كل من عرفه أو لازم مجلسه أو قرأ عليه من صغير أو كبير
قال وذلك عندنا معروف بسبتة
____________________
مشهور بين أهلها وانتقل إلى
بلده سلا وتوفي بها في السنة المذكورة قلت وقبره مشهور بها إلى الآن وعليه قبة
صغيرة وهو من مزارات سلا خارج باب المعلقة منها عن يمين الخارج على نحو غلوة وأهل
سلا يسمونه سيدي الإمام السلاوي رحمه الله ورضي عنه
وفي سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة توفي الشيخ الإمام العارف المحقق الرباني أبو عبد
الله محمد بن إبراهيم النفزي المعروف بابن عباد شارح الحكم العطائية وأحد تلامذة
الشيخ ابن عاشر المذكور آنفا قال صاحبه وأخوه في الله الشيخ أبو زكرياء السراج في
حقه ما نصه كان حسن السمت طويل الصمت كثير الوقار والحياء جميل اللقاء حسن الخلق
والخلق على الهمة متواضعا معظما عند الخاصة والعامة نشأ ببلدة رندة على أكمل طهارة
وعفاف وصيانة وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين ثم اشتغل بعد بطلب العلوم النحوية
والأدبية والأصولية والفروعية حتى رأس فيها وحصل معانيها ثم أخذ في طريق الصوفية
والمباحثة عن الأسرار الإلهية حتى أشير إليه وتكلم في علوم الأحوال والمقامات
والعلل والآفات وألف فيها تآليف عجيبة وتصانيف بديعة غريبة وله أجوبة كبيرة في
مسائل العلوم نحو مجلدين ودرس كتبا وحفظها كلها أو جلها إلى أن قال ولقي بسلا
الشيخ الحاج الصالح السني الزاهد الورع أحمد بن عاشر وأقام معه ومع أصحابه سنين
عديدة قال رحمه الله قصدتهم لوجدان السلامة معهم وتوفي رحمه الله بفاس بعد صلاة
العصر من يوم الجمعة ثالث رجب من السنة المذكورة وحضر جنازته السلطان أبو العباس
بن أبي سالم فمن دونه وهمت العامة بكسر نعشه تبركا به رحمه الله ورضي عنه
ومن فوائده التي نقلها عن شيخه ابن عامر ما ذكره في رسائله قال كنت قد ما خرجت في
يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم صائما إلى ساحل البحر فوجدت هنالك سيدي الحاج
أحمد بن عاشر رحمه الله ورضي عنه وجماعة من
____________________
أصحابه ومعهم طعام يأكلونه
فأرادوا مني الأكل فقلت إني صائم فنظر إلي سيدي الحاج نظرة منكرة وقال لي هذا يوم
فرح وسرور يستقبح في مثله الصوم كالعيد فتأملت قوله فوجدته حقا وكأنه أيقظني من
النوم اه
واعلم أنه في آخر هذا القرن الثامن تبدلت أحوال المغرب بل وأحوال المشرق ونسخ
الكثير من عوائد الناس ومألوفاتهم وأزيائهم قال ابن خلدون في مقدمة تاريخه بعد أن
ذكر أن الأحوال العامة للآفاق والأجيال والأعصار هي أس المؤرخ الذي تنبني عليه
أكثر مقاصده ما نصه وأما لهذا العهد وهو آخر المائة الثامنة فقد انقلبت أحوال
المغرب الذي نحن شاهدوه وتبدلت بالجملة واعتاض من أجيال البربر أهله على القدم بمن
طرأ فيه من لدن المائة الخامسة من أجيال العرب بما كثروهم وغلبوهم وانتزعوا منهم
عامة الأوطان وشاركوهم فيما بقي من البلدان بملكتهم وبأسهم هذا إلى ما نزل
بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف
الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها وجاء للدول على حين
هرمها وبلوغ الغاية من مداها فقلص من ظلالها وفل من حدها وأوهن من سلطانها وتداعت
إلى التلاشي والاضمحلال أحوالها وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر فخربت الأمصار
والمصانع ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبدل
الساكن وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه
وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة والله وارث
الأرض ومن عليها وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم
بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث إلى آخر كلامه رحمه الله فافهم هذه
الجملة وتفطن لأحوال الدول التي سردنا أخبارها فيما مضى وأحوال التي نسرد أخبارها
فيما بعد وتأمل الفرق بين ذلك والسبب فيه والله تعالى الموفق للصواب بمنه
____________________
الخبر عن دولة السلطان أبي
سعيد عثمان بن أبي العباس ابن أبي سالم
هذا السلطان هو ثالث الإخوة الأشقاء من بني أبي العباس الذين ولوا الأمر من بعد
ولاء أمه الجواهر أم أخويه قبله بويع بعد صلاة العصر له من يوم الثلاثاء الموفي
ثلاثين من جمادى الآخرة سنة ثمانمائة وسنه يومئذ ست عشرة سنة وكان النقض والإبرام
وسائر التصرفات في دولته للوزراء والحجاب والسلطان متفرغ لاستيفاء لذاته ومن أكبر
حجابه أبو العباس القبائلي الذي نذكر خبره الآن حجابة أبي العباس القبائلي ونكبته
ومقتله والسبب في ذلك
بيت بني القبائلي بيت مشهور في الوزارة والحجابة والكتابة من لدن الدولة الموحدية
بمراكش إلى هذا التاريخ وكان الرئيس الفقيه أبو العباس أحمد بن علي القبائلي كاتبا
مشهورا وحاجبا مذكورا وكان قد بذ الأقران وتصدر الأعيان وبلغ من الجاه ونفوذ
الكلمة مبلغا عظيما وكان يحابي بالخطط السلطانية الأقارب والأرحام لا يعدل بها عمن
سواهم فاضطغنت عليه القلوب وكثرت فيه السعايات إلى أن نفذ أمر الله فأوقع به
السلطان أبو سعيد وقعة شنعاء كان من خبرها أنه كان للحاجب المذكور ولد اسمه عبد
الرحمن وكان من فضلاء وقته وكان لعبد الرحمن هذا ولد اسمه علي وكان من نجباء
الأبناء فكان لجده أبي العباس لذلك ميل إليه ومحبة وافتتان به فاتفق أن مرض هذا
الحافد ذات يوم فنزل جده أبو العباس من الحضرة بفاس الجديد لعيادته بدار ولده عبد
الرحمن من عدوة القرويين من فاس القديم
____________________
وكانت الدار بزنقة الجيلة من
الطالعة فبات الشيخ عند حافده تلك الليلة وكان منذ ولي خطة الحجابة لم يغب عن دار
الملك ليلة واحدة بل كان يأخذ في ذلك بالحزم بحيث يسد أبواب الحضرة ويفتحها ويباشر
سائر الأمور السلطانية بنفسه فلما أراد الله إنفاذ قدره غطى على عقله وبصره فتساهل
في تلك الليلة وبعث ولده أبا القاسم ليقوم مقامه في غلق الأبواب وفتحها مع صاحب
السقيف ومساهمه في القيام بالأمور السلطانية أبي محمد عبد الله الطريفي الآتي ذكره
فغلقا الأبواب على العادة ولما كان الصباح من الغد تقدم الولد أبو القاسم لأخذ
المفاتيح من دار الخلافة فأخرجت إليه وتولى فتح الأبواب وحده دون أن يحضر الطريفي
المشارك له في ولاية السقيف فلما جاء أبو محمد المذكور ورأى الأبواب مفتحة بدون
حضوره أخذه من ذلك ما قدم وما حدث وأسرها في نفسه حتى إذا كان المساء وحضر الوقت
المعهود لغلق الأبواب طلع للحضرة ولد آخر من ولد الحاجب القبائلي يعرف بأبي سعيد
فبادر أبو محمد فسد الأبواب في وجهه قبل أن يصل إليه وأمسك المفاتيح عنده واستبد
بها فطلب منه أبو سعيد أن يفتح له الباب فتجهمه وامتنع وكأنه أمر دبر بليل ثم تقدم
القائد أبو محمد المذكور إلى السلطان أبي سعيد فأعلمه بما اتفق له مع أولاد الحاجب
فأوعز إليه السلطان أن لا يفتح الباب بعد غلقه إلا وقت فتحه المعتاد وزاد في
الوصية بأن لا يفتح ولا يغلق إلا بمحضر السعيد ابن السلطان أبي عامر رحمه الله
ولما رجع أبو سعيد إلى والده بعدوة القرويين من فاس أعلمه بما اتفق له مع القائد
الطريفي فامتلأ غيظا وقامت قيامته وكانت فيه دالة على السلطان فتخلف عن الحضور ولم
يذكر ما قالته الحكماء إذا عاديت من يملك فلا تلمه إنه يهلكك ثم استعطفه السلطان
فأبى أن يعطف ثم بعث إليه ببراءة بخطه ليزيل ما بصدره من الموجدة فكتب الحاجب
جوابها وأقسم أن لا يطأ بساطا فيه فارح بن مهدي العلج وكان فارح هذا بعين التجلة
من السلطان فلما وقف السلطان أبو سعيد على جواب الحاجب حمى أنفه وأظلمت الدنيا في
عينيه وأمر بالإيقاع بالحاجب في الحين فذبح هو وولده عبد الرحمن يوم الخميس الموفي
ثلاثين
____________________
من شوال سنة اثنتين وثمانمائة
وكان عبد الرحمن هذا فاضلا شاعرا فمن شعره في الغزل قوله
( اتسمع في الهوى قول اللواحي ** وقد أبصرت خشف بني رياح )
( غزال خلف الصب المعني ** من الوجد المبرح غير صاح )
( وقد قتلت ولا إثم عليها ** مراض جفونه كل الصحاح )
( يقول ولحظه بالعقل يزري ** علام تطيل وصفي وامتداحي )
( فقلت فنون سحر فيك راقت ** قضت للقلب بالعشق الصراح )
( جبينك والمقلد والثنايا ** صباح في صباح في صباح )
وبقي الحافد أبو الحسن علي بن عبد الرحمن المذكور مرتبا في جملة الكتاب وكان فاضلا
شاعرا أيضا ولما مرض السلطان أبو سعيد في شعبان سنة سبع وثمانمائة وصح من مرضه
وهنأته الشعراء بقصائد كثيرة فكان من جملتهم أبو الحسن المذكور فقال
( هنيئا لنا ولكل الأنام ** براحة فخر الملوك الهمام )
( إمام أقام رسوم العلا ** وحل من المجد أعلى السنام )
( به قرت العين لما بدا ** صحيحا وما إن به من سقام )
( وهل هو إلا كبدر الدجا ** يواري قليلا وراء الغمام )
( ويظهر طورا فيجلو به ** عن الناس يا صاح ساجي الظلام )
( أو الليث يعكف في غيله ** فتحذر منه السباح اهتجام )
( أمولاي عثمان بحر الندى ** ومردي العداة ونجل الكرام )
( لقد رفع الله مقداركم ** فنفسي الفداء لكم من إمام )
( أمولاي عبدك قد ضره ** أفول رضاكم وبعد المرام )
( وأضحى كئيبا لإبعادكم ** مشوقا لتقبيل ذاك المقام )
( فكن راحما يا إمام الورى ** عطوفا بمملوكك المستهام )
( لعل الذي ناله ينقضي ** وتشمل منك هبات جسام )
( فأيدك الله بالنصر ما ** ترنم فوق الغصون حمام )
____________________
حجابة فارح بن مهدي وأوليته
وسيرته
قال ابن خلدون يا فراح بن مهدي من معلوجي السلطان يعني أبا العباس وأصله من موالي
بني زيان ملوك تلمسان اه وقال في الجذوة هو من موالي السلطان أبي سعيد بن أبي
العباس ولا منافاة بين الكلامين والله أعلم ولما قتل أبو العباس القبائلي ولي
الحجابة من بعده فارح بن مهدي هذا قال في الجذوة ولم يكن من أهل العلم لكنه كان شيخا
مجربا للأمور عارفا مجيدا في التدبير قد أعطى الرياسة حقها والخطط مستحقها وكان
ممسكا عنانه فلا يميل مع نفسه ولا يسحب أردانه ولا يوحش سلطانه موسوما عند الخلافة
بالأمانة ملحوظا لديها بعين المروة والصيانة وكان السلطان أبو سعيد يعتني به لأجل
كبر سنه وتربيته الحرة آمنه بنت السلطان أبي العباس كانت تبدي له وجهها في حالي
صغرها وكبرها فكانت له بذلك مزية لم تكن لغيره بهذا ذكره التاورتي ولعل فيه تعريضا
بالحاجب قبله ولما تكلم أبو عبد الله محمد العربي الفاسي في كتابه مرآة المحاسن
على مدينة تيجساس وصفها بقوله إنها في شرقي تطاوين على مسيرة يوم منها في موضع
كثير الحجارة والصخر في سفح جبل من غربيها وتحتها من شمالها جرف كثير الصخر عظيمة
على مكسر موج البحر ولها نهر نفاع يجلب إليها منه جدول ولها بسيط تركبه الجداول من
كل جهة فتسقي الزرع والكتان والثمار فأهلها في أمن من القحط إلى أن قال ولم تزل
عامرة إلى حدود ثمانمائة فجلا عنها أهلها بسبب جور فارح بن مهدي الوالي عليها من
قبل بني مرين فخلت من سكانها وانتقلوا إلى القبائل وغيرها ولم يزل سورها ماثلا إلى
الآن اه قلت وفي هذه المدة خربت تطاوين القديمة أيضا فزعم منويل في تاريخه أن
قراصين المسلمين من أهل تطاوين وغيرهم
____________________
كانت تغير على سواحل أصبانيا
وتغنم مراكبها ولما كانت سنة ألف وأربعمائة مسيحية الموافقة لسنة ثلاث وثمانمائة
هجرية بعث الطاغية الريكي الثالث شكوادرة لغزو تطاوين ومراكبها فانتهت إلى وادي
مرتيل وأفسدت قراصين المسلمين التي به ثم نزلت عساكر الإصبنيول للبر فاقتحمت مدينة
تطاوين بعد أن جلا أهلها عنها وخربتها وعاثت فيها وبقيت خربة نحو تسعين سنة ثم جدد
بناؤها على يد الرئيس أبي الحسن علي المنظري الغرناطي كما سيأتي وكانت وفاة فارح
بن مهدي في الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة ست وثمانمائة والله تعالى أعلم حجابة
أبي محمد الطريفي وسيرته
لما توفي الحاجب فارح بن مهدي ولي الحجابة من بعده أبو محمد عبد الله الطريفي وكان
من فضلاء الحجاب وهو الذي بنى مسجد السوق الكبير بفاس الجديد وحبس عليه كتبا كثيرة
فكان ذلك من حسناته الباقية نفعه الله بقصده حدوث الفتنة بين السلطان أبي سعيد
والسلطان أبي فارس الحفصي والسبب في ذلك
لما توفي السلطان أبو العباس الحفصي صاحب تونس ولي الأمر من بعده ابنه أبو فارس
المذكور فوزع الوظائف من الإمارة والوزارة وولاية الأعمال على إخوته فاعتضد بهم
وكان من جملتهم أخوه أبو بكر بن أبي العباس بقسنطينة فنازعه بها ابن عمه الأمير
أبو عبد الله محمد بن أبي زكرياء الحفصي صاحب بونة وألح عليه في الحصار فصمد إليه
السلطان أبو فارس الحفصي وأوقع به على سيبوس وقعة شنعاء انتهت به هزيمتها إلى فاس
مستصرخا صاحبها وهو يومئذ أبو فارس المريني فأقام أبو عبد الله بفاس
____________________
إلى سنة عشر وثمانمائة في دولة
السلطان أبي سعيد فاتفق أن فسد ما بين السلطان أبي فارس الحفصي وبين أعراب إفريقية
من سليم فقدمت طائفة منهم حضرة فاس مستنجدين السلطان أبا سعيد على صاحبهم أبي فارس
فألفوا عنده الأمير أبا عبد الله المنهزم بسيبوس كما مر فعقد له السلطان أبو سعيد
على جيش من بني مرين وغيرهم وبعثه مع العرب فلما انتهى إلى بجاية تلقته أعراب
إفريقية طائعة وهون عليه المرابط شيخ حكيم منها أمر تونس فرد الجيش المريني وقصدها
بمن انضم إليه من الحشود فأخذ بجاية من أبي يحيى وفر في البحر وعقد أبو عبد الله
عليها لابنه المنصور ثم زحف إلى السلطان أبي فارس فخالفه إلى بجاية فافتكها من يد
ابنه المنصور ووجه به مع جماعة من كبار أهلها معتقلين إلى الحضرة وعقد عليها لأحمد
ابن أخيه ونهض لقتال ابن عمه أبي عبد الله المذكور فنزع المرابط عنه إلى السلطان
أبي فارس لعهد كان بينهما فانفض جمع أبي عبد الله وقتل واحتز رأسه ووجهه السلطان
أبو فارس مع من علقه بباب المحروق أحد أبواب فاس إغاظة للسلطان أبي سعيد وذلك سنة
اثنتي عشرة وثمانمائة ثم تحرك السلطان أبو فارس إلى جهة المغرب قاصدا أخذ الثار من
السلطان أبي سعيد فاستولى على تلمسان ثم قصد حضرة فاس فلما شارفها جنح السلطان أبو
سعيد إلى السلم فوجه إليه بهدايا جليلة فقبل ذلك أبو فارس وكافأ عليه وانكفأ راجعا
إلى حضرته ولحقته في طريقه بيعة أهل فاس وانتظم له ملك المغرب وبايعه صاحب الأندلس
أيضا قاله صاحب الخلاصة النقية وهو الأديب أبو عبد الله محمد الباجي أحد كتاب
الدولة التركية بتونس
____________________
+ اسيتلاء البرتغال على مدينة
سبتة أعادها الله
كان جنس البرتغال وهو البردقيز في هذه السنين قد كثر بعد القلة واعتز بعد الذلة
وظهر بعد الخمول وانتعش بعد الذبول فانتشر في الأقطار وسما إلى تملك الأمصار
فانتهى إلى أطراف السودان بل وأطراف الصين على ما قيل وألح على سواحل المغرب
الأقصى فاستولى في سنة ثمان عشرة وثمانمائة على مدينة سبتة أعادها الله بعد
محاصرته لها حصارا طويلا وسلطان المغرب يومئذ أبو سعيد بن أحمد صاحب الترجمة
وسلطان البرتغال يومئذ خوان الأول
وذكر منويل في تاريخه أن سلطان المغرب يومئذ عبد الله بن أحمد أخو أبي سعيد
المذكور وسيأتي كلامه بتمامه
وذكر صاحب نشر المثاني في كيفية استيلاء البرتغال على سبتة قصة تشبه قصة قصير مع
الزباء قال رأيت بخط من يظن به التثبت والصدق أن النصارى جاؤوا بصناديق مقفلة
يوهمون أن بها سلعا وأنزلوها بالمرسى كعادة المعاهدين وذلك صبيحة يوم الجمعة من
بعض شهور سنة ثمان عشرة وثمانمائة وكانت تلك الصناديق مملوءة رجالا عددهم أربعة
آلاف من الشباب المقاتلة فخرجوا على حين غفلة من المسلمين واستولوا على البلد وجاء
أهله إلى سلطان فاس مستصرخين له وعليهم المسوح والشعر والوبر والنعال السود رجالا
ونساء وولدانا فأنزلهم بملاح المسلمين ثم ردهم إلى الفحص قرب بلادهم لعجزه عن
نصرتهم حتى تفرقوا في البلاد والأمر لله وحده قال وسمعت من بعضهم أن الذي جرأ
النصارى على ارتكاب تلك المكيدة هو أنهم كانوا قد قاطعوا أمير سبتة على أن يفوض
إليهم التصرف في المرسى والاستبداد بغلتها ويبذلوا له خراجا معلوما في كل سنة فكان
حكم المرسى حينئذ لهم دون المسلمين ولو كان المسلمون هم الذين يلون حكم المرسى ما
تركوهم ينزلون ذلك العدد من الصناديق مقفلة لا يعلمون ما فيها والله أعلم بحقيقة
الأمر
____________________
1- 92 اسيتلاء البرتغال على مدينة سبتة أعادها الله
كان جنس البرتغال وهو البردقيز في هذه السنين قد كثر بعد القلة واعتز بعد الذلة
وظهر بعد الخمول وانتعش بعد الذبول فانتشر في الأقطار وسما إلى تملك الأمصار
فانتهى إلى أطراف السودان بل وأطراف الصين على ما قيل وألح على سواحل المغرب
الأقصى فاستولى في سنة ثمان عشرة وثمانمائة على مدينة سبتة أعادها الله بعد
محاصرته لها حصارا طويلا وسلطان المغرب يومئذ أبو سعيد بن أحمد صاحب الترجمة
وسلطان البرتغال يومئذ خوان الأول
وذكر منويل في تاريخه أن سلطان المغرب يومئذ عبد الله بن أحمد أخو أبي سعيد
المذكور وسيأتي كلامه بتمامه
وذكر صاحب نشر المثاني في كيفية استيلاء البرتغال على سبتة قصة تشبه قصة قصير مع
الزباء قال رأيت بخط من يظن به التثبت والصدق أن النصارى جاؤوا بصناديق مقفلة
يوهمون أن بها سلعا وأنزلوها بالمرسى كعادة المعاهدين وذلك صبيحة يوم الجمعة من
بعض شهور سنة ثمان عشرة وثمانمائة وكانت تلك الصناديق مملوءة رجالا عددهم أربعة
آلاف من الشباب المقاتلة فخرجوا على حين غفلة من المسلمين واستولوا على البلد وجاء
أهله إلى سلطان فاس مستصرخين له وعليهم المسوح والشعر والوبر والنعال السود رجالا
ونساء وولدانا فأنزلهم بملاح المسلمين ثم ردهم إلى الفحص قرب بلادهم لعجزه عن
نصرتهم حتى تفرقوا في البلاد والأمر لله وحده قال وسمعت من بعضهم أن الذي جرأ
النصارى على ارتكاب تلك المكيدة هو أنهم كانوا قد قاطعوا أمير سبتة على أن يفوض
إليهم التصرف في المرسى والاستبداد بغلتها ويبذلوا له خراجا معلوما في كل سنة فكان
حكم المرسى حينئذ لهم دون المسلمين ولو كان المسلمون هم الذين يلون حكم المرسى ما
تركوهم ينزلون ذلك العدد من الصناديق مقفلة لا يعلمون ما فيها والله أعلم بحقيقة
الأم
ولما استولى البرتغال على سبتة اعتنى بها وحصنها واستمرت في ملكتهم مدة تزيد على
مائتين وخمسين سنة ثم ملكها منهم طاغية الإصبنيول في سبيل مهادنة وشروط انعقدت
بينهم بمدنية أشبونة في حدود الثمانين وألف وأخبار السلطان أبي سعيد كثيرة وقد أرخ
دولته وسيرته الكاتب أبو إسحاق إبراهيم ابن أحمد التاورتي رحمه الله وتوفي السلطان
المذكور سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة وولي الأمر من بعده ابنه عبد الحق الأخير كذا
ذكره في جذوة الاقتباس وقد ذكر منويل في أمر أبي سعيد ووفاته ما يخالف هذا قال لما
كانت دولة السلطان أبي سعيد المريني كان المسلمون أهل جبل طارق قد سئموا ملكة ابن
الأحمر صاحب غرناطة وتحققوا بأن المريني أقوى منه شوكة وأقدر على تخليصهم مما عسى
أن ينالهم به الإصبنيول من حصار ونحوه فبعثوه إليه يخطبون ولايته ويعرضون عليه
الدخول في طاعته إن هو أمدهم بما يدفعون به في نحر ابن الأحمر فأعجب أبا سعيد ذلك
وللحين بعث إليهم أخاه عبد الله بن أحمد المعروف بسيدي عبو ومعه طائفة من الجيش
إمدادا لهم وكان قصد أبي سعيد ببعث أخيه عبد الله الحصول على إحدى الفائدتين أما
فتح جبل طارق إن كان الظهور له أو الاستراحة منه إن كان عليه لأنه كان يشوش عليه
فجاء الأخ المذكور حتى نزل بإزاء جبل طارق ففتح أهل البلد الباب وأدخلوه وأدخلوا
جنده وتحصن قائد الغرناطي وعسكره بقلعة الجبل وطير الأعلام بذلك إلى صاحبه فبعث
إليه جيشا قويت به نفسه فنزل من القلعة وانضم إليه مدده وقاتلوا جيش المريني
فهزموه وقبضوا على عبد الله باليد وعلى جماعة من أصحابه وبعثوا بهم أسرى إلى صاحب
غرناطة فعمد صاحب غرناطة إلى عبد الله وأنزله في محل معتبر وأحسن إليه فتخلف ظن
السلطان أبي سعيد فيما كان يحب لأخيه من التلف وغاظه فعل ابن الأحمر معه من
الإحسان والإبقاء عليه ثم أن أبا سعيد دبر حيلة بأن بعث من قبله رجلا إلى أخيه
ليسقيه السم ويستريح
____________________
منه مع أن غوغاء أهل المغرب
وقبائله المنحرفة عن السلطان كانوا قد تشوقوا لقدومه عليهم وقيامهم معه فبطلت حيلة
أبي سعيد في السم ولم يحصل على طائل ثم إن ابن الأحمر اتفق مع عبد الله على أن
يمده بالعسكر والمال ويسرحه إلى المغرب ليستولي على ملكه ويأخذ له بالثأر من أخيه
فقبل عبد الله ذلك وأمده ابن الأحمر وسرحه إلى المغرب فلما احتل به تبعه عدد وافر
من قبائله الذين كانوا مستثقلين لوطأة أبي سعيد فنهض إليه أبو سعيد فكانت الكرة عليه
ورجع مفلولا في يسير من الجند إلى فاس فتقبض عليه أهلها وسجنوه وأعلنوا بنصر أخيه
عبد الله وفتحوا الباب فدخل الحضرة واستولى عليها وتم أمره وسجن أخاه أبا سعيد إلى
أن مات قال ولما استقل عبد الله بأمر المغرب كله هدأت الرعية واستقامت الأحوال إلا
أنه تكدر عيشه بذهاب سبتة التي استولى عليها طاغية البرتغال خوان الأول بعد ما
حاصرها أشد الحصار وكان ذلك على السلطان من أعظم النحوس وتكدر المسلمون غاية لفوات
هذه المدينة العظيمة منهم ثم ثاروا على السلطان عبد الله واعتورته رماحهم حتى فاظ
ولما قتل تنازع الملك بعده اثنان من اخوته وبعد قتال شديد ولم ينتصف أحد منهما من
صاحبه اتفق أهل الحل والعقد على أن يولوا عبد الحق بن أبي سعيد اه كلام منويل وهذا
السلطان عبد الله الذي زاده منويل بين أبي سعيد وعبد الحق لم يذكره صاحب جذوة
الاقتباس ويبعد أن يكون هذا الخبر الذي ساقه منويل لا أصل له والله أعلم بحقيقة
الأمر
ومن جملة حجاب السلطان أبي سعيد الرئيس أبو فارس عبد العزيز بن أحمد الملياني قال
في الجذوة أصله من زرهون وتولى حجابة السلطان المذكور قال فغدر مولاه ومخدومه وهتك
ستره وخرب داره وعبث بحريمه وقتل أولاده وإخوانه ورفع الأذناب وحط الرؤساء وكان
فساد المغرب على يده وقد ذكره التاورتي فأثنى عليه قال في الجذوة
____________________
ووجدت في طرة ذمه وتنقيصه
والله أعلم
ومن وزراء السلطان أبي سعيد صالح بن حمو الياباني ويحيى بن علال بن آمصمود
الهسكوري وقد تقدم ذكرهما ومن كتابه الفقيه الأديب أبو زكرياء يحيى بن أبي الحسن
بن أبي دلامة وكان صاحب العلامة عند السلطان المذكور وممن شهد له أهل عصره
بالتبريز في النظم الفائق ثم ابنه محمد من بعده ومن قضاته الفقيه أبو محمد عبد
الرحيم بن إبراهيم اليزناسني وقد تقدم ذكره والله تعالى أعلم الخبر عن دولة
السلطان عبد الحق بن أبي سعيد ابن أبي العباس بن أبي سالم المريني رحمه الله
هذا السلطان هو آخر ملوك بني عبد الحق من بني مرين وهو أطولهم مدة وأعظمهم محنة
وشدة وهو أبو محمد عبد الحق بن أبي سعيد عثمان ابن أبي العباس أحمد بن أبي سالم
إبراهيم بن أبي الحسن علي بن أبي سعيد عثمان بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق
الزناتي المريني أمه علجة إصبنيولية على ما ذكره منويل وفي أيامه ضعف أمر بني مرين
جدا وتداعى إلى الانحلال وكان التصرف للوزراء والحجاب شأن دولة أبيه من قبله على
نذكره زحف البرتغال إلى طنجة ورجوعهم عنها بالخيبة
قال منويل كان لطاغية البرتغال خمسة إخوة شجعان فأرادوا أن يدركوا فخرا باستيلائهم
على ثغر من ثغور المغرب يضيفونه إلى سبتة ويوسعون به ما ملكوه من أعمالها فركبوا
قراصينهم في ستة آلاف عسكري ونزلوا بسبتة ثم زحفوا إلى طنجة سنة إحدى وأربعين
وثمانمائة وحاصروها وضيقوا على أهلها ثم عاجلهم سلطان فاس وسلطان مراكش وأرهقوهم
عن
____________________
فتحها وأوقعوا بهم وقبضوا على
كبير عسكرهم فرناندو وجماعة من أصحابه وعادوا بهم أسرى إلى فاس فلما صارت عظماء
البرتغال في يد المسلمين وأسرهم جنحوا إلى السلم فسالمهم المسلمون على أن يردوا
لهم سبتة ويسرحوا لهم كبيرهم وأصحابه الذين معه فرضي البرتغال بذلك وانعقد الصلح
عليه ثم كان من قدر الله أن هلك كبير البرتغال الذي وقع الشرط عليه في سجن فاس
واستمرت سبتة في يد العدو وعد ذلك من سوء بخت المسلمين والأمر لله وحده
وقد ذكر صاحب المرآة أن البرتغال استولى على طنجة سنة إحدى وأربعين وثمانمائة وهو
غير صواب وإنما كان الحصار فقط والله تعالى أعلم أخبار الوزراء والحجاب وتصرفاتهم
كان من جملة وزراء السلطان عبد الحق الوزير صالح بن صالح بن حمو الياباني قالوا
وهو الذي أوقع بالفقيه القاضي أبي محمد عبد الرحيم ابن إبراهيم اليزناسني قتله
ذبحا سنة أربع وثلاثين وثمانمائة ومن وزراء السلطان المذكور الوزير أبو زكرياء
يحيى بن زيان الوطاسي قالوا وفي سنة ست وأربعين وثمانمائة غزا الوزير المذكور
الشاوية وكانوا قد تمردوا على الدولة وأعضل داؤهم ففل الوزير المذكور جمعهم وخرب
منازلهم ثم كانت وفاته سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة قتله عرب أنكاد على سبيل الغدر
قعصا بالرماح وحمل قتيلا إلى فاس فدفن بالقلة خارج باب الحبيسة وولي الوزارة بعده
علي بن يوسف الوطاسي قالوا فكانت أيامه مواسم لديانته وصيانته وحفظه أمور الملك
ورفقه بالرعية مع العدل وحسن الإدارة ثم توفي بتامسنا خامس رمضان سنة ثلاث وستين
وثمانمائة وحمل إلى فاس فدفن بالقلة أيضا وفي هذه السنة أو التي قبلها استولى
البرتغال على
____________________
قصر المجاز وهو المعروف بقصر
مصمودة والقصر الصغير وهو الآن خراب والله أعلم وزارة يحيى بن يحيى الوطاسي ومقتله
ومقتل الوطاسيين معه والسبب في ذلك
لما توفي الوزير علي بن يوسف رحمه الله قدم للوزارة بعده أبو زكرياء يحيى بن يحيى
بن عمر بن زيان الوطاسي قالوا فكانت ولاية هذا الوزير هي مبدأ الشر ومنشأ الفتنة
وذلك أنه لما استقل بالحجابة أخذ في تغيير مراسم الملك وعوائد الدولة وزاد ونقص في
الجند ونقض جل ما أبرمه قبله الوزراء وعامل الرعية بالعسف ومن جملة ما نقم عليه
أنه عزل قاضي فاس الفقيه أبا عبد الله محمد بن محمد بن عيسى بن علال المصمودي وقدم
مكانه الفقيه يعقوب التسولي وكان المصمودي من الدين وتحرى المعدلة بمكان فلما رأى
السلطان عبد الحق فعل الوزير واستحواذه على أمور الدولة وتبين له أن الوطاسيين قد
التحقوا معه رداء الملك وشاركوه في بساط العز وكادوا يغلبونه على أمره سطا بهم
سطوة استأصلت جمهورهم إلا من حماه الأجل منهم فتقبض على الوزير يحيى وعلى أخويه
أبي بكر وأبي شامة وعلى عمهم فارس بن زيان وقريبهم محمد بن علي بن يوسف وأتى الذبح
على جميعهم واستمر البحث عن محمد الشيخ ومحمد الحلو أخوي الوزير المذكور فلم يوجدا
لذهاب الشيخ في ذلك اليوم للصيد واختفاء الحلو عند قيام الهيعة فكان ذلك من لطف
الله بهما واتصل بهما ما جرى على عشيرتهم وبني أبيهم فذهبا إلى منجاتهما وكان من
أمرهما ما نذكره وكانت هذه الحادثة الصماء بعد مضي سبعين يوما من وزارة يحيى بن
يحيى
____________________
المذكور وصفا للسلطان عبد الحق
أمره ورأى أن قد شفا نفسه من الوطاسيين ونقى بساط حضرته من قضضهم وأبرأ جسم ملكه
من مرضهم والله غالب على أمره رياسة اليهوديين هارون وشاويل وما نشأ عن استبدادهما
من المحنة والفتنة
قالوا كان السلطان عبد الحق منذ أوقع ببني وطاس لم تسمح نفسه بإعطاء منصب الوزارة
لأحد ثم نما إليه أن العامة وكثيرا من الخاصة قد نقموا عليه إيقاعه بالوطاسيين وأن
أذنهم صاغية إلى محمد الشيخ صاحب آصيلا وكان قد استولى عليها بعد فراره حسبما نذكر
وربما شافهه البعض منهم بذلك فولى عليهم اليهوديين المذكورين تأديبا لهم وتشفيا
منهم زعموا فشرع اليهوديان في أخذ أهل فاس بالضرب والمصادرة على الأموال واعتز
اليهود بالمدينة وتحكموا في الأشراف والفقهاء فمن دونهم وكان اليهودي هارون قد ولى
على شرطته رجلا يقال له الحسين لا يألو جهدا في العسف واستلاب الأموال واستمر
الحال على ذلك والناس في شدة
وفي سنة سبع وستين وثمانمائة انتزع الإصبنيول جبل طارق من يد ابن الأحمر استيلاء
البرتغال على طنجة
ثم في سنة تسع وستين وثمانمائة استولى البرتغال على طنجة زحفوا إليها من سبتة في
ألوف من العساكر واستولوا عليها واستمرت بأيديهم أكثر من مائتين وخمس سنين ثم
بذلوها لطاغية النجليز سنة أربع وسبعين وألف في سبيل المهاداة والصهر الذي انعقد
بينهما كما سيأتي
____________________
مقتل السلطان عبد الحق بن أبي
سعيد والسبب في ذلك
ثم إن اليهودي عمد إلى امرأة شريفة من أهل حومة البليدة فقبض عليها والبليدة حومة
بفاس قالوا وكانت بدار الكومى قرب درب جنيارة فأنحى عليها بالضرب ولما ألهبتها
السياط جعلت تتوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم فحمى اليهودي وكاد يتميز غيظا من
سماع ذكر الرسول وأمره بالإبلاغ في عقابها وسمع الناس ذلك فأعظموه وتمشت رجالات
فاس بعضهم إلى بعض فاجتمعوا عند خطيب القرويين الفقيه أبي فارس عبد العزيز بن موسى
الورياكلي وكانت له صلابة في الحق وجلادة عليه بحيث يلقي نفسه في العظائم ولا
يبالي وقالوا له ألا ترى إلى ما نحن فيه من الذلة والصغار وتحكم اليهود في
المسلمين والعبث بهم حتى بلغ حالهم إلى ما سمعت فنجع كلامهم فيه وللحين أغراهم
بالفتك باليهود وخلع طاعة السلطان عبد الحق وبيعة الشريف أبي عبد الله الحفيد
فأجابوه إلى ذلك واستدعوا الشريف المذكور فبايعوه والتفت عليه خاصتهم وعامتهم
وتولى كبر ذلك أهل حومة القلقليين منهم ثم تقدم الورياكلي بهم إلى فاس الجديد
فصمدوا إلى حارة اليهود فقتلوهم واستلبوهم واصطلموا نعمتهم واقتسموا أموالهم وكان
السلطان عبد الحق يومئذ غائبا في حركة له ببعض النواحي قال في نشر المثاني خرج
السلطان عبد الحق بجيشه إلى جهة القبائل الهبطية وترك اليهودي يقبض من أهل فاس
المغارم فشد عليهم حتى قبض على امرأة شريفة وأوجعها ضربا وحكى ما تقدم فاتصل ببعد
الحق الخبر وانفض مسرعا إلى فاس واضطرب عليه أمر الجند ففسدت نياتهم وتنكرت وجوههم
وصار في كل منزلة تنفض عنه طائفة منهم فأيقن عبد الحق بالنكبة وعاين أسباب المنية
ولما قرب من فاس استشار هارون اليهودي فيما نزل به فقال اليهودي له لا تقدم على
فاس لغليان قدر الفتنة بها وإنما يكون قدومنا على مكناسة الزيتون لأنها بلدنا
____________________
وبها قوادنا وشيعتنا وحينئذ
يظهر لنا ما يكون فما استتم اليهودي كلامه حتى انتظمه بالرمح رجل من بني مرين يقال
له تيان وعبد الحق ينظر وقال وما زلنا في تحكم اليهود واتباع رأيهم والعمل
بإشارتهم ثم تعاورته الرماح من كل جانب وخر صريعا لليدين والفم ثم قالوا للسلطان
عبد الحق تقدم أمامنا إلى فاس فليس لك اليوم اختيار في نفسك فأسلم نفسه وانتهبت
محلته وفيئت أمواله وحلت به الإهانة وجاءوا به إلى أن بلغوا عين القوادس خارج فاس
الجديد فاتصل الخبر بأهل فاس وسلطانهم الحفيد فخرج إلى عبد الحق وأركبه على بغل
بالبردعة وانتزع منه خاتم الملك وأدخله البلد في يوم مشهود حضره جمع كبير من أهل
المغرب وأجمعوا على ذمه وشكروا الله على أخذه ثم جنب إلى مصرعه فضربت عنقه صبيحة
يوم الجمعة السابع والعشرين من رمضان سنة تسع وستين وثمانمائة ودفن ببعض مساجد
البلد الجديد ثم أخرج بعد سنة ونقل إلى القلة فدفن بها وانقرضت بمهلكه دولة بني
عبد الحق من المغرب والبقاء لله وحده
ونقل الثقات أن الشيخ أبا العباس أحمد زروق رحمه الله كان قد ترك الصلاة خلف
الفقيه أبي فارس الورياكلي لما صدر منه في حق السلطان عبد الحق وكان يقول لا آمن
الغندور على صلاتي يعيبه بذلك والغندور في لسان المغاربة ذو النخوة والإباية وما
أشبه ذلك والله يتغمدنا والمسلمين برحمته آمين
ولنذكر ما كان في هذه المدة من الأحداث فنقول
في سنة سبع وثمانمائة توفي الشيخ أبو زيد عبد الرحمن بن علي بن صالح المكودي عالم
فاس وأديبها ونحويها صاحب المقصورة وشرح
____________________
الخلاصة وغير ذلك من التآليف
قيل هو آخر من درس كتاب سيبويه في النحو بفاس
وفي سنة ثمان عشرة وثمانمائة توفي الشيخ أبو عبد الله محمد بن عمر ابن الفتوح
التلمساني ثم المكناسي يقال إن سبب انتقاله من تلمسان أنه كان شابا حسن الصورة
جميل الشارة فمرت به امرأة جميلة فجعل ينظر إليها من طرف خفي فقالت اتق الله يا
ابن الفتوح يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فتأثر لقولها واتعظ وتاب إلى الله
تعالى وجعل من تمام توبته أن يهاجر من الأرض التي قارف الذنب فيها فارتحل إلى فاس
فأقام بها مدة وانتفع الناس به ثم انتقل بعدها إلى مكناسة فتوفي بها في السنة
المذكورة قالوا وهو أول من أدخل مختصر الشيخ خليل مدينة فاس والمغرب
وفي سنة ست وأربعين وثمانمائة كان الوباء العظيم بالمغرب هلك فيه جمع من كبار
العلماء والأعيان ويسمى هذا الوباء عند أهل فاس بوباء عزونة
وفي سنة تسع وأربعين وثمانمائة في ذي القعدة منها توفي الشيخ أبو محمد عبد الله
العبدوسي مفتي فاس وعالمها الكبير ومحدثها الشهير وكان من أهل الصلاح والخير
والإيثار
وفي سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة في أواخر ذي القعدة منها توفي إمام الجماعة بفاس
الشيخ أبو عبد الله محمد بن قاسم الأندلسي الأصل المعروف بالقوري ودفن بباب
الحمراء منها
وفي سنة تسع وتسعين وثمانمائة في أواخر صفر منها توفي الشيخ العارف بالله المحق
أبو العباس أحمد البرنسي الشهير بزروق وكانت وفاته بمسراته من أعمال طرابلس والله
أعلم
____________________
بقية أخبار بني الأحمر
واستيلاء العدو على غرناطة وسائر الأندلس منها وانقراض كلمة الإسلام منها
كانت دولة بني الأحمر في هذه المدة متماسكة والفتنة بين أعياصها متشابكة والعدو
فيما بين ذلك يخادعهم عما بأيديهم ويراوغهم ويسالمهم تارة ويحاربهم إلى أن كانت
دولة السلطان أبي الحسن علي ابن السلطان سعد ابن الأمير علي ابن السلطان يوسف ابن
السلطان محمد الغني بالله فنازعه أخوه أبو عبد الله محمد بن سعد المدعو بالزغل قدم
من بلاد النصارى وبويع بمالقة وبقي بها مدة وعظم الخطب واشتدت الفتن وشرق المسلمون
بداء الخلاف الواقع بين هذين الأخوين وتكالب العدو عليهم ووجد السبيل إلى تفريق
كلمتهم والتمكن من فسخ عهدهم وذمتهم وذلك أعوام الثمانين وثمانمائة ثم انقاد أبو
عبد الله لأبي السحن فسكنت أحوال الأندلس بعض الشيء ثم خرج عليه ولده أبو عبد الله
محمد بن أبي الحسن وأسره النصارى في بعض الوقعات فراجع الناس طاعة أبي الحسن ثم
نزل لأخيه أبي عبد الله الزغل عن الأمر لآفة أصابته في بصره ثم إن العدو عمد
لأسيره أبي عبد الله ابن الحسن فوعده ومناه وأظهر له من أكاذيبه وخدعه غاية مناه
وبعثه للتشغيب على عمه طلبا لتفريق كلمة المسلمين وعكس مرادهم وتوصلا إلى ما بقي
عليه من حصون المسلمين وبلادهم وطالت الفتنة بين العم وابن الأخ وكل عقد كان بين
العدو وبينه انحل وانفسخ وخبت العامة الذين هم أتباع كل ناعق في ذلك ووضعت وكان
ذلك من أعظم الأسباب المعينة للعدو على التمكن من أرض الأندلس والتهامها واستئصال
كلمة الإسلام منها ثم إن ابن الأخ استولى على غرناطة بعد خروج العم عنها إلى
الجهاد ففت ذلك في عضده وعطف إلى وادي آش فاعتصم بها وحاصر العدو مالقة فقاتله
أهلها بكل ما أمكنهم حتى إذا لم يجدوا للقتال مساغا نزلوا على الأمان فاستولى
العدو عليها أواخر شعبان سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة ثم استولى بعد ذلك على وادي
آش وأعمالها صلحا ودخل في طاعته صاحبها أبو عبد الله العم بعد
____________________
أن استهوى العدو قواده
بالأموال الجزيلة ثم إن العدو خذله الله وأرسل أبا عبد الله بن أبي الحسن صاحب
غرناطة وعرض عليه الدخول في الخطة التي دخل فيها عمه من النزول له عن البلاد على
أموال جزيلة يبذلها له ويكون تحت حكمه مخيرا في أي بلاد الأندلس شاء فشاور رعيته
فاتفق الناس على الامتناع والقتال فعند ذلك أرهف العدو حده وجعل غرناطة وأهلها من
شأنه بعد أن استولى أثناء هذه الفتن والتضريبات على حصون كثيرة لم نتعرض لذكرها حتى
لم يبق له إلا غرناطة وأعمالها وقد اختصرنا معظم هذه الأخبار إذ لم تكن من موضوع
الكتاب وإنما ألممنا بهذه النبذة تتميما للفائدة وزيادة في الإمتاع ولما كان اليوم
الثاني والعشرون من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين وثمانمائة خرج العدو بمحلاته إلى
مرج غرناطة وأفسد الزرع ودوخ الأرض وهدم القرى وأمر ببناء موضع بالسور والحفير
فأحكمه وكان الناس يظنون أنه عازم على الانصراف فإذا به قد صرف عزمه إلى الحصار
والإقامة وصار يضيق على غرناطة كل يوم ودام القتال سبعة أشهر واشتد الحصار
بالمسلمين غير أن النصارى على بعد الطرق بين غرناطة والبشرات متصلة بالمرافق
والطعام يأتي من ناحية جبل شلير إلى أن تمكن فصل الشتاء وكلب البرد ونزل الثلج
فانسد باب المرافق وانقطع الجالب وقل الطعام واشتد الغلاء وعظم البلاء واستولى
العدو على أكثر الأماكن خارج البلد ومنع المسلمين من الحرث والسبب وضاق الحال وبان
الاختلال وعظم الخطب وذلك أول سنة سبع وتسعين وثمانمائة وطمع العدو في الاستيلاء
على غرناطة بسبب الجوع والغلاء دون الحرب والقتال ففر ناس كثيرون من الجوع إلى
البشرات ثم اشتد الأمر في شهر صفر من السنة وقل الطعام وتفاقم الخطب فاجتمع ناس مع
من يشار إليه من أهل العلم كأبي عبد الله الموافق شارح المختصر وغيره وقالوا
انظروا لأنفسكم وتكلموا مع سلطانكم فأحضر السلطان أبو عبد الله بن أبي الحسن أهل
دولته وأرباب مشورته وتكلموا في هذا الأمر وأن العدو يزداد مدده كل يوم ونحن لا
مدد لنا وكنا نظن أنه يقلع عنا في فصل الشتاء فخاب الظن وبنى وأسس وأقام وقرب
____________________
منا فانظروا لأنفسكم وأولادكم
فاتفق الرأي على ارتكاب أخف الضررين وشاع أن الكلام وقع بين النصارى ورؤساء
الأجناد قبل ذلك في إسلام البلد خوفا على نفوسهم وعلى الناس ثم عددوا مطالب وشروطا
أداروها وزادوا أشياء على ما كان في صلح وادي آش منها أن صاحب رومة يوافق على
الالتزام والوفاء بالشرط إذا مكنوه من حمراء غرناطة والمعاقل والحصون ويحلف على
عادة النصارى في العهود وتكلم الناس في ذلك وذكروا أن رؤساء أجناد المسلمين لما
خرجوا للكلام في ذلك امتن عليهم النصارى بمال جزيل وذخائر ثم عقدت بينهم الوثائق
على شروط قرئت على أهل غرناطة فانقادوا إليها ووافقوا عليها وكتبوا البيعة لصاحب
قشتالة فقبلها منهم ونزل سلطان غرناطة أبو عبد الله عن الحمراء ولا حول ولا قوة
إلا بالله
وفي ثاني ربيع الأول من السنة أعني سنة سبع وتسعين وثمانمائة استولى النصارى على
الحمراء ودخلوها بعد أن استوثقوا من أهل غرناطة بنحو خمسمائة من الأعيان رهنا خوف
الغدر وكانت الشروط سبعة وستين شرطا منها تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل
والمال وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعتهم وعقارهم ومنها إقامة شريعتهم على
ما كانت ولا يحكم على أحد منهم إلا بشريعته وأن تبقى المساجد كما كانت والأوقاف
كذلك وأن لا يدخل النصارى دار مسلم ولا يغصبوا أحدا وأن لا يولي على المسلمين
نصراني أو يهودي ممن يتولى عليهم من قبل سلطانهم وأن يفتك جميع من أسر في غرناطة
حيث كانوا وخصوصا أعيانا نص عليهم ومن هرب من أسارى المسلمين ودخل غرناطة لا سبيل
عليه لمالكه ولا لغيره والسلطان يدفع ثمنه لمالكه ومن أراد الجواز إلى العدوة لا
يمنع ويجوزون في مدة عينت في مراكب السلطان لا يلزمهم إلا الكراء ثم بعد تلك المدة
يعطون عشر مالهم والكراء وأن لا يؤخذ أحد بذنب غيره وأن لا يجبر من أسلم على
الرجوع للنصارى ودينهم وأن من تنصر من المسلمين يوقف أياما حتى يظهر حاله ويحضر له
حاكم من المسلمين وآخر من النصارى فإن أبى الرجوع إلى الإسلام تمادى على ما أراد
ولا يعاتب
____________________
على من قتل نصرانيا أيام الحرب
ولا يؤخذ منه ما سلب من النصارى أيام العداوة ولا يكلف المسلم بضيافة أجناد
النصارى ولا يسفر لجهة من الجهات ولا يزيدون على المغارم المعتادة وترفع عنهم جميع
المظالم والمغارم المحدثة ولا يطلع نصراني للسور ولا يتطلع على دور المسلمين ولا
يدخل مسجدا من مساجدهم ويسير المسلم في بلاد النصارى آمنا في نفسه وماله ولا يجعل
علامة كما يجعل اليهود وأهل الدجن ولا يمنع مؤذن ولا صائم ولا مصل ولا غيره من
أمور دينه ومن ضحك منهم يعاقب ويتركون من المغارم سنين معلومة وأن يوافق على كل
الشروط صاحب رومة ويضع خط يده وأمثال هذا مما تركنا ذكره
وبعد انبرام ذلك ودخول النصارى للحمراء والمدينة جعلوا قائدا بالحمراء وحكاما
ومقدمين بالبلد ولما علم بذلك أهل البشرات دخلوا في هذا الصلح وشملهم حكمه على هذا
الوجه ثم أمر العدو ببناء ما يحتاج إليه في الحمراء وتحصينها وتجديد بناء قصورها
وإصلاح سورها وصار الطاغية يختلف إلى الحمراء نهارا ويبيت بمحلته ليلا إلى أن
اطمأن من خوف الغدر فدخل المدينة وتطوف بها وأحاط خبرا بما يرومه منها ثم أمر
سلطان المسلمين أن ينتقل لسكنى البشرات وأنها تكون له في سكناه بأندرش فانصرف
إليها وأخرج الأجناد منها ثم احتال عدو الله في نفيه لبر العدوة وأظهر أن السلطان
المذكور طلب منه ذلك ثم كتب لصاحب المرية أنه ساعة وصول كتابي هذا لا سبيل لأحد أن
يمنع مولاي أبا عبد الله من السفر حيث أراد من بر العدوة ومن وقف على هذا الكتاب
فليصرفه وليقف معه وفاء بما عهد له فانصرف السلطان أبو عبد الله في الحين بنص هذا
الكتاب وركب البحر فنزل بمليلة واستوطن فاسا وكان قبل ذلك قد طلب الجواز لناحية
مراكش فلم يسعف بذلك وحين جوازه لبر العدوة لقي شدة وغلاء وبلاء ثم إن النصارى
نكثوا العهد ونقضوا الشروط عروة عروة إلى أن آل الحال لحملهم المسلمين على التنصر
سنة أربع وتسعمائة بعد أمور وأسباب أعظمها عليهم أنهم قالوا إن القسيسين كتبوا على
جميع من أسلم من النصارى أن
____________________
يرجع مهرعا لدينه ففعلوا ذلك
وتكلم الناس ولا جهد لهم ولا قوة ثم تعدوا ذلك إلى أمر آخر وهو أن يقولوا للرجل
المسلم إن جدك كان نصرانيا فأسلم فترجع أنت نصرانيا ولما تفاحش هذا الأمر قال أهل
البيازين على الحكام فقتلوهم وهذا كان السبب الأعظم في التنصر قالوا لأن الحكم خرج
من عند السلطان أن من قام على الحاكم فليس إلا الموت إلا أن يتنصر فينجو من الموت
وبالجملة فإنهم تنصروا عن آخرهم بادية وحاضرة وامتنع قوم من التنصر واعتزلوا
النصارى فلم ينفعهم ذلك وامتنعت قرى وأماكن كذلك منها بلفيق وأندرش وغيرهما فجمع
لهم العدو الجموع واستأصلهم عن آخرهم قتلا وسبيا إلا ما كان من جبل بللنقة فإن
الله تعالى أعانهم على عدوهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة مات فيها صاحب قرطبة وأخرجوا
على الأمان إلى فاس بعيالهم وما خف من أموالهم دون الذخائر
ثم بعد هذا كله كان من أظهر التنصر من المسلمين يعبد الله في خفية ويصلي فشدد
النصارى في البحث عنهم حتى إنهم أحرقوا كثيرا منهم بسبب ذلك ومنعوهم من حمل السكين
الصغيرة فضلا عن غيرها من الحديد وقاموا في بعض الجبال على النصارى مرارا فلم يقيض
الله تعالى لهم ناصرا إلى أن كان إخراج النصارى إياهم جملة أعوام سبعة عشر وألف
بعد أن ساكنوهم بغرناطة وأعمالها نحوا من مائة وعشرين سنة كانوا فيها تحت ذمة
النصارى كما رأيت والأمر لله وحده ولما أجلاهم العدو عن جزيرة الأندلس خرجت ألوف
منهم بفاس وألوف أخر بتلمسان ووهران وخرج جمهورهم بتونس فتسلط عليهم في الطرقات
الأعراب ومن لا يخشى الله تعالى من الأوباش ونهبوا أموالهم وهذا ببلاد تلمسان وفاس
ونجا القليل من هذه المضرة وأما الذين خرجوا بنواحي تونس فسلم أكثرهم وكذلك
بتطاوين وسلا وبيجة الجزائر ولما استخدم سلطان المغرب الأقصى وهو المنصور السعدي
منهم عسكرا جرارا وسكنوا سلا كان منهم من الجهاد في البحر ما هو مشهور وحصنوا قلعة
سلا وهي رباط الفتح وبنوا بها القصور والحمامات والدور
____________________
قال أبو العباس المقري في نفح الطيب وهم الآن يعني في حدود الثلاثين وألف بهذا
الحال ووصل جماعة منهم إلى القسطنطينية العظمى وإلى مصر والشام وغيرها من بلاد
الإسلام وانقضى أمر الأندلس وعادت نصرانية كما كانت أول مرة والله وارث الأرض ومن
عليها وهو خير الوارثين
وفي السنة التي استولى الإصبنيول على غرناطة انكشفت لهم أرض ماركان التي كانت
مجهولة قبل هذا التاريخ لسائر الأمم وذلك أن الحكماء الأقدمين من اليونان وغيرهم
أجمعوا على أن شكل الأرض كرة وأن الماء قد غمر أحد جانبيها كله بحيث صارت الأرض
فيه كأنها بيضة مغرقة في طست ماء قد رسب فيه أكثرها وبرز أقلها وأجمعوا على أن هذا
البارز منها هو المسكون ببني آدم وغيرهم من الحيوانات وهو المقسم إلى سبعة أقسام
تسمى الأقاليم ولم يهتدوا إلى أن الجانب الآخر منكشف عنه الماء ولا أنه مسكون كهذا
الجانب بل جزموا بأنه ماء صرف يسمى البحر المحيط واستمر هذا الاعتقاد عندهم ونقله
الخلف عن السلف ووضعوا فيه التآليف العديدة إلى أن كانت سنة سبع وتسعين وثمانمائة
وهي السنة التي استولى فيها الإصبنيول على غرناطة وسائر الأندلس فاتفق أن ظهر في
تلك المدة رجل من فرنج جنوة اسمه كلنب بضم الكاف واللام كانت حرفته الملاحة والسفر
في البحر وكان بعيد الهمة مولعا بالشهرة مغرى بالذكر وحسن الصيت فخطر بباله أن
جانب الأرض الذي أغفل الحكماء الأولون ذكره وزعموا أنه بحر صرف ربما يكون مسكونا
كهذا الجانب
وكان جنس البرتغال في هذه المدة قد كثرت أسفارهم في البحر وملكوا عدة محال من
جزائره الخالدات فحصل لكلنب الجنويزي بعض غيرة ونفاسة منهم وأراد أن يأتي بأعظم
مما فعلوا فعزم على التلجيج في البحر المحيط والإبعاد فيه عسى أن يظفر بمراده
فتطارح على ملك البرتغال واسمه يومئذ يوحنا الثاني في أن يعينه على ما هو بصدده
ويمده بما يكون سببا في نيل مقصده فلم يلتفت إلى قوله ولا عرج على رأيه ومن قبل ما
كان أهل
____________________
جنوة يحمقونه وينسبونه إلى
التهور بمثل هذه الآراء فلما لم يجد عند ملك البرتغال مراده تطارح على ملكة
الإصبنيول وهي يومئذ إيسابيلا الشهيرة الذكر عندهم فأسعفته وهيأت له ثلاث سفائن
وشحنتها بالرجال والسلاح والزاد والمال ودفعت ذلك إليه فسافر بها كلنب في البحر
المحيط على سمت المغرب حتى أرسى ببعض الجزائر الخالدات فأراح بها أياما ثم سافر
على السمت المذكور ملججا مدة من شهرين ولما طال السفر على أصحابه الذين معه أرادوا
قتله وبينما هم في ذلك ظهرت له أرض ماركان فسار حتى أرسى بأجفانه على ساحلها في
اليوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة سبع وتسعين وثمانمائة المذكورة فعثر منها على
أرض واسعة ذات أقطار ونواحي وجبال وأنهار تفوت الحصر حتى قيل إنها تساوي نصف هذا
المسكون من الأرض أو تزيد وإذا فيها خلق كثير من بني آدم كهذه إلا أنهم لم يفقهوا
قوله ولا فقه قولهم فعاد كلنب إلى ملكة الإصبنيول بعد أن بنى هنالك حصنا وترك به
بعض الجند وساق من تلك الأرض بعض الغرائب من حيوان وغيره إثباتا لمدعاه فلما قدم
على الملكة بعد مغيبه سبعة أشهر وأحد عشر يوما أعظمت قدره ونوهت باسمه وسرت بما
أتى به من ذلك كله وعدت ذلك من سعادتها إلى ما تسنى لها من الظفر بجزيرة الأندلس
والاستيلاء عليها وتبين للفرنج حينئذ أن الأرض معمورة من كلا الجانبين لا من جانب
واحد كما اعتقده الأقدمون فحينئذ تسارعت أجناسهم إلى أرض ماركان واقتسموها واعتنوا
بعمرانها وسموها الدنيا الجديدة فكانت من أعظم الأسباب في انتعاشهم وتقويتهم
وضخامة دولهم واتساع خطط ممالكهم والأمور كلها بيد الله
ومن جملة ما كان مفقودا بأرض ماركان نوع الخيل وكذا غيرها من الحيوانات الأهلية
ولما رأوا الأدمي راكبا على الفرس مسرجا ظنوه قطعة واحدة وأن الفارس وفرسه حيوان
واحد خلق على تلك الكيفية إلى غير ذلك وأخبار أرض ماركان وكيفية العثور عليها ثم
التردد إليها واعتمارها بعد ذلك طويلة وملخصها ما ذكرناه والله تعالى الموفق بمنه
____________________
وهذا آخر النصف الأول من كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى قد شرعنا في
إملائه منتصف رجب الفرد الحرام من سنة سبع وتسعين ومائتين وألف وفرغنا منه في
منتصف ذي الحجة الحرام في السنة المذكورة ونشرع بعون الله تعالى في الجزء الثاني
منه مفتتحا بما يكون كالتوطئة لدولة بني وطاس من أخبار البرتغال على الجملة وعلى
الله تعالى الكمال بمنه وفضله أخبار البرتغال بالمغرب الأقصى على الجملة
اعلم أن هذا المغرب الأقصى حرسه الله وكلأه بعين حفظه لم يزل بجميع ثغوره وسواحله
وأقطاره منذ الفتح الإسلامي إلى المائة التاسعة محفوظا الجوانب من طروق أمم الفرنج
وغيرهم من أعداء الدين محفوف الأكتاف بالحامية من جنود المسلمين مرهوبة شوكة ملوكه
عند أمم النصرانية جيلا بعد جيل وأمة بعد أمة ودولة بعد دولة لم تكن الفرنج تحدث
نفسها بغزو شيء من بلاده أو طرق ثغر من ثغوره أو الاستيلاء على شيء من سواحله ولم
يكن أهله أيضا يتوقعون ذلك منهم ولا يخشونه بل هم الذين كانوا يغزون الفرنج في عقر
ديارهم وأعز بلادهم ويحامون عن بلاد الأندلس وسواحل إفريقية وغيرها متى هاج أهلها
هيج من ذلك حسبما تقدمت الأخبار المفصحة عن ذلك ولم يبلغنا أن جنسا من أجناس
الفرنج فيما قبل المائة التاسعة غزا شيئا من أطراف المغرب الأقصى أو ثغرا من ثغوره
بقصد الاستيلاء والتملك إلا ما كان من مدينة سلا التي دخلها الإصبنيول غدرا أيام
الفتنة بين اليعقوبين ثم خرجوا عنها لمدة يسيرة حسبما مر وإلا ما كان من محاصرة
أهل جنوة لسبتة ثم الإقلاع عنها كذلك ونحو هذا مما لا يعتبر فلما دخلت المائة
التاسعة ومضى صدرها وتداعت دول المغرب من بني أبي حفص بإفريقية وبني زيان بالمغرب
الأوسط وبني مرين بالمغرب الأقصى
____________________
وبني الأحمر بالأندلس وأشرفت
على الهرم وحدثت الفتن بين المسلمين ودامت فيهم واشتغلوا بأنفسهم دون الالتفات إلى
جهاد العدو ومطالبته في أرضه وبلاده على ما كان لهم من العادة قبل ذلك وافق ذلك
ابتداء ظهور الجلالقة وهم الإصبنيول والبرتغال وهم البرطقيز بجزيرة الأندلس
واستفحال أمرهم فكثرت أسفار البرتغال في البحر المحيط ودام تقلبهم فيه ومرنوا عليه
حتى حصلوا على عدة جزائر منه واكتشفوا بعض الرؤوس الساحلية من أرض السودان وغيرها
ثم شرهوا لتملك سواحل المغرب الأقصى فهجموا عليها وجالدوا أهلها دونها حتى تمكنوا
منها ونشبوا فيها فقويت شوكتهم وعظم ضررهم على الإسلام وطمحت نفوسهم للاستيلاء على
ما وراء ذلك حسبما تقف عليه مبينا في مواضعه إن شاء الله
فاستولوا في سنة ثمان عشرة وثمانمائة على مدينة سبتة بعد محاصرتهم لها ست سنين على
ما في بعض تواريخ الإفرنج ثم في سنة اثنتين وستين وثمانمائة استولوا على قصر
المجاز ثم استولوا في سنة تسع وستين وثمانمائة على طنجة ثم في حدود سنة ست وسبعين
وثمانمائة ملكوا آصيلا وفي هذا التاريخ نفسه أو قبله بيسير استولوا على مدينة آنفا
وبعض سواحل السوس ثم في حدود سنة سبع وتسعمائة نزلوا بأرض الجديدة فيما بين آزمور
وتيط وبنوا بها حصن البريجة وطال مقامهم بها ثم في سنة عشر وتسعمائة استولوا على
مدينة العرائش ثم بعد ذلك بيسير في حدود العشر وتسعمائة على ما تقتضيه تواريخ
الفرنج ملكوا حصن آكادير وما اتصل به من سواحل السوس الأقصى ثم ملكوا في حدود
اثنتي عشرة وتسعمائة رباط آسفي ثم عطفوا على ثغر آزمور فاستولوا عليه في سنة أربع
عشرة وتسعمائة ثم المعمورة وهي المهدية ملكوها أيضا في حدود سنة عشرين وتسعمائة
وفي هذا التاريخ نفسه رجعوا إلى مدينة آنفا بعد هدمها فبنوها وسكنوها وبالجملة فلم
يبق من ثغور المغرب الأقصى بيد المسلمين إلا القليل مثل سلا ورباط الفتح وفجئ
المسلمون من هذا البرتغال بالأمر العظيم ودهوا منه بالخطب الجسيم واستحوذ عدو الله
على بلاد الهبط وضايقهم بها حتى
____________________
انحازوا إلى الأمصار المنزوية
عن الأطراف والقرى النائية عن السواحل وكان ذلك كله فيما بين انقراض دولة بني وطاس
وظهور دولة الشرفاء السعديين ولقد ذكر في مرآة المحاسن أن قصر كتامة كان في صدر
المائة العاشرة مقصدا للتجار وسوقا تجلب إليه بضائع العدوتين وسلعها قال إذ كان
القصر المذكور ثغرا بين بلاد المسلمين وبين بلاد النصارى تحط به رحال تجار
المسلمين من آفاق المغرب وتجار الحربيين من أصيلا وطنجة وقصر المجاز وسبتة ولأنه
كان محل عناية سلطان المغرب إذ ذاك محمد الشيخ بن أبي زكرياء الوطاسي فإن القصر
قاعدة بلاد الهبط التي كانت موقد شرارة السلطان المذكور ومشب ناره وموشج عصبيته مع
مجاورته لبلاد الحرب فكان نظره مصروفا إليه واختصاصه موقوفا عليه وتقبل بنوه من
بعده مذهبه فيه اه كلامه فهذا يدلك على ما كان عليه العدو خذله الله من المضايقة
للمسلمين في ثغورهم وبلادهم ولله الأمر من قبل ومن بعد
ولما نزل بأهل المغرب الأقصى ما نزل من غلبة عدو الدين واستيلائه على ثغور
المسلمين تباروا في جهاده وقتاله وأعملوا الخيل والرجل في مقارعته ونزاله وتوفرت
دواعي الخاصة منهم والعامة على ذلك وصرفوا وجوه العزم لتحصيل الثواب فيما هنالك
فكم من رئيس قوم قام لنصرة الدين غيرة واحتسابا وكم من ولي عصر أو عالم مصر باع
نفسه من الله ورأى ذلك صوابا حتى لقد استشهد منهم أقوام وأسر آخرون وبلغ الله
تعالى جميعهم من الثواب ما يرجون فمن استشهد منهم في سبيل الله سيدي عيسى ابن
الحسن المصباحي دفين الدعداعة بأرض البروزي من بلاد طليق وأبو الحسن علي بن عثمان
الشاوي من أصحاب الشيخ أبي محمد الغزواني وأبو الفضل فرج الأندلسي ثم المكناسي
وأبو عبد الله محمد القصري المعروف بسقين قتله النصارى عند ضريح الشيخ أبي سلهام
وكان قد قصده للزيارة ففتكوا به هنالك وكل هؤلاء معدود في أولياء الله تعالى وممن
أسر منهم ثم خلصه الله الشيخ أبو محمد عبد الله بن ساسي دفين تانسيفت من أحواز
مراكش والشيخ أبو محمد عبد الله الكوش دفين جبل العرض من أحواز
____________________
فاس ووالد صاحب دوحة الناشر
وهو أبو الحسن علي بن مصباح الحسني عرف بابن عسكر والشيخ العلامة أبو العباس أحمد
ابن القاضي المكناسي أحد قضاة سلا وهو صاحب جذوة الاقتباس والمنتقى المقصور
وغيرهما من التآليف الحسان أسر وهو ذاهب إلى الحج وأبو عبد الله محمد بن أبي الفضل
التونسي المعروف بخروف نزيل فاس وشيخ الجماعة بها هؤلاء كلهم أصابه الأسر ثم خلصه
الله بعد حين وغير هؤلاء ممن لم يحضرنا ذكرهم أجزل الله ثوابهم ويسر بمنه حسابهم
ولقد ألف الناس في ذلك العصر التآليف في الحض على الجهاد والترغيب فيه وقال
الخطباء والوعاظ في ذلك فأكثروا ونظم الشعراء والأدباء فيه ونثروا فممن ألف في ذلك
الباب فأفاد الشيخ المتفنن البارع الصوفي أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم ابن
يجيش التازي قال في الدوحة وقفت له على تأليف ألفه في الحض على الجهاد في سبيل
الله فكان مما ينبغي أن يتناول باليدين ويكتب دون المداد باللجين أودعه نظما ونثرا
وممن نظم في ذلك فأجاد الشيخ الصالح المتصوف المجاهد أبو عبد الله محمد بن يحيى
البهلولي قال في الدوحة كان هذا الشيخ ممن لازم باب الجهاد وفتح له فيه وله في ذلك
أشعار وقصائد زجليات وغيرها وكان معاصرا للسلطان أبي عبد الله محمد ابن محمد الشيخ
الوطاسي المعروف بالبرتغالي فكان إذا جاءه زائرا حضه على الغزو فيساعده على ما
أراد من ذلك ولما توفي السلطان المذكور ودالت الدولة لولده السلطان أحمد وغص
بالشرفاء القائمين عليه ببلاد السوس عقد الهدنة مع النصارى المجاورين له ببلاد
الهبط وصاحبهم سلطان البرتغال فبلغ ذلك الشيخ أبا عبد الله المذكور فآلى على نفسه
أن لا يلقى السلطان المذكور ولا يمشي إليه ولا يقبل منه ما كان عينه له والده من
جزية أهل الذمة بفاس لقوته وضرورياته فمكث على ذلك إلى أن حضرته الوفاة وكان في
النزع وأصحابه دائرون به فقال له بعضهم يا سيدي أخبرك أن السلطان أمر بالغزو ونادى
به وحض الناس عليه والمسلمون في شرح لذلك وفرح ففتح الشيخ عينيه وتهلل وجهه فرحا
وحمد الله وأثنى عليه
____________________
ففاضت نفسه وهو مسرور بذلك
ولهذا الشيخ زجليات ومقطعات حسان في الحض على الجهاد منها اللامية المشهورة التي
خاطب بها السلطان أبا عبد الله المذكور ومطلعها
( قل للأمير محمد ** يا طلعة الهلال )
( لويلة في السواحل ** من أفضل الليال )
ومنها القصيدة التي مطلعها
( ظهر الرمل مرادي ** والعسكر يا كرام )
( نفسي على الجهاد ** سبلت والسلام )
ومنها القصيدة التي أولها
( قم للجهاد رعاك الله منتهجا ** نهج الرشاد إلى الأقوام لو فهموا )
( من بعد أندلس ما زلت محتدما ** لو كان يمكنني في الليل أحتزم )
إلى غير ذلك مما يطول ذكره قال صاحب الدوحة حدثني الفقيه العدل أبو العباس أحمد
الدغموري القصري قال كان الشيخ أبو عبد الله يقول ما غزونا غزوة قط إلا رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم فيها ويخبرني بجميع ما يتفق لي ولأصحابي في تلك الغزوة
وله رضي الله عنه في شأن الجهاد والرجولية حكاية ظريفة وهي أنه غز مرة غزوة إلى
الثغور الهبطية ثم قدم منها مع أصحابه فوجد زوجته فلانة بنت الشيخ أبي زكرياء يحيى
بن بكار قد توفيت وصلى الناس عليها بجامع القرويين وإمامهم الشيخ غازي ابن الشيخ
أبي عبد الله محمد بن غازي الإمام المشهور فوصل الشيخ أبو عبد الله ووجد جنازتها
على شفير القبر والناس يحاولون دفنها فقال لهم مهلا ثم تقدم وأعاد الصلاة عليها مع
أصحابه الذين قدموا معه فبادر الناس إليه بالإنكار في تكرير الصلاة في الجنازة
بالجماعة مرتين فقال لهم على البديهة صلاتكم التي صليتم عليها فاسدة لكونها بغير
إمام فقالوا له كيف ذلك يا سيدي قال لأن شرط الإمام الذكورية وهي مفقودة في صاحبكم
لأن الذي لم يتقلد سيفا في سبيل الله قط ولم يضرب به ولا عرف الحرب كما كان نبينا
صلى الله عليه وسلم ولم يتعبد بالسيرة النبوية فكيف يعد إماما ذكرا بل
____________________
إمامكم والله من جملة النساء
اه وحكى أيضا في ترجمة الشيخ أبي محمد عبد الله الورياكلي الذي قال له العلامة ابن
مرزوق وقد عزم على الرحلة إلى بلاد المشرق في طلب العلم ليس أمامك أحد أعلم منك
قال فرجع من هنالك فوجد النصارى قد تغلبوا على طنجة وآصيلا فلازم الثغور الهبطية
لأجل الرباط والجهاد في سبيل الله وبث العلم ونشره قال وكان من عادته أن يشتغل
بالتدريس في فصلي الشتاء والربيع ويخرج في الصيف والخريف فيربط في ثغور القبائل
الهبطية إلى آخر كلامه وأمثال هذا كثير ذكرنا منه هذه النبذة اليسيرة لتقف بها على
أحوال القوم وما كانوا عليه من الرغبة في الجهاد والمثابرة عليه قدس الله أرواحهم
وجعل في دار النعيم غدوهم ورواحهم
وقد آن أن نشرع في الأخبار عن دولة بني وطاس بعد أن نذكر دولة الشريف العمراني
الذي بايعه أهل فاس يوم مقتل السلطان عبد الحق بن أبي سعد رحمه الله الخبر عن دولة
الشريف أبي عبد الله الحفيد وأوليته
هذا الشريف هو أبو عبد الله محمد بن علي الإدريسي الجوطي العمراني من بيت بني
عمران فرقة من أدارسة فاس وهم واسطة عقد البيت الإدريسي وأوضحهم نسبا وأعلاهم حسبا
قال ابن خلدون ليس في المغرب فيما نعلمه من أهل البيت الكريم من يبلغ في صراحة
نسبه ووضوحه مبلغ أعقاب إدريس رضي الله عنه قال وكبراؤهم لهذا العهد بنو عمران
بفاس من ولد يحيى الجوطي بن محمد بن يحيى العدام بن القاسم بن إدريس بن إدريس وهم
نقباء أهل البيت هناك والساكنون ببيت جدهم إدريس ولهم السيادة على أهل المغرب كافة
اه والجوطي قال في المرآة نسبة إلى جوطة بجيم مضموم وواو مد وطاء مفتوحة وهاء
تأنيث وهي قرية عظيمة على نهر سبو في العدوة الجنوبية خربت ولم يبق منها إلا أثار
ولها مسيل شتوي يعرف بمخروط جوطة نزلها السيد يحيى فنسب إليها وقبره هنالك معروف
اه
____________________
بيعة السلطان أبي عبد الله
الحفيد والسبب فيها
كان بنو مرين أيام ولايتهم على المغرب يعظمون هؤلاء الأشراف الأدارسة ويوجبون حقهم
ويتقربون إلى الله تعالى برفع منزلتهم وجبر خواطرهم لما فاتهم من رتبة الخلافة
التي كانت تكون لهم بطريق الاستحقاق الشرعي فكان بنو مرين لما جبلوا عليه من
الجنوح إلى مراسم الدين وانتحالها يرون في أنفسهم كأنهم متغلبون مع وجود هؤلاء
الأشراف فلذا كانوا يخضعون لهم ويتأدبون معهم ما أمكن ولقد حكى أبو عبد الله بن
الأزرق أن الشيخ الكبير أبا عبد الله المقري كان يحضر مجلس السلطان أبا عنان ليث العلم
وكان نقيب الشرفاء بفاس إذا دخل مجلس السلطان يقوم له السلطان وجميع من في المجلس
إجلالا له إلا الشيخ المقري فإنه كان لا يقوم له فجرت بين الشريف والفقيه المذكور
معاتبة ومراجعة في حكاية مشهورة تركناها لعدم تعلق الغرض بها إذ الغرض هو الوقوف
على ما كان عليه القوم من التجلة والتعظيم لأهل هذا البيت الكريم فلما اضطربت
أحوال الدولة المرينية بفاس واجتمع رؤساء فاس إلى الفقيه أبي فارس الورياكلي في
شأن اليهوديين اللذين كانا يحتكمان في المدينة ويعتسفان أهلها أجمع رأيهم على
مبايعة هذا الشريف الحفيد وكان يومئذ على نقابة الأشراف بفاس فاستدعوه فحضر
وبايعوه في العشر الأواخر من رمضان سنة تسع وستين وثمانمائة وتم أمره وكان من قتله
للسلطان عبد الحق ما تقدم ذكره والله أعلم
____________________
فتنة الشاوية ووصولهم إلى بلاد
الغرب
قد قدمنا ما كان من أمر الشاوية وفتنتهم في أيام السلطان عبد الحق ولما كانت أيام
الحفيد هذا تزايد ضررهم واستطال شرهم فزحفوا إلى بلاد الغرب من أحواز مكناسة وفاس
وعاثوا وأفسدوا ولما تكلم أبو عبد الله محمد العربي الفاسي في مرآة المحاسن على
الشيخ عبد الوارث اليالصوتي وأنه أخذ من جماعة منهم أبو النجاء سالم الروداني
الشاوي والشيخ أبو عبد الله الصغير السهلي والشيخ أبو محمد الغزواني قال وكان
الشيخ أبو النجاء أولا يقرأ بالمدرسة العنانية فلما نزل الشاوية الغرب خرج من فاس
خائفا يترقب وذلك في أيام الحفيد اه وبلاد الغرب تطلق في عرف أهله على خصوص بسيط
أزغار وما اتصل به إلى ساحل البحر والله أعلم استيلاء البرتغال على مدينة آنفي
وآصيلا
رأيت في بعض تواريخ الفرنج أن استيلاء البرتغال على آنفي كان في حدود أربع وسبعين
وثمانمائة وأنهم هدموها وبقيت كذلك مدة تزيد على أربعين سنة ثم شرعوا في تحصينها
والبناء بها ولم يزالوا مقيمين بها إلى حدود أربع وخمسين ومائة وألف في سنة ست
وسبعين وثمانمائة استولوا على آصيلا وظفروا فيها ببيت مال الوطاسي وأسروا ولده
محمدا المدعو بالبرتغالي وابنته وزوجتيه وجماعة من الأعيان وكان الخطب عظيما وبقي
ولد الوطاسي عند البرتغال سبع سنين ثم افتكه والده بعد وكان يوم أسر صبيا صغيرا
وأما مدينة فضالة فلم يقع عليها استيلاء وإنما كانت بها كمبانية خمسة نفر من تجار
مادريد قاعدة قشتالة نزلوها بقصد التجارة بإذن سلطان الوقت وكانت سلعهم توسق وتوضع
من مرساها وبنوا بها البناء الموجود
____________________
اليوم والله تعالى أعلم خلع
السلطان أبي عبد الله الحفيد وانقراض أمره
قال في الجذوة لما قامت عامة فاس على السلطان عبد الحق وأقاموا هذا النقيب من أهل
مدينة فاس إماما استمر بها وابنه وزير له إلى سنة خمس وسبعين وثمانمائة فعزل عن
الإمامة وكان الذي خلعه أبا الحجاج يوسف بن منصور بن زيان الوطاسي وكان ذلك سبب
ذهاب الشريف المذكور إلى تونس لمدة يسيرة من خلعه وبقيت حضرة فاس الجديد في يد أخت
أبي الحجاج المذكور وهي الزهراء المدعوة بزهور مع قائده السجيري إلى أن تولى الأمر
أبو عبد الله محمد الشيخ الوطاسي والله غالب على أمره
____________________
الخبر عن دولة بني وطاس وذكر
نسبهم وأوليتهم
اعلم أن بني وطاس فرقة من بني مرين غير أنهم ليسوا من بني عبد الحق ولما دخل بنو
مرين المغرب واقتسموا أعماله حسبما تقدم كان لبني وطاس هؤلاء بلاد الريف فكانت
ضواحيها لنزولهم وأمصارها ورعاياها لجبايتهم وكان بنو الوزير منهم يسمون إلى
الرياسة ويروسون الخروج على بني عبد الحق وقد تكرر ذلك منهم حسبما مر ثم أذعنوا
إلى الطاعة وراضوا أنفسهم على الخدمة فاستعملهم بنو عبد الحق في وجوه الولايات
والأعمال واستظهروا بهم على أمور دولتهم فحسن أثرهم لديها وتعدد الوزراء منهم فيها
وذكر ابن خلدون أن بني الوزير هؤلاء يرون أن نسبهم دخيل في بني مرين وأنهم من
أعقاب يوسف بن تاشفين اللمتوني لحقوا بالبدو ونزلوا على بني وطاس ووشجت فيهم
عروقهم حتى لبسوا جلدتهم ولم يزل السرو متربعا بين أعينهم لذلك والرياسة شامخة
بأنوفهم اه ولما كانت دولة السلطان أبي عنان واستولى على بجابة عقد عليها لعمر بن
علي الوطاسي من بني الوزير هؤلاء فثار عليه أهلها واستلحموه في خبر مر التنبيه
عليه
ثم لما كانت الدولة الأولى للسلطان أبي العباس بن أبي سالم وخلص ملك مراكش
وأعمالها إلى ابن عمه الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن كان من جملة من تحيز إليه
وصار في جملته زيان بن عمر بن علي المذكور فكانت له في دولته الوجاهة الكبيرة
والمنزلة الرفيعة ثم لما فسد ما بين السلطان أبي العباس والأمير عبد الرحمن كان
زيان بن عمر في جملة النازعين إلى السلطان أبي العباس فاتصل به وصار في جملته إلى
أن حاصر السلطان أبو العباس قصبة مراكش وبها يومئذ الأمير عبد الرحمن فأبلى
____________________
زيان بن عمر في ذلك الحصار
وكان أحد الذين باشروا قتل ولدي الأمير عبد الرحمن
قال ابن خلدون وطالما كان زيان هذا يمتري ثدي نعمتهم ويجر ذيله خيلاء في جاههم
فذهب مثلا في كفران النعمة وسوء الجزاء والله لا يظلم مثقال ذرة ثم جاء بعده ابنه
أبو زكرياء يحيى بن زيان فولي الوزارة للسلطان عبد الحق كما مر ثم بعده ابنه يحيى
أيضا وهو الذي قتله السلطان عبد الحق في جماعة من عشيرته وفر أخوه أبو عبد الله
محمد الشيخ إلى الصحراء وبقي متنقلا في البلاد إلى أن كان من أمره ما نذكره الخبر
عن دولة السلطان أبي عبد الله محمد الشيخ بن أبي زكرياء الوطاسي رحمه الله
قد تقدم لنا ما كان من إيقاع السلطان عبد الحق ببني وطاس وإفلات محمد الشيخ ومحمد
الحلو من النكبة وأن الشيخ كان قد خرج للصيد فاتصل به الخبر فذهب على وجهه لا يلوي
على شيء وأن الحلو اختفى حتى إذا سكنت الهيعة تسلل ولحق بالشيخ فسارا إلى جهة
الصحراء وجعلا يترددان فيما بينها وبين البلاد الهبطية حتى ملكا آصيلا وذلك قبل
استيلاء البرتغال عليها ولما ملك الشيخ آصيلا واستفحل أمره بها تشوفت إليه الأعيان
من أهل فاس والرؤساء من أهل دولة السلطان عبد الحق وصاروا يكاتبونه ويقدمون إليه
الوسائل سرا وربما دعوه إلى القدوم على أن يبذلوا له من الطاعة والنصرة ما شاء
فاستمر الحال على ذلك إلى أن قتل عبد الحق وبويع الحفيد فحينئذ أرهف الشيخ حده
واستفرغ في المطالبة جهده إلى أن استولى على الحضرة وصفا له ملك المغرب
قال في المرآة لما بايع أهل فاس أبا عبد الله الحفيد قام محمد الشيخ الوطاسي في
آصيلا واستتبع القبائل واستفحل أمره وحاصر فاسا وقتا
____________________
بعد وقت إلى أن دخلت في طاعته
في رمضان سنة ست وسبعين وثمانمائة وخرج عنها الحفيد ودخلها محمد الشيخ المذكور في
أوائل شوال من السنة المذكورة وهو مورث الملك لبنيه بها اه وقد تقدم لنا أن الذي
خلع الشريف من الملك هو أبو الحجاج يوسف بن منصور الوطاسي وأن حضرة فاس الجديد قد
بقيت بعد ذهاب الشريف إلى تونس في يد زهور الوطاسية والقائد السجيري إلى أن قدم
السلطان محمد الشيخ والله تعالى أعلم
وقال منويل في أخبار محمد الشيخ هذا ما صورته كانت مملكة المغرب الأقصى في غاية
الاضطراب والانتكاس حتى طمع في ملكها كل من كانت توسوس له نفسه بذلك واستولى ابن
الأحمر على جميع الثغور التي كانت لبني مرين بأرض الأندلس ولم يترك لهم قيد شبر
واشرأبت أجناس الفرنج للتغلب على المغرب وفي تلك المدة كان بآصيلا محمد الشيخ
الوطاسي وكان شجاعا مقداما وأحس من نفسه بالقدرة على الاستيلاء على كرسي فاس
وتنحية الشريف عنه لا سيما مع ما كان الناس فيه من افتراق الكلمة فجمع جندا صالحها
وزحف إلى فاس فبرز إليه الشريف والتقوا بأحواز مكناسة فوقعت بينهما حرب عظيمة كانت
الكرة فيها على الوطاسي ثم جمع عسكرا آخر وزحف به إلى فاس وحاصرها نحو سنتين
والشريف فيها مع أرباب دولته وفي أثناء الحصار ورد عليه الخبر باستيلاء البرتغال
على آصيلا وعلى بيت ماله الذي كان بها وعلى حظاياه وأولاده فأفرج عن فاس ورجع
مبادرا إلى آصيلا فحاصرها ولما امتنعت عليه عقد مع البرتغال هدنة وعاد سريعا إلى
فاس فحاصرها وضيق على الشريف بها حتى خرج فارا بنفسه وأسلمها إليه فدخلها محمد ا
لشيخ وتمت بيعته وتفرغ لتدويخ القبائل التي بأحواز فاس وغيرها فدخلوا في طاعته
واغتبطوا به اه كلامه
____________________
رياسة بني راشد من شرفاء
العالم بغمارة وبناؤهم مدينة شفشاون وما يتبع ذلك
قال في نشر المثاني اختط بعض شرفاء العلم مدينة شفشاون بقصد تحصين المسلمين من
نصارى سبتة إذ كانوا بعد استيلائهم عليها يتطاولون على أهل تلك المداشر في أواخر
دولة بني وطاس
وقال في المرآة كان ابتداء اختطاط مدينة شفشاون في الجهة المعروفة عندهم بالعدوة
وهي عدوة وادي شفشاون في حدود سنة ست وسبعين وثمانمائة على يد الشريف الفقيه
الصالح الناصح المجاهد أبي الحسن بن أبي محمد المعروف بأبي جمعة العلمي واسمه
الحسن بن محمد ابن الحسن بن عثمان بن سعيد بن عبد الوهاب بن علال بن القطب أبي
محمد عبد السلام بن مشيش ومات شهيدا قبل إتمام ما شرع فيه بتدبير النصارى دمرهم
الله مع أهل النفاق إذ ذاك من أهل الخروب وقد جاءهم في سبيل الجهاد وبينما هو يتهجد
من الليل في مسجد هنالك إذ أضرموا عليه نارا فمات رضوان الله عليه وقام مقامه فيما
كان بسبيله من الجهاد والاستنفار له وتجييش الجيوش ابن عمه الأمير الجليل الفاضل
الأصيل أبو الحسن علي بن موسى بن راشد بن علي بن سعيد بن عبد الوهاب إلى آخر النسب
المتقدم فشرع في اختطاط مدينة شفشاون في العدوة الأخرى فبنى قصبتها وشيدها وأوطنها
بأهله وعشيرته وزل الناس بها فبنوا وصارت في عداد المدن إلى أن توفي سنة سبع عشرة
وتسعمائة وورثها بنوه من بعده ولم يزالوا فيها بين سلم وحرب إلى أن أخرجهم منها
الشرفاء السعديون عند استيلائهم على بلاد المغرب والله تعالى أعلم
____________________
ثورة عمرو بن سليمان السياف
ببلاد السوس وشيء من أخباره
هذا الرجل هو عمرو بن سليمان الشيظمي المغيطي المعروف بالسياف ويقال له المريدي
بضم الميم وكان ابتداء أمره أنه كان من تلامذة الشيخ أبي عبد الله محمد بن سليمان
الجزولي صاحب دلائل الخيرات نقل الثقات أنه كان يتردد إلى الشيخ المذكور أيام
حياته ويأتيه بألواح فيها كلام كثير منسوب إلى الخضر عليه السلام فلا يقول له في
ذلك شيئا غير انه أثنى عليه مرات كثيرة ثم لما مات الشيخ المذكور رحمه الله سنة
سبعين وثمانمائة ثار عمرو المذكور مظهرا الطلب بثأر الشيخ والانتقام من الذين سموه
إذ كان سمه بعض فقهاء عصره فتتبعهم حتى قتلهم ثم صار يدعو الناس إلى إقامة الصلاة
ويقاتلهم عليها فانتصر عليهم وشاع ذكره وتمكن ناموسه ثم تجاوز ذلك إلى أن صار يدعو
الناس إلى نفسه ويقتل المنكرين عليه وعلى شيخه وأصحابه وسمى أصحابه المريدين بضم
الميم قال زروق وما أحقها بالفتح وسمى المخالفين له الجاحدين ثم جعل يتفوه
بالمغيبات ويزعم أنه مأذون وربما ادعى النبوة وكان قد أخرج شلو الشيخ الجزولي من
قبره وجعله في تابوت وصار يقدمه بين يديه في حروبه كتابوت بني إسرائيل فينتصر على
من خالفه وقيل إنه لم يدفنه وإنما أخذه بعد موته فكفنه وجعله في التابوت وجمع
الجموع وقاد الجيوش وسفك الدماء واستمرت فتنة في الناس عشرين سنة
قال الشيخ زروق رحمه الله بلغني أن شيخنا الفقيه أبا عبد الله القوري ورد عليه
سؤال في شأن عمرو بن سليمان السياف فبادرت إليه كي أراه فقال لي قد خرج من يدي
فقلت له فما مقتضاه قال مقتضاه أنه يقول إن أحكام الكتاب والسنة ارتفعت ولم يبق
إلا ما يقول له قلبه قال زروق وشاع من أمره أنه يقول إنه وارث النبوة وأن له
أحكاما تخصه كما في قصة الخضر مع موسى عليهما السلام وأن الخضر حي ونبي مرسل وأنه
يلقاه ويأخذ عنه بل يدعي ذلك من هو دونه من تلامذته
____________________
وحكى بعضهم أن عمرا المذكور لما جعل شلو الشيخ في التابوت كان إذا رجع به من حربه
وضعه في روضة عنده يسميها الرباط فإذا جنه الليل أطاف الحرس بالروضة يحرسون
التابوت من السراق ويوقد عليه كل ليلة فتيلة عظيمة في مقدار الثوب مغموسة في نحو
مدين من الزيت ليقوى الضوء وينتشر ويبلغ من كل الجهات إلى مسافة بعيدة فتنكشف
الطرق عمن يأتي عليها كل ذلك مخافة أن يؤخذ منه شلو الشيخ فينتصر به عليه
ويقال إن ثورة عمرو المذكورة وفتنته كانت أثرا من آثار دعوات الشيخ الجزولي رحمه
الله فقد ذكر تلامذته كالشيخ التباع وغيره أن الشيخ الجزولي خرج عليهم من آخر
الليلة التي قتل في صبيحتها فقالوا له يا سيدي الناس يزعمون أنك الفاطمي المنتظر
فقال ما يبحثون إلا عمن يقطع رقابهم الله يسلط عليهم من يقطع رقابهم وكرر ذلك
مرارا فكانوا يرون أن أثر دعوته ظهر في عمرو السياف والله أعلم
وقتل عمرو المذكور سنة تسعين وثمانمائة واختلف فيمن قتله فقيل كان عمرو قد تزوج
زوجة الشيخ الجزولي وبنته فلما رأتا ما هو عليه من الزندقة والفساد في الأرض
قتلتاه امتعاضا للدين ترصدتاه حتى إذا نام عدتا عليه فقتلتاه ثم رمت إحداهما وهي
بنت الشيخ بنفسها من كوة هنالك في البيت الذي كانوا به فوصلت إلى الأرض سالمة ونجت
وبقيت الأخرى وهي الزوجة بالبيت فدخلوا عليها فقتلوها وقيل إنما قتلته زوجته
وربيبته وقيل غير ذلك والله أعلم
ولما هلك عمرو السياف دفن الناس الشيخ الجزولي وقيل هو دفنه بموضع يعرف بتاصروت ثم
نقل بعد إلى مراكش على ما نذكر إنشاء الله ولما ذكر الشيخ أبو العباس الصومعي في
كتابه الموضوع في مناقب الشيخ أبي يعزى قصة نقل الشيخ الجزولي إلى مراكش وأنه وجد
طريا لم يتغير بعد وفاته بنحو سبعين سنة قال وأعجب من هذا أن عمرا المغيطي السياف
زعموا أنه وجد كذلك ولعله أدركته بركة هذا الشيخ مع ما كان عليه والفضل بيد الله
اه
____________________
وفي سنة إحدى وتسعين وثمانمائة استدعى السلطان محمد الشيخ الإمام أبا عبد الله بن
غازي من مكناسة إلى فاس فولي الخطابة أولا بالمسجد الجامع من فاس الجديد ثم ولي
الإمامة والخطابة ثانيا بمسجد القرويين من فاس وصار شيخ الجماعة بها واستوطنها إلى
أن مات رحمه الله
وفي سنة خمس وتسعين وثمانمائة تحرك السلطان محمد الشيخ إلى دبدو ثم عاد إلى حضرته
وفيها أيضا في يوم الخميس السابع من ذي القعدة توفي الوزير أبو عبد الله محمد
الحلو الوطاسي ودفن بالقلة خارج باب الحبيسة
وفي سنة سبع وتسعين وثمانمائة استولت الرينة إيسابيلا صاحبة مادريد قاعدة بلاد
قشتالة على حمراء غرناطة ومحت دولة بني الأحمر من جزيرة الأندلس ولم يبق للمسلمين
بها سلطان وتفرق أهلها في بلاد المغرب وغيرها أيادي سبا وقد تقدم الخبر عن ذلك
مستوفى بناء مدينة تطاوين
قال منويل لما استولى الإصبنيول على غرناطة خرج جماعة كبيرة من أهلها إلى المغرب
فنزلوا في مرتيل قرب تطاوين ولما نزلوا به لم يقدموا شيئا على الوفادة على سلطان
فاس محمد الشيخ الوطاسي فأجل مقدمهم ورحب بهم فقالوا إن ضيافتنا عندك أن تعين لنا
موضعا نبني فيه بلدا يكننا ونحفظ فيه عيالنا من أهل الريف فأجابهم إلى مرادهم وعين
لهم مدينة تطاوين الخربة منذ تسعين سنة وولى عليهم كبيرهم أبا الحسن عليا المنظري
وكان رجلا شجاعا من كبار جند ابن الأحمر وكان قد أبلى معه في حرب غرناطة البلاء
الحسن ثم انتقل إلى المغرب كما قلنا ولما عقد له الشيخ الوطاسي على أصحابه رجع بهم
إلى تطاوين وشرع في بناء أسوار البلد القديم فجدده وبنى المسجد الجامع به واستوطنه
هو وجماعته ثم أخذ في جهاد البرتغال بسبتة وبلاد الهبط إلى أن أسر منهم ثلاثة آلاف
فاستخدمهم في إتمام ما بقي
____________________
عليه من بناء تطاوين واتصلت
الحرب بينهم وبين برتقال سبتة كاتصالها بين أهل آزمور وبرتقال الجديدة اه
وقوله إن بناء تطاوين كان عقب أخذ غرناطة مخالف لما يقول أهل تطاوين من أن تاريخ
بنائها رمز تفاحة وأن ذلك كان بإعانة الشريف أبي الحسن علي بن راشد فيظهر والله
أعلم أن أبا الحسن المنظري كان قد قدم من الأندلس قبل أخذ غرناطة بسنين يسيرة
موافق الرمز المذكور والله أعلم قدوم أبي عبد الله بن الأحمر مخلوعا على السلطان
محمد الشيخ الوطاسي رحمهما الله
لما استولى طاغية الإصبنيول على حضرة غرناطة وسائر الأندلس انتقل سلطانها أبو عبد
الله بن الأحمر إلى حضرة فاس فاستوطنها تحت كنف السلطان محمد الشيخ بعد أن خاطبه
من إنشاء وزيره أبي عبد الله محمد العربي العقيلي بقصيدة بارعة يقول في صدرها
( مولى الملوك ملوك العرب والعجم ** رعيا لما مثله يرعى من الذمم )
( بك استجرنا ونعم الجار أنت لمن ** جار الزمان عليه جور منتقم )
( حتى غدا ملكه بالرغم مستلبا ** وأفظع الخطب ما يأتي على الرغم )
( حكم من الله حتم لا مرد له ** وهل مردا لحكم منه منحتم )
وهي طويلة ثم وصلها برسالة يقول فيها بعد الحمد لله والصلاة على نبيه ما نصه
أما بعد فيا مولانا الذي أولانا من النعم ما أولانا لا حط الله لكم من العزة
أرواقا ولا أذوى لدوحة دولتكم أغصانا ولا أوراقا ولا زالت مخضرة العود مبتسمة عن
زهرات البشائر متحفة بثمرات السعود ممطورة بسحائب البركات المتداركات دون بروق ولا
رعود هذا مقام العائذ بمقامكم المتعلق بأسباب ذمامكم المرتجي لعواطف قلوبكم وعوارف
أنعامكم
____________________
المقبل الأرض تحت أقدامكم
المتلجلج اللسان عند محاولة مفاتحة كلامكم وماذا الذي يقول من وجهه خجل وفؤاد وجل
وقضيته المقضية عن التنصل والاعتذار تجل بيد أني أقول لكم ما أقول لربي واجترائي
عليه أكثر واحترامي إليه أكبر اللهم لا بريء فاعتذر ولا قوي فأنتصر لكني مستقيل
مستعتب مستغفر وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء هذا على طريق التنازل
والاتصاف بما تقتضيه الحال ممن يتحيز إلى حيز الإنصاف وأما على جهة التحقيق فأقول
ما قالته الأم ابنة الصديق والله إني لأعلم أني إن أقررت بما يقوله الناس والله
يعلم أني منه بريئة لا قول ما لم يكن ولئن أنكرت ما تقولون لا تصدقوني فأقول ما
قاله أبو يوسف فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون على أني لا أنكر عيوبي فأنا
معدن العيوب ولا أجحد ذنوبي فأنا جبل الذنوب إلى الله أشكو عجري وبجري وسقطاتي
وغلطاتي نعم كل شيء ولا ما يقوله المتقول المشنع المهول الناطق بفم الشيطان المسول
ومن أمثالهم سبني واصدق ولا تفتر ولا تخلق أفمثلي كان يفعل أمثالها ويحتمل من
الأوزار المضاعفة أحمالها ويهلك نفسه ويحبط أعمالها عياذا بالله من خسران الدين
وإيثار الجاحدين والمعتدين { قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين } وايم الله لو علمت
شعرة في فودي تميل إلى تلك الجهة لقطعتها بل لقطفت ما تحت عمامتي من هامتي وقطفتها
غير أن الرعاع في كل أوان أعداء للملك وعليه أحزاب وأعوان كان أحمق أو أجهل من أبي
ثروان أو أعقل أو أعلم من أشج بني مروان رب متهم بريء ومسربل بسربال وهو منه عري
وفي الأحاديث صحيح وسقيم ومن التراكيب المنطقية منتج وعقيم ولكن ثم ميزان عقل
تعتبر به أوزان النقل وعلى الراجح الاعتماد ثم إساغة الأحماد المتصل المتماد
وللمرجوح الإطراح ثم التزام الصراح بعد النفض من الراح وأكثر ما تسمعه الكذب وطبع
جمهور الخلق إلا من عصمه الله تعالى إليه منجذب ولقد قذفنا من الأباطيل بأحجار
ورمينا بما لا يرمى به الكفار فضلا عن الفجار وجرى من الأمر المنقول على لسان زيد
وعمرو ما
____________________
لديكم منه حفظ الجار وإذا عظم
الإلكاء فعلى تكأة التجلد والاتكاء أكثر المكثرون وجهد في تعثيرنا المتعثرون
ورمونا عن قوس واحدة ونظمونا في سلك الملاحدة أكفرا أيضا كفرا غفرا اللهم غفرا أعد
نظرا يا عبد قيس فليس الأمر على ما خيل لك ليس وهل زدنا على أن طلبنا حقنا ممن رام
محقه ومحقنا فطاردنا في سبيله عداة كانوا لنا غائظين فانفتق علينا فتق لم يمكنا له
رتق { وما كنا للغيب حافظين } وبعد فاسأل أهل الحل والعقد والتمييز والنقد فعند
جهينتهم تلقى الخبر يقينا وقد رضينا بحكمهم يوثمنا فيوبقنا أو يبرئنا فيقينا إيه
يا من اشرأب إلى ملامنا وقدح حتى في إسلامنا رويدا رويدا فقد وجدت قوة وأيدا ويحك
إنما طال لسانك علينا وامتد بالسوء إلينا لأن الزمان لنا مصغر ولك مكبر والأمر
عليك مقبل وعنا مدبر كما قاله كاتب الحجاج المتبر وعلى الجملة فهنا صرنا إلى تسليم
مقالك جدلا وذهبنا فأقررنا بالخطأ في كل ورد وصدر فلله در القائل
إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر وكأنا بمعتسف إذا وصل إلى هنا وعدم إنصافا يعلمه
الهنا قد أزور متجانفا ثم أفتر متهانفا وجعل يتمثل بقولهم إذا عيروا قالوا مقادير
قدرت وبقولهم المرء يعجزه المحال فيعارض الحق بالباطل والحالي بالعاطل وينزع بقول
القائل رب مسمع هائل وليس تحته طائل وقد فرغنا أول أمس من جوابه وتركنا الضغن يلصق
حرارة الجوى به وسنلم الآن بما يوسعه تبكيتا ويقطعه تسكيتا فنقول له ناشدناك الله
تعالى هل اتفق لك قط وعرض خروج أمر ما عن القصد منك فيه والغرض مع اجتهادك أثناءه
في إصدارك وإيرادك في وقوعه على وفق اقتراحك ومرادك أو جميع ما تزاوله بإدارتك لا
يقع إلا مطابقا لإرادتك أو كل ما تقصده وتنويه تحرزه كما تشاء وتحويه فلا بد أن
يقر اضطرارا بأن مطلوبه يشذ عنه مرارا بل كثيرا ما يفلت صيده من أشراكه ويطلبه
فيعجز عن إدراكه فنقول ومسألتنا من هذا القبيل أيها النبيه النبيل ثم نسرد له من
الأحاديث النبوية ما شئنا مما يسايرنا في غرضنا منه ويماشينا كقوله
____________________
صلى الله عليه وسلم ( كل شيء
بقضاء وقدر حتى العجز والكيس ) وقوله أيضا ( لو اجتمع أهل السموات والأرض على أن ينفعوك
بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يقضه الله
عليك لم يقدروا عليه ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم فأخلق به أن يلوذ بأكناف
الأحجام ويزم على نفث فيه كأنما الجم بلجام حينئذ نقول له والحق قد أبان وجهه
وجلاه وقهره بحجته وعلاه ( ليس لك من الأمر شيئا ) ( قل إن الأمر كله لله ) وفي
محاجة آدم وموسى ما يقطع لسان الخصم ويرخص عن أثواب أعراضنا ما عسى أن يعلق بها من
دون الوصم وكيفما كانت الحال وإن ساء الرأي والانتحال ووقعنا في أوجال وأوحال فثل
عرشنا وطويت فرشنا ونكس لوانا ومللت مثوانا فنحن أمثل من سوانا وما في الشر خيار
ويد الألطاف تكسر من صولة الأغيار فحتى الآن لم نفقد من اللطيف تعالى لطفا ولا
عدمنا أدوات أدعية تعطف بلا مهلة على جملتنا المقطوعة جمل النعم الموصولة عطفا
وإلا فتلك بغداد دار السلام ومتبوأ الإسلام المحفوف بفرسان السيوف والأقلام مثابة
الخلافة العباسية ومقر العلماء والفضلاء أولي السير الأويسية والعقول الأياسية قد
نوزلت بالجيوش ونزلت وزوزلت بالزحوف وزلزلت وتحيف جوانبها الحيف ودخلها كفار
التتار عنوة بالسيف ولا تسل إذ ذاك عن كيف أيام تجلت عروس المنية كاشفة عن ساقها
مبدية وجرت الدماء في الشوارع والطرق كالأنهار والأودية وقيد الأئمة والقضاة تحت
ظلال السيوف المنتضاة بالعمائم في رقابهم والأردية وللنجيع سيول تخوضها الخيول
فتخضبها إلى أرساغها وتهم ظماؤها بوردها فتنكل عن تجرعها ومساغها فطاح عاصمها
ومستعصمها وراح ولم يغد ظالمها ومتظلمها وخربت مساجدها وديارها واصطلم بالحسام
أشرارها وخيارها فلم يبق من جمهور أهلها عين تطرف حسبما عرفت أو حسبما تعرف فلاتك
متشككا متوقفا فحديث تلك الواقعة الشنعاء أشهر عند المؤرخين من قفا فأين تلك
الجحافل والآراء المدارة في المحافل حين أراد الله تعالى بإدالة الكفر لم تجد ولا
قلامة ظفر إذن من سلمت له نفسه
____________________
التي هي رأس ماله وعياله
وأطفاله اللذان هما من أعظم آماله وكل أوجل أو قل رياشه وأسباب معاشه الكفيلة
بانتهاضه وانتعاشه ثم وجد مع ذلك سبيلا إلى الخلاص في حال مياسرة ومساهلة دون تعصب
واعتياص بعد ما ظن كل الظن أن لا محيد ولا مناص فما أحقه حينئذ وأولاه أن يحمد
خالقه ورازقه ومولاه على ما أسداه إليه من رفده وخيره ومعافاته مما ابتلي به كثير
من غيره ويرضى بكل إيراد وإصدار تتصرف فيهما الأحكام الإلهية والأقدار فالدهر غدار
والدنيا دار مشحونة بالأكدار والقضاء لا يرد ولا يصد ولا يغالب ولا يطالب
والدائرات تدور ولا بد من نقص وكمال للبدور والعبد مطيع لا مطاع وليس يطاع إلا
المستطاع وللخالق القدير جلت قدرته في خليقته علم غيب للأذهان عن مداه انقطاع
ومالي والتكلف لما لا أحتاج إليه من هذا القول بين يدي ذي الجلالة والمجادة والفضل
والطول فله من العقل الأرجح ومن الخلق الأسجح ما لا تلتاط معه تهمتي بصفره ولا
تنفق عنده وشاية الواشي لا عد من نفره ولا فاز قدحه بظفره والمولى يعلم أن الدنيا
تلعب باللاعب وتجر براحتها إلى المتاعب وقديما للأكياس من الناس خدعت وانحرفت عن
وصالهم أعقل ما كانوا وقطعت وفعلت بهم ما فعلت بيسار الكواعب الذي جبت وجدعت ولئن
رهصت وهصرت فقد نبهت وبصرت ولئن قرعت ومعضت ولقد أرشدت ووعظت ويا ويلنا من تنكرها
لنا بمرة ورميها لنا في غمرة أي غمرة أيام قلبت لنا ظهر المجن وغيم أفقها المصمي
وأدجن فسرعان ما عاينا حبالها منبته ورأينا منها ما لم نحتسب كما تقوم الساعة بغته
فمن استعاذ من شيء فليستعذ مما صرنا إليه من الحور بعد الكور والانحطاط من النجد
إلى الغور
( فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ** إذا نحن فيهم سوقة نتنصف ) ( فتبا لدينا لا
يدوم نعيمها ** تقلب تارات بنا وتصرف )
وأبيها لقد أرهقتنا إرهاقا وجرعتنا من صاب الأوصاب كأسا دهاقا ولم نفزع إلى غير
بابكم المنيع الجناب المنفتح حين سدت الأبواب ولم نلبس
____________________
غير لباس نعمائكم وحين خلعنا
ما ألبسنا الملك من الأثواب وإلى أمه يلجأ الطفل لجأ اللهفان وعند الشدائد تمتاز السيوف
من الأجفان ووجه الله تعالى يبقى وكل من عليها فان وإلى هنا ينتهي القائل ثم يقول
حسبي هذا وكفان ولا ريب في اشتمال العلم الكريم على ما تعارفته الملوك بينها في
الحديث والقديم من الأخذ باليد عند زلة القدم وقرع الإنسان وعض البنان من الندم
دينا تدينته مع اختلاف الأديان وعادة أطردت على تعاقب الأزمان والأحيان ولقد عرض
علينا صاحب قشتالة مواضع معتبرة خير فيها وأعطى من أمانة المؤكد فيه خطه بأيمانه
ما يقنع النفوس ويكفيها فلم نر ونحن من سلالة الأحمر مجاورة الصفر ولا سوغ لنا
الإيمان الإقامة بين ظهراني الكفر ما وجدنا عن ذلك مندوحة ولو شاسعة وأمنا المطالب
المشاغب حمة شر لنا لا سعة وادكرنا أي ادكار قول الله تعالى المنكر لذلك غاية
الإنكار { ألم تكن أرض الله واسعة } وقول الرسول صلى الله عليه وسلم المبالغ في
ذلك بأبلغ الكلام ( أنا بريء من مؤمن مع كافر تتراءى ناراهما ) وقول الشاعر الحاث
على حث المطية المتثاقلة عن السير في طريق منجاتها البطية
( وما أنا والتلذذ نحو نجد ** وقد غصت تهامة بالرجال )
ووصلت أيضا من الشرق إلينا كتب كريمة المقاصد لدينا تستدعي الانحياز إلى تلك
الجنبات وتتضمن مالا مزيد عليه من الرغبات فلم نختر إلا دارنا التي كانت دار
آبائنا من قبلنا ولم نرتض الانضواء إلا لمن بحبله وصل حبلنا وبريش نبله ريش نبلنا
إدلالا على محل إخاء متوارث لا عن كلالة وامتثالا لوصاة أجداد لا نظارهم وأقدارهم
أصالة وجلالة إذ قد روينا عن سلف من أسلافنا في الإيصاء لمن يخلف بعدهم من أخلافنا
أن لا يبتغوا إذا دهمهم أمر بالحضرة المرينية بدلا ولا يجدوا عن طريقها في التوجه
إلى فريقها معدلا فاخترقنا إلى الرياض الأريضة الفجاج وركبنا إلى البحر الفرات ظهر
البحر الأجاج فلا غرو أن نرد منه على ما يقر العين ويشفي النفس الشاكية من ألم
البين ومن توصل هذا التوصل وتوسل بمثل
____________________
ذلك التوسل تطارحا على سدة
أمير المؤمنين المحارب للمحاربين والمؤمن للمستأمنين فهو الخليق الحقيق بأن يسوغ
أصفى مشاربه ويبلغ أوفى مآربه على توالي الأيام والشهور والسنين ويخلص من الثبور
إلى الحبور ويخرج من الظلمات إلى النور خروج الجنين ولعل شعاع سعادته يفيض علينا
ونفحة قبول إقباله تسري إلينا فتخامرنا أريحية تحملنا على أن نبادر لإنشاد قول
الشريف الرضي في الخليفة القادر
( عطفا أمير المؤمنين فإننا ** في دوحة العلياء لا نتفرق )
( ما بيننا يوم الفخار تفاوت ** أبدا كلانا في المعالي معرق )
( إلا الخلافة ميزتك فإنني ** أنا عاطل منها وأنت مطوق )
لا بل الأحرى بنا والأحجى والأنجح لسعينا والأرجى أن نعدل عن هذا المنهاج ويقوم
وافدنا بين يدي علاه مقام الخاضع المتواضع الضعيف المحتاج وينشد ما قال في
الشيرازي ابن حجاج
( الناس يفدونك اضطرارا ** منهم وأفديك باختياري )
( وبعضهم في جوار بعض ** وأنت حتى أموت جاري )
( فعش لخبزي وعش لمائي ** وعش لداري وأهل داري )
ونستوهب من الوهاب تعالى جلت أسماؤه وتعاظمت نعماؤه رحمة تجعل في يد الهداية
أعنتنا وعصمة تكون في مواقف المخاوف جنتنا وقبولا يعطف علينا نوافر القلوب وصنعا
يسني لنا كل مرغوب ومطلوب ونسأله وطالما بلغ السائل سؤلا ومأمولا متابا صادقا على
موضوع الندم محمولا ثم عزاء حسنا وصبرا جميلا عن أرض أورثها من شاء من عباده معقبا
لهم ومديلا وسادلا عليهم من ستور الإملاء الطويلة سدولا { سنة الله التي قد خلت من
قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } فليطر طائر الوسواس المرفرف مطيرا { كان ذلك في
الكتاب مسطورا } لم نستطع عن مورده صدورا { وكان أمر الله قدرا مقدورا } إلا وإن
لله سبحانه في مقامكم العالي الذي أيده وأعانه سرا من النصر يترجم عنه لسان من
النصل وترجع فروع البشائر الصادقة بالفتوحات المتلاحقة من قاعدته
____________________
المتأصلة إلى أصل فبمثله يجب
اللياد والعياذ ولشبهه يحق الالتجاء والارتجاء ولأمر ما آثرناه واخترناه بعد أن
استرشدنا الله سبحانه واستخرناه ومنه جل جلاله نرغب أن يخير لنا ولجميع المسلمين
ويأوب بنا من حمايته ووقايته إلى معقل منيع وجناب رفيع آمين آمين آمين ونرجو أن
يكون ربنا الذي هو في جميع الأمور حسبنا قد خار لنا حيث أرشدنا وهدانا وساقنا
توفيقه وحدانا إلى الاستجارة بملك حفي كريم وفي أعز جارا من أبي داود وأحمى أنفا
من الحارث بن عباد ويشهد بذلك الداني والقاصي والحاضر والباد إن أغاث ملهوفا فما
الأسود بن قنان يذكر وإن أنعش حشاشة هالك فما كعب بن مامة على فعله وحده يشكر
جليسه كجليس القعقاع بن شور ومذاكره كمذاكر سفيان المنتسب من الرباب إلى ثور إلى
التحلي بأمهات الفضائل التي أضدادها أمهات الرذائل وهي الثلاث الحكمة والعدل
والعفة التي تشملها الثلاثة الأقوال والأفعال والشمائل وينشأ عنها ما شئت من عزم
وحزم وعلم وحلم وتيقظ وتحفظ واتقاء وارتقاء وصول وطول وسماح نائل فبنور حلاه
المشرق يفتخر المغرب على المشرق وبمجده السامي خطره في الأخطار وبيته الذي ذكره في
النباهة والنجابة قد طار يباهي جميع ملوك الجهات والأقطار وكيف لا وهو الرفيع
المنتمي والنجار الراضع من الطهارة صفو البان الناشئ من السراوة وسط أحجار في ضئضئ
المجد وبحبوح الكرم وسرواة أسرة المملكة التي أكنافها حرم وذؤابة الشرف التي
مجادتها لم ترم من معشر أي معشر بخلوا أن وهبوا ما دون أعمارهم وجبنوا إن لم يحموا
سوى دمارهم بنو مرين وما أدراك ما بنو مرين سم العداة وآفة الجزر النازلون بكل
معترك والطيبون معاقد الأزر لهم عن الهفوات انتفاء وعندهم من السير النبوية اكتفاء
انتسبوا إلى بر بن قيس فخرجوا في البر عن القيس ما لهم القديم المعروف قد نفد في
سبيل المعروف وحديثهم الذي نقلته رجال الزحوف من طريق القنا والسيوف على الحسن من
المقاصد موقوف تحمد من صغيرهم وكبيرهم ذابلهم ولدنهم فلله آباء أنجبوهم وأمهات
ولدنهم شم
____________________
الأنوف من الطراز الأول إليهم
في الشدائد والاستناد وعليهم في الأزمات المعول ولهم في الوفاء والصفاء والاحتفاء
والعناية والحماية والرعاية الخطو الواسع والباع الأطول كأنما عناهم بقوله جرول
( أولئك قوم إن بنو أحسنوا البنا ** وإن عاهدوا وفوا وإن عقدوا شدوا )
( وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها ** وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا )
( وتعذلني أبناء سعد عليهم ** وما قلت إلا بالذي علمت سعد )
وبقول الوثيق مبناه البليغ معناه
( قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ** شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا )
يزيحون عن النزيل كل نازح قاصم وليس له منهم عائب ولا واصم فهو أحق بما قاله في
منقر قيس بن عاصم
( لا يفطنون لعيب جارهم ** وهم لحفظ جوارهم فطن )
حلاهم هذه الغريزة التي ليست باستكراه ولا جعل وأمير المؤمنين دام نصره قسيمهم
فيها حذو النعل بالنعل ثم هو عليهم وعلى من سواهم بالأوصاف الملوكية مستعل ارفض
مزنهم منه عن غيث ملث يمحو آثار اللزبة وانشق عيلهم منه عن ليث ضار منقبض على
براثنه للوثبة فقل لسكان الفلا لا تغرنكم أعدادكم وأمدادكم فلا يبالي السرحان
المواشي سواء مشي إليها النقرا أو الجفلى بل يصدمهم صدمة تحطم منهم كل عرنين ثم
يبتلع بعد أشلاءهم المعفرة ابتلاع التنين فهو هو كما عرفوه وعهدوه وألفوه وأخو
المنايا وابن جلا وطلاع الثنايا مجتمع أشده قد احتنكت سنه وبان رشده جاد مجد محتزم
بحزام الحزم مشمر عن ساعد الجد
( لا يشرب الماء إلا من قليب دم ** ولا يبيت له جار على وجل )
( أسدى القلب آدمي الروا لابس ** جلد النمر يزني العناد والنوى )
( وليس بشاري عليه دمامة ** إذا ما سعى يسعى بقوس وأسهم )
( ولكنه يسعى عليه مفاضة ** دلاص كأعيان الجراد المنظم )
فالنجاء النجاء سامعين له طائعين والوجل الوجل لاحقين به خاضعين
____________________
قبل أن تساقوا إليه مقرنين في
الأصفاد ويعيي الفداء بنفائس النفوس والأموال على الفاد حينئذ يعض ذو الجهل
والفدامة على يديه حسرة وندامة إذا رأى أبطال الجنود تحت خوافق الرايات والبنود قد
لفحتهم نار ليست بذات خمود وأخذتهم صاعقة مثل صاعقة الذين من قبلهم عاد وثمود
زعقات تؤز الكتائب أزا وهمزا محققا للخيل بعد المد المشبع للأعنة همزا وسلا للهندية
سلا وهزا للخطية هزا حتى يقول النسر للذئب هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ثق
خليفة الله بذاك في كل من رام أذى رعيتك أو أذاك فتلك عادة الله سبحانه في ذوي
الشقاق والنفاق الذين يشقون عصا المسلمين ويقطعون طريق الرفاق وينصبون حبائل البغي
والفساد في جميع النواحي والآفاق فلن يجعلهم الله عز وجل من الآمنين أنى وكيف وقد
أفسدوا وخانوا وهو سبحانه { لا يصلح عمل المفسدين } و { لا يهدي كيد الخائنين }
وها نحن قد وجهنا إلى كعبة مجدكم وجوه صلوات التقديس والتعظيم بعد ما زينا معاظفها
باستعطافكم بدر ثناء أبهى من در العقد النظيم منتظمين في سلك أوليائكم متشرفين
بخدمة عليائكم ولا فقد عزة ولا عدمها من قصد مثابتكم العزيزة وخدمها وأن المترامي
على سنائكم لجدير بحرمتكم واعتنائكم وكل ملهوف تبوأ من كنفكم حصنا حصينا عاش بقية
عمره محروسا من الضيم مصونا وقد قيل في بعض الكلام من قعدت به نكاية الأيام أقامته
إغاثة الكرام ومولانا أيده الله تعالى ولي ما يزفه إلينا من مكرمة بكر ويصنعه لنا
من صنيع حافل يخلد في صحائف حسن الذكر ويروي معنعن حديث حمده وشكره طرس عن قلم عن
بنان عن لسان عن فكر وغيره من ينام عن ذلك فيوقظ ويسترسل مع الغفلة حتى يذكر ويوعظ
وما عهد منذ وجد إلا سريعا إلى داعي الندى والتكرم بريئا من الضجر بالمطالبة
والتبرم حافظا للجار الذي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بحفظه مستفرغا وسعه في
رعيه المستمر ولحظه آخذا من حسن الثناء في جميع الأوقات والآناء بحظه
( فهو من دوحة السنا فرع عز ** ليس يحتاج مجتنيه لهز )
____________________
( كفه في الأمحال أغزر ويل ** وذراه في الجوف أمنع حرز )
( حلمه يسفر اسمه لك عنه ** فتفهم يا مدعي الفهم لغزي )
( لا تسله شيئا ولا تستلنه ** نظرة منه فيك تغني وتجزي )
( فنداه هو الفرات الذي قد ** عام فيه الأنام عوم الأوز )
( وحماه هو المنيع الذي ترجع ** عنه الخطوب مرجع عجز )
( فدعوا ذهنه يزاول قولي ** فهو أدرى بما تضمن رمزي )
( دام يحيى بكل صنع ومن ** ويعافى من كل بوس ورجز )
وكأنا به قد عمل على شاكلة جلاله من مد ظلاله وتمهيد خلاله وتلقى ورودنا بتهلله
واستهلاله وتأنيسنا بجميل قبوله وإقباله وإيرادنا على حوض كوثره المترع بزلاله
والله سبحانه يسعد مقامه العلي ويسعدنا به في حله وارتحاله ومآله وحاله ويؤيد جنده
المظفر ويؤيدنا بتأييده على نزال عدوه واستنزاله وهز الذوابل لإطفاء ذباله وهو
سبحانه وتعالى المسؤول أن يريه قرة العين في نفسه وأهله وخدامه وأمواله وأنظاره
وأعماله وكافة شؤونه وأحواله وأحق ما نصل بالسلام وأولى على المقام الجليل مقام
الخليفة المولى و صلى الله عليه وسلم صلاة وسلاما دائمين أبدا موصولين بدوام الأبد
واتصاله ضامنين لمجددهما ومرددهما صلاح فساد أعماله وبلوغ غاية آماله وذلك بمشيئة
الله تعالى وإذنه وفضله وأفضاله انتهت الرسالة وما كادت
ووصل السلطان ابن الأحمر المخلوع بعد نزوله بمليلية إلى مدينة فاس بأهله وأولاده
معتذرا عما أسلفه متلهفا على ما خلفه وبنى بفاس بعض قصور على طريق بنيان الأندلس
وتوفي بها سنة أربعين وتسعمائة ودفن بإزاء المصلى خارج باب الشريعة وخلف ذرية من
بعده قال في نشر المثاني انقرضوا ولم يبق منهم أحد وزعم منويل أنه هلك في وقعة أبي
عقبة في حرب الوطاسيين مع السعديين قال ولم يحسن هذا الرجل أن يدفع عن ملكه فدفع
عن ملك غيره
____________________
استيلاء البرتغال على ساحل
البريجه وبناؤهم مدينة الجديدة صانها الله سبحانه وتعالى بمنه
قال مؤلفه عفا الله عنه قد وقفت لبعض البرتغاليين واسمه لويز مارية على تأليف في
أخبار الجديدة من لدن بنوها إلى أن انتزعها المسلمون منهم فاقتطفت منه ما أثبته في
هذه الترجمة قال هذا المؤلف لما كانت سنة ألف وخمسمائة واثنتين مسيحية قلت
ويوافقها من تاريخ الهجرة سنة سبع وتسعمائة تقريبا بعث سلطان البرتغال واسمه منويل
من دار ملكه أشبونة عمارة في البحر للاستيلاء على بعض ثغور المغرب فألجأهم هيجان
البحر وموجه إلى ساحل البريجة فيما بين آزمور وتيط وكانت البريجة على ما يفهم من
كلامه بناء متخذا هنالك للحراسة ونحوها كان يسمى برج الشيخ ولا زال مسمى بهذا
الاسم إلى الآن فأرسى البرتغاليون على الساحل المذكور ونزلت طائفة منهم إلى البر
فتطوفوا بالبريجة وما حولها وأعجبهم المكان فعزموا على المقام به واتفق رأيهم أن
يتركوا جماعة هنالك يحفظون المحل ويرجع باقيهم إلى ملكهم يستأذنوه فيما عزموا عليه
فتركوا اثني عشر رجلا بالبريجة بعد أن حصنوها وشحنوها بما يحتاجون إليه من عدة
وقوت ونحوهما ورجع الباقون إلى الملك فأخبروه بشأنهم فأذن لهم وبعث معهم جماعة من
البنائين والعملة ليبنوا لهم ما يتحصنون به فقدموا على إخوانهم وشرعوا في إدارة
السور على قطعة من الأرض فنذر بهم أهل تلك البلاد من المسلمين وتسابقوا إليهم على
الصعب والذلول ففر النصارى إلى البريجة وتحصنوا بها وأفسد المسلمون كل ما كانوا
عملوه في تلك الأيام وأحجروهم بحصنهم ووضعوا عليهم الرصد إلى أن فتر عزمهم وأيسوا
من نجاح سعيهم فعاد جلهم أو كلهم إلى أشبونة وأعادوا الكلام على ملكهم منويل في
شأن البريجة ووصفوا له حسن البقعة وصحة هوائها ومنزلتها من البحر ومن قبائل أهل
المغرب من أهل تامسنا ودكالة وغيرهم وأنها عسى أن تكون سلما للاستيلاء
____________________
على غيرها من بلاد المغرب لا
سيما ودولة المسلمين به يومئذ قد تلاشت وملكهم قد ضعف فوقر ذلك في نفس الملك
واستأنف العزم وبعث معهم حصة من العسكر تحصل بها الكفاية وتتأتى بها المدافعة
والممانعة مع جماعة وافرة من البنائين والمهندسين وحملهم ما يحتاجون إليه من آلة
وغيرها فانتهوا إلى الموضع المذكور بعد سبع سنين من مقدمهم الأول وتحينوا غفلة أهل
البلاد وشرعوا في بناء حصن مربع على كل ربع منه برج وثيق ودأبوا في العمل ليلا
ونهارا فلم تمض مدة يسيرة حتى فرغوا منه وامتنعوا على المسلمين به وكان إنشاؤهم
لهذا الحصن على البريجة القديمة بأن جعلوها أحد أرباعه وأضافوا إليها ثلاثة أرباع
أخر وأداروا السور على الجميع واتخذوا في داخل هذا الحصن ماجلا عظيما لخزن الماء
وهو النطفية في لسان الجيل بنوه مربعا بتربيع الحصن مساحة كل ربع منه مائة وثلاثون
شبرا وجوانبه وقبوه من حجر النصف العجيب النحت المحكم الوضع والالتئام محمولا ذلك
القبو على ستة أقواس في كل ربع قال هذا المؤلف وامتلاء نحو بلكاظة من هذا الماجن
يسع عشرين بوطة من الماء ثم شيدوا على أحد أرباع هذا الحصن طريا عظيما مرتفعا جدا
ليس صادق التربيع ولا الاستدارة غير مهندس الشكل ثم بنوا في أعلاه على أحد جوانبه
بناء آخر لطيفا مستديرا صاعدا في الجويرقي إليه على مدارج لطيفة وجعلوا في أعلاه
صاريا خارجا من جوفه وناقوسا للحراسة يشرف الحارس منه على نحو خمسة وعشرين ميلا من
سائر جهاته وجميع هذه البناءات التي ذكرها المؤلف من الحصن وما معه لا زالت قائمة
العين والأثر إلى الآن إلا الطري فإنه قد اتخذ في هذه الأيام التي هي سنة سبع
وتسعين ومائتين وألف منارا للمسجد الجامع وذلك أن عامل الجديدة في هذا العصر وهو
الرئيس الفاضل أبو عبد الله محمد بن إدريس الجراري حفظه الله استأذن الخليفة وهو
السلطان الأعظم المولى الشريف أبو علي الحسن بن محمد العلوي نصره
____________________
الله في جعله منارا لكون
المنار القديم قصيرا لا يسمع الناس الأذان فأذن أعزه الله في ذلك وهذا العامل
اليوم جاد في إصلاحه والزيادة فيه وقد أشرف على التمام وكذلك استأذن هذا العامل
حضرة السلطان المذكور في إدارة جدار من داخل سور المدينة يكون سترة على منازل
أهلها وبيوتهم لأن السور المذكور كان مرتفعا على البلد بحيث يكون الصاعد عليه
متكشفا على البيوت واستأذنه في إصلاح القبة المشرفة على البحر المعروفة بقبة
الخياطين وكانت قد تلاشت وباتخاذ سجن متسع محكم عن يمين الداخل من باب المدينة
المذكورة لأنه لم يكن بها سجن معتبر فأجابه الخليفة المذكور إلى ذلك كله أدام الله
علاه وقد تم جل ذلك وعادت القبة إلى أحسن حالاتها التي كانت عليها أيام البرتغال
والله لا يضيع أجر من أحسن عملا
ولنرجع إلى موضوعنا الذي كنا فيه فنقول ثم شرع نصارى البرتغال بعد الفراغ من الحصن
المذكور في إدارة سور المدينة على أوثق وجه وأحكمه وذلك أنهم عمدوا إلى بقعة مربعة
من الأرض مساحة كل ربع منها ثلاثمائة وخمس وسبعون خطوة وجعلوا مركزها الحصن
المذكور ثم أداروا بها سورين عاديين ثخن الخارج منهما نحو خمسة عشر شبرا والداخل
على نحو الثلثين منه وبينهما فضاء مردوم بالتراب والحجارة الصغيرة فصار السوران
بذلك سورا واحد سعته خمسون شبرا وهذا في غير الربع الموالي للبحر أما هو فليس فيه
ردم وإنما هو سور واحد مصمت أضيق مما عداه يسيرا وارتفاع هذه الأسوار من داخل
البلد نحو ستين شبرا ومن خارجه نحو السبعين ثم أداروا خارج السور خندقا فسيحا
وجعلوا عمقه أربعة عشر شبرا بحيث بلغوا به الماء وإذا فاض البحر ملأ ما بين جوانبه
واتخذوا للمدينة ثلاثة أبواب أحدها للبحر وهو باب المرسى وقد سد بالبناء في هذه
السنين واثنان للبر وجعلوا أمامهما قنطرتين بالعمل الهندسي بحيث ترفعان وتوضعان
وقت الحاجة إلى ذلك فصارت المدينة بهذا كله في غاية المناعة
____________________
وكان بنو وطاس في هذه المدة أشغل من ذات النحيين مع برتقال سبتة وطنجة وسائر بلاد
الهبط فلذا تأتي لهؤلاء النصارى أن يفعلوا ما فعلوه في هذه المدة اليسيرة وجعلوا
داخل المدينة خمس حارات وسموا كل حارة باسم كبير من قدمائهم على عادتهم في ذلك
واتخذوا بها أربع كنائس واتخذوا المخازن والأهراء للاختزان وسائر المرافق ومن
جملتها هرى كان يسع ستمائة فنيكة من الحب وأوطنوها بأهلهم وعيالهم وكان فيها جماعة
من أشرافهم وذوي بيوتاتهم من أهل أشبونه وغيرها وكانوا يعدون فيها أربعة آلاف نفس
ما بين المقاتلة والعيال والذرية وكانوا يأملون الاستيلاء منها على مراكش فخيب
الله رجاءهم ثم ذكر هذا المؤلف ما كان يقع بين المسلمين ونصارى الجديدة من الحروب
والغارات مما لعلنا نشير إلى بعضه في محله إن شاء الله استيلاء البرتغال على سواحل
السوس وبناؤهم حصن فونتي قرب أكادير وما قيل في ذلك
ذكر بعض المؤرخين من الفرنج أن استيلاء البرتغال على آكادير كان في مدة ملكهم
منويل المذكور آنفا وإن ذلك كان على حين غفلة من أهل تلك البلاد
قال منويل لما علم طاغية البرتغال منويل أن مرسى آكادير جيدة لمناعتها وكثرة
تجارتها بسبب مجاورتها لقبائل السوس أراد الاستيلاء عليها وكان يظن أن ذلك لا
يتأتى له لحصانتها وكثرة القبائل المجاورين لها ثم خاطر وبعث إليها جيشا فاستولوا
عليها على حين غفلة من أهلها وحصنوها وبنوا بها دورا وبرجا جيدا وأخذوا في التجارة
بها مع أهل السوس وكثرت أرباحهم ثم لما ضعفت شوكتهم خرجوا عنها وعن آسفي وآزمور
قلت مراده بآكادير حصن فونتي القريب منه وإلا فآكادير إنما بني بعد هذا التاريخ
____________________
بكثير كما سيأتي ثم مقتضى ما
ذكره أن يكون زمان استيلائهم عليه موافقا أو قريبا لزمان استيلائهم على البريجة
ومقتضى ما نقله في النزهة عن ابن القاضي أن يكون استيلاؤهم عليه في حدود سنة خمس
وسبعين وثمانمائة فإنه لما وصف حال السلطان محمد الشيخ السعدي الآتي ذكره إن شاء
الله قال وكان له بخت عظيم في الجهاد فتح حصن النصارى بسوس بعد أن أقاموا به
اثنتين وسبعين سنة اه وكان فتحه إياه في حدود سبع وأربعين وتسعمائة والظاهر أنهم
استولوا على بعض حصون السوس في التاريخ الأول وعلى بعضها في الثاني والله أعلم وفاة
السلطان محمد الشيخ الوطاسي رحمه الله
ذكر ابن القاضي في الجذوة أن وفاة السلطان المذكور كانت سنة عشر وتسعمائة قال ومن
حملة وزرائه أخوه الناصر بن أبي زكرياء والله أعلم وولي الأمر من بعده ابنه محمد
البرتغالي على ما نذكره الخبر عن دولة السلطان محمد بن محمد الشيخ الوطاسي المعروف
بالبرتغالي رحمه الله
لما توفي السلطان محمد الشيخ بويع ابنه محمد البرتغالي في التاريخ المتقدم وكان
نصارى سبتة وطنجة وآصيلا قد استحوذوا على بلاد الهبط وضايقوا المسلمين بها حتى
ألجأوهم إلى قصر كتامة فكان هو الثغر يومئذ بين بلاد المسلمين وبلاد النصارى كما
مر وكان السلطان محمد هذا قد عني بجهادهم وترديد الغزو إليهم والإجلاب عليهم حتى
شغل بذلك عن البلاد المراكشية وسواحلها فكان ذلك سببا لظهور الدولة السعدية بها
سنة خمس عشرة وتسعمائة على ما نذكره إن شاء الله
____________________
استيلاء البرتغال على ثغر آسفي
حرسه الله
قال منويل كان البرتغال قد تشوفوا للاستيلاء على آسفي وكان أهلها فيهم شجاعة أكثر
من غيرهم من أهل الثغور فزحفوا إليها وجرى بينهم وبين أهلها قتال شديد هلك فيه عدد
كبير من البرتغال وعظم عليهم أن تمتنع منهم بلدة صغيرة ليس لها حامية سوى أهلها ثم
طاولوها بالحصار حتى قل القوت عند أهل آسفي وأشرفوا على الهلاك فحينئذ شارطوا
البرتغال وأسلموها إليهم على الأمان فاستولوا عليها وحصنوها غاية لتوقعهم كرة
المسلمين عليهم فكان كذلك فإنهم زحفوا إليهم بعد ثلاث سنين من أخذها ووقع بينهم
وبين البرتغال حرب شديدة كانت صفوف المسلمين تترادف فيها كأمواج البحر وقتل قواد
عسكر البرتغال وكبارهم ثم قدمت عليهم شكوادره من مادرة بالعسكر والزاد فقويت نفوس
البرتغال وارتحل المسلمون عنها بعد أن أشرفوا على الفتح وتبعهم البرتغال لينتهزوا
فيهم الفرصة فكر المسلمون عليهم واستلبوهم وهذا أول حصار كان على آسفي
ثم بعد سنين قلائل زحف المسلمون إليها أيضا ومعهم عدد من المدافع وقاتلوا قتالا
صعبا وزحفوا إلى السور فهدموا منه ثلمة كبير واشتد القتال عليها بما خرج عن العادة
ثم رحل المسلمون من غير فتح وأعرضوا عنها مدة لم يحدثوا أنفسهم بالقتال وعمرت آسفي
بالنصارى وانتقل إليها التجار وبنوا بها الدور وكانوا يسقون منها الحب ويحملونه في
السفن إلى بلادهم ولعل ذلك لهدنة كانت لهم مع المسلمين
ثم عادت للمسلمين بعد نحو ثلاث وعشرين سنة وقال الشيخ أبو عبد الله محمد العربي
الفاسي في مرآة المحاسن ما نصه قرأت بخط شيخنا أبي عبد الله القصار أن صاحب آسفي
أخرج الشيخ أبا عبد الله محمد بن سليمان الجزولي منها فدعا عليهم فسئل منه العفو
فقال أربعين سنة فأخذها النصارى بعدها اه وهذا يقتضي أن استيلاءهم عليها كان في
حدود
____________________
عشر وتسعمائة لأن وفاة الشيخ
الجزولي رحمه الله كانت في سنة سبعين وثمانمائة كما مر وعند الفرنج ما يقتضي أن
استيلاءهم عليها كان بعد ذلك بسنتين أو ثلاث والله أعلم زحف السلطان أبي عبد الله
البرتغالي إلى آصيلا
قال منويل لما أفضى الأمر إلى السلطان محمد بن محمد الشيخ الوطاسي أراد أن يأخذ
بثأره من البرتغال الذين أسروه لسبع سنين فزحف إلى آصيلا في حدود أربع عشرة
وتسعمائة وحاصرها وطال قتاله عليها ثم اقتحمها المسلمون عليهم اقتحاما واقتتلوا في
وسط الأزقة والأسواق يومين ثم جاء المدد إلى البرتغال من طنجة وجبل طارق فقويت
نفوسهم وخرج المسلمون عنهم لكن ما خرجوا حتى هدموها وأحرقوها ولم يتركوا لهم بها
إلا الخربات ثم جد البرتغال في إصلاحها وأقاموا بها برهة من الدهر إلى أن رجعت
للمسلمين استيلاء البرتغال على ثغر آزمور حرسه الله
قال منويل بعث طاغية البرتغال أربع عشرة وتسعمائة إلى ثغر آزمور شكوادره فيها
ألفان من العسكر وأربعمائة خيالة فدافعهم زيار الوطاسي ابن عم السلطان ونشبت مراكب
البرتغال في الساحل وتكسر جلها وعاث فيها المسلمون ورجع الباقي مفلولا ثم بعد أربع
سنين بعث إليها الطاغية منويل شكوادره فيها عشرون ألفا من العسكر وألفان وسبعمائة
خيالة فانتهوا إلى آزمور وحاصروها بحرا وزحفوا إليها من الجديدة برا ووقع حرب
شديدة بينهم وبين أهل آزمور وأهل البادية ثم انهزم المسلمون وخرجوا من باب تركه
لهم البرتغال قصدا قال لأنه يقال في المثل الفار منك في الحرب
____________________
اجعل له قنطرة من فضة يعبر
عليها
وقال في النزهة كان نزول النصارى بآزمور سنة أربع عشرة وتسعمائة قال وفي هذه السنة
بنى النصارى حجر باديس وفي أواخر المحرم منها أخذ النصارى يعني الإصبنيول مدينة
وهران ونكبوا أهلها فما منهم إلا أسير أو قتيل إلى أن أعادها الله للإسلام على يد
الأتراك في حدود العشرين ومائة وألف اه
قلت أهل آزمور يزعمون أن استيلاء البرتغال على مدينتهم كان متكررا وسيأتي ما يفهم
منه ذلك والله أعلم
ومن أخبار السلطان أبي عبد الله ما وقفت عليه في تاريخ البرتغاليين من أن السلطان
المذكور كتب لطاغيتهم منويل يطلب منه أن يتقدم بالوصاة لأصحاب قراصينه البحرية أن
لا يتعرضوا لمركبين له كان قد عزم على بعثهما إلى الجزائر ثم منها إلى تونس وكان
الطاغية لم يجبه أو أبطأ بالجواب فكرر إليه الكتاب ثانيا في القضية المذكورة وسرد
هذا المؤرخ نص الكتابين معا مترجمين بلغته وذكر أن تاريخ الأول منهما الثالث
والعشرون من جمادى سنة عشرين وتسعمائة وتاريخ الثاني الثامن والعشرون من ذي القعدة
من السنة اه استيلاء البرتغال على ثغر المعمورة حرسه الله
قال في نشر المثاني إن الذي اختط حصن المعمورة هو المهدي الشيعي على يد بعض عماله
وزعم بعض الفرنج أن المعمورة من بناء يعقوب المنصور الموحدي قال ولما كان زمن
منويل البرتغالي بلغه أن مينا المعمورة جيدة وبلادها نفاعة فبعث إليها طائفة من
جنده فوصلوا إلى ساحلها ونزلوا في البر المقابل لها وبنوا هنالك برجا لحصارها ثم
أردفهم ملكهم المذكور بعمارة تشتمل على مائتي مركب مشحونة بثمانية آلاف
____________________
من المقاتلة قال وكان خروج هذه
العمارة من مدينة أشبونة في اليوم الثالث عشر من يونيه العجمي سنة ألف وخمسمائة
وخمس عشرة مسيحية قلت يوافقها من تاريخ الهجرة تقريبا سنة إحدى وعشرين وتسعمائة
فوافت مينا المعمورة في الثالث والعشرين من يوينه المذكور وحاصروها وألحوا عليها
بالقتال أياما وبلغ الخبر بذلك إلى السلطان أبي عبد الله البرتغالي فبعث أخاه
الناصر صريخا في جيش كثيف فوصل سادس أغشت من السنة المذكورة وقاتل البرتغال قتالا
شديدا وهزمهم هزيمة قبيحة ثم كانت لهم الكرة على المسلمين فهزموهم واستولوا على
المعمورة وثبت قدمهم بها وحصنوها بالسور الموجود بها الآن واستمروا بها نحو خمس
سنين ثم استرجعها المسلمون منهم في دولة السلطان المذكور والله تعالى أعلم وفي
السنة التي استولوا على المعمورة رجعوا إلى موضع مدينة آنفي فشرعوا في بنائها ومن
يومئذ سميت الدار البيضاء وبقوا بها مدة طويلة إلى زمن السلطان المولى عبد الله بن
إسماعيل على ما زعم منويل أخبار السلطان أبي عبد الله البرتغالي مع الشيخ أبي محمد
الغزواني رضي الله عنه
أصل الشيخ أبي محمد عبد الله الغزواني دفين حومة القصور من مراكش من غزوان قبيلة
من عرب تامسنا وكان في ابتداء أمره يقرأ العلم بمدرسة الوادي من عدوة الأندلس بفاس
فحصلت له إرادة فسافر إلى مراكش ولازم الشيخ التباع وتخرج به ثم انتقل إلى بلاد
الهبط فنزل بها على قبيلة يقال لهم بنو فزنكار واجتمع عليه الناس واشتهر أمره وعظم
صيته فبلغ ذلك السلطان أبا عبد الله وكان يومئذ ببلاد الهبط قد خرج إليها بقصد
الغارة على نصارى آصيلا وكان معه في هذه الحركة الشيخ أبو عبد الله محمد بن غازي
الإمام المشهور فتوهم السلطان المذكور من أمر الشيخ الغزواني وخشي
____________________
على الدولة عاقبة أمره وأغراه
به مع ذلك الفقيه ابن عبد الكبير البادسي السفياني الأصل وكان هذا الفقيه يصحب الولاة
والعمال ويخرج في بعوثهم قاضيا فكثرت سعايته بالشيخ حتى وقر ذلك في نفس السلطان
فبعث إ ليه فحضر وأمر بالقبض عليه بالموضع المعروف بتاجناوت وجعله في سلسلة وبعث
به إلى فاس وتقدم في شأنه إلى ابن شقرون صاحب شرطته بقصبة فاس القديم وكان الشيخ
ابن غازي قد مرض في هذه الغزوة وأمر السلطان بحمله إلى منزله من فاس فلما وصل إلى
قرب عقبة المساجين اشتد به الحال وأمر أصحابه أن يريحوا به هنالك فبينما هو كذلك
إذ مر به الشيخ الغزواني في سلسلته فسأل الموكلين به أن يعوجوا به على الشيخ ابن
غازي كي يعوده ويؤدي حقه فلما وقف عليه طلب ابن غازي منه الدعاء فدعا له بخير
وانصرف فلما غاب عنه قال ابن غازي لأصحابه احفظوا وصيتي فإني راحل عنكم إلى الله
تعالى بلا شك قالوا له يا سيدي ما عندك باس فقال إن الله وعدني أن لا يقبض روحي
حتى يريني وليا من أوليائه وقد أرانيه الساعة فدلني ذلك على انقضاء الأجل فحملوه
من حينه إلى منزله فكان آخر العهد به هكذا ساق هذا الخبر صاحب الدوحة في ترجمتي
الشيخين المذكورين
وكانت وفاة ابن غازي أواخر جمادى الأولى سنة تسع عشرة وتسعمائة وقال صاحب المرآة
عن بعض شيوخه بعد أن ذكر سعاية ابن عبد الكبير بالشيخ الغزواني ما نصه فتحرك الشيخ
الغزواني لزيارة ضريح الشيخ أبي سلهام فعرض له العروسي قائد القصر الكبير وناوله
كتاب السلطان يأمره فيه بقدوم الشيخ إلى فاس دار الملك إذ ذاك فقال له الشيخ طاعة
السلطان واجبة وقال للزائرين معه بلغت النية فتوجه الشيخ إلى فاس من ذلك المكان
وكلما بات في منزل ذهبت جماعة من الذين معه فلم يصل معه إلا القليل وكان الشيخ أبو
البقاء عبد الوارث اليالصوتي إذ ذاك ساكنا بفاس
____________________
ولم يكن صحب الشيخ قبل ذلك
فلما دخل الشيخ حضرة فاس لقيه أبو البقاء المذكور فسلم عليه فشد الشيخ يده على يده
فلم يرسلها حتى عاهده على الرجوع فلما انفصل عنه اشترى خبزا وعنبا وحمل ذلك إلى
الشيخ وأصحابه فوجدهم عند القاضي أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله اليفرني
المكناسي وهو مؤلف المجالس المكناسية فوجدهم في المسجد القريب من دار القاضي
المذكور بدرب السعود فناولهم ما معه ووجد الشيخ موكلا به وأصحابه يدخلون ويخرجون
ثم دخل القاضي على الشيخ بالمسجد فقال له ما هذا الذي يذكر عنك قال أبو البقاء
فتكلمت أنا وقلت إن هذا الرجل قد نزل بلدا عظيمة المناكر وأخذت أعدد مناكرها وصار
هذا السيد ينهاهم عن ذلك فهدى الله على يده من هدى وشنئه من أبى فقام القاضي وركب
إلى دار السلطان ثم رجع إلى منزله فبات ومن الغدر ركب إلى دار السلطان أيضا ومعه
الشيخ الغزواني فلما اطمأن بهم مجلس السلطان وكان فيه صاحب تازا وهو أبو العباس
أحمد ابن الشيخ أخو السلطان المذكور سكت الجميع وتكلم كاتب السلطان وإمام صلاته
قال صاحب المرآة ولم يسم لنا فقال للشيخ ما هذا الذي يذكر عنك فقال له الشيخ أنت
لا تتكلم حتى تغتسل من جنابتك فاستشاط الكاتب غضبا فقال له أخو السلطان هؤلاء
القوم يعنون الجنابة غير ما تعنيه العامة يشير إلى ما في الحكم فقال له السلطان
ومن أين تعرف هذا فقال له من سيدي محمد بن عبد الرحيم بن يجيش ففرح السلطان بمعرفة
أخيه ذلك وقال للشيخ نحن نريد قربك وأن تكون معنا في هذه المدينة فقال له على بركة
الله فانتقل إلى فاس القديم وبنى خارج باب القليعة داخل باب الفتوح وأقام هنالك ما
شاء الله قيل سبع سنين إلى أن كانت سنة تعذر فيها المطر وأخذ الناس في استخراج
السواقي للحرث فأخرج الشيخ من وادي اللبن ساقية لم يكن
____________________
في سواقي السلطان وغيره مثلها
فبعث إليه أخوه السلطان وهو الناصر الملقب بالكديد بالكاف المعقودة والدال المشددة
على لغة العامة وقال له نحن أحق بتلك الساقية فقال له الشيخ خذها وأخذ في الرحيل
إلى مراكش ولما توجه تلقاءها أخذ خنيفه في يده وجعل يشير به من جهة فاس إلى جهة
مراكش ويقول أيا يا سلطنة إلى مراكش قال صاحب المرآة هذا حديث شيخنا أبي عبد الله
النيجي قال وآخنيف معروف وهو نوع من البرانس السود ومعنى أيا بلغة عامة المغرب
سيري معي وموضع بني فزنكار أظنه تاصروت فإن بها رسما منسوبا إليه إلى الآن وأنه
منزله الذي كان يأوي إليه وما زالت آثاره هنالك والدار التي بنى بباب القليعة هي
المتصيرة إلى تلميذه الشيخ أبي عبد الله محمد بن علي الهروي المعروف بالطالب ولعل
سنة إخراج السواقي هي سنة ست وعشرين وتسعمائة فإنه قد تعذر فيها المطر وحدث الغلاء
الكبير المؤرخ بسنة سبع وعشرين وتسعمائة وكأنه أشار إلى انتقال السلطنة عن بني
وطاس ملوك فاس إلى الشرفاء السعديين ملوك مراكش يومئذ والله أعلم نهوض السلطان أبي
عبد الله البرتغالي إلى مراكش ومحاصرته أبا العباس الأعرج السعدي بها
قد تقدم لنا أن ظهور الدولة السعدية ببلاد السوس كان في سنة خمس عشرة وتسعمائة وما
زال أمرهم في الزيادة إلى أن كانت دولة أبي العباس الأعرج منهم فاستفحل أمره وبعد
صيته وفتك بنصارى السوس فكاتبه أمراء هنتاتة أصحاب مراكش ودخلوا في طاعته فانتقل
إليها وملكها في حدود الثلاثين وتسعمائة ولما اتصل خبره بالسلطان أبي عبد الله وهو
يومئذ بفاس قامت قيامته وأقبل في جموع عديدة ومعه وزيره ابن عمه المسعود بن الناصر
كذا في النزهة والذي عند غيره أن الوزير الذي جاء معه هو الناصر
____________________
أخو السلطان المذكور ولما رأى
أبو العباس السعدي ما لا قبل له به تحصن بمراكش وشحن أسوارها بالرماة فتقدم
السلطان أبو عبد الله ونصب الأنفاض على مراكش ودام الحصار عليها أياما فيحكى أنه
قيل للشيخ أبي محمد الغزواني وكان قد استوطن مراكش يومئذ أن أهل مراكش سئموا الحصار
فركب الشيخ في جماعة من أصحابه وخرج من باب فاس المعروف اليوم بباب الخميس فوجد
رماة السلطان أبي عبد الله يرمون من علا الأسوار من أهل البلد فوقف الشيخ ينظر
فجاءت رصاصة ضربت صدره وخرقت الجبة التي عليه والتصقت بلحمه كأنها وقعت في صخرة
صماء فقبض عليها بيده وقال هذه خاتمة حربهم ثم رجع إلى منزله فوردت الأنباء على
السلطان أبي عبد الله في تلك الليلة بأن بني عمه قد قاموا عليه بفاس ونبذوا دعوته
فأصبح من الغد راحلا إلى فاس وظهر مصداق ما قال الشيخ الغزواني ولم يعد لبني وطاس
وصول بعدها إلى مراكش ولا إلى أعمالها والله تعالى أعلم ذكر وزراء السلطان أبي عبد
الله وما قيل فيهم
كان من جملة وزرائه ابن عمه المسعود بن الناصر وهو الذي زحف معه إلى مراكش على ما
في النزهة وكان من جملة وزرائه القائمين بأمره أخوه الناصر بن محمد الشيخ المعروف
عند عامة فاس بأبي علاقة وبالكديد على ما مر قال في الجذوة لقب بذلك لكثرة سفكه
الدماء وإقدامه عليه فكان يقتل الناس ويجزرهم كثيرا وكذا بمكناسة أيام وزارته بها
كذا حدث غير واحد ممن أدركه ورآه وتوفي الوزير المذكور سنة ثلاثين وتسعمائة وفاة
السلطان أبي عبد الله رحمه الله
كانت وفاة السلطان أبي عبد الله البرتغالي سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة على ما في
الجذوة ويؤخذ من النزهة أنها كانت سنة اثنتين وثلاثين بعدها والله أعلم وولي الأمر
من بعده أخوه أبو حسون بولاية عهده إليه
____________________
الخبر عن الدولة الأولى
للسلطان أبي حسون بن محمد الشيخ الوطاسي
هو أبو الحسن علي بن محمد الشيخ ابن أبي زكرياء يحيى بن زيار الوطاسي ويعرف بأبي
حسون البادسي قال في النزهة بويع بفاس سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة ثم قبض عليه
ولد أخيه أبو العباس أحمد بن محمد البرتغال وخلعه وأشهد عليه بالخلع آخر ذي الحجة
من السنة المذكورة انتهى الخبر عن دولة السلطان أبي العباس أحمد بن محمد الوطاسي
رحمه الله تعالى
هو أبو العباس أحمد بن أبي عبد الله محمد البرتغالي ابن أبي عبد الله محمد الشيخ
ابن أبي زكرياء يحيى بن زيان الوطاسي بويع يوم خلع عمه أبي حسون آخر ذي الحجة من
سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة قال ابن القاضي وقد رأيت البيعة التي كتبت له بخط
الإمام أبي محمد عبد الواحد ابن أحمد الوانشريسي من إنشائه وعليها خطوط جماعة من
فقهاء فاس كأبي العباس الحباك والفقيه أبي العباس أحمد الماواسي وغيرهما اه
قال أبو عبد الله اليفرني في النزهة وانظر ما وجه كتب البيعة لأحمد مع أن خلع أبي
حسون لم يكن لموجب والوانشريسي من أهل الورع وقال ولعله لأمر لم يظهر لنا والله
أعلم اه وقال ابن عسكر في الدوحة لما توفي السلطان أبو عبد الله البرتغالي ودالت
الدولة لولده السلطان أبي العباس أحمد وغص بالشرفاء القائمين عليه ببلاد السوس
وزوحم بهم عقد الهدنة مع النصارى المحاورين له ببلاد الهبط وصاحبهم سلطان البرتغال
فبلغ ذلك الشيخ أبا عبد الله محمد بن يحيى البهلولي وكان له رغبة في الجهاد وممن
له وصلة بالسلطان أبي عبد الله فكان إذا جاءه زائرا حضه على الغزو
____________________
فيساعده على ما أراد من ذلك
فلما بلغ الشيخ المذكور ما عقده السلطان أبو العباس من الصلح آلى على نفسه أن لا
يلقى السلطان المذكور ولا يمشي إليه ولا يقبل منه ما كان عينه له والده من جزية
أهل الذمة بفاس لقوته وقوت عياله فمكث على ذلك إلى أن حضرته الوفاة وكان في النزع
وأصحابه دائرون به فقال له بعضهم يا سيدي أخبرك أن السلطان أمر بالغزو وأمر
بالنداء به وحض الناس عليه والمسلمون في شره لذلك وفرح ففتح الشيخ عينيه وتهلل
وجهه فرحا وحمد الله وأثنى عليه ففاضت نفسه وهو مسرور بذلك اه وقعة آنماي بين
الوطاسيين والسعديين
قد تقدم لنا في خبر السلطان أبي عبد الله أنه لما حاصر مراكش وأصابت الرصاصة الشيخ
الغزواني قال هذه خاتمة حربهم ولم يعد لبني وطاس وصول إلى مراكش ولا إلى أحوازها
قال في النزهة فكان أبو العباس الأعرج يتلاقى مع أبي العباس الوطاسي بتادلا
وأحوازها قال وكانت بينهما معركة بموضع يقال له آنماي وذلك في ذي القعدة سنة خمس
وثلاثين وتسعمائة فافترقا على اصطلاح اه وآنماي موضع قرب مراكش به زاوية الشيخ أبي
العزم رحال الكوش
____________________
عقد الصلح بين السلطانين أبي
العباس الوطاسي وأبي العباس السعدي رحمهما الله تعالى
لما رأى أهل المغرب ما وقع بين السلطان أبي العباس أحمد الوطاسي صاحب فاس وأبي
العباس أحمد السعدي المعروف بالأعرج صاحب مراكش من التقاتل على الملك والتهالك
عليه وفناء الخلق بينهم دخلوا في الصلح بينهم والتراضي على قسمة البلاد وحضر لذلك
جماعة من العلماء والصلحاء منهم أبو حفص عمر الخطاب دفين جبل زرهون وأبو الرواين
المحجوب دفين مكناسة الزيتون وكان صاحب حال وجذب فجعل الناس يوصونه بالسكوت مخافة
أن يفسد عليهم أمرهم فلما دخلوا على أبي العباس الأعرج وأخيه وزيره محمد الشيخ
وتكلموا فيه جاءوا لأجله وجدوا فيهما شدة وغلظة وامتناعا من مساعدتهم على ما أرادوا
فحلف أبو حفص الخطاب لا دخلوها يعني فاسا ما دمت على وجه الأرض فما دخلوها حتى مات
بعد مدة فكان بعضهم يقول لو كان بنو وطاس يعرفون شيئا ما دفنوا أبا حفص الخطاب
يعني لتركوه في تابوت على وجه الأرض لأنه حلف لا دخلوها ما دام على وجه الأرض حكاه
صاحب ممتع الأسماع وذكر في شرح زهرة الشماريخ أن الصلح انبرم بين الطائفتين على أن
للأشراف من تادلا إلى السوس ولبني وطاس من تادلا إلى المغرب الأوسط وإن ممن حضر
الصلح المذكور قاضي الجماعة بفاس أبا الحسن علي بن هارون المطغري بالطاء المهملة
مطغرة تلمسان والإمام الشهير أبا مالك عبد الواحد بن أحمد الوانشريسي وغيرهما من
مشايخ فاس ويذكر أنه لما تواطأت كلمة الحاضرين على الصلح وعقدوا شروطه وهدأت
الأصوات وسكن اللجاج أتى بدواة وقرطاس ليكتب الصلح فما وضعت الدواة بين يدي أحد
الفقهاء الحاضرين إلا وجم وانقبض ودفعها عن نفسه استحياء في ذلك المحفل أن يكتب ما
لا يناسب الجهتين فقام قاضي الجماعة المذكور وأخذ الدواة وأساودها ووضعها بين يدي
أبي مالك
____________________
المذكور فأنشأ أبو مالك في
الحين خطبة بليغة ونسج الصلح على منوال عجيب واخترع أسلوبا غريبا تحير فيه
الحاضرون وعجبوا من ثبات جأشه وجموم قريحته في مثل ذلك المشهد العظيم الذي تخرس
فيه ألسن الفصحاء هيبة وإكبارا فقام قاضي الجماعة وقبله بين عينيه وقال جزاك الله
عن المسلمين خيرا وما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر وكان ذلك كله في حدود أربعين
وتسعمائة اه غزوة الحمر قرب آصيلا حرسها الله
ذكر صاحب الدوحة في ترجمة الشيخ أبي الحسن علي بن عثمان الشاوي رحمه الله أنه
استشهد في وقعة الحمر التي كانت في حدود أربعين وتسعمائة بين النصارى والقائد عبد
الواحد بن طلحة العروسي على مقربة من آصيلا قال حدثني غير واحد ممن يوثق به ممن
حضر الوقعة وبعضهم يصدق بعضا قالوا لما انهزم الناس استقبل الشيخ أبو الحسن
النصارى وسيفه في يده وهو يتلو بردة البوصيري فكان ذلك آخر العهد به ولما رجع
الناس من الغد ليحملوا قتلاهم لم يوقف له على عين ولا أثر وإنما وجد غنباز من
لباسه عند النصارى وفيه أثر طعنة في صدره اه كلام الدوحة
وفي المرآة أن الشيخ المذكور مات في حياة شيخه الغزواني شهيدا في الجهاد سنة خمس
وعشرين وتسعمائة اه ولعله الصواب
والعروسي المذكور هو من أمراء بني عبد الحميد العروسيين أصحاب قصر كتامة وكانت لهم
رياسة وسياسة وجهاد في العدو إلى أن انقرض أمرهم أعوام الخمسين وتسعمائة
قال في الدوحة أخبر غير واحد من فقهاء قصر كتامة أن الشيخ أبا الرواين جاء إلى
القصر وصاحبه يومئذ القائد عبد الواحد العروسي في عصبة من أقاربه أولاد عبد الحميد
فصعد أبو الرواين صومعة المسجد ثم نادى بأعلى صوته يا بني عبد الحميد اشتروا مني
القصر وإلا خرجتم منه
____________________
في هذه السنة فسمع القائد عبد
الواحد ذلك فقال إن كان القصر له أو بيده فلينزعه منا ما بقي لنا إلا كلام الحمقى
نلتفت إليه ومن الغد خرج الشيخ أبو الرواين من البلد وهو يقول القائد عبد الواحد
وأهله يخرجون من القصر ولا يعودون إليه أبدا فكان كذلك بقدرة الله تعالى وقعة أبي
عقبة بوادي العبيد وما كان فيها بين الوطاسيين والسعديين من القتال الشديد
هذه الوقعة من أعظم الوقعات التي كانت تكون بين الوطاسيين والسعديين وما زالت
العامة تتحدث بها في أنديتها إلى الآن ويبالغون في وصفها والأخبار عنها وقد ذكرها
شعراؤهم في أزجالهم الملحونة وهي محفوظة فيما بينهم وذلك أنه لما طمى عباب
السعديين على بلاد الحوز وكادوا يلجون على الوطاسيين دار ملكهم من فاس نهض إليهم
السلطان أبو العباس الوطاسي أواخر سنة اثنتين وأربعين وتسعمائة يجر الشوك والمدر
في جمع كثيف من الجند وقبائل العرب في حللها وظعنها وجاء أبو العباس السعدي في
قبائل الحوز بحللها وظعنها كذلك فكان اللقاء بمشروع أبي عقبة أحد مشارع وادي
العبيد من تادلا فنشبت الحرب وتقاتل الناس وبرز أهل الحفائظ منهم والتراث وقاتل
الناس على حرمهم وأحسابهم وعزهم فأفنى بعضهم بعضا إلا قليلا ودامت الحرب أياما على
ما قيل إلى أن كانت الهزيمة على الوطاسيين عشية يوم الجمعة ثامن صفر سنة ثلاث
وأربعين وتسعمائة قال في الجذوة فرجع السلطان أبو العباس الوطاسي إلى فاس وبقيت
محلته وقصبة تادلا بين الشريف السعيد قال وتسمى هذه السنة سنة أبي عقبة
وقال في المرآة ومما اشتهر من كرامات الشيخ أبي طلحة محمد المصباحي الشاوي الزناتي
أنه لما التقى مقاتلة فاس وسلطانهم أبو العباس أحمد الوطاسي ومقاتلة مراكش
وسلطانهم أبو العباس أحمد الأعرج ومعه
____________________
أخوه المتولي بعده أبو عبد
الله محمد الشيخ سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة على مشرع أبي عقبة من وادي العبيد
انهزم السلطان أبو العباس الوطاسي وتفرقت جموعه وتبعته الخيل فكادوا يقبضون عليه
فحضر هنالك رجل على فرس أنثى فجعل يحول بينه وبينهم ويقول له سر يا أحمد ولا تخف
ولم يزل معه إلى أن رجعوا عنه وأمن الطلب وقد عرف السلطان صفته وتحققها ولم يزل
يسأل عن صاحب تلك الصفة حتى قيل له هذه صفة أبي طلحة المصباحي وتحقق ذلك ولما كان
خروج السلطان المذكور الذي وصل فيه تطاوين وتزوج بها الحرة بنت الأمير السيد أبي
الحسن علي بن موسى ابن راشد الشريف وذلك في ربيع الأول سنة ثمان وأربعين وتسعمائة
وبتطاوين بنى بها وقصد أبا طلحة المذكور ونزل عليه فلما رآه عرفه وأيقن أنه الرجل
الذي أغاثه فأكب عليه السلطان وذكر ما وقع له معه فقال الشيخ يا رب كيف العيش مع
هذه الشهرة فاقبضني إليك فمات عقب ذلك من سنته قال في المرآة سمعت هذه الحكاية من
غير واحد وسألت شيخنا أبا القاسم بن أبي طلحة المذكور فقال لي أعقل مجيء السلطان
وأنا صغير جدا أقعد في حجر أبي وعند ركبته اه قلت والأمير أبو الحسن بن راشد
المذكور هو الذي اختط مدينة شفشاون كما مر وذكر في المرآة أن وفاته كانت سنة سبع
عشرة وتسعمائة فيكون السلطان المذكور إنما تزوج ابنته بعد وفاته ولعله خطبها من
أخيها الأمير أبي عبد الله محمد بن أبي الحسن والله أعلم
واعلم أن ما سلكناه هنا من تقديم قضية الصلح على وقعة أبي عقبة هو ما يقتضيه
التاريخ الذي صرحوا به وسيأتي بعد هذا ما ربما يفهم منه أن الأمر بالعكس والجواب
أن قضية الصلح تكررت حسبما يؤخذ مما مر والله أعلم وفي هذه السنة أيضا عقد السلطان
أبو العباس الوطاسي مع برتقال آسفي صلحا على ثلاث سنين ودخل في هذا العقد آسفي
والجديدة وآزمور وكتب البرتغال بذلك إلى ملكهم ووقعت المحادة في البلاد وتفرغ
الوطاسي لقتال السعديين
____________________
بناء السلطان أبي العباس
الوطاسي قنطرة الرصيف بفاس حرسها الله
كان السلطان أبو العباس أحمد الوطاسي قد جدد بناء قنطرة الرصيف بحضرة فاس وذلك
منتصف سنة إحدى وخمسين وتسعمائة وفي ذلك يقول الفقيه أبو مالك عبد الواحد بن أحمد
الوانشريسي مشيرا إلى التاريخ المذكور
( جسر الرصيف أبو العباس جدده ** فخر السلاطين من أبناء وطاس )
( فجاء في غاية الإتقان مرتفقا ** لمن يمر به من عدوتي فاس )
( وكان تجديده في نصف عام غنا ** من هجرة المصطفى المبعوث للناس )
وقال الفقيه أبو مالك أيضا
( أيا أهل فاس سدد الله سدكم ** برأي أبي العباس حامي حمى فاس )
( وأحيى به أشجاركم وثماركم ** على رغم قوم منكرين من الناس )
( فدام ودام السعد يخدم مجده ** وفاز من الشكر الجميل بأجناس )
وقال الشيخ أبو زكرياء يحيى السراج
( ألا سدد الله رأي الذي ** بتسديده سديدا حصينا )
( وخلد في عزه ملكه ** وأولاه فتحا ونصرا مبينا )
( إمام الهدى أحمد المرتضى ** مبيد العدا عدة المسلمينا )
وقال الإمام أبو الحسن علي بن هارون
( لقد سدد الله رأي العماد ** وأبطل في السد رأي الجهول )
( وقرب ما رامه من بعاد ** بمولاي أحمد مدحي يطول )
( فطردا وعكسا لساني يناد ** عقول الملوك ملوك العقول )
____________________
وقعة وادي درنة بتادلا وأسر
الأمير أبي زكرياء الوطاسي ومهلكه رحمه الله
ذكر في المرآة عند الكلام على أبي عبد الله محمد بن يوسف الفاسي وهو والد الشيخ
أبي المحاسن رضي الله عنه أن أبا عبد الله المذكور كانت له وجاهة كبيرة عند أمير
القصر أبي زكرياء يحيى بن أبي عبد الله البرتغالي وهو يومئذ أخو السلطان أبي
العباس الوطاسي قال فانتفع بوجاهة أبي عبد الله الفاسي خلق كثير ولم يسامح هو نفسه
في نيل شيء من الدنيا بسبب ذلك الجاه إلى أن أسر الأمير أبو زكرياء المذكور في
وقعة وادي درنة من تادلا للشرفاء على بني وطاس في رجب سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة
ومات في تلك الليالي القريبة غما وأسفا رحمه الله قلت وكان سلطان السعديين يومئذ
محمد الشيخ الملقب بالمهدي فإنه تغلب على أخيه الأعرج وانتزع منه الملك وسجنه كما
يأتي إن شاء الله تعالى استيلاء السلطان محمد الشيخ السعدي على فاس وقبضه على بني
وطاس ومهلك سلطانهم أبي العباس رحمه الله تعالى بفضله
لما غلب السلطان محمد الشيخ السعدي على أخيه أبي العباس الأعرج واستولى على مراكش
طمحت نفسه للتوغل في بلاد الغرب وقراه فتفرغ لحرب بني وطاس ونكث ما كان بينه
وبينهم من الصلح ورموا منه بحجر الأرض وردد إليهم البعوث والسرايا وأكثر فيهم من
شن الغارات وصار يستلبهم البلاد شيئا فشيئا إلى أن استولى عليها وكان أول ما ملك
من أمصار الغرب مكناسة الزيتون افتتحها عقب سنة خمس وخمسين وتسعمائة بعد حصار
ومقاتلة ثم تقدم إلى فاس فألح عليها بالقتال وضايقها بالحصار مدة قريبة من السنة
ثم استولى عليها بعد أن أسر سلطانها أبا العباس الوطاسي وصار في قبضته وكان دخوله
إياها أوائل سنة ست وخمسين وتسعمائة ولما
____________________
4 دخلها تقبض على الوطاسيين
أجمع وبعث بهم مصفدين إلى مراكش عدا أبا حسون المخلوع فإنه فر إلى الجزائر إلى أن
كان من أمره ما نذكره ثم إن الشيخ السعدي غدر ببني وطاس فيما قيل بعد أن أظهر
العفو عنهم وسرح سلطانهم أبا العباس من ثقافة والله أعلم وفي الجذوة كانت وفاة
السلطان أبي العباس الوطاسي بمراكش قرب سنة الستين وتسعمائة اه
وزعم منويل أنه قتل مذبوحا بدرعة قال زحف أبو عبد الله محمد الشيخ السعدي إلى فاس
فبرز إليه أبو حسون الوطاسي وكان قائد جيش ابن أخيه ووقع بينهما قتال عظيم انهزم
فيه أبو حسون إلى فاس وحاصره السعدي بها سنتين ولما قلت الأقوات وعجز الوطاسيون عن
الدفاع نزلوا على حكم السعدي فقبض على أبي العباس الوطاسي وفر أبو حسون إلى
الجزائر واستقل محمد الشيخ السعدي بأمر المغرب وغرب الوطاسيين إلى درعة فقتل أبا
العباس الوطاسي الذي كان تلميذا له ذبحا اه كلامه بقية أخبار السلطان أبي العباس
الوطاسي وسيرته
كان من جملة وزراء السلطان أبي العباس المذكور ابنه محمد ومن أخباره ما ذكره في
الدوحة في ترجمة الشيخ أبي عثمان سعيد بن أبي بكر المشترائي دفين مكناسة الزيتون
قال من كراماته الشائعة ما اتفق له مع الوزير أبي عبد الله محمد بن السلطان أبي
العباس أحمد الوطاسي لما استوزره أبوه وولاه على مكناسة فكان بها فغضب ذات يوم على
أحد المشاورية فهرب المشاوري إلى زاوية الشيخ أبي عثمان فبعث الوزير إلى الشيخ بأن
عليه الأمان ويبعثه إليه فقال له الشيخ إن شئت أن تذهب إلى سيدك فافعل فقال
المشاوري يا سيدي أخاف أن يقتلني فقال الشيخ إن قتلك فالله يقتله فذهب المشاوري
إلى الوزير وبقي عنده ليلتين وفي الثالثة قتله ولم يظهر له فجاءت أمه إلى الشيخ
وقالت يا سيدي إن ولدي قد
____________________
قتله الوزير فقال لها سبق ذلك
في علم الله وإن الآخر سيلحقه الآن يعني الوزير فوعك الوزير تلك الليلة وسلط عليه
آكال في جسمه فتمزق لحمه وتقطع شيئا فشيئا إلى أن هلك لليال قلائل من مرضه فاعتبر
الناس والسلطان بذلك ومن ذلك الوقت زاد الأمراء وغيرهم في احترام حرم زاوية الشيخ
المذكور اه
وكان للسلطان أبي العباس اعتقاد في المتصلحين وأرباب الأحوال فمن فوقهم من أهل
العلم والدين من ذلك ما حكاه في الدوحة أيضا في ترجمة أبي الحسن علي الصنهاجي
المعروف بالدوار قال كان أبو الحسن المذكور من الملامتية وكان يدخل دور الملوك من
بني وطاس فيتلقاه النساء والصبيان يقبلون يديه وقدميه فلا يلتفت إلى أحد ويعطونه
الثياب الرفيعة والذخائر النفيسة ويلبسه السلطان يعني أبا العباس من أشرف لباسه
فإذا خرج تصدق بجميع ذلك ويمر على حوانيت الزياتين فيغمس أكمام الحلة التي تكون
عليه ويبرقعها بالزيت أو بالسمن ولا يزال يدور في الأماكن ويصرخ باسم الجلالة اه
قالوا وكان السلطان أبو العباس المذكور واقفا عند إشارة الفقيه أبي مالك عبد
الواحد بن أحمد الوانشريسي وهو ابن صاحب المعيار لا يتعدى أمره ولا يخالف رأيه كما
وقع له في مسألة رجل إسلامي يعرف بعبد الرحمن المنجور وكان تاجرا جامعا للمال فشهد
عليه في حكاية طويلة أربعون رجلا من العدول باستغراق ذمته فأخذه السلطان أبو
العباس الوطاسي وقتله وصير أملاكه لبيت مال المسلمين فرغب أولاد المنجور من
السلطان أن يؤدوا له عشرين ألف دينار ويرد إليهم أملاكهم ويسقط عنهم بينة
الاستغراق فقال السلطان لحاجبه اذهب إلى الشيخ عبد الواحد الوانشريسي وشاوره في
ذلك وعرفه بأني في الحاجة إلى هذا المال لأجل هذه الحركة التي عرضت لي فذهب الحاجب
إليه وأخبره بمقالة السلطان ورغبته في قبول ذلك فقال الشيخ
____________________
والله لا ألقى الله بشهادة
أربعين رجلا من عدول المسلمين لأجل سلطانك اذهب وقل له إني لا أوافق على ذلك ولا
أرضاه فرجع الحاجب إلى السلطان وأخبره بما قال الشيخ فرجع السلطان عما عزم إليه
ونظير هذا ما اتفق له معه أيضا وهو أن الناس خرجوا يوم العيد للصلاة فانتظروا
السلطان فأبطأ عليهم ولم يأت إلى خروج وقت الصلاة وحينئذ أقبل السلطان أبو العباس
في أبهته فلما انتهى إلى المصلى نظر الشيخ أبو مالك فرأى أن الوقت قد فات فرقي
المنبر وقال معشر المسلمين أعظم الله أجركم في صلاة العيد فقد عادت ظهرا ثم أمر
المؤذن فأذن وأقام الصلاة فتقدم الشيخ أبو مالك وصلى الناس الظهر فخجل السلطان أبو
العباس واعترف بخطيئته رحم الله الجميع الخبر عن الدولة الثانية للسلطان أبي حسون
الوطاسي رحمه الله
لما دخل السلطان أبو عبد الله محمد الشيخ السعدي إلى فاس سنة ست وخمسين وتسعمائة
وقبض على بني وطاس بها حسبما تقدم فر أبو حسون هذا إلى ثغر الجزائر حقنا لدمه
ومستجيشا لتركها ومستجيشا على السعدي وكان الترك قد استولوا على المغرب الأوسط
وانتزعوه من يد بني زيان كما سيأتي
____________________
فلم يزل أبو حسون عندهم يفتل
لهم في الغارات والسنام ويحسن لهم بلاد المغرب الأقصى ويعظمها في أعينهم ويقول إن
المتغلب عليها قد سلبني ملكي وملك آبائي وغلبني على تراث أجدادي فلو ذهبتم معي
لقتاله لكنا نرجو الله تعالى أن يتيح لنا النصر عليه ويرزقنا الظفر به ولا تعدمون
أنتم مع ذلك منفعة من ملء أيديكم غنائم وذخائر ووعدهم بمال جزيل فأجابوه إلى ما
طلب وأقبلوا معه في جيش كثيف تحت راية باشاهم صالح التركماني المعروف بصالح رئيس
إلى أن اقتحموا حضرة فاس بعد حروب عظيمة ومعارك شديدة وفر عنها محمد الشيخ السعدي
إلى منجاته
وكان دخول السلطان أبي حسون إلى فاس ثالث صفر سنة إحدى وستين وتسعمائة ولما دخلها
فرح به أهلها فرحا شديدا وترجل هو عن فرسه وصار يعانق الناس كبيرا وصغيرا شريفا
ووضيعا ويبكي على ما دهمه وأهل بيته من أمر السعديين واستبشر الناس بمقدمه وتيمنوا
بطلعته وقبض على كبير فاس يومئذ القائد أبي عبد الله محمد بن راشد الشريف الإدريسي
واطمأنت به الدار ثم لم يلبث السلطان أبو حسون إلا يسيرا حتى كثرت شكاية الناس
إليه بالترك وأنهم مدوا أيديهم إلى الحريم وعاثوا في البلاد فبادر بدفع ما اتفق
معهم عليه من المال وأخرجهم عن فاس وتخلف بها منهم نفر يسير
____________________
مجيء السلطان محمد الشيخ
السعدي إلى فاس واستيلاؤه عليها ومقتل السلطان أبي حسون رحمه الله
لما فر السلطان محمد الشيخ السعدي من وقعة الأتراك بفاس وصل إلى مراكش فاستقر بها
وصرف عزمه لقتال أبي حسون فأخذ في استنفار القبائل وانتخاب الأبطال وتعبية العساكر
والأجناد فاجتمع له من ذلك ما اشتد به أزره وقوي به عضده ثم نهض بهم إلى فاس فخرج
إليه السلطان أبو حسون في رماة فاس وما انضاف إليهم من جيش العرب فكانت الهزيمة
على أبي حسون فرجع إلى فاس وتحصن بها فتقدم الشيخ السعدي وحاصره إلى أن ظفر به في
وقعة كانت بينهما بالموضع المعروف بمسلمة فقتله واستولى على حضرة فاس وصفا له
أمرها وكان استيلاؤه عليها يوم السبت الرابع والعشرين من شوال سنة إحدى وستين
وتسعمائة على الصواب خلاف ما وقع في الدوحة والله أعلم وبمقتل السلطان أبي حسون
رحمه الله انقرضت الدولة المرينية بالمغرب والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير
الوارثين
وبقي علينا الإلماع بأواخر دولة بني زيان ملوك تلمسان وكيف كان انقراض أمرهم فلنشر
إلى ذلك فنقول كانت دولة بني زيان على ما علمت من الاضطراب سائر أيام بني مرين
وكان منهم في صدر المائة التاسعة السلطان الواثق بالله من أمثل ملوكهم وغلبهم على
تلمسان في تلك المدة السلطان أبو فارس عبد العزيز بن أحمد الحفصي فأخذوا بطاعته ثم
بعد موته سنة سبع وثلاثين وثمانمائة اعتزوا بعض الشيء إلى أن كانت دولة السلطان
أبي عمرو عثمان بن محمد الحفصي فغزا تلمسان أعوام السبعين وثمانمائة مرتين وفي
الثانية هدم أسوارها وعزم على استئصال أهلها إلى أن تشفع إليه علماؤها وصلحاؤها
فعفا عنهم وكان الباعث له على غزوها أولا ما بلغه من أن الأمير محمد بن محمد بن
أبي ثابت استولى عليها ففعل ما فعل وصاهرهم ببعض حفدته
وقال صاحب بدائع السلك شاهدت بتلمسان وبعض أعمالها تصريح
____________________
الخطيب باسم السلطان أبي عمرو
عثمان صاحب تونس مقدما في الذكر على اسم صاحب تلمسان أبي عبد الله من أعقاب بني
زيان لما بينهما من الشرط في ذلك وبقيت حال بني زيان متماسكة إلى أن ظهر جنس
الإصبنيول في صدر المائة العاشرة بعد ما تم له ملك الأندلس وعظمت شوكته فطمح
للتغلب على ثغور المغربين الأدنى والأوسط فاستولى على بجاية سنة عشر وتسعمائة ثم
على وهران سنة أربع عشرة وتسعمائة وفعل بأهلها الأفاعيل ثم سما لتملك الجزائر وشره
لالتهامها وضايق المسلمين في ثغورهم وضعف بنو زيان عن مقاومته وكان الشيخ الفقيه
الصالح أبو العباس أحمد ابن القاضي الزواوي ممن له الشهرة والوجاهة الكبيرة في
بسائط المغرب الأوسط وجباله وكانت دولة العثامنة من الترك في هذه المدة قد زخر
عبابهم وملكت أكثر المسكونة وظهر من قواد عساكرهم البحرية قائدان عظيمان وهما خير
الدين باشا وأخوه عروج باشا وكانا قد تابعا الغزو على بلاد الكفر برا وبحرا وأوقعا
بأهل دول الأوروبا وقائع شهيرة وصار لهم ذكر في أقطار البلاد وتمكن ناموسهم من
قلوب العباد فكاتبهم الفقيه أبو العباس المذكور وعرفهم بما المسلمون فيه من مضايقة
العدو الكافر وقال إن بلادنا بقيت لك أو لأخيك أو للذئب فأقبل الترك نحوه مسرعين
واستولى عروج على ثغر الجزائر بعد ما كاد العدو يملكه فتخلصه منه ثم استولى على
تلمسان وغلب بني زيان على أمرهم وذلك سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة على ما في النزهة
ثم إن أهل تلمسان أنكروا سيرة الترك وسئموا ملكتهم ويقال إن الترك عسفوهم وصادروهم
على أموالهم وكان عروج قد أغرى بالفقيه أبي العباس المستدعي له فقتل شهيدا بعد
الثلاثين وتسعمائة ورأى عروج أن أمر المغرب الأوسط لا يصفو له مع وجود الفقيه
المذكور فدس عليه من قتله ثم نهض عروج إلى بني يزناسن فكان الكرة عليه وقتل هنالك
مع جماعة من وجوه عسكره وتفرقت جموعه
وعادت تلمسان إلى بني زيان فجددوا بها رياستهم وأحيوا رمق دولتهم إلى أن عاود
الترك غزوها بعد حين وانتزعوها من يد صاحبها أبي العباس
____________________
أحمد بن عبد الله من أعقاب
يغمراسن بن زيان
قال في المرآة ما نصه قال الشيخ الإمام قاضي الجماعة أبو محمد عبد الواحد بن أحمد
الوانشريسي رحمه الله ومن خطه نقلت قدم حسن ابن خير الدين التركي فاستولى على
تلمسان في أواسط شعبان سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة وأخرج منها الأمير أحمد ابن
الأمير عبد الله ووزيره منصور بن أبي غانم ولحقا بدبدو مع من انضاف إليهما من
أمراء تلمسان وكبرائها فغدر بهم عمر بن يحيى الوطاسي صاحب دبدو وأخذ أموالهم
واعتقلهم وسرح منصورا في محرم من سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة اه واستمرت تلمسان في
يد الترك إلى أواسط صدر المائة الثالثة عشرة فاستولى عليها الفرنسيس على ما نذكره
إن شاء الله
واعلم أنه كان في صدر هذه المائة العاشرة أمور عظام
منها ظهور الفرنج بالديار المغربية واستيلاؤهم على ثغورها بما لم يعهد مثله قبل
ذلك لا سيما البرتغال والإصبنيول حسبما تقدمت الإشارة إليه ومنها ظهور دولة آل
عثمان ملوك التركمان بالديار المشرقية وما أضيف لها الظهور الذي لا كفاء له
وابتداء هذه الدولة وإن كان قبل هذا التاريخ بنحو مائتي سنة لكن إنما كان عنفوان
شبابها وفيضان عبابها في هذه المدة لا سيما في دولة سلطانهم الأعظم وخاقانهم
الأفخم سليمان بن سليمان خان فإنه ملك أكثر المعمور وقام بدعوته من الأمم الجمهور
وهجمت عساكره على ديار الأرنا فقاتلوهم في أعز بلادهم واستلبوهم من طارفهم وتلادهم
وخضعت ملوكهم لعزته واستكانوا لصولته وأعطوه يد المقادة وآتوه من الطاعة والخضوع
ما خالف العادة ثم أوطأ عساكره المغربيين الأدنى والأوسط فاستولى عليهما وكاد
يتناول الأقصى ويضيفه إليهما على ما تقف عليه في أخبار السعديين إن شاء الله
ومنها ظهور الأولياء وأهل الصلاح من الملامتية وأرباب الأحوال والجذب في بلاد
الشرق والغرب لكنه انفتح به للمستورين على النسبة
____________________
وأهل الدعوى باب متسع الخرق
متعسر الرتق فاختلط المرعى بالهبل وادعى الخصوصية من لا ناقة له فيها ولا جمل وصعب
على جل الناس التمييز حتى بين البهرج والإبريز لا سيما العامي الغمر الذي لا يفرق
بين الحصباء والدر ويرحم الله الشيخ اليوسي إذ قال في محاضرته ما نصه وقد طرق
أسماع القوم من قبل اليوم كلام أهل الصولة كفحول القادرية والشاذلية رضي الله عنهم
وكلام أرباب الأحوال في كل زمان فتعشقت النفوس ذلك وأذعن له الجمهور وخاضوا في
التشبيه بهم فما شئت أن تلقى جاهلا مسرفا على نفسه لم يعرف بعد ظاهر الشريعة فضلا
عن أن يعمل فضلا عن أن يخلص إلى الباطن فضلا عن أن يكون صاحب مقام إلا وجدته يصول
ويقول وينابذ المنقول والمعقول وأكثر ذلك في أبناء الفقراء يريد الواحد منهم أن
يتحلى بحلية أبيه ويستتبع أتباعه بغير حق ولا حقيقة بل لمجرد حطام الدنيا فيقول
خدام أبي وزريبة أبي ويضرب عليهم المغرم كمغرم السلطان ولا يقبل أن يحبوا أحدا في
الله أو يعرفوه أو يقتدوا به غيره وإذا رأى من خرج يطلب دينه أو من يدله على الله
تعالى يغضب عليه ويتوعده بالهلاك في نفسه وماله وقد يقع شيء من المصائب بحكم
القضاء والابتلاء فيضيفه إلى نفسه فيزداد بذلك هو وأتباعه ضلالا ثم يخترق لهم من
الخرافات والأمور المعتادة ما يدعيه سيرة ودينا يستهويهم به ثم يضمن لهم الجنة على
مساوئ أعمالهم والشفاعة يوم المحشر ويقبض على لحمة من ذراعه فيقول للجاهل مثله أنت
من هذه اللحمة فيكتفي جهال العوام بذلك ويبقون في خدمته ولدا عن والد قائلين نحن
خدام الدار الفلانية وفي زريبة فلان فلا نخرج عنها وكذا وجدنا آباءنا وهذا هو
الضلال المبين وهؤلاء قطاع العباد عن الله إلى آخر كلامه فقف عليه في الفصل الخامس
والعشرين منها فإنه نفيس وبالله تعالى التوفيق
وفي سنة إحدى عشرة وتسعمائة توفي الفقيه أبو العباس أحمد بن عيسى الماواسي البطوي
الموقت المشهور
وفي سنة اثنتي عشرة بعدها توفي الشيخ الفقيه أبو الحسن علي بن قاسم
____________________
التجيبي المعروف بالزقاق فقيه
فاس وهو صاحب المنظومة اللامية في علم القضاء وغيرها وفي سنة أربع وتسعمائة في يوم
الثلاثاء العشرين من صفر منها توفي الشيخ الإمام أبو العباس أحمد بن يحيى
الوانشريسي مؤلف المعيار وغيره من التآليف الحسان أصله من تلمسان واستوطن مدينة
فاس إلى أن توفي بها في التاريخ المذكور وفيها أيضا توفي الشيخ الكبير أبو فارس
عبد العزيز بن عبد الحق الحرار المعروف بالتباع دفين حومة الفحول من مراكش من
أصحاب الشيخ الجزولي رضي الله عنهما وصفه شيخه المذكور بالكيمياء وكان يقال النظرة
فيه تغني أفاض الله علينا من مدده
وفي سنة تسع عشرة وتسعمائة توفي الشيخ الإمام العلامة النظار أبو عبد الله محمد بن
أحمد بن غازي العثماني المكناسي ثم الفاسي وقد تقدم خبره مع الشيخ أبي محمد الغزواني
رحمهما الله
وفي سنة ست وعشرين وتسعمائة انحبس المطر بفاس والمغرب واضطر الناس إلى استخراج
السواقي من الأودية والأنهار لسقي زرعهم وثمارهم
وفي سنة سبع وعشرين بعدها كان الغلاء والجوع الكبير الذي صار تاريخا في الناس مدة
وفي سنة ثمان وعشرين بعدها كان الوباء بالمغرب سنة الله في خلقه وفي هذه المدة
أعني أعوام الثلاثين وتسعمائة على ما في الدوحة توفي الشيخ أبو عبد الله محمد بن
منصور السفياني دفين جزيرة البسابس من بلاد أولاد جلون على مسيرة نصف يوم من مصب
نهر سبو في البحر من جهة المشرق وكان من أصحاب الشيخ التباع والروضة التي عليها
بناها الشيخ أبو زيد عبد الرحمن المجذوب يقال إنه لما أكملها رآه في المنام وألبسه
حلة خضراء
وفي سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة في ثاني يوم من ربيع الأول منها توفي الشيخ أبو
محمد عبد الكريم بن عمر الحاجي المعروف بالفلاح ضجيع القاضي عياض في روضته بحومة
باب إيلان من مراكش وهو من أصحاب
____________________
الشيخ التباع أيضا وفي هذه
المدة على ما في الدوحة توفي الشيخ أبو يشو مالك بن خدة الصبيحي من عرب صبيح كان
من أهل العلم والفضل والدين ودفن على ضفة نهر سبو على نحو مرحلة من فاس وقبره
مزارة إلى الآن
وفي سنة خمس وثلاثين وتسعمائة توفي الشيخ أبو محمد الغزواني رضي الله عنه دفين
حومة القصور من مراكش وقد تقدم شيء من خبره
وفي أعوام أربعين وتسعمائة توفي الشيخ الكامل أبو عبد الله محمد بن عيسى السفياني
المختار ثم الفهدي دفين مكناسة الزيتون وهو شيخ جليل القدر شهير الذكر رضي الله
عنه ونفعنا به آمين
تم الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس
أوله
الخبر عن دولة الأشراف السعديين من آل زيدان
____________________
5
____________________
بسم الله الرحمن الرحيم الدولة
السعدية الخبر عن دولة الأشراف السعديين من آل زيدان وذكر أوليتهم وتحقيق نسبهم
اعلم أن هؤلاء السعديين كانوا يقولون إن أصل سلفهم من ينبع النخل من أرض الحجاز
وأنهم أشراف من ولد محمد النفس الزكية رضي الله عنه وإليه كانوا يرفعون نسبهم
ويقولون في أول ملوكهم القائم بأمر الله مثلا هو محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن
علي بن مخلوف بن زيدان بن أحمد ابن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن الحسن بن عبد
الله بن أبي محمد بن عرفة بن الحسن بن أبي بكر بن علي بن حسن بن أحمد بن إسماعيل
بن قاسم ابن محمد النفس الزكية ابن عبد الله الكامل بن حسن المثنى بن الحسن السبط
ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم فهم بنو عم السادة العلويين أشراف سجلماسة
يجتمعون معهم في محمد بن أبي القاسم المذكور في النسب
قالوا والسبب في قدوم سلفهم من الحجاز إلى المغرب أن أهل درعة كانت لا تصلح ثمارهم
وتعتريها العاهات كثيرا فقيل لهم لو أتيتم بشريف إلى بلادكم كما أتى أهل سجلماسة
لصلحت ثماركم كما صلحت ثمارهم وقد كان أهل سجلماسة جاؤوا بالمولى الحسن بن قاسم بن
محمد بن أبي القاسم من أرض ينبع في قصة ظريفة تأتي في محلها إن شاء الله قالوا
فأتى أهل درعة بالمولى زيدان بن أحمد مضاهاة لأهل سجلماسة فعادت عليهم بركته
واعلم أن هذا النسب الشريف المسرود آنفا فيه كما قال اليفرني بتر
____________________
بين قاسم ومحمد النفس الزكية
فإنه لا يعرف في أولاد النفس الزكية من اسمه قاسم وإنما هو قاسم بن محمد بن عبد
الله الأشتر بن محمد النفس الزكية ولعله سقط عن ذهول من الناسخ وقيل الصواب إنه
قاسم بن حسن بن محمد بن عبد الله الأشتر بن محمد النفس الزكية
واعلم أيضا أن ما زعمه هؤلاء السعديون من انتسابهم لهذا البيت الكريم هو المعروف
عند الكافة وتلقاه فضلاء عصرهم بالقبول وأثبتوه في تقريضاتهم ومؤلفاتهم الموضوعة
في أخبارهم ومن الناس من يطعن في ذلك ونقله بعضهم عن الشيخ أبي العباس المقري صاحب
نفح الطيب وأنه صحح أنهم من بني سعد بن بكر بن هوازن الذين منهم حليمة السعدية ظئر
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا النقل ضعيف لأن الشيخ المقري صرح في نفح الطيب
بشرف هؤلاء السادة في غير موضع وهو من آخر ما ألف
وممن طعن في نسبهم المولى محمد فتحا بن الشريف السجلماسي أول ملوك السادة العلويين
صرح بذلك في بعض الرسائل التي كانت تدور بينه وبين الشيخ ابن زيدان منهم قال فيها
وقد اعتمدنا في ذلك يعني في عدم شرفهم على ما نقله الثقات المؤرخون لأخبار الناس
من علماء مراكش وتلمسان وفاس ولقد أمعن الكل التأمل بالذكر والفكر فما وجدوكم إلا
من بني سعد بن بكر اه
ويحكى شائعا عن الفقيه الورع المولى أبي محمد عبد الله بن علي بن طاهر السجلماسي
وكان من أهل الصلاح والدين أنه كان ذات يوم جالسا مع المنصور السعدي في بعض قصوره
من حضرة مراكش وهما مجتمعان على خوان طعام فقال المنصور للشيخ أبي محمد أين
اجتمعنا يا فقيه يعني في النسب فقال أبو محمد على هذا الخوان ويروى في هذا المشور
فأسرها المنصور في نفسه ولم يبدها له إلى أن احتال عليه بما كان السبب في إتلاف
مهجته فكان المنصور بعد ذلك يدعو الشيخ أبا محمد فيجلسه على الرخام في زمان كلب
البرد وهيجانه من غير حائل وقد اتخذ المنصور فيما زعموا لبدة صوف داخل سراويله لا
يحس معها بالبرد فإذا
____________________
رآه أبو محمد جالسا معه تجلد
واستحيى أن يقوم عن السلطان ويتركه ويستمران على المذاكرة في مسائل العلم فعل ذلك
به أياما حتى سكنته علة البرد فلم يزل أبو محمد يشتكي من ذلك إلى أن قضت عليه
وأنكر هذا صاحب نشر المثاني ورده بتأخر وفاة ابن طاهر عن وفاة المنصور بأكثر من
ثلاثين سنة
وجواب أبي محمد هذا من النوع البياني المسمى بتلقي المخاطر بغير ما يترقب على ما
هو معروف في كتب الفن وإنما سأله المنصور لما مر من أن السعديين يزعمون أن جدهم
قدم من ينبع أيضا كما قدم جد العلويين والعلويون ينكرون ذلك كل الإنكار ويقولون
إنهم لم يجتمعوا معهم في قبيل ولا دبير
قال اليفرني لكن صحح لنا غير واحد من أشياخنا أن الشيخ ابن طاهر رجع عن ذلك
الإنكار وأن المنصور أطلعه بعد ذلك على ظهير فيه خط الإمام ابن عرفه وشيخه ابن عبد
السلام بثبوت نسبهم فاطمأنت نفس ابن طاهر لذلك فكان يصرح بصحة نسبهم بعد ذلك ويزجر
من يطعن فيه اه
قلت وهذا هو الصواب إذ مستند من يطعن في نسبهم عدم وضوحه ولا يلزم من عدم وضوحه
عدم ثبوته في نفس الأمر وإلا فيبعد أن يكون هؤلاء المنكرون قد اطلعوا على أحوال
عمود نسبهم وما اشتمل عليه من الآباء والأجداد من لدن مبدئه إلى منتهاه مع طول
المدة وتناسخ الأجيال فالتنقير عن ذلك عسير جدا ولذا وكل الشارع أمر الأنساب إلى
أهلها وجعلهم مصدقين فيها إذ لا تعرف غالبا إلا من قبلهم فهؤلاء السادة الزيدانيون
لو فرضنا أنهم ما كانوا ملوكا ولا بلغوا من الشهرة إلى حيث بلغوا ثم ادعوا هذا
النسب الكريم فلا سبيل لأحد أن يدفعهم عنه إلا بقاطع ولا قاطع كما علمت نعم
الحكاية المسوقة في سبب دخولهم إلى المغرب يظهر عليها أثر الصنعة والله أعلم بحقائق
الأمور
وأما تسميتهم بالسعديين فقد قال اليفرني إن هذه النسبة لم تكن لهم
____________________
في القديم ولا وقعت بها
تحليتهم في ظهائرهم ولا في سجلاتهم وصدور رسائلهم بل كانوا لا يقبلون ذلك ولا
يجترئ أحد على مواجهتهم به لأنه إنما يصفهم بذلك من يقدح في نسبهم ويطعن في شرفهم
ويزعم أنهم من بني سعد بن بكر كما قلنا وكثير من العامة وإخوانهم من الطلبة
يعتقدون أنهم إنما سموا بذلك لأن الناس سعدوا بهم ونحو ذلك مما لا معنى له اه
قلت وإنما نصفهم نحن بذلك لأنهم اشتهروا عند الخاصة والعامة به فصار كالعلم الصرف
المرتجل مع أنه لا محذور بعد تحقيق النسب وثبوت الشرف والله تعالى يلهمنا الصواب
بمنه وفضله الخبر عن دولة الأمير أبي عبد الله محمد القائم بأمر الله وبيعته
والسبب فيها
قال ابن القاضي درة السلوك لم يزل أسلاف السعديين مقيمين بدرعة إلى أن نشأ منهم
أبو عبد الله محمد القائم بأمر الله فنشأ على عفاف وصلاح وحج البيت الحرام وكان
مجاب الدعوة ولقي جماعة من العلماء الأعلام والصلحاء العظام في وفادته على الحرمين
الشريفين أخبرني بعض الفضلاء أنه لقي رجلا صالحا بالمدينة الشريفة على ساكنها أفضل
الصلاة والسلام فأشار له بما يكون منه ومن ولديه وكان قد رأى رؤيا وهي أن أسدين
خرجا من إحليله فتبعهما الناس إلى أن دخلا صومعة ووقف هو ببابها فعبرت له رؤياه
بأنه سيكون لولديه شأن وإنهما يملكان الناس ثم رجع إلى المغرب وهو معلن بالدعوة
فيقول في كل محفل إن ولديه سيملكان المغرب وسيكون لهما شأن من غير تردد منه ثقة
بخبر الرجل الصالح وبرؤياه المذكورة فما زال إلى أن قام سنة خمس عشرة وتسعمائة اه
وقال صاحب زهرة الشماريخ ما صورته إن سبب قيام أبي عبد الله القائم أن أهل السوس
أحاط بهم العدو الكافر ونزل بجوانبهم من كل جهة حتى أظلم الجو واستحكمت شوكة
البرتغال وبقي المسلمون في أمر مريج لعدم أمير تجتمع عليه كلمة الإسلام لأن بني
وطاس فشلت ريحهم يومئذ
____________________
في بلاد السوس وإنما كان لهم
الملك في حواضر المغرب ولم يكن لهم منه بالسوس إلا الاسم مع ما كانوا فيه من قتال
العدو بطنجة وآصيلا وحجر بادس وغيرها من ثغور بلاد الهبط فلما رأى قبائل السوس ما
دهمهم من تفاقم الأحوال وكثرة الأهوال وطمع العدو في بلادهم ذهبوا إلى الشيخ
الصالح أبي عبد الله محمد بن مبارك الأقاوي نسبة إلى آقة من بلاد السوس فذكروا له
ما هم فيه من افتراق الكلمة وانتشار الجماعة وكلب العدو على مباكرتهم بالقتال
ومراوحتهم وطلبوا منه أن يعقدوا له البيعة وتجتمع كلمتهم عليه فامتنع من ذلك وقال
إن رجلا من الأشراف بتاجمدارت من درعة يقول إنه سيكون له ولولديه شأن فلو بعثتم
إليه وبايعتموه كان أنسب بكم وأليق بمقصودكم فبعثوا إليه وكان من أمره ما كان
وقال اليفرني رأيت بخط الفقيه العلامة أبي زيد عبد الرحمن ابن شيخ الجماعة أبي
محمد عبد القادر الفاسي ما صورته ذكر لنا الوالد عن سيدي أحمد بن علي السوسي
البوسعيدي أن ابتداء دولة الشرفاء بالسوس أن بعض السادة وهو سيدي بركات توسط في
فداء بعض الأسارى وأراد أن يكون مع النصارى اتفاق على أن لا يحبسوا أسيرا فكلمهم
في ذلك فقالوا له حتى يكون لكم أمير فإن ملككم قد ذهب واضمحل قال ثم إن بعض أهل
السوس ساروا إلى قبيلة جسيمة يكتالون الطعام فأخذتهم جسيمة وأكلوا متاعهم وبضاعتهم
فذهبوا إلى شيخهم وكان ذا حزم وتدبير فرد عليهم كل ما ضاع لهم حتى لم يبق لهم شيء
فلما رجعوا إلى بلادهم قالوا إن هذا الشيخ الرئيس هو الذي يليق أن نبايعه فاجتمعوا
وأتوه وطلبوا منه أن يرأسهم فامتنع واحتاط لدينه واعتذر بتشويش هذا الأمر للدين
ودلهم على رجل شريف كان مؤذنا بدرعة فقال لهم إن كان ولا بد فاقصدوا الشريف
الفلاني
____________________
فإنه يذكر أن ولديه يملكان
المغرب فقصدوه وحملوه إلى بلادهم وبايعوه وفرضوا له من المؤنة ما يكفيه وأولاده
وبقي هنالك في نحر العدو
ويروى أنه لما بايعه أهل السوس ورأى قلة ما بيده مع أن الملك لا يقوم إلا بالمال
احتال بأن أمر أهل السوس أن يأتوه ببيضة لكل كانون فاجتمع له من ذلك آلاف من البيض
لا تحصى لأن الناس استهونوا أمر البيضة فلما اجتمع عنده البيض أمر أن كل من أتى
ببيضة يأتي بدلها بدرهم ففعلوا فاجتمع له من ذلك مال وافر فأصلح به شأنه وقوى به
جيشه وكانت تلك أول نائبة فرضت في دولة السعديين والله أعلم
وقال ابن القاضي إن الأمير أبا عبد الله القائم لما اجتمع بالشيخ ابن مبارك ببلده
آفة وذلك سنة خمس عشرة وتسعمائة على ما مر فاوضه في شأنه ثم عاد إلى مقره من درعة
ثم في سنة ست عشرة بعدها بعث إليه فقهاء الصامدة وشيوخ القبائل ودعوه إلى توليته
عليهم وتسليم الأمر إليه فلبى دعوتهم وجاء إلى قرية يقال لها تيدسي قرب تارودانت
فبايعه الناس بها وأصبحوا معه بقلوب متفقة وأهواء على الجهاد مجتمعة اه
وقد ساق منويل أولية هذه الدولة مساقا غريبا ولا يخلو عن فائدة فلنذكر منه ما يقرب
إلى الصحة ويكون كالشرح لما مضى أو يأتي من أخبار هذه الدولة قال
لما كان السلطان أبو عبد الله الوطاسي يعني البرتغالي أميرا بفاس ظهر في درعة رجل
شريف يعني أبا عبد الله محمدا القائم بأمر الله قال وكان هذا
____________________
الشريف من قراء القرآن ومن أهل
العلم والدين والفقر والخمول ولم يكن من بيت الرياسة وكان له اطلاع على تواريخ
قطره وعوائد جيله وأخلاقهم وطبائعهم ورأى ما وصل إليه ملك المغرب من الانحطاط
والضعف وتيقن أنه لا يصعب عليه تناوله فأعمل في ذلك فكره ومكره وصار يحض الناس على
القيام بأمور دينهم والامتعاض لها وكان قد بعث ثلاثة من أولاده وهم عبد الكبير
وأحمد ومحمد إلى الحجاز بقصد الحج وكانت لهم فصاحة ورجاحة ومعرفة بإدارة الكلام
فظهر لهم ناموس في تلك البلاد وأحبهم الناس لا سيما أحمد ومحمد ولما رجعا من مكة
أقاما بفاس وهي يومئذ دار الملك وترتب أحمد في مجلس بالقرويين لتدريس العلم فاكتسب
بذلك جاها وتقرب محمد إلى السلطان حتى صار مؤدبا لأولاده وبقيا على ذلك مدة وهما
في ذلك كله يتحببان إلى الناس ويسعيان في مذاهب الشهرة والبرتغال في أثناء ذلك ملح
على الثغور واستلابها من أهلها ولم تكن تقوم للمسلمين معه راية فدعا ذلك الأخوين
أحمد ومحمدا إلى أن ندبا السلطان وهو أبو عبد الله البرتغالي إلى المناداة في
الناس بالجهاد إظهارا للنصح وهما يسران حسوا في ارتغاء وقصدهما تفرقة الكلمة على
السلطان لا غير فاغتر السلطان بنصحهما وقال لهما لا أحد أولى منكما بالقيام بهذه
الوظيفة فأجاباه إلى ذلك عن توفر داعية وكمال رغبة فأرسلهما يناديان ويستنفران
الناس في نواحي المغرب إلى الجهاد ويحضان الناس عليه ويخطبان بذلك في المحافل
ويعظان وتتبعا الحواضر والبوادي وتقريا الأحياء والمداشر والقرى إلى أن وصلا إلى
درعة حيث أبوهما وأخوهما عبد الكبير فاجتمعا بهما وذاكراهما في أمرهما وأنهما قد
أشرفا على المراد وكادا يلجان الملك من بابه لأن أهل تلك البلاد كانوا سامعين لهم
من قبل اليوم فكيف بهم اليوم فحينئذ أخذ الأب وأولاده في نشر معايب الدولة للعامة
ويقررون ذلك بفصاحتهم ووجاهتهم وما أوتوه من القبول وعضدهم على ذلك شيوخ البلد
وتبعهم الناس واجتمعوا عليهم من كل جهة وصار حالهم ينموا شيئا فشيئا إلى أن
استبدوا على السلطان ولم يرجعوا إليه بعد
____________________
وقال في نشر المثاني كان السبب في قيام الشرفاء الزيدانيين واستبدادهم بملك المغرب
أن الحرب نشبت بين النصارى وأهل السوس ودامت وكان بنو وطاس يمدون أهل السوس بالمال
والعدد فاتفق أن خرج الشريفان محمد الشيخ وأخوه أحمد الأعرج للجهاد مع أهل السوس
فظهر مكانهما في الجهاد فلما وفدا على الوطاسي تلقاهما بالرحب وأقبل عليهما لأجل
قيامهما بالجهاد وأعطاهما عدة وخيولا كثيرة فرجعا إلى جهادهما ثم عادا إليه مرة
أخرى فأعطاهما مثل ذلك وكانت لهما وقائع في النصارى ونكاية وظهور وصارا يكتبان إلى
القبائل فيساعدونهما على ذلك حتى اجتمعت عليهم جموع عديدة فحينئذ خلعا طاعة
الوطاسي ودعوا لأنفسهما اه
قال منويل وكان أكثر شهرة أمرهم بالسوس الأقصى ودرعة وأعمالهما وصاروا يرفعون
إليهم زكواتهم وأعشارهم ثم بايعوهم ونهض هؤلاء الأشراف إلى تارودانت فاستولوا
عليها وحصنوها ثم زحفوا إلى آكادير لحرب البرتغال فقاتلوه مدة ولم يفتح لهم وكانوا
يشيعون أنهم لا قصد لهم إلا في الجهاد ومحاربة عدو الدين ومن هو سلم له من
المسلمين إذ لم يتأت لهم إذ ذاك التصريح بخلع السلطان
وفي سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة تجاوزوا جبل درن إلى بلاد حاحة والشياظمة ثم دخلوا
بسيطة عبدة وكان بآسفي رجل تنصر اسمه يحيى بن تافوت احتمى بالبرتغال من السلطان
وكان معروفا بالشجاعة واتصل خبره بطاغية البرتغال منويل فولاه على النصارى وعلى
أتباعه من المسلمين تأليفا له
ولما زحف الأشراف إلى بلاد عبدة كان بينهم وبين يحيى المذكور ونصاراه معركتان
شديدتان كان الظهور فيهما ليحيى لكن أبو العباس أحمد الأعرج تدارك أمره فورا وجمع
عسكرا آخر وخطبهم ووعظهم وزحف إلى يحيى المذكور ففضه وفض نصاراه إلى أن انجحروا
بآسفي وأغلقوه عليهم وأتيح لأحمد عليهم ما لم يتقدم لغيره فيهم فبذلك تأتى له أن
يتناول ملك المغرب
____________________
ولما اتصل خبر هذا الظهور له بالسلطان الوطاسي لم يعجبه ذلك وظهر له أن ما كان
أحمد وأخوه يحاولانه من أمر الجهاد لم يكن ظاهره كباطنه وحقق له ذلك ما فعلوه من
تحصين تارودانت مع ما كان لأبيهم من نفوذ الكلمة بالسوس
وكان في هذا التاريخ بمراكش وأعمالها عامل اسمه ناصر بوشتنوف وكان مستبدا على
الوطاسي ويبذل له شيئا تافها يتقيه به ولما مر به هؤلاء الأشراف في أول أمرهم
داعين إلى الجهاد أحسن إليهم غاية ولما أوقعوا وقعة آسفي أبرموا أمرهم مع ناصر أبي
شتنوف وأظهروا له المحبة والموالاة وطلبوا منه أن يظاهرهم على جهاد العدو وأن
يكونوا يدا واحدة وجندا واحدا عليه فأسعفهم وقدموا مراكش فدخلوها مرة ثانية وأحسن
إليهم وبعد أيام خرجوا به للصيد فسموه في خبز صغير يسمى القريشلات فهلك للحين وصفا
للأشراف مراكش وأعمالها إذا كان أهلها قد أحبوهم وشرهوا إليهم ولما تم لهم أمر
درعة والسوس ومراكش تسمى أحمد باسم الأمير واستخلف أخاه محمدا الشيخ
ولما اتصل الخبر بالوطاسي وأنهم استولوا على مراكش أقلقه ذلك ومن مكر أحمد أنه بعث
إليه يقول ما أنا إلا واحد من أعمالك وما كان يعطيه أهل هذه البلاد أبذله لك
مضاعفا ومع ذلك لم يطمئن إليه ثم هلك الوطاسي وولي مكانه ابنه أبو العباس أحمد
وانقسمت مملكة المغرب فصارت فاس للوطاسي ومراكش وأعمالها لأبي العباس الأعرج
وتارودانت والسوس ودرعة لمحمد الشيخ وأما عبد الكبير فإنه كان استشهد قبل هذا في
حرب البرتغال قرب آسفي
ولما رأى أبو العباس الوطاسي استفحال أمر الأشراف وأنهم أمسكوا عنه ما وعدوا
بأدائه لأبيه عزم على حربهم فجمع عسكرا عظيما وزحف إلى مراكش فتحصن أحمد الأعرج
بها وقدم عليه أخوه فظاهره على عدوه وفي أثناء حصاره الوطاسي لمراكش اتصل به الخبر
بأن أهل فاس قد قاموا عليه وبايعوا بعض إخوته فرجع إلى فاس وقبض على أخيه الثائر
عليه ثم كر إلى
____________________
مراكش بعسكر أعظم من الأول وفي
هذه المرة برز إليه الأشراف خارج البلد ثم تقدموا إليه فكان اللقاء على أبي عقبة
من تادلا ووقعت بينهم حرب هائلة لأن الوطاسيين كانوا يرون أن هذه الحرب هي الفيصل
بينهم وبين عدوهم والأشراف كذلك وحضر هذا الحرب أبو عبد الله ابن الأحمر سلطان
الأندلس المخلوع وأبلى بلاء حسنا حتى قتل وكان الظهور للأشراف ورجع الوطاسي مفلولا
إلى فاس وترك محلته بما فيها من مدافع وغيرها بيد عدوه وبعد هذه الوقعة استولى
الأشراف على تافيلالت وملكوا آكادير وآسفي وآزمور لأن البرتغال كانوا قد تخلوا
عنها ثم عن قريب حدث بين الأخوين النفرة وحاول رجال دولتهما الوفاق بينهما فلم
يتفقا وكانت الكرة على أحمد وفر ابنه زيدان الذي كان عضد أبيه في الحروب إلى
تافيلالت فاستولى عليها واقتطعها عن عمه محمد الشيخ ثم زحف الشيخ إلى فاس فحاصرها
إلى أن قبض على الوطاسيين وغربهم إلى درعة اه كلام منويل
ثم نرجع إلى سياقة الخبر عن هذه الدولة حسبما عند اليفرني وغيره أخبار الأمير أبي
عبد الله القائم في الجهاد وما هيأ الله له من النصر فيه
لما استتب أمر الأمير أبي عبد الله القائم واجتمعت كلمة القبائل السوسية عليه ندب
الناس إلى مقارعة البرتغال وجهاده ونفيه عن ثغور المغرب وبلاده وكانت معه يومئذ
جموع حافلة من المسلمين فصمدوا معه إلى النصارى وناوشوهم الحرب فأتاح الله للأمير
أبي عبد الله الفتح والنصر ونثر أثلاء الكفار بمخالب الظفر وأخرج حية الغي من
جحرها وأعاد كلمة الإسلام إلى مقرها فلما رأى المسلمون ذلك تيمنوا بطلعته وتفاءلوا
بطائره الميمون ونقيبته وزادهم ذلك محبة في جانبه وتعظيما في مكانته ولما فصل من
جهاده عاد إلى محله المذكور من تيدسي فوقع بينه وبين بعض الرؤساء هنالك منافرة أدت
إلى ارتحاله عنها وعوده إلى درعة فلم يزل مقيما
____________________
بها إلى سنة ثمان عشرة
وتسعمائة فرجع إلى مكانه من تيدسي واطمأنت به دارها وأزال الله عنه ما كان أزعجه
عنها والله غالب على أمره عقد الأمير أبي عبد الله القائم ولاية العهد لابنه أبي
العباس الأعرج رحمهم الله تعالى
قد تقدم لنا ما كان من أمر الرؤيا التي رآها الأمير أبو عبد الله القائم في شأن
ولديه وأنهما يملكان المغرب وفي معنى ذلك أيضا ما يحكى شائعا أن ولدي أبي عبد الله
المذكور وهما أبو العباس الأعرج وأبو عبد الله الشيخ كانا يقرآن في مكتب وهما
صبيان فدخل ديك فوثب على رأس كل منهما وصرخ فأول ذلك مؤدبهما بأنهما سيكون لهما
شأن فمن أجل هذا ونحوه كان والدهما يعلن بأن أمر المغرب صائر إليهما فلما قضى الله
ببيعته واجتماع الناس عليه واطمأنت به في البلاد السوسية الدار وطاب له بها المقام
والقرار ندب الناس إلى بيعة أكبر ولديه وهو الأمير أبو العباس أحمد المعروف
بالأعرج فبايعوه وكان ذلك مبدأ ظهور أمره على ما نذكره إن شاء الله تعالى انتقال
الأمير أبي عبد الله القائم إلى أفغال من بلاد حاحة ووفاته بها رحمه الله
ثم إن أبا عبد الله القائم وفد عليه أشياخ حاحة والشياظمة لما بلغهم من حسن سيرته
ونصرة لوائه فشكوا إليه أمر البرتغال ببلادهم وشدة شوكته واستطالته عليهم وطلبوا
منه أن ينتقل إليهم هو وولده ولي العهد المذكور فأجابهم إلى ذلك ونهض معهم هو
وابنه أبو العباس إلى الموضع المعروف بآفغال من بلاد حاحة وترك ولده الأصغر أبا
عبد الله الشيخ بالسوس يرتب
____________________
الأمور ويمهد المملكة ويباكر
العدو بالقتال ويراوحه واستمر الأمير أبو عبد الله القائم بمكانه من آفغال مسموع
الكلمة متبوع العقب إلى أن توفي به سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة ودفن هنالك بإزاء
ضريح الشيخ أبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي رضي الله عنه إلى أن نقل إلى
مراكش بنقل الشيخ المذكور على ما يأتي إن شاء الله الخبر عن دولة السلطان أبي
العباس أحمد الأعرج ابن الأمير أبي عبد الله القائم رحمه الله
كانت ولادة السلطان أبي العباس الأعرج فيما حققه ابن القاضي سنة إحدى وتسعين
وثمانمائة وبويع بولاية العهد من أبيه سنة ثمان عشرة وتسعمائة كما مر ولما توفي
أبوه في التاريخ المتقدم اجتمع الناس على بيعته من سائر الآفاق وآتوه طاعتهم عن
رضا منهم وإصفاق فاستقام أمره وصرف عزمه إلى تمهيد البلاد واقتناء الأجناد وتعبية
الجيوش إلى الثغور وشن الغارات على العدو في الآصال والبكور في أحواز تيلمست وآسفي
وغيرهما وكان النصارى قد خيموا بشاطئ البحر وعاثوا في تلك السواحل فأجلاهم عنها
وطهر تلك البقاع من رجسهم وأراح أهلها من شؤمهم ونحسهم وفي ذلك يقول البقاع مخلوف
بن صالح يمدحه
( فلله هذا الهاشمي وفضله ** فلولاه صال الكفر أعظم صولة )
____________________
دخول السلطان أبي العباس
الأعرج مراكش واستيلاؤه عليها
لما كان من إيقاع السلطان أبي العباس بنصارى السوس وانتصاره عليهم ما ذكرناه بعد
صيته وانتشر في البلاد ذكره وأهرع الناس إليه من كل جانب ودخلت في طاعته سائر
البلاد السوسية فعند ذلك كاتبه أمراء هنتاتة ملوك مراكش يخطبون أمره ويرومون
الدخول في طاعته فأجاب داعيهم وانتقل إلى مراكش فدخلها في حدود الثلاثين وتسعمائة
واستولى عليها وكان من أمره ما نذكره نقل الشيخ الجزولي رضي الله عنه من مدفنه
بآفغال إلى مراكش والسبب في ذلك
قد تقدم لنا في أخبار عمرو السياف أنه كان في ابتداء أمره من أصحاب الشيخ الجزولي
هذا وأنه لما توفي الشيخ المذكور جعل جثته في تابوت وصار يستنصر به في حروبه مدة
من عشرين سنة أو نحوها ثم دفن بعد ذلك بآفغال وتقدم لنا أن الأمير أبا عبد الله
القائم لما توفي دفنه ابنه أبو العباس بإزاء هذا الشيخ ثم لما ملك أبو العباس
المذكور مراكش نقل الشيخ الجزولي إليها ونقل أباه معه فدفنه بقربه أيضا
واختلف في سبب ذلك فقيل إن السلطان المذكور خاف أن يثور عليه أحد بتلك البلاد
فيستخرج الشيخ من ملحده وينتصر عليه به فنقله إلى مراكش ليأمن من ذلك وقيل إن
الحامل له على نقله أنه ذكر له أن تحته كنز فتعلل للنبش عنه بأنه قصد نقله إلى
الحضرة تبركا به والله أعلم وكان ذلك كله في حدود الثلاثين وتسعمائة
____________________
مجيء السلطان أبي عبد الله
الوطاسي إلى مراكش وحصاره للسلطان الأعرج بها ثم إقلاعه عنها
لما استولى السلطان أبو العباس الأعرج على مراكش وصفا له أمرها اتصل خبره بصاحب
فاس أبي عبد الله الوطاسي المعروف بالبرتغالي فأقبل في جموع عديدة مع وزيره ابن
عمه المسعود بن الناصر ويقال مع أخيه الناصر فلما رأى السلطان أبو العباس ما لا
قبل له به تحصن بمراكش وشحن أسوارها بالرماة والمقاتلة وزحف الوطاسي إلى الحضرة
فنصب الأنفاض عليها ووالى الرمي عليها أياما واشتد الأمر على الناس فكان من ذهابهم
إلى الشيخ الغزواني وخروجه إلى باب الخميس وقوله عند إصابة الرصاصة له أنها خاتمة
حربهم ما قدمناه في أخبار الوطاسيين مستوفى ثم كان اللقاء بعد ذلك بين الفريقين
إنما يكون في تادلا وأعمالها على ما مر والله أعلم خبر آسفي والثغور
رأيت في تواريخ الفرنج أن البرتغال خرجوا من آسفي سنة ألف وخمسمائة وثلاثين مسيحية
وهذا التاريخ يوافقه من سني الهجرة سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة وهي وسط دولة
السلطان أبي العباس وزعم هذا المؤرخ
____________________
أنهم خرجوا منها من قبل أنفسهم
ونقلوا جميع ما كان فيها من عدة وأثاث إلى الجديدة بعدما خربوها وأفسدوها وأوقدوا
فيها النار قال وبقيت اثنتي عشرة سنة وهي مخربة إلى أن أصلحها السلطان محمد الشيخ
يعني السعدي الآتي ذكره
وفي النزهة ما يقرب من هذا فإنه قال بعد ذكر إيقاع السلطان أبي العباس بنصارى
السواحل ما نصه ويقال إن النصارى لما رأوا ما فعل بمن كان منهم بالسوس من القتل
والسبي أخلوا ثغر آزمور ورباط آسفي وآصيلا من غير قتال ثم نقل هذا الخبر في محل
آخر عن ابن القاضي منسوبا إلى أبي عبد الله الشيخ وسيأتي ذكره في محله وأظن أن
الإخلاء كان متكررا والله أعلم وعلى كل حال فذكر آصيلا هنا غير مناسب إذ هي يومئذ
في جهة الوطاسيين وتخومهم فما بال نصاراها يخرجون فرارا منها خوفا من السعديين
وليسوا مجاورين لهم ولا متوقعين هجومهم عليهم ثم كان بعد هذا بين أبي العباس
السعدي وأبي العباس الوطاسي من الحرب والسلم ما تقدم بيانه كوقعة آنماي ووقعة أبي
عقبة وغيرهما مما لا فائدة في إعادته حدوث النفرة بين الأخوين السلطان أبي العباس
الأعرج ووزيره أبي عبد الله الشيخ وما نشأ عن ذلك
كان السلطان أبو العباس رحمه الله من الشهامة والصرامة واستفحال الأمر بالمحل الذي
وصفناه قبل وكان أخوه أبو عبد الله الشيخ أصغر سنا منه وكان تحت طاعته واقفا عند
إشارته وكان السلطان أبو العباس يستشيره في أموره ويفاوضه في مهماته ويستعين
بنجدته في الزحوف والمعارك ويستضيء برأيه في الحوادث الحوالك وكان الشيخ ثاقب
الذهن نافذ البصيرة مصيب الرأي حازما شهما فكانت كلمتهما واحدة وأمرهما
____________________
جميعا إلى أن دخل الوشاة
بينهما فأفسدوا قلوبهما وأفضى الحال إلى المصافة والمقاتلة وانقسم الجند حزبين
وانصرفت كل طائفة إلى متبوعها وصاحب أمرها وتقاتلا مدة وكانت جل القبائل السوسية
صاغية إلى الشيخ لما كان نشأ بين أظهرهم وسبروه من نجابته وكفايته منذ تركه أبوه
عندهم عند انتقاله إلى آفغال حسبما مر فاستفحل أمره وغلب على أخيه أبي العباس فقبض
عليه واستولى على ما بيده واجتمعت كلمة أهل السوس عليه ثم أودع أخاه وأولاده السجن
ووسع عليهم في الجرايات والنفقات وأصبح ملكا مستقلا بعد أن كان وزيرا وكان ذلك سنة
ست وأربعين وتسعمائة
وفي نشر المثاني أن قبض الشيخ على أخيه أبي العباس الأعرج كان سنة إحدى وخمسين
وتسعمائة والأول أصح ولم يزل السلطان أبو العباس وأولاده في حكم الثقاف إلى أن قتل
يوم مقتل أخيه الشيخ بعد ثمان عشرة سنة أو نحوها حسبما يأتي إن شاء الله وكانت
دولته من يوم بويع إلى أن قبض عليه أخوه ثلاثا وعشرين سنة وكان من حجابه محمد بن
علي الأنكراطي اليملالي ومحمد بن أبي زيد المنزاري ومن كتابه سعيد بن علي الحامدي
رحمهم الله أمر زيدان ابن السلطان أبي العباس وما كان منه
قال صاحب درة الحجال اختلف الناس هل بويع لزيدان بن الأعرج بعد وفاة أبيه أم لا
وقال شارح زهرة الشماريخ كان زيدان بن أبي العباس بسجلماسة وبويع له بها فلم يتم
أمره ونفي إلى أن توفي سنة ستين وتسعمائة
____________________
الخبر عن دولة السلطان أبي عبد
الله محمد المهدي المعروف بالشيخ ابن الأمير أبي عبد الله القائم بأمر الله
كانت ولادة السلطان أبي عبد الله محمد الشيخ سنة ست وتسعين وثمانمائة ويلقب بالشيخ
بآمغار وهو الشيخ بالبربرية ويلقب من الألقاب السلطانية بالمهدي لقبه به غير واحد
من أئمة عصره ونشأ في عفاف وصيانة وعني بالعلم في صغره وتعلق بأهدابه فأخذ عن
جماعة من الشيوخ وبلغ فيه إلى درجة الرسوخ فتح حصن فونتي وآسفي وآزمور وما قيل في
ذلك
لما استقل السلطان أبو عبد الله الشيخ بأمر السوس واجتمعت كلمته عليه صرف عزمه إلى
جهاد العدو الذي بثغوره وحصونه وأرهف حده لتطهيرها من بقايا شغبه وزبونه فانتصر
عليهم واستأصل شأفتهم وقطع من تلك النواحي دابرهم وحسم آفتهم
قال ابن القاضي كان الشيخ رحمه الله ماضي العزيمة قوي الشكيمة عظيم الهيبة كثير
الغزوات ذا همة عالية وشهامة عالية فعد قواعد الملك وأسس مبانيه وأحيى مراسم
الخلافة الدارسة ومعالمها الطامسة وكان له سعد وبخت عظيم في الجهاد ويد بيضاء في
الإسلام فتح حصن النصارى بالسوس يعني حصن فونتي بعد أن أقاموا فيه اثنتين وسبعين
سنة وكان منصورا بالرعب حتى تركوا له آسفي وآزمور وآصيلا من غير قتال ولا إيجاف
عليهم اه ونحوه في تاريخ البرتغاليين زاد مؤرخهم أن ذلك كان بإذن طاغيتهم صاحب
أشبونة وقد تقدم نحو هذا في أخبار الأعرج والجواب عنه وكان فتح فونتي سنة سبع وأربعين
وتسعمائة كما في النزهة وفتح آسفي سنة
____________________
ثمان وأربعين بعدها كما في
المرآة وعند البرتغاليين أن ذلك كان سنة ألف وخمسمائة واثنتين وأربعين مسيحية وهو
موافق لهذا التاريخ الهجري
وفي الدوحة لما أخلى النصارى آزمور تسارع إليها جماعة من الفقراء منهم الشيخ أبو
محمد عبد الله الكوش دفين جبل العرض من فاس والشيخ أبو محمد عبد الله بن ساسي دفين
تانسيفت قرب مراكش فقعدوا بها يحرسونها حتى يأتي مدد المسلمين ومن يعمرها منهم
مخافة أن يرجع إليها العدو فإذا به قد رجع واقتحمها عليهم وأسرهم إلى أن افتكهم
المسلمون
قال منويل كان فداؤهما بألفي ريال ومائتي ريال بالتثنية فيهما ولما افتدى الشيخ
الكوش وعزم على الخروج وكان أسيرا عند امرأة نصرانية ناولته كتبا للمسلمين وقالت
له هذه كتب كانت عندي ولا حاجة لي بها فخذها إليك فأخذها وخرج بها في قفة على رأسه
فكان من جملتها كتاب تنبيه الأنام الموضوع في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
فكان ذلك أول دخوله لهذه البلاد على يد الشيخ المذكور اه بناء حصن آكادير
قال الشيخ أبو العباس ابن القاضي في كتابه المنتقى المقصور كانت للأمير السلطان
أبي عبد الله الشيخ مآثر حسنه منها أنه أول من اختط مرسى آكادير بالسوس الأقصى سنة
سبع وأربعين وتسعمائة لما أجلى النصارى من الموضع المعروف بفونتي على مقربة من
آكادير المذكور وكان له في اختطاطه رأي مصيب وفراسة تامة اه
____________________
استيلاء السلطان أبي عبد الله
محمد الشيخ على مراكش وتجديد البيعة له بها
كان السلطان أبو عبد الله الشيخ بعد القبض على أخيه واستقلاله بالأمر قد أقام
بالبلاد السوسية مثابرا على جهاد العدو إلى أن قلع عروق مفسدته منها وكانت مراكش
في هذه المدة قد توقفت عن بيعته وتربصت عن الدخول في دعوته اتقاء للوطاسيين
وارتياء في أمره إلى ماذا يؤول واستمر الحال إلى سنة إحدى وخمسين وتسعمائة فانقادت
له حينئذ وبايعه أهلها فقدمها واستولى عليها وخلص له جميع ما كان بيد أخيه المخلوع
من تادلا إلى وادي نول والله غالب على أمره نهوض السلطان أبي عبد الله محمد الشيخ
لحرب بني وطاس واستيلاؤه على مكناسة وما اتفق له في ذلك
لما استولى السلطان أبو عبد الله محمد الشيخ على مراكش وصفت له أعمالها طمحت نفسه
للاستيلاء على بقية بلاد المغرب وأمصاره وقطع جرثومة الوطاسيين من سائر أقطاره
فجمع الجموع وتقدم بها إلى أعمال فاس فلم يزل يستفتحها بلدا بلدا ومصرا مصرا إلى
أن أتى عليها أجمع وكان أول ما ملك منها مكناسة الزيتون فإنه افتتحها عقب سنة خمس
وخمسين وتسعمائة بعد حصار وقتال كبير
____________________
حصار السلطان أبي عبد الله
الشيخ حضرة فاس ومقتل الشيخ عبد الواحد الوانشريسي رحمه الله
كان السلطان أبو عبد الله الشيخ قد ألح على فاس بالقتال وحاصرها حصارا طويلا ولما
عسر عليه أمرها بحث عن ذلك فقيل له لا سبيل لك إليها ولا يبايعك أهلها إلا إذا
بايعك ابن الوانشريسي يعنون الشيخ الفقيه أبا محمد عبد الواحد بن أحمد الوانشريسي
رحمه الله فبعث إليه السلطان المذكور سرا ووعده ومناه فقال له الشيخ عبد الواحد
بيعة هذا السلطان يعني أبا العباس الوطاسي في رقبتي ولا يحل لي خلعها إلا لموجب
شرعي وهو غير موجود وزعم بعضهم أن السلطان المذكور كتب إلى أهل فاس يقول لهم إني
إن دخلت فاسا صلحا ملأتها عدلا وإن دخلتها عنوة ملأتها قتلا فأجابه ابن الوانشريسي
بأبيات أغلظ له فيها منها قوله
( كذبت وبيت الله ما تحسن العدلا ** ولا خصك المولى بفضل ولا أولى )
كذا في النزهة قلت وهذا البيت من أبيات قديمة والوانشريسي إنما تمثل به لا غير فقد
ذكر العلامة ابن خلدون في أخبار بني صالح بن منصور الحميري أصحاب قلعة نكور لأول
الفتح أن عبيد الله المهدي العبيدي صاحب إفريقية لما تغلب على المغرب خاطب سعيد بن
صالح منهم يدعوه إلى أمره وكتب له في أسفل كتابه
( فإن تستقيموا أستقم لصلاحكم ** وإن تعدلوا عني أرى قتلكم عدلا )
( وأعلوا بسيفي قاهرا لسيوفكم ** وأدخلها عنوا وأملأها قتلا )
فأجابه سعيد بن صالح بأبيات من نظم شاعره الطليطلي نصها
____________________
( كذبت وبيت الله ما تحسن العدلا ** ولا علم الرحمن من قولك الفصلا )
( وما أنت إلا جاهل ومنافق ** تمثل للجهال في السنة المثلى )
( وهمتنا العليا بدين محمد ** وقد جعل الرحمن همتك السفلى )
فلعل الشيخ كتب لأهل فاس بالبيتين الأولين والوانشريسي كان مطلعا على القضية
فأجابه بجوابهما
ولما بلغ ذلك السلطان الشيخ حقد على الوانشريسي ودس إلى جماعة من المتلصصة بأن
يأخذوه ويأتوا به إلى محلته محبوسا من غير قتل وكان الشيخ عبد الواحد يقرأ صحيح
البخاري بجامع القرويين بين العشاءين وينقل عليه كلام ابن حجر في فتح الباري
ويستوفيه لأنه شرط المحبس فقال له ابنه يا أبت إني قد سمعت أن اللصوص أرادوا الفتك
بك في هذه الليلة فلو تأخرت عن القراءة فقال له الشيخ أين وقفنا البارحة قال على
كتاب القدر قال فكيف نفر من القدر إذا اذهب بنا إلى المجلس فلما افترق المجلس خرج
الشيخ عبد الواحد من باب الشماعين أحد أبواب المسجد المذكور فثار به اللصوص
وأرادوا حمله فأخذ بإحدى عضادتي الباب فضرب أحدهم يده فقطعها وأجهز عليه الباقون
فقتلوه بباب المسجد المذكور في السابع والعشرين من ذي الحجة سنة خمس وخمسين
وتسعمائة
قال الشيخ المنجور في فهرسته واشتهر عن الفقيه الصالح أبي عبد الله محمد بن
إبراهيم المدعو بأبي شامة أنه رأى الشيخ عبد الواحد في المنام بعد مقتله فسأله عن
حاله فأنشأ يقول
( لقد عمني رضوان ربي وفضله ** ولم أر إلا الخير في وحشة القبر )
( وإني أسأل الإله بفضله ** ليحفظني يوم الخروج إلى الحشر )
( وما بعد ذاك من أمور عسيرة ** كنشر الكتاب والمرور على الجسر )
____________________
استيلاء السلطان أبي عبد الله
الشيخ على فاس وقبضه على الوطاسيين وتغريبهم إلى مراكش
ثم إن السلطان أبا عبد الله الشيخ جد في حصار فاس وألح عليها بالقتال إلى أن ملكها
واحتوى عليها
قال في الدوحة لما ألح السلطان الشيخ بالحصار على فاس جاءه الشيخ أبو الرواين
المحجوب وقال له اشتر مني فاسا بخمسمائة دينار فقال له السلطان ما أنزل الله بهذا
من سلطان هذا شيء لم تأت به الشريعة فقال والله لا دخلتها هذه السنة فبقي أشهرا
والأمر لا يزداد إلا شدة فقال ابن السلطان وهو الأمير أبو محمد عبد القادر ابن
الشيخ لأبيه يا أبت افعل ما قال لك الشيخ أبو الرواين فإنه رجل مبارك من أولياء
الله تعالى ولم يزل به حتى أذن له في الكلام معه فكلمة الأمير عبد القادر فقال له
ادفع المال فدفعه إليه فقال له عند تمام السنة يقضي الله الحاجة وأمري بأمره
سبحانه ثم إن الشيخ أبا الرواين فرق المال من يومه ولم يمسك منه لنفسه حبة ومن ذلك
اليوم والسلطان المذكور في الظهور إلى أن انقضت السنة فدخل فاسا كما قال اه
وقال صاحب الممتع والشيخ أبو الرواين هو كان أحد الأسباب في تمكن السلطان المذكور
من الملك وإخراج بني وطاس عنه فإنه لما رأى اضطراب أمر الناس وهيجان النصارى على
المسلمين جعل ينادي يا حران جئ فإني قد أعطيتك الغرب وذلك قبل ظهور السعديين ولم
يكن الناس يدرون ما يقول حتى ظهر الحران وهو أحد أولاد السلطان أبي عبد الله الشيخ
وهو الذي كان يتقدم للحرب ولم يفتح والده من البلاد إلا ما فتح له على يده
وكان دخول السلطان الشيخ إلى فاس سنة ست وخمسين وتسعمائة ولما دخلها تقبض على
الوطاسيين أجمع وبعث بهم مصفدين إلى مراكش عدا
____________________
أبا حسون منهم فإنه فر إلى
الجزائر مستجيرا بتركها حسبما مر
وقال اليفرني لما دخل الشيخ حضرة فاس دخلها وعليه وعلى أصحابه الدراعات الصفر وسمة
البداوة لائحة عليهم فحملوا أنفسهم على التأدب بآداب الحاضرة والتخلق بأخلاقهم
يعني حتى رسخ فيهم ذلك والله أعلم نهوض السلطان أبي عبد الله الشيخ إلى تلمسان
واستيلاؤه عليها
قد قدمنا ما كان من استيلاء حسن بن خير الدين التركي على تلمسان وانقراض دولة بني
زيان منها سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة فلما فتح أبو عبد الله الشيخ حضرة فاس في
التاريخ المتقدم تاقت نفسه إلى الاستيلاء على المغرب الأوسط وكان يعز عليه استيلاء
الترك عليه مع أنهم أجانب من هذا الإقليم ودخلاء فيه فيقبح بأهله وملوكه أن
يتركوهم يغلبون على بلادهم لا سيما وقد فر إليهم عدو من أعدائه وعيص من أعياص
أقتاله وهو أبو حسون الوطاسي فرأى الشيخ من الرأي وإظهار القوة في الحرب أن يبدأهم
قبل أن يبدؤوه فنهض من فاس قاصدا تلمسان في جموعه إلى أن نزل عليها وحاصرها تسعة
أشهر وقتل في محاصرتها ولده الحران وكان نابا من أنيابه وسيفا من سيوفه ثم استولى
الشيخ على تلمسان ودخلها يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى الأولى سنة سبع
وخمسين وتسعمائة ونفى الترك عنها وانتشر حكمه في أعمالها إلى وادي شلف واتسعت خطة
مملكته بالمغرب ودانت له البلاد ثم كرت عليه الأتراك وأخرجوه من تلمسان فعاد إلى
مقره من فاس ثم عاود غزو تلمسان حين بلغه قيام رعاياها على الترك وانحصار الترك
بقصبتها فأقام مرابطا عليها أياما فامتنعت عليه وأقلع عنها ولم يعاود غزوها بعد
ذلك وخلص أمرها إلى الترك على ما نذكره
____________________
امتحان السلطان أبي عبد الله
الشيخ أرباب الزوايا والمنتسبين والسبب في ذلك
لما كانت سنة ثمان وخمسين وتسعمائة أمر السلطان أبو عبد الله الشيخ بامتحان أرباب
الزوايا والمتصدرين للمشيخة خوفا على ملكه منهم لما كان للعامة فيهم من الاعتقاد
والمحبة والوقوف عند إشاراتهم والتعبد بما يتأولونه من عباراتهم ألا ترى أن بيعة و
الده أبي عبد الله القائم لم تنعقد إلا بهم ولا ولج بيت الملك إلا من بابهم فامتحن
جماعة منهم كالشيخ أبي محمد الكوش فأخلى زاويته بمراكش وأمر برحيله إلى فاس
وفي الدوحة لما امتحن السلطان أبو عبد الله الشيخ زوايا المغرب قيل لأبي علي الحسن
بن عيسى المصباحي دفين الدعادع التي على وادي مضي من عمل القصر ألا تخشى من هذا
السلطان فقال إنما الخشية من الله ومع هذا فالماء والقبلة لا يقدر أحد على نزعهما
والباقي متروك لمن طلبه
وكان السلطان المذكور يطالب أرباب الزوايا بودائع أمراء بني مرين ويتهمهم بها وبعث
خديمه يوما إلى الشيخ أبي عثمان سعيد بن أبي بكر المشترائي دفين مكناسة يطالبه
بشيء من ذلك فوجده جالسا بناحية زاويته يضفر الدوم وإذا بطائر لعله اللقلاق سلح
أمامه فما رفع أبو عثمان بصره حتى سقط الطائر ميتا متطاير الريش فلما رأى الخديم
ذلك فزع وولى هاربا قاله في الممتع والله تعالى أعلم
____________________
وفادة الإمام أبي عبد الله
الخروبي من جانب دولة الترك في شأن قسم البلاد وتحديدها
لما كان من السلطان أبي عبد الله الشيخ ما كان من غزوه تلمسان مرتين وكان يحدث
نفسه بمعاودة غزو تلك البلاد عينت دولة الترك من جانبها الفقيه الصالح أبا عبد
الله محمد بن علي الخروبي الطرابلسي نزيل الجزائر ودفينها للوفادة على السلطان
المذكور في شأن عقد المهادنة وتحديد البلاد فقدم عليه الفقيه المذكور وهو بمراكش
سنة إحدى وستين وتسعمائة في هذا الغرض فأكرم السلطان أبو عبد الله وفادته إلا أنه
لم تظهر ثمرة لمقدمه
وفي المرآة أن أبا عبد الله الخروبي قدم المغرب الأقصى مرتين في سبيل السفارة بين
ملوك المغرب الأوسط والمغرب الأقصى فأخذ عنه كثير من أهل المغرب الأقصى وأخذ هو عن
الشيخ زروق رحمه الله وفي قدمة الخروبي هذه إلى مراكش أنكر على الشيخ أبي عمرو
القسطلي دفين رياض العروس من مراكش حلق شعر التائب الذي يريد الدخول في طريق القوم
وقال إنه بدعة فقالوا له إن الشيخ الجزولي كان يفعله فقال لهم لعله بإذن والإذن له
لا يعمكم فإن الإذن للنبي يعم أتباعه والإذن للولي لا يعم أتباعه وأنكر عليه مسائل
كثيرة وبعث إليه رسالة أقذع له فيها وقد وقفت عليها رحم الله الجميع بمنه وتوفي
الخروبي هذا سنة ثلاث وستين وتسعمائة ودفن خارج الجزائر والله أعلم
____________________
قدوم أبي حسون الوطاسي بجيش
التراك واستيلاؤه على فاس ونفيه الشيخ عنها
قد قدمنا ما كان من استيلاء السلطان أبي عبد الله على فاس سنة ست وخمسين وتسعمائة
وقبضه على بني وطاس وفرار أبي حسون إلى الجزائر فلم يزل أبو حسون عند تركها إلى أن
قدم بهم مع باشاهم صالح التركماني فاستولى على فاس ثالث صفر سنة إحدى وستين
وتسعمائة ونفى أبا عبد الله الشيخ عنها حسبما مر الخبر عنه مستوفى عود السلطان أبي
عبد الله الشيخ إلى فاس واستيلاؤه عليها
لما فر السلطان أبو عبد الله الشيخ من وقعة الترك بفاس ووصل إلى مراكش صرف عزمه
لقتال أبي حسون فاستنفر قبائل السوس وجمع الجموع وزحف إلى فاس فدارت بينه وبين
سلطانها أبي حسون حروب شديدة كان في آخرها الظفر للشيخ فقتل أبا حسون واستولى على
فاس وصفا له أمر المغرب وقد تقدمت هذه الأخبار مستوفاة في محلها وكان استيلاء
السلطان الشيخ على فاس يوم السبت الرابع والعشرين من شوال سنة إحدى وستين وتسعمائة
وفي الدوحة أن دخول أبي حسون لفاس كان سنة ستين وتسعمائة وعود السلطان الشيخ إليها
واستيلاؤه عليها كان في ذي القعدة سنة ستين أيضا والله تعالى أعلم
____________________
مقتل الفقيهين أبي محمد الزقاق
وأبي علي حرزوز والسبب في ذلك
لما استولى السلطان أبو عبد الله الشيخ على فاس في هذه المرة أمر بقتل الفقيه
الصالح قاضي الجماعة بفاس أبي محمد عبد الوهاب بن محمد ابن علي الزقاق لأنه اتهمه
بالميل إلى أبي حسون
ويحكى أنه لما مثل بين يديه قال له اختر بأي شيء تموت فقال له الفقيه اختر أنت
لنفسك فإن المرء مقتول بما قتل به فقال لهم السلطان اقطعوا رأسه بشاقور فكان من
حكمة الله وعدله في خلقه أن السلطان المذكور قتل به أيضا كما سيأتي
وفي كتاب خلاصة الأثر أن الشيخ الزقاق كان يقول من قتل سوسيا كان كمن قتل مجوسيا
فلما قبض عليه الشيخ قال له أنت زق الضلال فقال له لا والله بل أنا زق العلم
والهداية ثم قتله
وأمر أيضا بقتل خطيب مكناسة الزيتون الشيخ أبي علي حرزور المكناسي لكلام بلغه عنه
وأنه كان يذكره في خطبه ويحذر الناس من اتباعه والانقياد إليه ويقول في خطبته
جاءكم أهل السوس الأقصى البعاد ثم يذكر الشيخ ويقول { وإذا تولى سعى في الأرض
ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته
العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد } في كلام غير هذا وكان مقتل الفقيهين
المذكورين في ذي القعدة سنة إحدى وستين وتسعمائة
____________________
ترتيب السلطان أبي عبد الله
الشيخ أمر دولته وما قيل في ذلك
قال اليفرني كان السلطان أبو عبد الله الشيخ مولعا بتدبير أمر الرعية مستيقظا في
أموره حازما غير متوقف في سفك الدماء قال ويحكى أنه لما دخل فاسا دخلها وعليه وعلى
أصحابه سمة البداوة فحملوا أنفسهم على التأدب بآداب أهل الحاضرة والتخلق بأخلاقهم
وذكر أن ملك السعديين إنما تأنق على يد رجل وامرأة فأما الرجل فقاسم الزرهوني فإنه
رتب للسلطان أبي عبد الله الشيخ هيئة السلاطين في ملابسهم ودخولهم وخروجهم وآداب
أصحابهم وكيفية مثولهم بين أيديهم وأما المرأة فالعريفة بنت خجو فإنها علمته سيرة
الملوك في منازلهم وحالاتهم في الطعام واللباس وعاداتهم مع النساء وغير ذلك فاكتسى
ملك الشيخ بذلك طلاوة وازداد في عيون العامة رونقا وحلاوة بسبب جريانه على العوائد
الحضرية لأن أهل البادية مسترذلون في عيون أهل الحاضرة قالوا ولم يزل السلطان أبو
عبد الله الشيخ يدور على مدن المغرب وأمصاره ويطيل الإقامة بفاس
قال في المنتقى ومن مآثره أنه بنى جسر وادي سبو وجسر وادي أم الربيع وتقدم بناؤه
حصن آكادير والله تعالى أعلم وضع الوظيف المسمى في لسان العامة بالنائبة
قد تقدم لنا في صدر هذا الكتاب اختلاف العلماء في أرض المغرب هل فتحت عنوة أو صلحا
أو غير ذلك وعلى القول بأنها فتحت عنوة فهي خراجية كما هو مقرر في كتب الفقه وتقدم
لنا أيضا أن أول من وظف الخراج على أرض المغرب عبد المؤمن بن علي وتبعه بنوه على
ذلك وقفا نهجهم بنو مرين وفي الظهير الذي كتبه السلطان أبو زيان المريني لابن
الخطيب أيام مقامه بسلا شاهد بذلك ولما جاء السعديون من بعدهم سلكوا هذا السبيل
أيضا وقول اليفرني إن أبا عبد الله الشيخ أول من أحدث النائبة
____________________
بالمغرب يحمل على أنه أول من
أحدثها على الوجه الآتي بيانه وذلك أنه لما صفا للسلطان أبي عبد الله الشيخ أمر
المغرب واستأصل جرثومة بني وطاس منه التفت إلى ترتيب ملكه وتهذيب أعطافه وتأسيس
أمور دولته كما قلنا فمن ذلك أنه فرض على قبائل المغرب الضريبة المسماة في لسان
العامة بالنائبة ولم ينزه عنها شريفا ولا مشروفا حتى أرباب الزوايا والمنتسبين
ومنهم أولاد الشيخ أبي البقاء خالد المصمودي مع ما كان لأبيهم من الشهرة بالولاية
والصيت في بلاده وكان قدر هذه النائبة صحفة من الشعير وعشرين مدا من القمح لكل
نائبة وصاعا من السمن وكبشا لكل أربع نوائب وكانت تفرض في زمان الشيخ على الكوانين
وتوظف على حسب السكان وتدفع بأعيانها وجرى على ذلك ولده الغالب بالله وأخوه
المعتصم ولما جاء المنصور من بعدهم قوم تلك الأعيان بسعر الوقت وصارت تدفع دراهم
ثم ازداد ذلك إلى أن خرج الأمر عن القياس واتسع الخرق على الراقع والله لا يظلم
مثقال ذرة مراسلة السلطان سليمان العثماني للسلطان أبي عبد الله الشيخ وما نشأ عن
ذلك
قد قدمنا ما كان من غص السلطان أبي عبد الله الشيخ بمكان الترك من تلمسان والمغرب
الأوسط وأنه غزاهم مرتين وقدم الإمام أبو عبد الله الخروبي ساعيا في الهدنة فلم
يرجع بطائل وكان السلطان الشيخ يقول فيما زعموا لا بد لي أن أغزو مصر وأخرج الترك
من أحجارها وكان يطلق لسانه في السلطان سليمان العثماني ويسميه بسلطان الحواتة
يعني لأن الترك كانوا أصحاب أساطيل وسفر في البحر فأنهى ذلك إلى السلطان سليمان
فبعث إليه رسله فهذا سبب المراسلة على ما في النزهة
وأشبه منه بالصواب ما حكاه بعضهم قال لما بلغ خبر انقراض الدولة الوطاسية إلى
السلطان سليمان العثماني واستيلاء السعديين على ملك المغرب الأقصى كتب إلى الشيخ
يهنئه بالملك ويلتمس منه الدعاء له على منابر
____________________
المغرب وبعث إليه بذلك رسولا
في البحر فانتهى إلى الجزائر ومنها قدم إلى مراكش في البر ولما وصل إلى السلطان
أبي عبد الله الشيخ أنزله على كبير الأتراك في محلته صالح باي المعروف بالكاهية
وكان هؤلاء الأتراك قد انحاشوا إلى الشيخ من بقايا القادمين مع أبي حسون فضمهم
إليه وجعلهم جندا على حدة وسماهم اليكشارية بالياء ثم الكاف ثم الشين وهو لفظ تركي
معناه العسكر الجديد ولما قرأ السلطان أبو عبد الله الشيخ كتاب السلطان سليمان
ووجد فيه أنه يدعو له على منابر المغرب ويكتب اسمه على سكته كما كان بنو وطاس حمى
أنفه وأبرق وأرعد وأحضر الرسول وأزعجه فطلب منه الجواب فقال لا جواب لك عندي حتى
أكون بمصر إن شاء الله وحينئذ أكتب لسلطان القوارب فخرج الرسول من عنده مذعورا
يلتفت وراءه إلى أن وصل إلى سلطانه وكان من أمره ما نذكره قدوم طائفة الترك من عند
السلطان سليمان العثماني واغتيالهم للسلطان أبي عبد الله الشيخ رحمه الله
لما خرج رسول السلطان سليمان العثماني من عند السلطان أبي عبد الله الشيخ ووصل إلى
الجزائر ركب البحر إلى القسطنطينية فانتهى إليها واجتمع بالوزير المعروف عندهم
بالصدر الأعظم وأخبره بما لقي من سلطان المغرب فأنهى الوزير ذلك إلى السلطان
سليمان فأمره أن يهيئ العمارة والعساكر لغزو المغرب فاجتمع أهل الديوان وكرهوا
توجيهها واتفق رأيهم على أن عينوا اثني عشر رجلا من فتاك الترك وبذلوا لهم اثني
عشر ألف دينار وكتبوا لهم كتابا إلى صالح الكاهية كبير عسكر الشيخ ووعدوه بالمال
والمنصب إن هو نصح في اغتيال الشيخ وتوجيه رأسه مع القادمين عليه
وفي النزهة أن صالحا هذا كان من ترك الجزائر جاء في جملة
____________________
الطائفة الموجهين لاغتيال
الشيخ والله أعلم ثم دخل الوزير على السلطان سليمان واعتذر إليه عن توجيه العمارة
وقال هذا أمر سهل لا يحتاج فيه إلى تقويم عمارة وهذا المغربي الذي أساء الأدب على
السلطان يأتي رأسه إلى بين يديك فاستصوب رأيهم وشكر سعيهم وأمر بتوجيه الجماعة
المعينة في البحر إلى الجزائر ومنها يتوجهون إلى مراكش في البر ففعلوا ولما وصلوا
إلى الجزائر هيؤوا أسبابا واشتروا بغالا وساروا إلى فاس في هيئة التجار فباعوا بها
أسبابهم وتوجهوا إلى مراكش ولما اجتمعوا بصالح الكاهية أنزلهم عنده ودبر الحيلة في
أمرهم إلى أن توجهت له
وفي النزهة أن هؤلاء الأتراك خرجوا من الجزائر إلى مراكش مظهرين أنهم فروا من
سلطانهم ورغبوا في خدمة الشيخ والاستيجار به ثم إن صالحا الكاهية دخل على السلطان
أبي بعد الله الشيخ وقال يا مولاي إن جماعة من أعيان جند الجزائر سمعوا بمقامنا
عندك ومنزلتنا منك فرغبوا في جوارك والتشرف بخدمتك وليس فوقهم من جند الجزائر أحد
وهم إن شاء الله السبب في تملكها فأمره بإدخالهم عليه ولما مثلوا بين يديه رأى
وجوها حسانا وأجساما عظاما فأكبرهم ثم ترجع له صالح كلامهم فأفرغه في قالب المحبة
والنصح والاجتهاد في الطاعة والخدمة حتى خيل إلى الشيخ أنه قد حصل على ملك الجزائر
فأمره بإكرامهم وأن يعطيهم الخيل والسلاح ويكونوا يدخلون عليه مع الكاهية كلما دخل
فكانوا يدخلون عليه كل صباح لتقبيل يده على عادة الترك في ذلك
وصار الشيخ يبعث بهم إلى أشياخ السوس مناوبة في الأمور المهمة ليتبصروا في البلاد
ويعرفوا الناس وكان يوصي الأشياخ بإكرام من قدم عليهم منهم واستمر الحال إلى أن
أمكنتهم فيه الفرصة وهو في بعض حركاته بجبل درن بموضع يقال له آكلكال بظاهر
تارودانت فولجوا عليه خباءه ليلا على حين غفلة من العسس فضربوا عنقه بشاقور ضربة
أبانوا بها رأسه واحتملوه في مخلاة ملؤوها نخالة وملحا وخاضوا به أحشاء الظلماء
وسلكوا طريق درعة وسجلماسة كأنهم أرسال تلمسان لئلا يفطن بهم أحد من
____________________
أهل تلك البلاد ثم أدركوا ببعض
الطريق فقاتلت طائفة منهم حتى قتلوا ونجا الباقون بالرأس وقتل مع الشيخ تلك الليلة
الفقيه مفتي مراكش أبو الحسن علي بن أبي بكر السكتاني والكاتب أبو عمران الوجاني
ولما شاع الخبر بأن الترك قتلوا السلطان واستراب الناس بجميع من بقي منهم بالمغرب
أغلق إخوانهم الذين كانوا بتارودانت أبوابها واقتسموا الأموال واستعدوا للحصار
ولما بويع ابنه الغالب بالله وقدم من فاس نهض في العساكر إلى تارودانت للأخذ بثأر
أبيه من الترك الذين بها فحاصرهم مدة ولما لم يقدر منهم على شيء أعمل الحيلة بأن
أظهر الرحلة عنهم وأشاع أنه راجع إلى فاس لثائر قام بها ولما أبعد عنهم مسيرة يوم
خرجوا في اتباعه ليلا والعيون موضوعة عليهم بكل جهة إلى أن شارفوا محلة السلطان
الغالب بالله فعطف عليهم ولما لم يمكنهم الرجوع إلى تارودانت تحيزوا إلى الجبل
وبنوا به قياطنهم وجعلوا عليها المتارزات من الأحجار وتحصنوا بها وأحاطت بهم
العساكر من كل جهة فقاتلوا إلى أن فنوا عن آخرهم ولم يؤخذ منهم أسير وقتلوا من
محلة الغالب بالله ألفا ومائتين وأما الذين نجوا بالرأس فانتهوا إلى الجزائر
وركبوا البحر منها إلى القسطنطينية فأوصلوا الرأس إلى الصدر الأعظم وأدخله على
السلطان سليمان فأمر به أن يجعل في شبكة نحاس ويعلق على باب القلعة فبقي هنالك إلى
أن شفع في إنزاله ودفنه ابناه عبد الملك المعتصم وأحمد المنصور حين قدما
القسطنطينية على السلطان سليم بن سليمان مستعديين له على ابن أخيهما المسلوخ كما
يأتي وكان مقتل الشيخ رحمه الله يوم الأربعاء التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة
أربع وستين وتسعمائة ولما بلغ خبر مقتله إلى خليفته بمراكش القائد أبي الحسن علي
بن أبي بكر آزناك بادر بقتل أبي العباس الأعرج المخلوع وأولاده ذكورا وإناثا كبارا
وصغارا خشية أن يخرجه أهل مراكش فيبايعوه ولما قتلوا لم يتجرأ أحد على دفنهم فبقوا
مصرعين حتى دفنهم الشيخ أبو عمرو القسطلي الولي الشهير بمقربة من ضريح الشيخ
الجزولي وهي القبة التي قرب الضريح المذكور تسمى قبور الأشراف وأما السلطان أبو
عبد الله الشيخ
____________________
فإنهم حملوا جثته إلى مراكش
فدفنت بها قبلي جامع المنصور بروضة السعديين وقبره شهير بها إلى الآن ومما نقش على
رخامة قبره هذه الأبيات
( حي ضريحا تغمدته رحمات ** وظلت لحده منها غمامات )
( واستنشقن نفحة التقديس منه فقد ** هبت من الخلد لي منها نسيمات )
( بحر به كورت شمس الهدى فكست ** من أجلها السبعة الأرضين ظلمات )
( يا مهجة غالها غول الردى قنصا ** وأثبتت سهمها فيها المنيات )
( دكت لموتك أطواد العلا صعقا ** وارتج من بعدك السبع السموات )
( وشيعت نعشك المزجى إلى عدن ** من الملائك ألحان وأصوات )
( يا رحمة الله عاطيه سلاف رضا ** تدور منها عليه الدهر كاسات )
( قضى فوافق في التاريخ منه حلى ** دار إمام الهدى المهدي جنات ) بقية أخبار
السلطان أبي عبد الله الشيخ وسيرته
كان السلطان أبو عبد الله محمد الشيخ يلقب من الألقاب السلطانية بالمهدي ونشأ في
عفاف وصيانة وعني بالعلم في صغره وتعلق بأهدابه فأخذ عن جماعة من الشيوخ وبلغ فيه
درجة الرسوخ حتى كان يخالف القضاة في الأحكام ويرد عليهم فتاويهم فيجدون الصواب
معه وقع ذلك منه مرارا وله حواش على التفسير وذلك مما يدل على غزارة علمه
وقال في المنتقى كان السلطان أبو عبد الله الشيخ رحمه الله أديبا متفننا حافظا
حدثني شيخنا أبو راشد أنه كان ممتع المجالسة والمذاكرة نقي الشيبة عظيم الهيبة ما
رأيت بعد شيخي أبي الحسن علي بن هارون أحفظ منه للمقطعات الشعرية وكثيرا ما ينشد
( الناس كالناس والأيام واحدة ** والدهر كالدهر والدنيا لمن غلب )
وكان حافظا للقرآن فهما جدا حافظ لصحيح البخاري ويستحضر ما للناس عليه ويقول في
شرح ابن حجر ما صنف في الإسلام مثله عارفا بالتفسير وغيره وكان يحفظ ديوان المتنبي
عن ظهر قلب وكان يحض على
____________________
المشاورة ويقول لا سيما في حق
الملوك وينشد قول المتنبي
( ومن جهلت نفسه قدره ** رأى غيره منه ما لا يرى )
وكان يقول ينبغي للملك أن يكون طويل الأمل فإن طول الأمل وإن كان لا يحسن من غيره
فهو منه صالح لأن الرعية تصلح بطول أمله وكان يقول من طول أمله أخذ تلمسان وسبتة
وغيرهما انتهى
وقوله إنه كان يحفظ ديوان المتنبي سببه ما ذكره في الدوحة قال أخبرني الوزير
المعظم أبو عبد الله محمد بن الأمير أبي محمد عبد القادر بن السلطان أبي عبد الله
محمد الشيخ الشريف قال لما غدرت قبيلة المنابهة بجد السلطان المذكور وأنجاه الله
من غدرتهم عرف الشيخ أبا محمد عبد الله ابن عمر بذلك فكتب إليه يقول أين أنت من
قول أبي الطيب المتنبي
( غاض الوفاء فما تلقاه في عدة ** وأعوز الصدق في الإخبار والقسم )
قال فعكف السلطان المذكور على ديوان المتنبي حتى حفظه كله ولم يعزب عنه بيت واحد
اه وابن عمر المذكور هو أحد أشياخ السلطان المذكور وهو أبو محمد عبد الله بن عمر
المضغري الفقيه الفرضي الحاسب فقيه درعة وعالمها وكان قد وفد على السلطان المذكور
أيام كونه بالسوس ولما عاد إلى درعة سأله فقهاؤنا كيف وجدت أهل السوس فقال وجدت
فقهاءهم على ضعيف الفتاوي وفقراءهم على عظيم الدعاوي وعامتهم على كثير المساوي
ومن أشياخ السلطان المذكور الإمام الشهير شيخ الجماعة بالصقع السوسي أبو الحسن علي
بن عثمان الثاملي ذكره في المنتقى وأثنى عليه ومن أشياخه علامة فاس ومحققها أبو
عبد الله محمد بن أحمد اليستني أخذ عنه علوما منها التفسير قال المنجور وكنت أنا
قارئه بين يدي أمير المؤمنين أبي عبد الله الشيخ المذكور وكان شديد المحبة له قال
ولما
____________________
توفي الفقيه المذكور وذهبت مع
ولده صبيحة تلك الليلة التي توفي بها لنخبر السلطان بوفاته وجدناه يقرأ ورده بحمام
المريني فخرج السلطان إلينا وهو يبكي بصوت عال يفزع من سمعه حتى رأينا منه العجب
وما سكت إلا بعد مدة لما كان يعلم منه من صحة الدين والنصح لخاصة المسلمين وعامتهم
وحضر جنازته وكانت وفاته رحمه الله سنة تسع وخمسين وتسعمائة وللسلطان المذكور عدة
أشياخ غير هؤلاء
ومن وزرائه الرئيس أبو الحسن علي بن أبي بكر آصناك الحاحي وأبو عمران موسى بن أبي
جمدي العمري وغيرهم
ومن قضاته بفاس أبو الحسن علي بن أحمد الخصاصي وبمراكش أبوالحسن علي بن أبي بكر
السكتاني رحم الله الجميع
وكان للسلطان أبي عبد الله الشيخ عدة أولاد نجباء ومن أنجبهم أبو عبد الله محمد
المعروف بالحران القتيل على تلمسان ومنهم أبو محمد عبد الله الغالب بالله وأبو
مروان عبد الملك الغازي وأبو العباس أحمد المنصور وهؤلاء الثلاثة ولوا الأمر بعد
أبيهم ومنهم الوزير أبو محمد عبد القادر وتوفي في حياة أبيه سنة تسع وخمسين
وتسعمائة
وفي نشر المثاني أنه قتل مخنوقا بأمر أخيه عبد الله الغالب بالله سنة خمس وسبعين
وتسعمائة فالله أعلم ومنهم عثمان وعبد المؤمن وعمر وغيرهم
قال المنجور في فهرسته حضرت يوما مجلس أمير المؤمنين أبي عد الله الشيخ وقد حضر
عنده أولاده الصناديد الأمراء المولى محمد الحران والمولى عبد القادر والمولى عبد
الله فدخل شيخنا الإمام أبو عبد الله اليستني فلما نظر إليهم حول أبيهم أنشد بيت
تلخيص المفتاح
( فقلت عسى أن تبصريني كأنما ** بنى حوالي الأسود الحوارد )
فأعجب ذلك السلطان وأولاده رحمة الله عليهم
____________________
الخبر عن دولة السلطان أبي
محمد عبد الله الغالب بالله ابن السلطان محمد الشيخ رحمه الله
كانت ولادة السلطان أبي محمد عبد الله الغالب بالله كما رأيته مرقوما على الرخامة التي
على قبره في رمضان سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة وكان رحمه الله أدعج العينين مستدير
الوجه عريضه أسيل الخدين مشرف الوجنتين ربعة للقصر ونشأ في عفاف وصيانة وحفظ
القرآن وأخذ بطرف صالح من العلم وكان ولي عهد أبيه وكان يلقب من الألقاب السلطانية
بالغالب بالله لقبه به غير واحد من الأئمة ولما وافته الأنباء بمقتل أبيه وهو بفاس
بايعه أهلها ولم يتخلف عن بيعته منهم أحد
وذكر صاحب زهرة الشماريخ أن الفقيه الميقاتي المعدل بمنار القرويين أبا عبد الله
المزوار وكان بصيرا بعلم الأحكام والحدثان بينما هو ذات ليلة يرقب الطالع والغارب
وقد ابهار الليل واسود ديجوره رأى طالع السلطان الشيخ قد سقط وكانت بينه وبين ابنه
أبي محمد عبد الله وصلة فأسرع في الذهاب إليه ليخبره بما رأى فلما بلغ باب فاس
الجديد وجده مغلقا فاستأذن الموكلين به في فتحه فأبوا فقال لهم إني جئت إلى
الخليفة يعني خليفة السلطان في أمر مهم عنده وإن لم تعلموه بمكاني الساعة لحقكم
منه غدا ما تكرهون فأنذروا الخليفة المذكور به فحمل إليه وسأله عن قضيته فأخبره
بما رأى ونعى إليه أباه فلم يكذب في ذلك وتهيأ واستعد فلم تمض إلا أيام قلائل حتى
وافته الأنباء بمقتل أبيه في تلك الساعة التي قال له المعدل المذكور فصادفه الحال
على أهبة واستعداد ولما بلغ أهل مراكش مبايعة أهل فاس له وافقوا عليها فاستوسق له
الأمر وتمهد له ملك أبيه وكان ذلك كله في المحرم سنة خمس وستين وتسعمائة
____________________
مجيء حسن بن خير الدين التركي
إلى فاس ورجوعه منهزما عنها
قال ابن القاضي لما ولي السلطان أبو محمد عبد الله الغالب بالله الخلافة اشتغل
بتأسيس ما بيده وتحصينه بالعدد والعدة ولم تطمح نفسه إلى الزيادة على ما ملك أبوه
من قبله
وفي سنة خمس وستين وتسعمائة في جمادى الأولى منها غزاه حسن بن خير الدين باشا
التركي صاحب تلمسان في جيش كثيف من الأتراك فخرج إليه السلطان الغالب بالله
فالتقيا بمقربة من وادي اللبن من عمالة فاس فكانت الدبرة على حسن فرجع منهزما يطلب
صياصي الجبال إلى أن بلغ إلى باديس وكانت يومئذ للترك ورجع الغالب بالله إلى فاس
لكنه لم يدخلها لوباء كان بها يومئذ ولما رجع من حركته هذه أمر بقتل أخيه عثمان
لأمر نقمه عليه فقتل في السنة المذكورة والله تعالى أعلم بناء جامع المواسين بحضرة
مراكش والبركة المتصلة به والمارستان وغير ذلك
قال اليفرني وفي عشرة السبعين وتسعمائة أنشأ السلطان الغالب بالله جامع الأشراف
بحومة المواسين من مراكش والسقاية المتصلة به التي عليها مدار المدينة المذكور
والمارستان الذي ظهر نفعه ووقف عليه أوقافا عظيمة قلت وهذا المارستان هو الذي
بحومة الطالعة قرب السجن وقد اتخذ اليوم سجنا للنساء قال وهذا السلطان هو الذي جدد
أيضا بناء المدرسة التي بجوار جامع ابن يوسف اللمتوني وليس هو الذي أنشأها كما
يعتقده كثير من الناس بل الذي أنشأها أولا هو السلطان أبو الحسن المريني رحمه الله
حسبما ذكره ابن بطوطة في رحلته وشاع على الألسنة أن السلطان الغالب بالله توصل إلى
بنائها بصناعة الكيمياء وأن الشيخ أبا العباس أحمد بن موسى السملالي علمه إياها
حين تلمذ له كما سيأتي
قال اليفرني وهو كذب فإن المنقول عن الشيخ المذكور إنكارها
____________________
وما كان ليفتح على مسلم بابا
عظيما من أبواب الفتنة وسببا بليغا من أسباب المحنة لأن هذه الحرفة من أعظم أبواب
الفتن وقد أجمع أرباب البصائر على التحذير من تعاطيها لوجوه ثلاثة أولها إنها من
المستحيلات كما ذكره ابن سيناء مستدلا عليه بقوله تعالى { لا تبديل لخلق الله }
وكما أنه ليس في قدرة المخلوق أن يحول القرد إنسانا والذئب غزالا كذلك ليس في
قدرته أن يصير الرصاص فضة والنحاس ذهبا يعني لأن ذلك من باب قلب الحقائق وهو محال
ولقد تناظر رجلان فيها فقال مجوزها أتنكر ما تشاهده في الصبغ وتصيير الجسد الأحمر
أصفر والأبيض أسود فقال مانعها لا أنكر ذلك لأن الصبغ ليست تغيير أصل وإنما أنكر
أن ثوب الصوف الأبيض ترده صناعة الصبغ قطنا أو حريرا أحمر أو أخضر وأما الصبغ فلا
شك أن النحاس يصير أبيض ولا يخرجه ذلك عن أصله ولا يسلب عنه اسم النحاس بل يقال
فيه نحاس أبيض كما لا يسلب صبغ الصوف عنه اسم الصوف ثانيها سلمنا أنها جائزة
الوجود لكنها معدومة في الخارج كما ذهب إليه أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله إذ
قال ثلاث متفق على وجودها في الغالب وقد اتفق على عدم رؤيتها أهل المشارق والمغارب
الكيمياء والعنقاء والغول وأخبارها كلها على وجه السماع والإسنادات وحكايتها
كالموضوعات عن العجماوات والجمادات ثالثها سلمنا أنها موجودة في الخارج لكنه يحرم
تناولها والبيع والشراء بها
وقد سئل عنها الشيخ أبو إسحاق التونسي رحمه الله فقيل له أحلال هي إذا كانت خالصة
فقال لو دبر النحاس أو غيره من الأجساد حتى صار ذهبا خالصا لا شك فيه فمتى لم يقل
بائعه لمبتاعه هذا كان نحاسا أو جسدا من الأجساد فدبرته حتى صار ذهبا كما ترى لكان
غاشا مدلسا قال ومتى ذكره لم يشتر أحد منه ذلك بفلس ويقول فكما دبرته حتى صار ذهبا
فكذلك يدبره غيرك حتى يرجع إلى أصله فمن لم يبين فيها فهو داخل
____________________
في قوله صلى الله عليه وسلم من
غشنا فليس منا فتكون صناعتها حراما وقيل لبعض الفضلاء لم لم تتعلل بهذه الصناعة
فإنها تسلي الخاطر فقال قيل للحمار لم لم تجتر فقال أكره مضغ الباطل وأنشد
( فقلت لأصحابي هي الشمس ضوءها ** قريب ولكن في تناولها بعد )
اه ما نقله اليفرني ملخصا مهذبا وهو الحق الذي لا عوج فيه ولا أمت ثم قال وبالجملة
فما شاع عن السلطان الغالب بالله من ذلك لا أصل له ولقد كان أهل الورع يجتنبون
الصلاة في جامع الأشراف بعد ما بنى مدة ويقال إن موضع ذلك الجامع كان مقبرة لليهود
والله تعالى أعلم فتح مدينة شفشاون وانقراض أمر بني راشد منها
تقدم أن مدينة شفشاون حرسها الله بناها بنو راشد من شرفاء العلم وكانوا أهل جهاد
ومرابطة على العدو ببلاد غمارة والهبط ولما توفي مختطها الأمير أبو الحسن علي بن
موسى بن راشد بقيت بيد أولاده يتولون رياستها قال في المرآة ولم يزالوا فيها بين
سلم وحرب إلى أن حاصرهم بها الوزير أبو عبد الله محمد بن عبد القادر ابن السلطان
محمد الشيخ السعدي بجيوش عمه السلطان أبي محمد عبد الله الغالب بالله وصاحب شفشاون
يومئذ الأمير الفاضل أبو عبد الله محمد ابن الأمير أبي الحسن علي بن موسى بن راشد
فلما اشتد عليه الحصار خرج فيمن إليه من أهله وولده وقرابته وصعدوا الجبل المطل
على شفشاون في مسلك وعر صحبتهم فيه السلامة وذلك ليلة الجمعة الثاني من صفر سنة
تسع وستين وتسعمائة وساروا إلى ترغة فركبوا منها البحر يوم الجمعة تاسع الشهر
المذكور واستقر الأمير أبو عبد الله بالمدينة المنورة إلى أن مات بها رحمه الله
____________________
حصار البريجة المسماة اليوم
بالجديدة
قد قدمنا ما كان من بناء البرتغال لمدينة الجديدة وتحصينهم لها بما فيه كفاية
وكانت غارات المسلمين المجاورين لهم لا تنقطع عنهم وكذلك هم سائر مقامهم بها ولما
كانت سنة تسع وستين وتسعمائة جهز إليها السلطان الغالب بالله جيشا كثيفا واستنفر
لها قبائل الحوز وعقد عليهم لابنه محمد المعروف بالمسلوخ قتيل وادي المخازن وكان
يومئذ ابن عشرين سنة على ما قيل واستوزر له القائد المجاهد الشاعر الفاضل أبا زيد
عبد الرحمن بن تودة العمراني وجعل إليه أمر الحرب وابن السلطان صورة فزحف إليها
وحاصرها أربعة وستين يوما وملك بعض أسوارها ولم يقض الله بفتحها
وفي النزهة ذكر أن القائد ابن تودة دخل البريجة التي قرب آزمور وأخذ أسوارها وعزم
على أن يستأصل في الغد بقيتها ولا يبقي للكفر بها أثرا فكتب إليه السلطان الغالب
بالله ينهاه عنها فتراجع النصارى إليها بعد أن ركبوا البحر عازمين على الجلاء عنها
اه
وقد وقفت في التاريخ البرتغالي الموضوع في أخبار الجديدة واسم مؤلفه لويز مارية
على أخبار هذا الحصار وقد استوعبها وبسطها وتتبع الوقائع فصلا فصلا ويوما يوما
وأتى من ذلك بما يزيد على الكراسة فكان من جملة ما قال إنه لما عزم السلطان الغالب
بالله على غزوهم وأخذ في تجهيز الجيوش إليهم أتاهم بعض المتنصرة قال وهو عبد أسود
فأخبرهم بأن السلطان مستعد لحربهم وكانوا عازمين على التوثق من هذا الجاسوس فأفلت
منهم فعلموا أن إظهاره للتنصر كان مكيدة ثم أخذوا في الاستعداد واشتروا من عند
قائد آزمور ألفي سيف هكذا زعم قال وفي اليوم الرابع من مارس سنة ألف وخمسمائة
واثنتين وستين مسيحية وصلت جموع المسلمين إلى حوز الجديدة وهذا التاريخ موافق
للتاريخ العربي الذي قدمناه قال فكانت خيل المسلمين نحو ثلاثين ألف والرماة ضعف
ذلك وكان فيهم عسكر الترك المعروف بالبلدروش وكانوا يومئذ جندا للسعديين وكان معهم
____________________
عشرون مدفعا عشرة كبيرة وعشرة
صغيرة وفيها واحد أعظم من الجميع يسمى ميمونا وكان معهم العلم الكبير الأبيض
ورايات أخر ملونة وتقدموا إلى الجديدة فحاصروها حصارا شديدا وحاربوها حربا هائلة
وصف هذا المؤرخ ذلك كله وصفا كاشفا وكانت الجديدة يومئذ في غاية الحصانة والمناعة
فلم يتمكن المسلمون من النصارى على ما ينبغي وأرسل الترك عليهم أنواع الحراقيات
وملكوا المتارزات التي كانت حول السور بعد أن هلكت عليها نفوس من الفريقين ثم صنع
النصارى للمسلمين عندها مينا البارود مرتين ففي الأولى كانت المينا تسعة براميل
نفط منهن سبعة فأهلكت خلقا من المسلمين والنصارى وفي الثانية كانت تسعة عشر برميلا
أمام السور فنفطت بالمسلمين وأتلفت منهم عددا فبعضهم طار في الهواء وبعضهم تحت
التراب
وكان رماة المسلمين ينالون منهم نيلا عظيما واعترف النصارى لهم بجودة الرمي بحيث
كانوا كلما ظهر منهم عسكري على السور اختطفته رصاصة في أخير موضع من بدنه من الرأس
أو الصدر
قال لويز المؤرخ ولقد قدم في بعض الأيام من أشبونة كبير من كبراء جندهم فقال لهم
أروني كيف قتالكم لهؤلاء المسلمين وكيف مصافتكم لهم قال فما ظهر برأسه على السور
ليرى محلة المسلمين حتى أصابته رصاصة نثرت دماغه كأن صاحبها كان ينتظره وكان ذلك
بنفس نزوله من البحر قبل أن يذهب إلى منزله فعوضه منه المسلمون القبر قال فما كان
النصارى بعدها يقدرون أن يظهروا على السور إلا في النادر ولما طال عليهم الحصار
ندب كبيرهم جماعة منهم للخروج إلى السواحل البعيدة عن محلة المسلمين لعلهم يظفرون
بأسير منهم يستكشفونه عن خبر الجيش المحاصر لهم هل هو مرتحل أو مقيم وما مدة
الإقامة قال فخرجوا في فلك لهم ليلا وساروا حتى بلغوا ساحل طيط وهي يومئذ خالية
وكان بقربها محلة لقائد آسفي فلما طلع الفجر تقدموا إلى البر وأرسوا فلكهم إلى
جانب بعض الأحجار هنالك بحيث يخفى على المارين بالساحل ثم كمنوا هنالك فلما كان
وقت الإسفار إذا برجل من محلة آسفي أتى على فرسه إلى
____________________
شاطئ البحر لبعض حاجاته فلم
يرعه إلا النصارى قد أحدقوا به وأخذوا بلجام فرسه وجعل بعضهم فم مكحلته في صدره
فلم يملك المسلم من نفسه شيئا ثم أنزلوه عن الفرس وساقوه إلى الفلك أسيرا ولججوا
به في البحر ولما بعدوا عن البر شيئا ما رمى أحدهم الفرس برصاص فقتله ثم أسرعوا
إلى الجديدة فدخلوها واجتمع النصارى على المسلم وهو كالمبهوت بينهم ثم سألوه عن
خبر الجيش المحاصر لهم فأخبرهم بأنهم يناجزونهم بعد هذا مرة أخرى أو مرتين فإن لم
يظفروا بهم ارتحلوا عنهم فكان كذلك قال وكان ارتحال المسلمين من الجديدة في سابع
مايه العجمي من السنة المذكورة فعمل النصارى لذلك عيدا وأحدثوا في كنائسهم صلوات
لم تكن قبل وذلك بإشارة باباهم صاحب رومة
ومما حكاه هذا البرتغالي فيما كان يجري بين أهل آزمور وبينهم من الحرب وذلك بعد
هذا الحصار بمدة يسيرة أنه كان بآزمور امرأة حسناء وخطبها رجل من أهل البلد سماه
لويز إلا أنه لم يحسن النطق به لعجمته وأظنه اسمه الميلودي لأن الحروف التي ذكر
تقرب منه قال فامتنعت عليه فراودها أياما واشتد كلفه بها فلم تزدد عليه إلا تمنعا
فبعث إليها ذات يوم يرغبها في نفسه ويدلي عليها بمآثره التي من جملتها الشجاعة حتى
قال لها وإن شئت أن آتيك برأس أعظم نصراني بالجديدة وأشجعه فعلت ولعلها كانت
موتورة لهم فقالت له إن أتيتني به تزوجتك فذهب الرجل المذكور إلى قائد آزمور ولم
يسمه لويز وعرض عليه أن يكتب إلى كبير نصارى الجديدة وصاحب رأيهم بأن يعين من
جانبه رجلا من شجعانهم
____________________
ليبارزه إن شاء فأجابه القائد
إلى مراده وذهب الرسول بالكتاب حتى وقف على نحو غلوة من المدينة وهذا الموضع هو
الذي كانت تقف فيه رسل آزمور إذا قدمت لغرض فخرج إليه البريد من عند صاحب الجديدة
وحاز الكتاب ورجع به إلى صاحبه فلما قرأه أحضر جماعة من وجوه جنده وعرض عليهم ما
فيه فقام رجل منهم وقال أن صاحبه وهذا الرجل سماه لوزير وقال كان ابن ثلاثين سنة
كامل القامة ممتلئ الأعضاء أسمر اللون كثير شعر البدن أسود اللحية وكان برأسه جرح
لم يندمل من وقعة كانت بينهم وبين أهل أزمور قبل ذلك فكتب صاحب الجديدة إلى قائد
آزمور إنا قد أجبناك إلى ما دعوت وقد أعجبنا ذلك وها نحن قد عينا لصاحبك قرنه
فلتعينوا لنا اليوم والساعة التي تكون فيها الملاقاة فاتفقا على يوم معلوم وفي ذلك
اليوم سار قائد آزمور في أصحابه ووجوه أهل بلده ومعهم الرجل المذكور إلى الجديدة
فانتهوا إلى الموضع الذي جرت العادة أن يقف فيه المسلمون وخرج قائد النصارى في
جماعته وشرطوا للمبارزة وكيفتها شروطا منها أن تبعد كل جماعة من صاحبها بخمسين
خطوة ولا يلتقي إلا المتبارزان وحدهما بمرأى من الفريقين ومنها أن مساحة الموضع
الذي يكون فيه مجالهما خمسون شبرا وسطا من الفريقين وإن من خرج عن هذا المحل منهما
ولو قيد شبر كان رقا للآخر وأعطوا خطوطهم بذلك ولما حان وقت البراز خرج عدلان من
جانب المسلمين حتى انتهيا إلى النصراني ففتشاه لينظرا ما عليه من السلاح وما معه
لأن من جملة الشروط أن لا يتبارزا إلا بالسيف والرمح فقط فلم يجدا مع النصراني
سواهما قال لويز وكان صاحبهم المذكور يحسن الضرب بكلتا يديه فشرط عليه العدلان أن
لا يقاتل إلا باليمين فرضي ثم خرج شاهدان من جانب النصارى حتى انتهيا إلى المسلم
ففتشاه فلم يجدا عنده سوى السيف والرمح أيضا غير أنه قد علق على ذراعه تمائم كثيرة
مخروزة في الجلد فقال له الشاهدان لا بد أن تنزع
____________________
هذه التمائم لأن صاحبنا ليس
عنده شيء من هذا وأيضا فيمكن أن تقيك هذه التمائم بعض الوقاية فقال لهم لا أنزعها
لأن مثل هذا لا يتقى به في الحرب ولا يغني في الظاهر من السيف والرمح شيئا وإنما
فيها أسماء الله ولا يحسن بي أن أطرحها في هذه الحالة التي أنا مشرف فيها على
الموت فيكون ذلك سوء أدب مني مع اسم الله تعالى وربما يكون سببا في خذلاني فرجع
النصرانيان إلى قائدهما وأخبراه بالقضية فقال لا بد من نزعها فعادا إليه وزعم لويز
أن المسلمين وافقوا على نزعها وقال له العدلان إن الحق مع النصارى لأنا كشفنا
صاحبهم كشفا تاما وراوده القائد أيضا فأصر على الامتناع معتذرا بما سلف ولما لم
يحصلوا على طائل رجع المسلمون إلى بلدهم ولم يكن براز قال لويز وعد النصارى ذلك
غلبا وجعلوا يصيحون ويخرجون البارود قال وكان سور الجديدة مكسوا بالنساء والصبيان
واغتاظ قائد آزمور فسجن المسلم المذكور لكونه جر هذه المذلة على المسلمين
قلت من تأمل وأنصف علم أن الفشل إنما هو من جانب النصارى لأن تلك التمائم من حيث
الظاهر لا تغني شيئا وكون بركتها تقيه من ضربات السيف وطعنات الرمح فهذا لا يعتقده
النصارى بل ولا يسلمونه فلم يبق إلا الفشل والتعلل بما لا اعتبار به عند العقلاء
ثم قال لويز وقد كانت بين المسلمين والنصارى بعد ذلك وقائع فأبلى فيها ذلك المسلم
البلاء الحسن وعرف محله من الشجاعة اه والحق ما شهدت به الأعداء وإنما أثبت هذه
الحكاية بطولها لغرابتها ولما اشتملت عليه من خلال الفتوة ومنازع النخوة الإيمانية
فنسأله سبحانه وتعالى أن يعلي منار الدين ويكبت كيد الجاحدين والمعتدين آمين
وفي سنة سبعين وتسعمائة ولى السلطان الغالب بالله الفقيه أبا مالك عبد الواحد بن
أحمد الحميدي قضاء فاس فطالت مدته
____________________
وفادة السلطان الغالب بالله
على الشيخ أبي العباس أحمد بن موسى السملالي رضي الله عنه
حكى صاحب الممتع أن السلطان أبا محمد عبد الله الغالب بالله قال للأستاذ أبي عبد
الله الترغي إني أجد في نفسي إرادة وطلبا للشيخ فامض فاطلب لي شيخا فذهب يطوف على
مشايخ المغرب وكانوا إذ ذاك متوافرين حتى أتى على الشيخ أبي العباس أحمد بن موسى
الجزولي ثم السملالي فوجده شيخا جليلا سنيا متواضعا زاهدا ظاهر الورع حسن الأخلاق
باهر الكرامات واضح الطريقة جامعا لمحاسن الخلال والأوصاف فرجع إليه وجعل يصف له
كل من رأى من المشايخ بما ظهر له فيه حتى أتى على الشيخ المذكور فقال وهو ولي ثم
ولي ثم ولي ثم ولي سبعا فقال له كأنك تدلني عليه وأنه مطلوبي وأنه المقدم على غيره
فقال له لا أدلك عليه ولا عندي ما أعرفه به تقديمه غير أن هذا الذي ظهر لي فأزمع
السلطان الغالب بالله الرحلة إليه فلما بلغ الشيخ المذكور مجيء السلطان إليه خرج
يتلقاه وقد هيأ له النزل وما يصلحه وأعد له ما يناسبه من الأطعمة الرفيعة النفيسة
وقدم إليه الثمر الجيد واللبن الحليب ولما خرج للقائه أتاه بعضهم بفرس وكان من
عادته أن لا يركب وإذا أتاه أحد بمركوب لا يرده عليه بل يستصحبه معه ويعلفه له حتى
يرجع ففعل ذلك ولقي السلطان ورجع به معه وأنزله عنده فمكث في ضيافته ثلاثة أيام ثم
طلب منه أن يتخذه وسيلة إلى الله تعالى وسأله مع ذلك تمهيد الملك واعتذر إليه بأنه
لا يمكنه العيش بدونه ولا يأمن على نفسه ولا تؤويه أرض إذا هو تخلى عنه فقال الشيخ
يا عرب يا بربر يا سهل يا جبل أطيعوا السلطان مولاي عبد الله ولا تختلفوا عليه ثم
بعد الثلاث انصرف السلطان إلى محله فبقي مدة وهو مسكن ممهد الملك في عافية
____________________
ثم أتى الترك إلى بوغاز طنجة
وسبتة فخافهم وتشوش منهم كثيرا ولم يهنأ له عيش فجعلت حاشيته يهونون عليه أمرهم
فقال دعوني منكم حتى أستقي من رأس العين ثم أبرد بريدا إلى الشيخ فلما انتهى إليه
سمعه يقول يا ترك ارجعوا إلى بلادكم ويا مولاي عبد الله هناك الله في بلادك
بالعافية فتقدم الرسول وسلم على الشيخ وبلغه سلام السلطان ثم انقلب من فوره بعد ما
ورخ وقت سماع مقالته فلما بلغ إلى السلطان أخبره بما كان من الشيخ من تلك المقالة
وما كان منه من التاريخ وأقاموا ينتظرون ما يكون فإذا الخبر قد ورد على السلطان
بأن الترك قد ارتحلوا وانصرفوا إلى بلادهم وإذا ارتحالهم كان وقت مقالة الشيخ
المذكورة
ثم إن الشيخ قدم مراكش في بعض الأيام زائرا من كان بها من أهل الله تعالى فرغب
إليه السلطان الغالب بالله أن يدخل داره هو وأصحابه ويصنع لهما طعاما وشرط على
نفسه أن لا يطعمهم إلا الحلال ولا يطعمهم ما فيه شبهة وحلف للشيخ على ذلك فأسعفه
ولما حضر الطعام وضع الشيخ يده عليه ولم يصب منه فلما خرج قيل له مالك لا تتناول
من طعام السلطان وقد حلف أن لا يطعمكم إلا الحلال فقال له من أكل طعام السلطان وهو
حلال أظلم قلبه أربعين يوما ومن أكله وفيه شبهة مات قلبه أربعين سنة اه
ومما ينخرط في هذا السلك أن السلطان المذكور كان له اعتقاد في الشيخ أبي عمرو
القسطلي وكان يعظمه غاية وكانت عنده مظلة له من سعف النخل يتقي بها الحر تبركا بها
ولما توفي الشيخ أبو عمرو المذكور وذلك يوم الجمعة منتصف شوال سنة أربع وسبعين
وتسعمائة حضر السلطان المذكور جنازته وحثا التراب على قبره بيده
ومن أخبار السلطان المذكور أن الشيخ أبا محمد عبد الله بن حسين المغاري كان ظهر
بمراكش وكثرت الجموع عليه وقصده الناس من كل جهة فأرسل إليه السلطان المذكور إما
أن تخرج عني أو أخرج عنك فقال
____________________
الشيخ ابن حسين بل أنا أخرج
وخرج من فوره إلى تامصلوحت فكان من أمره ما كان استيلاء النصارى على حجر باديس
والسبب في ذلك
قد تقدم لنا في أخبار الوطاسيين أن النصارى بنوا حجر باديس واستولوا على وهران سنة
أربع عشرة وتسعمائة واستمروا بهما إلى أن انتزعهما الترك من أيديهم ولما كانت دولة
السلطان الغالب بالله وطمع الترك في الاستيلاء على المغرب الأقصى أغرى السلطان
المذكور النصارى بالاستيلاء على الثغور الهبطية وسد أنقابها دونه
قال في النزهة ذكر بعضهم أن السلطان الغالب بالله لما رأى عمارة ترك الجزائر
وأساطيلهم لا ينقطع ترددها عن حجر باديس ومرسى طنجة يعني البوغاز وتخوف منهم اتفق
مع الطاغية أن يعطيه حجر باديس ويخليها لهم من المسلمين فتنقطع بذلك مادة الترك عن
المغرب ولا يجدوا سبيلا إليه فنزل النصارى على حجر باديس وأخرجوا المسلمين منها
ونبشوا قبور الأموات وحرقوها وأهانوا المسلمين كل الإهانة ولما بلغ خبر نزولهم
عليها لولده محمد وكان خليفته على فاس خرج بجيوشه لإغاثة المسلمين فلما كان بوادي
اللبن بلغه استيلاؤهم عليها فرجع وتركها لهم اه
وذكر اليفرني أنه وجد هذه الأخبار في أوراق مجهولة والله تعالى أعلم
____________________
فتنة الفقيه أبو عبد الله
الأندلسي ومقتله
كان الفقيه أبو عبد الله محمد الأندلسي نزيل مراكش متظاهرا بالزهد والصلاح حتى
استهوى كثيرا من العامة فتبعوه وكانت تصدر عنه مقالات قبيحة من الطعن على أئمة
المذاهب رضي الله عنهم ينحو فيها منحى ابن حزم الظاهري ويتفوه بمقالات شنيعة في
الدين فأمر السلطان الغالب بالله بقتله فاستغاث بالعامة من أتباعه واعصوصبوا عليه
ووقعت فتنة عظيمة بمراكش بسببه إلى أن قتل وصلب على باب داره برياض الزيتون من
المدينة المذكورة وكان ذلك أواسط ذي الحجة من سنة ثمانين وتسعمائة ظهور بدعة
الشراقة من الطائفة اليوسفية وما قيل فيهم
قال في الدوحة كان الشيخ أبو العباس أحمد بن يوسف الراشدي نزيل مليانة تظهر على
يده الكرامات وأنواع الانفعلات فبعد صيته وكثرت أتباعه فغلوا في محبته وأفرطوا
فيها حتى نسبه بعضهم إلى النبوة قال وفشا ذلك الغلو على يد رجل ممن صحب أصحابه
يقال له ابن عبد الله فإنه تزندق وذهب مذهب الإباضية على ما حكى عنه واعتقد هذا
المذهب الخسيس كثير من الغوغاء وأجلاف العرب وأهل الأهواء من الحواضر وتعرف هذه
الطائفة باليوسفية قال ولم يكن اليوم بالمغرب من طوائف المبتدعة سوى هذه الطائفة
وسمعت بعض الفضلاء يقول إنه قد ظهر ذلك في حياة الشيخ أبي العباس المذكور فلما
بلغه ذلك قال من قال عنا ما لم نقله يبتليه الله بالعلة والقلة والموت على غير ملة
____________________
قال صاحب الدوحة ولقد أشار الفقهاء على السلطان الغالب بالله بالاعتناء بحسم مادة
فساد هذه الطائفة فسجن جماعة منهم وقتل آخرين وهؤلاء المبتدعة ليسوا من أحوال
الشيخ في شيء وإنما فعلوا كفعل الروافض والشيعة في أئمتهم وإنما أصحاب الشيخ كأبي
محمد الخياط والشيخ الشطيبي وأبي الحسن علي بن عبد الله دفين تافلالت وأنظارهم من
أهل الفضل والدين وإلا فالأئمة المقتدى بهم كلهم يعظم الشيخ ويعترف له بالولاية
والعلم والمعرفة اه
وقال في المرآة ما نصه والشيخ أبو العباس أحمد بن يوسف الراشدي الملياني من كبار
المشايخ أهل العلم والولاية وعموم البركات والهداية وكان كثير التلقين فقال له
الشيخ أبو عبد الله الخروبي أهنت الحكمة في تلقينك الأسماء للعامة حتى النساء فقال
له قد دعونا الخلق إلى الله فأبوا فقنعنا منهم بأن نشغل جارحة من جوارحهم بالذكر
قال الشيخ الخروبي فوجدته أوسع مني دائرة
قال صاحب المرآة وانتسبت إليه الطائفة المعروفة بالشراقة بتشديد الراء وهو بريء من
بدعتهم فما كان إلا إمام سنة وهدى مقتدى به في العلم والدين قد نزهه الله وطهر
جانبه وقد أظهروا شيئا من ذلك في حياته فتبرأ منهم وقاتلهم وبلغ المجهود في
تشريدهم قال وحدثني شيخنا أبو عبد الله النيجي أن الشيخ أبا البقاء عبد الوارث
اليالصوتي لما ظهرت بدعة الشراقة وانتسابهم إليه وقع في نفسه من ذلك شيء فقيل له
إن الشيخ أبا محمد الخياط من أصحابه فقال أنا تائب إلى الله كفى في طهارة جانبه أن
يكون الخياط من أصحابه وكانت وفاة الشيخ الملياني سنة سبع وعشرين وتسعمائة لكن ما
كان عنفوان تلك البدعة المدسوسة عليه إلا في دولة السلطان الغالب بالله كما مر
والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء
____________________
احتيال النصارى بمكيدة البارود
بجامع المنصور من مراكش وما وقى الله تعالى من شرها
كان بقصبة مراكش جماعة من أسارى النصارى من لدن أيام أبي العباس الأعرج وأخيه أبي
عبد الله الشيخ فرأوا الجم الغفير من أعيان المسلمين وأهل الدولة يحضرون كل جمعة
للصلاة مع السلطان بجامع المنصور من القصبة المذكورة فحدثتهم نفسهم الشيطانية بأن
يصنعوا مكيدة يهلكون بها السلطان ومن معه فحفروا في خفية تحت الجامع المذكور حفرة
ملأؤها من البارود ووضعوا فيها فتيلا تسري فيه النار على مهل كي ينقلب الجامع
بأهله وقت الصلاة فنفطت المينا وانهدت بها القبة الواسعة من الجامع المذكور وانشق
مناره شقا كبيرا ولا زال ماثلا به إلى الآن وكان ذلك مبلغ ضررهم وكفى الله
المسلمين شر تلك المكيدة ولم يتمكن لهم الحال على وفق ما أرادوا وكان ذلك سنة إحدى
وثمانين وتسعمائة وفاة السلطان أبي محمد عبد الله الغالب بالله رحمه الله
قال الشيخ أبو العباس ابن القاضي في شرح درة السلوك توفي السلطان أبو محمد عبد
الله الغالب بالله يوم الجمعة الثامن والعشرين من رمضان سنة إحدى وثمانين وتسعمائة
بسبب غم كان يعتريه اه وهذا الغم هو الداء المسمى عند العامة بالضيقة أعاذنا الله
منه وذكر غيره أنه توفي في شوال بسبب تكلفه للصيام فعدت عليه العلة المذكورة وشاع
على ألسنة الناس أنه بات يصلي ليلة سبع وعشرين من رمضان فوافته ميتته وهو ساجد
وذلك كذب ودفن رحمه الله عند ضريح أبيه بقبور الأشراف وقبره معروف ومما كتب بالنقش
على رخامة قبره هذه الأبيات
( أيا زائري هب لي الدعاء ترحما ** فإني إلى فضل الدعاء فقير )
____________________
( وقد كان أمر المؤمنين وملكهم ** إلى وصيتي في البلاد شهير )
( فها أنا ذا قد صرت ملقى بحفرة ** ولم يغن عني قائد ووزير )
( تزودت حسن الظن بالله راحمي ** وزادي بحسن الظن فيه كثير )
( ومن كان مثلي عالما بحنانه ** فهو بنيل العفو منه جدير )
( وقد جاء إن الله قال ترحما ** إلى ما يظن العبد بي سيصير )
وحكى أنا ابنه أبا عبد الله المعروف بالمسلوخ لما قرأ هذه الأبيات عاقب ناظمها
وقال له إن في قولك ملقى بحفرة دسيسة وتلويحا إلى الحديث ( القبر روضة من رياض
الجنة أو حفرة من حفر النار ) فهلا قلت ببلقع أو نحوه بقية أخبار السلطان الغالب
بالله وسيرته
كان السلطان أبو محمد عبد الله الغالب بالله ذا سياسة وخبرة بأحوال الملك وتأن في
الأمور ولما ولي الخلافة ألان الجانب وخفض الجناح وسار بسيرة حسنة حتى صلحت الرعية
وازدانت الدنيا وانتعش الناس حتى كان يقال ثلاث عينات هم عيون الزمان السلطان
المولي عبد الله والشيخ أبو محمد عبد الله بن حسين المغاري والشيخ أبو السرور عياد
السوسي
قال اليفرني ورأيت من جملة سؤال كتب به الفقيه الصالح خطيب الجامع الأعظم
بتارودانت أبو زيد عبد الرحمن التلمساني إلى قاضي الجماعة أبي مهدي عيسى بن عبد
الرحمن السكتاني يقول فيه ولا شك أن مولاي عبد الله مجمع على عدالته وبيعته وقد
أخبرني الثقة من أصحاب الشيخ الجامع أبي العباس أحمد بن موسى السملالي أنه قال
مولاي عبد الله ياقوتة الأشراف هو صالح لا سلطان وقد اشتهر بين الأنام وعلى ألسنة
الخاص والعام أن السلطان الغالب بالله كان عدلا صالحا ووقع في الرسالة
____________________
التي كتب بها ابن أخيه السلطان
أبو المعالي زيدان بن منصور إلى الفقيه أبي زكرياء يحيى بن عبد الله بن سعيد بن
عبد المنعم الحاحي ما ظاهره يخالف ذلك ويؤذن بأنه كان كغيره من الملوك ونص المحتاج
إليه من تلك الرسالة مخاطبا للفقيه المذكور يقول وقد تحققت وعلمت أن ولاية أحمد بن
موسى السملالي كادت تكون قطعية واشتهر أمره عند الخاص والعام حتى أطبق أهل المغرب
على ولايته وقد كان على عهد مولانا عبد الله برد الله ضريحه وكان المولى المذكور
على ما كان عليه واشتهر عنه وما برح الشيخ المذكور يدعو له ولدولته بالبقاء ويظهر
حبه وكان المولى المذكور يعزل ويولي ويقتل وكان شرد منه إلى زاويته المرابط
الأندلسي وولد آصناك وأمثالهم وكان الشيخ يقدم للشفاعة فيشفع ولا يتعقب ولا يبحث
عما وراء ذلك باق على عهده ومودته وكان المولى المذكور بعث لابن حسين بسد داره فما
فتحها حتى أمره ولا استعظم أحد ذلك ولا أكثر فيه ولا جعله سببا لفتح الفتنة وكان
قواد المذكور مثل وزيره ابن شقراء وبعد الكريم بن الشيخ وعبد الكريم بن مؤمن العلج
والهبطي والزرهوني وعبد الصادق بن ملوك وغيرهم ممن لا يحضرني ذكرهم لبعد عصرهم قد
انغمسوا في شرب الخمور واتخاذ القيان وبسط الحرير وغير ذلك من آلات الفضة والذهب
وكان في عصره أحمد بن موسى المذكور وابن حسين والشرقي وأبو عمرو القسطلي وأبو محمد
بن إبراهيم التامنارتي والشيظمي وغير هؤلاء من المشايخ وأهل الدين الذين لا يسع من
يدعي هذه الطريقة التقدم عليهم ولا اكتساب الفضيلة دونهم فأحسنوا السيرة ولا
تعرضوا للسلطنة ولا سمع منهم ما يقدح في ولاة الأمر وقادة الأجناد ممن ذكر الذين
كان الملك يدور عليهم ويرجع إليهم في تدبيره اه القدر المحتاج إليه من الرسالة
المذكورة
قال اليفرني ومثل هذا ما ذكر بعضهم أن السلطان الغالب بالله أعطى حجر باديس
للطاغية لتنقطع بذلك مادة الترك عنه ومثله ما ذكر عنه أيضا أن قائده ابن تودة أخذ
بعض أسوار الجديدة وعزم على فتحها من الغد فكتب إليه السلطان المذكور ينهاه عن ذلك
ونظيره أيضا قضيته مع أهل غرناطة
____________________
وأطال فيها هذا البعض المنقول
عنه بما استنكفت من ذكره هنا قال وهذه أمور شنيعة إن صح أنه فعلها ولست أدخل في
عهدتها لأني إنما رأيتها في أوراق مجهولة المؤلف اشتملت على ذم هذه الدولة السعدية
وظني أنها من وضع بعض أعدائهم لحطة من قدرهم وإخراجه إياهم من النسب الشريف ووصفه
دولتهم بالدولة الخبيثة فلذا تجنبت منهم كثيرا من الأخبار التي لا تظن بأولئك
السادة رحمهم الله فقد قال الشيخ تاج الدين السبكي رحمه الله في طبقاته إن
المؤرخين على شفا جرف هار لأنهم يتسلطون على أعراض الناس وربما وضعوا من الناس
تعصبا أو جهلا أو اعتمادا على نقل من لا يوثق به قال فعلى المؤرخ أن يتقي الله
تعالى اه إلا أن الملوك لا يستغرب في حقهم أن يهدموا أساس الشريعة ليبنوا منار
رياستهم ويستهونوا عظائم الأمور لتطيعهم الرعية ساعة كيف لا وشراع أفئدتهم تلعب به
رياح الشهوات فتلقي سفينة قلوبهم على ساحل بحر القنوط من رحمة الله تعالى والله
يسامح الجميع ويتجاوز عن كافة عصاة هذه الأمة بمنه وفضله اه كلام اليفرني رحمه الله
ومن وزراء السلطان الغالب بالله ابن أخيه الأمير الأجل الأديب الأحفل أبو عبد الله
محمد بن عبد القادر بن محمد الشيخ كان من أنبل الوزراء وألطفهم مسلكا وأخفهم روحا
وله عارضة في النظم والنثر
ذكر الأديب أبو محمد عبد الله بن محمد الفاسي في كتابه الأعلام بمن مضى وغبر من
أهل القرن الحادي عشر ما صورته قدم الوزير أبو عبد الله محمد بن عبد القادر السعدي
من مراكش إلى فاس ومعه الفقيه قاضي الجماعة أبو مالك عبد الواحد بن أحمد الحميدي
والفقيه الإمام أبو العباس أحمد المنجوز فلما تبدت لهم معالم فاس الجديد وتلظى
للشوق في جوانحهم أوار
( وأبرح ما يكون الشوق يوما ** إذا دنت الديار من الديار )
وأنشد الوزير المذكور لنفسه ارتجالا
( أخلائي هذا المستقى وربوعه ** وهذي نواعير البلاد تنوح )
____________________
( وذاك المصلى مطرح الشوق والأسى ** وتلك منازل الديار تلوح )
فقال القاضي الحميدي ارتجالا
( وتلك القباب الخضر شبه زبرجد ** بهن غوان طرفهن جموح )
( يمسن كأملود من الروض يانع ** شذاهن من حول الديار يفوح )
فقال الفقيه أبو العباس المنجور ارتجالا أيضا
( ويرفلن في الحلات يختلن في الحلى ** وفيهن أنواع الجمال وضوح )
( يبادرن ترقيع الكوى بمحاجر ** لإقبال حب طال منه نزوح )
ولما بلغت الأبيات إلى الأستاذ أبي العباس أحمد الزموري قال مذيلا
( تأمل سنا الحسناء تحت قبابها ** كشمس غدت تحت السحاب تلوح )
( تحلت ربوع المستقي بجمالها ** وأنت إلى تلك القباب تروح )
وبعضهم جعل البيتين الأولين للمولى الأديب أبي محمد عبد الواحد بن أحمد الشريف
السجلماسي وكان كاتبا للوزير المذكور ويجعل موضع أخلائي أمولاي والبيتين بعدهما
للوزير والله تعالى أعلم والمستقى بصيغة اسم المفعول اسم بستان معروف
ونظير هذا ما ذكره الأديب المذكور في أعلامه المذكور قال كان الوزير المذكور مع
كاتبه المولى عبد الواحد الشريف في بعض الأسفار وأرسلت السماء بغيثها المدرار فقال
الوزير المذكور
( لله أشكو غداة السفح إذ ركضت ** أيدي المطايا وحادي الريح يحدونا )
فأجابه الكاتب المذكور
( والغيم في الأفق قد أرخى ذوائبه ** بأسهم الودق لا ينفك يرمينا )
فقال الوزير
( حتى استوى الماء والآكام واستترت ** معالم الرشد لا خريت يهدينا )
( فطلت الخيل في الأمواج سابحة ** سبح السلاحف نحو الدار يهوينا )
فقال الكاتب
( والنفس في قلق لبين مألفها ** والشوق يحدو بنا والحال يقصينا )
____________________
فقال الوزير
( كأننا لم نبت والوصل ثالثنا ** حتى غدا الطير فوق السرح يفشينا )
وأخبار هذا الوزير ونوادره كثيرة وهو الذي أخرج بني راشد من مدينة شفشاون حسبما مر
وكانت وفاته في العشرين من جمادى الثانية سنة خمس وسبعين وتسعمائة
ومن وزراء السلطان الغالب بالله أيضا القائد عبد الكريم بن مؤمن بن يحيى العلج
الجنوي وعبد الرحمن بن تودة وقاسم الزرهوني وأحمد الهبطي ومن ولاة مظالمه أبو
عمران موسى بن مخلوف الكنسوسي وهو والي الشرطة وكان فقيها مشاركا
وذكر بعضهم أن الشيخ الصالح أبا العباس أحمد بن موسى السملالي كان في بعض قدماته
على السلطان الغالب بالله قد انحشر الناس لزيارته بزاويته فوقف أبو عمران المذكور
يذود الناس عنه ويقول رحمكم الله من زار خرج فسمعه الشيخ فقال له لا تقل ذلك وقل
من جار خرج ومن كتاب السلطان المذكور محمد بن عبد الرحمن السجلماسي ومحمد بن أحمد
بن عيسى وغيرهما ومن قضاته بمراكش الفقيه قاضي الجماعة أبو القاسم بن علي الشاطبي
وبفاس أبو عبد الله العوفي وأبو مالك عبد الواحد الحميدي رحمهم الله الخبر عن دولة
السلطان أبي عبد الله محمد المتوكل على الله ابن السلطان عبد الله الغالب بالله
رحمه الله
لما توفي السلطان الغالب بالله بحضرة مراكش كان ابنه محمد هذا بفاس وكان ولي عهد
أبيه فاجتمع أهل العقد والحل بمراكش واستأنفوا له
____________________
البيعة وكتبوا بها إليه فوصلت
إليه وهو بفاس أوائل شوال سنة إحدى وثمانين وتسعمائة فبايعه أهل فاس وتم أمره
قال ابن القاضي أمه أم ولد وكنيته أبو عبد الله ولقبه المتوكل على الله ويعرف عند
العامة بالمسلوخ لأنه سلخ جلده وحشي تبنا كما سيأتي
وكان مما وقع في أيامه أنه كانت بين المسلمين وبين نصارى طنجة وقعة بالرملة
المسماة بأبي غاص من فحص طنجة قرب قنطرة عصماء وذلك يوم الأربعاء منتصف جمادى
الأولى سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة وفي هذه الوقعة استشهد الشيخ أبو مهدي عيسى بن
الحسن المصباحي دفين الدعادع على وادي مضي من عمل القصر فإنه حمل بعد استشهاده إلى
الموضع المذكور فدفن بإزاء قبر أبيه في الروضة التي هنالك
واستمر أمر أبي عبد الله المتوكل منتظما إلى أواخر سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة فقدم
عليه عمه عبد الملك ابن الشيخ بجيش الترك فنثر سلكه وبدد ملكه على ما نذكره ويقال
إنه كان أضمر الفتك بعميه أحمد وعبد الملك ففرا منه إلى ناحية الترك على ما سيأتي
قالوا وكان السلطان المذكور فقيها أديبا مشاركا مجيدا قوي العارضة في النظم والنثر
وكان مع ذلك متكبرا تياها غير مبال بأحد ولا متوقفا في الدماء عسوفا على الرعية
ومن شعره قوله
( فقم بنا نصطبح صهباء صافية ** في وجهها عسجد في وجهه نقط )
( وانهض إليها على رغم العدا قلقا ** فإن تأخير أوقات الصبا غلط )
ومن شعره أيضا قوله
( ساروا فسار فؤادي إثر ظعنهم ** وخلفوني نحيل الجسم حيرانا )
( لا افتر ثغر الثرى من بعد بينهم ** ولا سقى هاطل وردا وريحانا )
وكان خليفته بمراكش القائد ابن شقراء وحاجبه أحمد بن حمو الدرعي وكتابه يونس بن
سليمان الثاملي وعلي بن أبي بكر وغيرهما رحمهم الله تعالى
____________________
الخبر عن دولة السلطان أبي
مروان عبد الملك المعتصم بالله ابن محمد الشيخ وأولية أمره ومآله
كان أبو مروان عبد الملك بن أبي عبد الله الشيخ السعدي وأخوه أبو العباس أحمد
المدعو بعد بالمنصور مقيمين بسجلماسة سائر أيام أبيهما فلما توفي وولي الأمر بعده
ابنه الغالب بالله فر عبد الملك وأحمد إلى تلمسان خوفا على أنفسهما منه فأقاما عند
صاحبها حسن بن خير الدين مدة ولحق بهما أخوهما عبد المؤمن فصار ثالثة الأثافي ثم
انتقلوا بعد ذلك إلى الجزائر ومنها ركب عبد الملك البحر إلى القسطنطينية متطارحا
على صاحبها السلطان سليم بن سليمان العثماني رحمه الله فأمده بالجند حتى ملك
المغرب كما سيأتي
ولنذكر هنا كيفية استيلاء العساكر العثمانية على تونس وانقراض أمر الحفصيين منها
ثم نرجع إلى بقية أخبار السلطان أبي مروان المعتصم بالله لأنها تنبني على ذلك
فنقول اعلم أن أمر بني أبي حفص أصحاب تونس كان قد مرج في هذه المدة وتداعى إلى
الاختلال وكان خير الدين باشا التركي المقدم ذكره في أخبار تلمسان قد استولى على
تونس في حدود الأربعين وتسعمائة وغلب عليها صاحبها الحسن بن محمد الحفصي ففر الحسن
المذكور إلى طاغية الإصبنيول صاحب قشتالة فأعطاه العساكر وجاء بها إلى تونس فنزل
عسكر النصارى ببرج العيون قرب حلق الوادي وتقدموا إلى تونس فملكوها وانهزم خير
الدين إلى الجزائر وشارك النصارى الحسن بن محمد في إمرة تونس واستباحوا أهلها قتلا
وأسرا ونهبا يقال إنهم قتلوا من أهل تونس الثلث وأسروا الثلث وأبقوا الثلث وكل ثلث
ستون ألفا هكذا عند صاحب الخلاصة النقية ثم ملكوا الموضع المسمى بحلق الوادي وليس
هناك واد عذب وإنما هو جون دخل من البحر في البر وعليه مرسى تونس ثم بنى النصارى
في الحلق المذكور حصنا عاديا أقاموا في بنائه نحو ثلاث وأربعين سنة بحيث عجز الترك
عن هدمه لما ملكوه بعد
____________________
ثم ثار على الحسن ابنه أحمد المدعو حميدة وملك الحضرة مدة وقاتل نصارى حلق الوادي
فامتنعوا عليه ثم غزاه علي باشا صاحب الجزائر واستولى على تونس سنة سبع وسبعين
وتسعمائة وطرد أحمد عنها فذهب أحمد إلى طاغية قشتالة مستغيثا به شأن أبيه من قبله
هذا كله ونصارى الحلق لا زالوا متمكنين منه أي تمكين فأمد الطاغية أحمد المذكور
بأسطول عظيم واشترط عليه أداء مال فالتزمه
ولما وصل الأسطول إلى ظاهر تونس اطلع قائده السلطان أحمد على كتاب من الطاغية
مضمنه المشاركة في الحكم فأنكر أحمد ذلك وأنف منه وذهب إلى صقلية فبقي بها إلى أن
مات وحمل إلى تونس وكان هنالك أخوه محمد بن الحسن فرضي بالمقاسمة ودخل بالنصارى
إلى تونس فاستولى عليها وملك قصبتها وجالسه شريكه النصراني بها وانتهبت المدينة
وأهين الدين وعم الخراب وتكدر المشرب وتفرق الجمع وارتبطت خيل العدا بالجامع
الأعظم وألقيت ما فيه من نفائس الكتب بالطرق ونبش قبر الشيخ أبي محفوظ محرز بن خلف
فلم يوجد فيه إلا الرمل حماية من الله له وحاشا أن تعدو الأرض على جسد مثله وأرسل
محمد بن الحسن إلى الناس بالأمان واستمالهم النصراني بعد بكاذب الرفق فأقاموا بدار
مذلة وهوان
واتصل ذلك كله بالسلطان سليم بن سليمان العثماني فأعظمه وجهز العمارة للحين مع
الوزير سنان باشا يقال كانت أربعمائة وخمسين قطعة فخرج بها الوزير المذكور من
القسطنطينية وهي إصطنبول غرة ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وتسعمائة ووصلوا إلى حلق
الوادي في الرابع والعشرين منه وكان حيدر باشا صاحب القيروان ومصطفى باشا صاحب
طرابلس محاصرين لتونس قبل ذلك حتى فتر عزمهم فلما قدم عليهم سنان باشا قويت نفوسهم
واعصوصبوا عليه وتقدموا إلى الحصن الذي بحلق الوادي فحاصروه حتى اقتحموه عنوة سادس
جمادى الأولى من السنة المذكورة أعني سنة إحدى وثمانين وتسعمائة واستلحموا من به
وغنموا ما فيه والتجأ محمد بن الحسن الحفصي وأنصاره من النصارى إلى البستيون وهو
حصن آخر كانوا قد بنوه خارج باب تونس فحاصرهم سنان باشا به حتى اقتحمه
____________________
عنوة وقتلوا من به وامتلأت
أيديهم من المغانم وطهر الله بهم البلاد وكانت إحدى الوقائع الجليلة القدر الباقية
الذكر وظفر الوزير بمحمد بن الحسن فاحتمله معه إلى السلطان سليم فاعتقله في يد قلة
أحد حصونه حتى هلك وانقرضت بمهلكه دولة بني أبي حفص التي هي بقية الموحدين
إذا علمت هذا فاعلم أن استيلاء العساكر العثمانية على تونس كان قبل وفاة السلطان
الغالب بالله بنحو خمسة أشهر لأن وفاته كانت في آخر رمضان سنة إحدى وثمانين
وتسعمائة كما مر وفتح تونس كان في جمادى الأولى من السنة المذكورة ووقع في النزهة
أن فتح تونس كان سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة وهو غير صواب والله تعالى أعلم مجيء
السلطان أبي مروان عبد الملك بن الشيخ السعدي بعسكر الترك واستيلاؤه على المغرب
اعلم أنه وقع في النزهة وغيرها أن عبد الملك بن الشيخ وأخاه أحمد كانا في ابتداء
أمرهما بسجلماسة فلما توفي أبوهما وولي أخوهما الغالب بالله لحقا بتلمسان فأقاما
بها مدة ثم انتقلا إلى الجزائر فلما اتصل بهما خبر وفاة أخيهما الغالب وولاية ابنه
محمد المتوكل من بعده ركب عبد الملك البحر إلى القسطنطينية وتطارح على ملكها
العثماني في أن يمده بجيش ليملك المغرب فتثاقل عنه العثماني إلى أن بعث بالعمارة
لفتح تونس فشهد عبد الملك الفتح وعاد إليه بالبشارة فأسعفه وهذا غير صواب من جهة
أن فتح تونس كان متقدما على وفاة الغالب بالله كما مر اللهم إلا إذا كان عبد الملك
وفد على العثماني مستعديا على أخيه الغالب بالله وفي أثناء ذلك توفي وولي ابنه
المتوكل فيكون الكلام صحيحا وأما ما في النزهة مما يقتضي تأخر فتح تونس عن وفاة
الغالب بالله فغير صواب كما مر
ولنذكر ما حكوه من ذلك فنقول لما بويع السلطان أبو عبد الله محمد
____________________
المتوكل على الله كان عبد
الملك بن الشيخ وأخوه أحمد المدعو بعد بالمنصور بالجزائر فركبا البحر إلى
القسطنطينية العظمى قاصدين السلطان سليم بن سليمان العثماني رحمه الله ومع عبد
الملك أمه سحابة الرحمانية وزعم بعضهم أن التي كانت معهما مسعودة الوزكيتية وهي أم
أحمد منهما فانتهيا إلى القسطنطينية وتعلقا بكراء الدولة حتى أدخلوهما على السلطان
سليم ودخلت أمهما داره وطلبوا منه أن يبعث معهم العساكر لتملك المغرب ويقوموا فيه
بدعوته فتثاقل عنهم مدة إلى أن كان الغزو إلى تونس فكتب السلطان سليم إلى أهل
الجزائر وأهل طرابلس أن يوجهوا قراصينهم لحصار تونس مع العمارة الموجهة من قبله
فطلب عبد الملك وأخوه أحمد من الدولاتي وهو صاحب الجزائر أن يجعل لهما رياسة قرصان
منهما يتوجهان فيه للجهاد معه فأعطاهما غليوطة فيها ستة وثلاثون رجلا فركباها
ولحقا بعمارة السلطان سليم في جملة مراكب الجزائر هكذا وقع في سياقة هذا الخبر وهو
يقتضي أنهما كانا يومئذ بالجزائر لا بالقسطنطينية فلعلهما عادا إليها من عند
السلطان سليم إلى أن سافرا في جملة عسكر الجزائر والله تعالى أعلم ولما فتحوا تونس
واستأصلوا من بها من الكفار حسبما مر عين رئيس العمارة العثمانية مركبين يتوجهان
بكتاب الفتح إلى السلطان سليم فطلب منه عبد الملك وأحمد أن يأذن لهما في الذهاب
معهما بالغليوطة ليأتيا بأمهما التي تركاها هنالك فلم يزالا بالرئيس المذكور حتى
أسعفهما فكان من قدر الله تعالى أن هاج البحر عليهم ذات ليلة ففرق مراكبهم ولما
أصبح عبد الملك وأحمد لم يجدا للمركبين أثرا فوافقهم السعد وساعدتهم الريح فوصلوا
إلى القسطنطينية قبل المركبين بثلاث
واتصل خبرهما بالصدر الأعظم فأحضرهما وسألهما عن العمارة وما كان منها فأخبراه
بفتح تونس وقصا عليه الحديث من البدء إلى التمام فأعلم السلطان سليما بهما
فأدخلهما عليه وسألهما كذلك فأخبراه وسألهما عن كتاب الفتح إن أمير العمارة قد بعث
به مع مركبين صحبناهما إلى أن فرق بيننا البحر ولم ندر ما كان منهما بعد ذلك
____________________
ولما رأيا من السلطان سليم تنازلا واهتزازا لكلامهما طلبا منه في بشارتهما أن يبعث
معهم العساكر إلى الغرب وشفعا في إنزال رأس والدهما ودفنه فقبل شفاعتهما ثم أمر
بهما إلى بعض المنازل فأنزلهما به وأكرمهما وبعث إليهما بالأم التي كانت هنالك
وأرجأ أمرهما إلى قدوم الخبر اليقين وبعد ثلاث قدم المركبان ومعهما كتاب الفتح
وظهر صدق عبد الملك الملك وأحمد فحينئذ أقبل عليهما السلطان سليم وأعطاهما مالا
وسلاحا وزادا وكتب لهما فرمانا للدولاتي صاحب الجزائر ليبعث معهما خمسة آلاف من
عسكر الترك تطأ معهما أرض المغرب الأقصى
ولما قدما على الدولاتي بالفرمان وقرأه على أهل الديوان قالوا علينا الرجال
وعليهما المال وهذه عادتنا مع السلطان ولما لم يكن عندهما مال يومئذ تطارحا على
الخزندار وعلى الآغا والوكيل وأهديا إليهم ورغبا منهم أن يسلفوهما ما ينفقانه في
وجهتهما تلك إلى أن يبعثا به إليهم من المغرب فسهلوا لهما وقوموا العسكر بما يحتاج
إليه وفرضوا له المؤنة كل يوم بيومه إلى أن يرجع وأشهدوا عليهما بذلك في دفتر
فقبلا وأعطوا خطوطهما به ثم نهض عبد الملك وأخوه إلى المغرب يجران عساكر الترك
خلفهما وكتب عبد الملك إلى شيعته بالمغرب يعرفهم قدومه ويعدهم ويمنيهم إلى أن كان
من أمره ما كان
وساق اليفرني هذا الخبر وفيه بعض مخالفة لما تقدم قال لما فتحت تونس كان عبد الملك
أول من أرسل البشارة مع أصحابه إلى السلطان العثماني فبلغت الرسالة أمه سحابة
الرحمانية فأعطتها السلطان المذكور والتمست منه أن يعطيها في بشارتها أمر أهل
الجزائر بالذهاب معها إلى المغرب فأعطاها ذلك فجاء عبد الملك مع أمه بكتاب السلطان
إلى أهل الجزائر يأمرهم بالمسير معه لتملك ما كان بيد آبائه فطالبه أهل الجزائر
بالراتب فقال لهم أسلفوني وعلي القضاء فاتفق معهم أن يعطيهم عشرة آلاف لكل مرحلة
وكان عدد جيش الترك أربعة آلاف
وقال في شرح الدرة إن عبد الملك طلب من رئيس الترك أن يعينه
____________________
بحصة منهم توصله إلى تخم بلاده
ليدخلها إذ الجند كله جند أبيه لا يمكن أن يقاتلوه ويضربوا في وجهه لتعظيمهم إياه
فأسعفه على مراده وأرسل معه عصابة وحصة قليلة فأقبل بهم حتى انتهى إلى الموضع
المعروف بالركن من أحواز فاس فلما سمع بذلك ابن أخيه محمد المتوكل خرج للقائه
بنفسه ولما التقى الجمعان نزع رئيس جند الأندلس سعيد الرغالي إلى عبد الملك وكان
عبد الملك يكاتب حاشية المتوكل وبطانته ورؤوس أجناده ويعد طائعهم ويوعد عاصيهم
فلما سمع المتوكل بما فعله جند الأندلس فت ذلك في عضده وفشلت ريحه وأيقن بالنكبة
ظنا منه أن جنده كله سيفعل فعل الرغالي فكان ذلك سبب جزعه وفراره من المعركة وسبب
خراب ملكه وإقامة ملك عمه ويقال إن بعض الجند لما سمع بأن القائد جرمون وأولاد
عمران نزعوا إلى عبد الملك أيضا جاء إلى المتوكل وقال له إن القائد ابن شقراء قد
غدر وفر إلى عبد الملك وكان ابن شقراء هذا من أكبر قواده وأصدقهم لديه فارتاع
المتوكل لذلك وانقلب منهزما وانتهبت خزائنه وأوقد فيها النار ونفط ما كان بها من
البارود حتى رئي من رؤوس الجبال
ولما انهزم المتوكل بالركن عطف على فاس الجديد فأخذ منها ما يعز عليه من الذخيرة
ثم خرج على وجهه إلى مراكش لا يلوي على شيء فلحق به القائد ابن شقراء بوادي النجاة
على مقربة من فاس وأغلظ له في القول ولامه على عدم التأني والتثبت وكان أمر الله
قدرا مقدورا استيلاء السلطان أبي مروان عبد الملك المعتصم بالله على حضرة فاس وما
يتبع ذلك
لما انهزم المتوكل بالركن وأجفل إلى مراكش تقدم عمه أبو مروان إلى فاس فدخلها
واستولى عليها يوم الأحد سابع ذي الحجة سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة من باب الفتوح
وبعد أن دخلها وبايعه أهلها أقام بها أياما ثم طمحت نفسه إلى اتباع ابن أخيه إلى
مراكش ولما عزم على النهوض إليه
____________________
طالبه الترك بأن يردهم إلى
بلادهم وأن يعطيهم المال الذي اتفق معهم عليه وهم يسمونه بلغتهم البقشيش فبذل لكل
واحد منهم أربعمائة أوقية واستسلف المال من تجار أهل فاس حتى يتسع حاله فكان جملة
ما أعطى الترك خمسمائة ألف وأعطاهم عشرة من الأنفاض منها النفض الكبير الذي له
عشرة أفواه وزادهم من تحف المغرب وطرفه ما سلى به نفوسهم وركب لوداعهم بنفسه إلى
نهر سبو ثم رجع إلى فاس
وفي هذه المدة قبض على قاضيها الفقيه أبي مالك عبد الواحد بن أحمد الحميدي لأمر
نقمه عليه وأودعه السجن فبعث الفقيه المذكور أولاده إلى الشيخ الصالح أبي النعيم
رضوان بن عبد الله الجنوي يطلب منه أن يشفع له عند السلطان المعتصم بالله فكتب
إليه الشيخ أبو النعيم يحضه على الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم والاستمساك
بحبله لأنه باب الله الأعظم فقبل القاضي إشارته وتوجه إلى ربه بكليته فأتاه الفرج
من حينه رحم الله الجميع بمنه نهوض السلطان أبي مروان إلى مراكش واستيلاؤه عليها
وفرار ابن أخيه إلى السوس وما نشأ عن ذلك
ثم إن السلطان أبا مروان نهض من فاس في جنده الذي أقامه وكان غرس يده وفيما انضاف
إليه من جند ابن أخيه وتقدم إلى البلاد المراكشية قاصدا حربه وتشريده عنها ولما
سمع ابن أخيه بخروجه إليه وقصده إياه تهيأ لملاقاته وسار إلى منازلته فالتقى
الجمعان بموضع يسمى خندق الريحان على مقربة من وادي شراط من أحواز سلا فكانت
الهزيمة أيضا على المتوكل وفر برأس طمرة ولجام وأجفل كعادته إجفال النعام وتبعه
أحمد المنصور خليفة أخيه أبي مروان يومئذ فلما سمع المتوكل باتباعه بعد بلوغه إلى
مراكش فر عنها إلى جبل درن وأسلم له مراكش فدخلها أحمد نائبا عن أخيه وأخذ له
البيعة على أهلها ثم لحق به السلطان أبو مروان فدخلها يوم الاثنين
____________________
تاسع عشر ربيع الثاني سنة أربع
وثمانين وتسعمائة وأقام بها أياما ثم خرج في طلب ابن أخيه فعميت عليه أنباؤه وسقط
بين سمع الأرض وبصرها فعاد أبو مروان إلى مراكش فأقام بها إلى أن كان من أمره ما
نذكره استخلاف السلطان أبي مروان لأخيه أبي العباس أحمد على فاس وأعمالها
لما استقر السلطان أبو مروان بمراكش وانقطع خبر المتوكل عنه بالسوس تقدم إليه أخوه
أحمد وسأله أن يستخلفه على فاس ليكفيه أمرها فأجابه إلى ذلك وولاه عليها ظنا منه
أن أمر المغرب قد صفا له وإن المتوكل لا يعود إليه وكان الوزير أبو فارس عبد
العزيز بن سعيد الوزكيتي حاضرا للطلبة والعطية فأنكر ذلك ولم يره صوابا وقال لا
ينبغي لكما أن تقعدا حتى يحكم الله بينكما وبين ابن أخيكما فغاظ ذلك أحمد وظن أنه
من سوء رأي عبد العزيز فيه وبغضه لجانبه فأعرض عن مقالة الوزير المذكور وذهب إلى
فاس خليفة عليها وبقي السلطان أبو مروان بمراكش
وفي هذه المدة كتب السلطان أبو مروان لأخيه أحمد برسالة يقول فيها بسم الله الرحمن
الرحيم و صلى الله عليه وسلم من عبد الله المعتصم بالله المجاهد في سبيل الله أمير
المؤمنين أبي مروان عبد الملك ابن أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد الشيخ الشريف
الحسني أيده الله وأعز نصره وأسعد زمانه المبارك وعصره وأبقى بمنه فخره من إملائه
أيده الله ونصره إلى أخينا الأعز الأحظى بابا أحمد حفظه الله السلام عليكم ورحمة
الله وبركاته أما بعد فاعلم أني لا أحب أحدا بعد نفسي كمحبتي لك ورغبتي في انتقال
هذا الأمر بعدي إليك لا لغيرك غير أني أعتاد منك التراخي في الأمور حتى أنك لا
تبالي بعظيم الأمر ولا تعتبره إلى أن يتطرق إلى ما لا يتلافى جبره من الأمور التي
تكاد لولا لطف الله تذهب بهذا الملك وتهد أركانه ويبلغ العدو معها مناه ومراده من
ذلك التراخي إهمالك أمر الجند الذي
____________________
بالعرائش وإغفالك له مع ما
يترادف عليك في كل ساعة من تلقائه من استدعاء ما دعت الحاجة إليه من المؤونة
والبارود والرصاص الذي لا يستقيم لهم أمر في مقاومة العدو دون ذلك وجعلت تقابل
خطابهم بالإهمال وعدم المبالاة والآن ساعة يرد عليك كتابنا هذا قبل وضعه من يدك
ابعث إليهم مؤنة عشرة أيام بينما نصل إن شاء الله فيقع التدبير فيما يحتاجون إليه
زائدا على ذلك مع ما عندكم هنالك من البارود والرصاص من غير عطلة ولا تراخ بحيث لا
نقبل منك عذرا في هذه المسألة التي لا تحتاج إلى الإهمال ولا بد ولا بد فقد بلغنا
أن صاحب النصارى بقرب آصيلا في خمس عشرة مائة من النصارى وتمنيت أن لو حركتك الهمة
للاقتحام عليه في مكانه بجيش يكسوه أردية الصغار ويرجع ساعة رؤيته إلى عادته من
الذل والفرار فانتبه من الغفلة وافتح عين الانتباه واليقظة فإن الساعة لا تقتضي
إلا الحزم والتشمير عن ساعد الاجتهاد والعزم والسلام اه ظهور أبي عبد الله المتوكل
بالسوس ومجيئه إلى مراكش واستيلاؤه عليها
كان أبو عبد الله المتوكل بعد فراره من مراكش يجول في جبال السوس ويتنقل في
قبائلها وأحيائها إلى أن اجتمعت عليه طائفة من الصعاليك وتأشب عليه ما يشبه أن
يكون جيشا فاستهوتهم منه الأضاليل وقادهم قود الملك الضليل وجاء بهم إلى مراكش
فسمع به السلطان أبو مروان فخرج للقائه فخالفه المتوكل وسلك طريقا غير طريقه وفجا
غير فجه وقصد مراكش فدخلها باتفاق أهلها ونصروه وكتبوا له البيعة إلا أنه لم يتمكن
من القصبة
____________________
لأن السلطان أبا مروان كان قد
ترك بها أخته الست مريم في نحو ثلاثة آلاف من الرماة فتحصنوا بها وبلغ الخبر أبا
مروان باستيلاء المتوكل على مراكش فرجع عوده على بدئه إلى أن وافى الحضرة فحاصره
بها وكتب إلى أخيه أحمد الخليفة على فاس أن يأتيه بجيش منها فأتاه به أحمد مسرعا
وما انتهى إلى مراكش اجتمع بالوزير أبي فارس الوزكيتي فقال له أوقفت على الرأي أول
الفكرة آخر العمل فبانت لأحمد نصيحته وزال ما كان يختلج بصدره عليه
ولما جاء أحمد بجيش فاس أسلم المتوكل شيعته من أهل مراكش وفر إلى السوس فبقي أهل
مراكش متمادين على الحصار إلى أن اتفق السلطان أبو مروان مع أعيان جراوة فأدخلوه
من بعض الأسوار والأنقاب ولما فر المتوكل إلى السوس تبعه أحمد المنصور فكانت
بينهما هنالك حروب عظيمة أتاح الله فيها النصر للمنصور منها وقعة تينزرت التي
أنشده فيها وزيره الكاتب أبو الحسن علي بن منصور الشيظمي البيتين اللذين قالهما
فيه الكاتب أبو عبد الله بن عيسى وهما
( هو الغيث والبحر الغطمطم في الندى ** وليث إذا جد الطعان هصور )
( يفوق السهام عزمه وانبعاثه ** ويقصر عنه في الثبات ثبير )
فأجابه أحمد المنصور ببيتي أبي فراس الحمداني وهما
( ونحن أناس لا توسط عندنا ** لنا الصدر دون العالمين أو القبر )
( تهون علينا في المعالي نفوسنا ** ومن خطب الحسناء لم يغله المهر )
ومنها الوقعة التي بعدها بأساطين المنصور وهو في نحو ثلاثة آلاف والمتوكل في نحو
ستين ألفا ومع ذلك هزمه المنصور
قلت كان أحمد المنصور هذا مجدودا محظوظا مسعودا بحيث أربت سعادته على شجاعته وما
كان أخوه عبد الملك يسري إلا في ضوء طلعته ويمن نقيبته فلذا كان يقدمه في الحروب
ويستكفي به في نوازل الخطوب ومن سعادته ما اتفق له في ذهابه إلى العثماني بخبر
الفتح وتقدمه
____________________
قبل الكتاب بثلاث حتى تسنى له
من جانب السلطان المذكور ما كان سببا في استيلائهما على المغرب وستسمع في أخبار
دولته من أنباء سعاداته ما تقف به على حقيقة الحال إن شاء الله وأما أمر المتوكل
فإنه بعد توالي الهزائم عليه فر إلى جبل درن وتوغل في قننه ثم فر منه إلى باديس
فأقام بها مدة ثم ذهب إلى سبتة ثم دخل طنجة مستصرخا بعظيم البرتغال والله تعالى لا
يهمل من حقوق عباده وزن المثقال الغزوة الكبرى بوادي المخازن من بلاد الهبط والسبب
فيها
كان من خبر هذه الغزوة أن السلطان المخلوع أبا عبد الله محمد بن عبد الله السعدي
لما دخل طنجة قصد طاغية البرتغال واسمه سبستيان بكسر السين وفتح الباء والسين
وسكون التاء القريبة من الطاء وهو طاغيتهم الأعظم وليس قائد الجيش فقط على ما هو
المحقق في تواريخهم وتطارح عليه وشكا إليه ما ناله من عمه أبي مروان المعتصم بالله
وطلب منه الإعانة عليه كي يسترجع ملكه وينتزع منه حقه فأشكاه الطاغية ولبى دعوته
وصادف منه شرها إلى تملك سواحل المغرب وأمصاره فشرط عليه أن يكون للنصارى سائر
السواحل وله هو ما وراء ذلك فقبل أبو عبد الله ذلك والتزمه وللحين جمع الطاغية
جموعه واستوعب كبراء جيشه ووجوه دولته وعزم على الخروج إلى بلاد الإسلام
ومن المتواتر في تواريخ الإفرنج أن كبار دولته حذروه عاقبة هذا الخروج ونهوه عن
التغرير ببيضة البرتغال وتوريطها في بلاد المغرب وقبائله فصم عن سماع قولهم ولج في
رأيه وملك الطمع قلبه وأبى إلا الخروج فأسعفوه وخرج من طنجة في جيش قال ابن القاضي
في المنتقى المقصور عدده مائة ألف وخمسة وعشرون ألفا وقال أبو عبد الله محمد
العربي الفاسي في مرآة المحاسن يقال إن مجموعهم كان مائة ألف وعشرين ألفا وأقل ما
قيل في عددهم ثمانون ألف مقاتل وكان مع محمد بن عبد الله نحو الثلاثمائة من أصحابه
قال بعضهم وكان عدد الأنفاض التي يجرونها مائتين
____________________
وقصدوا هلاك المغرب وحصد
المسلمين وإدارة رحى الهوان على الدين فعظم ذلك على الناس وامتلأت صدورهم رعبا
وقلوبهم كربا وبلغت القلوب الحناجر واتقدت بها نيران الهواجر وكان محمد بن عبد
الله المذكور قد كتب عند خروجه بجيش البرتغال إلى بلاد الإسلام رسالة بعث بها إلى
أعيان المغرب من علمائه وأشرافه وذوي رأيه يغمض عليهم بها في نكث بيعته ونقضها
ومبايعة عمه من غير موجب شرعي وقال لهم ما استصرخت بالنصارى حتى عدمت النصرة من
المسلمين وقد قال العلماء أنه يجوز للإنسان أن يستعين على من غصبه حقه بكل ما
أمكنه وتهددهم فيها وأبرق وأرعد وقال فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله
وسمى النصارى أهل العدوة واستنكف من تسميتهم نصارى فأجابه علماء الإسلام رضوان
الله عليهم عن رسالته تلك برسالة دامغة لجيش أباطيلة وفاضحة لركيك تأويله وهذا نص
جواب تلك الرسالة حرفا حرفا الحمد الله كما يجب لجلاله و صلى الله عليه وسلم
والرضى عن آله وأصحابه الذين هجروا دين الكفر فما نصروه ولا استنصروا به حتى أسس
الله دين الإسلام بشروط صحته وكماله
وبعد فهذا جواب من كافة الشرفاء والعلماء والصلحاء والأجناد من أهل المغرب وفقهم
الله لمولانا محمد ابن مولانا عبد الله السعدي عن كتابه الذي استدعاهم فيه لحكم
الكتاب والسنة واستدل بحججه الواهية المنكبة عن الصواب قائلين له عن أول حجة صدر
بها الخطاب لو رجعت على نفسك اللوم والعتاب لعلمت أنك المحجوج والمصاب فقولك خلعنا
بيعتك التي التزمناها وطوقناها أعناقنا وعقدناها فلا والله ما كان ذلك منا عن هوى
متبع ولا على سبيل خارج عن طريق الشرع مبتدع وإنما ذلك منا على منهج الشرع وطريقه
وعلى سبيل الحق وتحقيقه وسنشرح لك ذلك ونبينه ونسطره لك بالأدلة الشرعية التي
ترقيه وتزينه نعم كنت سلطانا بما عقد لك والدك من البيعة وترك لك من الأموال
والعدد والحصون مما لم يتهيأ مثله لأحد من أسلافكم الكرام رضوان الله عليهم
فجاهدوا بما حصل لهم من ذلك في الله حق جهاده حتى استخلصوا من أيدي الكفار رقاب
عباد الله وحصون بلاده
____________________
وأسسوا لدين الله قواعد
وأركانا وملكوا من المغرب بلادا معتبرة وأوطانا فلما وصل ذلك إليك ألقت إليك
العباد أعنتها وملكتك أزمتها غير مبدلين ولا مغيرين ولا باغين ولا منكرين إلى أن
قام عليك عمك بحجته التي لا يمكنك جحدها حسبما ثبت كما يجب عقدها فخرجت مبادرا له
بدفعها ولقيته بها وأنت واسطة عقدها وحامل راية عهدها وعمك في فئة لا يخطر على بال
عاقل أن يقابل جندا من جنودك أو يدافع ما تحت لواء من ألويتك وبنودك فما هو إلا أن
جرى القتال وحضر النزال رجعت على عقبك هاربا هروب مطرود بقصاص وجنودك تناديك ولات
حين مناص فتركت عددك ومحلتك بكل ما فيها وخلفتها لعدوك ينهبها ويسبيها وهربت عن
مدينة فاس المحروسة وسكانها ينادونك لمن تركتنا وإلى من تكلنا فلم تلتفت إليهم
وأسلمت بلادهم على ما فيها من خزائن ا لأموال والعدد الوافرة والرجال والأسوار
المرتفعة المانعة والمدينة المشهورة الجامعة فأصبح أهلها واليد العادية من
المفسدين تريد أن تمتد إلى الحريم والأولاد والطارف والتلاد ولا دافع عن الضعفاء
والمساكين إلا الله تعالى الذي قال في مثلهم { ومن أصدق من الله قيلا } { لا
يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا } فما أمكنهم بعد هروبك عنهم وإسلامك لهم فوضى
مهملين إلا النظر في أمرهم وإعمال الفكر في التدبير على أنفسهم فبينما هم على ذلك
إذا بعمك بجنوده على باب مدينتهم قائما بحجته سالكا في ذلك سبيل أبيه رحمه الله
ومحجته حسبما تقرر ذلك عندكم وظهر ولم يخف عنكم منه عين ولا أثر إذ كان مولانا
محمد الجد الأكبر عهد لأولاده مولانا أحمد ومولانا محمد الشيخ وإخوانهم لا يتولى
الخلافة منهم ولا من أولادهم إلا الأكبر فالأكبر فالتزموا ذلك إلى أن كبر أولادهم
فطلب جدك من عمك الوفاء بذلك فامتنع فقاتله على ذلك حتى تم له الأمر وانتظم فعهد
لوالدك الذي كان أكبر أولاده فلم ينازعه أحد في ذلك إلى أن ألقى والدك رحمه الله
ذلك وعهد إليك فلم ينازعكم أحد فأبى الله إلا الحق فأعطى ملكه لعمك الذي هو أكبركم
بعد أبيك فإن سلمت هذا فأي حجة تدلي بها وأي طريق
____________________
تعتمد عليها وإن أنكرت هذا فلا
أثر لخلافة أبيك من قبلك ولا لجدك من قبله لثبوتها لعمكم مولانا أحمد إذ لا حجة
حينئذ لجدك في القيام على عمك فخلافته صحيحة لبيعة جدك له فلم يبق إلا التغلب الذي
تدلي به في مسألة عمك وفي قيامه عليك فإن كنت تريد أن تسقط حجته بالتغلب عليك
فحجتك أبين في السقوط لعدم ثبوت الخلافة لمن عقدها لك إذ المعدوم شرعا كالمعدوم
حسا فلم يبق بينكم إلا والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا فيلزمك على هذا أن تثبت ما
عقده مولانا الجد رحمة الله وعليه فالخلافة لعمك القائم عليك إذ هو أكبركم في هذا
التاريخ
فإن قلت إن ما عقده الجد غير صحيح قلنا فقد ذكر الإمام الماوردي رحمه الله ورضي
عنه في كتاب الأحكام السلطانية له في باب عقد الخلافة أن عبد الملك بن مروان رتبها
في الأكبر فالأكبر من بنيه فلم ينازعه أحد في ذلك
فإن قلت فعل عبد الملك ليس بحجة قلنا سكوت العلماء على ذلك وهم ما هم في زمانه هو
الحجة إذ لا يمكن أن يسكتوا على باطل وإقرار أهل العصر الواحد على مسألة من المسائل
واتفاقهم عليها يقوم مقام الإجماع الذي هو حجة الله في أرضه وكان أيضا من محفوظات
علماء فاس المحروسة ما خرجه مسلم رضي الله عنه في صحيحه في كتاب الإمارة ما نصه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة عند رأسه يقال
هذه غدرة فلان ابن فلان ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة ) قال القاضي أبو
الفضل عياض رحمه الله في كتاب إكمال المعلم على شرح فوائد مسلم يعني لم يحطهم ولم
ينصح لهم ولم يف بالعقد الذي تقلده من أمرهم وفي الباب نفسه عنه صلى الله عليه
وسلم ما نصه ( ما من أمير استرعاه الله رعية ثم لم ينصح لهم إلا لم يرح رائحة
الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام ) وفي الإكمال نفسه قال القاضي والذي
عليه الناس إن القوم إذا بقوا فوضى مهملين لا إمام لهم فلهم أن يتفقوا على إمام
يبايعونه ويستخلفونه عليهم ينصف بعضهم من بعض ويقيم لهم الحدود
____________________
فلما أسلمتهم وأضحوا بغير إمام
وعمك يدلي بحجته التي ذكرنا لك مع ما حفظوه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم
وكلام السلف الصالح وأيسوا من رجوعك إليهم وبقوا فوضى مهملين لم يسعهم إلا الرجوع
إلى ما عليه الناس رضوان الله عليهم فاتفقوا على أن يبايعوا عمك لما ذكرنا لك من
الحجج التي لا يسعك جحدها إلا على وجه المكابرة فاطمأن الناس وسكنوا وانفتحت السبل
وأقيمت الحدود وارتفعت اليد العادية
فإن قلت كان يجب على أهل فاس أن يقاتلوا على البيعة التي التزموها لك قلنا إنما
يلزمهم القتال أن لو أقمت بين أظهرهم فيكون قتالهم على وجه شرعي لأن القتال على
الحدود الشرعية إنما يكون بعد نصب إمام يصدر الناس عن رأيه ولا يمكنك أيضا جحدها
إيه ثم وصلت إلى مراكش الغراء التي تجبى إليها الأموال من البوادي والأمصار وتشد
إليها الرحال من سائر الأقطار فلقيك أهلها بالترحاب والسرور وأنواع الفرح والحبور
فوجدت خزائنها تتدرج ملئا من كل شيء فأما أسوارها ورحابها فهي كما قيل تربة الولي
ومدرج الحلي وحضرة الملك الأولي والبرج النير الجلي فحللتها وتمكنت من أموالها
وخزائنها ووافقك أهلها فما نكثوا ولا غدروا ولا خرجوا عليك في سلطانك ولا أنكروا
فطلبت أيضا قتال عمك وجندت جنودا لا يجمعها ديوان حافظ ولا يعهدها لسان لافظ فخرجت
إليه تجر أعنة الخيل وراءك كالسيول والرماة قد ملأت الهضاب والتلول فما كان من
حديثك إلا أن وقع القتال وحضر النزال بادرت هاربا محكما للعادة تاركا للرؤساء من
أجنادك والقادة فحلت بهم الخطوب والرزايا واختطفتهم أيدي المنايا فتركت أيضا محلتك
بما فيها من حريمك وأموالك وعدتك ثم أسرعت هاربا إلى مراكش فما صدك عنها أحد من
أهلها ولا قال لك أحد لست ببعلها فعملوا على القتال معك والتمنع بأسوارها الحصينة
والحصار داخل المدينة فلما كان الليل غدرتهم وغادرت بناتك وأخواتك وعماتك ونساءك
وخرجت عنهم من القصبة وتركتهم لا بواب عليهم ولا حارس ولا راجل ولا فارس فيالها من
مصيبة ما أعظمها ومن داهية ما أعضلها ولولا
____________________
فضل الله ولطفه ووعده بتطهير
أهل البيت لامتدت إليهم أيدي السفلة من الفسقة فأي حجة تبقى لك بعد هذا وأي كلام
لك بين الرجال يا هذا ثم جاءك عمك أيضا بما سلف من الحجج فوجد أهلها في لطف الله
سبحانه وهم يحرسون أولادهم وديارهم من اليد العادية فأنقذهم الله به أيضا فبايعوا
عمك بما سلف من الحجج واطمأنوا وسكنوا ثم هربت للجبل عند صاحبه فصرتما في نهب
أموال الرعية وسفك دمائهم وأكثر ما صفا لك من ذلك أهل الذمة المصغرون بحكم القرآن
الداخلون تحت عهد سيد الثقلين في الأمن والأمان فأنت وهم في استيلائك عليهم وظلمك
إياهما كما قيل
( إن هو مستوليا على أحد ** إلا على أضعف المجانين )
ولم تبال بقول النبي صلى الله عليه وسلم أنا خصيم من ظلم ذميا يوم القيامة ثم خربت
العامر وأفسدت ما شيدت الأسلاف للإسلام من المآثر فلما رأى أهل السوس الأقصى ذلك
أيقنوا أنك إنما قصدت خراب الإسلام وأهله فنكب عنك أهل الدين والعلم منهم وبقيت
كما قيل في خلف كجلد الأجرب
فإن قلت إن أولئك الخلف لم يبايعوا عمك فتنقض بهم ما قررناه قلنا لم يطعن في خلافة
أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من تخلف عنها من أهل الشام
وفيهم من قد علمت من الناس والإجماع على صحة بيعته وسمي من تخلف عنها باغيا لقول
النبي صلى الله عليه وسلم لعمار تقتلك الفئة الباغية فقتله أصحاب معاوية رضي الله
عنه والحديث من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم والقاعدة أن ما اجتمع عليه من
يعتبر من أهل العصر الواحد هو المعول عليه ولا يعد خلاف من خالفه خلافا وهذا كله
بالنظر إلى ما كان من حديثك قبل التحزب مع عدو الدين والأخذ
____________________
في التخليط العظيم على
المسلمين فإنك اتفقت معهم على دخول آصيلا وأعطيتهم بلاد الإسلام فيالله ويا لرسوله
لهذه المصيبة التي أحدثتها وعلى المسلمين فتقتها ولكن الله تعالى لك ولهم بالمرصاد
ثم لم تتمالك أن ألقيت بنفسك إليهم ورضيت بجوارهم وموالاتهم كأنك ما طرق سمعك قول
الله سبحانه { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء
بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم } قال أبو حيان رحمه الله أي لا تنصروهم ولا
تستنصروا بهم وفي كتاب القضاء من نوازل الإمام البرزلي رحمه الله أن أمير المسلمين
يوسف بن تاشفين اللمتوني رحمه الله استفتى علماء زمانه رضي الله عنهم وهم ما هم في
استنصار ابن عباد الأندلسي بالكتابة إلى الإفرنج على أن يعينوه على المسلمين
فأجابه جلهم رضي الله عنهم بردته وكفره فتأمل هذا مع قضيتك تجدها أحروية مناسبة
لقضية ابن عباد في عقدها ابتداء وأنه متى طرأ الكفر وجب العزل وناهيك بقول النبي
صلى الله عليه وسلم عليكم بالسمع والطاعة وبما أفتى العلماء رضوان الله عليهم بردة
من استنصر بالنصارى على المسلمين فهو نص جلي في وجوب خلعك وسقوط بيعتك فلم يبق لك
إلا منازعة الحق سبحانه في حكمه { ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب }
وأما قولك في النصارى فإنك رجعت إلى أهل العدوة واستعظمت أن تسميهم بالنصارى ففيه
المقت الذي لا يخفى وقولك رجعت إليهم حين عدمت النصرة من المسلمين ففيه محظوران
يحضر عندهما غضب الرب جل جلاله أحدهما كونك اعتقدت أن المسلمين كلهم على ضلال وأن
الحق لم يبق من يقوم به إلا النصارى والعياذ بالله والثاني أنك استعنت بالكفار على
المسلمين وفي الحديث أن رجلا من المشركين ممن عرف بالنجدة والشجاعة جاء إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فوجده بحرة الوبرة موضع على نحو أربعة أميال من المدينة فقال
له يا محمد جئت لأنصرك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إن كنت تؤمن بالله ورسوله
فقال لا أفعل فقال له صلى الله عليه وسلم إني لا أستعين بمشرك وما سمعته من قول
العلماء رضي الله عنهم في
____________________
الاستعانة بهم إنما هو على
المشركين بأن نجعلهم خدمة لأزبال الدواب لا مقاتلة فأما الاستعانة بهم على
المسلمين فلا يخطر إلا على بال من قلبه وراء لسانه وقد قيل قديما لسان العاقل من
وراء قلبه وفي قولك يجوز للإنسان أن يستعين على من غصبه حقه بكل ما أمكنه وجعلت
قولك هذا قضية أنتجت لك دليلا على جواز الاستعانة بالكفار على المسلمين وفي ذلك
مصادمة للقرآن والحديث وهو عين الكفر أيضا والعياذ بالله
وقولك فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله إيه أنت مع الله ورسوله أو مع
حزبه فتأمل ما قلت في الحديث يتكلم أحدكم بالكلمة تهوي به في النار سبعين خريفا
ولما سمعت جنود الله وأنصاره وحماة دينه من العرب والعجم قولك هذا حملتهم الغيرة
الإسلامية والحمية الإيمانية وتجدد لهم نور الإيمان وأشرق عليهم شعاع الإيقان فمن
قائل يقول لا دين إلا دين محمد صلى الله عليه وسلم ومن قائل يقول سترون ما أصنع
عند اللقاء ومن قائل يقول { وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين } ومن
قائل يقول إنما قصد التشفي بالمسلمين إذ لو كان يطلب الصلاح لما صدرت منه هذه
الأفعال القبيحة إلى غير ذلك فجزاهم الله عن الإسلام خيرا ورضي عنهم وبارك فيهم
فلله درهم من رجال وفرسان وأبطال وشجعان فلو لم يكن منهم إلا ما غير قلوبهم على
الدين لكان كافيا في صحة إيمانهم وعظيم إيقانهم فقد بلغ نور غضبهم لله سبحانه ساق
العرش والحب في الله والبغض في الله من قواعد الإيمان
وقولك أيضا متبرئا من حول الله وقوته فإن لم تفعلوا فالسيف فهو كلام هذيان يدل على
حماقة قائله فقط أنبأ سيفك هذا وأنت مع المسلمين في أربع وعشرين معركة لم تثبت لك
فيها راية ثم زال نبوه الآن بالكفار فهذه أضحوكة فتأملها
وأما ما نسبته لإمام دار الهجرة فكفاك عجزا إن لم تعين لنا نصا جليا نعتمد عليه
فيما تحتج به إلا أنك كثرت به سواد القرطاس مغربا بذكره لا معربا بنصه
____________________
وما نسبته للحنفية من أكل
الميتة عند الضرورة وتسويغ الغصة بخمر فهو ما نص عليه المالكية في مختصراتهم التي
ألفوها للصبيان فعدولك عن ذلك إلى الحنفية إما قصور وإما إلغاء لمذهب مالك رضي
الله عنه وهو النجم الثاقب
وأما قولك أنتم أهل بغي وعناد فلا نسلم لك ذلك إلا لو أقمت بين أظهرنا وقاتلت معنا
حتى ترى أنسلمك أم لا فأما إذا هربت عنا وتركتنا فالحجة عليك لا علينا على انك في
كتابك تفسق الكل بذلك وتكفره وقد قال العلماء رضي الله عنهم من يقول بتكفير العامة
فهو أولى بالتكفير وذلك معزو لزعيم العلماء القاضي أبي الوليد بن رشد والقاضي أبي
الفضل عياض وكيف لا تنظر لقضايا تلمسان وتونس وغيرهما من سائر البلدان وكيف وقع
لأمرائهم المستنصرين بالكفار على المسلمين هل حصلوا على شيء مما قصدوه أو بلغوا
شيئا مما أملوه على أن أكثر العلماء حكموا بردتهم ففاتتهم الدنيا والآخرة والعياذ
بالله
وقد افتخرت في كتابك بجموع الروم وقيامهم معك وعولت على بلوغ الملك بحشودهم وأنى
لك هذا مع قول الله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم
الإسلام دينا } { ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } وفي الحديث عن
النبي صلى الله عليه وسلم ( لن تغلب هذه الأمة ولو اجتمع عليها من الكفار ما بين
لابات الدنيا ) وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال سيقاتل آخر هذه الأمة الدجال وعنه
صلى الله عليه وسلم أنه قال ( سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته
ألا يهلكهم بسنة عامة فأعطانيها وسألته ألا يغلبهم عدوهم الكافر فأعطانيها وسألته
ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ) والكل عليك وإياك نعني
وما ذكرته عن عمك فاعلم أنه لما بلغه خبرك واستنصارك بالكفار عقد ألويته المنصورة
بالله في وسط جامع المنصور بعد أن ختم عليها أهل الله من حملة القرآن مائة ختمة
وصحيح البخاري وضجوا عند ذلك بالتهليل
____________________
والتكبير و صلى الله عليه وسلم
والدعاء له وللأسلام بالنصر والتمكين والفتح الشامخ المبين فلو سمعت ذلك لعلمت
وتحققت أن أبواب السماء انفتحت لذلك وقضى ما هنالك وبلغه كتابك الذي كان هذا جوبا
عنه وهو بوسط تامسنا معه من جنود الله وأنصاره وحماة دينه ما يجعل الله فيه البركة
ولولا أن الشرع العزيز أمر بتعظيم جنود الإسلام والمباهاة بها والافتخار بكثرتها
لما قررنا لكم أمرها إذ لا اعتماد له أيده الله عليها وكذلك هم لا اعتماد لهم إلا
على حول الله وقوته ونصره وتأييده والناس على دين الملك وقد قاتلت وأنت في وسط
المسلمين في بضع عشرة معركة لم تنصر لك فيها راية فأي نحس وشؤم حلا بديار الروم
فإن جلبتهم فالله لك ولهم بالمرصاد ارجع إلى الله أيها المسكين وتب إليه فإنه يقبل
التوبة عن عباده في كل وقت وحين ودع عنك كلام من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله
مقاله وهذه نصيحة إن قبلتها وموعظة إن وفقت إليها والله يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم وهو نعم المولى ونعم النصير وهو حسبنا ونعم الوكيل والسلام انتهت الرسالة
وكان خروج محمد بن عبد الله بجيش البرتغال وفصوله به من طنجة في ربيع الثاني سنة
ست وثمانين وتسعمائة قال في المرآة إنهم لما خرجوا إلى بلاد الإسلام ضربوا محلاتهم
بالفحص على أقل من مسيرة يوم من مدينة القصر وكانت آصيلا قد تصيرت إليهم قبل ذلك
بأشهر يعني بعد فرارهم عنها أيام السلطان محمد الشيخ كما تقدم فعاين أهل القصر
الهلكة لقرب العدو منهم وقوته التي لا طاقة لهم بها وفشا النفاق لأجل السلطان محمد
بن عبد الله الذي معهم ولأجل بعد صريخ المسلمين فإن السلطان أبا مروان المعتصم
بالله كان إذ ذاك بمراكش فاستبطؤوا وصول الخبر إليه ثم مجيئه بعد ذلك فلم يبق لهم
تدبير إلا الفرار والتحصن بالجبال وغيرها فقال الشيخ أبو المحاسن يوسف الفاسي رحمه
الله وكان إذ ذاك بالقصر لرجل من أصحابه ناد في الناس أن الزموا بلادكم ودوركم فإن
عظيم
____________________
النصارى مسجون حيث هو حتى يجيء
السلطان من مراكش وإن النصارى غنيمة للمسلمين ومن شاء فليعط خمسين أوقية في
النصراني يشير إلى مبلغ قيمة النصراني في الغنيمة فما انتقل النصارى من مكانهم ذلك
أكثر من شهر حتى قدم السلطان أبو مروان وكان مريضا اه
وقال في النزهة إن النصارى لما برزوا من طنجة شنوا الغارة على السواحل فأعلم أهلها
السلطان أبو مروان وكان بمراكش وشكوا إليه كلب العدو عليهم فكتب السلطان أبو مروان
من مراكش إلى الطاغية إن سطوتك قد ظهرت في خروجك من أرضك وجوازك العدوة فإن ثبت
إلى أن نقدم عليك فأنت نصراني حقيقي شجاع وإلا فأنت كلب ابن كلب فلما بلغه الكتاب
غضب واستشار أصحابه هل نقيم حتى يلحق بنا من خلفنا من أصحابنا فقال له محمد بن عبد
الله الرأي أن نتقدم ونملك تطاوين والعرايش والقصر ونجمع ما فيها من العدة ونتقوى
بما فيها من الذخائر فأعجب ذلك الرأي أهل الديوان ولم يعجب الطاغية وكتب السلطان
أبو مروان لأخيه أبي العباس أحمد وكان نائبه على فاس وأعمالها أن يخرج بجيوش فاس
وأحوازها ويتهيأ للقتال ثم كتب إليه أيضا في شأن مؤنة الجيش كتابا يقول فيه من عبد
الله المعتصم بالله المجاهد في سبيل الله أمير المؤمنين أبي مروان عبد الملك بن
أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد الشيخ الشريف الحسني أيد الله أمره وأعز نصره إلى
أخينا الأعز الأنجب بابا أحمد ابن مولانا الوالد حرس الله كريم إخائه سلام كريم
ورحمة الله وبركاته أما بعد فإنا كتبناه إليكم من محلتنا السعيدة بتامسنا ولا زائد
بحمد الله إلا الخير والعافية والنعم الضافية هذا وإنه ساعة وصوله إليكم تخرجون من
الخدام لعمالة مكناسة وقبيلة آزمور وأولاد جلول من يفرض عليهم علف محلتنا المنصورة
ومؤنتها ويأمرهم برفعه وإبلاغه إلى مدينة سلا وقدر ذلك صحفة شعير وعشرون مدا من
القمح لكل نائبة وصاع من سمن وكبش لكل أربع نوائب ووكد عليهم رعاك الله أن يعتنوا
بذلك وبإيصاله إلى المكان المذكور من غير عطلة وهذا ما وجب به الإعلام إليكم والله
يرعاكم بمنه والسلام اه
____________________
ثم كتب السلطان أبو مروان للطاغية ثانية وذلك بعد ما وصل إلى القصر إني رحلت إليك
ست عشرة مرحلة أما ترحل إلى واحدة فرحل الطاغية من موضع يقال له تاهدارت ونزل على
وادي المخازن بمقربة من قصر كتامة وكان ذلك من السلطان أبي مروان مكيدة ثم إن
الطاغية تقدم بجيوشه وعبر جسر الوادي ونزل من هذه العدوة فأمر السلطان بالقنطرة أن
تهدم ووجه إليها كتيبة من الخيل فهدموها وكان الوادي لا مشرع له سوى القنطرة ثم
زحف السلطان أبو مروان إلى العدو بجيوش المسلمين وخيل الله المسومة وانضاف إليه من
المتطوعة كل من رغب في الأجر وطمع في الشهادة وأقبل الناس سراعا من الآفاق
وابتدروا حضور هذا المشهد الجليل فكان ممن حضره من الأعيان الشيخ أبو المحاسن يوسف
الفاسي وغيره
قال في المرآة كان الشيخ أبو المحاسن في ذلك اليوم في أحد الجناحين وأظنه الميسرة
من عسكر المسلمين في مقابلة النصارى دمرهم الله قال فوقع في ذلك الجناح انكسار
تزحزح به المسلمون عن مصافهم وحملت عليهم النصارى دمرهم الله فثبت الشيخ وثبت من
كان معه إلى أن منح الله المسلمين النصر وركبوا أكتاف العدو يقتلون ويأسرون والشيخ
لم يتزلزل ولم يلتفت منذ توجه إلى قتالهم حتى فتح الله عليهم اه
ولما التقت الفئتان وزحف الناس بعضهم إلى بعض وحمى الوطيس واسود الجو بنقع الجياد
ودخان المدافع وقامت الحرب على ساق توفي السلطان أبو مروان رحمه الله عند الصدمة
الأولى وكان مريضا يقاد به في محفة فكان من قضاء الله السابق ولطفه السابغ أنه لم
يطلع على وفاته أحد إلا حاجبه مولاه رضوان العلج فإنه كتم موته وصار يختلف إلى
الأجناد ويقول السلطان يأمر فلانا أن يذهب إلى موضع كذا وفلانا أن يلزم الراية
وفلانا يتقدم وفلانا يتأخر
وقال شارح الزهرة لما توفي السلطان أبو مروان لم يظهر الذي كان سائس المحفة موته
فصار يقدم دواب المحفة نحو العدو ويقول للجند السلطان يأمركم بالتقدم إليهم وعلم
أيضا بموته أخوه وخليفته أبو
____________________
العباس أحمد بن الشيخ فكتمها
ولم يزل الحال على ذلك والناس في المناضلة والمقاتلة ومعانقة القواضب والاصطلاء
بنار الطعان واحتساء كؤس الحمام إلى أن هبت على المسلمين ريح النصر وساعدهم القدر
وأثمرت أغصان رماحهم زهر الظفر فولى المشركون الأدبار ودارت عليهم دائرة البوار
وحكمت السيوف في رقاب الكفار ففروا ولات حين فرار وقتل الطاغية سبستيان عظيم
البرتغال غريقا في الوادي وقصد النصارى القنطرة فلم يجدوا إلا آثارها فخشعت نفوسهم
وتهافتوا في النهر تهافت الفراش على النار فكان ذلك من أكبر الأسباب في استئصالهم
وأعظم الحبائل في اقتناصهم ولم ينج منهم إلا عدد نزر وشرذمة قليلة
وقال في المنتقى المقصور كانت هذه الغزوة من الغزوات العظيمة الوقائع الشهيرة حضرها
جم غفير من أهل الله تعالى حتى إنها أشبه شيء بغزوة بدر حدثنا شيخنا أبو راشد
يعقوب البدري عمن يثق به أن الرجل من حاضري ذلك المعترك كان يستبق إلى النصراني
لينتهز فيه الفرصة فما يصله حتى يجده ميتا اه
وبحث في القتلى عن محمد بن عبد الله المستصرخ بهم والقائد لهم إلى مصارعهم فوجد
غريقا في وادي المخازن وذلك أنه لما رأى الهزيمة فر ناجيا بنفسه واضطر إلى عبور
النهر فتورط في غدير منه وغرق فمات فاستخرجه الغواصون وسلخ وحشي جلده تبنا وطيف به
في مراكش وغيرها من البلاد
وممن وجد صريعا في القتلى يومئذ الفقيه أبو عبد الله محمد بن عسكر السريفي
الشفشاوني صاحب الدوحة فإنه كان هرب مع المسلوخ وكان من بطانته فدخل معه بلاد
العدو فوجد بين جيف النصارى قتيلا وتكلم الناس في أمره حتى قيل إنه وجد على شماله
مستدبر القبلة وفيه يقول الفقيه العلامة أبو عبد الله محمد ابن الإمام الشهير أبي
محمد عبد الله الهبطي رحمه الله في منظومته التي نظم فيها أصحاب أبيه معتذرا عن
ابن عسكر المذكور ومشيرا إلى توهين ما قيل فيه
( ومنهم الشيخ الذي لا ينكر ** محمد أخو الدهاء عسكر )
____________________
( وإن يكن أتى بذنب ظاهر ** فعرضه من الشكوك طاهر )
( رأيته في النوم ذا بشاره ** وهيئة حسنة وشارة )
وكان التقاء الجمعين يوم الاثنين منسلخ جمادى الأولى سنة ست وثمانين وتسعمائة
ويوافقه من التاريخ المسيحي اليوم الرابع من أغشت سنة ثمان وسبعين وخمس عشرة مائة
قال في المنتقى وكان مقدار زمان المقاتلة خمسا وأربعين درجة وقيل اثنتين وخمسين
على ما حدثني به بعض الميقاتيين
وقال في المرآة وحصل المسلمون على غنيمة لم يكن قط مثلها بالمغرب إذ لم يتقدم
للنصارى خروج به على هذه الصورة إلا أن الغنيمة لم تقسم وإنما انتهبها الناس كما
اتفق لهم بحسب القوة والبخت الدنيوي وكان الناس يتوقعون مغبتها لاختلاط الأموال
بالحرام فظهر ذلك من غلاء وغيره وكنا نسمع أن البركة رفعت من الأموال من يومئذ
وقد حضر الشيخ أبو المحاسن هذه الغزوة وأبلى فيها بلاء حسنا وتورع عن الغنيمة فلم
يتلبس منها بشيء وبلغت قيمة النصراني ما ذكره الشيخ وكان سبب عدم ضبط الغنيمة وقسمها
على الوجه المشروع موت السلطان أبي مروان قبل هزيمة النصارى وكان مريضا فاشتغل
أخوه أبو العباس أحمد بجمع الكلمة ولم يهتبل بأمر الغنيمة فتم له ما قصد
وقد ساق منويل في تاريخه خبر هذه الوقعة مساقا حسنا فقال لما استولى عبد الملك
السعدي المدعو عند أهل المغرب بمولاي ملوك على ملك المغرب وطرد ابن أخيه مولاي
محمد المعروف بالأكحل يعني المسلوخ ذهب أولا إلى إصبانيا وتطارح على طاغية
الإصبنيول فيليب الثاني في أن يعينه على استرجاع ملكه فامتنع ثم دخل أشبونة وتطارح
على طاغية البرتغال سبستيان فأجابه وذهب إلى خاله طاغية الإصبنيول فيليب المذكور
آنفا وطلب منه الإعانة على ما هو بصدده فوعده بأن يعطيه من المراكب والعساكر ما
يملك به العرائش لأنه كان يرى أنها تعدل سائر
____________________
مراسي المغرب ثم أمده بعشرين
ألفا من عسكر الإصبنيول وكان سبستيان قد ساق معه اثني عشر ألفا من البرتغال وثلاثة
آلاف من الطليان ومثلها من الألمان ومن متطوعة الإصبنيول وغيرهم عددا كثيرا وبعث
إليه البابا صاحب رومة بأربعة آلاف أخرى وبألف وخمسمائة من الخيل واثني عشر مدفعا
وجمع سبستيان نحو ألف مركب وجاء إلى قادس
ولما عزم على اقتحام بلاد المغرب تشفعت إليه جدته وأرباب دولته وشيوخ دينه في
الرجوع فصم عنهم وكذلك خاله فيليب حذره عاقبة التوغل في أرض المغرب فصم على ذلك
كله وجاء إلى قادس ومنها خرج إلى طنجة
وكان محمد بن عبد الله المسلوخ ينتظره هنالك فاجتمع به وزحفوا إلى بلاد المغرب
وزحف إليهم السلطان عبد الملك في عساكر المسلمين وكانوا أربعين ألفا وزيادة
ومدافعهم أربعة وثلاثين مدفعا وقواد الجيش أبو علي القوري والحسين العلج الجنوي
ومحمد أبو طيبة وعلي بن موسى وأخوه أحمد بن موسى الذي كان عاملا على العرائش فجاء
في جمعه إلى السلطان عبد الملك وانضم إليه ولما تقارب الجيشان جمع السلطان عبد
الملك الناس وخطبهم ثم استدعى النصارى إلى القتال ونصب لهم علامته فأحجموا وكان
قصدهم المطاولة وقصد السلطان عبد الملك المناجزة وذلك لأن محمد المسلوخ قد دس إليه
من سمه
قال منويل ولما أحس عبد الملك بذلك وأنه لا محالة هالك بذل نفسه للقتال ليموت في
الجهاد وكان المسلوخ يتربص كي يهلك عمه قبل اللقاء فتقع الفتنة في عسكر المسلمين
لكن جيش النصارى لم تكن لهم مؤنة يطاولون بها فألجأهم ذلك إلى المناجزة ولما
انتشبت الحرب هلك عبد الملك للحين
قال منويل وكان أمر هذا الرجل عجبا في الحزم والشجاعة حتى أنه لما مات مات وهو
واضع سبابته على فمه كأنه يشير إلى جيشه أن يسكتوا عن الخوض في وفاته حتى يتم
أمرهم ولا يضطربوا وكذلك كان فإنهم كتموا موته فانتصروا وظفروا بالنصارى ظفرا لا
كفاء له فكانوا يذبحونهم مثل
____________________
الكباش ودهش النصارى وتكبكبت
جموعهم وتراكمت أمتعتهم وصناديقهم وخيلهم وسلاحهم بلا ترتيب وزادهم دهشا أن بعض
طوابيرهم كان ينادي صاحب صفارته وراءكم وراءكم قطعكم العدو ووقدت النار في بارود
النصارى فنفط وانهزموا إلى وادي المخازن فتهافت جلهم فيه فهلكوا والباقي أسره
المسلمون
وزعم أن سبستيان هلك تحته في ذلك اليوم أربعة أفراس وكان شابا حدثا وقال لأصحابه
إن تروني تروني أمامكم وإن لم تروني فأنا في وسط العدو أقاتل عنكم قال وأبدأ وأعاد
في ذلك اليوم إلى أن خر قتيلا وبقي مذكورا عند البرتغال يسمرون بأخباره وذكره
شعراء الأوربا في أشعارهم ولا زالوا يذكرونه إلى الآن
وخلفه في ملكه الطاغية الريكي البرتغالي فهو الذي ولي بعده وافتدى جنازته من
المسلمين ونقلها إلى سبتة فبقيت هنالك إلى أن هلك الطاغية الريكي وتولى على
البرتغال طاغية الإصبنيول فيليب الثاني فصار ملك الدولتين معا وهو خال سبستيان أخو
أمه فنقل جنازته من سبتة إلى أشبونة ثم أرخ منويل الوقعة بالتاريخ العربي والعجمي
موافقا لما مر فهذا ما ذكره في هذه الوقعة
قال في النزهة توفي السلطان أبو مروان عبد الملك بن الشيخ في زوال اليوم المذكور
وبايع الناس أخاه أبا العباس أحمد المنصور بالله كما سيأتي إن شاء الله
قال في درة الحجال فانظر لحكمة الله الواحد القهار أهلك ثلاثة ملوك يوم واحد وهم
أبو مروان الشيخ وولد أخيه محمد بن عبد الله المسلوخ والطاغية سبستيان وأقام واحدا
وهو أبو العباس المنصور اه
قلت وفي إهلاك الثلاثة وإقامة الواحد إشارة واضحة لإهلاك دين التثليث ونصر دين
التوحيد في ذلك اليوم والله تعالى أعلم
ولما بلغت الهزيمة إلى الطاغية الأعظم أعني القائم بالأمر بعد سبستيان لأن التحقيق
أنه كان الأعظم يومئذ لما مر بعث إلى المنصور بعد استقلاله
____________________
بالملك وعوده إلى فاس كما
سيأتي يلتمس منه الفداء فيمن بقي بيده من الأسارى فأجابه إلى ذلك وحصل له بسببه
أموال طائلة وذكر بعضهم أن الأسارى لما ذهبوا إلى بلادهم قال الطاغية لم لم تأخذوا
تطاوين والعرائش والقصر قبل أن يصل ملكهم فقالوا له امتنع من ذلك الأمير الذي كان
علينا فأمر بهم فأحرقوا جميعا
مضحكة قال في النزهة ذكر بعضهم أن النصارى لما وقعت عليهم الكائنة المذكورة وفنى
من فنى منهم ورأى أساقفتهم قلة عددهم وخلاء بلادهم لكثرة من مات منهم أباحوا
للعامة فاحشة الزنى ليكثر التناسل ويخلف ما هلك منهم ورأوا ذلك من نصرة دينهم
وتقويم أود ملتهم أخزاهم الله اه
وقد وقفت على تاريخ لبعض مؤرخي الفرنج الإنجليزيين من أهل جزيرة مالطة فرأيته قد
ألم بخبر هذه الوقعة وصرح بأنها كانت سبب هلاك البرتغال وتلاشي دولتهم وبطلان كرسي
سلطنتهم حتى استضافهم إليه طاغية الإصبنيول بعد نحو سنتين وصيرهم من جملة رعيته
ومن فصول كلامه بعد أن ذكر أن أكثر البرتغال قتلوا في ذلك اليوم ما نصه وكانت يعني
الوقعة المذكورة وقعة هائلة ويوما مشؤوما وبالجملة فقد قتل في ذلك اليوم سائر
أشراف البرتكيسيين ولم يتخلف منهم أحد فلما بطل كرسي سلطنتهم قام وقتئذ فيليبس
الثاني ملك إصبانيا وتزوج ملكتهم وحكم على البلاد كلها اه كلامه إلا أنه ذكر أن السبب
في استغاثة السلطان محمد بن عبد الله بالبرتغال هو تغلب الإصبنيوليين على مملكته
وانتزاعها من يده وهو كذب أو غلط ولعله تصحف عليه لفظ الإصطنبوليين بالإصبنيوليين
إذ قد تقدم أن السلطان أبا مروان إنما استولى على المغرب بجيش الترك المنفذ من قبل
السلطان سليم العثماني والله أعلم
وقد ألم بهذه الوقعة أيضا لويز مارية في كتابه الموضوع في أخبار الجديدة لكنه لم
يبسطها على عادته في السكوت عن ما يكون من الظهور في جانب المسلمين وإشاعة ما يكون
من ذلك في جانب النصارى بل
____________________
والزيادة فيه ومع ذلك فقد قال
في وصفها كلاما هذه ترجمته وقد كان مخبوءا لنا في مستقبل الأعصار العصر الذي لو
وصفته كما وصفه غيري من المؤرخين لقلت هو العصر النحس البالغ في النحوسة الذي
انتهت فيه مدة الصولة والظفر والنجاح وانقضت فيه أيام العناية من البرتغال وانطفأ
مصباحهم بين الأجناس وزال رونقهم وذهبت النخوة والقوة منهم وخلفها الفشل وانقطع
الرجاء واضمحل إبان الغنى والربح وذلك هو العصر الذي هلك فيه سبستيان في القصر
الكبير من بلاد المغرب اه فهذا كلام هذا البرتغالي قد تحفظت عليه وأديت ترجمته كما
هي ليعتبر به من يقف عليه والحق ما شهدت به الأعداء
ولما تمت للسلطان أبي العباس المنصور البيعة بوادي المخازن طالبه الجيش بأرزاقهم
واستنجزوا أعطياتهم حسبما جرت به عادة من قبله معهم فطالبهم هو بخمس الغنيمة لأنهم
جعلوها نهبى ولم يقتسموها على الوجه الشرعي كما سبق فصعب استخراجها منهم لعدم
التعيين وجرأة الناس على الغلول فسامحهم فيها وسامحوه في عطائهم
ثم أمر المنصور بتوجيه كتب البشارات إلى الآفاق بهذا الفتح المبين فكتب إلى صاحب
القسطنطينية العظمى وإلى سائر ممالك الإسلام المجاورين للمغرب يعرفهم بما أنعم
الله به من إظهار الدين وهلاك عبدة الصليب واستئصال شوكتهم ورد كيدهم في نحرهم
فوردت عليه الأرسال من سائر الأقطار مهنئين له بما فتح الله على يده حسبما نذكره
بعد إن شاء الله بقية أخبار السلطان أبي مروان وسيرته
قال ابن القاضي كان سبب وفاة السلطان أبي مروان رحمه الله أنه سقي سما وذلك أن
قائد الترك الذين كانوا معه واسمه رمضان العلج بعث إلى بعض قواده أن يتلقاه بكعك
مسموم هدية للسلطان المذكور وقت مرورهم عليه وقصد بذلك قتله وذلك بعد أخذه به
مدينة فاس ليثبت لهم الملك بها فلم يكمل الله مرادهم لما شهدوه من عظيم جيش المغرب
فهذا كان سبب في موته رحمه الله اه ولما توفي حمل إلى مراكش فقبر بها وكانت مدة
____________________
خلافته أربع سنين ومن حجابه
القائد رضوان العلج وكتابه محمد بن عيسى ومحمد بن عمر الشاوي وقضاته قضاة ولد أخيه
وكان يتزيا بزي الترك ويجري مجراهم في كثير من شؤونه وكان يتهم بالميل إلى الأحداث
وربما كان يظهر ذلك وكان أخوه أبو العباس المنصور خليفته على فاس كما مر وكانت له
فيه محبة تامة وكان يظهر أنه ولي عهده ويرشحه لذلك كثيرا حسبما أفصحت عنه رسائله
التي كان يبعث بها إليه
ولنذكر ما كان في هذه المدة من الأحداث
ففي سنة ثمان وعشرين وتسعمائة كان الوباء بالمغرب كما قدمنا
وفي سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة نزل مطر غزير بمراكش حتى امتلأت منه الآبار وتهدمت
الدور وصار الناس يؤرخون بعام الآبار
وفي سنة إحدى وستين وتسعمائة توفي الشيخ أبو محمد عبد الله بن ساسي من أولاد أبي
السباع ودفن بزاويته على ضفة وادي تانسيفت من أعمال مراكش وقبره مزارة مشهورة
وعليه بناء حفيل
وفي سنة ثلاث وستين وتسعمائة توفي الشيخ الإمام أبو محمد عبد الله ابن محمد
الصنهاجي الطنجي المعروف بالهبطي وكانت وفاته في ذي القعدة من السنة المذكورة وكان
رحمه الله من أهل الورع والدين والاتباع للسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن
فوائده ما حكاه عنه في الدوحة قال سألت شيخنا الإمام أبا محمد عبد الله الهبطي عن
الشيخ أبي محمد الغزواني وكان من أصحابه فقلت له يا سيدي ما لسائر المشايخ من
أصحاب الشيخ الغزواني كأبي الحجاج التليدي وأبي البقاء اليالصوتي وأبي الحسن علي
بن عثمان وغيرهم يصرحون بقبطانية الشيخ وينسبونك أنت إلى التقصير في حقه حيث لم
تقل بما يقولونه فقال لي رضي الله عنه قد علمت معنى الشهادة في الشرع ما هي فقلت
نعم فقال لي كيف لي أن أشهد لأحد بمقام معين وأنا لم أسلكه ولم أتحققه ولم يكشف لي
عنه فإن فعلت فقد شهدت شهادة الزور فقلت له وأي شهادة تشهد في الشيخ
____________________
فقال لي أشهد أنه من العارفين
بالله تعالى وأنه كان يجيب بالحال أكثر مما يجيب بالمقال انتهى قلت وهذا شأن أهل
الدين والورع المحتاطين لدينهم لا يقدمون على أمر ولا يتفوهون به حتى يكونوا منه
على بصيرة وتجد كثيرا ممن عقله وراء لسانه يتقولون على الله في غيبه ويخبطون خبط
العشواء وينسبون المقامات والأحوال لمن ليس منها في قبيل ولا دبير نسأل الله تعالى
أن يلهمنا رشدنا بمنه
وفي سنة أربع وستين وتسعمائة في يوم الأربعاء الثامن والعشرين من رمضان منها كسفت
الشمس الكسوف الكلي العظيم
وفي سنة خمس وستين وتسعمائة كان بالمغرب وباء عظيم كسا سهله وجباله وأفنى كماته
وأبطاله واتصل أمره إلى سنة ست وستين بعدها
وفي سنة إحدى وسبعين وتسعمائة توفي الشيخ أبو العباس أحمد بن موسى الجزولي ثم
السملالي الشهير ببلاد السوس أخذ عن الشيخ أبي فارس عبد العزيز التباع والشيخ أبي
العباس أحمد بن يوسف الراشدي ثم الملياني
وفي سنة ست وسبعين وتسعمائة ليلة عبد الأضحى منها توفي الشيخ أبو زيد عبد الرحمن
بن عياد الصنهاجي ثم الفرجي الدكالي المعروف بالمجذوب الولي المشهور دفين مكناسة
الزيتون كان مأوى سلفه بمدينة تيط قرب آزمور ثم رحل هو ووالده إلى مكناسة فمات بها
وفي سنة سبع وسبعين وتسعمائة بعد صلاة الجمعة من أول يوم من المحرم منها زلزلت
الأرض زلزالا شديدا وفزع الناس لذلك وفي هذه السنة في الحادي والعشرين من ربيع
الأول منها توفي الشيخ أبو محمد عبد الله بن حسين من شرفاء بني آمغار دفين
تامصلوحت وقد تقدم ما جرى بينه وبين السلطان الغالب بالله
وفي سنة ثمان وسبعين وتسعمائة وذلك أواخر شوال منها الموافق لأواسط مارس العجمي
حدث بالمغرب جراد كثير وفي أيام السلطان الغالب بالله ظهر نجم لم يكن معهودا ثم
ظهرت في أيام ابنه محمد بن عبد الله أعلام حمر في الجو من الناحية الشرقية تبعتها
في الأرض أجناد الترك التي
____________________
جاء بها السلطان أبو مروان من
الجزائر كما مر وفي أيام السلطان أبي مروان المذكور ظهر الكوكب ذو الذنب الكبير في
برج العقرب وطلع أياما ثم غاب وظهر بعده كوكب آخر ذو ذنب أصغر منه وعلى أثره كان
خروج البرتغال من طنجة ووقعة وادي المخازن كما مر والله تعالى أعلم بغيبه الخبر عن
دولة السلطان أبي العباس أحمد المنصور بالله السعدي المعروف بالذهبي وأوليته
ونشأته
كانت ولادة السلطان أبى العباس أحمد المنصور بالله ابن السلطان أبي عبد الله الشيخ
بفاس سنة ست وخمسين وتسعمائة وأمه الحرة مسعودة بنت الشيخ الأجل أبي العباس أحمد
بن عبد الله الوزكيتي الوارززاتي وكانت من الصالحات الخيرات وستأتي بقية أخبارها
وذكر في المنتقى قال مرض المنصور في صغره مرضا شديدا حتى أيس منه فرأت أمه في
النوم شخصا يقول لها أزيريه الشيخ أبا ميمونة فإنما أصابته عين فأزارته إياه فعوفي
وكان أبوه المهدي ينبه على أنه واسطة عقد أولاده
قال في مناهل الصفا حدثني الشيخ المسن القائد أبو محمد مؤمن ابن الغازي العمري أن
المنصور أقبل يوما في حياة أبيه وهو صبي والمجلس غاص بالأكابر فاندفع يخترق الصفوف
قال فصاح بي المهدي إذ ذاك وأنا أصغر القوم فقال يا مؤمن ارفعه فيسنفعك أو ينفع
عقبك فابتدرت حمله وكان كذلك فإن المنصور لما أفضت إليه الخلافة كان القائد مؤمن
ابن الغازي عنده بالحظوة الرفيعة والمنزلة العالية
ونشأ المنصور رحمه الله في عفاف وصيانة وتعاط للعلم ومثافنة لأهله عليه وكانت
مخايل الخلافة لائحة عليه من لدن عقدت عليه التمائم إلى أن تم أمره حدثنا الفقيه
العالم سفير الخلفاء أبو محمد عبد الله بن محمد بن
____________________
محمد بن علي الجزولي الدرعي
أنه اجتمع ببعض أهل المكاشفة بمصر فسأله عن السلطان أبي عبد الله الشيخ وأولاده
قال فسميتهم له واقتصرت على الكبار منهم فلم أذكر المنصور لأنه كان أصغرهم سنا
يومئذ فقال لي بقي منهم من لم تذكره فقلت له احمد فقال ذاك واسطة عقدهم ووجه
صفقتهم فكان كذلك
وقال الشيخ أبو فارس عبد العزيز الفشتالي لما أخذ المهدي البيعة لولده السلطان
الغالب بالله كما تقدم استقدمه من فاس وأوصاه بالمنصور جدا وقال له إن الفائدة فيه
أو كما قال وهكذا كان ينبه على أنه واسطة عقد أولاده وكان المنصور رحمه الله يحدث
أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وأنواره تشرق قال فوقع في نفسي أن
أسأله عن نصيبي من الخلافة فكاشفني صلى الله عليه وسلم بما في خاطري وأجابني بما
حقق لي نيلها ثم أشار لي بأصابعه الثلاثة الشريفة ضاما الإبهام منها إلى السبابة
والوسطى وقال أمير المؤمنين اه
وقال الإمام أبو زيد عبد الرحمن بن محمد التامنارتي في كتابه الفوائد الجمة بإسناد
علوم الأمة أخبرني الفقيه أبو العباس أحمد بن عبد الله الدغوغي صاحب الحسبة
بتارودانت أنه رأى في منامه كأنه في حلقة يسرد فيها صحيح البخاري بموضع من دار
الخلافة بها وأبو العباس المنصور يومئذ بها وذلك قبل ولايته قال فرأيت في طرة
الكتاب هذا اللفظ ورى الزند فكنت أتأمل معناه فالتفت فإذا برجل انعزل ناحية على
طنفسة فوقع في نفسي أن أسأله فأتيته بالكتاب وقلت له يا سيدي ما معنى هذه الكلمة
التي في طرة هذا الكتاب فقال لي قل لمولاك أحمد أنا الذي أوريت زندك ما دمت على
الحق فإن عدلت عنه فأنا بريء منك فقلت له ومن أنت يا سيدي فقال لي رسول الله صلى
الله عليه وسلم لم يمض إلا قليل حتى ولي الخلافة وحمدت سيرته قال أبو زيد وناهيك
بزند أوراه النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أن ولاية الإسلام لا تنعقد إلا
بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وقد اشتهرت المرائي بذلك
____________________
ويقرب من هذا ما ذكره صاحب ابتهاج القلوب في مناقب الشيخ المجذوب أن الشيخ الصالح
أبا عبد الله الملقب بكدار ابن الشيخ أبي زكرياء يحيى بن علال المالكي البوخصيبي
رأى النبي صلى الله عليه وسلم يوم فشكا إليه أولاد مطاع لما رآهم عليه من الفساد
في الأرض فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يأتيهم أحمد فكان كذلك أتاهم عقب ذلك
السلطان أبو العباس المنصور فأخذهم وفل جمعهم اه وأخبار المنصور من هذا النمط
كثيرة
وكان رحمه الله طويل القامة ممتلئ الخدين واسع المنكبين تعلوه صفرة رقيقة أسود
الشعر أدعج أكحل ضيق البلج براق الثنايا حسن الشكل جميل الوجه ظريف المنزع لطيف
الشمائل
وكانت بيعته بعد الفراغ من قتال النصارى بوادي المخازن يوم الاثنين منسلخ جمادى
الأولى سنة ست وثمانين وتسعمائة واجتمع عليها من حضر هناك من أهل الحل والعقد ثم
لما قفل المنصور من غزوته تلك ودخل حضرة فاس يوم الخميس عاشر جمادى الآخرة من
السنة المذكورة جددت له البيعة بها ووافق عليها من لم يحضرها يوم وادي المخازن ثم
بعث إلى مراكش وغيرها من حواضر المغرب وبواديه فأذعن الكل للطاعة وسارعوا إلى
الدخول فيما دخلت فيه الجماعة
قال الفشتالي لما كانت وقعة وادي المخازن ونصر الله دينه وكبت الكفر وأهله واستوسق
الأمر للمنصور كتب إلى صاحب القسطنطينية العظمى وهو يومئذ السلطان مراد بن سليم
العثماني وإلى سائر ممالك الإسلام المجاورين للمغرب يعرفهم بما أنعم الله به عليه
من إظهار الدين وهلاك عبدة الصليب واستئصال شأفتهم فوردت عليه الأرسال من سائر
الأقطار مهنئين له بما فتح الله على يده وكان أول من وفد عليه رسول صاحب الجزائر
ثم تلته أرسال طاغية البرتغال وهو الريكي القائم بأمرهم بعد هلاك سبستيان وليس
خاله وإنما خاله طاغية الإصبنيول فيليب الثاني الذي جمع المملكتين معا بعد هلاك
الريكي المذكور وبعد وقعة وادي المخازن بثلاث سنين فقدموا بهدية عظيمة وضعوها يوم
دخولهم إلى فاس على الكراريص والعجل فعجب الناس منها
____________________
عجبا بليغا وكان ذلك اليوم
يوما مشهودا وكان من جملة ما فيها ثلاثمائة ألف دكات من ريال الفضة وأما الطرف
النفيسة والأثاث الرفيع فشيء لا يحصى ثم وردت أرسال طاغية الإصبنيول صاحبة قشتالة
بهدية عظيمة منها اليواقيت الكبار التي انتزعها الطاغية من تاج آبائه وصنيديق
مملوء من الدر الفاخر وقضب الزمرد وغير ذلك وتكلم الناس فيما بين الهديتين أعني
هدية البرتغالي وهدية الإصبنيولي أيهما أعظم ولم يهتد أهل العقل والمعرفة إلى
مقدار التفاوت بينهما ثم قدمت أرسال السلطان مراد العثماني ومعهم هدية وهي سيف
محلى لم ير مثله مضاء وصفاء متن ثم قدمت أرسال طاغية أفرانسة ومعهم هدية عظيمة ولم
تزل الوفود مترادفة بباب المنصور والأرسال تصبح وتمسي على أعتاب تلك القصور إلى أن
لم يبق أحد ممن تتشوف النفوس إليه وحينئذ اطمأنت بالمنصور الدار وطاب المقام وتم
القرار
وفي جمادى الأولى سنة سبع وثمانين وتسعمائة مرض المنصور مرضا مخوفا وطال به حتى
كادت الأمور تختل ثم تداركه الله على يد الحكيم الماهر أبي عبد الله محمد الطبيب
ولما أبل من مرضه أحسن إلى الطبيب المذكور ونثر عليه خروجه من الخلع ما لا يحصى
وكان يوم خروجه يوما مشهودا وفي ذلك يقول الفقيه الأديب أبو عبد الله محمد بن علي
الهوزالي المعروف بالنابغة
( تردى أذى من سقمك البر والبحر ** وضجت لشكوى جسمك الشمس والبدر )
( وبات الهدى خوفا عليك مسهدا ** وأصبح مذعور الفؤاد الندى الغمر )
( فلما أعاد الله صحتك التي ** أفاق بها من غمه البدو والحضر )
( تراءت لنا الدنيا بزينة حسنها ** وعاد إلى إبانه ذلك البشر )
( وصار بك الإسلام في كل بلدة ** يهني ويدعي أن يطول لك العمر )
( وصحت لنا الآمال بعد اعتلالها ** وعادت إلى الإيناع أغصانها الخضر )
( ولا غرو إن صامت على سمط الندى ** إذا اغبر وجه الأرض واحتبس القطر )
( لبيت أبي العباس أنضت عجافها ** قديما فخافت أن يعاودها الضر )
( لئن صدئت بيض المعالي لقد غدت ** تسيء الكماة البيض واللدن السمر )
____________________
( بقيت لهذا الدين تحمي ذماره ** ويحميك رب العرش ما بقي الدهر ) عقد المنصور
ولاية العهد لابنه محمد الشيخ المدعو المأمون
قال الفشتالي لما أبل المنصور من مرضه المذكور وعاد إلى حاله من الصحة أجمع رأي
أعيان الدولة واتفقت كلمة كبرائها على أن يطلبوا منه تعيين من يلي الأمر بعده
ويكون ولي عهده وكان المنصور مهيبا لا يقدر أحد على مواجهته بمثل هذا فاتفقوا على
أن يكون البادئ لذلك القائد المؤمن بن الغازي العمري لما له من الإدلال على
المنصور بطول الخدمة وسالف التربية فقال له القائد المذكور يا مولانا الله تعالى
حفظ الإسلام بإبلالك من هذا المرض وعصم الدين بإبقائه عليك وقد بقي الناس في أيام
سقمك في حيرة عظيمة ودخلهم من الدهش ما لا يخفى عليك فلو عينت لنا من أبنائك
القساورة من تجتمع كلمة الإسلام عليه ويشار بالخلافة إ ليه لكان أولى وأليق بسياسة
الملك وإن ابنك الأبر أبا عبد الله محمد المأمون حقيق بذلك وجدير بسلوك تلك
المسالك لما فيه من خلال الخير وخصال السيادة زيادة على ما هو عليه من التيقظ في
أموره والحزم في شؤونه وقد ظهرت للناس محاسن سيرته واطلعوا على جميل سريرته
فاستحسن المنصور ذلك وأعجبه ما أشار عليه به فقال له سوف أستخير الله في ذلك فإن
يكن من عند الله يمضه قلت هذا الذي حكاه الفشتالي على لسان القائد مؤمن في حق
المأمون المذكور هو بخلاف الواقع كما ستقف عليه من أحوال المأمون بعد هذا إن شاء
الله ولكن المؤرخين والشعراء يمدحون ويقدحون بحسب أغراضهم لا بحسب الواقع غالبا لا
سيما إذا كان من يعنونه بذلك مخدوما لهم ومنعما عليهم فلا ينبغي لمن وقف على كلام
هؤلاء الصنف منهم أن يعتمد عليه إلا بعد التثبت والتبصر والله تعالى الهادي إلى
الصواب بمنه ثم لبث المنصور بعد هذه الإشارة أيام يستخير ربه في ذلك ويستشير من يعلم
أهليته للمشورة من أهل العلم والصلاح فلما انقضت أيام الاستخارة وتواطأت الآراء
على حسن تلك الإشارة جمع المنصور أعيان حاضرة مراكش وأعيان مدينة فاس
____________________
وغيرهم من أشياخ القبائل بوجوه
الناس من أهل الحواضر والبوادي وأوصى بالعهد لولده المذكور أبي عبد الله محمد
المأمون وذلك يوم الاثنين منسلخ شعبان سنة سبع وثمانين وتسعمائة
وكان المأمون إذ ذاك خليفة أبيه على فاس فلم يحضر هذه البيعة فبعث إليه المنصور
بعد ذلك ليقدم من فاس ويبايع بحضرته ولم يقنعه ما كان عقد له من البيعة وهو غائب
ولما بعث إليه خرج المنصور بعسكره إلى تانسيفت خارج مراكش ثاني عشر صفر سنة تسع
وثمانين وتسعمائة ولم يزل بعسكره هناك متلوما ومنتظرا لقدوم المأمون إلى أن قدم
غرة جمادى الثانية من السنة المذكورة فكانت ملاقاتهما من عجائب الزمان ولما اصطف
جيش المنصور وجيش المأمون ترجل المأمون عن فرسه وتقدم حافي القدم فعفر وجهه بين
يدي والده ثم قبل رجله والمنصور على فرسه واقفا بين الصفين فدعا له بخير وأظهر
الفرح بمقدمه وكان المأمون قد عبأ جيشه تعبية لم ير مثلها ورتبهم ترتيبا حسنا في
لباسهم وسائر أمورهم فسر المنصور بذلك وبعد أيام من بلوغه أمر به فأجلس في سرادقه
الأعظم الذي لم يكن للملوك قبله مثله كما سيأتي وأمر أهل الحل والعقد فازدحموا على
تقبيل يده واقتضيت منهم الأيمان بحضرته وقام الشعراء فأفصحوا عن وصف الحال وغمر
المنصور الناس بالنوال وكان ذلك اليوم يوما مشهودا وبعد أيام منه أمر المنصور
المأمون أن يرجع إلى حضرة فاس فرجع ودخل المنصور حضرته وتم غرضه الذي قصده ثورة
داود بن عبد المؤمن بن محمد الشيخ والسبب في ذلك
قال الفشتالي لما وقعت البيعة للمأمون وتكامل أمرها ثار الرئيس الأجل أبو سليمان
داود بن عبد المؤمن ابن السلطان محمد الشيخ وهو ابن أخي المنصور وفر إلى جبل
سكسيوة وشق العصا ودعا إلى نفسه فانثالت عليه أوشاب من البربر وغيرهم ونجم أمره
وأثرت في إذن الرعية جعجعته فبعث إليه المنصور قائده الزعيم أبا عبد الله محمد بن
إبراهيم بن بجة فناوشه
____________________
القتال بجبل سكسيوة فهزمه وفر
إلى جبل هوزالة فتحزبوا عليه وقويت بهم شوكته وأخذ يشن لهم الغارات على أهل درعة
إلى أن ضاقوا به ذرعا فشكوا أمره إلى المنصور فبعث إليه قائده الذي ذكر فلم يزل في
مقابلته ومقاتلته إلى أن شرده عن جبل هوزالة ففر داود منه إلى الصحراء واستقر به
الرحيل بها عند عرب الودايا من بني معقل فلم يزل عندهم إلى أن هلك سنة ثمان
وثمانين وتسعمائة وكفى المنصور أمره حدوث النفرة بين المنصور والسلطان مراد
العثماني وتلافي المنصور لذلك
قد علمت ما كان من التجاء عبد الملك المعتصم وأحمد المنصور إلى السلطان سليمان
العثماني وتطارحهما عليه حتى أمدهما بالجيش الذي كان سببا في تملكهما المغرب ولما
صفا الأمر لعبد الملك أهمل جانب العثماني ولم يكاتبه بشيء ولا عرج عن ساحته ثم لما
ملك المنصور وكتب إلى النواحي بخبر وقعة وادي المخازن كتب إلى السلطان مراد في
جملتهم فبعث السلطان المذكور إلى المنصور بالهدية التي تقدم ذكرها وكان المنصور
استقلها و أنف منها فتشاغل عن الوفد وتركهم مهملين بحضرته وتأخر عن جواب السلطان
مراد فكان ذلك سببا للنفرة وكان وزير البحر للعثماني واسمه الرئيس علي علوج يبغض
المنصور فلم يزل يسعى به عند سلطانه ويذكره ما كان من أبيه الشيخ من القدح في
ولاية الترك والطعن عليهم وقال له في ذلك قد ضاع صنيعك في هذا الغادر وصنيع والدك
من قبلك ولم يزل يفتل له في الذروة والغارب ويهون عليه أمر المغرب حتى أذن له في
توجيه العمارة إليه ومنازلته والأخذ بآفاقه إلى أن يستأصل أمر المنصور ويخمد جمرته
ويقال إن السلطان مرادا أمر وزيره المذكور أن يذهب بالعمارة إلى الجزائر فتكون
هنالك ثم يتقدم بالعساكر في البر إلى المغرب فأخذ الوزير في التأهب لذلك واتصل
الخبر بالمنصور على يد بعض قناصل
____________________
النجليز فارتحل إلى فاس من
حينه وشحن الثغور وملأ المراسي وكان على أهبة وكمال استعداد وبعث أرساله إلى
السلطان المذكور بهدية عظيمة تلافيا لما فرط واعتذارا عما سلف وكان من جملة أرساله
القائد الأنجد أبو العباس أحمد بن ودة العمراني والكاتب الشهير أبو العباس أحمد بن
يحيى الهوزالي فركبوا البحر من مرسى تطاوين قاصدين القسطنطينية العظمى وبينما هم
في أثناء الطريق على ثبج البحر لقيهم الوزير علوج في أسطوله قاصدا ديار المغرب
عازما على منازلة المنصور به فلما رآهم سقط في يده وأيقن بخيبة مسعاه فرام صدهما
عما قصدا إليه وأيأسهما من تدارك الأمر وقال لهما إن الخرق قد اتسع على الراقع ولو
كان لصاحبكم غرض في المسألة ما بقي أصحابنا بأبوابه كالكلاب والبادي أظلم فلم يزل
الوزير علوج بالقائد ابن ودة إلى أن صرفه عن رأيه ورده معه وترك الهوزالي يبلغ
الرسالة والهدية ظنا منه أن صغير السن لا يحسن مخاطبة الملوك العظام وابن ودة الذي
كان عنده مظنة لكمال التدبير ومثافنة الملوك رده معه فلما انتهى الهوزالي إلى
السلطان مراد ودخل عليه أظهر من نبله ولطف مخاطبته ما خلب به قلب السلطان المذكور
واستل السخيمة من صدره واعتذر له عن تأخر المنصور عن الجواب بما لا يعود بوهن على
مخدومه ولا يفيد غلبة خصمه فقبل السلطان مراد الاعتذار وتقبل الهدية بقبول حسن
وكتب مع الهوزالي إلى الوزير علوج بالرجوع عن منازلة المنصور فرجع بها الهوزالي
يطير سرورا ولم يغب عن علوج إلا نحو الشهر حتى قدم عليه بأمر الملك فقرع لها علوج
سن الندم وأسف على تفريطه في الهوزالي وتركه وبعث السلطان مراد رسله مع الهوزالي
إلى المنصور يلومه على التراخي في أمور الملوك فلما قدموا عليه أكرم وفادتهم وأحسن
نزلهم وردهم مكرمين إلى مرسلهم وبعث معهم الفقيه الإمام قاضي الجماعة بحضرة مراكش
أبا القاسم ابن علي الشاطبي والقائد الأنجد أبا زيد عبد الرحمن بن منصور الشيظمي
المريدي فلما وردوا على خاقان الترك فرح بهم كل الفرح ورتب الشاطبي كلاما بليغا
أعرب فيه عن فضل الدولتين وقرر فيه حق أهل البيت وأطرى
____________________
المنصور وحض فيه على اتحاد
كلمة الإسلام وقرأ ذلك على السلطان مراد فاهتز لسماعه ثم بعد أيام أحسن إليهم
وأجزل صلتهم وردهم مكرمين إلى مرسلهم
وقال صاحب خلاصة الأثر كان المنصور موادعا لسلاطين آل عثمان فيرسل إليهم بالهدايا
في كل سنة وكانوا هم يرسلون إليه بالمكاتيب والخلع السنية حتى إن السلطان مراد بن
سليم كتب إليه أثناء مكاتيبه ملك علي العهد أن لا أمد يدي إليك إلا للمصافحة وإن
خاطري لا ينوي لك إلا الخير والمسامحة وكانت رسله دائما تأتي إلى القسطنطينية من
جانب البحر ويمكثون زمانا طويلا ويتعهدون الوزراء ومن له قرب من الدولة من جملتهم
الرئيس الأديب محمد الأمين الدفتري فقد ذكر صاحب خلاصة الأثر أن هذا الرئيس كان
يجمع نفائس الكتب ويبعث بها إلى المنصور فبسبب ذلك كانت المراسلات بينهما غير
منقطعة وقد ذكر صاحب خلاصة الأثر في ترجمة الرئيس المذكور بعض تلك المراسلات
فانظره
ولما تكامل هذا الغرض وصح جسم الدولة من المرض ورجعت الأرسال في أحسن الأحوال عاد
المنصور إلى مراكش وفي يوم خروجه من فاس خرج أعيان أهلها ومشيخة العلم بها وقرئ
البخاري بين يديه سردا على عادة الخلفاء في ذلك وكان ذلك كله سنة تسع وثمانين
وتسعمائة إيقاع المنصور بعرب الخلط والسبب في ذلك
قد قدمنا في أخبار الدولة المرينية ما كان لهؤلاء الخلط من الاعتزاز والدالة عليها
بسبب ما كان لهم من الشوكة والمصاهرة مع ملوكها ولما أدبرت دولة بني مرين واستولى
على ملكهم أبو عبد الله محمد الشيخ المهدي انحاشوا إليه وأظهروا الخدمة والنصيحة
فلما جاء أبو حسون الوطاسي بجيش الترك حسبما شرحناه قبل أوقعوا الهزيمة على المهدي
لأبي
____________________
حسون كما مر فلما غلب المهدي
على المغرب وصفا له أمره خلعهم من الجندية ووظف عليهم الخراج ومحا اسمهم من ديوان
الخدمة ونقل أعيانهم إلى مراكش واتخذهم رهائن عنده ولم يزل الأمر على ذلك إلى أيام
المنصور فرأى جلادهم يوم وادي المخازن وحسن بلائهم فاختار النصف منهم ورده إلى
الجندية وأبقى نصفهم الآخر في غمار الرعية ونقلهم إلى آزغار فاستوطنوه حينا من
الدهر ثم عاثوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد ومدوا أيديهم إلى أولاد مطاع
فنهبوهم وضايقوا بني حسن فكثرت الشكاية بهم إلى المنصور فضرب عليهم سبعين ألفا
غرامة فلم يزدادوا إلا عتوا وشدة فأرسل إليهم ليبعثوا طائفة منهم إلى تيكورارين
فامتنعوا من ذلك فحينئذ بعث إليهم القائد موسى بن أبي جمدي العمري فانتزع منهم
الخيل وأبقاهم رجالة ثم حكم السيف في رقابهم واستأصل جمهورهم فمن ثم خضدت شوكتهم
ولانت للغامز قناتهم استيلاء المنصور على بلاد الصحراء تيكورارين وتوات وغيرهما
لما استقر المنصور بمراكش مرجعه من فاس وأمن من هجوم الترك على المغرب طمحت نفسه
إلى التغلب على بلاد تيكورارين وتوات من أرض الصحراء وما انضاف إلى ذلك من القرى
والمداشر إذ كان أهل تلك البلاد قد انكفت عنهم أيدي الملوك ولم تسسهم الدول منذ
أزمان ولا قادهم سلطان قاهر إلى ما يراد منهم فسنح للمنصور أن يجمع بهم الكلمة
ويردهم إلى أمر الله فبعث إليهم القائد أبا عبد الله محمد بن بركة والقائد أبا
العباس أحمد ابن الحداد العمري المعقلي في جيش كثيف فقطعوا إليهم القفر من مراكش
وانتهوا إليهم على سبعين مرحلة منها فتقدموا إليهم أولا بالدعاء للطاعة والأعذار
والأنذار فامتنعوا فنازلوهم وقاتلوهم وطالت الحرب بينهم ياما ثم كان الظهور لجيش
المنصور فأوقعوا بهم وأثخنوا فيهم إلى أن أذعنوا للطاعة وصاروا في حزب الجماعة و
أنهى خبر الفتح إلى المنصور
____________________
فسر بذلك سرورا عظيما وقال الشعراء
في ذلك وعم الفرح بلاد المغرب وكان ذلك سنة تسعين وتسعمائة وبعد هذا تشوفت نفس
المنصور إلى الاستيلاء على بلاد السودان فكان من أمرها ما نذكره إن شاء الله
اعلم أن هؤلاء السودان هم من نسل حام بن نوح عليه السلام باتفاق النسابين
والمؤرخين ويجاور البربر بأرض المغرب منهم أمم كثيرة من أعظمها أهل مملكة غانة وهم
المتصلون بالبحر المحيط من جهة الغرب على مصب النيل السوداني فيه وتتصل بهم من جهة
الشرق أمة أخرى تعرف بصوصو بصادين أو سينين مهملتين مضمومتين ثم بعدها أمة أخرى
يقال لها مالي ثم بعدها أمة أخرى تسمى كوكو ويقال كاغو ثم بعدها أمة أخرى تعرف
بتكرور ويقال لهم أيضا سغاي ثم بعدها أمة أخرى تدعى كانم وهم أهل مملكة برنو
المجاورة لإفريقية من جهة قبلتها ثم بعدها أرض النوبة المجاورة لبلاد مصر وهكذا
إلى آخر الشرق أمم لا يحصيهم إلا خالقهم
فأما أهل مملكة غانة فقد كانوا في صدر الإسلام من أعظم أمم السودان أسلموا قديما
وكان لهم ملك ضخم وكانت حاضرة ملكهم هي غانة وهي مدينتان على ضفتي النيل السوداني
من أعظم مدن العالم وأكثرها عمرانا ذكرها صاحب نزهة المشتاق وصاحب المسالك
والممالك وغيرهما
وقال الفقيه الأديب أبو العباس أحمد بن عبد المؤمن القيسي الشريشي في شرح المقامات
الحريرية ما نصه غانة بلد من بلاد السودان وإليها ينتهي التجار يعني من المغرب
والمدخل إليها من سجلماسة ومن سجلماسة إليها ذهابا مسيرة ثلاثة أشهر ومن غانة إلى
سجلماسة إيابا مسيرة شهر ونصف ودون ذلك وسبب ذلك أن الرفاق تتجهز إليها من سجلماسة
بالأمتعة والأثقال فتباع في غانة بالتبر فمن سافر إليها بثلاثين حملا يرجع منها
بثلاثة أحمال أو بحملين واحد لركوبه وثان للماء بسبب المفازة التي في طريقها
____________________
حدثني غير واحد من تجارها أنهم
يقطعون المفازة في ستة عشر يوما لا يرون فيها ماء إلا على ظهور الإبل فأثمان أحمال
الثلاثين جملا يجتمع فيها من التبر ما يجعل في مزود واحد فيطوون المراحل للخفة قال
وغانة بلد مملكة السودان وانتشر الإسلام في أهلها وبها مدارس للعلم وبها من تجار
المغرب كثير يدخلون للتجارة فيصيبون الخصب والأمن وكثرة المتاجر فيشترون بها خدما
للتسري ويقيمون بها عند أميرها في غاية الكرامة والإماء فيها قد جعل الله فيهن من
الخصال الكريمة في خلقهن وخلقهن فوق المراد من ملاسة الأبدان وتفتق السواد وحسن
العينين واعتدال الأنوف وبياض الأسنان وطيب الروائح اه
وقال ابن خلدون كان في غانة فيما يقال ملك ودولة لقوم من العلويين يعرفون ببني
صالح
وقال صاحب نزهة المشتاق أنه صالح بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب
رضي الله عنهم قال ولا يعرف صالح هذا في ولد عبد الله بن حسن وقد ذهبت هذه الدولة
لهذا العهد اه
ثم أن أهل غانة ضعف ملكهم وتلاشى أمرهم في المائة الخامسة واستفحل أمر الملثمين
المجاورين لهم من جهة الشمال مما يلي البربر وزحف إليهم الأمير أبو بكر بن عمر
اللمتوني فاتح المغرب ومستخلف يوسف بن تاشفين عليه حسبما مر ذلك في أخبارهم فلما
رجع الأمير أبو بكر إلى الصحراء غزا بلاد السودان وفتح منها مسيرة ثلاثة أشهر
واقتضى منهم الأتاوات وحمل الكثير منهم ممن لم يكن أسلم قبل ذلك على الإسلام فدا
نوابه ثم اضمحل ملك أهل غانة بالكلية وتغلب عليهم أهل مملكة صوصو المجاورون لهم
واستعبدوهم وصيروهم في جملتهم ثم إن أهل مالي كثروا أمم السودان في نواحيهم تلك
واستطالوا على الأمم المجاورين لهم فغلبوا على صوصو وملكوا ما كان بأيديهم وبأيدي
أهل غانة ثم افتتحوا بلاد كوكو وأضافوها إلى ملكهم وصارت دولة مالي متصلة فيما بين
غانة في الغرب وأرض التكرور في الشرق واعتز سلطانهم وهابتهم أمم السودان ومن
____________________
هذه الدولة كان السلطان منسا
موسى بن أبي بكر وأخوه منسا سليمان اللذان كان بينهما وبين السلطان أبي الحسن
المريني من المهاداة والمواصلة ما تقدم ذكره وكان مع السلطان منسا موسى المذكور
الأديب الشاعر أبو إسحاق الطوبجن الأندلسي الذي بنى له القبة المربعة العجيبة الصنعة
البديعة النقش والتخريم التي أجازه عليها باثني عشر ألف مثقال من التبر وغير ذلك
مما مر ذكره في أخبار الدولة المرينية وكان منها أيضا السلطان ماري زاطة الذي هادى
السلطان أبا سالم المريني وأغرب عليه بالزرافة حسبما تقدم قالوا وكان هذا السلطان
مسرفا مبذرا بحيث أفسد ملكهم وأتلف ذخيرتهم وكاد أمر سلطانهم يختل حتى لقد انتهى
الحال به في سرفه وتبذيره أن باع حجر الذهب الذي كان من الذخائر الموروثة عندهم
وهو حجر يزن عشرين قنطارا من الذهب العين منقولا من المعدن كذلك من غير علاج ولا
تصفية بالنار فكانوا يرونه من أنفس الذخائر وأكبر الغرائب لندور مثله في المعدن
فعرضه منسا زاطة على تجار مصر المترددين إلى بلده فاشتروه منه بأبخس ثمن ثم أصابته
علة النوم وهو مرض يطرق أهل ذلك الإقليم كثيرا وخصوصا الرؤساء منهم بحيث يعتاده
غشي النوم عامة زمانه حتى لا يكاد يفيق ولا يستيقظ إلا في القليل من الأوقات ويضر
بصاحبه غاية ويتصل سقمه إلى أن يهلك ودامت هذه العلة بهذا السلطان سنتين ثم هلك
منها سنة خمس وسبعين وسبعمائة ثم توارث بنوه الملك من بعده فكانوا في تراجع
وانتقاص إلى أن انقرض أمرهم شأن غيرهم من الدول وظهرت دولة آل سكية من أهل مملكة
كوكو ويقال كاغو
قال الإمام التكروري في كتابه نصيحة أهل السودان إن آل سكية أصلهم من صنهاجة
وملكوا كثيرا من بلاد السودان وأول ملوكهم الحاج محمد سكية بضم السين وسكون الكاف
بعدها ياء مفتوحة ثم هاء تأنيث وكان الحاج محمد المذكور رحل في أواخر المائة
التاسعة إلى مصر والحجاز
____________________
بقصد حج بيت الله الحرام
وزيارة قبر نبيه صلى الله عليه وسلم فلقي بمصر الخليفة العباسي إذ كان رسم الخلافة
العباسة لا زال قائما بها يومئذ حتى محاه السلطان سليم العثماني أيام تغلبه على
مصر سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة فلما اجتمع الحاج محمد سكية بالخليفة المذكور طلب
منه أن يأذن له في إمارة بلاد السودان وأن يكون خليفته هناك ففوض إليه الخليفة
العباسي النظر في أمر ذلك الإقليم وجعله نائبه على من وراءه من المسلمين فرجع
الحاج محمد سكية إلى بلاده وقد بنى أمر رياسته على قواعد الشريعة وجرى على منهاج
أهل السنة ولقي بمصر أيضا الإمام شيخ الإسلام حافظ الحفاظ جلال الدين السيوطي فأخذ
عنه عقائده وتعلم منه الحلال والحرام وسمع عليه جملا من آداب الشريعة وأحكامها
وانتفع بوصاياه ومواعظه فرجع إلى السودان ونصر السنة وأحيى طريق العدل وجرى على
منهاج الخليفة العباسي في مقعده وملبسه وسائر أموره ومال إلى السيرة العربية وعدل
عن سيرة العجم فصلحت الأحوال وبرئ جسد الرشاد من الداء العضال وكان الحاج محمد
المذكور سهل الحجاب رقيق القلب خافض الجناح شديد التعظيم لأئمة الدين محبا للعلماء
مكرما لهم يفسح لهم في المجلس ويوسع عليهم في العطاء ولم يكن في أيامه كلها بؤس
ولا بأس بل كانت رعيته في خفض عيش وأمن سرب وفرض عليهم شيئا خفيفا من المغارم وظفه
عليهم وزعم أنه ما فعل ذلك حتى استشار الإمام السيوطي شيخه ولم يزل على سيرته
المذكورة إلى أن اخترمته المنية فقام بالأمر بعده ولده داود بن محمد فأحسن ما شاء
وتبع طريقة أبيه إلى أن لحق بربه ومضى لسبيله فقام بالأمر بعده ولده إسحاق بن داود
فعدل عن بعض سيرة أبيه ولم يكن في أمره بالذميم واستمر حاله على الانتظام إلى أن
غزته جيوش المنصور فنقضت ملكه ونثرت سلكه وانقرض عليه أمر آل سكية بعد أن كان تحت
طاعتهم مسيرة ستة أشهر من بلاد السودان وسنذكر كيفية ذلك
وأما مملكة التكرور وكانم فقال ابن خلكان ما نصه كانم بكسر النون جنس من السودان
وهم بنو عم تكرور وكل واحدة من هاتين القبيلتين لا تنسب إلى أب ولا أم وإنما كانم
اسم بلدة بنواحي غانة فسمي هذا الجنس
____________________
باسم هذه البلدة وتكرور اسم
للأرض التي هم فيها وسمي جنسهم باسم أرضهم اه
قلت وكان من كانم الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الكانمي الأسود الشاعر وهو
الذي دخل على يعقوب المنصور الموحدي فأنشده
( أزال حجابه عني وعيني ** تراه من المهابة في حجاب )
( وقربني تفضله ولكن ** بعدت مهابة عند اقترابي )
وأهل كانم هم أهل مملكة برنو المجاورة لإفريقية من جهة قبلتها كما قلنا وكانت لهم
مع الدولة الحفصية في المائة السابعة وما بعدها مهاداة ومواصلة كما كان لأهل مالي
مع بني مرين
قلت ومن أهل برنو الشيخ العارف بالله تعالى أبو محمد عبد الله البرنوي شيخ الولي
العارف بالله تعالى أبي فارس عبد العزيز الدباغ الموضوع في مناقبه كتاب الذهب
الإبريز
واتصل أمر أهل برنو على الانتظام إلى أن كان من أمرهم مع المنصور ما نذكره وكل
هؤلاء الأمم كانوا على دين الإسلام قديما كما رأيت وكان فيهم العلماء والصلحاء
والأدباء والشعراء كما علمته آنفا وتعلمه فيما بعد إن شاء الله تعالى
قال الشيخ أبو العباس أحمد بابا السوداني في تقييده المسمى بمعراج الصعود أن أهل
السودان أسلموا طوعا بلا استيلاء أحد عليهم كأهل كنوا وكنتي وبرنو وسغاي ما سمعنا
قط أن أحدا استولى عليهم قبل إسلامهم ومنهم من هم قدماء الإسلام كأهل مالي أسلموا
في القرن الخامس أو قربه وكأهل برنو وسغاي اه وقد علمت أن أهل غانة تقدم إسلامهم
على هذا التاريخ والله تعالى أعلم ولنرجع إلى ما كنا بصدده من أخبار المنصور فنقول
____________________
وصول هدية صاحب برنو إلى
المنصور بحضرة فاس وما نشأ عن ذلك من بيعته له والتزام طاعته
كان المنصور رحمه الله مسعودا محظوظا كما أشرنا إليه سابقا وكان من سعادته ما هيأ
الله له من مهاداة صاحب مملكة برنو ومخاطبته له حتى كان ذلك سببا في مبايعته له
والدخول في طاعته وكان من خبر ذلك ما حكاه في مناهل الصفا قال وفي سنة تسعين
وتسعمائة ورد على المنصور الخبر وهو بمدينة فاس بقدوم رسول صاحب مملكة برنو من
ملوك السودان وجلب في هديته ما جرت عادتهم أن يجلبوه من فتيان العبيد والإماء
وكساء السودان وطرفه وكان من ذلك عدد كثير يناهز المئين فوافى المنصور بعسكره على
رأس الماء من ساحة فاس وكان يوم ملاقاته يوما مشهودا حسنا وأبهة وجلالة جلس نصره
الله تعالى بالقبتين التوأمين المضروبتين أمام السياج المحيط بقبابه وهو آفراك
واستوقف الموالي والمماليك سماطين من التوأمين إلى القبة العربية ثم منها إلى فسطاط
الجلوس المعلوم بالديوان ثم منه إلى باب المعسكر القبلي وأتى بالرسول يخترق
السماطين حتى نزل بالديوان وكان الملأ من أكابر الدولة وصدور المملكة جلوسا وكرسي
المملكة وسرير الخلافة منصوبا به والمهابة قد أخرست الألسن وأخشعت القلوب والأبصار
فجلس الرسول هنالك مليا ثم توجه به على سبيل الترقي إلى القبة العربية فجلس بها ثم
جاء الإذن الكريم بإيصاله إلى مقر أمير المؤمنين بالتوأمتين فوقف بين يديه وتشرف
بالنظر إلى طلعته السعيدة فأدى الرسالة وقضى فرض التهنئة وسنة الهدية وأعرب عن
مقاصد مرسله واعترف للمملكة العظيمة بحقها وأظهر من الخضوع والتملق والاستكانة
والخدمة والطواعية ما أوصاه به مرسله ثم توجه به إلى معسكر ولي العهد وتاج الإسلام
وكافل الأمة بعد والده المولى الأمير أبي عبد الله محمد الشيخ المأمون بالله وكان
لصق معسكر أمير المؤمنين برأس الماء فأشرف الرسول على دنيا أخرى وأبهة مدهشة ومحلة
هائلة فوقف موقف الحيرة واستدرج إلى أن وصل لقباب ولي العهد ومضاربه وكان قد قعد
له
____________________
بفسطاط جلوسه أفخم قعود ولما
استؤذن عليه ووقف بين يديه هنأ وحيى وفدى وانصرف عنه إلى محل نزوله بالقصبة من فاس
وأدر عليه من الإنعام والإكرام ما لم يكن له في حساب
وكان من أغراض الرسالة التي أنفذه بها سلطانه طلب المدد من أمير المؤمنين بالعساكر
والأجناد وعدة البنادق ومدافع النار لمجاهدة من يليهم بقاصية السودان من الكفار
وكان هذا الرسول قد وفد قبل على سلطان الترك بالإصطنبول السلطان مراد العثماني
يطلب منه المدد لجهاز كفار السودان فأخفق سعيه ولم يحصل على طائل فوجهه في هذه
النوبة إلى ملك المغرب يطلب منه المدد ولما قرئ كتابه على أمير المؤمنين اتفق أن
وقع بينه وبين كلام الرسول اختلاف بين وتباين واضح فكان الذي دل عليه الكتاب خلاف
ما دل عليه كلام الرسول جر إليهم ذلك توغلهم في الجهل والغباوة وعدم من يحسن
الإعراب عن مقاصدهم من فرسان الإنشاء والكتابة لطموس معالم العلوم عندهم على
الجملة وقارن ذلك ما كان من توجيه أمير المؤمنين عساكره لتدويخ قطري توات
وتيكورارين وأمل أن يجعلهما ركابا لبلاد السودان والاستيلاء على ممالكها التي وجه
إليها عساكره بعد ذلك فبلغت مملكة مالي عظيم السودان إلى أن وردت من نيلها على
مائه مرحلة من ثغور المغرب فاغتنم المنصور لذلك اختلاف الرسول والرسالة وبنى عليه
ما اعتد به على صاحب برنو ورجع الرسول إلى مرسله بعد مكافأته وتوجيه هدية من عتاق
الخيل وأشرافها بكسي من ملابس الخلافة وأسباب أخر ولما بلغ الرسول وألقى المعذرة
إلى سلطانه استأنف الهدية وأعرب إذ ذاك عن مراده ورد الرسول ثانية إلى باب أمير
المؤمنين فوافاه بحضرته ودار خلافته من مراكش فأزال اللبس وبين الغرض وصرح
بالمقصود فلما تحقق المنصور بقصده صدع له بالحق والدعاء إلى التي هي أقوم وطالبهم
بالبيعة له والدخول في دعوته النبوية التي أوجب الله عليهم وعلى جميع العباد في
أقطار البلاد الانقياد إليها وقرر لهم بلسان السنة الناطق والكتاب المنزل على جده
الصادق أن الجهاد الذي ينتحلونه ويظهرون الميل إليه والرغبة فيه لا يتم لهم
____________________
فرضه ولا يكتب لهم علمه ما لم
يستندوا في أمرهم إلى إذن من إمام الجماعة الذي اختص الله أمير المؤمنين بوصفه إذ
هو الكافل لهذه الأمة ووارث تراث النبوة وقيضه الله لحماية بيضة الإسلام وخصه
بالشرف القرشي الذي هو شرط في الخلافة بإجماع من علماء الإسلام وأئمة السنة
الأعلام وألزمهم القيام في أقطارهم بدعوته ومجاهدة أعدائهم الكفار بكلمته وعلق لهم
أيده الله الإمداد على البيعة والوفاء بهذا الشرط فالتزمه بالرسول وزعم أيضا عن
سلطانه بالقبول والإجابة وطلب من السلطان نسخة يتوجه بها من صورة البيعة إذ ليس
ببلدهم من يحسن الإنشاء ويوفي الغرض لئلا يخلو بشيء من الشروط التي شارطتهم عليها
أمير المؤمنين فأنشأها كاتب الدولة أبو فارس عبد العزيز الفشتالي ونصها الحمد الله
الذي أعلى لكلمة الحق منارا يسامي في مطالعها النجوم وأزاح بها عن شمس الهداية
المنيرة غياهب الغباوة المدلهمة وسحائب الغواية المركوم وحي على الفلاح بها داعي
التوفيق الذي نشر للنجاح كتابه الموقوت واستنجز للسعادة أجلها المعلوم وشرف هذا
الموجود والعالم الموجود بالخلافة النبوية والإمامة الحسنية العلوية التي صرفت
الوجوه إلى قبلتها المشروعة واستبان الحق بتبلج الصباح في مبايعتها والانقياد
لدعوتها المسموعة ونسخ بدولتها الغراء دول الحيف التي هي بسيف النبوة المصلت
مقطوعه وبلسان السنة مدفوعه وقوض بها مباني الادعاء التي هي على غير أساس الشرع
الصحيح مدفوعه وفرق بكلمتها المجموعة على التوحيد فرق التثليث التي هي على مشاقة
الله ورسوله تابعة ومتبوعة وخلع بظهورها على أعطاف الحنيفية السمحة رداء العز
الفضفاض واستل بتأييدها للدين المحمدي سيف الأنفة والامتعاض وأشار للأعادي من
بأسها المروع بلسان الحية النضناض وفجر للمؤمنين ينبوع رحمتها الجاري على حصا
عدلها الرضراض ومهد بسيوفها المنتضاة الآفاق والأقطار تمهيدا أزال عن حكمه
الاعتراض وجلا بأنوارها المتألقة سدف الجهالة التي ادلهم جوها وغيم وأسعد الوجود
بيمنها الذي لبث في أكناف مجدها وخيم وقضى لهاب بتراحم الأرض ومن عليها إن شاء
الله إلى عيسى ابن مريم و صلى الله عليه وسلم
____________________
الذي تعاضدت البراهين القاطعة
على صدق رسالته البارعة ونهج الدين القويم طريقة الحق المثلى ومادته الشارعة وسوغ
لمن آمن به مناهل الهدى النميرة الزلال وموارده العذبة ومشارعه نبي الرحمة وشفيع
الأمة وعلى آله وأصحابه الكرام أئمة الهدى ومصابيح الظلام والدعاء لمولانا الإمام
العلوي الهمام أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين نجل سيد المرسلين وخاتم النبيين
وسليل الوصي والسبطين وبعد فإنه لما أذن الله في ليل الجهالة أن ينجاب وفي شمس
الحق الوهاجة أن يرتفع عنها الحجاب وفي العز الخلق الجلباب أن يعود إلى الشباب وفي
النجاح والاستقامة أن يفتح لهما الباب وفي الإمارة أن تستند إلى السنة والكتاب
وتتعلق من الشرع بأسباب تدارك الله سبحانه الوجود وأعز العالم الموجود واستطارت
الأنوار المضيئة للأغوار والنجود بطلوع شمس الخلافة النبوية والإمامة الهاشمية
العلوية ففاضت على أديم البسيطة أنوارها وارتفع إلى حيث السها والفرقدين منارها
وتبلج بالأصباح نهارها ولاحت في سماء المجد بدورها وأقمارها وكادت تنهب نجوم
السماء أتباعها وأنصارها وانتشرت في الآفاق والأقطار على البعد والقرب آثارها وهزت
عطف الزمان انتشاء مناقبها وأخبارها وفاض ببركتها على أكناف المعمور يمها الزاخر
وتيارها خلافة ينتمي إلى النبوة عنصرها وتستنبط من رسالة الوحي أسطرها ويناط
بعروتها الوثقى خنصرها وإمامة علي وليها والله نصيرها والسبط بدرها الذي حياه
منبرها وسريرها والحمد لله الذي اصطفى من هذه الدوحة النبوية الشماء والشجرة الطيبة
الهاشمية التي أصلها ثابت وفرعها في السماء إماما ألقى الله له في القلوب حبا
جميلا ومولى جعله الله على مرضاته سبحانه علامة ودليلا وخليفة استرعاه فكان بحسن
الرعي لخلقه وعباده كفيلا وانتضى من بأسه وبسالته لحماية حمى الشريعة حساما صقيلا
مولانا أمير المؤمنين وخليفة الله في الأرضين وسليل خاتم النبيين ووارث الأنبياء
والمرسلين المفترضة طاعته على الخلق أجمعين والممنون بإمامته المقدسة على العالمين
بحر الندى والباس وعصمة الله للناس أمير المؤمنين المنصور بالله مولانا أبا العباس
صلى الله عليه وسلم صلوات الله عليه وعلى آله الخلفاء الراشدين والأئمة
____________________
الطيبين الطاهرين وطيب بأنفاس
المغفرة لحودهم أجمعين إمام تهتز لذكره أعطاف المنابر وتتقلد من شريف دعوته أبهى
من نفيس الجواهر وتستضيء البلاد بإكليل شرفه الزاهر وتسكن العباد تحت ظل رحمته
الوارف الوافر أبقى الله أيامه الغر بقاء يصحب النصر دوامه وخلد له ولأعقابه هذا
الأمر الكريم إلى يوم القيامة ولما طلعت أيده الله على هذه الأصقاع الزنجية طلائع
إمامته النبوية وخلافته ولاحت في سمائها شهب مناقبه المنيفة الدالة على فخامة شرفه
وأنافته وتليت لمجده الآيات البينات التي تشهد له بتراث الرسالة وتقضي له على
الإسلام وعلى الأنام بحكم الولاء والكفالة وأوضح الله سبحانه للناس من اعتقاد وجوب
طاعته والاقتداء بإمامته والانقياد لدعوته وتقليد بيعته ما جاء به كتابه الحكيم
ووردت به سنة نبيه الكريم كما قال صلى الله عليه وسلم ( لا تزال الخلافة في قريش
ما بقي منهم اثنان ) وكما ورد في صحيح الخبر ( إن الخلافة في قريش والقضاء في
الأنصار وفي الحبشة الأذان ) ويدل على هذا تعاضد الخبر والعيان فلا ناكر أن ليس في
المعمور على هذا الشرط غيره أيده الله من ثان فنهض بدليل الشرع أنه إمام الجماعة
حقا المستوفي شروطها والوارث للخلافة النبوية والحريص على بيضة الإسلام أن يحوطها
وأن القائم بهذا الأمر على الإطلاق غيره دعي ومحاوله دون إذنه المشروع بدعي فتعين
لذلك أن الرجوع إلى الحق فريضة واستبان بما تقرر وعلم أن إمارة لا تلاقي في الشروع
محلها المشروع منبوذة مرفوضة وعروتها لذلك مفصومة ومنقوضة فانتدب لهذه الآثار صحيح
الأخبار وصرف إلى رضى الله العناية ووقف من الشرائع المشروعة حيث مركز الراية
ومنتهى الغية الرئيس أبو العلاء إدريس أكرمه الله انتداب من وقفت به مطية التوفيق
على حضرة الإخلاص والتصديق وأخذت بزمامه السعادة إلى حيث الفوز برضا الله ورضا
رسوله حقيق والتأييد صاحب ورفيق وروض الآمال أنيق وراح الراحة والاطمئنان عتيق إلى
تقلد إمام بيعة الجماعة أمير المؤمنين المنصور بالله زاده الله تقديسا وتشريفا
التي تؤسس إن شاء الله على تقوى من الله ورضوان وتشهد عقدها الكريم ملائكة الرحمن
وآثر أسعده الله أن يؤدي
____________________
فرضها المعدود من فروض الأعيان
وحكمها الذي توجه به خطاب الشرع العام إلى القاصي والدان وينشر سنتها المشروعة في
صقعه وما يليه من الأصقاع والبقاع بالسودان تقلدا يستضيء إن شاء الله بأنواره
ويستشرف به للعز المكين على مناره ويخمد به للجهل جذوة ناره وتنتظم به في اتباع
الحق زمر أنصاره ويجتلي به صورة إنسانه ويستوجب من الله عوارف صنعه وإحسانه ويرهف
به للعدو على العزمات حد سيفه وسنانه ويقرع به لرضا الله باب القبول ويتضاعف له
ببركته العمل المقبول ويستنشق بمشهد عقده الكريم نواسم النبوة ويعود له به الزمان
للشباب والفتوة ويرفع به منار الإمارة على قواعد الشرع الوثيقة ويعدل به في كل
الأحوال عن المجاز إلى الحقيقة وتتسنى له به وهي المقصد الأسنى والخاتمة الحسنى
الأسوة الحسنة بإمامي بني العباس السفاح والمنصور ويحيى سنتهما التي نقلها ثقات
الأعلام والصدور في مبايعتهما الإمام الخليفة المهدي الأكبر سليل سيد المرسلين وجد
مولانا أمير المؤمنين الذي رأى إمام دار الهجرة أنه بتراث الخلافة النبوية أولى
وأحق وفي منصب الإمامة على شرطها أعرق وبسريرها ومنبرها أليق فتأكد للمنتدب أكرمه
الله بهذه الآثار الشريفة والمناقب المنيفة العزم والقصد وأنجز له فيما أراده صادق
الوعد وساعد نيته الصالحة فيه السعد فبايعه أعلى الله يده على الأمن والأمانة
والعفاف والديانة والعدل الذي يشيد للمجد أركانه مبايعة شايعه على عقدها الكريم
أكرمه الله أتباعه وجموعه وأشياعه بحكم الوفاق والاتفاق والمواثيق الشديدة الوثاق
وبجميع الأيمان الصادقة الأيمان أعطوا بها صفقة أيديهم ورفع بها العقيرة مناديهم
عارفين أن يد الله فيها فوق أيديهم وأمضوها على السمع والطاعة والانتظام في سلك
الجماعة إمضاء يدينون به في السر والجهر واليسر والعسر والرخاء والشدة والأزمان
المشتدة والتزموا شروطها طوعا واستوعبوها جنسا ونوعا بنيات منهم خالصة صادقة وعدة
من الله لهم بالخير سابقة وسعادة بالحسنى لاحقة أبرموا عقدها وأحكموا وعدها وعهدها
على حكم الكتاب والسنة والجماعة والأخذ بسنتها أعقابا من أعقاب وأحقابا أثر أحقاب
إلى يوم القيامة
____________________
واقتراب الساعة لا يلحق عقدها
الكريم فسخ ولا يعقبه بحول الله نسخ ولا يتطرق إليه نقض ولا نكث ولا يشوبه بشوائب
الشبهات بحث وأجمع على هذا أسعده الله بالمواثيق المستفيضة والأيمان اللازمة
المغلظة هو وأتباعه إجماعا شرعيا وحتموه على أنفسهم حتما مقضيا واعتقده اعتقادا
أبديا وعرضوا على التزامه بمشهد عقده المبارك أفرادا وأزواجا وحدانا وأفواجا
وأشهدوا على الوفاء به بأيمانهم الصادقة البرور ومواثيقهم المثلجة للصدور قائلين
بالله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس العليم بالخفيات والخبير بالآجال والوفيات
وبجميع الرسل الكرام والأنبياء وملائكة الرحمن في الأرض والسماء وعلى أنهم إن
حادوا عن هذا السبيل وانقادوا لدعاء داعي التغيير والتبديل أو انحرفوا عن هذا
المنهاج وسنته فهم براء من حول الله وقوته ومن دينه وعصمته ومستوجبون لعذابه وغضبه
وسخطه ونقمته وبعداء من رحمته ومن شفاعة نبيه الكريم يوم القيامة لأمته وأنهم
خالعون لربقة الإسلام وخارجون عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أعلنوا بهذا
إعلانا تعضده النجوى وأدوه بشروطه الجارية على مذاهب الفتوى وأحكامه اللازمة لكلمة
التقوى استرضاء لله وللخلافة النبوية والإمامة العلوية ورياضة للنفوس على بيعتها
المباركة الميمونة النقيبة واستيفاء لشروطها وأقسامها الواجبة والمستحبة والمندوبة
مستسلمين إلى الله بالقلوب الخاشعة ومتضرعين إلى بابه الكريم بالأدعية النافعة في
أن يعرفهم خير هذا العقد الكريم والعهد الصميم بدأ وختاما وأن يمنحهم بركته التي
تصحبهم حالا ودواما لا رب غيره ولا خير إلا خيره أشهد على نفسه بما فيه وعلى رعيته
الرئيس أبو العلاء إدريس أسعده الله وأكرمه وبتاريخ المحرم الحرام من عام تسعين
وتسعمائة من الهجرة النبوية انتهى
ولما كتبت هذه البيعة دفعت للرسول وأكرم وكافأه أمير المؤمنين على هدية سلطانه
وتوجه إلى بلاده بجواب مرسله ولم يلبث أن رجعه سلطانه ثالثة ووجه معه هدية ورسالة
وخاض القفر إلى دار الخلافة فوصل إلى بلاد تيكورارين وهناك اعترضته منيته فاعتل
وهلك فأشخص أولو الأمر
____________________
الذين بتيكورارين الهدية مع
رفقائه القادمين معه من عند سلطانه فوصلوا بها إلى حضرة أمير المؤمنين بمراكش
وقدموا إليه رسالتهم وهديتهم فتقبلها بقبول حسن وتم السرور وعظم الحبور واستقامت
للمنصور الأمور بعث المنصور ورسوله بالدعوة إلى آل سكية وكيفية ذلك
لما أدى الوفد الواردون على المنصور من السلطان أبي العلاء صاحب مملكة برنو ما
قدموا لأجله ردهم المنصور إلى صاحبهم مكرمين وانتخب رسولا عارفا مجربا ممن لهم
بصيرة بأحوال السودان فبعثه معهم عينا يأتيه بأخبار البلاد حتى كأنه يشاهدها وبعث
معه رسالة إلى السلطان إسحاق بن داود من آل سكية صاحب مملكة كاغو من أرض السودان
يأمره فيها أن يرتب على معدن الملح الذي بتغازي بين المغرب والسودان ومنه يحمل
الملح إلى أقطار السودان وظيفا بأن يجعل كل من يحمل منه شيئا من الواردين عليه
مثقالا من الذهب العين لكل حمل تستعين بذلك الخراج عساكر المسلمين على جهاد الكفار
لأن ذلك بحر لا ساحل له
وكان المنصور لم يكاتبه في ذلك حتى أستفتى علماء إيالته وأشياخ الفتيا بها فأفتوه
بما هو المنصوص للعلماء رضوان الله عليهم من أن النظر في المعادن مطلقا إنما هو
للإمام لا لغيره وأنه ليس لأحد أن يتصرف في ذلك إلا عن إذن السلطان أو نائبه وبعث
إليه المنصور بتلك الفتاوى مع الرسالة الموجه بها مع الرسول وكانت من إنشاء
العلامة الأديب مفتي الحضرة المراكشية المولى أبي مالك عبد الواحد بن أحمد الشريف
السجلماسي لأن كاتب الإنشاء أبا فارس عبد العزيز بن محمد الفشتالي كان مريضا يومئذ
ولما فرغ الشريف المذكور من إنشائها بقي عليه الصدر فلم يدر كيف يقول في مخاطبة
إسحاق سكية ولا كيف يمدحه وهل يتوغل في المدح أو يتوسط فكتب أبو مالك حين تحير في
ذلك إلى المنصور بما نصه أيدكم الله ونصر
____________________
أعلامكم إن مخاطبة هذا الرجل
الذي هو في مرتبة مماليك الحضرة المولوية أمر تلعثم فيه لساني ووقف عن خوض لجته
بناني لأن النأي عن هذه المحجة قد مد بيني وبينها حجابا وأغلق في وجهي بابا فلا
آمن من أن أقتحم الوقوع في تفريط أو إفراط وخير الأمور لو علمته الأوساط لكن لا
سبيل إلى معرفته إلا بعد علم الطرفين والعبد محجوب عن ذلك دون مين فتركت أيدكم
الله الصدر لمن هو به مني أقعد وتحاميت عقده لمن هو له أعقد أبي فارس عبد العزيز
الذي فاضت عليه أنواركم وأضاءت له سبل هذا المخبر أقماركم وإلا قرعت هواتف لسان
الحال سمعي بقول القائل
( يا باري القوس بريا ليس يحسنه ** لا تظلم القوس أعط القوس باريها )
ولما بلغت رسالة المنصور إلى السلطان إسحاق سكية واطلع عليها شق عليه ذلك وماطل في
الجواب وحيث أبطأ الرسول فطن المنصور لما انطوى عليه سكية من عدم إجابته لما طلب
من الوظيف على الملاحة فاشتد غضبه وعزم على توجيه العساكر إلى السودان فهذا هو
الحامل له على قصد تلك البلاد وتدويخها ولما فتح تيكورارين وتوات قوي عزمه على ذلك
وطمحت نفسه للاستيلاء على ما هنالك على ما نذكره إن شاء الله مفاوضات المنصور
الملأ من أصحابه في غزو آل سكية وما دار بينهم في ذلك
قال الفشتالي رحمه الله لما رجعت أرسال المنصور إليه من عند إسحاق سكية وأعلموه
بمقالته وامتناعه واحتجاجه بأنه أمير ناحية والمنصور أمير ناحية وأنه لا تجب طاعته
عليه شاور المنصور أصحابه وجمع أعيان دولته والتقى أهل الرأي والمشورة فاجتمعوا
وكان يوم اجتماعهم يوما مشهودا فقال لهم المنصور إني عزمت على منازلة أمير السودان
صاحب كاغو
____________________
وبعث الجيوش إليهم لتجتمع كلمة
المسلمين وتتحد الرعية ولأن بلاد السودان وافرة الخراج كثيرة المال يتقوى بها جيش
الإسلام ويشتد ساعد كتيبته مع أن صاحب أمرهم والمتولي لسلطنتهم اليوم معزول عن
الإمارة شرعا إذ ليس بقرشي ولا اجتمعت شروط السلطنة فيه العظمى فلم نثل المنصور ما
في كنانته وأبدى ما في خبيئته وعرض ما في عيبته سكت الحاضرون ولم يراجعوا بشيء
فقال لهم أسكتم استصوابا لرأيي أو ظهر لكم خلاف ما ظهر لي فأجاب كلهم بلسان واحد
ورأي متفق إن ذلك رأي عن الصواب منحرف وأنه بمهامه عن الآراء السديدة ولا يخطر
ببال السوقة فكيف بالملوك وذلك لأن بيننا وبين السودان مهامه فيحا تقصر فيها الخطا
وتحار فيها لقطا وليس فيها ماء ولا كلأ فلا يتأتى السفر فيها ولا اعتساف شيء من
طريقها مع كونها مخوفة مملوءة الجوانب ذعرا وأيضا فإن دولة المرابطين على ضخامتها
ودولة الموحدين على عظمها ودولة المرينيين على قوتها لم تطمح همة واحد منهم لشيء
من ذلك ولا تعرضوا لما هنالك وما ذاك إلا لما رأوا من صعوبة مسالكها وتعذر مداركها
وحسبنا أن نقتفي أثر تلك الدول فإن المتأخر لا يكون أعقل من الأول فلما قضى أولئك
الأقوام كلامهم وأبدوا له رأيهم وملامهم قال لهم المنصور إن كان هذا غاية ما
استضعفتم به أمري وفيلتم به رأيي فليس فيه حجة ولا ما يخدش فيما عندي أما قولكم
بيننا وبينها صحار مخوفة ومفاوز مهلكة لجدوبتها وعطشها فنحن نرى التجار على ضعفهم
وقلة استعدادهم يشقون تلك الطرق في كل وقت ويخوضون في أحشائها مشاة وركبانا وجماعة
ووحدانا ولم تنقطع قط ركاب التجار عنها وأنا أقوى أهبة منهم وللجيش همة ليست
للقوافل وأما قولكم إن من كان قبلنا من الدول الطنانة لم تطمح أبصارهم لذلك
فاعلموا أن المرابطين صرفوا عنايتهم لغزو الأندلس ومقابلة الإفرنج ومن بذلك الساحل
من الأروام والموحدون اقتفوا سبيلهم في ذلك وزادوا بحرب ابن غانية والمرينيون كانت
غالب وقائعهم مع بني عبد الواد بتلمسان ونحن اليوم قد انسد عنا باب الأندلس
باستيلاء العدو الكافر عليها
____________________
جملة وانقطعت عنا حروب تلمسان
باستيلاء الترك عليها ثم إن أهل تلك الدول لو أرادوا ما أردنا لصعب عليهم لأن
جيوشهم كانت فرسانا رامحة ورماة ناشبة ولم يكن عندهم هذا البارود وعساكر النار
المرهبة الصواعق وأهل السودان ليس عندهم الآن إلا الرماح والسيوف وهي لا تقاوم هذه
المدافع المستحدثة فمقاتلتهم سهلة وحربهم أيسر من كل شيء وأيضا فإن بلاد السودان
أنفع من إفريقية فالاشتغال بها أولى من منازلة الترك لأنه تعب كثير في نفع قليل
فهذا جواب ما عرض لكم ولا يحملنكم ترك الملوك الأول ذلك على استبعاد القريب
واستصعاب السهل فإنه كم ترك الأول للآخر وقد يفتح على المتأخر بما لم يفتح به على المتقدم
فلما فرغ المنصور من خطابه وأبدى ما في وطابه استحسن الحاضرون جوابه واستملحوا
إشارته واستجادوا رأيه وقالوا له قد طبقت المفضل وألهمت الصواب ولم تبق لأحد ما
يقول وصدق من قال عقول الملوك ملوك العقول فانفصل الجمع على البعث إلى السودان
ومناهضة أهله ومتابعة المنصور في رأيه عليه قلت وفي كلام المنصور أمران يحتاجان
إلى مزيد بيان الأول ما قاله من أن الملثمين لم تكن لهم سلطنة على السودان يعني
بهم الذين أقاموا بأرض المغرب ودبروا أمره مثل يوسف بن تاشفين وبنيه فلا يرد عليه
أن الأمير أبا بكر بن عمر غزا السودان وفتح منه مسيرة ثلاثة أشهر لأن ذلك كان بعد
رجوعه إلى الصحراء واستقراره بها وإعراضه عن ملك المغرب بالكلية كما مر الثاني ما
قاله من أن البارود لم يكن في تلك الدول الفارطة يعني به لم يكن موجودا فيها بكثرة
بحيث يستغني به الجيش عن غيره ساعة القتال فلا يرد عليه أن ظهوره كان في أوائل
المائة السابعة لأول دولة بني مرين كما مر إذ ظهوره في تلك المدة كلا ظهور والله
تعالى أعلم بحقائق الأمور
____________________
استجازة المنصور لعلماء مصر
رضي الله عنهم وتلمذه لهم
قالوا ومن اعتناء المنصور رحمه الله أنه بعث إلى علماء مصر يستجيزهم رغبة في اتصال
حبل السند واقتفاء لاحب ذلك الطريق الأسد وممن أجازه الإمام العارف بالله أبو عبد
الله محمد ابن الشيخ أبي الحسن البكري رضي الله عنه ومن بعض فصول إجازته له قوله
يمدح كتاب المنصور إليه ويثني عليه بالفصاحة والبلاغة ما نصه ولقد وصل إلى المثل
العديم المثال المزري نظامه بعقود اللآل فإذا به السحر إلا أنه الحلال ولو ادعى
أحد أن من معجزات أحمد صلى الله عليه وسلم أن يمد الله كراما كاتبين في زمان نجله
أمير المؤمنين أحمد بكتاب كريم على أسلوب قويم يرسله إلى محب قديم من النبعة
والصميم لم تكذب دعواه فما من خارق في الأمة إلا وهو من معجزاته صلى الله عليه
وسلم دال على علاه وأما ما شرفني به من طلب الإجازة فالبيت والحديث له ولكن رب أب
أرسل إلى ابنه على يد عبده عطاء فقبله وإليه بأمره حمله وحيث وقع الأمر فأمر
مولانا حتم وطاعته غنم فمولانا مجاز من هذا العهد من جميع ما يجوز لهذا العبد
بجميع ما يجوز له وعند روايته بشرطه المعتبر عند أهل الأمر وكذلك مجاز أهل العصر
إجازة عام بعام ليكون أبناء الوقت جميعا على مائدة فضل مولانا وتحت ظلال ذلك
الإنعام فإنه هو السبب في تحصيل ذلك المرام وكتب تحريرا في رابع عشرين ربيع الثاني
سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة محمد بن أبي الحسن الصديقي سبط آل الحسن اه
وممن استجازه المنصور أيضا من علماء مصر الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن يحيى
المصري الشهير ببدر الدين القرافي صاحب ذيل الديباج فأجازه إجازة عامة بسط فيها
القول ثم ختمها بقوله
( أجزت لمن تفضل واستجازا ** وبادر لاقتنا خير وحازا )
( وأبرز في سلوك العلم حالا ** به من فضل مولانا يجازى )
( إمام كامل غوث البرايا ** أمير المؤمنين حوى مجازا )
____________________
( وذلك بعد تشريفي بأمر ** وقصد للإجازة فاستجازا )
( فبادرت امتثالا قدر وسعي ** ومقتفيا مناهج من أجازا )
( وقد أبديت حقا لا محالا ** بما صار الإمام به مجازا )
( بفاتحة وسنة خير هدى ** وسلسلة لمن حاز امتيازا )
( بدار الهجرة العليا إمام ** بما أبداه من فضل مجازا )
( وأرجو منه يهدي لي دعاء ** لما أرجوه من خير مجازا )
( بخاتمة تبلغني مراما ** بجنات أراها لي مفازا )
( وأشياخي يبلغهم رضاء ** ويواصلهم إلى خير يجازا ) تجديد المنصور ولاية العهد
لابنه المأمون وما وقع في ذلك
قالوا وفي شوال سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة جدد المنصور البيعة لولده محمد الشيخ
الملقب بالمأمون وأخذها له على إخوته خصوصا لأنهم كانوا في البيعة الأولى قبل
البلوغ فأراد أن يستوثق له منهم بعد البلوغ حسما لمادة النزاع بينهم فارتحل
المنصور من مراكش إلى تامسنا وبعث الباشا عزوز بن سعيد الوزكيتي ليأتيه بولي عهده
المذكور من فاس فتوافى القصدان بتامسنا وباشر المنصور أخذ البيعة له بنفسه وحضر
الأعيان وأهل الحل والعقد وأحضر المصحف الكريم الذي هو مصحف عقبة بن نافع الفهري
رضي الله عنه وهو من ذخائر الخلفاء وأحضر الصحيحان للشيخين وقرئ ظهير البيعة فتولى
قراءته الكاتب أبو فارس عبد العزيز الفشتالي وبجنبه القاضي أبو القاسم الشاطبي
يفسر ما أشكل من لفظ الظهير
ولما أخذ البيعة أخر أولاده إلى غد يومها فكتبوا خطوطهم عقبها بالموافقة على ذلك
والالتزام له ووقع في رسالة السلطان زيدان لأبي زكرياء ابن عبد المنعم الإمام بذكر
هذه البيعة فقال إني حضرت بيعة محمد الشيخ صاحب المغرب سامحه الله وحضر أولاد
السلطان فاستحلفهم له إلا أنا فإنه رضي الله عنه قال فلان لا يحلف لا يحتاج إليه
فيما نأمره به ونفعله وعظم
____________________
ذلك على إخوتي وظهرت في وجوههم
لأجله الكراهية اه
ولما فرغ المنصور من تجديد البيعة رأى أن يرشح كلا من أولاده للإمارة ويقسم بينهم
البلاد حتى لا تبقى في نفوسهم إحن ولا تنطوي قلوبهم على ضغائن فعقد لأبي فارس شقيق
المأمون على السوس وسائر عمائره وعقد لأبي الحسن على مكناسة وما والاها وعقد
لزيدان على تادلا ثم عكس ذلك لأمر اقتضاه الحال فنقل زيدان إلى مكناسة ونقل أبا
الحسن إلى تادلا ولم يزالوا على ذلك إلى أن كان من أمرهم ما نذكره في محله إن شاء
الله ثورة الحاج قرقوش ببلاد غمارة ومقتله
قالوا وفي سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة ثار رجل يقال له الحاج قرقوش بجبال غمارة
وبلاد الهبط وتسمى بأمير المؤمنين وكان في ابتداء أمره حائكا فتلبس بالزهد والصلاح
واعتقدته العامة ثم استحال أمره إلى ما ذكرنا فأخذ وقتل وحمل رأسه إلى مراكش
وانقطعت مادة فساده فلم تبكه أرض ولا سماء بناء المسجد الجامع بباب دكالة من حضرة
مراكش حرسها الله
كانت الحرة مسعودة أم المنصور وهي بنت الشيخ الأجل أبي العباس أحمد بن عبد الله
الوزكيتي الورززاتي من الصالحات حريصة على اقتناء المفاخر راغبة في فعل الخير قال
في المنتقى وهي التي أنشأت المسجد الجامع بحومة باب دكالة داخل مدينة مراكش ووقفت
عليه أوقافا عظيمة وكان ذلك سنة خمس وتسعين وتسعمائة قال وهي التي بنت جسر وادي أم
الربيع وغير ذلك اه
____________________
قلت المرقوم على رخامة قبرها أنها بنت جسرين بلفظ التثنية وتزعم العامة أنها بنت
المسجد المذكور كفارة لما انتهكته من حرمة رمضان وذلك أنها دخلت بستانا من بساتين
قصورها وهي في حال الوحم فرأت به خوخا ورمانا فتناولتهما وأكلت منهما في نهار
رمضان ثم ندمت على ما صدر منها وفعلت أفعالا كثيرة من باب البر رجاء أن يتجاوز
الله عنها ومنها الجامع المذكور ولا زال النساء والصبيان يسجعون بقضيتها إلى الآن
فيقولون عودة أكلت رمضان بالخوخ والرمان في أسجاع غير هذه ولفظ عودة مخفف من
مسعودة على طريقة البربر في مثل هذا والله تعالى أعلم بعث المنصور ببيلة الرخام
إلى جامع القرويين من فاس حرسها الله
قال ابن القاضي في المنتقى المقصور إن المنصور رحمه الله بعث الخصة العظيمة سنة ست
وتسعين وتسعمائة إلى جامع القرويين من فاس مع كرسي من المرمر توضع عليه وزنهما معا
مائة قنطار قال وهي الخصة التي تحت منار الجامع المذكور وقال ابن القاضي المذكور
فيها نقش برقبتها
( إمام دار الهدى المنصور شيدني ** بحر المكارم من أبناء عدنان )
( حزت المفاخر بالمنصور أجمعها ** ومن علاه سنام المجد أرساني )
( من جاء يشكو الظما يوما وقبلني ** أغناه ما قد همى من صوب أجفاني )
( لا تنكرن وجود الدمع من فرح ** فالعين تدمع من أفراط سلوان )
( واشرب هنيئا من السلسال لا حرج ** معين دمع جرى من فيض خلجاني )
( فخر السلاطين من أبناء فاطمة ** أشاع صيتي إلى أطراف عمان )
( وقد جرت مقلتي تحكي سحائبها ** كف الخليفة من أبناء زيدان )
( لا زال للدين والدنيا يسوسهما ** ما هيجت عاشقا ورق بأفنان )
( إنشائي في زمن التاريخ وافقه ** للدين والأجر بحر الجود سواني )
____________________
وفي هذه السنة أعني سنة ست وتسعين وتسعمائة في ذي الحجة منها سافر المنصور إلى فاس
وبينما هو في الطريق وافته البشرى بالفتك بنصارى سبتة وأن زعيم الفئة الجهادية وهو
المقدم أبو العباس أحمد النقسيس التطواني كمن لهم مع جماعة من الفرسان في موضع
فخرج النصارى بأولادهم وحشمهم فحال النقسيس بينهم وبين سبتة وأوقع بهم وكاد يفتحها
وسر المنصور بهذا الخبر وأنشده في ذلك الكاتب أبو عبد الله محمد بن علي الفشتالي
بيتين زجر له منهما الفال باستيلائه عليها وهما
( هذه سبتة تزف عروسا ** نحو ناديك في شباب قشيب )
( وهي بشرى وأنت كفؤ اللواتي ** كافأت بعلها بفتح قريب )
وفي سنة سبع وتسعين وتسعمائة في اليوم الثاني من ذي القعدة منها أخلى النصارى
مدينة آصيلا حملهم الخوف من كتيبة المسلمين المرابطة هنالك على الفرار بأنفسهم
فتركوها يبابا وذهبوا وفي ذلك يقول أبو العباس ابن القاضي
( يا أيها المنصور أبشر بالعلا ** فالله أبلغ في العدا المأمولا )
( أنضاكم سيفا لحتف عداته ** وبكم غدا سيف الردى مفلولا )
( وهزمتم الشرك المتين بعزمكم ** من غير سيف لم يرى مسلولا )
( وأذيتم كيد الخبيث بهمة ** وفتحتم دار العدا آصيلا )
( أكرم به من مالك بل صالح ** أضحى لبارود العداة خليلا )
( لا زال في أنف الهدى شمما وفي ** عين العلاء يشاكل التكحيلا )
وأشار بقوله لبارود العداة خليلا إلى ما صنعه النصارى دمرهم الله حين أرادوا
الخروج من آصيلا فإنهم حفروا تحت قصبتها وملؤوا الحفرة بالبارود وأوقدوا فتيلا
تبلغه ناره عند دخول المسلمين فيهلكون ففر نصراني منهم وأخبر المسلمين بذلك فنجاهم
الله تعالى من مكيدة الوبال وكفى الله المؤمنين القتال وقال في ذلك أيضا الكاتب
البارع أبو فارس عبد العزيز الفشتالي شعرا ذكره صاحب نشر المثاني فانظره
وكان في زمن المنصور رجال من بيوتات المغرب معروفون بالشجاعة
____________________
والنجدة في قتال العدو ومنهم
أولاد النقسيس التطوانيون ومنهم أولاد أبي الليف من أهل بلاد الهبط قال في المرآة
لما كان المقدم المجاهد الشهيد أبو عبد الله محمد بن الحسن أبو الليف من الشهامة
والصرامة على ما كان عليه ومن شدة نكايته في العدو الكافر الطنجي وبعد أثره فيهم
جرت أمور بينه وبين صاحب عمل القصر فسعى به إلى المنصور فأمر برحيله إلى فاس هو وعشيرته
مغربين عن وطنهم كأنهم في سجن فأقاموا بفاس مدة لا أدري هل هي سنة أ م أكثر إلا
أني كنت أراه عند الشيخ سنة ثمان وتسعين وتسعمائة وأنا إذ ذاك صغير ويعني بالشيخ
والده أبا المحاسن رحمه الله قال فضاقت عليهم أنفسهم من الاغتراب فقال يوما المقدم
عمر لأخيه كبيره المقدم محمد لو زرنا الشيخ اليوم وتبركنا به لعل الله يفرج عنا
فإن الناس كثيرا ما يقصدونه في المهمات فقال له لا أتحرك فقد غلب اليأس فسار
المقدم عمر وحده فلما وصل إلى الشيخ قال له قنطتم قال نعم يا سيدي فقال له الشيخ
غدا يخلي سبيلكم إن شاء الله فرجع إلى أخيه وأخبره فلما كان من الغد بعث إليهم
القاضي أبو محمد عبد الواحد الحميدي فلما أتوه قال لهم أبشروا بالسراح والرجوع إلى
الوطن إن شاء الله فإنه قد قرئ الآن بين يدي السلطان بعض الغزوات التي ذكرها ابن
النحاس وغناء أبطال المسلمين فيها فقال السلطان أو غيره ترى هل بقي في هذا الزمان
من يماثلهم فقالوا قد بقي من يفعل فعلهم وها هم أولاد أبي الليف المغربون هنا
يفعلون مثل ذلك فقال السلطان سرحوهم إلى بلادهم ليحموا ثغورهم ويجاهدوا في سبيل
الله فرجعوا إلى بلادهم وفعلوا الأفاعيل في عدو الدين إلى أن استشهد المقدم محمد
في ربيع الثاني سنة اثنتين وألف اه
____________________
غزو السودان وفتح مدينة كاغو
ومقتل سلطانها إسحاق سكية رحمه الله
قد تقدم لنا ما كان من مفاوضة المنصور لحاشيته في غزو السودان واستقرار رأيهم على
ذلك فبقي المنصور يقدم رجلا ويؤخر أخرى إلى أن كانت سنة سبع وتسعين وتسعمائة فقوي
عزمه واشتغل بتجهيز آلة الحرب وما يحتاج إليه الجيش من آلة السفر ومهماته وأمر
القواد أن يقوموا حصص القبائل وما يحتاجون إليه من إبل وخيل وبغال وإن من أتى بجمل
ضعيف يعاقب واشتغل هو بتقويم آلة الحرب من المدافع والعجلات التي تحملها والبارود
والرصاص والكور وتقويم الخشب واللوح والحديد للغلائط والسفن والفلك والمجاذيف
والقلوع والبراميل والروايا لحمل الماء وألف النجارون ذلك في البر إلى أن تألف ثم
خلعوه وشدوه أحمالا واستمر الحال إلى أن استوفى المنصور أمر الغزو في ثلاث سنين ثم
أمر بإخراج المضارب والمباني لوادي تانسيفت فخرجت الأحمال والأثقال من مراكش في
اليوم السادس عشر من ذي الحجة سنة ثمان وتسعين وتسعمائة ونزلت العساكر وضربت
أبنيتها خيلا ورجلا وجملتها عشرون ألفا ومعهم من المعلمين البحرية والطبجية ألفان
فالمجموع اثنان وعشرون ألفا وعقد المنصور على ذلك الجيش لمولاه الباشا جؤذر وشد
أزره بجماعة من أعيان الدولة فاختار منهم من يعلم نجدته ويعرف كفايته وتخير من
الإبل كل بازل وكوماء ومن الخيل كل عتيق وجرداء ثم نهضوا في زي عظيم وهيئة لم ير
مثلها وذلك في محرم فاتح سنة تسع وتسعين وتسعمائة وكتب المنصور إلى قاضي تنبكتو
الفقيه العلامة أبي حفص عمر ابن الشيخ محمود ابن عمراء قيت الصنهاجي يأمره بحض
الناس على الطاعة ولزوم الجماعة
ولما نهضوا من تانسيفت جعلوا طريقهم على ثنية الكلاوي ثم على درعة ودخلوا القفر
والفيافي فقطعوها في مائة مرحلة ولم يضع لهم عقال بعير ولا نقص منهم أحد فنزلوا على
مدينة تنبكتو ثغر السودان فأراحوا بها أياما
____________________
ثم صاروا قاصدين دار إسحاق
سكية ولما سمع بقدومهم احتشد أمم السودان وقبائلها وقبائل الملثمين المهادنين لهم
وخرج من مدينة كاغو يجر الشوك والمدر يقال إنه جمع مائة ألف مقاتل وأربعة آلاف
مقاتل
وقال الفشتالي ولم يقنع بالجيوش التي جمع حتى أضاف إليها أشياخ السحرة وأهل النفث
في العقد وأرباب العزائم والسيمياء ظنا منه أن ذلك يغنيه شيئا وهيهات ويرحم الله
أبا تمام إذ قال فيما يقرب من هذا الحال
( السيف أصدق إنباء من الكتب ** في حده الحد بين الجد واللعب )
( بيض الصفائح لا سود الصحائف في ** متونهن جلاء الشك والريب )
( والعلم في شهب الأرماح لامعة ** بين الخميسين لا في السبعة الشهب )
( أين الرواية بل أين النجوم وما ** صاغوه من زخرف فيها ومن كذب )
( تخرصا وأحاديثا ملفقة ** ليست بنبع إذا عدت ولا غرب )
ولما تقارب الجمعان عبأ الباشا جؤذر عساكره وتقدم للحرب فدارت بهم عساكر السودان
من كل جهة وعقلوا أرجلهم مع الإبل وصبروا مع الضحى إلى العصر وكانت سلاحهم إنما هي
الحرشان الصغار والرماح والسيوف ولم تكن عندهم هذه المدافع فلم تغن حرشانهم
ورماحهم مع البارود شيئا ولما كان آخر النهار هبت ريح النصر وانهزم السودان فولوا
الأدبار وحق عليهم البوار وحكمت في رقابهم سيوف جؤذر وجنده حتى كان السودان ينادون
نحن مسلمون نحن إخوانكم في الدين والسيوف عاملة فيهم وجند جؤذر يقتلون ويسلبون في
كل وجه وفر إسحاق في شرذمة من قومه ولم يدخل قلعة ملكه وتقدم جؤذر فدخلها واحتوى
على ما فيها من الأموال والمتاع وكان ذلك منتصف جمادى الأولى من سنة تسع وتسعين
وتسعمائة ويقال إن جؤذرا لم يدخل مدينة كاغو وإنما تحصن بها إسحاق فحاصره جؤذر
فيها وكتب إلى المنصور بخبر الفتح وبعث إليه بهدية فيها عشرة آلاف مثقال ذهبا
ومائتان من خيار الرقيق وغير ذلك وامتدت العساكر المنصورة في بلاد آل سكية تعيث
وتفسد وتسبي وتغنم إلى أن راسل إسحاق الباشا جؤذرا في تقرير الصلح على مال معين
يدفعه الآن وضريبة يؤديها كل سنة
____________________
فأجابه إلى ذلك على مشورة
المنصور وإمضائه إياه ثم كتب إلى المنصور بذلك وكانت العساكر قد أصابتها الحمى
ووخامة تلك الأرض فاتفق رأي الأمراء على الرجوع والإقامة بتنبكتو إلى أن يأتي جواب
المنصور فرجعوا وأخذ جؤذر في إنشاء الغلائط والسفن وتركيبها ولما أكملها دفعها في
النيل ولما بلغ المنصور خبر الصلح قام وقعد وقوم عسكرا خفيفا وبعث به مع مملوكه
الآخر محمود باشا وهو أخو جؤذر وقلده أمر العساكر كلها وعزل جؤذرا عنها وأمر
محمودا أن يبقيه معه وكتب إلى أمراء العسكر يعاتبهم يوبخهم على ما فعلوه مع إسحاق
من الصلح ويؤكد عليهم في الرجوع إلى بلاده واتباعه حيثما توجه ولو عبر النيل إلى
العدوة الأخرى وخرج محمود باشا فيمن عين له من العسكر في زمان الحر في وقت لا يقدر
على الحركة فيه إلا القطا الكدري وقطع القفر في خمسين مرحلة أمر لم يسمع بمثله
ونزل بالعساكر على ظاهر تنبكتو على رأس سنة الألف فأراح بها ثلاثا ثم شحن الغلائط
والسفن والفلك بالرؤساء والملاحين ووجوه الجند فساروا في النيل وسار السواد الأعظم
في البر إلى أن نزلوا على مدينة كاغو قاعدة ملك إسحاق سكية وكان إسحاق لما رجعت
عنه العساكر إلى تنبكتو احتشد أمم السودان المجاورين له وتذامروا وأصفقوا معه على
الموت فلما بلغه رجوع العساكر إلى كاغو قصدهم في جموعه ولما التقى الجمعان لم يكن
إلا مقدار فواق ناقة حتى انهزم السودان من سماع رعد المدافع والمهاريس وارتفاع
القنابل في الجو وهدير الطبول وتبعتهم العساكر يقتلون ويأسرون إلى أن غشيهم ظلم
الليل ورجعوا بالغنائم والسبي فاستراحوا ثلاثا ثم أمر محمود أخاه جؤذرا أن يقيم
بمدينة كاغو عامرا لها ويترك معه عددا من العسكر يكون ردءا لهم وسار هو في اتباع
إسحاق إلى أن لحقه ببعض الجهات فأوقع به وقعة شنعاء وفر في فل من قومه فعبر النيل
إلى العدوة الأخرى وتبعه محمود فعبر النيل بعساكره في السفن وسار خلفه إلى أن لحقه
فأوقع به وقعة ثالثة احتوى فيها على ما معه من المال والحريم ودخل إسحاق القفر
فهلك فيه ثم كانت لمحمود وقعة أخرى مع أخيه الذي كان ينازعه في
____________________
الملك فإنه قام بعد مهلك أخيه
وجمع الجموع وزحف إلى محمود باشا فنهض إليه محمود فهزمه وقتله فيمن معه من جنده
وأتباعه وتمهدت له البلاد واستولى عليها استيلاء كليا وكتب بخبر الفتح إلى المنصور
ولما بلغه هذا الفتح وصورته كان عنده ذلك اليوم عيدا من الأعياد أخرج فيه الصدقات
وأعتق الرقاب وأقام مهرجانا عظيما بظاهر الحضرة خرج له عامة الناس للفرجة والنزهة
وزينت الأسواق وأخرجت المدافع بالنفط وتسابقت الخيول وأطعم المنصور الناس عدة أيام
ونظم الشعراء قصائدهم ورفعوا أمداحهم وأجازهم بما تحدث الناس به دهرا وكتب بخبر
الفتح وصورته نسخ وجهت إلى جميع الآفاق وكان مما قيل في ذلك من الشعر ما أنشده
الكاتب أبو فارس عبد العزيز الفشتالي فقال
( جيش الصباح على الدجا متدفق ** فبياض ذا السواد ذلك يمحق )
( وكأنه رايات عسكرك التي ** طلعت على السودان بيضا تخفق )
( لاحت وأفقهم ليال كله ** كعمود صبح في الدجا يتألق )
( نشرت لتطوي منه ليلا دامسا ** أضحى بسيفك ذي الفقار يمزق )
( أرسلتهن جوائحا وجوارحا ** في كل مخلبها غراب ينعق )
( وسرت فكان دليلهن إليهم ** مشحوذ عزمك والسنان الأزرق )
( لهي الليالي قد جلى أحلاكها ** نور النبوة من جبينك يشرق )
( صعقت بهن رعود نارك صعقة ** رجت لصيحتها العراق وجلق )
( سحقا لإسحاق الشقي وحزبه ** فلقد غدا بالسيف وهو مطوق )
( رام النجاة وكيف ذاك وخلفه ** من جيش جؤذرك الغضنفر فيلق )
( جيش أواخره ببابك سيله ** عرم وأوله بكاغو محدق )
( لم يشعروا إلا وأسوار الردى ** ضربت عليهم من قناك وخندق )
( كتب الإله على عداتك أنهم ** قنص لسهمك غربوا أو شرقوا )
( ضلت ملوك ساجلوك على العلا ** سفها وشأوك في العلا لا يلحق )
( أن يشبهوك ولا شبيه يرى لكم ** في الخلق أين من اللجين الزئبق )
( بشر ملوك الأرض أنك فاتح ** بالمشرفي على الولا ما غلقوا )
____________________
( وبقاصل لك ذي الفقار مفرق ** ما جمعوه وجامع ما فرقوا )
( دامت طيور السعد وهي غوارد ** بالمشتهى لك والمسرة تنطق )
( ما دام أصل علاك في صحف الثنا ** أصل الفخار وكل غيرك ملحق )
والمشتهى والمسرة بستانان للمنصور ورى بهما هذا الشاعر وسيأتي الكلام عليهما وكان
محمود باشا لما استوسق له الأمر هنالك بعث بنصف جيشه إلى المنصور مع هدية عظيم
فيها من الذخائر ما لا يحصى من ذلك ألف ومائتان من متخير الرقيق الجواري والغلمان
وأربعون حملا من التبر وأربعة سروج ذهبا خالصا وأحمال كثيرة من اليانبور وقطوط
الغالية وغير ذلك ولما وافت المنصور سر بذلك سرورا عظيما وأمر بعمل المفرحات في
بلاد المغرب وبتزيين الأسواق غدوة وعشية ثلاثة أيام ووفدت عليه الوفود من كل ناحية
مهنئين له بما منحه الله من الظفر والنصر وانتظمت الممالك السودانية في سلك طاعته
ما بين البحر المحيط من أقصى المغرب إلى بلاد برنو المتاخمة لبلاد النوبة المتاخمة
لصعيد مصر قال الفشتالي فكلمة المنصور نافدة فيما بين بلاد النوبة إلى البحر
المحيط من ناحية المغرب وهذا ملك ضخم وسلطان فخم لم يكن لمن قبله والله يؤتي ملكه
من يشاء ولما فتح الله عليه ممالك البلاد السودانية حمل إليه من التبر ما يعيى
الحاسبين ويحير الناظرين حتى كان المنصور لا يعطي في الرواتب إلا النضار الصافي
والدينار الوافي وكان ببابه كل يوم أربع عشرة مائة مطرقة لضرب الدينار الوافي دون
ما هو معد لغير ذلك من صوغ الأقراط والحلى وشبه ذلك ولأجل هذا لقب بالذهبي لفيضان
الذهب في أيامه والأمور كلها بيد الله
____________________
وفاة أم المنصور الحرة مسعودة
الوزكيتية رحمها الله
كانت الحرة مسعودة هذه من الخيرات الصالحات وتقدم بعض مآثرها من بناء المسجد
الجامع بباب دكالة وغيره وكانت وفاتها سحر يوم الثلاثاء السابع والعشرين من المحرم
فاتح سنة ألف ومن المستفيض أنها ريئت بعد موتها فسئلت ما فعل الله بها فقالت غفر
لي بسبب أني كنت ذات يوم جالسة لقضاء الحاجة فسمعت المؤذن شرع في الآذان فرددت على
ثيابي إعظاما لذكر الله تعالى حتى فرغ المؤذن من آذانه فشكر الله لي ذلك فغفر لي
وفي سنة إحدى وألف أتي بالفيلة من بلاد السودان إلى المنصور وكان يوم دخولها
لمراكش يوما مشهودا برز لرؤيتها كل من بالمدينة من رجال ونساء وشيوخ وصبيان ثم
حملت إلى فاس في رمضان سنة سبع وألف قال في نشر المثاني كان دخول الفيل إلى فاس
يوم الاثنين سادس عشر رمضان سنة سبع وألف وبعث المنصور مع الفيل إلى ولده المأمون
بهدية سنية فيها تحف وأموال عريضة وخرج أهل فاس في ذلك اليوم للقاء الفيل بنحو
مائة ألف نفس
قال بعضهم وبسبب دخول هذه الفيلة إلى المغرب ظهرت هذه العشبة الخبيثة المسماة
بتابغ لأن أهل السودان الذين قدموا بالفيلة يسوسونها قدموا بها معهم يشربونها
ويزعمون أن فيها منافع فشاعت منهم في بلاد درعة ومراكش وغيرهما من بقاع المغرب
وتعارضت فيها فتاوى العلماء رضوان الله عليهم فمن قائل بالتحريم ومن قائل بالتحليل
ومتوقف والعلم فيها عند الله سبحانه قال اليفرني
قلت من تأمل أدنى تأمل في قواعد الشريعة وآدابها علم يقينا أن تناول هذه العشبة
حرام لأنها من الخبائث التي حرمها الله تعالى على هذه الأمة المطهرة وبذلك وصفها
في الكتب السالفة إذ قال تعالى { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه
مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم
الطيبات ويحرم عليهم الخبائث }
____________________
وبسط هذا المقام إن تعلم أن الله تعالى اختار هذه الأمة من بين سائر الأمم قال
تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس } واختار لها من الطاعات وأنواع العبادات ما هو
أفضلها قال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام
دينا } وأفضل تلك العبادات كلها الصلاة التي هي من الدين بمنزلة الرأس من سائر
الجسد ثم إذا أمعنت النظر رأيت الشارع صلى الله عليه وسلم قد بالغ في الاحتياط
لهذه العبادة الشريفة والاستعداد لها باستعمال كل طيب أمكن واجتناب كل خبيث أمكن
فشرع أولا الطهارة الكبرى الشاملة لسائر البدن وحظر من مقاربة الصلاة وما هو في
معناها حال الخلو عنها ثم شرع ثانيا الطهارة الصغرى المتعلقة بأطراف البدن زيادة
في الاعتناء بها لأنها تبرز في غالب الأحوال فيعلق بها من الأقذار ما لا يعلق
بغيرها وألزم المكلف استعمال هذه الطهارة عند عروض كل حدث مستقذر حتى الريح والسبب
الداعي إلى خروجه ثم ندبه إلى استعمالها عند القيام إلى كل صلاة من الصلوات الخمس
ثم إنا إذا تأملنا أفعال هذه الطهارة وجدناها تشتمل على مبالغات كثيرة تستدعي غاية
النظافة وتنفي كل قذر وإن قل فشرع الغسل في أعضاء الوضوء مكررا وشرع مسح شعر الرأس
بالماء دفعا لما يعلق به من الغبار وشرع تتبع مسام الوجه بالغسل والتنظيم كالمضمضة
والاستنشاق ثلاثا تطييبا للنكهة وشرع مسح الأذنين من ظاهرهما وباطنهما حتى
الصماخين إزالة لما بداخلهما من تلك الفضلة مع أن الحي ودمعه وعرقه ولعابه ومخاطه
كلها طاهرة أو ليس في هذا دليل واضح على أن الحكمة في هذا كله إنما هو المبالغة في
النظافة وتطييب الرائحة والنكهة إذ بذلك يستحق العبد أن يتلبس بالعبادة ويدخل حضرة
الرب وشرط للدخول فيها طهارة البدن والثوب والمكان من سائر المستقذرات حتى يكون
على أكمل الحالات بعيدا عن القذر بكل وجه ثم لم يكتف الشارع بهذا حتى شرع السواك
عند القيام إلى كل صلاة وقال ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة
) كل ذلك المقصود منه طيب النكهة فانظر وتأمل اعتناء الشارع بتطييب رائحة
____________________
فم المؤمن ونكهته حتى في حق
الصائم الذي ( خلوف فمه أطيب عند الله من ريح المسك ) هذا كله في حال الصلاة
وأما خارجها فقد علم من الشرع علما ضروريا أن العبد مطلوب بالمحافظة على هذه الحال
والبقاء عليها سائر أوقاته متى قدر على ذلك وتيسر له ومن هذا المعنى ما حرم الله
تعالى على هذه الأمة من تناول المستقذرات كالميتة والدم وسائر النجاسات إذ علة
حرمة الأشياء وتناولها إما كونها مستقذرة كالنجاسات إجماعا وكالحشرات وما تعافه
النفوس على مذهب الشافعي رضي الله عنه أو مضرة كالسم والطين ونحوهما مما يضر
بالبدن أو ببعض الأعضاء منه أو محترمة إما لذاتها كالأدمي أو لكونها ملكا للغير
وهو ظاهر فالشارع له غرض أكيد في اجتلاب الطيبات واجتناب ما يضادها من المستخبثات
وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعملون في حوائطهم فإذا حضرت
الجمعة أتوا إلى المسجد وأبدانهم سهكة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال
عند كل جمعة ثم منع كل من تلبس برائحة كريهة كالثوم والبصل والكراث من حضورها وحبب
إلى النبي صلى الله عليه وسلم من دنيانا النساء والطيب وندب أمته إلى استعماله في
المشاهد العامة مثل الجمع والأعياد ونحوها وخصال الفطرة إنما شرعت لهذا المعنى
ففيها كفاية لمن تأملها قوال صلى الله عليه وسلم ( إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه )
دفعا للسرف والخيلاء ولئلا يعلق به شيء من النجاسات والأقذار إلى غير هذا مما لو
استقصي لطال ودل دلالة قطعية على أن المطلوب من العبد أن يكون نظيفا طيب الرائحة
حسن البزة طاهر البدن والثوب مجانبا لكل خبيث مستقذر وهذه حالة أهل الجنة والعكس
بالعكس وأنت لا تجد أخبث ولا أقذر من رائحة أفواه شربة الدخان ولا أنتن ولا أعفن
من نكهات المستفين لغبار تابغ وهذا النتن من أقبح العيوب في نظر الشرع حتى أنه جعل
الخيار لأحد الزوجين إذا كان صاحبه أبخر فإذا لا نشك أن استعمال هذه العشبة
الخبيثة في الفم أو الأنف من أعظم المحظورات لأنها تصدم غرضا كبيرا من أغراض
الشارع وتضاده وتنفيه
____________________
وأقول لو كان نتنها يعلق بعضو
من الأعضاء غير الوجه لكان هين لكنه يعلق بالفم والأنف اللذين وضعهما الحكيم العلي
في وسط الوجه الذي هو أشرف الأعضاء فأي مضمضة وأي استنشاق وأي سواك يزيل ذلك النتن
الذي يرسخ في أنفاس أهلها وأفواههم وخياشيمهم رسوخا لا يماثله شيء
ولقد أفصح العامة عن شدة نتن هذه العشبة وصادفوا الصواب حيث قالوا إن فضلة الدخان
المسماة بالقير تنجس النجاسة هذا إلى ما يتبع ذلك من المفاسد المتعددة من تغيير
عقل متعاطيها حتى أنه إذا انقطعت عنه صار كالمجنون لا يبالي بما يصدر منه ومن دخول
الشك في صيامه لأن بقايا ذلك الدخان أو ذلك الغبار قد يمكث في حلقه إلى طلوع الفجر
وما بعده لأن جلهم إذا قرب الفجر والوا استعماله حتى يكون هو خاتمة سحورهم
وبالجملة فلا يستعمل ذلك إلا من لا خلاق له ولا يكترث بمروءه ولا دين وهو قادح في
الشهادة والإمامة والله تعالى الموفق بمنه نكبة الفقيه أبي العباس أحمد بابا
السوداني وعشيرته من آل آقيت والسبب في ذلك
كان بنو آقيت التكروريون من أهل مدينة تنبكتو وممن لهم الوجاهة الكبيرة والرياسة
الشهيرة ببلاد السودان دينا ودنيا بحيث تعددت فيهم العلماء والأئمة والقضاة
وتوارثوا رياسة العلم مدة طويلة تقرب من مائتي سنة وكانوا من أهل اليسار والسؤدد
والدين لا يبالون بالسلطان فمن دونه ولما فتح جيش المنصور بلاد السودان أبقاهم
الباشا محمود على حالهم إلى أن كانت سنة اثنتين وألف فكان أهل السودان قد سئموا
ملكة المغاربة وآنسوا منهم خلاف ما كانوا يعهدونه من سلطانهم الأول وكانت أذنهم مع
ذلك صاغية لآل آقيت فتخوف المنصور منهم وربما وشي إليه بهم فكتب إلى عامله محمود
بالقبض عليهم وتغريبهم إلى مراكش فقبض على جماعة كبيرة منهم كان فيها الفقيه
العلامة أبو العباس أحمد بن أحمد بن أحمد ثلاثة أحامد ابن
____________________
عمر بن محمد آقيت المدعو بابا
صاحب تكميل الديباج وغيره من التآليف وكان فيها أيضا الفقيه القاضي أبو حفص عمر بن
محمود بن عمر ابن محمد آقيت وغيرهما وحملوا مصفدين في الحديد إلى مراكش ومعهم
حريمهم وانتهبت ذخائرهم وكتبهم
قال في بذل المناصحة سمعت الشيخ أبا العباس أحمد بابا يقول أنا أقل عشيرتي كتبا
وقد نهب لي ست عشرة مائة مجلد وكان القبض عليهم في أواخر المحرم سنة اثنتين وألف
ووصلوا إلى مراكش في أول رمضان من السنة المذكورة واستقروا مع عيالهم في حكم
الثقاف إلى أن انصرم أمد المحنة فسرحوا يوم الأحد الحادي والعشرين من رمضان سنة
أربع وألف ففرحت قلوب المؤمنين بذلك
ولما دخل الفقيه أبو العباس على المنصور بعد تسريحه من السجن وجده يكلم الناس من
وراء حجاب وبينه وبينهم كلة مسدولة على طريقة خلفاء بني العباس ومن يتشبه بهم فقال
الشيخ إن الله تعالى يقول { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب
} وأنت قد تشبهت برب الأرباب فإن كانت لك حاجة في الكلام فانزل إلينا وارفع عنا
الحجاب فنزل المنصور ورفعت الأستار فقال له الشيخ أي حاجة لك في نهب متاعي وتضييع
كتبي وتصفيدي من تنبكتو إلى هنا حتى سقطت عن ظهر الجمل واندقت ساقي فقال له
المنصور أردنا أن تجتمع الكلمة وأنتم في بلادكم من أعيانها فإن أذعنتم أذعن غيركم
فقال الشيخ أبو العباس فهلا جمعت الكلمة بترك تلمسان فإنهم أقرب إليك منا فقال
المنصور قال النبي صلى الله عليه وسلم اتركوا الترك ما تركوكم فامتثلنا الحديث
فقال أبو العباس ذاك زمان وبعده قال ابن عباس لا تتركوا الترك وإن تركوكم فسكت
المنصور وانفض المجلس
ولما سرح الشيخ أبو العباس تصدر لنشر العلم وأهرع الناس إليه للأخذ عنه ولم يزل
بمراكش إلى أن مات المنصور لأنه ما سرحهم حتى شرط عليهم السكنى بمراكش ولما توفي
أذن ابنه زيدان لآل آقيت في الرجوع إلى بلادهم بعد أن مات جماعة منهم بمراكش وقد
كان الشيخ أبو العباس يتشوق إلى
____________________
رؤية بلدته ويسكب العبرات عند
ذكرها ولم ييأس من روح الله في العود إليها وله في ذلك شعر على طريقة الفقهاء ولما
خرج من مراكش قاصدا بلده شيعه أعيان طلبتها فأخذ بعضهم بيده عند الوداع وقرأ قوله
تعالى { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } على ما جرت به العادة من
قراءتها عند وداع المسافر فيرجع سالما فانتزع الشيخ أبو العباس يده بسرعة وقال لا
ردني الله إلى هذا المعاد ولا رجعني إلى هذه البلاد ثم لحق بتنبكتو فاستقر بها إلى
أن مات سنة ست وثلاثين وألف رحمه الله تتمة قد تبين لك بما قصصناه عليك من أخبار
السودان ما كان عليه أهل تلك البلاد من الأخذ بدين الإسلام من لدن قديم وأنهم من
أحسن الأمم إسلاما وأقومهم دينا وأكثرهم للعلم وأهله تحصيلا ومحبة وهذا الأمر شائع
في جل ممالكهم الموالية للمغرب كما علمت وبهذا يظهر لك شناعة ما عمت به البلوى
ببلاد المغرب من لدن قديم من استرقاق أهل السودان مطلقا وجلب القطائع الكثيرة منهم
في كل سنة وبيعهم في أسواق المغرب حاضرة وبادية يسمسرون بها كما تسمسر الدواب بل
أفحش قد تمالأ الناس على ذلك وتوالت عليه أجيالهم حتى صار كثير من العامة يفهمون
أن موجب الاسترقاق شرعا هو اسوداد اللون وكونه مجلوبا من تلك الناحية وهذا لعمر
الله من أفحش المناكر وأعظمها في الدين إذ أهل السودان قوم مسلمون فلهم ما لنا
وعليهم ما علينا ولو فرضنا أن فيهم من هو مشرك أو متدين بدين آخر غير الإسلام
فالغالب عليهم اليوم وقبل اليوم بكثير إنما هو الإسلام والحكم للغالب ولو فرضنا أن
لا غالب وإنما الكفر والإسلام هنالك متساويان فمن لنا بأن المجلوب منهم هو من صنف
الكفار لا المسلمين والأصل في نوع الإنسان هو الحرية والخلو عن موجب الاسترقاق
ومدعي خلاف الحرية مدع لخلاف الأصل ولا ثقة بخبر الجالبين لهم والبائعين لهم لما
تقرر وعلم في الباعة مطلقا من الكذب عند بيع سلعهم وإطرائها بما ليس فيها وفي باعة
____________________
الرقيق خصوصا مما هو أكثر من
ذلك كيف ونحن نرى أن الذين يجلبونهم أو يتجرون فيهم إنما هم من لا خلاق لهم ولا
مروءة ولا دين والزمان كما علمت وأهله كما ترى ولا يعتمد أيضا على قول ذلك العبد
نفسه أو الأمة نفسها كما نص عليه الفقهاء لاختلاف الأغراض والأحوال في ذلك فإن
البائع لهم قد يضربهم حتى لا يقرون إلا بما لا يقدح في صحة بيعهم وقد يكون للعبد
أو الأمة غرض في الخروج من ملك من هو بيده بأي وجه كان فيهون عليه أن يقر على نفسه
بالرقية كي ينفذ بيعه عاجلا إلى غير ذلك من الأغراض وقد استفاض عن أهل العدل
وغيرهم أن أهل السودان اليوم وقبل اليوم يغير بعضهم على بعض ويختطف بعضهم أبناء
بعض ويسرقونهم من الأماكن النائية عن مداشرهم وعمرانهم وإن فعلهم ذلك كفعل أعراب
المغرب في إغارة بعضهم على بعض واختطاف دوابهم ومواشيهم أو سرقتها والكل مسلمون
وإنما الحامل لهم على ذلك قلة الديانة وعدم الوازع فكيف يسوغ للمحتاط لدينه أن
يقدم على شراء ما هو من هذا القبيل وكيف يجوز له التسري بإناثهم وفي ذلك ما فيه من
الإقدام على فرج مشكوك
وقد قال الشيخ أبو حامد الغزالي رضي الله عنه في كتاب الحلال والحرام من إحياء
علوم الدين ما نصه اعلم أن كل من قدم إليك طعاما أو هدية أو أردت أن تشتري منه أو
تتهب فليس لك أن تفتش عنه وتسأل وتقول هذا مما لا أتحقق حله فلا آخذه بل أفتش عنه
وليس لك أيضا أن تترك البحث فتأخذ كل ما لا تتيقن تحريمه بالسؤال واجب مرة وحرام
مرة ومندوب مرة ومكروه مرة فلا بد من تفصيله والقول الشافي فيه هو أن مظنة السؤال
مواقع الريبة ثم أطال رضي الله عنه في تقرير ذلك وصرح بأن البائع إذا كان متهما
على ترويج سلعته لا يعتمد على قوله فإذا كان هذا في الأموال فكيف باسترقاق الرقاب
وملك الأبضاع الذين للشارع بهما مزيد اعتناء كما هو معلوم من الشرع وأصوله
وقد ذكر الشيخ أبو العباس أحمد بابا في تقييده الموضوع في هذه
____________________
المسألة المسمى بمعراج الصعود
تفصيلا ختم به كلامه وذكر قبائل من كفار السودان مثل موشى وبعض فلان وغيرهم وقال
إن كل من كان من هؤلاء القبائل فيجوز استرقاقه وكذلك ذكر ولي الدين ابن خلدون إن
وراء النيل قوما من السودان يقال لهم لملم قال وهم كفار ويكتوون في وجوههم
وأصداغهم قال وأهل غانة والتكرور يغيرون عليهم ويسبونهم ويبيعونهم للتجار
فيجلبونهم إلى المغرب وهم عامة رقيقهم وليس وراءهم في الجنوب عمران يعتبر إلى آخر
كلامه لكن هذا التفصيل الذي ذكره الشيخ أبو العباس إنما ينفع أهل تلك البلاد
المجاورين لهم والمطلعين على المجلوب منهم ومن غيرهم فأما أهل المغرب الذين هم من
وراء وراء وبينهم وبين أرض السودان مهامه فيح وقفار لا يعمرها إلا الريح فمن الذي
يحقق لهم ذلك وقد قلنا إنه لا يجوز الاعتماد على قول الجالبين لهم وأيضا فمن لنا
بأن أولئك القبائل لا زالوا على كفرهم إلى الآن على أن الناس اليوم لا يلتفتون إلى
ذلك أصلا ومهما رأى أحدهم العبد أو الأمة يسمسر في السوق إلا ويقدم على شرائه
غافلا عن هذا كله لا يسأل إلا عن عيوب بدنه لا فرق في ذلك بين أسود أو أبيض وغيرهما
بل صار الفسقة اليوم وأهل الجراءة على الله يختطفون أولاد الأحرار من قبائل المغرب
وقراه وأمصاره ويبيعونهم في الأسواق جهارا من غير نكير ولا امتعاض للدين وصار
النصارى واليهود يشترونهم ويسترقونهم بمرأى منا ومسمع وذلك عقوبة من الله لنا لو
اعتبرنا فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما دهينا به في ديننا
فالحاصل أنه لما كان الأصل في الناس هو الحرية كما قلنا وعلم تواترا أن أهل بلاد
السودان الموالية لنا جلهم أو كلهم مسلمون واستفاض عن أهل العدل وغيرهم أنهم يغير
بعضهم على بعض ويختطف بعضهم أبناء بعض ويبيعونهم ظلما وعدوانا ورأينا بالمشاهدة أن
الجالبين لهم والمتجرين فيهم إنما هم من لا خلاق لهم ولا دين لهم لم يبق لنا توقف
في أن الإقدام على شراء هذا الصنف محظور في الشرع والمقدم عليه مخاطر في دينه وأما
____________________
وضع يد الجالبين لهم عليهم فلا
تكفي شرعا في جواز الإقدام على شرائهم منهم لضعف هذه العلامة بما أحتف بها من
القرائن المكذبة لها وليستفت المرء قلبه فقد قال صلى الله عليه وسلم استفت قلبك
وإن أفتوك فإنه متى رجع إلى قلبه في هذه المعضلة إلا ولا يقدر أن يحوم حول هذا
الحمى بحال ثم تنزل عن هذا كله ونقول لو لم يكن في ذلك إلا الشبهة القوية وفساد
الزمان ورقة ديانة أهله لكان في هذه الأمور الثلاثة مع ملاحظة سد الذريعة الذي هو
أحد أصول الشريعة لا سيما عند الإمام مالك رضي الله عنه ما يقتضي وجوب التخلي عن
ملابسة هذه المفسدة المزرية بالعرض والدين فنسأله سبحانه أن يوفق من ولاه أمر
العباد لحسم مادة هذه الفساد فإن سبب الاسترقاق الشرعي الذي كان على عهد النبي صلى
الله عليه وسلم والسلف الصالح مفقود اليوم وهو السبي الناشئ عن الجهاد المقصود به
إعلاء كلمة الله تعالى وسوق الناس إلى دينه الذي اصطفاه لعباده هذا هو ديننا الذي
شرعه لنا نبينا صلى الله عليه وسلم وخلافه خلاف الدين وغيره غير المشروع والتوفيق
إنما هو بيد الله { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
} بناء قصر البديع بحضرة مراكش مرسها الله
قال في مناهل الصفا كان السبب الحامل للمنصور على بناء البديع وإنفاقه فيه جلائل
الأموال ونفائس الذخائر هو أنه أراد أن تكون لأهل البيت به مأثرة وشفوف على دولة
البرابر من المرابطين والموحدين ومن بعدهم فإن كلا من أهل تلك الدول أبقى بناء
يحيا به ذكره ولم يكن لأهل البيت في ذلك المعنى شيء تزداد به حظوتهم مع أنهم أحق
الناس بالمجد والسؤدد الأثيل فتصدى لبنائه بقصد تشريف أهل البيت لأن البناء كما
قيل
( همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ** من بعدهم فبألسن البنيان )
( إن البناء إذا تعاظم شأنه ** أضحى يدل على عظيم الشأن )
قلت هذا اعتذار بارد كما لا يخفى
____________________
ولما أراد المنصور أن يشرع فيه أحضر أهل العلم ومن يتسم بالصلاح فتحينوا أوان
الابتداء ووقت الشروع فيه فكان ابتداء الشروع في تأسيسه في شوال خامس الأشهر من
خلافته سنة ست وثمانين وتسعمائة واتصل العمل فيه إلى سنة اثنتين وألف ولم يتخلل
ذلك فترة وحشد له الصناع حتى من بلاد الإفرنجية فكان يجتمع كل يوم فيه من أرباب
الصنائع ومهرة الحكماء خلق عظيم حتى كان ببابه سوق عظيم يقصده التجار ببضائعهم
ونفائس أعلاقهم وجلب له الرخام من بلاد الروم فكان يشتريه منهم بالسكر وزنا بوزن
على ما قيل
وكان المنصور قد اتخذ معاصر السكر ببلاد حاحة وشوشاوة وغيرهما حسبما ذكره الفشتالي
رحمه الله في المناهل
وأما جبصه وجيره وباقي أنقاضه فإنها جمعت من كل جهة وحملت من كل ناحية حتى أنه
وجدت بطاقة فيها أن فلانا دفع صاعا من جير حمله من تنبكتو وظف عليه في غمار الناس
وكان المنصور مع ذلك يحسن إلى الأجراء غاية الإحسان ويجزل صلة العارفين بالبناء
ويوسع عليهم في العطاء ويقوم بمؤن أولادهم كي لا تتشوف نفوسهم وتتشعب أفكارهم
وهذا البديع دار مربعة الشكل وفي كل جهة منها قبة رائقة الهيئة وأحتف بها مصانع
أخر من قباب وقصور ودور فعظم بذلك بناؤه وطالت مسافته ولا شك أن هذا البديع من
أحسن المباني وأعجب المصانع يقصر عنه شعب بوان وينسى ذكر غمدان ويبخس الزهراء
والزاهره ويزري بقباب الشام وأهرام القاهرة وفيه من الرخام المجزع والمرمر الأبيض
والأسود ما يحير الفكر ويدهش النظر وكل رخامة طلي رأسها بالذهب الذائب وموه
بالنضار الصافي وفرشت أرضه بالرخام العجيب النحت الصافي البشرة وجعل في أضعاف ذلك
الزليج المتنوع التلوين حتى كأنه خمائل الزهر أو برد موشى من عمل صنعاء وتستر وأما
سقوفه فتجسم فيها الذهب وطليت الجدرات به مع بديع النقش ورائق الرقم بخالص الجبص
فتكاملت فيه المحاسن وأجرى بين قبابه
____________________
ماء غير آسن وبالجملة فإن هذا
البديع كان من المباني المتناهية البهاء والإشراق المباهية لزوراء العراق ومن
المصانع التي هي جنة الدنيا وفتنة المحيا ومنتهى الوصف وموقف السرور والقصف
( كل قصر بعد البديع يذم ** فيه طاب المجنى وطاب المشم )
( منظر رائق وماء نمير ** وثرى عاطر وقصم أشم )
( إن مراكشا به قد تباهت ** مفخرا فهي للعلا الدهر تسمو )
وبه من الأشعار المرقومة في الأستار والأبيات المنقوشة في الجهات على الخشب
والزليج والجبص ما يسر الناظر ويروق المتأمل ويبهر العقول وعلى كل قبة ما يناسبها
وفي بعض القباب مفاخرة على لسانها لمقابلتها وتتبع ذلك يطول لكن لا بأس أن نلم هنا
بثمالة من ذلك الحوض ونخوض في بحار تلك البدائع بعض الخوض إذ في ذلك عبرة لمن
اعتبر وترويح للقلوب بكيفية فعل الدهر بمن غبر فمن ذلك ما نقش خارج القبة
الخمسينية لأن فيها خمسين ذراعا بالعمل من إنشاء الكاتب البليغ أبي فارس عبد
العزيز الفشتالي على لسان القبة المذكورة
( سموت فخر البدر دوني وانحطا ** وأصبح قرص الشمس في أذني قرطا )
( وصغت من الإكليل تاجا لمفرقي ** ونيطت بي الجوزاء في عنقي سمطا )
( ولاحت بأطواقي الثريا كأنها ** نثير جمان قد تتبعته لقطا )
( وعديت عن زهر النجوم لأنني ** جعلت على كيوان رحلي منحطا )
( وأجريت من فيض السماحة والندى ** خليجا على نهر المجرة قد غطا )
( عقدت عليه الجسر للفخر فارتمت ** إليه وفود البحر تغرف ما أنطا )
( ينضنض ما بين الغروس كأنه ** وقد رقرقت حصباؤه حية رقطا )
( حواليه من دوح الرياض خرائد ** وغيد تجر من خمائلها مرطا )
( إذا أرسلت لدن الفروع وفتحت ** جنى الزهر لاح في ذوائبها وخطا )
( يرنحها مر النسيم إذا سرى ** كما مال نشوان تشرب اسفنطا )
( يشق رياضا جادها الجود والندى ** سواء لديها الغيث أسكب أم أبطا )
( وسالت بسلسال اللجين حياضه ** بحارا غدا عرض البسيط لها شطا )
____________________
( تطلع منها وسط وسطاه دمية ** هي الشمس لا تخشى كسوفا ولا غمطا )
( حكت وحباب الماء في جنباتها ** سنا البدر حل من نجوم السما وسطا )
( إذا غازلتها الشمس ألقى شعاعها ** على جسمها الفضي نهرا بها لطا )
( توسمت فيها من صفاء أديمها ** نقوشا كأن المسك ينقطها نقطا )
( إذا اتسقت بيض القباب قلادة ** فأنى لها في الحسن درتها الوسطا )
( تكنفني بيض الدمى فكأنها ** عذارى نضت عنها القلائد والريطا )
( قدود ولكن زادها الحسن عريها ** وأجمل في تنعيمها النحت والخرطا )
( سمت صعدا تيجانها فكسرت ** فوارير أفلاك السماء بها ضغطا )
( فيالك شأوا بالسعادة آهلا ** بأكنافه رحل العلا والهدى حطا )
( وكعة مجد شادها العز فانبرت ** تطوف بمعناها أماني الورى شوطا )
( ومسرح غزلان الصريم كناسها ** حنايا قباب لا الكتب ولا السقطا )
( فلكن به ما طاب لا الإثل والخمطا ** ووسدن فيه الوشي لا السدر والأرطا )
( ثراه من المسك الفتيت مدبر ** إذا مازجته السحب عاد بها خلطا )
( وإن باكرته نسمة ينسري بها ** إلى كل أنف عرف عنبره قسطا )
( أقرت له الزهراء والخلد وانثنت ** أواوين كسرى الفرس تغبطه غبطا )
( جناب رواق المجد فيه مطنب ** على خير من يعزى لخير الورى سبطا )
( إمام يسير الدهر تحت لوائه ** وترسي سفائن العلا حيثما حطا )
( وفتاح أقطار البلاد بفيلق ** يفلق هامات العدا بالظبي خبطا )
( تطلع من خرصاته الشهب فانثنت ** ذوائب أرض الزنج من ضوءها شمطا )
( كتائب نصران جرت لملمة ** جرت قبلها الأقدار تسبقها فرطا )
( إذا ما عقدن راية علوية ** جعلن ضمان الفتح في عقدها شرطا )
( فما للسما تلك الأهلة إنما ** سنابكها أبقت مثالا بها خطا )
( يطاوع أيدي المعلوات عنانها ** فيعتاض من قبض الزمان بها بسطا )
( يد لأمير المؤمنين بكفها ** زمام يقود الروم والفرس والقبطا )
( أدار جدارا للعلا وسرادقا ** يحوط جهات الأرض من رعيه حوطا )
وقال أيضا مما كتب بداخل القبة المذكورة
____________________
( جمال بدائعي سحر العيونا ** ورونق منظري بهر الجفونا )
( وقد حسنت بقوسي واستطارت ** سنا يغشى عيون الناظرينا )
( وأطلع سمكي الأعلى نجوما ** ثواقب لا تغور الدهر حينا )
( وجوى من دخان الند ألقى ** على أرضي الغياهب والدجونا )
( علوت دوائر الأفلاك سبعا ** لذاك الدهر ما ألفت سكونا )
( فصغت من الأهلة والحنايا ** أساور والخلاخل والبرينا )
( تكنفني حياض مائحات ** أمامي والشمائل واليمينا )
( يقيد حسنها الطرف انفساحا ** ويجري الفلك فيها والسفينا )
( تدافع نهرها نحوي فلما ** علاه البحر في غدا دفينا )
( وقد نشر الحباب على سماها ** لآلي تزدري العقد الثمينا )
( فخرت وحق لي لما اجتباني ** لمجلسه أمير المؤمنينا )
( هو المنصور حائز فصل سبق ** وباني المجد بنيانا مكينا )
( وليث وغى إذا زأر امتعاضا ** يروع زئيره هندا وصينا )
( إذا أمت كتائبه الأعادي ** بعثن برعبه جيشا كمينا )
( يدير عليهم من كل حرب ** تدقهم رحى أو منجنونا )
( إمام بالمغارب لاح شمسا ** بها الشرق اكتسى نورا مبينا )
( بقيت بذي القصور الغر بدرا ** تلوح بأفقهن مدى السنينا )
( تحف بكم عواكف عند بابي ** ملائكة كرام كاتبينا )
( لك البشرى أمير المؤمنين ادخلوها ** مع سلام آمنينا )
وقال أيضا مما كتب في بهوها بمرمر أسود في أبيض
( لله بهو عز منه نظير ** لما غدا كالروض وهو نضير )
( رصفت نقوش حلاه رصف قلائد ** قد نضدتها في النحور الحور )
( فكأنها والتبر سال خلالها ** وشي وفضة تربها كافور )
( وكأن أرض قراره ديباجة ** قد زان حسن طرازها تشجير )
( وإذا تصاعد نده نوأ ففي ** أنماطه نور به ممطور )
( شأو القصور قصورها عن وصفه ** سيان فيه خورنق وسدير )
____________________
( فإذا أجلت اللحظ في جنباته ** يرتد وهو بحسنه محسور )
( وكأن موج البركتين أمامه ** حركات سحب صافحته دبور )
( صفت بضفتها تماثل فضة ** ملك النفوس بحسنها تصوير )
( فتدير من صفو الزلال معللا ** يسري إلى الأرواح منه سرور )
( ما بين آساد يهيج زئيرها ** وأساود يعلو لهن صفير )
( ودحت من الأنهار أرض زجاجة ** وأضلها فلك يضيء منير )
( راقت فمن حصبائها وفواقع ** يطفو عليها اللؤلؤ المنثور )
( يا حسنه من مصنع فبهاؤه ** باهى نجوم الأفق وهي تنور )
( وكأنما زهر الرياض بجنبه ** حيث التفت كواكب وبدور )
( ولدسته الأسمى تخير رصفه ** فخر الورى وإمامها المنصور )
( ملك أناف على الفراقد رتبة ** وأقله فوق السماك سرير )
( قطب الخلافة تاج مفرق دولة ** رميت بجحفلها اللهام الكور )
( وجرى إلى أقصى العراق لرعبها ** جيش على جسر الفرات عبور )
( نجل النبي ابن الوصي سليل من ** حقن الدماء وعف وهو قدير )
( بحر الندى لكنه متموج ** سيف العلا لكنه مطرور )
( طود يخف لحلمه ووقاره ** ولجيشه يوم النزال ثبير )
( دامت معاليه ودام ومجده ** طوق على جيد العلا مزرور )
( وتعاهدته من الفتوح بشائر ** يغدو عليه بها مسا وبكور )
( ما زال منزل سعده يرتاده ** نصر يرف لواؤه المنشور )
( وجرت به مرحا جياد مسرة ** وأدار كأس الأنس فيه سمير )
وقال بعض الكتاب مما نقش في عضادتي باب القبة الخمسينية المذكورة
( يا ناظرا بالله قف وتأمل ** وانظر إلى الحسن البديع الأكمل )
( وإذا نظرت إلى الحقيقة فلتقل ** السر في السكان لا في المنزل )
وقال بعض الكتاب أيضا ما طرزت به الأستار المذهبة المحكمة الصنعة لتستر بها
النواحي الأربعة من القبة الخمسينية وتسمى هذه الأستار عند أهل
____________________
المغرب بالحائطي ففي الجهة
الأولى
( متع جفونك في بديع لباسي ** وأدر على حسني حميا الكاس )
( هذي الربا والروض من جرعائها ** لم تغتذي بالعارض البجاس )
( أنى لروض أن يروق بهاؤه ** مثلي وأن يجري على مقياسي )
( فالروض تغشاه السوام وإنما ** تأوي إلى كنفي ظباء كناس )
وفي الجهة الثانية
( من كل حسنا كالقضيب إذا انثنى ** تزري بغصن البانة المياس )
( ولقد نشرت على السماك ذوائبي ** ونظرت من شرز إلى الكناس )
( وجررت ذيلي بالمجرة عابثا ** فخرا بمخترعي أبي العباس )
( ما نيط مثلي في القباب ولا ازدهت ** بفتى سواه مراتب وكراس )
وفي الجهة الثالثة
( ملك تقاصرت الملوك لعزه ** ورماهم بالذل والإتعاس )
( غيث المواهب بحر كل فضيلة ** ليث الحروب مسعر الأوطاس )
( فرد المحاسن والمفاخر كلها ** قطب الجمال أخو الندى والباس )
( ملك إذا وافى البلاد تأرجت ** منه الوهاد بعاطر الأنفاس )
وفي الجهة الرابعة
( وإذا تطلع بدره من هالة ** يعشى سناه نواظر الجلاس )
( أيامه غرر تجلت كلها ** أبهى من الأعياد والأعراس )
( لا زال للمجد السني يشده ** ويقيم مبناه على الأساس )
( ما مال بالغصن النسيم وكللت ** درر الندى في جيده المياس )
وقال أبو فارس الفشتالي مما كتب على المصرية المطلة على الرياض المرتفعة على القبة
الخضراء من بديع المنصور وكان أنشأها في جمادى الأولى من سنة خمس وتسعين وتسعمائة
( باكر لدي من السرور كؤوسا ** وأرض النديم أهله وشموسا )
( وأعرج على غرفي المنيف سماؤها ** تلق الفراقد في حماي جلوسا )
____________________
( وإذا طلعت بأوجها قمر العلا ** لا ترتضي غير النجوم جليسا )
( شرق القصور بريقها لما اجتلت ** مني على بسط الرياض عروسا )
( واعتضت بالمنصور أحمد ضيغما ** وردا تخير من بديعي خيسا )
( ملك أرى كل الملوك ممالكا ** لعلاه والدنيا عليه حبيسا )
( وهناك يا شرف الخلافة دولة ** تلقى برايتها طلائع عيسا )
وقال أيضا مما كتب في بعض المباني البديعية
( معاني الحسن تظهر في المغاني ** ظهور السحر في حدق الحسان )
( مشابه في صفات الحسن أضحت ** تمت بها المغاني للغواني )
( بكل عمود صبح من لجين ** تكون في استقامة خوط بان )
( مفصلة القدود مثلثات ** مواصلة العناق من التدان )
( تردت سابري الحسن يزري ** بحسن السابري الخسرواني )
( وتعطو الخيزرانة من حماها ** بسالفة القطيع البرهماني )
( لمجدك تنتمي لكن نماها ** إلى صنعاء ما صنع اليدان )
( يدين لك ابن ذي يزن ويعنو ** لهما غمدان في أرض اليماني )
( غدت حرما ولكن حل فيها ** لوفدكم الأمان مع الأماني )
( مبان بالخلافة آهلات ** بها يتلو الهدى السبع المثاني )
( هي الدنيا وساكنها إمام ** لأهل الأرض من قاص وداني )
( قصور ما لها في الأرض شبه ** وما في المجد للمنصور ثاني )
وقال مما نقش في بعض الأبواب
( هذي وفود السعد نحوي ترتمي ** وطلائع البشرى لبابي تنتمي )
( وسمت إلي عفاة عرفك مثل ما ** يسمو الحجيج إلى سقاية زمزم )
( حطت بمصراعي السعود بشائرا ** لاحت على الشرفات مثل الأنجم )
( وأوان صنعي أن تقول ولا تبل ** ببديع أحمد جنة المتنعم )
وقال الفشتالي لما عرضت عليه هذه الأبيات استحسنها إلا أنه كره لفظة جنة وتغير
منها كثيرا وقال الوزير الأديب أبو الحسن علي بن منصور الشيظمي مما كتب على مباح
قبة الزجاج
____________________
( إن شئت تاريخ إكمال البديع فقل ** إيوان أحمد إيوان السعادات )
وقال الوزير المذكور مما نقش على أحد أبواب البديع
( باب أتى كبراعة استهلال ** وكأنما القصر القصيد التالي )
( ولذاك سمي بالبديع وجاء بال ** إغراق والتجنيس والإيفال )
( وأتى التمام فقلت في تاريخه ** بيتا بلا عقد ولا إشكال )
( صرح على تقوى من الله انبنى ** في طالع للسعد والإقبال )
وقال أيضا في تمام البديع مهنئا
( يا مليكا ملكه فيمن ملك ** كطلوع الفجر من بعد الحلك )
( تم هذا القصر فاسكنه على ** حسن حال بدوام الملك لك )
وكان الفراغ من تمام البديع سنة اثنتين وألف وفي تاريخه يقول الوزير المذكور وهو
مما نقش بباب الرخام أحد أبواب البديع
( الحسن لفظ وهذا القصر معناه ** ياما أميلح مرآه وأبهاه )
( فهو البديع الذي راقت بدائعه ** وطابق اسم له فيه مسماه )
( صرح أقيمت على التقوى قواعده ** ودل منه على التاريخ معناه )
( ولاح أيضا وعين الحفظ تكلاه ** تاريخه من تمام قل هو الله )
قال في نفح الطيب اخترع المنصور من المصانع ثلاثة أشياء فجاءت غريبة الشكل بديعة
الحسن وهي البديع والسمرة والمشتهى وفيهما يقول المنصور موريا
( بستان حسنك أبدعت زهراته ** ولكم نهيت القلب عنه فما انتهى )
( وقوام غصنك بالمسرة ينثني ** يا حسن رمان به للمشتهى ) اه
قال اليفرني والذي ذكره صاحب كتاب البيان المغرب عن أخبار المغرب وهو الشيخ أبو
عبد الله محمد بن عذاري الأندلسي حسبما رأيته في السفر الثاني منه أن أول من أنشأ
المسرة التي بظاهر جنان الصالحة عبد المؤمن بن علي كبير الموحدين قال وهو بستان
طوله ثلاثة أميال وعرضه قريب منها فيه كل فاكهة تشتهى وجلب إليه الماء من أغمات
واستنبط له عيونا كثيرة
____________________
قال ابن اليسع وما خرجت أنا من مراكش في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة إلا وهذا البستان
الذي غرسه عبد المؤمن يبلغ مبيع زيتونه وفواكهه ثلاثين ألف دينار مؤمنية على رخص
الفاكهة بمراكش اه ولعل المنصور جدد معالم المسرة بعد اندراسها وأفاض سجال الحياة
على ميت غراسها وكان المنصور يفتخر بالبديع كثيرا وينوه بقدره وفي ذلك يقول أبو
فارس الفشتالي
( هذا البديع يعز شبه بدائع ** أبدعتهن به فجاء غريبا )
( أضنى الغزالة حسنه حسدا له ** أبدى عليها للأصيل شحوبا )
( وانقضت الزهر المنيرة إذ رأت ** زهر الرياض به ينور عجيبا )
( شيدتهن مصانعا وصنائعا ** أنجزن وعدك للعلا المرقوبا )
( وجريت في كل الفخار لغاية ** أدركتهن وما مسست لغوبا )
( فانعم بملكك دام فيه مؤبدا ** تجني به فنن النعيم رطيبا )
ولما أكمل المنصور البديع وفرغ من تنميق بردته وتطريز حلته صنع مهرجانا عظيما ودعا
الأعيان والأكابر فقدم لهم من ضروب الأطعمة وصنوف الموائد وأفرغ عليهم من العطايا
ومنحهم من الجوائز ما لم يعهد منه قبل ذلك وكان ممن دخل في غمار الناس رجل من
البهاليل ممن كانت له شهرة بالصلاح في الوقت فقال له المنصور مباسطا كيف رأيت
دارنا هذه يا فلان فقال له إذا هدمت كانت كدية كبيرة من التراب فوجم لها المنصور
وتطير منها وتحكى هذه الحكاية عن غير المنصور فالله أعلم
قال اليفرني وقد ظهر مصداق ذلك على يد السلطان المظفر المولى إسماعيل بن الشريف
فإنه أمر بهدمه سنة تسع عشرة ومائة وألف لموجب يطول شرحه فهدمت معالمه ومحيت
مراسمه وفرق ما كان به من جموع الإنس وعاد حصيدا كأن لم يغن بالأمس حتى صار مرعى
للكلاب والمواشي ووكرا للصدى والبوم وحق على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا
وضعه ومن العجائب أنه لم يبق بلد من بلاد المغرب إلا ودخله شيء من أنقاض البديع
ولقد تذكرت بهذا ما حكاه بعض مؤرخي الأندلس أن
____________________
الزاهرة التي بناها المنصور بن
أبي عامر وهي من عجائب الدنيا مر عليها في أيام المنصور بعض أهل البصائر وهي في
نهاية العمران والازدهاء بسكانها فقال يا دار فيك من كل دار فجعل الله منك في كل
دار قال فضرب الدهر ضرباته وسلط عليها أيدي العدوان فهدمت وخربت وتفرقت محاسنها
حتى نقل بعض أنقاضها إلى العراق
قال اليفرني ولما دخلت البديع مقفلي من الرحلة ورأيت ما هالني أنشدت أبياتا أنشدها
الشيخ محيى الدين بن عربي في كتاب المسامرة لما دخل الزاهرة فوجدها متهدمة وهي
( ديار بأكناف الملاعب تلمع ** وما أن بها من ساكن فهي بلقع )
( ينوح عليها الطير من كل جانب ** فتصمت أحيانا وحينا ترجع )
( فخاطبت منها طائرا متفردا ** له شجن في القلب وهو مروع )
( فقلت على ماذا تنوح وتشتكي ** فقال على دهر مضى ليس يرجع )
وأنشدت ما أنشده ابن الآبار في تحفة القادم
( قلت يوما لدار قوم تفانوا ** أين سكانك الكرام علينا )
( فأجابت هنا أقاموا قليلا ** ثم ساروا ولست أعلم أينا )
ثم قال اليفرني رحمه الله
لطيفة تأملت لفظ البديع فوجدت عدد نقط حروفه بحساب الجمل مائة وسبعة عشر وهذا
القدر هو الذي بقي فيه البديع قائما فإنه فرغ منه سنة اثنتين وألف وشرع في هدمه
سنة تسع عشرة ومائة وألف فمدة عمره مائة وسبع عشرة سنة على عدد اسمه وذلك من غريب
الاتفاق فسبحان من دقت حكمته وجلت قدرته وعمت رحمته لا إله إلا هو الحكيم العليم
____________________
ثورة الناصر ابن السلطان
الغالب بالله ببلاد الريف ومقتله
كان الناصر هذا في حياة أبيه عبد الله الغالب بالله خليفته على تادلا ونواحيها
ولما توفي أبوه المذكور وقام بالأمر أخوه المتوكل كما استوفينا خبره قبض على
الناصر فاعتقله فلم يزل معتقلا عنده سائر أيامه إلى أن قدم المعتصم بجيش الترك
وانتزع الملك من يد المتوكل كما مر فسرح الناصر من اعتقاله وأحسن إليه فلم يزل
عنده في أرغد عيش إلى أن توفي المعتصم يوم وادي المخازن وأفضى الأمر إلى المنصور
ففر الناصر إلى آصيلا وكانت للنصارى يومئذ ثم عبر البحر منها إلى الأندلس فكان عند
طاغية قشتالة مدة طويلة إلى أن سرحه الطاغية إلى المغرب بقصد تفريق كلمة المسلمين
وإحداث الشقاق بينهم فخرج الناصر بمليلية ونزل بها لثلاث مضت من شعبان سنة ثلاث
وألف وتسامعت به الغوغاء والطغام من أهل تلك البلاد فأقبلوا إليه يزفون فكثرت
جموعه وتوفرت جيوشه واهتز المغرب بأسره لذلك
وذكر اليفرني في الصفوة أن الفقيه أبا عبد الله محمد بن قاسم القصار كتب كتابا إلى
الشيخ الصالح أبي عبد الله محمد بن علي بن ريسون من أهل بلاد غمارة وكان مسموع
الكلمة بها يحضه على الاستمساك بدعوة المنصور وأن يلزم الطاغية له فوقع الكتاب في
يد المنصور فعرف للشيخ القصار حقه ولما وفد عليه بعد ذلك وصله وولاه الفتوى
والخطبة بجامع القرويين وتفرقة صدقة المساكين
ثم إن الناصر خرج من مليلية قاصدا تازا فدخلها واستولى عليها ونزعت إليه القبائل
المجاورة لها كالبرانس وغيرهم فتألبوا عليه وتمالؤوا على إعزازه ونصره ولما دخل
تازا طالب أهلها بالمكس وقال لهم إن النصارى يغرمون حتى على البيض ولما سمع
المنصور بخبره أقلقه ذلك وتخوف منه غاية لأن الناصر اهتز المغرب لقيامه وتشوفت
النفوس إليه لميل القلوب عن المنصور لشدة وطأته واعتسافه للرعية
قال في ابتهاج القلوب في ترجمة الولي الصالح أبي الحسن علي بن
____________________
منصور البوزيدي المعروف بأبي
الشكاوي دفين شالة إنه كان سائرا يوما على بغلة ومعه أصحابه فقال لهم يا فقراء
أتسمعون ما تقول بغلتي إنها تصيح بالنصر لمولاي الناصر وكذلك الشجر والحجر وإني
أرى غير ذلك فكان الأمر كما قال اهتز لقيام الناصر كل شيء ثم قتل عن قريب ولم يتم
له أمر اه
ثم إن المنصور بعث إليه جيشا وافرا فهزمهم الناصر واستفحل أمره وتمكن ناموسه من
القلوب فأمر المنصور ولي عهده المأمون بمنازلته فخرج إليه من فاس في تعبية حسنة
وهيئة تامة فلما التقى الجمعان كانت الدبرة على الناصر بالموضع المعروف بالحاجب
ومر على وجهه فاحتل بالجاية بلدة من عمل بلاد الزبيب فلحق به ولي العهد فلم يزل في
مقاتلته إلى أن قبض عليه فأزال رأسه وبعث به إلى مراكش وكان ذلك سنة خمس وألف وقيل
سنة أربع وألف
قال في نشر المثاني كان مقتل الناصر وإدخاله مقطوع الرأس إلى فاس يوم الثلاثاء
الثالث والعشرين من رمضان سنة أربع وألف وهو الأصح
وذكر الشيخ أبو علي اليوسي في المحاضرات ما نصه حدثوا عن صلحاء تادلا أنه لما قام
على السلطان أحمد المنصور ابن أخيه الناصر قال الشيخ أبو العباس أحمد بن أبي
القاسم الصومعي إن الناصر يدخل تادلا يعني دخول الملك فلما بلغ الخبر إلى الشيخ
أبي عبد الله محمد الشرقي التادلي قال مسكين بابا أحمد رأى رأس الناصر قد دخل
تادلا فظنه الناصر يدخلها فكان الأمر كذلك فإنه هزم في نواحي تازا ثم قطع رأسه
وحمل إلى مراكش فدخل تادلا في طريقه اه
ولما قتل الناصر سر المنصور بذلك وأتته الوفود للتهنئة وقال الشعراء في ذلك منهم
الكاتب أبو عبد الله محمد بن عمر الشاوي قال
( تهنأ أمير المؤمنين فقد جرت ** بسطوتك الأقدار جري السوابق )
( أضاءت لك الأيام واحلولكت على ** عدوك وارتجت رؤوس الشواهق )
( وذاك الذي قد خيب الله سعده ** تردى فلم تنفعه نصرة مارق )
( فكان كما قد قيل لكن رأسه ** أتى سابقا والرجل ليست بسابق )
____________________
ضمن قول بعضهم في الوزير ابن الفرس وقد رآه مصلوبا منكوس الرأس
( لقد طمح المهر الجموح لغاية ** تقطع أعناق الجياد السوابق )
( جرى فجرت رجلاه لكن رأسه ** أتى سابقا والرجل ليست بسابق )
وكتب المنصور بخبر هذا الفتح إلى الآفاق
فمما كتبه للشيخين الإمامين أبي عبد الله محمد زين العابدين البكري وأبي عبد الله
محمد بدر الدين القرافي رسالة يقول فيها ما نصه
من عبد ربه المجاهد في سبيله أحمد المنصور بالله أمير المؤمنين الحسني إلى الفاضل
الذي اعتجر بالتقوى وهو زين العابدين وتحلى بحلى المعارف الربانية وتلك حلى
العارفين والسالك الذي برز في الطريقة وسلك على المجاز الواضح إلى الحقيقة ففات
شأو السابقين والعارف الذي تجرد عن رعونة الأهواء النفسانية فكان سلوكه على
التجريد إلى حضرة الواصلين الشيخ العالم الحجة الوافي السيد بدر الدين القرافي
والشيخ العارف الواصل السر الكامل سلالة العلماء سبط الفضلاء أبي عبد الله زين
العابدين ابن الشيخ السامي المقام قطب المشايخ الأعلام فخر علماء الإسلام الشهير
البركة في الأنام أبي عبد الله محمد بن أبي الحسن الصديقي أبقاكما الله وأرواحكما
تتعطر برياحين الإنس في حضرة القدس وتتنسم النفحات الهابة من رياض المشاهدة إلى
مدارج الإنس ومعارج النفس وسلام عليكما ورحمة الله تعالى وبركاته
وبعد حمد الله مفيض أنوار عناية أحمد على صاحبه الصديق مظهر كنوز المعارف الربانية
جيلا بعد جيل من بيت عتيق و صلى الله عليه وسلم الذي اختار لمرافقته صاحبه في
الغار والعريش والطريق والرضا عن آله أئمة الخلق وسيوف الحق وأصحابه الذين فاضت
أنوار هدايتهم على الغرب والشرق وببركتهم انتسق لنا الفتح انتساق الأسلاك وبفضلهم
يعلو سعدنا على الكفر علو القطب على دائرة الأفلاك فكتبنا هذا إليكم من حضرتنا
مراكش حاطها الله وصنع الله لها مفعم السجال وواسع المجال
____________________
وعزمتها الماضية تبعث إلى
العدا رسل الأوجال والأيام بعز صولتها ويمن دولتها بهذه المغارب باسمة الثغور
مؤذنة باتصال أمرها العزيز بحول الله إلى أن تطوى ملاءة الدهر هذا وأنه اتصل بعلي
مقامنا كتابكما الذي صدحت على أفنان البلاغة سواجعه وعذبت في موارد المحبة
الصديقية مناهله ومشارعه ولطفت في كل معنى من المعاني أفانينه ومنازعه وتألفت على
الإجادة في كل مقصد من المقاصد مواصله العذبة ومقاطعه وأينعت بأزهار العناية
الربانية أباطحه الفيح وأجارعه ومعه المنظومات التي سحت بالحكم ديمها ورسا في
البلاغة قدمها وربا في منبت المواهب الربانية يراعها الفصيح وقلمها وحل من نفوسنا
موقعها العجيب محلا من دونه الثريا في مطلعها والبدر ليلة تمامه إعجابا بها
وتنويها بمهديها وابتهاجا بالخوارق التي أطلق الله على لسان مبديها وإلى هذا فليحط
علمكما بأن مقامنا تنفق فيه على الدوام إن شاء الله نفائس بضائعكم وتنمو فيه مع
الأيام سعود مطالعكم وتسمو فيه على كل مقام مقاماتكم وتستوضح فيه على المحبة
الصميمة أماراتكم الواضحة وعلاماتكم فعلى هذا تنعقد منكم الخناصر وتشتد الأواخي
والأواصر بعز الله ومنه ثم مما نستطرد لكم ذكره على جهة البشرى وإهداء المسرة
الكبرى إعلامكم أن عدو الدين طاغية قشتالة الذي هو اليوم العدو الكبير للإسلام
وعميد ملل التثليث وعبدة الأصنام لما انس من تلقاء جنابنا نار العزم تلتهب منا
التهابا وبحر الاحتفال تضطرب أمواجه الزاخرة بكل عدد وعدة اضطرابا وهممنا قد همت
بتجديد الأسطول والاستكثار من المراكب المتكفلة للجهاد إن شاء الله بقضاء كل دين
ممطول وعلم أن الحديث إليه يساق وإلى أرضه بالخسف والتدمير بحول الله يهفو كل لواء
خفاق رام خذله الله مكافاتنا على ذلك بما أمل أن يفت به في عضدنا الأقوى وعزمنا
الذي بعناية الله يزداد ويقوى فرمى بمخذول من أبناء أخينا عبد الله كان ربى لديه
وطوحت به الطوائح منذ ثمانية عشر عاما إليه إلى مليلية إحدى الثغور المصاقبة لغرب
ممالكنا الشريفة التي إلى كفالة ولدنا وولي عهدنا كافل الأمة من بعدنا الأمير
الأجل الأرضى صارم العزم
____________________
المنتضى وحسام الدين الأمضى
أبي عبد الله محمد الشيخ المأمون بالله وصل الله لرايته التأييد والظهور والعز
الذي يستخدم الأيام والدهور فالتف عليه من اغتر بأباطيله الواهية البناء من أوباش
العامة والغوغاء ومن قضى له من أجناد تلك الناحية بالشقاء جموع تكاثر الرمل وتفوت
الحصا والنمل لاح بها للشقي خلب بارق أكذبته أمنيته إذ صدقته منيته فصمم نحوه
ولدنا أعزه الله بجنود الله التي إليه وبعساكر تلك الممالك التي ألقينا زمام
تدبيرها في يديه فما راع الشقي إلا انقضاضه عليه من الجو انقضاض الأجدل وتصميمه
إليه بعزائم تدك الطود وتفلق الصخر والجندل فاستولى عليه بحمد الله للحين وعلى
جموعه الأشقياء في يوم أغر محجل وساعة أنزل الله فيها على الخوارج المارقين العذاب
المعجل فاستأصلتهم الشفار وحصدت هشيمهم المصوح ألسنة النار وقبض على الشقي في يوم
كان شفاء للصدور ومنتزها لحملة السيوف وربات الخدور وأحرز الله تعالى فخر هذا
الفتح العظيم والمن الجسيم لولدنا أعزه الله عز وجل في خاصة أجناده ونهض وحده
بأعبائه ونحن على سرير ملكنا وادعون مطمئنون وأجنادنا في أوطارنا لاهون ومفتنون
فلم يحتج إلى أنجاده من قبلنا ولا إمداده والعاقبة للمتقين والحمد لله حمد
الشاكرين وعرفناكم لتأخذوا بحظكم من السرور بهذه البشرى التي سرت الإسلام وساءت
بحمد الله عبدة الأوثان والأصنام وتعلموا مع ذلك ما عليه الأحوال اليوم بحول الله
لدينا من خفق رايات العزم وشحذ آراء الجزم وأعمال عوامل الجزم إلى مجازاة عدو
الدين إن شاء الله على فعلته التي عادت عليه أسفا ولهفا وإعادة ما كان أسلف من ذلك
إن شاء الله بالمكيال الأوفى وقدمنا إليكم التعريف لتمدونا إن شاء الله بأدعيتكم
الصالحة في أوقات الإجابة وتحرصوا على التماسها هنالك وبالحرمين الشريفين من كل ذي
خضوع وإنابة أن يؤيدنا الله على عدو الدين بفضله وينجز لنا وعده الصادق في إظهار
دين الحق على الدين كله ويسهل علينا بفضله ومعونته أسباب فتح الأندلس وتجديد رسوم
الإيمان بها وإحياء أطلاله الدرس حتى ينطق لسان الدين في أرضها بكلمة
____________________
الله التي طالما سكت عنها
نداؤه وخرس وشرق بريقه فغص وخنس فبيده الحول والقوة وعنايته العناية المرجوة ثم
نوصيكم بحسن الوقوف مع أصحابنا فيما يشترى من الكتب العلمية برسم خزانتنا الكريمة
الإمامية العلية ثم الإتحاف بديوان الشيخ والدكم التماسا لجميل بركاته وتمسكا بما
سبق من الإجازة العامة في سائر منظوماته وموضوعاته ومروياته وهذا موجبه إليكم
والسلام الأتم معاد عليكم ورحمه الله وبركاته في ربيع النبوي سنة خمس وألف اه وهذه
الرسالة من إملاء المنصور على ما قيل
ومما كتب به أيضا بخط يده إلى سلطان مكة والمدينة والحجاز الشريف أبي المحاسن حسن
بن أبي نمي بن بركات ما نصه
من عبد الله المجاهد في سبيله الإمام المنصور بالله أحمد أمير المؤمنين ابن أمير
المؤمنين الشريف الحسني إلى الأصالة التي تبحبحت من ذؤابة هاشم في صميمها وتوغلت
من غرفات حرمة الله بين زمزمها وحطيمها وتمتعت من عرارة نجد بانتشاق نفحاتها
الأريجة وشميمها أصالة السلطان الأثيل الأثير الأسنى الأسمى الأزكى السلطان حسن بن
أبي نمي أبقاكم الله والبيت ذو الأستار تتفيؤون ظلاله وتلثمون من الحجر الأسود
الأسعد خاله وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد حمد الله الذي أعز هذه المثابة العلوية الإمامية النبوية العزيزة الأنصار
السامية المحتد والنجار الساحبة أذيال عزها الوريف الظلال على أهل البيت السامي
المقدار سكان الحمى والذين تبوءوا الدار و صلى الله عليه وسلم الذي أطلع شموس
الهداية الساطعة الأنوار والرضا عن آله الذين تتضاءل لمجدهم السامي المنار الشموس
والأقمار وعن أصحابه الذين استأصلوا شأفة الكفر بمواضي الشفار وصلة الدعاء لهذا
المقام العلي الإمامي المنصوري الحسني بنصر تجني الفتوح من قضب رماحه وتجري
الأقدار على وفق اقتراحه فكتابنا هذا إليكم من حضرة مراكش حاطها الله ووسع لها
المجال في ميادين السجال والأيام بعز صولتها ويمن دولتها بهذه المغارب باسمة
الثغور مؤذنة باتصال أمرها العزيز بحول الله إلى أن تطوى
____________________
ملاءة الدهور بعز الله وعنايته
هذا وإن شيخ الركب المغربي وهو المرابط الخير الحاج محمد بن عبد القادر لما أزمع
إلى المعاهد الشريفة الرحيل لتجديد رسم الطاعة الذي ليس بعاف ولا محيل وهب له من
محارم الله نسيم يميل وآن للمطايا أن تعمل الوخد والذميل مد إلى علي مقامنا أكف
الرغبة في كتاب كريم يتشرف بحمله ويتعرف منه السعادة بحول الله في مرتحله وحله
يتضمن الإيصاء به إليكم في المورد والمصدر ومدة مقامه من جواركم بحرم الله تجاه
البيت والمشعر فحملناه هذه العجالة لترعوا له إن شاء الله عنها الحق المعتبر
وتولوه من جانبكم بما يصدق به الخبر وتدنوا له من آماله قطوف كل فنن مهتصر ومما
نكلفكم النهوض لأجل حقوق الأخوة بأعبائه ونطالبكم لوشائج الرحم بالاعتناء بأدائه
التماس الدعاء مع الأحيان تجاه البيت الحرام وعند الملتزم والمقام أن يؤيدنا الله
على عدو الدين بفضله وينجز لنا وعده الصادق في إظهار دينه على الدين كله ويسهل
علينا بفضله ومعونته أسباب فتح الأندلس وتجديد رسوم الإيمان بها وإحياء أطلاله
الدرس حتى ينطق لسان الدين فيها بكلمات الله التي طالما سكت عنها نداؤه وخرس وشرق
بريقه فغص وخنس فذلك دعاء لا يرد لأنه جرى من أهله في محله ومعاد السلام الأثم
عليكم ورحمة الله وبركاته انتهى
وقوله حتى ينطق لسان الدين فيه تورية بابن الخطيب رحمه الله
قال الفشتالي كان ترتيب المنصور في الاحتفال بالمولد النبوي الكريم أنه إذا طلعت
طلائع شهر ربيع الأول صرف الرقاع إلى الفقراء أرباب الذكر على رسم الصوفية
والمؤذنين النعارين في الأسحار فيأتون من كل جهة ويحشرون من سائر حواضر المغرب ثم
يأمر الشماعين بتطريز الشموع وإتقان صنعتها فيتبارى في ذلك مهرة الشماعين من كل ما
يباري النحل في نسج أشكالها لطفا وإدماجا فيصوغون أنواعا من الشمع التي تحير
النواظر ولا تذبل زهورها النواضر فإذا كان ليلة المولد تهيأ لحملها وزفاف كواعبها
____________________
الصحافون المحترفون بحمل خدور
العرائس عند الزفاف فيتزينون لذلك ويكونون في أجمل شارة وأحسن منظر ويجتمع الناس
من أطراف المدينة كلها لرؤيتها فيمكثون إلى حين يسكن حر الظهيرة وتجنح الشمس
للغروب فيخرجون بها على رؤوسهم كالعذارى يرفلن في حلل الحسن وهي عدد كثير كالنحل
فيتسابق الناس لرؤيتها وتمتد لها الأعناق وتبرز ذوات الخدور ويتبعها الأطبال
والأبواق وأصحاب المعازف والملاهي حتى تستوي على منصات معدة لها بالإيوان الشريف
فتصطف هنالك فإذا طلع الفجر خرج السلطان فصلى بالناس وقعد على أريكته وعليه حلة
البياض شعار الدولة وأمامه تلك الشموع المختلفة الألوان من بيض كالدمى وحمر جليت
في ملابس أرجوان وخضر سندسية واستحضر من أنواع الحسك والمباخر ما يلهي المحزون
ويدهش الناظر ثم دخل الناس أفواجا على طبقاتهم فإذا استقر بهم المجلس تقدم الواعظ
فسرد جملة من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وذكر مولده ورضاعه وما وقع
في ذلك باختصار فإذا فرغ اندفع القوم في الأشعار المولديات فإذا فرغوا تقدم أهل
الذكر المزمزمون بكلام الششتري وأشعار الصوفية ويتخلل ذلك نوبة المنشدين للبيتين
فإذا فرغوا من ذلك كله قام شعراء الدولة فيتقدم قاضي الجماعة الشاطبي بلبل منابر
الجمع والأعياد فينشد قصيدة يفتتحها بالتغزل والنسيب فإذا تم تخلص لمدح النبي صلى
الله عليه وسلم ثم يختم بمدح المنصور والدعاء له ولولي عهده فإذا قضى نشيده تقدم
الإمام المفتي المولى أبو مالك عبد الواحد الشريف فينشد قصيدته على ذلك المنوال
فإذا فرغ تلاه الوزير أبو الحسن علي بن منصور الشيظمي ثم تلاه الكاتب أبو فارس عبد
العزيز الفشتالي ويليه الكاتب محمد بن علي الفشتالي ويليه الأديب محمد بن علي
الهوزالي النابغة ويليه الأديب الفقيه أبو الحسن علي بن أحمد المسفيوي فإذا طوى
بساط القصائد نشر خوان الأطعمة والموائد فيبدأ بالأعيان على مراتبهم ثم يؤذن
للمساكين فيدخلون جملة فإذا انقضت أيام المولد الشريف برزت صلات الشعراء على
أقدارهم هكذا كان دأبه في جميع الموالد ولا يحصى ما يفرغ فيه من أنواع الإحسان
____________________
على الناس اه من كتاب مناهل
الصفاء
وقال صاحب النفحة المسكية في السفارة التركية وهو العلامة المشارك أبو الحسن علي
بن محمد التامجروتي حضرت المولد الشريف بعد القفول من بلاد الترك فاستدعى المنصور
الناس لإيوانه السعيد واستدخلهم لقصره البديع المشيد المحتوي على قباب متقابلة
عالية وقد مد فيها من فرش الحرير وصفت النمارق وتدلت الأستار والكلل والحجال
المخوصة بالذهب على كل باب قبة وحنية سرير ودار على الحيطان حائطيات الحرير التي
هي كأزهار الخمائل ما رئيت قط في عهد الأوائل وتلك القباب مرفوعة الجوانب على
قواعد وأساطين من رخام مجزع مطلية الرؤوس بالذهب الذائب مفروش جلها بالمرمر الأبيض
مخططا بالسواد يتخلل ذلك ماء عذب فيدخل الناس على طبقاتهم ويأخذ كل مرتبته من قضاة
وعلماء وصلحاء ووزراء وقواد وكتاب وأصناف الأجناد فيخيل لكل منهم أنه في جنة
النعيم والسلطان جالس في فاخر ملابسه تعلوه الهيبة والوقار وترمقه الأبصار
بالتعظيم والإكبار ويجلس من عادته الجلوس ويقف على رأس السلطان الوصفان والعلوج
وعليهم الأقبية المخوصة والمناطق المرصعة والحزم المذهبة مما يدهش الناظر وركز
أمامهم الشمع الملون وأذن لعامة الناس فدخلوا من أصناف القبائل على أجناسها من
الأجناد والطلبة وسكنت بعد حين الجلبة وأوتي بأنواع الطعام في القصاع المالقية
والبلنسية المذهبة والأواني التركية والهندية وأوتي بالطسوس والأباريق وصب الماء
على أيدي الناس ونصبت مباخر العنبر والعود وأبرزت صحائف الفضة والذهب وأغصان
الريحان الغض فرش بها البساط ورش من ماء الورد والزهر وأنشدوا قصائد وتكلم
المنشدون وأحسن إليهم السلطان ثم ختموا المجلس بالدعاء للأمير وإذا كان يوم السابع
يكون ترتيب أبدع من الأول وهذه سيرته دائما اه
وهكذا كانت سيرته في شهر رمضان عند ختم صحيح البخاري وذلك أنه كان إذا دخل رمضان
سرد القاضي وأعيان الفقهاء كل يوم سفرا من نسخة
____________________
البخاري وهي عندهم مجزأة على
خمسة وثلاثين سفرا في كل يوم سفرا إلا يوم العيد وتاليه فإذا كان يوم سابع العيد
ختم فيه صحيح البخاري وتهيأ له السلطان أحسن تهيؤ إلا أن العادة الجارية عندهم في
ذلك أن القاضي يتولى السرد بنفسه فيسرد نحو الورقتين من أول السفر ويتفاوض مع
الحاضرين في المسائل ويلقى من ظهر له بحث أو توجيه ما ظهر له ولا يزالون في المذاكرة
فإذا تعالى النهار ختم المجلس وذهب القاضي بالسفر فيكمله سردا في بيته ومن الغد
يبتدئ سفرا آخر وهكذا والسلطان في جميع ذلك جالس قريب من حاشية الحلقة قد عين
لجلوسه موضع
قال الفشتالي وكان المنصور يعطي أموال لذوي الحاجات عند انقضاء رمضان ويقيم
مهرجانا يوم عاشوراء لختان أولاد الضعفاء وكل من ختن منهم أعطي أذرعا من كتان وحصة
من الدرهم وسهما من اللحم اه
وأما ترتيب جيش المنصور وعادته في أسفاره فسنذكرها في الفصل بعد هذا إن شاء الله
ولنذكر بعض القصائد الميلادية التي أنشدت بمجالس المنصور حسبما تقدمت الإشارة إليه
فمن ذلك قول القاضي أبي القاسم بن على الشاطبي رحمه الله
( ما بال طيفك لا يزور لماما ** وبمنحنى الأحشا ضربت خياما )
( أيعيش فيك عواذلي لسلوهم ** وأموت فيك صبابة وغراما )
( وتبيح نهرك سائلا من أدمعي ** أو ليس نهر السائلين حراما )
( ما ذقت ماء لماك في سنة الكرى ** إلا انتبهت فكان لي أحلاما )
( عرض إذا حدثت عن بان الحمى ** فحديث قلبي بالأوجاع هاما )
( أروى حديث الرقمتين مسلسلا ** عن دمع باكية الغمام سجاما )
( وتلق من جيب النسيم تحية ** أضحى الهوى بردا لها وسلاما )
( يا جيرة العلمين دعوة شيق ** للذيذ عيش بالغضا لو داما )
( فخذوا بجرعاء الحمى قلبي فقد ** ألف الإقامة بالحمى فأقاما )
( وخذوا بثار أهل نجدانهم ** سلبوا الفؤاد وأدنفوا الأجساما )
( في كل غرب دموع عيني مشرق ** لكواكب فيها أثرن ظلاما )
____________________
( صليت بنار الشوق ثم رثت إلى ** إنسانها في لجة قد عاما )
( وتسلسلت عبراتها شوقا لمن ** وقفت عليه صلاتها وسلاما )
( خير الأنام محمد الهادي الذي ** أردى الضلال وجب منه سناما )
( كنز العوالم سر طينة آدم ** ولحفظ ذاك السر جاء ختاما )
( وأجل أرسال الإله ومن به ** قد لاذ يونس حين خاض ظلاما )
( وتقاصرت عن فرده أعدادهم ** فلذا تقدم في الحساب إماما )
( أسرى إلى السبع الطباق فأقبلت ** زمر الملائك وفده إعظاما )
( في ليلة غصت بأملاك السما ** فتسير خلف ركابه وإماما )
( يا خير من بهر المعاند شأنه ** عجزا فغص بريقه إفحاما )
( أعيى جلالك أن يحيط بوصفه ** وصف البليغ وأخرس الأقلاما )
( صلى عليك الله ما زار الحيا ** روضا ففتح زهره الأكماما )
( ما لذتي في مدح غير مخلصا ** إلا بمدحي من بينك إماما )
( خير الورى وإمامها المنصور من ** في ظل دولته الأنام أناما )
( أضفى على الأرضين ظل مهابة ** فحمى بها حام العباد وساما )
( وسما على الدنيا عقاب تنوفة ** فانقض يفترس الأسود بهاما )
( قل للملوك هبوا لمالككم فدى ** وخذوا لأنفسكم لديه ذماما )
( هذا الذي يحيى البلاد بعدله ** ويعيدها نشرا وكن رماما )
( هذا الذي وعد الإله بأنه ** يطوي البلاد ويفتح الأهراما )
( يا مشبه المهدي في آرائه ** حزما وفي عزماته إقداما )
( أنت الذي ببنيه أبناء العلا ** أرسى البلاد ووطد الإسلاما )
( فكأنها من حولك الأشبال في ** غاب الوشيج تبوأت آجاما )
( وأمينها المأمون عضب سمامها ** علم أناف على الهضاب سناما )
( وأجل مضطلع تخيره الورى ** بعد الإمام فقدموه إماما )
( وحباه أحمد عهد أمة أحمد ** فوفى فكان لرعيه المعتاما )
( لا يعدون النصر سيفك أنه ** سيف يحوط الدين والإسلاما )
( خذها ينم على العبير مديحها ** ويفض عن مسك الختام ختاما )
وقال العلامة مفتي الحضرة أبو مالك المولى عبد الواحد بن أحمد
____________________
الشريف الفيلالي
( أرقت وشاقتني البروق اللوامع ** وذكرى خليط هيجتها المرابع )
( مرابع عفتها الروامس والسما ** تراق من الأشواق فيها المدامع )
( كأن لم تكن من قبل قدما أو أهلا ** إذ السلك منظوم وشملي جامع )
( تذكرني عهد الأجازع واللوى ** وأين اللوى مني وأين الأجازع )
( سحبنا بها ذيل الصبابة برهة ** وجفن الردى عنا وحاشاك هاجع )
( وقفت بها بالبزل والليل دامس ** أنازعها الشكوى بها وتنازع )
( أسائلها عن جيرة بان حيهم ** وضمت هواهم بعد ذاك الأضالع )
( فهل قدموا نحو العقيق صدورهم ** ولاح لهم برق من الغور لامع )
( يخبر عن دار الرسول وقربها ** عراص بها للوحي فاضت ينابع )
( ديار بها حل الحمى سيد الورى ** وهبت على الأشراك منها زعازع )
( عليك صلاة الله يا خير مرسل ** ويا خير من تثني عليه الأصابع )
( فلولاك هذا الكون ما زال معدما ** وأنت الذي يرجوه عاص وطائع )
( لك الفخر في الدارين والموقف الذي ** لأهواله كل النبيين جازع )
( فآدمهم والكل تحت لوائكم ** وليس لنا والله غيرك شافع )
( فجازاك رب العرش ما أنت أهله ** جزاء به يشجي المناوي المخادع )
( وجازى إماما قد نمته إليكم ** أصول وآباء كرام فوارع )
( سميك وابن السبط حقا ومن له ** عوارف في أعناقنا وصنائع )
( فدم للعلا يا ابن الخلائف مفردا ** إليك اشتراؤها وغيرك بائع )
( ودام ولي العهد بعدك صارما ** يخب إلى نيل العلا ويسارع )
( هو الآمن المأمون من كل فتنة ** لفيض الندى من راحتيه يدافع )
( ففيك أقول والنصوص شواهد ** أحاديث صحت ليس فيها منازع )
( بكم رأس هذا القرن جدد ديننا ** وفاضت بحور للعلوم هوامع )
أشار بهذا إلى ما أخرجه أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إن الله
يبعث على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها )
وحمله بعض الأئمة على أن المجدد من الملوك وقيل من العلماء
____________________
وقيل من الأولياء والصواب
الإطلاق
وقال الوزير القائد أبو الحسن علي بن منصور الشيظمي رحمه الله تعالى
( من بعد أهل قبا وأهل كداء ** شوقي يزيد وعز ذاك عزائي )
( ولي الشفاء بقربهم وهم جلا ** ما في الخواطر من صدى وصداء )
( لكنه بعد المزار فأين من ** تلك المعاهد ساكن الحمراء )
( بانوا وهاج الشوق ذكر ربوعهم ** ذات السنا والرند والأضواء )
( وشدا بهم حادي الركاب فكاد أن ** تدع القلوب جسومها بفضاء )
( يا سعد لو أن الزمان مساعدي ** ومجيب داعي البعد بعد ندائي )
( لركبت حرفا كالهلال منافرا ** للهمز إلا في المنادي النائي )
( ولجبت أحياء الفلا وطوبتها ** طي الملا بنجيبة فوداء )
( تختاض في جوف الظلام كأنها ** سري تولج في ضمير حجاء )
( وتخال في لجج السراب سفينة ** تجري القلوع بها بريح رخاء )
( هل أنزلن بها المخصب من منى ** وأزور بعد معاهد الزوراء )
( فأحط عنها الرحل ثم مخيما ** في ظل احمد بغيتي ومنائي )
( وامرغ الخدين ملتثما ترى ** وطئته رجلا خاتم النبئاء )
( محيى الهدى ماحي الضلالة والردا ** بالبيض والخطية السمراء )
( صلى عليه الله ما نسخ السخا ** لؤما وما أجلى الدجا ابن ذكاء )
( وعلى صحابته الكرام وآله ** أكرم بهم من سادة فضلاء )
( أكرم بوارث مجده وعلائه ** سبط الرسالة غرة الأبناء )
( خير الخلائف أحمد المنصور من ** حاز الكمال وشرط كل علاء )
( الصارم الهندي في يمنى الهدى ** والكوكب الوقاد في الظلماء )
( يا أيها الملك الذي بسيوفه ** حاط الهدى وبرأيه الوضاء )
( ذخر الإله لك الفتوح وصانها ** كالزهر في الأكمام والأوعاء )
( لا بد من فتح يروقك واضح ** كالصبح يدرأ في نحور عداء )
( وستملك الحرم الشريف وينتمي ** للوائك المنصور دون مراء )
____________________
( وترى الجهات وقد أتت منقادة ** بظبي بنيك السادة النجباء )
( وتقر عينا بالخليفة منهم ** وزر البرية عدة الأمراء )
( بمحمد المأمون خير من ارتقى ** درج الكمال ودب للعلياء )
( فرع سيحكي أصله ولقد حكى ** بمقاصد قد سددت ودهاء )
وقال الكاتب أبو فارس عبد العزيز بن محمد الفشتالي رحمه الله تعالى
( هم سلبوني الصبر والصبر من شأني ** وهم حرموا من لذة الغمض أجفاني )
( وهم أخفروا في مهجتي ذمم الهوى ** فلم يثنهم عن سفكها حبي الجاني )
( لئن أترعوا من قهوة البين أكؤسي ** فشوقهم أضحى سميري وندماني )
( وإن غادرتني بالعراء حمولهم ** كفى أن قلبي جاهد أثر أظعاني )
( قف العيس واسأل ربعهم أية مضوا ** أللجزع ساروا مدلجين أم البان )
( وهل باكروا بالسفح من جانب اللوا ** ملاعب آرام هناك وغزلان )
( وأين استقلوا هل بهضب تهامة ** أناخوا المطايا أم على كثب نعمان )
( وهل سال في بطن المسيل تشوقا ** نفوس ترامت للحمى قبل جثمان )
( وإذا زجروها بالعشي فهل ثنى ** أزمتها الحادي إلى شعب بوان )
( وهل عرسوا في دير عبدون أم سروا ** يؤم بهم رهبانهم دير نجران )
( سروا والدجى صبغ المطارف فانثنى ** بأحداجهم شتى صفات وألوان )
( وأدلج في الأسحار بيض قبابهم ** فلحن نجوما في معارج كثبان )
( لك الله من ركب يرى الأرض خطوة ** إذا زمها بدنا نواعم أبدان )
( أرحها مطايا قد تمشي بها الهوى ** تمشي الحميا في مفاصل نشوان )
( ويمم بها الوادي المقدس بالحمى ** به الماء صدا والكلا نبت سعدان )
( واهد حلول الحجر منه تحية ** تفاوح عرفا ذاكي الرند والبان )
( لقد نفحت من شيخ يثرب نفحة ** فهاجت مع الأسحار شوقي وأشجاني )
( وفتت منها الشرق في الغرب مسكة ** سحبت بها في أرض دارين أرداني )
( وأذكرني نجدا وطيب عراره ** نسيم الصبا من نحو طيبة حياني )
( أحن إلى تلك المعاهد إنها ** معاهد راحاتي وروحي وريحاني )
____________________
( وأهفو مع الأشواق للوطن الذي ** به صح لي أنسي الهني وسلواني )
( وأصبوا إلى أعلام مكة شائقا ** إذا لاح برق من شمام وشهلان )
( أهيل الحمى ديني على الدهر زورة ** أحث بها شوقا لكم عزمي الواني )
( متى يشتفي جفني القريح بنظرة ** يزج بها في نوركم عين إنساني )
( ومن لي بأن يدنوا لقاكم تعطفا ** ودهري عني دائما عطفه ثاني )
( سقى عهدهم بالخيف عهد تمده ** سوافح دمع من شؤوني هتان )
( وأنعم في شط العقيق أراكة ** بأفيائها ظل المنى والهوى داني )
( وحيا ربوعا بين مروة والصفا ** تحية مشتاق لها الدهر حيران )
( ربوعا بها تتلو الملائكة العلا ** أفانين وحي بين ذكر وقرآن )
( وأول أرض باكرت عرصاتها ** وطرزت البطحا سحائب إيمان )
( وعرس فيها للنبوة موكب ** هو البحر طام فوق هضب وغيطان )
( وأدى بها الروح الأمين رسالة ** أفادت بها البشرى مدائح عنوان )
( هنالك فض ختمها أشرف الورى ** وفخر نزار من معد بن عدنان )
( محمد خير العالمين بأسرها ** وسيد أهل الأرض الإنس والجان )
( ومن بشرت بالبعث من قبل كونه ** نوامس كهان وأخبار رهبان )
( وحكمة هذا الكون لولاه ما سمت ** سماء ولا غاضت طوافح طوفان )
( ولا زخرفت من جنة الخلد أربع ** تسبح فيها أدم حور وولدان )
( ولا طلعت شمس الهدى غب دجية ** تجهم من ديجورها ليل كفران )
( ولا لحقت بالمذنبين شفاعة ** يذود بها عنهم زباني نيران )
( له معجزات أخرست كل جاحد ** وسلت على المرتاب صارم برهان )
( له انشق قرص البدر شقين وارتوى ** بماء همي من كفه كل ظمآن )
( وأنطقت الأوثان نطقا تبرأت ** إلى الله فيه من زخارف ميان )
( دعا سرحة عجما فلبت وأقبلت ** تجر ذيول الزهر ما بين أفنان )
( وضاءت قصور الشام من نوره الذي ** على كل أفق نازح القطر أوداني )
( وقد بهج الأنوار بدعوته التي ** كست أوجه الغبراء بهجة نيسان )
( وأن كتاب الله أعظم آية ** بها افتضح المرتاب وابتأس الشاني )
____________________
( وعدى على شأو البليغ بيانه ** فهيهات منه سجع قس وسحبان )
( نبي الهدى من أطلع الحق أنجما ** محا نورها أسداف إفك وبهتان )
( بعزتها ذل الأكاسرة الألى ** هم سلبوا تيجانها آل ساسان )
( وأحرز للدين الحنيفي بالظبا ** تراث الملوك الصيد من عهد يونان )
( ونقع من سمر القنا السم قيصرا ** فجرعه منه مجاجة ثعبان )
( وأضحت ربوع الكفر والشرك بلقعا ** يناغي الصدا فيهن هاتف شيطان )
( وأصبحت السمحا تروق نضارة ** ووجه الهدى بادي الصباحة للراني )
( أيا خير أهل الأرض بيتا ومحتدا ** وأكرم كل الخلق عجم وعربان )
( فمن للقوافي أن تحيط بوصفكم ** ولو سجلت سبقا مدائح حسان )
( إليك بعثناها أماني أجدبت ** لتسقى بمزن من أياديك هتان )
( أجرني إذا أبدى الحساب جرائمي ** وأنقلت الأوزار كفة ميزاني )
( فأنت الذي لولا وسائل عزه ** لما فتحت أبواب عفو وغفران )
( عليك سلام الله ما هبت الصبا ** وماست على كثبانها ملد قضبان )
( وحمل في جيب الجنوب تحية ** يفوح بمسراها شذا كل تربان )
( إلى العمرين صاحبيك كليهما ** وتلوهما في الفضل صهرك عثمان )
( وحيي عليا عرفها وأريجها ** ووالي على سبطيك أوفر رضوان )
( إليك رسول الله صممت عزمة ** إذا أزمعت فالشحط والقرب سيان )
( وخاطبت مني القلب وهو مقلب ** على جمرة الأشواق فيك فلباني )
( فيا ليت شعري هل أزم قلائصي ** إليك بدارا أو أقلقل كيراني )
( وأطوي أديم الأرض نحوك راحلا ** نواجي المهاري في صحاصح فيعان )
( يرنحها فرط الحنين إلى الحمى ** إذا غرد الحادي بهن وغناني )
( وهل تمحون عني خطايا اقترفتها ** خطى لي في تلك البقاع وأوطان )
( وماذا عسى يثني عناني وإن لي ** بآلك جاها صهوة العز أمطاني )
( إذا صد عن زوارك الباس والعنا ** فجود ابنك المنصور أحمد أغناني )
( عمادي الذي أوطا السماكين أخمصي ** وأوفى على السبع الطباق فأدناني )
( متوج أملاك الزمان وإن سطا ** أحل سيوفا في معاقد تيجاني )
____________________
( وقاري أسود الغاب بالصيد مثلها ** إذا أضرب الخطى من فوق جدران )
( هز بر إذا زرا البلاد زئيره ** تضاءل في أخياسها أسد خفان )
( وإن اطلعت غيم القتام جيوشه ** وارزم في مركومه رعد نيران )
( صببن على أرض العداة صواعقا ** أسلن عليهم بحر خسف ورجفان )
( كتائب لو يعلون رضوى لصدعت ** صفاه الجياد الجرد تعدو بعقبان )
( عديد الحصا من كل أروع معلم ** وكل كمي بالرديني طعان )
( إذا جن ليل الحرب عنهم طلى العدا ** هدتهم إلى أوداجها شهب خرصان )
( من اللاء جرعن العدا غصص الردى ** وعفرن في وجه الثرى وجه بستان )
( وفتحن أقطار البلاد فأصبحت ** تؤدي الخراج الجزل أملاك سودان )
( إمام البرايا من على نجاره ** ومن عترة سادوا الورى آل زيدان )
( دعائم إيمان وأركان سؤدد ** ذووهم قد عرست فوق كيوان )
( هم العلويون الذين وجوههم ** بدور إذا ما احلولكت شهب أزمان )
( وهم آل بيت شيد الله ملكه ** على هضبة العلياء ثابت أركان )
( وفيهم أتى الذكر الحكيم وصرحت ** بفضلهم آيات ذكر وقرآن )
( فروع ابن عم المصطفى ووصيه ** فناهيك من فخرين قربى وقربان )
( ودوحة مجد معشب الروض بالعلا ** يجاد بأمواه الرسالة ريان )
( بمجدهم الأعلى الصريح تشرفت ** معد على العرباء عاد وقحطان )
( أولئك فخري إن فخرت على الورى ** ونافس بيتي في الولا بيت سلمان )
( إذا اقتسم المداح فضل فخارهم ** فقسمي بالمنصور ظاهر رجحان )
( إمام له في جبهة الدهر ميسم ** ومن عزه في مفرق الملك تاجان )
( سما فوق هامات النجوم بهمة ** يحوم بها فوق السموات نسران )
( وأطلع في أفق المعالي خلافة ** عليها وشاح من علاه وسمطان )
( إذا ما احتبى فوق الأسرة وارتدى ** على كبرياء الملك نخوة سلطان )
( توسمت لقمان الحجا وهو ناطق ** وشاهدت كسرى العدل في صدر إيوان )
____________________
( وإن هزه حر الثناء تدفقت ** أنامله عرفا تدفق خلجان )
( أيا ناظر الإسلام شم بارق المنا ** وباكر لروض في ذرا المجد فينان )
( قضى الله في علياك أن تملك الدنا ** وتفتحها ما بين سوس وسودان )
( وإنك تطوي الأرض غير مدافع ** فمن أرض سودان إلى أرض بغدان )
( وتملأها عدلا يرف لواؤه ** على الحرمين أو على رأس غمدان )
( فكم هنأت أرض العراق بك العلا ** ووافت بك البشرى لأطراف عمان )
( فلو شارفت شرق البلاد سيوفكم ** أتاك استلابا تاج كسرى وخاقان )
( ولو نشر الأملاك دهرك أصبحت ** عيالا على علياك أبناء مروان )
( وشايعك السفاح يقتاد طائعا ** برايته السوداء أهل خرسان )
( فما المجد إلا ما رفعت سماكه ** على عمدي سمر الطوال ومران )
( وهاتيك أبكار القوافي جلوتها ** تغازلهن الحور في دار رضوان )
( أتتك أمير المؤمنين كأنها ** لطائم مسك أو خمائل بستان )
( تعاظمن حسنا أن يقال شبيهها ** فرائد در أو قلائد عقيان )
( فلا زلت للدنيا تحوط جهاتها ** وللدين تحميه بملك سليمان )
( ولا زلت بالنصر العزيز مؤزرا ** تقاد لك الأملاك في زي عبدان )
انتهت القصيدة الفريدة
قال في نفح الطيب أخبرني ناظمها أنه أ راد بقوله ونافس بيتي في الولا بيت سلمان
قبيلة سلمان التي منها لسان الدين ابن الخطيب إشارة إلى ولاء الكتابة للخلافة كما
كان لسان الدين رحمه الله وفيه مع ذلك تورية بسلمان الفارسي رضي الله عنه انتهى
وهذه القصيدة على طولها من غرر القصائد ولذا لم يذكر في المنتقى من الأمداح المنصورية
غيرها وقد أثنى عليها في نفح الطيب جدا وتتبع ما قيل في هذا الاحتفال وإقامة
المولد العديم المثال من الأمداح يفضي إلى الطول وفي هذا القدر كفاية وبالله
التوفيق
____________________
ذكر سيرة المنصور في ترتيب
جيوشه وحالات أسفاره
قال الفشتالي كانت السيرة على عهد أبي عبد الله المهدي وولده الغالب بالله وابنه
المتوكل سيرة العرب في الجيش والمأكل والملبس وغير ذلك ولما ولي المعتصم حمل الناس
على السيرة العجمية وجنح إليها في سائر شؤونه لما رأى منها في بلاد الترك حيث كان
بها فكره الناس ذلك وأنفوا منه وقوفا مع العوائد فلما جاء الله بالمنصور ألف بين
سيرتي العرب والعجم واصطفى من العجم موالي رباهم بنعمته وأشملهم درور إحسانه منهم
مصطفى باي ومعناه بلغة الترك قائد القواد ويختص به قائد الإصباحية وكان برسم حراسة
الباب العالي ومنهم الباشا محمود وهو صاحب خزائن الدار بيده مفاتيح بيوت الأموال
ومنهم القائد علوج قائد جيش العلوج والباشا جؤذر فاتح السودان وهو قائد جيش
الأندلس وكان لأهل الأندلس جيش عظيم رماة وعمار قائد جيش السوس فهؤلاء أكابر
العلوج وتليهم طائفة أخرى منها بختيار وبغا ثم إن جيش العجم من الأتراك والعلوج
قسمه إلى أقسام منها البياك وهم أهل القلانس الصفرية المذهبة ذوات الأعراف من ريش
النعام الملون يقفون سماطين أمام قبته أو فسطاطه والسلاق أهل القلانس الطويلة
البيض المرسلة على المناكب ويناط بها من أعلى الجباه جعاب صفر مذهبة ويضيفون إليها
وقت الحزام أجنحة طوالا يؤلفونها أيضا من ريش النعام الباقي على أصل خلقته
ويركزونها في الجعاب المنوطة بالقلانس من أعلى الجباه ويرسلونها إلى وراء ويقف
هؤلاء خلف البياك وبلبدروش وهم أهل اللقاقيف وهي رماح قصيرة غليظة العصى مغشاة
بالحديد ومرصعة بالمسامير البيض ركبت عليها أسنة عظام وزجاج هائلة ينبت من ريشتي
كل سنان منها أضلاع مستقيمة ويقف هؤلاء خلف السلاق والشنشرية وهم أهل الطعام وضعا
ورفعا لا غير وقائدهم بختيار من سبي وادي المخازن والقبجية وهم أهل حفظ الأبواب
وغلقها وفتحها وقائدهم مولود المشاوري وطائفة من هؤلاء تحرس ليلا
____________________
وتطوف على مسايف السور المحيط
بالدار ومن وظيفة هؤلاء خدمة الكرسي والسرير اللذين يجلس عليهما السلطان بالإيوان
وتعاهد أنماط الجلوس وكنسها والشواش وهم الذين يتولون ضبط الجيوش في المصاف في حرب
أو سلم وإنهاء الكتب والرسائل للجهات بخير أو شر
قال الفشتالي وهذا مما زادت به دولته على سائر الدول فإذا خرج في يوم عيد أو
ملاقاة أو تهنئة خرجوا متزينين وكل قائد يقف عند مبدأ انبعاث حبل جيشه تحت ألوية
محفوفا بجيش من رؤساء جنده أهل الخيل وهم الذين يدعون عندهم بالبكباشات فاصلا بذلك
بين جيشه وجيش من يردفه خلفه وهكذا يمتد إلى انبعاث الجيش من تلقاء أمير المؤمنين
وكل يعرف مركزه ورتبته لا يتعداه إلى غيره بتقدم أو تأخر ولا يجد السبيل إلى ذلك
لو أراده
قال الفشتالي والترتيب الذي جرى به العمل في عساكر النار أن يتقدم أولا جيش السوس
ثم يردفه جيش شراكة وكل منهما ينقسم حبلين ثم يردفهما العسكران العظيمان عسكر
الموالي من المعلوجي ومن انضاف إليهم وعسكرك الأندلس ومن لبس جلدتهم ودخل في
زمرتهم وهذان يسيران صفين متساويين لاستواء مرتبتهما وعند العطاء تارة يتقدم هؤلاء
وتارة هؤلاء غير أن الموالي يكونون في الميمنة لمزية الولاء وكلاهما يحظى بموالاة
ركاب السلطان ويتقدم قائدهما محمود قائد الموالى وجؤذر قائد الأندلس وترفع على رأس
كل منهما الرايات ويحفه عسكر من بكباشات ثم يتصل بهذين العسكرين الدخلة العظيمة
المؤلفة من البياك والسلاق وبلبدروش فتسير الفرق الثلاث أمام المنصور صفوفا
متساوية فأما البياك فيلون ركابه يحفون به يمينا وشمالا ويرفع بالبعض رماحه
اليزنية المنصوبة أمامه ومنهم صاحب المظل المرفوع على رأسه كالغمامة يحمله حالة
ركوبه أقربهم درجة لقائدهم أبرويز وإذا مشى المنصور إلى جامع المنصور من جهة قبور
الأشراف أو للمشتهى وهو الروض المتصل بقصر البديع على رجليه حمله أبرويز بنفسه ثم
يسير عن يمينهم وشمالهم السلاق ويسير عن
____________________
يمين هؤلاء وشمالهم بلبدروش
أهل اللقاقيف وتتكيف من الجميع صورة تزرع الرعب في القلوب وتسير الجنائب فيما بين
سماطي هذه الدخلة مجنوبة صفا صفا إلى ألوية عساكر النار ومنبعث حبالها الممدودة
يقودها صنف يدعون السراجة ركبانا وكانت جنائب الخلفاء يقودها الرجل من الوزعة وهذا
أكمل مزية وجيش الإصباحية الذي إلى نظر بيلارباي ينقسم كتيبتين عظيمتين تسير
إحداهما ذات اليمين والأخرى ذات الشمال أمام الموكب الذي يرفع اللواء العظيم
الأبيض المدعو باللواء المنصور علامة على شعار الدولة على رأس المنصور يسامته من
خلفه وهناك ألوية كثيرة ذات ألوان مختلفة وأمامه الطبل العظيم الذي يسمع دويه من
مسافة بعيدة ومن خلفه الطبول الأخر معها الغيطات واحدتها غيطة يتولى النفخ فيها
قوم من العجم أساتيذ يتعلمونها فينفخون فيها فتنبعث منها أصوات وتلاحين لا تحرك
الطباع ولا تبعثها على شيء دون الحرب فإنها تشجع الجبان وتقوي جأش الخائف حكمة
فيلسوفية وهناك مزامير أخر وجعاب طوال صفرية على مقدار النفير تسمى الطرنباط مما
أحدثه أيضا في دولته وزادت به دولته فخامة وضخامة ثم يردف هذه الألوية والآلات من
خلف أمير المؤمنين موكبه العظيم فهذا ترتيب جيش المنصور انتهى باختصار من كتاب
مناهل الصفا وليس اتخاذ المظل مما أحدثته الدولة السعدية كما زعم بعضهم بل كان ذلك
موجودا في الدول القديمة شرقا وغربا
قال اليفرني وما ذكره الإمام الفشتالي من توافر أجناد المنصور وتكاثر جيوشه هو
كذلك وقد أولعت العامة في ذلك بأخبار واهية وزعموا أن المنصور خرج مرة إلى الرميلة
بظاهر مراكش ولم تعلم أصحابه بخروجه فحين علموا بخروجه تبعوه خفافا وثقالا فأمر
بعد ما معه هنالك من الجيش فوجد ثمانين ألفا فقال يا سبحان الله قد خاطرنا بأنفسنا
حيث ركبنا في هذا العدد يستقله ولا يخفى ما في هذا الكلام من الإفراط والذي ذكره
الشيخ أبو العباس أحمد أفقاي الأندلسي في كتابه المسمى ب رحلة الشباب إلى لقاء
الأحباب ما معناه قال إن جزيرة الأندلس التي استردادها من أيدي
____________________
الكفار سهل واسترجاعها منهم
قريب لما دخلت مراكش في أيام المنصور وجدت عنده من الخيل نحوا من ستة وعشرين ألفا
فلو تحركت همته لفتحها لاستولى عليها في الحين اه بالمعنى اه كلام اليفرني
وأما بيان حالة المنصور في السفر فقد قال شارح زهرة الشماريخ إن المنصور كان قليل
الأسفار وإنما سافر إلى فاس مرتين لا غير وإنما كان متفرغا للذاته واستيفاء شهواته
مدة خلافته قال اليفرني وبه يعلم أن ما شاع على الألسنة من أنه كان يمكث بفاس ستة
أشهر وبمراكش مثلها ليس بصحيح والله أعلم
وكان المنصور إذا سافر استعد غاية الاستعداد وأحسن في التهيئة ما شاء قال صاحب
النفحة المسكية كان له قصر من عود مسمر بمسامير ومخاطيف وحلق وصفائح مفضضة على
هيئة عظيمة وقد أحدق بذلك كله سرادق كالسور من نسيج الكتان كأنه حديقة بستان
وزخرفة بنيان وفي داخل القصر المذكور القباب الملونة بيضا وسودا وحمرا وخضرا كأنها
أزاهير الرياض قد نقش ذلك أحسن النقش ومليء بأبهى الفرش وللسرادق الذي هو كالسور
أبواب كأنها أبواب القصور المشيدة يدخل منها إلى دهاليز وتعاريج ثم ينتهي منها إلى
القصر الذي فيه القباب وهذا القصر كأنه مدينة تنتقل بانتقاله وهو من الأبهات
الملوكية التي لم يوجد مثلها عند الملوك الماضين اه
ومما يتعلق به ما حكاه أبو فارس الفشتالي في المناهل قال خرج المنصور يوم الاثنين
عاشر شعبان سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة لزيارة أضرحة الصالحين بأغمات قال فتأخرت
وراءه فلحقني المولى عبد الواحد بن أحمد الشريف وأنا في أخريات الناس فأنشده
( أبا فارس بان الخليط وودعوا ** )
فقلت
( وولوا وحسن الصبر مني شيعوا ** )
فقال
( وغرد حادي البين وانشقت العصا ** وكاد فؤادي للنوى يتقطع )
____________________
فقلت
( إلى الله أشكو فرقة منهم وقد ** تجرعت من كأس النوى ما تجرعوا )
ثم زدت
( لئن شرد السلوان عني بعدهم ** ففي صحبة المنصور أنسي أجمع )
ثم قال
( تدور عليه هالة لقبابه ** ومركزها قصر الخلافة يلمع )
فقلت
( سياج به بحر الندى متموج ** ومن أفقه شمس الإمامة تطلع )
وكان المنصور خرج لزيارة أغمات في شارة حسنة فلما بلغ أغمات مكث فيه يومين وفي
الثالث نهض إلى زيارة الإمام أبي عبد الله الهزميري وعاج على ضريح الشيخ سيدي عبد
الجليل ووقف عند الجبانة الكبرى فدعا ما تيسر وفرق أمولا على ذوي الحاجات على يد
القاضي الشابطي والفقيه الأمين أبي الحسن علي بن سليمان الثاملي وكان معه الفقيه
القاضي أبو مالك عبد الواحد بن أحمد الحميدي كان قد استقدمه من فاس برسم القراءة
معه وكان الحميدي لوذعيا خفيف الروح وفي هذه السفرة صدرت منه الأبيات التي تبارى
في معارضتها شعراء الدولة وقد ذكرها في النزهة فلتنظر هنالك
ومما يتعلق بأخبار الحميدي المذكور أن المنصور سافر مرة إلى تارودانت ومعه جماعة
من الأعيان كالقاضي الحميدي وأبي العباس المنجور وغيرهما فخيم المنصور بباب
تارودانت وضرب الناس أخبيتهم فمر رجل عليه أطمار بالية وهيئة رثة ويقال إن هذا
الرجل هو أبو عثمان الهلالي الروداني فوطئ على طنب من أطناب خباء القاضي الحميدي
فصاح القاضي من هذه البقرة التي قوضت على خيمتي متهكما بالرجل فألقى إليه الرجل
قرطاسا فيه أبيات وقال البقرة من لا يجيب عن هذه ونص الأبيات
( إلى بابك العالي مسائل ترتقي ** تفطن لهن يا حميدي واصدق )
( فما الحكم في الأوزاغ هل ساغ أكلها ** وما الحكم في موتى المجانين فانطق )
____________________
( وهل جاز للمسبوق بعد تشهد ** دعاء إذا ما رام إكمال ما بقي )
( وما وزن ليس يا أديب وأصله ** وما جمع قلة لصاع فحقق )
( وما وزنه شمر ولاتن وائتنا ** بجمع سواء والمقيد أطلق )
( وبين لنا من في أعوذ بربنا ** من إبليس والتخمين في الكل فاتق )
فبدا للحميدي ما لم يكن يحتسب وتوقف عن الجواب فرفعت القضية إلى المنصور فاستغربها
وقال هذا رجل من أهل البادية فضح قاضي قضاة الحواضر وأمر المنجور فأجاب عنها يقال
بعد أربع سنين وبعد موت السائل ونص الجواب
( جوابك في الأولى إباحة أكلها ** بمذهبنا فأجزم بذاك وصدق )
( كذا ابن حبيب في الخشاش أباحه ** لمحتاجه مثل العقارب فاسبق )
( وقد قيل في الأوزاغ يحرم أكلها ** وذلك في الكافي ليوسف فاتق )
( ومستقذر يحكي المخالف منعه ** وأنكره التنبيه فافهم ودقق )
( ورجح ما يحكي المخالف بعض من ** له العزو للتحقيق لا للتشدق )
( وميت مجنون جرى خلف حكمه ** بعلم كلام لا تكن غير متق )
( وتحقيقها إن الجنون الذي طرا ** يصير كموت فصل الحق يعبق )
( فآونة بعد البلوغ طروه ** وحينا يرى قبل البلوغ فطبق )
( وآونة إثر الصلاح وقوعه ** وحينا بعصيان الكبيرة يلتقي )
( وحينا يدوم للممات وتارة ** يفيق فخذ حكم الجميع ووثق )
( ويندب للمسبوق دعوى تشهد ** وفاق إمام في المناجاة فارتق )
( وليس له فعل كقال وأصله ** بكسر لياء فاكسر العين ترتق )
( وجمعك صاعا في القليل بأصوع ** وأصؤع بهمز الواو فانهج ونمق )
( وإن شئت فاقلبه فيرجع آصعا ** لضابط تصريف فللعلم شوق )
( وصاع كعام عينه فرع ضمة ** وتحريكه فتح فزنه وحقق )
( وجمع سواء فالذي منه جامد ** يأسوية علم يقاس ففرق )
( ومشتقه وزن الخطايا قياسه ** سواسية ثقل فبالحق فانطق )
( ومقصد من في العوذ بدء لغاية ** فإبليس مبدأ العوذ عند الموفق )
____________________
انتقاض ولي العهد محمد الشيخ
المأمون على أبيه المنصور وما آل إليه أمره في ذلك
كان المأمون كما تقدم ولي عهد أبيه المنصور وكان خليفته على فاس وأعمالها سائر مدة
أبيه وكان للمنصور اعتناء تام به واهتمام بشأنه حتى قيل إن المنصور كان لا يختم
على صندوق من صناديق المال إلا قال جعل الله فتحه على يد الشيخ رجاء أن يقوم
بالأمر بعده فلم يساعد القدر وخرج الأمر كما قال القائل
( ما كل ما يتمنى المرء يدركه ** تجري الرياح بما لا تشتهي السفن )
فأساء المأمون السيرة وأضر بالرعية
قال اليفرني وكان فسيقا خبيث الطوية مولعا بالعبث بالصبيان مدمنا للخمر سفاكا
للدماء غير مكترث بأمور الدين من الصلاة وشرائطها ولما ظهر فساده وبان للناس عواره
نهاه وزير أبيه القائد أبو إسحاق إبراهيم السفياني عن سوء فعله فلم ينته واستمر
على قبح سيرته فأعاد عليه اللوم فلح في مذهبه ولما أكثر عليه من التقريع سقاه السم
فكان فيه حتف القائد المذكور ومما أنكر عليه أنه قبض على كاتب أبيه أبي عبد الله
محمد بن أحمد بن عيسى وهو مؤلف كتاب الممدود والمقصود من سناء السلطان المنصور
ووظف عليه أموالا وابتزه ذخائره حتى كان مما أخذ منه ثمانون حسكة مذهبة ومائة تخت
من الملف المختلف الألوان فلما كثرت قبائحه وترددت الشكايات لأبيه كتب إليه لينكف
عن غيه وينزجر عن خبثه فما زاده التحذير إلا إغراء فلما رأى المنصور أنه لم يكترث
بأمره ولم ينزجر عن قبائحه عزم على التوجه إلى فاس بقصد أن يمكر به ويؤدبه بما
يكون رادعا له فسمع الشيخ بذلك فجمع عساكره وهيأ جنده ودفع المرتب لأصحابه وكان
عدد جيشه فيما قيل اثنين وعشرين ألفا كلهم بكساوى الملف والحرير
____________________
على أحسن شارة وأكمل زي وعزم
أنه إن بلغه خروج أبيه من مراكش أن يتوجه في أصحابه إلى تلمسان ويستجير بالترك
فلما بلغ المنصور ما عزم عليه الشيخ من الذهاب إلى تلمسان تخلف عن الخروج من مراكش
وكتب إلى الشيخ يلاطفه ويأمره أن لا يفعل وولاه سجلماسة ودرعة وتخلى له عن خراجهما
وقال له قد سوغتكه ولا أطالبك فيه ومراده بذلك أن تسكن نفرته ويرجع إليه عقله
فأظهر الشيخ امتثال الأمر وخرج يؤم سجلماسة فما انفصل عن فاس بشيء يسير حتى ندم
ورجع إليها وعاد لما كان عاكفا عليه فبعث إليه المنصور أعيان مراكش وعلمائها
فنصحوه ووعظوه وخوفوه سخط والده وحذروه عاقبة العقوق ولم يألوا جهدا في نصحه
فوجوده مشغول القلب عن نصيحتهم مغمور الذهن بخلاف قولهم إلا أنه أظهر الرجوع عما
كان عازما عليه من الفرار عن أبيه وأقصر في الظاهر عن بعض تلك المساوي فرجع الوفد
إلى المنصور وقالوا له إنه قد تاب وحسنت حاله واطمأنت نفسه وأنه واقف عند الأمر
والنهي فلم يطمئن المنصور لقولهم وقال لهم لعل هذا إطفاء لنار الشحناء وكذب لإصلاح
الباطن وصممم على المكر بالشيخ فكتب إليه كتابا طويلا يلومه فيه على بعض الأشياء
وفي ضمن ذلك تسكين خاطره حتى يبغته على حين غفلة ونص الكتاب
من عبد الله تعالى المجاهد في سبيله الإمام المنصور بالله أمير المؤمنين ابن أمير
المؤمنين أبي عبد الله محمد الشيخ الشريف الحسني أيد الله أوامره وظفر عساكره إلى
ولدنا وولي عهدنا الأمير الأجل الأفضل الأكمل الأعز بابا الشيخ وصل الله كمالكم
وسنى من خير الدارين آمالكم وسلام عليكم ورحمه الله أما بعد فكتابنا هذا إليكم من
حضرة مراكش حاطها الله ولا جديد إلا ما عوده مولانا من الخير لله الحمد وله المنة
هذا والذي أوجبه أسعدكم الله وكلاكم أنه بلغنا أنكم قد استخدمتم هناكم جماعة من
أولاد طلحة كأولاد أخي علي بن محمد وأخي علي بن ملوك وغير هؤلاء وأنك قد فرضت لهم
في أعطياتهم نحو خمسة آلاف وإلى هذا أي مصلحة ظهرت لك في استخدام هؤلاء القوم حتى
تتحمل كلفة فرض هذه الفروض بل ما
____________________
في ذلك إلا الفساد البين لأن
هذا الذي تعرضتم له لا يفي به المغرب ولا يقوم معه بكم شيء ومسألة هؤلاء أولاد
طلحة إن كنت رأيت استخدامنا وأردت تقليدنا في ذلك واقتفاء سيرتنا فيه فاعلم أن
بيننا وبينكم في هذه المسألة فرقا من وجوه منها إن مراكش ليست كفاس وإن خدمتهم هنا
لبعدهم عن بلادهم ليست كخدمتهم هناك وأيضا هؤلاء الناس أنا أعرفهم وكنت في بلادهم
وهذه الخدمة كانوا قد طلبوها مني وأنا هناك فوعدتهم إذ لا يمكنني وأنا ببلادهم إلا
مساعفتهم فلما جاؤوا اليوم وطالبونا بالوعد لم يمكن إلا الوفاء لهم به فعليه شرطنا
عليهم مراكش وسكناها وعلى هذا الشرط استخدمناهم ومع هذه الوجوه كلها والاعتبارات
فقد ندمت والله على استخدامهم غاية الندامة وكنت في ذلك على خطأ إذا كان الأولى إن
كنا حاسناهم وتركناهم في الخدمة وأما أنت ففي مندوحة عن هذا كله لأنه لا وعد لك
سابق حتى يلزمك الوفاء به ويمكنك أن تحيلهم على إذننا ومشورتنا فنكفهم عنك بالشرط
الذي شرطنا عليهم من الخدمة هنا بمراكش وسكناها وعلى هذا الشرط استخدمنا منهم من
استخدمنا وإلى هذا فالذي نؤكد به عليك أن تنقصهم من الخدمة ولا تستخدم منهم حتى
فارسا واحدا أصلا من الذين ذكرنا لك ومن غيرهم من كافة أولاد طلحة وأمرناك أن
تتنصل لهم فينا وتقول لهم إن السلطان منعني من استخدامكم هنا وتقرأ عليهم كتابنا
الواصل إليكم صحبة هذا لتتفادى منهم ولكن الجفاء مع هذا كله لا تظهره بل تحسن
اللقاء بهم وتواليهم بإظهار البشر والقبول وباب الطمع تسده دونهم
والذي شق علينا أعظم من هذا كله واستنكرناه ولم نجد صبرا عليه هو ما وجدناهم قد
اطلعوا عليه أعني أولاد طلحة علي بن محمد وغيره من أحوالكم وأخباركم وألفيناهم قد
توصلوا من ذلك إلى ما لم يتوصل إليه أحد من كبار خدامكم أهل بلادنا وخواص أهل
بساطنا لأن أهل بلادنا أحباء ما لهم بحث إلا في مصالح أنفسهم هؤلاء إنما ينتقدون
ويبحثون عن الغرة وعورات المملكة فإذا بكم تتخذونهم بطانة وأصدقاء وتطالعونهم
بأحوالكم
____________________
وأموركم مع أن القوم لا زالوا
ببلاد العدو وبين أظهرهم وما يطلعون عليه تحتاج تقطع وتجزم بأن الترك قد اطلعوا
عليه حتى كأنهم شاهدوه ووقفوا بأنفسهم عليه وأيضا لو كانوا أصدقاء ولا يريدون بنا
إلا خيرا فالقوم عرب لا يتحفظون على ما يطلعون عليه ولا يفهمون ما يحسن إخفاؤه ولا
إبداؤه ولا يتمالكون قولا ولا نطقا وبالجملة فقد أحرقتنا هذه المسألة وتفطرت لها
أكبادنا وصارت قلوبنا منها مطعونة وما عندكم علم بأن الناس كانوا يتحفظون في أقل
الأمور أن يطلع عليها الأجانب وإن كانوا أحب من كل محب وأقرب من كل قريب وهل ما
عندكم علم بأنا أخانا بابا منصور كان عرض له غرض ضعيف جدا أراد أن يطلبه من أخينا
بابا عبد الله وحضر في المجلس منصور بن المزوار فلم يرد بابا منصور لفطنته أن يذكر
ذلك حتى يشاور من بإزائه لئلا يكون عيب في ذكر ذلك بمحضره فعليه شاور القائد دحو
بن فرج كان بإزائه فقال له هذا رجل براني فلا تطلب شيئا قدامه على أن منصور بن
المزوار هذا كان مع أسلافنا من أقرب ما إليهم من خواص الخدام أهل بساطنا محبة
وقربا لأنه أسلف معهم خدمة عظيمة فقد كان عدوا للترك وبينه وبينهم أرواح وحضر مع
أخينا باب حمو الحران جميع ما كان في تلك البلاد أيام استيلائه على المغرب الأوسط
ثم مع بابا عبد القادر كذلك وشرب معهم الحلوة والمرة ولما جاء من تلمسان جاء
بأولاده منها راحلا كما جاء منها بابا عبد الله بأولاده وكما جاء معهم خدامنا أهل
تلك البلاد وما زال على الخدمة والوفاء حتى حصلت له يد عظيمة مع أسلافنا وناهيك
بمن بلغ إلى أن قلدوه حاضرة تازا ثم بلاد الفحص التي لا تعطى كلتاهما إلا لأقرب
الخدام الموثوق بمحبتهم وخدمتهم وقربهم ومع بلوغه إلى هذا المبلغ كله محبة وصداقة
وهجرة وانقطاعا حتى انه في دخول صالح رئيس مدينة فاس رحل بأولاده مع السلطان إلى
هنا كما فعل أهل هذه البلاد وحين دخلنا نحن من جهة الشرق لفاس رحلوا أيضا مع صاحب
الجبل إلى مراكش ولا يعدوا أنفسهم من هذا الجانب أبدا في الحديث القديم ثم إن
الناس استبعدوا أن يطلبوا أقل المسائل بمحضره وقالوا إنه
____________________
براني فضلا عن هؤلاء الذين ما
زالوا إلى اليوم في بلاد العدو يباكرونه ويراوحونه فإذا بكم تنزلون معهم إلى أن
تطالعوهم على أموركم ويتوصلوا إلى المعرفة بأحوالكم فما تمالكنا لهذه المسألة ولا
وجدنا عليها صبرا ومن جملة الأمور التي غاظتنا وقلنا كيف يتوصل الرجل البراني إلى
أمثال هذه الأمور أن علي بن محمد كان يتكلم يوما معنا وأخذ يثني عليكم في نجدتكم
وصبركم عند الشدة وسخائكم عند الحاجة ثم قال إلا أن الخيل ليست عنده لا في الحركة
الأولى ولا في الثانية لأن القبائل أهل الخيل امتنعوا من الحركة معه وهي التي
غاظتني وقلت كيف يتوصل الرجل البراني إلى أمثال هذه الأمور حتى أننا ما وجدنا إلا
الرد عليه وعكس ما عرفنا أنهم اعتقدوه وقلنا اللهم نسبة التقصير إليكم ولا
اعتقادهم خلو البلاد من الخيل لأننا فهمنا منهم ذلك ولهذا أجبته وقلت له إن ولدنا
لم يعطهم شيئا وأعطى من لا يستحق من ضعفاء القواد المعروفين بأكل المال وعدم
المخزنية ولو أعطى تلك القبائل لحشرها عليه لأن أولاد مطاع عندهم من الخيل نحو
الثلاثة آلاف وعند أولاد أبي عزيز نحو ألف ونصف وعند الغربية وعند أولاد عمران
وعند عبدة وعند الشياظمة وعند أولاد أبي رأس وعند أحمر وعند المنابهة أهل سايس
وعند المنابهة أصحاب عمر بن محمد عبو وجعلت أعدد له قبائل السوس وقبائل مراكش
وأحصي له خيلهم بما بهته وقلت له لو أنصفهم لحرك منهم معه ستة عشر ألفا أو أكثر ويكون
قد ملأ بهم تلك البلاد وسال عليها من سيل العرم لا في الحركة لأولى ولا في الثانية
ولو وجه إليهم المحركين والرماة لأتوه أيضا بلا خلاص وإلى هذا نوصيكم على المحافظة
من أولئك الناس ومن رفع الحجاب لهم عن أموركم والاطلاع على أحوالكم وعدم الغفلة عن
أمثال هذا واعلم أن من جملة ما بلغنا أيضا أن الخلط رجعوا كلهم رماة على يد مصطفى
باشا مع حديث عهدهم بالفساد والخلاف وكنا انتشبنا معهم بالعودات فإذا بهم اليوم
بالمدافع وعدة النار وهل هذا يجوز عليكم حتى تسمحوا فيه مع أن هذه المسائل ليست
بغائبة عنكم سمعتموها بالسماع فقط ولا طويلة عهد حتى
____________________
تنساها بالأمس شاهدت وباشرت
ورأيت فما الذي أنساك فعلهم وما زال جرحهم الآن لم يبرأ لأن خروج القائد مؤمن
الخارج الآن ما كان إلا إليهم والآن نؤكد عليك أن تنقصهم من الخدمة ولا تسمع
لمصطفى في هذه المسألة وقد سمعنا أيضا أن قواد الفساد الذين عندكم من أولاد حسين
قد صارت جملتهم من باب الخميس إلى دار الدبيبغ وكأنكم نسيتم أيضا ما عمل أولاد
حسين بالأمس دون بعد من النهب وأضرموا من الفساد في البلاد حتى ينزلوا تلك المنازل
وإلى هذا فساعة وصله إليكم تقبض على قواد الفساد هؤلاء خصوصا أحمد بن عبد الحق من
أولاد يحيى بن غانم الذي كان أبوه حاجبا عند المريني فهو أصل الفساد ثم لا تترك
لقبائلهم جناحا واحدا وزد للقائد مؤمن بن ملوك ألف رام ليستوفي لكم الغرض في هؤلاء
وأمثالهم من كل ما تأمره به لأن بقاء الرماة هنالك ما فيه إلا الاشتغال بالفساد في
المدينة فتحتاج أن تتولاهم بالقتل كل يوم باطلا فكان خروجهم إذ ذاك دفعا لمضرتهم
وجلبا للمصالح بهم وحتى الكاتب اللائق بأمثالكم ورسائلكم لم يكن عندكم لأن كتبكم
تأتي بخط سالم وهو غير عارف بالإنشاء وتارة بخط الكريني وهو جاهل مع أنك لما كنت
خليفتنا وولي عهدنا كنت بصدد أن يكتب لك كل أحد لا صاحب الجزائر ولا صاحب تونس
وحتى صاحب الترك وصاحب النصارى وكل من يكتب لنا من ملوك الأرض بصدد أن يكتب لك
فتحتاج حينئذ إلى من يحسن الجواب عنك لكل من يكتب إليك ويكون أيضا ممن يوثق به في
المحافظة على أسراركم وإلى هذا فلا بد من تعيين قائد المحلة وحاجب وكاتب سرك وصاحب
مشورك وصاحب المظالم كما هنا هو عندنا السيد علي بن سليمان واعلم أن مما تحتاج أن
ننبهك عليه مسألة القواد الذين يريدون أن يحملوك أثقال أولادهم مثل ما فعلت في
أولاد القائد بركة وإخوتهم الذين استخدمتهم وجعلت لهم خمسمائة أوقية فنؤكد عليك أن
لا تستخدم منهم أحدا فما أعطيناه سلا إلا ليرفع فيها أولاده وإخوته وكذلك
____________________
الحكم في أمثاله ممن أعطيناه
عملا وقلدناه قيادة ومن جملة من نحذرك من استخدامهم في الرماية أهل الجبال من أهل
الصحفة والدينار فلا تستخدموا منهم أحدا وإلا فاعلموا أنكم ما أردتم حينئذ أن
يغرموا لكم ولا يعطوكم شيئا وإن أردتم الخدمة فهاهم أهل هذه البلاد مثل أهل السوس
وأهل درعة وأهل مراكش فكل ما تستخدمون من هؤلاء فلا عليكم وإذا لم يكن من هؤلاء
وكان ولابد من غيرهم فمن أهل فاس سكان الحاضرة وأما من عداهم فلا على أن الرماة
أهل السوس ها هي عندنا كثيرة فكل ما تريد منهم عرفنا نبعثهم إليك ونضيفهم إلى
خدمتك ونؤكد عليك أن تكتب بجواب هذه الأمور كلها فصلا فصلا مع المملوك الحامل لهذا
الكتاب إن شاء الله ولابد ولابد وهذا موجبه إليكم والله يحرس بمنه علاكم والسلام
وفي مهل جمادى الأولى من عام أحد عشر وألف اه
ثم لم يلبث المنصور أن بعث إلى ولده زيدان وكان خليفته على تادلا يأمره أن يرسل
مائة من الفرسان على طريق تاقبلات وكل من وجوده قاصدا للغرب من ناحية مراكش يردونه
وأرسل مولاه مسعود الدوري على طريق سلا يفعل مثل ذلك وخرج المنصور من مراكش في
اثني عشر ألفا أوائل جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وألف وجد السير فلم يمض إلا أيام
قلائل حتى نزل بالدوح موضع قريب من فاس والشيخ في جميع ذلك لا شعور له بخروج أبيه
ولا بما هو عليه فبعث يوما عيونه يرصدون له من قدم من مراكش ويكشفون عن الخبر فما
راعهم إلا الأباطح تسيل بأعناق الجياد وأفواه الشعاب تقذف بالجيوش من بطون الأودية
والوهاد لأنهم كانوا قد عميت عليهم الأنباء بقطع المنصور للسابلة فرجعوا إلى الشيخ
مسرعين والرعب يفت في أعضادهم ويطفئ جذوة عزائمهم فقصوا عليه ما دهمهم وأخبروه بما
رأوا فعلم أنه محاط به فلم يمكنه إلا الفرار فركب من حينه وفر إلى زاوية الشيخ
الصالح أبي الشتاء من بلاد فشتالة قرب نهر ورغة وكان الشيخ أبو الشتاء قد توفي قبل
ذلك سنة سبع وتسعين وتسعمائة كما في
____________________
المرآة فنزل بالزاوية ومعه
بطانته وأصحاب دخلته من الأحداث وقرناء السوء فبلغ خبره المنصور فبعث إليه الباشا
جؤذرا مع القائد منصور النبيلي وحلف لهما بأغلظ الأيمان إن لم يأتياه به ليمكرن
بهما ويجعلهما عبرة فذهبا إليه فامتنع من الدخول في يدهما وانعزل في أصحابه حتى
ناوشوه القتال وتراموا بالنبال ثم قبضوا عليه وأتوا به إلى المنصور في خبر طويل
فأمر به إلى مكناسة فسجن بها
ودخل المنصور دار الملك من حضرة فاس الجديد وشكر الله على ما أولاه من الظفر
والنصر من غير إراقة دم وتصدق في ذلك بأموال عظيمة وكتب بذلك إلى ولده أبي فارس
خليفته على مراكش يعلمه بما كيف الله له من الظفر والنصر ونص الكتاب
إلى ولدنا الأجل الأرضى الأكمل الأسعد الأصعد الأمجد الأسمى الأسنى بابا أبي فارس
وصل الله كمالكم وسنى بمنه آمالكم وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فكتابنا
هذا إليكم أسعدكم الله من محلتنا السعيدة بالمستقى ولا شيء إلا ما جرت به الأقدار
وحكم به الفاعل المختار وما جاء به من عجائب الدهر الليل والنهار وهي قضية أخيكم
التي ثارت إلي بها صروف الدهر من مكمني وطلعت علي من مأمني إلا أن الله تعالى
بصنعه الجميل كفانا أولا ثم شفانا آخرا لله الحمد دائما والشكر واظبا وشرح ذلك
أسعدكم الله ووقاكم السوء إن الحال كان انتهى في معالجة أمره الذي تجاوزنا في وجوه
الخير إليه حد الاستقصا وأتينا في محاولة استصلاحه من أحوال السياسة المرجوة النجح
بما لا يحصى إلى ما كنا سوغناه من ولاية سجلماسة بخراجها وخراج درعة وأبحنا له
التوجه إليها بجملته وجمعه رجاء أن تسكن بالانتباذ إليهما نفرته وتطمئن نفسه ويثوب
إليه قلبه الطائر ويراجعه أنسه الحائر فأظهر أولا التوجه إليهما ونهض مرتحلا عن
فاس موريا بالقدوم عليهما ثم بدا له على الحين فكر راجعا إلى فاس ورجونا أن يكون
قد ذهب عنه النفار والشماس وثاب لنفسه السكون والاستئناس فإذا به قد انطوى برجوعه
على خلاف ما أظهر فأبدى ما أضمر فما كان إلا أن
____________________
طرأ عليه خبر نزولنا بالدوح
فلم يتمالك أن أقلع ليلة الخميس خامس عشر شهر تاريخه إقلاعا أزعجه من الدار فريدا
وطارت به النفرة إلى أن حل بزاوية الشيخ أبي الشتاء وحيدا فتلاحق به من جيش رماته
اليكشارية ومتفرقة سماسرة الفتن وطلائع الشؤم والمحن جمع عظيم وعدد من كثرته لا
يريم فبادرت حينئذ بتجهيز جؤذر باشا من غير إغفال في خمسمائة صبائحية ومعه القائد
مؤمن بن ملوك في خمسمائة فارس ثم أردفناه ببعوث أخر تألبت إليه وتناثلت عليه تناهز
الألفين ورماة بابا زيدان حفظه الله فأحدقت به من كل الجهات وملكوا عليه الفجاج
والثنيات ونحن مع ذلك خلال هذه الأحوال لم نهمل مقابلة نفرته بالتسكين وما يخشن من
أحواله بالتليين بإرسال المرابطين تجاهه بمواثيق تهنيه وعهود تؤنسه وتقرب أمانيه
رجاء أن يثوب إليه ثائب استبصار أو يخطر له خاطر إقلاع عما هو عليه وإقصار وقرناء
السوء المتلاحقون به من جيشه يقدحون للشر نارا ويزينون له عقوقا ونفارا فدهمتهم
حينئذ عساكرنا المظفرة بالله في مصافهم دونه ودارت بين الفريقين حرب عظيمة فخمدت
النار من وقت الظهر إلى العصر فأظهر الله تعالى فئة الحق على فئة الباطل وقضى بما
جرى به القضاء المحتوم الحكم العادل وكتبناه إليكم وقد حصل في القبضة كما سبق به
القضاء والقدر وجعل بمكان الاحتياط عليه من مكناسة فكانت مشيئة الله في ذلك من
إحدى العجائب العبر وعرفناكم أسعدكم الله لتستشعروا صنع الله في هذه الداهية التي
فجئت بها الأيام ودهمت والغاشية التي اعتكرت وادلهمت وتقدروا ما صنع الله في ذلك
من حسن العاقبة حق قدره وتشكروه فهو الجدير بجميل حمد كل لسان وشكره ونسأله تعالى
أن يجعلكم في حيز الكفاية وجانب الوقاية حتى لا تساؤوا بقريب مأمون ولا ببعيد
مظنون وفي ليلة الثلاثاء الموفي عشرين من جمادى الأولى عام أحد عشر وألف اه
ثم إن أم الشيخ واسمها الخيزران بعثت إلى أعيان مراكش الذين قدموا مع المنصور ترغب
إليهم في أن يشفعوا لولدها عند أبيه ويعتذروا عنه بما يزيل ما في باطنه عليه
فتقدموا إلى المنصور وقالوا له إن الشيخ قد
____________________
صلحت حالته وتاب مما كان عازما
عليه وأنه ندم على ما فرط منه فقال لهم اذهبوا إلى مكناسة واختبروا أمره كافيا
وانظروا هل رجع عن أباطيله وتنصل من أضاليله فلما أتوه وجدوه أخبث مما تركوه
وعاينوا منه من القبائح ما يقصر عن وصفه اللسان فلما جلسوا إليه في محبسه لم
يسألهم إلا عن أصحاب بطانته وقرناء السوء من أهل غيه ولم يظهر الأسف إلا على تلك
العصابة ورآهم أهل الإصابة
وكان من الأعيان الذين وجههم المنصور أولا وآخرا أولاد الشيخ أبي عمرو القسطلي
وأولاد الشيخ أبي محمد عبد الله بن ساسي وأولاد الشيخ أبي زكرياء يحيى بن بكار
وغيرهم فلما رجعوا إلى المنصور من مكناسة سألهم عن الخبر فنافق بعضهم وقال وجدناه
تائبا نادما على ما صدر منه وتكلم بعض أولا د الشيخ ابن ساسي فقال لا والله لا
داهنت في حق الله ولا واجهت الأمير بالخديعة إن ولدك لا نأذن لك أن تؤمره على
اثنين ولا تحكمه على عيال الله فإنا وجدناه خبيث الطوية قبيح السريرة لم يندم على
ما فرط منه فسكت الحاضرون ولم يتكلم أحد فقال لهم المنصور افتوني في أمر هذا الولد
فلم يجبه أحد إلا باشاه عبد العزيز بن سعيد الوزكيتي فإنه قال له الرأي أن تقتله
فإنه لا ينجبر أمره ولا يرجى صلاحه وقد رأيت ما صنع فلم يعجب المنصور ذلك وقال كيف
أقتل ولدي ثم بعث إلى مكناسة يأمر بالتضييق على الشيخ والزيادة عليه في ذلك ثم خرج
المنصور فنزل بمحلته في ظهر الزاوية قاصدا مراكش بعد أن استخلف ابنه زيدان على فاس
وأعمالها وقد كان كتب إلى ولده أبي فارس خليفته على مراكش برسالة أجابه فيها عما كتب
به إليه في شأن الوباء الذي ظهر بالسوس ومراكش هل يفر منه أم لا ونصها
من عبد الله تعالى المجاهد في سبيله الإمام الخليفة المنصور بالله أمير المؤمنين
ابن أمير المؤمنين الشريف الحسني أيد الله بعزيز نصره أوامره وظفر عساكره وأسعد
بمنه موارده ومصادره إلى ولدنا الأجل الأفضل الأكمل الأعز الأبر الأسعد الأمجد
الأرضى بابا أبي فارس وصل الله تعالى عنايتكم
____________________
ووالى بمنه رعايتكم وسلام
عليكم ورحمه الله أما بعد فكتابنا هذا إليكم من حضرتنا العالية بالله المدينة
البيضاء حاطها الله عن الخير والعافية ونعم الله المتوافية لله الحمد وله المنة
وأنه اتصل بعلي مقامنا كتابكم الأعز عشية يوم الثلاثاء فكتبنا إليكم صبيحة يوم
الأربعاء ولولا أنه وصل يوم الديوان ما كنا نؤخر كتب الجواب لكم عن ساعة وصوله في
اليوم بنفسه حرصا منا بذلك على المبادرة بوصوله إليكم في الحين وإلى هذا أسعدكم
الله أن أول ما تبادرون به قبل كل شيء هو خروجكم إذا لاح لكم شيء من علامات الوباء
ولو أقل القليل حتى بشخص واحد ويبقى في القصبة وصيفنا مسعود مع القائد محمد بن
موسى بن أبي بكر وتتركوا مائة رام تثقون بها من رماتكم مع أصحاب السقيف وتتكلون
على الله وتخرجون بالسلامة ثم لا تعملوا كعملنا في الاقتصار على الرميلة والتقلب
بها بل لا تزيدوا إذا خرجتم على المقام أكثر من يومين ثم اطووا المراحل إلى أن
تنزلوا بسلا وتدخلوها دخول هناء وعافية إن شاء الله وهناك يكون لقاؤنا بكم لقاء
يمن وسعادة إن شاء الله ثم لا تغفلوا عن استعمال الترياق أسعدكم الله فلازموه وإذا
استشعرتم منه حرارة وتخوفتموها فاستعملوا من الوزن الوصف المعروف منه ولا تهملوه
وأما ولدك حفظه الله فلما كان من سن الشبيبة بحيث منعه الحال من المداومة على
الترياق فها هي الشربة المعروفة النافعة لذلك قد تركناها كثيرة هناكم عند التونسي
فيكون يستعملها هو والأبناء الصغار المحفوظون بالله حتى إذا أحس ببرد المعدة من
أجلها تعطوه الترياق المرة والمرتين على قدر الحاجة فيعود إليها والله تعالى بمنه
وبحرمة صفوة خلقه خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم يتولى حمايتكم جميعا ويحلكم
من جميل كلاءته ورعايته حصنا منيعا وأن يعافي البلاد والعباد بمنه وفضله والسلعة
أسعدكم الله تبادرون بإرسالها إلينا وكذلك القائد مسعود النبيلي تعزمون بإرساله
إلى حيث أمرناه بالمقام من خنق الوادي بالسوس وطريق تاحظيشت واعلم أسعدكم الله ما
قط أرضانا أن أمرها يتم وقبل عقلنا الكريم إن أهل درن يتجرون بسببها ولكن هذا سبب
يكون حجة عليهم إن شاء الله وأنتم
____________________
تحاولون أسعدكم الله سلوك
الناس على بويباون على العادة وتجهدوا في أن تكون إن شاء الله سابلة وأولائكم أعني
أهل طريق تاحظيشت يسكت عنهم حتى نصل بخير وعافية لتلكم البلاد إن شاء الله ومسألة
أيسي التي كتبت لكم من خنق الوادي على الزرع وأنه ما عندهم ما يكفيهم منه سوى شهر
فلقد كنا كتبنا لكم أسعدكم الله على حمل الزرع إليهم على البحر فإن كان قد تيسر
ذلك فيكون قد بلغ إليهم وإن لم يكن ذلك قد تيسر فلتأمر أيسي هذا بالتدبير على
الزرع ولو بالشراء وألزموه عهدته وشددوا عليه في أمره وخالنا القائد حمو بن محمد
الذي استأذنكم في الخروج عن ذلكم المرض من المحمدية فإذا تفاحش فلا عليه في الخروج
ويلتحق بأهل تلك المحلة بخنق الوادي ويترك في القصبة أهل الأندلس مع قائدهم ومسألة
مؤمن بن منصور مع هكسيمة التي ذكرتم أسعدكم الله إن مؤمنا قد تثاقل بدمنات بسبب
مرض ألم به حتى جاء به شاوش وإن أخاه ذلكم المفسود بعث إليه يلتقي معه بتامصلوحت
فعلى بركة الله والحاضر بصيرة وهذا موجبه إليكم والله يصل بمنه رعايتكم والسلام
وفي يوم الأربعاء رابع عشر رمضان المعظم عام أحد عشر وألف عرفنا الله خيره وبركته
وبعد أن كتبنا لكم هذا بلغنا كتابكم ونحن نجيبكم عما تحتاجون إلى الجواب عنه
والبطاقة التي ترد عليكم من السوس من عند الحاكم أو ولد خالكم أو غيرهما لا تقرأ
ولا تدخل دارا بل تعطى لكاتبكم هو يتولى قراءتها ويعرفكم مضمنها ولأجل إن كاتبكم
يدخل مجلسكم ويلابس مقامكم حتى هو لا يفتحها إلا بعد أن تغمس في خل ثقيف وتنشر حتى
تيبس وحينئذ يقرؤها ويعرفكم بمضمنها إذ ليس يأتيكم من السوس والله سبحانه أعلم ما
يوجب الكتمان عن مثل كتابكم وقد طالعنا كتاب ولد خالكم أحمد بن محمد بن الصغير وصح
عندنا من فحوى كلامه ما ذكرتم عنه من أنه أكثر من خبر الوباء ليجده ذريعة للخروج
من السوس
____________________
والذي تأمرونه به أنكم تحذرونه
من القدوم عليكم بمراكش وإن ذلك لا يرضينا منه وكيف يروم الخروج من موضع عيناه له
من غير أمرنا لا سيما مع غيبتنا عن البلاد وأنه إن فعل ذلك لا محالة تسقط منزلته
عندنا ثم لا يعود أبدا إليها إلا أن تفاحش المرض بتلكم الناحية فلا عليه في الخروج
والتنقل قرب البلاد أو يلتحق بمحلة أصحابه الذين بخنق الوادي وأما ما ذكرتم عن
محمد بن عبد الرحمن الوردي فقد طالعنا الجريدة التي جرد لكم وتصفحناها ورأينا أن
جل ما يطلبه بها لا يمكن مع غيبتنا والذي نأمركم به في مسألته أنكم تحاولون في رده
لموضعه فإنه بذلك الموضع أليق من أخيه بكثير وكل ما يمكنكم من أغراضه المسطرة
فاقضوه له وما لا يمكن عدوه به عند قدومنا إن شاء الله وأما أمر أخي أحمد بن الحسن
الذي عيناه لجباية درعة وذكرتم أنه غير لائق بها وأنكم استصغرتموه عن تلك العمالة
فلا شك أنه كما ذكرتم ولكن إنما وقع الاختيار عليه لأمرين الأول الذمة لأنه بماله
ولا نخشى إن شاء الله على مالنا الثاني إن خراج درعة سهل معلوم ولعله يكره هذه
الولاية ويحب الجلوس بداره ويغري من يتكلم فيه عندكم فإن كان من ذكره لكم مثل
مسعود أوتاودي فاتهمه وقد طالعنا في جريدتكم أنكم وجهتم مع زرع المعاصر مائة رام
وهذا الذي ذكرتم ما نعلم أنا كتبنا لكم عليه قط وإنما كتبنا لكم على الزرع تحملونه
في البحر برسم المحلة التي هناكم بخنق الوادي فإن كان هو هذا فنحن أردناه للمحلة
وإن كان غيره فعرفنا بقضيته فإن زرع المعاصر إنما يلزم اليهود والنصارى المكثرين
للمعاصر وفيها أيضا ما أخبركم به أحمد بن محمد بن موسى بخبر ما سقط من القنطرة
وإنكم عنفتموه على عدم المبادرة وقد أشكل علينا الأمر لأنكم لم تعرفوا مقامنا
بالساقط هل هو من القديم أو من هذا الإصلاح الذي أمرنا به فعرفنا لنكون على بصيرة
من ذلك وفيها أيضا مسألة أولاد طلحة فدبروا عليهم إما من عند أيسي أو غيره حتى لا
يرجعون إلينا شاكين وولد إبراهيم بن الحداد إلى الآن لم يصل وزمام الأسرى وصل وأما
الدراقة التي ذكرتم فها السلتة المعدة لها عند صاحب بيت ثيابنا فوجه ليوسف العبد
حتى تكلمه
____________________
ومره يخرجها من عنده وركبها في
موضعها ولا تركب التي عندكم بل تمسكونها لأنفسكم واعلم أني تركت عند أولئك
المعلمين أعني معلمي بركاضو سلاتي برسم ابنتنا العزيزة طاهرة صانها الله وكلاها
وحيث يفرغون من الدراقة اجمعهم عليها كي نجد ذلك طالعا إن شاء الله فإنا قد أمرنا
بنسج درارق تلكم السلاتي هذا والمراد أن تجد السلاتي قد فرغ منها إن شاء الله وقصر
الخيل مع الحمام حرض المعلمين على المبادرة باشتغالهما بهما وحاول أن تسقفوا ذلك البلاط
الذي يوالي سور القصبة من قصر الخيل والقبة التي فيه لنجده كاملا إن شاء الله عند
قدومنا عليكم وحتى سواري الرخام ركبوها في تلك الجهة إذا سقفتم ولا تزالوا تعرفونا
بما تزايد من الأشغال في الموضعين المذكورين وأوصيكم أعزكم الله أن تتفقدوا فرسنا
الأحمر الصغير ولا تتركوهم يعطونه القصيل لئلا يكثر لحمه ويزداد ألمه بل انظر له
من يركبه كل يوم بل لا تنزع السرج بالكلية عن ظهره بياض النهار كله أو أعطوه لصاحب
المسرة يركبه في ذهابه وإيابه لداره والمسرة وأوصوه أن لا يركبه غيره ولا ينزل عن
ظهره النهار كله وأوصيكم أيضا إذا ظهر المرض بتلكم الناحية وخرجتم خروج يمن وسلامة
بحول الله وقوته أن لا تتركوا وراءكم بنت عمكم والدة ولدنا العزيز بابا عبد الملك
حفظه الله وامر يوسف العبد أن يخرج لكم من عند صاحب بيت الثياب القدر المحتاج إليه
من الترياق الجديد الذي كان بقبة المشور ويدخل على أيديكم لدارنا واستدعوا أم
المال قهرمانة الدار وأعطها إياه برسم أهل دارنا وأمرها أن تعطيهم إياه في كل رابع
من اليوم الذي يأكلونه فيه وهي أيضا تأكل منه والعبد يوسف أيضا يأكل منه وحتى صاحب
السقيف أعطوه منه أعني مسعود بن مبارك والله سبحانه يرعاكم ويتولى حفظكم أنتم
وأولادكم وقد استودعناكم الله الذي لا تضيع لديه الودائع وأنتم في أمان الله وحفظه
والله سبحانه خليفتي عليكم أنتم في يمين الرحمن وكلتا يديه يمين والسلام الأتم
____________________
عائد عليكم ورحمة الله تعالى
وبركاته ونسلم على ولدنا الأعز الأرضى بابا عبد الملك وعلى ابنتنا الرضية سيدة
الملك ونحن في غاية الاشتياق والتوحش لها جمع الله بكم الشمل جميعا آمين بحرمة
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله خير آل والسلام اه
قال مؤلفه عفا الله عنه قد وقع في كلام المنصور رحمه الله أمران يحتاجان إلى
التنبيه عليهما الأول إذنه لولده أبي فارس في الخروج من مراكش إذا ظهر بها أثر
الوباء ولو شيئا يسيرا وهذا الأمر محظور في الشرع كما هو معلوم ومصرح به في
الأحاديث والثاني أمره إياه أن لا يقرأ البطائق الواردة عليه من السوس وإنما يتولى
قراءتها كاتبه بعد أن تغمس في الحل وهذا عمل من أعمال الفرنج ومن يسلك طريقهم في
تحفظهم من الوباء المسمى عندهم بالكرنتينة وقد اتفق لي فيها كلام أذكره هنا تتميما
للفائدة وذلك أنه لما كانت سنة ست وتسعين ومائتين وألف عرض لنا سفر إلى حضرة
السلطان المولى أبي علي الحسن بن محمد الشريف أيده الله عز وجل بمراكش المحروسة
بالله فخرجنا من سلا أواخر ربيع الأول من السنة المذكورة ومررنا في طريقنا على
المحب القائد الأنبل أبي عبد الله محمد بن إدريس الجراري بثغر الجديدة وهو يومئذ
متول لعملها فأجل قدومنا على عادته حفظه الله في محبة العلم ومن ينتمي إليه وحضر
معنا عنده بعض فقهاء الوقت وكانت السنة سنة وباء فجرت المذاكرة فيما يستعمله
النصارى في أمر الكرنتينة من حبس المسافرين وشذاذ الآفاق عن المرور بالسبل والدخول
إلى الأمصار والقرى ومنع الناس من مرافقهم وأسباب معاشهم وحصل التوقف تلك الساعة
في حكمها الشرعي ماذا يكون لو أجريت على قواعد الفقه ثم بعد ذلك بنحو ثلاثة أشهر
وقفت على رحلة العلامة الشيخ رفاعة الطهطاوي المصري في أخبار باريز فرأيته ذكر في
صدرها أنه وقعت المحاورة بين العلامة الشيخ أبي عبد الله محمد المناعي التونسي
المالكي المدرس بجامع الزيتونة ومفتي الحنفية بها العلامة الشيخ أبي عبد الله محمد
البيرم في إباحة الكرنتينة وحظرها فقال المالكي بحرمتها وألف في ذلك
____________________
رسالة واعتماده في الاستدلال فيها على أن الكرنتينة من جملة الفرار من القضاء وقال الحنفي بإباحتها واستدل على ذلك من الكتاب والسنة أيضا فلما وقفت على هذا الكلام تجدد لي النظر في حكم هذه الكرنتينة وظهر لي أن القول بإباحتها أو حرمتها منظور فيه إلى ما اشتملت عليه من مصلحة ومفسدة ولو مرسلة على ما هو المعروف من مذهب مالك رحمه الله ثم يوازن بينهما وأيتهما رجحت على الأخ