مجلد3.و4.الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى
3. مجلد3.الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى أبو العباس أحمد بن خالد بن محمد الناصري
سنة الولادة 22/ذو الحجة/ 1250هـ /1835م/ سنة الوفاة
فضلا عن سلطان الأندلس أسعده
الله تعالى وعلا بموالاتكم فهو فاضل وابن ملوك أفاضل وحوله أكياس ما فيهم من يجهل
قدركم وقدر سلفكم لا سيما مولاي والدكم الذي أتوسل به إليكم وإليهم فقد كان يتبنى
مولاي أبا الحجاج ويشمله بنظره وصارخه بنفسه وأمده بأمواله ثم صير الله تعالى ملكه
إليكم وأنتم من أنتم ذاتا وقبيلا فقد قرت يا مولاي عين العبد بما رأت في هذا الوطن
المراكشي من وفور حشودكم وكثرة جنودكم وترادف أموالكم وعددكم زادكم الله تعالى من
فضله ولا شك عند عاقل أنكم إن انحلت عروة تأميلكم وأعرضت عن ذلك الوطن الأندلسي
استوت عليه يد عدوه وقد علم تطارحي بين الملوك الكرام الذين خضعت لهم التيجان
وتعلقي بثوب الملك الصالح والد الملوك الكرام مولاي والدكم وشهرة حرمة شالة معروفة
حاش الله أن يضيعها أهل الأندلس وما توسل إليهم قط بها إلا الآن وما يجهلون اغتنام
هذه الفضيلة الغريبة وأملي منكم أن يتعين من بين يديكم خديم بكتاب كريم يتضمن
الشفاعة في رد ما أخذ لي ويخبر بمثواي متراميا على قبر والدكم ويقرر ما ألزمتكم
بسبب هذا الترامي من الضرورة المهمة والوظيفة الكبيرة عليكم وعلى قبيلكم حيث كانوا
وتطلبون منه عادة المكارمة بحل هذه العقدة ومن المعلوم أني لو طلبت بهذه الوسائل
من صلب ما وسعهم بالنظر العقلي إلا حفظ الوجه مع هذا القبيل وهذا الوطن فالحياء
والحشمة يأبيان العذر عن هذا في كل ملة ونحلة وإذا تم هذا الغرض ولا شك في إتمامه
بالله تعالى تقع صدقتكم على القبر الكريم بي وتعينوني لخدمة هذا المولى وزيارته
وتفقده ومدح النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المولد في جواره وبين يديه وهو غريب
مناسب لبركم به إلى أن أحج بيت الله بعناية مقامكم وأعود داعيا مثنيا مستدعيا
للشكر والثناء من أهل المشرق والمغرب وأتعوض من ذمتي بالأندلس ذمة بهذا الرباط
المبارك يرثها ذريتي وقد ساومت في شيء من ذلك منتظرا ثمنه مما يباع بالأندلس
بشفاعتكم ولو ظننت أنهم
____________________
يتوقفون لكم في مثل هذا أو
يتوقع فيه وحشة أو جفاء والله ما طلبته لكنهم أسرى وأفضل وانقطاعي أيضا لوالدكم مما
لا يسع مجدكم إلا عمل ما يليق بكم فيه وها أنا أترقب جوابكم بما لي عندكم من
القبول ويسعني مجدكم في الطلب وخروج الرسول لاقتضاء هذا الغرض والله سبحانه يطلع
من مولاي على ما يليق به والسلام وكتب في الحادي عشر من رجب سنة إحدى وستين
وسبعمائة وفي مدرج الكتاب بعد نثر هذه القصيدة
( مولاي ها أنا في جوار أبيكا ** فابذل من البر المقدر فيكا )
( أسمعه ما يرضيه من تحت الثرى ** والله يسمعك الذي يرضيكا )
( واجعل رضاه إذا نهدت كتيبة ** تهدي إليك النصر أو تهديكا )
( واجبر بجبري قلبه تنل المنا ** وتطالع الفتح المبين وشيكا )
( فهو الذي سن البرور بأمه ** وأبيه فاشرع شرعه لبنيكا )
( وابعث رسولك منذرا ومحذرا ** وبما تؤمل نيله يأتيكا )
( قد هز عزمك كل قطر نازح ** وأخاف مملوكا به ومليكا )
( فإذا سموت إلى مرام شاسع ** فغصونه ثمر المنا تجنيكا )
( ضمنت رجال الله منك مطالبي ** لما جعلتك في الثواب شريكا )
( فلئن كفيت وجوهها في مقصدي ** ورعيتها بركاتها تكفيكا )
( وإذا قضيت حوائجي وأريتني ** أملا فربك ما أردت يريكا )
( واشدد على قولي يدا فهو الذي ** برهانه لا يقبل التشكيكا )
( مولاي ما استأثرت عنك بمهجتي ** إني ومهجتي التي تفديكا )
( لكن رأيت جناب شالة مغنما ** يضفي على العز في ناديكا )
( وفروض حقك لا تفوت فوقتها ** باق إذا استجزيته يجزيكا )
( ووعدتني وتكرر الوعد الذي ** أبت المكارم أن يكون أفيكا )
( أضفى عليك الله ستر عناية ** من كل محذور الطريق يقيكا )
( ببقائك الدنيا تحاط وأهلها ** فالله جل جلاله يبقيكا )
وقال أيضا في الغرض المذكور
____________________
( عن باب والدك الرضي لا أبرح ** يأسو الزمان لأجل ذا أو يجرح )
( ضربت خيامي في حماه فصبيتي ** تجني الحميم به وبهمي بشرح )
( حتى يراعي وجهه في وجهتي ** بعناية تشفي الصدور وتشرح )
( أيسوغ عن مثواه سيري خائبا ** ومنابر الدنيا بذكرك تصدح )
( أنا في حماه وأنت أبصر بالذي ** يرضيه منك فوزن عقلك أرجح )
( في مثلها سيف الحمية ينتضى ** في مثلها زند الحفيظة يقدح )
( وعسى الذي بدأ الجميل يعيده ** وعسى الذي سدا المذاهب يفتح )
فأجابه السلطان أبو سالم رحمه الله بما صورته من عبد الله المستعين بالله إبراهيم
أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في
سبيل رب العالمين أبي الحسن ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين
أبي سعيد ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين يوسف بن يعقوب بن
عبد الحق أيد الله أمره وأعز نصره إلى الشيخ الفقيه الأجل الأسنى الأعز الأحظى
الأوجه الأنوه الصدر الأحفل المصنف البليغ الأعرف الأكمل أبي عبد الله ابن الشيخ
الأجل الأعز الأسنى الوزير الأرفع الأنجد الأصيل الأكمل المرحوم المبرور أبي محمد
بن الخطيب وصل الله عزته ووالى رفعته سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد حمد
الله تعالى و صلى الله عليه وسلم والرضا على آله وصحبه أعلام الإسلام وأئمة الرشد
والهدى وصلة الدعاء لهذا الأمر العلي العزيز المنصور المستعيني بالنصر الأعز
والفتح الأسنى فإنا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لكم بلوغ الأمر ونجح القول والعمل
من منزلنا الأسعد بضفة وادي ملوية يمنه الله وصنع الله جميل ومنه جزيل والحمد لله
ولكم عندنا المكانة الواضحة الدلائل والعناية المتكفلة برعي الوسائل ذلك بما
تميزتم به من التمسك بالجناب العلي المولوي العلوي جدد الله تعالى عليه ملابس
غفرانه وسقاه غيوث رحمته وحنانه وبما أهديتم إلينا من التقرب لدينا بخدمة ثراه
الطاهر والاشتمال بمطارف حرمته السامية المظاهر وإلى هذا وصل الله حظوتكم
____________________
ووالى رفعتكم فإنه ورد علينا خطابكم
الحسن عندنا قصده المقابل بالإسعاف المستعذب ورده فوقفنا على ما نصه واستوفينا ما
شرحه وقصه فآثرنا حسن تلطفكم في التوسل بأكبر الوسائل إلينا ورعينا أكمل الرعاية
حق ذلكم الجناب العزيز علينا وفي الحين عينا لكمال مطلبكم وتمام مأربكم والتوجه
بخطابنا في حقكم والاعتمال بوفقكم خديمينا أبا البقاء بن تاشكورت وأبا زكرياء بن
فرقاجة أنجدهما الله وتولاهما وأمس تاريخه انفصلا مودعين إلى الغرض المعلوم بعد
التأكيد عليهما فيه وشرح العمل الذي يوفيه فكونوا على علم من ذلكم وابسطوا له جملة
آمالكم وإنا لنرجو ثواب الله في جبر أحوالكم وبرء اعتلالكم والله سبحانه يصل
مبرتكم ويتولى تكرمتكم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته كتب في الرابع
والعشرين من رجب سنة إحدى وستين فراجعه ابن الخطيب بما نصه مولاي خليفة الله بحق
وكبير ملوك الأرض عن حجة ومعدن الشفقة والحكمة ببرهان وحكمة أبقاكم الله تعالى على
الدرجة في المنعمين وافري الحظ عند جزاء المحسنين وأراكم ثمرة بر أبيكم في البنين
وصنع لكم في عدوكم الصنع الذي لا يقف عند معتاد وأذاق العذاب الأليم من أراد في
مثابتكم بإلحاد عبدكم الذي ملكتم رقه وآويتم غربته وسترتم أهله وولده وأسنيتم رزقه
وجبرتم قلبه ويقبل موطئ الأخمص الكريم من رجلكم الطاهرة المستوجبة بفضل الله تعالى
لموقف النصر الفارغة هضبة العز المعملة الخطوة في مجال السعد ومسير الحظ ابن
الخطيب من شالة التي تأكد بملككم الرضى احترامها وتجدد برعيتكم عهدها واستبشر
بملككم دفينها وأشرق بحسناتكم نورها وقد ورد على العبد الجواب المولوي البر الرحيم
المنعم المحسن بما يليق بالملك الأصيل والقدر الرفيع والهمة السامية والعزة
القعساء من رعي الدخيل والنصرة للذمام والاهتزاز لبر الأب الكريم فثاب الرجاء
وانبعث الأمل وقوي العضد وزار اللطف فالحمد لله الذي أجرى الخير على يدكم الكريمة
وأعانكم على رعي ذمام الصالحين المتوسل إليكم أولا بقبورهم ومتعبداتهم وتراب
____________________
أجداثهم ثم بقبر مولاي ومولاكم
ومولى الخلق أجمعين الذي تسبب في وجودكم واختصكم بحبه وغمركم بلطفه وحنانه وعلمكم
آداب الشريعة وأورثكم ملك الدنيا وهيأتكم دعواه بالاستقامة إلى ملك الآخرة بعد طول
المدى وانفساخ البقاء وفي علومكم المقدسة ما تضمنت الحكايات عن العرب من النصرة عن
طائر داست أفراخه ناقة في جوار رئيس منهم وما انتهى إليه الامتعاض لذلك مما أهينت
فيه الأنفس وهلكت الأموال وقصارى من امتعض لذلك أن يكون كبعض خدامكم من عرب تامسنا
فما الظن بكم وأنتم الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم فيمن لجأ أولا إلى
حماكم بالأهل والولد عن حسنة تبرعتم بها وصدقة حملتكم الحرية على بذلها ثم فيمن حط
رحل الاستجارة بضريح أكرم الخلق عليكم دامع العين خافق القلب واهي الفزعة يتغطى
بردائه ويستجير بعليائه كأنني تراميت عليهم في الحياة أمام الذعر يذهل العقل ويحجب
عن التميز بقصر داره ومضجع رقاده ما من يوم إلا وأجهر بعد التلاوة ياليعقوب
يالمرين نسأل الله تعالى أن لا يقطع عني معروفكم ولا يسلبني عنايتكم ويستعملني ما
بقيت في خدمتكم ويتقبل دعائي فيكم ولحين وصول الجواب الكريم نهضت إلى القبر المقدس
ووضعته بإزائه وقلت يا مولاي يا كبير الملوك وخليفة الله وبركة بني مرين صاحب
الشهرة والذكر في المشرق والمغرب عبدك المنقطع إليك المترامي بين يدي قبرك المتوسل
إلى الله ثم ولدك بك ابن الخطيب وصله من مولاه ولدك ما يليق بمقامه من رعي وجهك
والتقرب إلى الله برعيك والاشتهار في مشرق الدنيا ومغربها ببرك وأنتم من أنتم من
إذا صنع صنيعه كملها وإذا من منة تممها وإذا أسدى يدا أبرزها طاهرة بيضاء غير
معيبة ولا ممنونة ولا منتقصة وأنا بعد تحت ذيل حرمتك وظل دخيلك حتى يتم أملي ويخلص
قصدي وتحف نعمتك بي ويطمئن إلى مأمنك قلبي ثم قلت للطلبة أيها السادة بيني وبينكم
تلاوة كتاب الله تعالى منذ أيام ومناسبة النحلة وأخوة التأليف بهذا الرباط المقدس
والسكنى بين أظهركم فأمنوا على دعائي بإخلاص من قلوبكم واندفعت في الدعاء
____________________
والتوسل الذي أرجو أن يتقبله
الله تعالى ولا يضيعه وخاطب العبد مولاه شاكرا لنعمته مشيدا بصنيعته ومسرورا
بقبوله وشأنه من التعلق والتطارح شأنه حتى يكمل القصد ويتم الغرض معمور الوقت
بخدمة يرفعها ودعاء يردده والله المستعان أه
ولما وصل كتاب السلطان أبي سالم إلى أهل الأندلس أعظموا وسيلته وقبلوا شفاعته
وردوا إلى ابن الخطيب ما تأتى رده مما كان ضاع له وأتلف عليه واستمر مقيما بسلا
سنتين وزيادة ثم استدعاه سلطانه الغني بالله إلى الأندلس بعد رجوعه إليها واحتوائه
على ملكها فأجاب حياء لا رغبة ومكرها لا بطلا إلى كان ما نذكره من شأنه بعد ذلك إن
شاء الله ونوادره بسلا وما جرياته كثيرة وفيما ذكرناه كفاية انتقاض الحسن بن عمر
الفودودي وخروجه بتادلا ثم مقتله عقب ذلك
قد قدمنا أن السلطان أبا سالم لما استولى على ملك فاس والمغرب عقد للحسن بن عمر
على مراكش ووجهه إليها تخففا منه وريبة بمكانه من الدولة فاستقر بها وتأثلت له بها
رياسة نفسها عليه أهل مجلس السلطان وسعوا فيه عنده حتى تنكر له وأظلم الجو بينهما
وأحس الحسن بن عمر بذلك فخشي على نفسه وخرج من مراكش في صفر سنة إحدى وستين
وسبعمائة فلحق بتادلا منحرفا عن السلطان ومرتكبا للخلاف فتلقاه بنو جابر من عرب
جشم وأجاروه واعصوصبوا عليه فسرح إليه السلطان أبو سالم وزيره الحسن بن يوسف
الورتاجني فاحتل بتادلا وانشمر الحسن بن عمر إلى الجبل بها فاعتصم به ومعه كبير
بني جابر الحسن بن علي الورديغي فأحاطت بهم العساكر وأخذوا بمخنقهم وداخل الوزير بعض
أهل الجبل من برابرة صناكة في الثورة بهم وسرب إليهم المال فثاروا بهم وانفض جمعهم
وتقبضوا على الحسن بن عمر وقادوه برمته إلى الحسن بن يوسف فاعتقله وانكفأ راجعا به
إلى الحضرة فدخلها في يوم مشهود استركب السلطان فيه الجند
____________________
وجلس ببرج الذهب مقعده من ساحة
البلد وحمل الحسن بن عمر على جمل فطيف به بين تلك الجموع ولما قرب من مجلس السلطان
أومأ إلى تقبيل الأرض من فوق جمله ثم ركب السلطان إلى قصره وانفض الجمع وقد شهر
الحسن بن عمر وأصحابه فصاروا عبرة لمن اعتبر
ولما دخل السلطان قصره جلس على كرسيه واستدعى خاصته وجلساءه وأحضر ابن عمر فوبخه
وقرر عليه ذنوبه فتلوى بالمعاذير وفزع إلى الإنكار قال ابن خلدون وحضرت هذا المجلس
يومئذ فيمن حضره من الخاصة فكان مقاما تسيل فيه العيون رحمة وعبرة ثم أمر به
السلطان فسحب على وجهه ونتفت لحيته وضرب بالعصى وثل إلى محبسه ثم قتل بعد ليال
قعصا بالرماح خارج البلد ونصب شلوه بباب المحروق رحمه الله تعالى نهوض السلطان أبي
سالم إلى تلمسان واستيلاؤه عليها
لما استوسق للسلطان أبي سالم ملك المغرب ومحا أثر الخوارج منه سمت همته إلى تملك
تلمسان كما كان لأبيه وأخيه من قبل وأكد عزمه على ذلك ما كان من فرار عبد الله بن
مسلم الزرد إلى عاملهم على درعة إليها فأجمع السلطان أبو سالم النهوض إليها وعسكر
بظاهر فاس الجديد منتصف سنة إحدى وستين وسبعمائة ولما توافت لديه الحشود وتكاملت
بسدته الجنود ارتحل إلى تلمسان
واتصل خبر نهوضه بسلطانها أبي حمو بن يوسف الزياني ووزيره عبد الله بن مسلم
الزردالي فنادوا في العرب من بني عامر بن زغبة وبني معقل فأجابوهم كافة الأشرذمة
قليلة من الأحلاف ثم خرج أبو حمو وشيعته عن تلمسان إلى الصحراء والتفت عليه العرب
بحللها
ولما دخل السلطان أبو سالم تلمسان واستولى عليها خالفه أبو حمو في عربه إلى المغرب
فنزلوا آكرسيف ووطاط وبلاد ملوية وحطموا زروعها وانتسفوا بركتها وخربوا عمرانها
وبلغ السلطان أبا سالم ما كان من إفسادهم فأهمه أمر المغرب وكان في جملته من بني
زيان محمد بن عثمان ابن
____________________
السلطان أبي تاشفين ويكنى أبا
زيان فعقد له على تلمسان وأعطاه الآلة وجمع له جيشا من مغراوة وبني توجين ودفع لهم
أعطياتهم وانكفأ راجعا إلى فاس فأجفل أبو حمو والعرب أمامه ثم خالفوه إلى تلمسان
فطردوا عنها أبا زيان واستولوا عليها وثبت قدم أبي حمو بها وعاد أبو زيان إلى
المغرب لاحقا بالسلطان أبي سالم قبله وعقد المهادنة مع أبي حمو واستقر الأمر على
ذلك وقد كان ابن الخطيب عندما بلغه استيلاء السلطان أبي سالم على تلمسان هنأه
بقصيدة طويلة يقول في مطلعها
( أطاع لساني في مديحك إحساني ** وقد لهجت نفسي بفتح تلمسان )
ويقول في أثنائها وقد ألم بشيء من علم الأحكام النجومية لميل السلطان إليه
( ولله من ملك سعيد ونصبة ** قضى المشتري فيها بعزلة كيوان )
( وسجل حكم العدل من بيوتها ** وقوفا مع المشهور من رأي يونان )
( فلم تخشى سهم القوس صفحة بدرها ** ولم تشك فيها الشمس من بخس ميزان )
( ولم يعترض مبتزها قطع قاطع ** ولا نازعت نوبهرها كف عدوان )
( تولى اختيار الله حسن اختيارها ** فلم يحتج الفرغان فيها لفرغان )
( ولا صرفت فيها دقائق نسبة ** ولا حققت فيها طوالع بلدان ) وفادة السودان من أهل
مالي على السلطان أبي سالم وإغرابهم في هديتهم بالزرافة الحيوان المعروف
قد تقدم لنا ما جرى من المواصلة بين السلطان أبي الحسن والسلطان منسا موسى وأخيه
أو ابنه من بعده منسا سليمان وتردد الوفود وإسناء الهدايا بينهم وقد كان السلطان
منسا سليمان قد هيأ هدية نفيسة بقصد أن يبعثها إلى السلطان أبي الحسن مكافأة له
على هديته فهلك السلطان أبو الحسن خلال ذلك ثم هلك السلطان منسا سليمان بعده
واختلف أهل مالي وافترق أمرهم وتقاتلوا على الملك إلى أن جمع الله كلمتهم على
السلطان منسا زاطة واستوسق له الأمر ثم نظر في أعطاف ملكه وأخبر بشأن الهدية التي
كان منسا
____________________
سليمان قد هيأها لملك المغرب
فأمر بإنفاذها إليه وضم إليها الزرافة الحيوان الغريب الشكل العظيم الهيكل المختلف
الشبه بالحيوانات وفصلوا بها من بلادهم فوصلوا إلى حضرة فاس في صفر من سنة اثنتين
وستين وسبعمائة
قال ابن خلدون وكان يوم وفادتهم يوما مشهودا جلس لهم السلطان ببرج الذهب بمجلسه
المعد لعرض الجنود ونودي في الناس بالبروز إلى الصحراء فبرزوا ينسلون من كل حدب
حتى غص بهم الفضاء وركب بعضهم بعضا في الازدحام على الزرافة إعجابا بخلقتها وحضر
الوفد بين يدي السلطان وأدوا رسالتهم بتأكيد الود والمخالصة والعذر عن إبطاء
الهدية بما كان من اختلاف أهل مالي وتواثبهم على الأمر وتعظيم سلطانهم وما صار
إليه والترجمان يترجم عنهم وهم يصدقونه بالنزع في أوتار قسيهم عادة معروفة لهم
وحيوا السلطان بأن جعلوا يحثون التراب على رؤوسهم على سنة ملوك العجم وأنشد
الشعراء في معرض المدح والتهنئة ووصف الحال ثم ركب السلطان إلى قصره وانفض ذلك
الجمع وقد طار به طائر الاشتهار واستقر الوفد تحت جراية السلطان أبي سالم إلى أن
هلك قبل انصرافهم فوصلهم القائم بالأمر من بعده وانصرفوا إلى مراكش ثم منها إلى
ذوي حسان عرب السوس الأقصى من بني معقل المتصلين ببلادهم ومن هناك لحقوا بسلطانهم
والأمر كله لله
وكان مما قيل من الشعر في ذلك اليوم قول ابن خلدون من قصيدة يقول في مطلعها
( قدحت يد الأشواق من زند ** وهفت بقلبي زفرة الوجد )
إلى أن قال في وصف الزرافة
( ورقيمة الأعطاف حالية ** موشية بوشائع البرد )
( وحشية الأنساب ما أنست ** في موحش البيداء بالقرد )
( تسمو بجيد بالغ صعدا ** شرف الصروح بغير ما جهد )
( طالت رؤوس الشامخات به ** ولربما قصرت عن الوهد )
____________________
( قطعت إليك تنائفا وصل ** أسئادها بالنص والوخد )
( تحدى على استصعابها ذللا ** وتبيت طوع القن والقد )
( بسعودك اللائي ضمن لنا ** طول الحياة بعيشة رغد )
( جاءتك في وفد الأحابش لا ** يرجون غيرك مكرم الوفد )
( وافوك أنضاء تقليبهم ** أيدي السرى بالغور والنجد )
( كالطيف يستقري مضاجعه ** أو كالحسام يسل من غمد )
( يثنون بالحسنى التي سبقت ** من غير إنكار ولا جحد )
( ويرون لحظك من وفادتهم ** فخرا على الأتراك والهند )
( يا مستعينا جل في شرف ** عن رتبة المنصور والمهدي )
( جازاك ربك عن خليقته ** خير الجزاء فنعم ما تسدى )
( وبقيت للدنيا وساكنها ** في عزة أبدا وفي سعد )
وقول الكاتب البارع أبي عبد الله بن زمرك الأندلسي من قصيدة يقول في مطلعها
( لولا تألق بارق التذكار ** ما صاب واكف دمعي المدرار )
( لكنه مهما تعرض خافقا ** قدحت يد الأشواق زند أواري )
إلى أن قال في الغرض المذكور
( وغريبة قطعت إليك على الونى ** بيدا تبيد بها هموم الساري )
( تنسيه طيته التي قد أمها ** والركب فيها ميت الأخبار )
( يقتادها من كل مشتمل الدجى ** فكأنما عيناه جذوة نار )
( تشدو بحمد المستعين حداتها ** يتعللون به على الأكوار )
( إن مسهم لفح الهجير أبلهم ** منه نسيم ثنائك المعطار )
( خاضوا بها لجج الفلا فتخلصت ** منها خلوص البدر بعد سرار )
( سلمت بسعدك من غوائل مثلها ** وكفى بسعدك حاميا لذمار )
( وأتتك يا ملك الزمان غريبة ** قيد النواظر نزهة الأبصار )
( موشية الأعطاف رائقة الحلى ** رقمت بدائعها يد الأقدار )
( راق العيون أديمها فكأنه ** روض تفتح عن شقيق بهار )
____________________
( ما بين مبيض وأصفر فاقع ** سال اللجين به خلال نضار )
( يحكي حدائق نرجس في شاهق ** تنساب فيه أراقم الأنهار )
( تحدو قوائم كالجذوع وفوقها ** جبل أشم بنوره متواري )
( وسمت بجيد مثل جذع مائل ** سهل التعطف لين خوار )
( تستشرف الجدرات منه ترائبا ** فكأنما هو قائم بمنار )
( تاهت بكلكلها وأتلع جيدها ** ومشى بها الإعجاب مشي وقار )
( خرجوا لها الجم الغفير وكلهم ** متعجب من لطف صنع الباري )
( كل يقول لصحبه قوموا انظروا ** كيف الجبال تقاد بالأسيار )
( ألقت ببابك رحلها ولطالما ** ألقى الغريب به عصا التسيار )
( علمت ملوك الأرض أنك فخرها ** فتسابقت لرضاك في مضمار )
( يتبوؤون به وإن بعد المدى ** من جاهك الأعلى أعز جوار )
( فارفع لواء الفخر غير مدافع ** واسحب ذيول العسكر الجرار )
( واهنأ بأعياد الفتوح مخولا ** ما شئت من نصر ومن أنصار )
( وإليكها من روض فكري نفحة ** شف الثناء بها على الأزهار )
( في فصل منطقها ورائق رسمها ** مستمتع الأسماع والأبصار )
( وتميل من أصغى لها فكأنني ** عاطيته منها كؤوس عقار ) مقتل السلطان أبي سالم
رحمه الله والسبب في ذلك
كان السلطان أبو سالم رحمه الله قد غلب على هواه الخطيب أبو عبد الله بن مرزوق
وألقى زمام الدولة بيده فنقم خاصة السلطان وحاشيته ذلك عليه وسخطوا الدولة من أجله
ومرضت قلوب أهل الحل والعقد من تقدمه فتربصوا بالدولة الدوائر إلى أن كانت أواخر
سنة اثنتين وستين وسبعمائة فتحول السلطان أبو سالم عن دار الملك من فاس الجديد إلى
القصبة من فاس القديم واختط بها إيوانا فخما لجلوسه فلما استولى عمر بن عبد الله
ابن علي بن سعيد الفودودي أحد كبراء الدولة ووزرائها على دار الملك إذ كان السلطان
أبو سالم قد خلفه أمينا عليها حدثته نفسه بالتوثب وسهل
____________________
ذلك عليه ما كان قد عرفه من
مرض القلوب على السلطان لمكان ابن مرزوق فداخل قائد جند النصارى غرسية بن أنطول
واتعدوا لذلك ليلة الثلاثاء السابع عشر من ذي القعدة من السنة المذكورة فعمدوا إلى
تاشفين الموسوس ابن أبي الحسن فخلعوا عليه وألبسوه شارة الملك وقربوا له مركبا
وأجلسوه مجلس السلطان وأكرهوا شيخ الحامية والناشبة محمد بن الزرقاء على البيعة
وجاهروا بالخلعان وقرعوا الطبول ودخلوا إلى بيت المال ففرضوا العطاء من غير تقدير
ولا حساب وماج الجند بفاس الجديد بعضهم في بعض واختطفوا ما وصلوا إليه من العطاء
ثم انتهبوا ما كان بالمخازن الخارجية من السلاح والعدة وأضرموا النيران في بيوتها سترا
على ما ضاع منها وأصبح السلطان أبو سالم بمكانه من قصبة فاس القديم وكان قد تحول
إليها فرارا من قاطع فلكي خوفه إياه بعض منجميه فكان البلاء فيه موكلا بالمنطق
فلما علم بالكائنة ركب واجتمع إليه من حضر من أوليائه وغدا على فاس الجديد وطاف
بها يروم اقتحامها فامتنعت عليه ثم اضطرب معسكره بكدية العرائس لحصارها ونادى في
الناس بالاجتماع إليه ولما كان وقت الهاجرة دخل فسطاطة للقيلولة فتسايل الناس عنه
إلى فاس الجديد فوجا بعد فوج بمرأى منه إلى أن انفض عنه خاصته وأهله مجلسه فطلب
النجاء بنفسه وركب في لمة من الفرسان وفيهم وزيراه سليمان بن داود ومسعود بن عبد
الرحمن بن ماساي ومقدم الموالي والجند ببابه سليمان بن ونصار وأذن لابن مرزوق في
الدخول إلى داره ومضى هو على وجهه فيمن معه ولما غشيهم الليل انفضوا عنه حتى بقي
وحده ورجع الوزيران إلى دار الملك فتقبض عليهما رئيس الثورة عمر بن عبد الله
الفودودي ومشاركه فيها غرسية بن أنطول النصراني واعتقلاهما متفرقين وبعث عمر بن
عبد الله الطلب في أثر السلطان أبي سالم فعثروا عليه نائما من الغد في بعض المجاشر
بوادي ورغة وقد غير لباسه اختفاء بشخصه وتواريا عن العيون بمكانه فتقبضوا عليه
وحملوه على بغل وطيروا بالخبر إلى عمر بن عبد الله فأزعج لتلقيه شعيب بن ميمون بن
داود وفتح الله بن عامر بن فتح الله
____________________
السدراتي وأمرهما بقتله وإنفاذ
رأسه فلقياه بخندق القصب إزاء كدية العرائس فأمرا بعض جند النصارى أن يتولى ذبحه
ففعل وحملوا رأسه في مخلاة ووضعوه بين يدي الوزير الثائر ومشيخته وكان ذلك يوم
الخميس الحادي والعشرين من ذي القعدة سنة اثنتين وستين وسبعمائة ودفن بالقلة خارج
باب الجيسة بأعلى جبل العرض المعروف بجبل الزعفران
قال ابن الخطيب في الإحاطة كان السلطان أبو سالم رحمه الله بقية البيت وآخر القوم
دماثه وحياء وبعدا عن الشرور وركونا للعافية قال وأنشدت على قبره الذي ووريت به
جثته قصيدة أديت فيها بعض حقه
( بنى الدنيا بني لمع السراب ** لدوا للموت وابنوا للخراب )
ومن أعيان وزرائه أبو عبد الله بن محمد بن أحمد بن مرزوق العجيسي الخطيب المشهور
الذي مر ذكره آنفا
ومن قضاة عسكره أبو القاسم محمد بن يحيى الأندلسي البرجي
ومن أعيان كتابه الرئيس أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون صاحب التاريخ
وأبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان النجاري من أهل مالقة صاحب كتاب السياسة
وغيره ومما نظمه هذا الفاضل عن إذن السلطان أبي سالم رحمه الله ليكتب في طرة قبة
رياض الغزلان من حضرته قوله
____________________
( هذا محل المنى بالأمن مغمور ** من حله فهو بالأمان محبور )
( مأوى النعيم به ما شئت من ترف ** تهوى محاسنه الولدان والحور )
( ويطلع الروض منه مصنعا عجبا ** يضاحك النور من لألائه النور )
( ويسطع الزهر من أرجائه أرجا ** ينافح الندى نشر منه منشور )
( مغنى السرور سقاه الله ما حملت ** غر الغمام وحلته الأزاهير )
( انظر إلى الروض تنظر كل معجبة ** مما ارتضاه لرأي العين تحبير )
( مر النسيم به يبغي القرا فقرا ** دراهم النور تبديد وتنثير )
( وهامت الشمس في حسن الظلال به ** ففرقت فوقه منها دنانير )
( كأنما الطير في أفنائها صدحت ** بشكر مالكها والفضل مشكور )
( والدوح ناعمة تهتز من طرب ** همسا وصوت غناء الطير مجهور )
( والنهر شق بساط الأرض تحسبه ** سيفا ولكنه في السلم مشهور )
( ينساب للجنة الخضراء أزرقه ** كالأيم جد انسياب وهو مذعور )
( هذي مصانع مولانا التي جمعت ** شمل السرور وأمر السعد مأمور )
( وهذه القبة الغراء ما نظرت ** لشكلها العين إلا عز تنظير )
( ولا يصورها في الفهم ذو فكر ** إلا ومنه لكل الحسن تصوير )
( ولا يرام بحصر وصف ما جمعت ** من المحاسن إلا صد تقصير )
( فيها المقاصير تحميها مهابته ** لله ما جمعت تلك المقاصير )
( كأنها الأفق تبدو النيرات به ** ويستقيم بها في السعد تسيير )
( وينشأ المزن في أرجائه وله ** من عنبر الشحر إنشاء وتسخير )
( وينهمي القطر منه وهو منسكب ** ماء من الورد يذكو منه تعطير )
( وتخفق الريح منه وهي ناسمة ** مما أهب به مسك وكافور )
( ويشرق الصبح منه وهو من غرر ** غر تلألأ منهن الأسارير )
( وتطلع الشمس فيه من سنا ملك ** تبسم الدهر منه وهو مسرور )
ومضى في مدح السلطان والله تعالى يتغمد الجميع برحمته بمنه وكرمه
____________________
الخبر عن دولة السلطان أبي عمر
تاشفين الموسوس ابن أبي الحسن المريني
هذا السلطان كان محجوبا لوزيره عمر بن عبد الله الفودودي لا يملك معه ضرا ولا نفعا
أمه أم ولد اسمها ميمونة صفته طويل القامة عظيم الهيكل بعيد ما بين المنكبين أعين
أدعج وكان فارسا بطلا قوي الساعد إلا أنه كان ناقص العقل
ولما ثار عمر بن عبد الله بالسلطان أبي سالم وسعى في هلاكه إلى أن قتل كما مر
استبد بأمر الدولة ونصب هذا الموسوس يموه به على الناس فبويع ليلة الثلاثاء التاسع
عشر من ذي القعدة سنة اثنتين وستين وسبعمائة حسبما سبق وكان نقصان عقل تاشفين من
أجل الأسر الذي أصابه بوقعة طريف أيام والده السلطان أبي الحسن إلى أن افتدي وبقي
ناقص العقل مختل المزاج إلى أن كان من أمره ما كان الفتك بغرسية بن أنطول قائد
النصارى ومقتل جنده معه والسبب في ذلك
لما قبض عمر بن عبد الله على الوزيرين مسعود بن عبد الرحمن بن ماساي وسليمان بن
داود سجنهما متفرقين فأخذ إليه ابن ماساي لمكان صهره منه ودفع لغرسية سليمان بن
داود وكان سليمان بن ونصار قد فر مع السلطان أبي سالم كما مر ولما رجع عنه فيمن
رجع نزل على غرسية فقبله وأكرمه وكان يعاقره الخمر ففاوضه ذات ليلة في الثورة بعمر
بن عبد الله واعتقاله وإقامة سليمان بن داود المسجون بداره مقامه لما هو عليه من
السن ورسوخ القدم في الأمر ونما الخبر بذلك إلى عمر بن عبد الله فارتاب
____________________
وكان خلوا من العصبية ففزع إلى
قائد المركب السلطاني من ناشبة الأندلس ورماتها وهو يومئذ إبراهيم البطروجي فعاقده
على أمره وبايعه على الاستماتة دونه ثم رأى أن ذلك لا يكفيه ففزع ثانيا إلى يحيى
بن عبد الرحمن شيخ بني مرين وصاحب شوارهم فشكا إليه فأشكاه ووعده الفتك بابن أنطول
وأصحابه وانبرم عقد ابن أنطول وسليمان بن ونصار أيضا على عمر بن عبد الله وغدوا
إلى القصر وداخل ابن أنطول طائفة من النصارى استظهارا بهم وتوافت بنو مرين بمجلس
السلطان على عادتهم وحضر ابن أنطول والبطروجي ويحيى بن عبد الرحمن وغير هؤلاء من
الوجوه فسأل عمر بن عبد الله من ابن أنطول تحويل سليمان بن داود من داره إلى السجن
فأبى وضن به عن الإهانة حتى سأل مثلها من ابن ماساي صاحبه فأمر عمر بالتقبض عليه
فكشر في وجوه الرجال واخترط سكينه للمدافعة فتواثبت بنو مرين عليه وقتلوه لحينه
واستلحموا من وجدوا بالدار من جنده النصارى عند دخولهم مع قائدهم وفر بعضهم إلى
معسكرهم ويعرف بالملاح جوار فاس الجديد وأرجف الغوغاء بالمدينة أن ابن أنطول قد
غدر بالوزير فقتلوا جند النصارى حيث وجدوهم من سكك المدينة وتزاحفوا إلى الملاح
لاستلحام من بقي به منهم وركبت بنو مرين لحماية جندهم من معرة الغوغاء وانتهب
يومئذ الكثير من أموالهم وآنيتهم وأمتعتهم وقتل النصارى أيضا كثيرا من مجان
المسلمين كانوا يعاقرون الخمر بالملاح ثم سكنت الهيعة وما كادت
واستبد عمر بن عبد الله بدار الملك واعتقل سليمان بن ونصار إلى الليل ثم بعث من
قتله بمحبسه وحول سليمان بن داود إلى بعض الدور من دار الملك فاعتقله بها واستولى
على أمره ثم خاطب عامر بن محمد الهنتاتي في اتصال اليد به واقتسام ملك المغرب بينه
وبينه وبعث إليه بأبي الفضل ابن السلطان أبي سالم اعتده عنده ليوم ما ثم فسد ما
بينه وبين مشيخة بني مرين فاجتمعوا على كبيرهم يحيى بن عبد الرحمن وعسكروا بباب
الفتوح واستدعوا عبد الحليم بن أبي علي ابن السلطان أبي سعيد من تلمسان على ما
نذكره
____________________
ظهور عبد الحليم بن أبي علي بن
أبي سعيد ومحاصرته لفاس الجديد ثم فراره عنها
قد قدمنا في أخبار السلطان أبي الحسن أن أخاه أبا علي صاحب سجلماسة كان قد انتقض
عليه فأمكنه الله منه فقتله وكفل أولاده فلم يميز بينهم وبين أولاده في شيء من
الأشياء ولما أفضى الأمر إلى أبي عنان بعث جماعة من إخوته وقرابته إلى الأندلس تحت
حياطة ابن الأحمر وكان فيهم أولاد أبي علي هؤلاء ثم بعد حين سرحوا وقدموا تلمسان
على سلطانها أبي حمو بن يوسف فكانوا عنده إلى هذا التاريخ فلما فسد ما بين عمر بن
عبد الله وشيوخ بني مرين بعثوا إلى تلمسان جملة منهم لاستقدام عبد الحليم المذكور
فسرحه أبو حمود وأعانه بشيء من الآلة وجمع عليه من رغب في طاعته وزحف إلى فاس
فتلقته جماعة بني مرين بسبو ونزلوا على فاس الجديد يوم السبت سابع محرم سنة ثلاث
وستين وسبعمائة واضطربوا معسكرهم بكدية العرائس وحاصروا دار الملك سبعة أيام
وتتابعت وفودهم وحشودهم ثم إن عمر بن عبد الله برز يوم السبت القابل في مقدمة
السلطان تاشفين بمن معه من جند المسلمين والنصارى رامحة وناشبة ووكل بالسلطان من
جاء به في الساقة على التعبية المحكمة وناوشهم الحرب فزحفوا إليه فاستطرد لهم
ليتمكن الناشبة من عقرهم من الأسوار حتى فشت فيهم الجراحات ثم صمم نحوهم فانفرج
القلب وانفضت الجموع ثم زحف السلطان تاشفين في الساقة فابذعروا في الجهات وافترق
بنو مرين إلى مواطنهم ولحق يحيى بن عبد الرحمن بمراكش مع مبارك بن إبراهيم شيخ
الخلط ولحق عبد الحليم وإخوته بتازا بعد أن شهد لهم رجال الدولة بصدق الجلاد وحسن
البلاء في ذلك المقام
____________________
ثم إن الوزير عمر بن عبد الله راجع بصيرته في تقديم المعتوه للأمر وعلم أن الأمر
لا يستقيم له بذلك فبادر باستقدام أبي زيان محمد بن أبي عبد الرحمن يعقوب ابن
السلطان أبي الحسن وكان عند الطاغية بدار الحرب فقدم وخلع الوزير المذكور سلطانه
الموسوس يوم الاثنين الحادي والعشرين من صفر سنة ثلاث وستين وسبعمائة فكانت دولته
ثلاثة أشهر ويومين ومات وسنه ستون سنة والله تعالى أعلم الخبر عن دولة السلطان
المتوكل على الله أبي زيان محمد بن أبي عبد الرحمن يعقوب بن أبي الحسن المريني
هذا السلطان كان محجوبا للوزير عمر بن عبد الله أيضا كنيته أبو زيان لقبه المتوكل
على الله أمه أم ولد اسمها فضة صفته آدم اللون شديد الأدمة معتدل القامة منفرج
الأنف دقيق العينين
وقال ابن الخطيب في الإحاطة حاله فاضل سكون منقاد مشتغل بخاصة نفسه قليل الكلام
حسن الشكل درب بركض الخيل مفوض للوزراء عظيم التأني لأغراضهم وكان قبل ولايته عند
الطاغية بالأندلس فر إليه خوفا على نفسه ولما التبست الأمور على عمر بن عبد الله
طلبه إلى الطاغية فسمح به بعد اشتراط واشتطاط وفصل من إشبيلية في المحرم فاتح سنة
ثلاث وستين وسبعمائة ونزل بسبته وبها سعيد بن عثمان من قرابة الوزير عمر بن عبد
الله أرصده لقومه فطير إليه بالخبر فحينئذ خلع عمر تاشفين الموسوس وبعث إلى
السلطان أبي زيان بالبيعة والآلة والفساطيط ثم جهز عسكرا للقائه فتلقوه بطنجة وأغذ
السير إلى الحضرة فنزل منتصف
____________________
صفر بكدية العرائس واضطرب
معسكره بها وتلقاه يومئذ الوزير عمر بن عبد الله الياباني وبايعه وأخرج فسطاطه
فاضطرب بمعسكره وتلوم السلطان أبو زيان هنالك ثلاثا ثم دخل في اليوم الرابع إلى
قصره واقتعد أريكته وتودع ملكه
وقال ابن الخطيب في الإحاطة كان دخوله داره مغرب ليلة الجمعة بطالع الثامن من
السرطان وبه السعد الأعظم كوكب المشتري من السيارة السبعة أه ولما تم له الأمر
خاطبه ابن الخطيب من سلا مهنئا له بقوله
( يا ابن الخلائف يا سمي محمد ** يا من علاه ليس يحصر حاصر )
( أبشر فأنت مجدد الملك الذي ** لولاك أصبح وهو رسم داثر )
( من ذا يعاند منك وارثه الذي ** بسعوده فلك المشيئة دائر )
( ألقت إليك يد الخلافة أمرها ** إذ كنت أنت لها الولي الناصر )
( هذا وبينك للصريخ وبينها ** حرب مضرسة وبحر زاخر )
( من كان هذا الصنع أول أمره ** حسنت له العقبى وعز الآخر )
( مولاي عندي في علاك محبة ** والله يعلم ما تكن ضمائر )
( قلبي يحدثني بأنك جابر ** كسرى وحظي منك حظ وافر )
( بثرى جدودك قد حططت حقيبتي ** فوسيلتي لعلاك نور باهر )
( وبذلت وسعي واجتهادي مثل ما ** يلقى لملكك سيف أمرك عامر )
( فهو الولي لك الذي اقتحم الردى ** وقضى العزيمة وهو سيف باتر )
( وولي جدك في الشدائد عندما ** خذلت علاه قبائل وعشائر )
( فاستهد منه النصح واعلم أنه ** في كل معضلة طبيب ماهر )
( إن كنت قد عجلت بعض مدائحي ** فهي الرياض وللرياض بواكر )
ثم أتبعها بنثر أضربنا عنه اختصارا والله تعالى الموفق
____________________
وفادة ابن الخطيب من سلا على
السلطان أبي زيان بن أبي عبد الرحمن رحمهما الله
قال في الإحاطة وفدت على السلطان أبي زيان بن أبي عبد الرحمن ابن أبي الحسن من محل
الانقطاع بسلا وأنشدته قولي
( لمن علم في هضبة الملك خفاق ** أفاقت به من غشية الهرج آفاق )
( تقل رياح النصر عنه غمامة ** تمد لها أيد وتخضع أعناق )
( وبيعة شورى أحكم السعد عقدها ** وأعمل إجماع عليها وإصفاق )
( قضى عمر فيها بحق محمد ** فسجل عهد للوفاء وميثاق )
( أحلما ترى عيناي أم هي فترة ** أعندكما في مشكل الأمر مصداق )
( وفاض لفضل الله في الأرض تبتغي ** ومجتمعات لا تريب وأسواق )
( وسرح تهنيه الكلاءة بالكلا ** وفلح لسقي الغيث قام له ساق )
( وقد كان طيف الحلم لا يعمل الخطا ** وللفتنة العمياء في الأرض إطباق )
( وللغيث إمساك وفي الأرض رجة ** وللدين والدنيا وجوم وإطراق )
( فكل فريق فيه للبغي راية ** وكل طريق فيه للعيث طراق )
( أجل إنه من آل يعقوب وارث ** يحن له البيت العتيق ويشتاق )
( له من جناح الروح ظل مسجف ** ومن رفرف العز الإلهي رستاق )
( أطل على الدنيا وقد عاد ضوءها ** ودجى وعلى الأحداق للذعر إحداق )
( فأشرقت الأرجاء من نور ربها ** وساح بها لله لطف وإشفاق )
( فمن ألسن بالشكر لله أعلنت ** وكان لها من قبل همس وإطباق )
( وليس لأمر أبرم الله ناقض ** وليس لمسعى النجح في الله إخفاق )
( محمد قد أحييت دين محمد ** وللخلق أدماء تفيض وأرماق )
( ولو لم تثبت غطى على شفق الضحا ** دم لسيوف البغي في الأرض مهراق )
( فأيمن بمشحون من الفلك سابح ** له باختيار الله حط وإيساق )
( أقلك والدأماء تظهر طاعة ** إليك صفح الماء أزرق رقراق )
( إلى هدف السعد انبرى منه والدجا ** تضل الحجى سهم من السعد رشاق )
____________________
( فخطت لتقويم القوام جداول ** وصحت من التوفيق واليمن أوفاق )
( تبارك من أهداك للخلق رحمة ** ومستبعد أن يهمل الخلق خلاق )
( هو الله يبلو الناس بالخير فتنة ** وبالشر والأيام سم وترياق )
( سمت منك أعناق الورى لخليفة ** له في مجال السعد عدو وأعناق )
( وقالوا بنان ما استقل بكفه ** تفيض على العافين أم هي أرزاق )
( وأطنب فيك المادحون وأغرقوا ** فلم يجد إطناب ولم يغن إغراق )
( ألست من القوم الذين أكفهم ** غمام ندى إن أخلف الغيث غيداق )
( ألست من القوم الذين وجوههم ** بدور لها في ظلمة الروع إشراق )
( رياض إذا العافي استظل ظلالها ** ففيها جنى ملء الأكف وإيراق )
( أبوك ولي العهد لو سالم الردى ** وجدك قد فاق الملوك وإن فاقوا )
( فمن ذا له جد كجدك أو أب ** لآلئ والمجد المؤثل نساق )
( وحسب العلا في آل يعقوب أنهم ** هم الأصل في العلياء والناس إلحاق )
( أسود سروج أو بدور أسرة ** فإن حاربوا راعوا وإن سالموا راقوا )
( يطول لتحصيل الكمال سهادهم ** فهم للمعالي والمكارم عشاق )
ومنها
( لقد نسيت إحسان جدك فرقة ** تزر على أعناقهم منه أطواق )
( أجازت خروج ابن ابنه عن تراثه ** ولم تدر ما ضمت من الذكر أوراق )
( ومن دون ما راموه لله قدرة ** ومن دون ما أموه للفتح إغلاق )
( خذ العفو وابذل فيهم العرف ولتسع ** جريرة من أبدى لك العذر أخلاق )
( فربما تنبو مهندة الظبي ** وتهفو حلوم القوم والقوم حذاق )
( وما الناس إلا مذنب وابن مذنب ** ولله إرفاد عليهم وإرفاق )
( ولا ترج في كل الأمور سوى الذي ** خزائنه ما ضرها قط إنفاق )
( إذا هو أعطى لم يضر منع مانع ** وإن حشدت طسم وعاد وعملاق )
( عرفت الردى واستأثرت بك للعدا ** تخوم لمختط الصليب وأعماق )
( فيسر لليسرى وأحيى بك الورى ** وللروع إرعاد عليك وإبراق )
____________________
( فجاز صنيع الله وازدد بشكره ** مواهب جود غيثها الدهر دفاق )
( وأوف لمن أوفى وكاف الذي كفى ** فأنت كريم طهرت منك أعراق )
( وتهنيك يا مولى الملوك خلافة ** شجتها تباريح إليك وأشواق )
( فقد بلغت أقصى المنى بك نفسها ** وكم فاز بالوصل المهنا مشتاق )
( فلا راع منها السرب للدهر رائع ** ولا نال منها جدة السعد أخلاق )
( أمولاي راع الدهر سربي وغالني ** فطرفي مذعور وقلبي خفاق )
( وليس لكسرى غيرك اليوم جابر ** ولا ليدي إلا بمجدك أعلاق )
( ولي فيك ود واعتداد غرسته ** فراقت به من يانع الحمد أوراق )
( وقد عيل صبري في ارتقابي خليفة ** تحل به للضر عني أوهاق )
( وأنت حسام الله والله ناصر ** وأنت أمين الله والله رزاق )
( وأنت الأمان المستجار من الردى ** إذا راع خطب أو توقع إملاق )
( وأهون ما يرجى لديك شفاعة ** إذا لم يكن عزم حثيث وإرهاق )
( ودونكها من ذائع الحمد مخلص ** له فيك تقييد يروق وإطلاق )
( إذا قال أما كل سمع لقوله ** فمصغ وأما كل أنف فنشاق )
( ودم خافق الأعلام بالنصر كلما ** ذهبت لمسعى لم يكن فيه إخفاق )
قال وعدت منه ببر كبير واحترام شهير يشير بذلك إلى ما أكرمه به وكتب له من الظهير
الذي يتضمن كمال الاحترام والتوقير ونصه هذا ظهير كريم من أمير المسلمين فلان أيده
الله ونصره وسنى له الفتح المبين ويسره للشيخ الفقيه الأجل الأسنى الأعز الأحظى
الأرفع الأمجد الأسمى الأوحد الأنور الأرقى العالم العلم الرئيس الأعرف المتفنن
الأبرع المصنف المفيد الصدر الأحفل الأفضل الأكمل أبي عبد الله ابن الشيخ الفقيه
الوزير الأجل الأسنى الأعز الأرفع الأمجد الوجيه الأنوه الأحفل الأفضل الحسيب
الأصل الأكمل المبرور المرحوم أبي محمد ابن الخطيب قابله أيده الله بوجه القبول
والإقبال وأضفى عليه ملابس الإنعام والإفضال ورعى له خدمة السلف الرفيع الجلال وما
تقرر من
____________________
مقاصده الحسنة في خدمة أمرنا
العال وأمر في جملة ما سوغه من الآلاء الوارفة الظلال الفسيحة المجال بأن يجدد له
حكم ما بيده من الأوامر المتقدم تاريخها المتضمنة تمشية خمسمائة دينار من الفضة
العشرية في كل شهر عن مرتب له ولولده الذي لنظره من مجبي مدينة سلا حرسها الله ومن
حيث جرت العادة أن تمشي له ورفع الاعتراض ببابها فيما يجلب من الأدم والأقوات على
اختلافها من حيوان وسواه وفيما يستفيده خدامه بخارجها وأحوازها من عنب وقطن وكتان
وفاكهة وخضر وغير ذلك فلا يطلب في شيء من ذلك بمغرم ولا وظيف ولا يتوجه فيه إليه
بتكليف يتصل له حكم جميع ما ذكر في كل عام تجديدا تاما واحتراما عاما أعلن بتجديد
الحظوة واتصالها وإتمام النعمة وإكمالها من تواريخ الأوامر المذكورة إلى الآن ومن
الآن إلى ما يأتي على الدوام واتصال الأيام وأن يحمل جانبه فيمن يشركه أو يخدمه
محمل الرعي والمحاشاة في السخر مهما عرضت والوظائف إذا افترضت حتى يتصل له تالد
العناية بالطارف وتتضاعف أسباب المنن والعوارف بفضل الله وتحرر له الأزواج التي
يحرثها بتالماغت من كل وجيبة وتحاشى من كل مغرم أو ضريبة بالتحرير التام بحول الله
وعونه ومن وقف على هذا الظهير الكريم فليعمل بمقتضاه وليمض ما أمضاه إن شاء الله
وكتب في العاشر من شهر ربيع الآخرة من سنة ثلاث وستين وسبعمائة وكتب في التاريخ أ
هـ وقوله وكتب في التاريخ هو العلامة السلطانية في ذلك الزمان يكتب بقلم غليظ وبعض
ملوك المغرب يكتب عند العلامة صح في التاريخ
____________________
وفادة ابن محمد الهنتاتي على
السلطان أبي زيان بن أبي عبد الرحمن رحمهما الله
كان الوزير عمر بن عبد الله الياباني مودة ومصافاة مع الرئيس الشهير أبي ثابت عامر
بن محمد الهنتاتي كبير جبل درن والبلاد المراكشية وكان الوزير عمر المذكور قد بعث
إليه بصهره وظهيره على الملك مسعود بن عبد الرحمن ابن ماساي يكون عنده عدة وعتادا
ليوم ما فلما بويع السلطان أبو زيان استقدم عمر بن عبد الله صهره المذكور لوزارته
وكان عامر بن محمد مجمعا القدوم على السلطان المذكور فقدم في صحبته مسعود ونزلا من
الدولة بخير منزل
وعقد السلطان أبو زيان لمسعود المذكور على وزارته بإشارة الوزير عمر بن عبد الله
فاضطلع بها ودفعه عمر إليها استمالة اليد وثقة بمكانه واستظهارا بعصبيته وعقد مع
عامر بن محمد الحلف على مقاسمة المغرب شق الأبلمة وجعل إمارة مراكش لأبي الفضل ابن
السلطان أبي سالم إسعافا لغرض عامر بن محمد في ذلك
وخطب إليهم عامر بنت السلطان أبي بكر الحفصي التي توفى عنها السلطان أبو عنان
فأجابوه وحملوا أولياءها على العقد عليها وانكفأ راجعا إلى مكان عمله بمراكش يجر
الدنيا وراءه عزا وثروة وتابعا وذلك في جمادى الأولى من سنة ثلاث وستين وسبعمائة
فاستقل بأمر الناحية الغربية من مراكش وجبال المصامدة وما إليها من الأعمال واستبد
بها ونصب أبا الفضل ابن السلطان أبي سالم صورة واستوزر له وتمكن سلطانه وعلا ذكره
وصارت كأنها دولة مستقلة فصرف إليه النازعون من بني مرين عن
____________________
الدولة وجوه مفرهم ولجؤوا إليه
فأجارهم على السلطان واجتمع إليه منهم ملأ واتسع الخرق على الرافع واضطربت الأحوال
بالمغرب وخرج على السلطان أبي زيان الأمير عبد الحليم بن أبي علي بن أبي سعيد
وتغلب على سجلماسة وأعمالها ثم غلب عليه أخوه عبد المؤمن بن أبي علي فخرج عبد
الحليم إلى المشرق لقضاء فريضة الحج واستمر عبد المؤمن بسجلماسة وأقام بها دولة
كما كان لوالده من قبل إلى أن فتحها الوزير مسعود بن عبد الرحمن بن ماساي وأضافها
إلى مملكة فاس ثم انتقض الوزير مسعود أيضا وبايع الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن
بن أبي علي ونصبه للأمر وصار يشوش به على الدولة وشرق عمر بن عبد الله بدائه في
أخبار طويلة ولما لم يتم له أمر عبر هو وسلطانه البحر من مرسى غساسة إلى الأندلس
فاتح سنة سبع وستين وسبعمائة وأقبلا على الجهاد واستراح الوزير عمر وسلطانه أبو
زيان من شغبهما والله غالب على أمره مقتل السلطان أبي زيان بن أبي عبد الرحمن رحمه
الله
لما طال استبداد الوزير عمر بن عبد الله على السلطان أبي زيان وحجره أباه إذ كان
وضع عليه الرقباء والعيون حتى من حرمه وأهل قصره عزم على الفتك بالوزير المذكور
وتناجى بذلك مع بعض ندمائه وأعد له طائفة من العبيد كانوا يختصون به فنما ذلك إلى
الوزير بواسطة بعض الحرم كانت عينا له عليه فعاجله وكان قد بلغ من الاستبداد عليه
أن كان الحجاب مرفوعا له عن خلوات السلطان وحرمه فدخل عليه وهو في وسط حشمه فطردهم
عنه ثم غطه حتى فاظ وأمر به فألقي في بئر بروض الغزلان واستدعى الخاصة فأراهم
مكانه بها وأنه سقط عن دابته وهو سكران وذلك في محرم فاتح سنة ثمان وستين وسبعمائة
كذا عند ابن خلدون وقال في الجذوة توفي يوم الأحد الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة
سبع وستين وسبعمائة وله ثمان وعشرون سنة ودفن بجامع
____________________
قصره فكانت دولته أربع سنين
وعشرة أشهر ويوما واحدا والله أعلم الخبر عن دولة السلطان أبي فارس عبد العزيز بن
أبي الحسن رحمه الله
هذا السلطان هو الذي أنعش دولة بني مرين بعد تلاشيها وأعاد إليها شبابها بعد هرمها
وتقاضيها وأزال عنها وصمة الحجر والاستبداد وأعادها من العز إلى حالها المعتاد وهو
الذي ذكره ابن خلدون في أول تاريخه الكبير وألفه برسمه وحلى ديباجته باسمه أمه
مولدة اسمها مريم صفته أدم اللون شديد الأدمة طويل القامة يشرف على الناس بطوله
نحيف الجسم أعين أدعج أخنس في وجهه أثر جدري وكان عفا متمسكا بالدين محبا في الخير
وأهله لم يشرب خمرا ولا وقع في فاحشة قط وبالجملة فقد كان من صالحي الملوك رحمه
الله
ولما كان من الوزير عمر بن عبد الله الياباني إلى السلطان أبي زيان رحمه الله ما
كان من الخنق والإلقاء في البئر استدعى عبد العزيز بن أبي الحسن هذا وكان في بعض
الدور من القصبة بفاس محتاطا عليه من قبل الوزير المذكور فأحضره بالقصر وأجلسه على
سرير الملك وبايعه وفتحت الأبواب لبني مرين وسائر الخاصة والعامة فازدحموا على
تقبيل يده معطين الصفقة بطاعته فتم أمره وثبت ملكه وذلك يوم الأحد الثاني والعشرين
من ذي الحجة سنة سبع وستين وسبعمائة ثم إن الوزير عمر جرى معه على عادته من
الاستبداد ومنع التصرف في شيء من أمور الملك فأنف السلطان عبد العزيز من ذلك وتأفف
منه ودارت بينه وبين الوزير أمور إلى أن عمل السلطان على الفتك به فأعد له جماعة
من الخصيان بزوايا داره ثم أحضره ووبخه وثار به أولئك الخصيان فتناولوه هبرا
بالسيوف وصاح الوزير المذكور صيحة أسمع بها بطانته خارج الدار فوثبوا على الأبواب
فكسروها
____________________
واقتحموا الدار فإذا صاحبهم
مضرج بدمائه قد فرغ منه فولوا الأدبار هاربين ثم تتبع السلطان عبد العزيز حاشية
الوزير بالاعتقال والقتل حتى أتى على الجميع في خبر طويل واستبد بملكه واضطلع به
وأدار الأمور فيه على ما ينبغي والله تعالى أعلم انتقاض أبي الفضل بن أبي سالم ثم
مقتله بعد ذلك
قد قدمنا أن أبا الفضل بن أبي سالم كان قد عقد له الوزير عمر بن عبد الله على مراكش
إسعافا لكافله عامر بن محمد الهنتاتي فلما فتك السلطان عبد العزيز بالوزير المذكور
سولت لأبي الفضل نفسه مثلها في عامر بن محمد لاستبداده عليه وأغراه بذلك بطانته
فأحس عامر بالشر فتمارض بداره من مراكش ثم استأذنه في الصعود إلى معتصمه من الجبل
ليمرضه هنالك حرمه وأقاربه فارتحل بجملته واحتل بحصنه وكان أعز من الأبلق الفرد
فيئس أبو الفضل من الاستمكان منه ثم أغرته بطانته إذ فاتهم عامر بالفتك بعبد
المؤمن بن أبي علي وكان قد انضاف إليه بعد إجفاله عن سجلماسة فسكر أبو الفضل ذات
ليلة وبعث عن قائد الجند من النصارى فأمره بقتل عبد المؤمن بمكان معتقله من قصبة
مراكش فجاء برأسه إليه وطار الخبر بذلك إلى عامر فارتاع وحمد الله إذ خلصه من
غائلته وبعث ببيعته إلى السلطان عبد العزيز وأغراه بأبي الفضل ورغبه في ملك مراكش
ووعده بالمظاهرة فأجمع السلطان أمره على النهوض إليها ونادى في الناس بالعطاء وقضى
أسباب حركته وارتحل من فاس سنة تسع وستين وسبعمائة وقد استبد أبو الفضل بمراكش
وأعملها
وأقام بها رسم الملك واستوزر واستلحق وجعل شوراه لمبارك بن إبراهيم بن عطية الخلطي
ولما نهض السلطان عبد العزيز من فاس اتصل خبره بأبي الفضل وهو
____________________
منازل لعامر بن محمد فانفض
معسكره ولحق بتادلا ليعتصم بجبل بني جابر منها فتبعه السلطان عبد العزيز إليها
ونازله وأخذ بمخنقه وقاتله ففل عسكره ثم داخل بعض بني جابر في جر الهزيمة عليه على
مال يعطيه لهم ففعلوا وانهزمت جيوشه وتقبض على أشياعه وسيق مبارك بن إبراهيم إلى
السلطان عبد العزيز فاعتقله إلى أن قتله مع عامر بن محمد كما نذكر
ولحق أبو الفضل بقبائل صناكة وراء بني جابر فداخل بنو جابر في شأنه وبذلوا لهم عن
السلطان مالا دثرا في إسلامه فأسلموه وبعث السلطان إليهم وزيره يحيى بن ميمون فجاء
به أسيرا وأحضره أمام السلطان فوبخه ثم اعتقله بفسطاط مجاور له ثم غط من الليل
فكان مهلكه في رمضان سنة تسع وستين وسبعمائة لمضي ثمان سنين من إمارته على مراكش
وبعث السلطان عبد العزيز إلى عامر بن محمد يختبر طاعته فأبى عليه وجاهر بالخلاف
إلى أن كان من شأنه ما نذكره انتقاض عامر بن محمد الهنتاتي وحصار السلطان عبد
العزيز إياه وظفره به
كان عامر بن محمد الهنتاتي مجير السلطان أبي الحسن من ابنه أبي عنان على ما وصفنا
من بلوغ الغاية في الرياسة والاعتزاز على الدولة وطول الاستبداد بمراكش وأحوازها
وكان قد حصل في مدة رياسته على ثروة عظيمة وجاه كبير وكان له معتصم بجبل درن أعز
من بيض الأنوق قد حصن فيه ماله وسلاحه وذخيرته وكان كلما هاجه هائج صعد إليه وأمن
على نفسه فلما صفا الأمر للسلطان عبد العزيز جعل عامرا هذا من أهم أمره فنصب له
واستعد لقتاله وعقد على وزارته لأبي بكر بن غازي بن يحيى بن الكاس ونهض إليه من
فاس سنة سبعين وسبعمائة فحاصره في جبله سنة كاملة ولما طال الحصار على عامر وشيعته
اختلفت كلمتهم عليه وفسد ما
____________________
بينه وبين ابن أخيه فارس بن
عبد العزيز بن محمد فبعث إلى السلطان وسهل له الطريق لاقتحام الجبل فزحفت العساكر
والجنود وشارفت المعتصم ولما استيقن عامر أن قد أحيط به بعث إلى ابنه أبي بكر أن
يلحق بالسلطان مختارا له ومشيرا عليه بالتي هي أحسن وأسلم فألقى الولد بنفسه إلى
السلطان فقبله وبذل له الأمان وألحقه بجملته وانتبذ عامر عن الناس وذهب لوجهه
ليخلص إلى السوس فرده الثلج وقد كانت السماء أرسلت به منذ أيام حتى تراكم بالجبل
بعضه على بعض وسد المسالك فاقتحمه عامر حتى هلك فيه بعض حرمه ونفق مركوبه وعاين
الهلكة العاجلة فرجع أدراجه مختفيا حتى آوى إلى غار مع أدلاء كان قد استخلصهم وبذل
لهم مالا على أن يسلكوا به ظهر الجبل إلى صحراء السوس فأقاموا ينتظرون إمساك الثلج
وقد شدد السلطان عبد العزيز في التنقير عنه والبحث فعثر عليه بعض البربر بالغار
المذكور فسيق إلى السلطان فأحضره بين يديه ووبخه فاعتذر واعترف بالذنب ورغب في
الإقالة فحمل إلى مضرب بني له بإزاء فسطاط السلطان واعتقل هنالك وانطلقت الأيدي
على معاقل عامر ودياره فانتهب من الأموال والسلاح والذخيرة والزرع والأقوات ما لا
عين رأت ولا أذن سمعت
واستولى السلطان على الجبل ومعاقله في رمضان من سنة إحدى وسبعين وسبعمائة لحول من
يوم حصاره وعقد على هنتاتة لابن أخي عامر وهو فارس بن عبد العزيز بن محمد بن علي
الهنتاتي وارتحل إلى فاس فاحتل بها آخر رمضان المذكور ودخلها في يوم مشهود برز فيه
الناس وحمل عامر وسلطانه تاشفين من بني عبد الحق كان نصبه للأمر مموها به على
عادته فحملا معا على جملين وقد أفرغ عليهما لباس رث وعبثت بهما أيدي الإهانة فكان
ذلك عبرة لمن رآه
ولما قضى السلطان عبد العزيز نسك عيد الفطر أحضر عامرا فقرعه بذنوبه وأتى بكتاب
بخطه يخاطب فيه أبا حمو بن يوسف الزياني ويستنجده على
____________________
السلطان فشهد عليه به وأمر
السلطان بامتحانه فلم يزل يجلد حتى انتشر لحمه وضرب بالعصى حتى ورمت أعضاؤه وهلك
بين يدي الوزعة وجنب تاشفين سلطانه إلى مصرعه فقتل قعصا بالرماح وجنب مبارك بن
إبراهيم الخلطي من محبسه بعد الاعتقال فألحق بهم ولكل أجل كتاب وصفا الجو للسلطان
عبد العزيز من المنازعين وتفرغ لغزو تلمسان على ما نذكره إن شاء الله ارتجاع
الجزيرة الخضراء من يد الإسبانيول
قد قدمنا ما كان من استيلاء الطاغية على الجزيرة الخضراء أيام السلطان أبي الحسن
رحمه الله فاستمرت في ملكتهم إلى هذا التاريخ فنشأت بينهم فتنة وتقاتلوا على الملك
وأعروا ثغورهم الموالية للمسلمين من الحامية والجند فبقيت عورة وتشوف المسلمون إلى
ارتجاع الجزيرة الخضراء التي قرب عهدهم بانتظامها في ملكة المسلمين
وكان السلطان عبد العزيز في شغل عن ذلك بفتنة أبي الفضل بن أبي سالم وعامر بن محمد
وانتقاضهما فبعث إلى ابن الأحمر صاحب الأندلس أن يزحف إليها بعساكره وعليه عطاؤهم
وإمدادهم بالمال والأساطيل على أن تكون مثوبة جهاده خالصة له فأجاب ابن الأحمر إلى
ذلك وبعث إليه السلطان عبد العزيز بأحمال المال وأوعز إلى أساطيله بسبتة فانعمرت
وأقلعت حتى احتلت بمرسى الجزيرة الخضراء لحصارها وزحف ابن الأحمر بعساكر المسلمين
على أثرها بعد أن قسم فيهم العطاء وأزاح العدد وأعد الآلات للحصار فنازلها أياما
قلائل ثم أيقن النصارى بالهلكة لبعدهم عن الصريخ ويأسهم من مدد ملوكهم فألقوا
باليد وسألوا النزول على الصلح فأجابهم ابن الأحمر إليه ونزلوا عن البلد وأقيمت
فيه شعائر الإسلام ومحيت منه كلمة الكفر وكتب الله أجرها لمن أخلص في معاملته
____________________
وكان ذلك سنة سبعين وسبعمائة
وولي ابن الأحمر عليها من قبله ولم تزل إلى نظره إلى أن وقع الاختيار على هدمها
خشية استيلاء النصرانية عليها مرة أخرى فهدمت أعوام الثمانين وسبعمائة وأصبحت
خاوية كأن لم تغن بالأمس نهوض السلطان عبد العزيز إلى تلمسان واستيلاؤه عليها
وفرار سلطانها أبي حمو بن يوسف عنها
كان أبو حمو بن يوسف الزياني قد فسد ما بينه وبين عرب سويد وقبض على بعض رؤسائهم
محمد بن عريف فاستصرخوا عليه السلطان عبد العزيز وكانت القوارص لا تزال تسري إليه
من أبي حمو المذكور فصادفوا منه صاغية إلى ما التمسوا منه واعتزم على النهوض إلى
تلمسان وبعث الحاشرين إلى الجهات المراكشية فتوافى الناس إليه على طبقاتهم
واجتمعوا عنده أيام منى سنة إحدى وسبعين وسبعمائة فأفاض العطاء وأزاح العلل ولما
قضى نسك عيد الأضحى عرض الجند ونهض إلى تلمسان فاحتل بتازا
واتصل خبره بأبي حمو فجمع الجموع وهم باللقاء ثم اختلفت كلمة أصحابه وتفرق عنه
العرب من بني معقل فأجفل هو وأشياعه من بني عامر بن زغبة فدخلوا القفر
وتقدم السلطان عبد العزيز فاحتل بتلمسان يوم عاشوراء من سنة اثنتين وسبعين
وسبعمائة فدخلها في يوم مشهود واستولى عليها وعقد لوزيره أبي بكر بن غازي بن الكاس
على عساكر مرين والعرب وسرحه في اتباع أبي حمو فأدركه ببعض بلاد زناتة الشرق
فأجهضوه عن ماله ومعسكره فانتهب بأسره واكتسحت أموال العرب الذين معه ونجا بذمائه
إلى مصاب وتلاحق به ولده وقومه متفرقين على كل مفازة ثم دخلوا القفر بعد ذلك ودوخ
الوزير المذكور بلاد المغرب الأوسط وشرد عصاته واستنزل ثواره في أخبار طويلة
____________________
واستولى السلطان عبد العزيز على سائر الوطن من الأمصار والأعمال وعقد عليها للولاة
والعمال واستوسق له ملك المغرب الأوسط كما كان لسلفه واستمر مقيما بتلمسان إلى أن
كان ما نذكره نزوع الوزير ابن الخطيب عن سلطانه الغني بالله إلى السلطان عبد
العزيز بتلمسان
قد قدمنا ما كان من رجوع الغني بالله ابن الأحمر إلى ملكه بالأندلس سنة ثلاث وستين
وسبعمائة ولما استولى على غرناطة وثبت قدمه بها بعث عن مخلفه بفاس من الأهل والولد
والقائم بالدولة يومئذ عمر بن عبد ا لله فاستقدم عمر ابن الخطيب من سلا وبعثهم إلى
نظره فسر السلطان ابن الأحمر بمقدمه ورده إلى منزلته ودفع إليه تدبير المملكة وخلط
بينه بندمائه وأهل خلوته وانفرد ابن الخطيب بالحل والعقد وانصرفت إليه الوجوه
وعلقت به الآمال وغشى بابه الخاصة والكافة وغصت به بطانة السلطان وحاشيته فتوافقوا
على السعاية فيه وقد صم السلطان عن قبولها ونما بذلك الخبر إلى ابن الخطيب فشمر عن
ساعده للرحلة عن الأندلس واللحاق بالمغرب وكان له حنين إليه ورغبة في الإيالة
المرينية من قبل ذلك فقدم الوسائل إلى السلطان عبد العزيز وأوعز إليه بما عزم عليه
من اللحاق بحضرته فوعده السلطان بالجميل وبسط أمله فحينئذ استأذن السلطان الغني
بالله في تفقد الثغور الغربية من أرض الأندلس فأذن له وسار إليها في جماعة من
فرسانه ومعه ابنه علي فلما حاذى جبل طارق مال إليه فخرج قائد الجبل لتلقيه وقد كان
السلطان عبد العزيز أوعز إليه بذلك وجهز إليه الأسطول من حينه فاحتل بسبتة ثم سار
منها فقدم على السلطان عبد العزيز بتلمسان سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة فاهتزت له
الدولة وأركب السلطان خاصته لتلقيه وأحله بمجلسه محل الأمن والغبطة ومن دولته
بمكان الشرف والعزة
____________________
وأخرج لوقته كاتبه أبا يحيى بن
أبي مدين سفيرا إلى الأندلس في مطلب أهله وولده فجاء بهم على أكمل الحالات من
الأمن والتكرمة ثم نزل بعد ذلك مدينة فاس القديمة فاستكثر بها من شراء الضياع
وتأنق في بناء المساكن واغتراس الجنات وحفظت عليه رسومه السلطانية وتوقيراته وأقام
مطمئنا بخير دار عند أعز جار وفاة السلطان عبد العزيز بن أبي الحسن رحمه الله
كان السلطان عبد العزيز قد أصابه مرض النحول في صغره ولأجل ذلك تجافى السلطان أبو
سالم عن بعثه مع الأبناء إلى الأندلس فأقام بالمغرب ولما شب أفاق من مرضه وصلح
بدنه ثم عاوده وجعه في مثواه بتلمسان وتزايد نحوله ولما كمل الفتح واستفحل الملك
اشتد به الوجع فصابره وكتمه عن الناس خشية الإرجاف ثم عسكر خارج تلمسان للحاق
بالمغرب
ولما كانت ليلة الخميس الثاني والعشرين من ربيع الآخر سنة أربع وسبعين وسبعمائة
قضى نحبه رحمه الله بظاهر تلمسان بين أهله وولده وسيق إلى فاس فدفن بجامع قصره
وسنه يومئذ أربع وعشرين سنة وكانت دولته ست سنين وأربعة أشهر
ومن نظمه ما ذكره ابن الأحمر في نثير الجمان مذيلا بيتي والده السلطان أبي الحسن
اللذين هما قوله
( أرضي الله في سر وجهر ** وأحمي العرض من دنس ارتياب )
( وأعطي الوفر من مالي اختيارا ** وأضرب بالسيوف طلي الرقاب )
فقال هو وأحسن
( وأرغب خالقي في العفو عني ** وأطلب حلمه يوم الحساب )
( وأرجو عونه في عز نصر ** على الأعداء محروس الجناب )
____________________
( وعبدك واقف بالباب فارحم ** عبيدا خائفا ألم العقاب ) الخبر عن دولة السلطان
السعيد بالله أبي زيان محمد بن عبد العزيز بن أبي الحسن
هذا السلطان ممن ولي الأمر وهو صبي وفيه ألف ابن الخطيب كتابه المسمى بأعلام
الأعلام بمن بويع من ملوك الإسلام قبل الاحتلام كنيته أبو زيان أمه عائشة بنت
القائد فارح العلج صفته آدم اللون شديد الأدمة
ولما مات السلطان عبد العزيز رحمه الله بظاهر تلمسان خرج الوزير أبو بكر بن غازي
بن الكاس على الناس وقد احتمل أبا زيان ابن السلطان عبد العزيز فعزاهم عن سلطانهم
ثم طرح ابنه بين أيديهم فازدحموا عليه باكين متفجعين يعطونه الصفقة ويقبلون يديه
للبيعة ثم أخرجوه للمعسكر وأنزلوه بفساطيط أبيه وتم أمره وكفله الوزير المذكور
فكان إليه الإبرام والنقض والصبي كالعدم إذ لم يكن في سن التصرف
ثم إن الوزير ارتحل بالناس وجد السير فدخل حضرة فاس وأجلس الصبي لبيعة العامة
فبايعوا ثم توافت لديه وفود الأمصار على العادة واستبد الوزير أبو بكر واستعمل على
الجهات وجلس بمجلس الفصل واشتغل بأمر المغرب إبراما ونقضا
ولما فصل بنو مرين عن تلمسان عاد إليها سلطانها أبو حمو بن يوسف الزياني والتفت
عليه بنو عبد الواد من كل جانب ومحا دعوة بني مرين من ضواحي المغرب الأوسط وأمصاره
واتصل الخبر بالوزير أبي بكر بن غازي فهم بالنهوض إليه ثم ثنى عزمه ما كان من خروج
الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن بن أبي علي بن أبي سعيد بناحية بطوية فإن السلطان
ابن الأحمر كان قد سرحه من الأندلس صحبة وزيره مسعود بن عبد الرحمن بن ماساي
____________________
لطلب ملك المغرب تشغيبا على
الوزير أبي بكر بن غازي ثم أتبعه بالأمير أبي العباس أحمد بن السلطان أبي سالم
الذي كان محتاطا عليه بطنجة فزحف الأمير أبو العباس المذكور إلى فاس وظاهره ابن
عمه الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن فحاصروا الوزير أبا بكر بن غازي وسلطانه أبا
زيان ابن عبد العزيز وضربوا على فاس الجديد سياجا بالبناء للحصار وأنزلوا به أنواع
القتال بعد أن بعث ابن الأحمر رسله إلى الأمير عبد الرحمن باتصال اليد بابن عمه
الأمير أبي العباس ومظاهرته على ملك سلفه بفاس واجتماعهما لمنازلتها وعقد بينهما
الاتفاق والمواصلة وأن يختص عبد الرحمن بملك سلفه من سجلماسة وأعمالها فتراضيا
وزحفا إلى فاس كما قلنا وأمدهم ابن الأحمر بجمع من جنده فاستمر الحال على حصار فاس
إلى أن أذعن الوزير أبو بكر لخلع سلطانه أبي زيان ومبايعة الأمير أبي العباس فخلعه
يوم الأحد السادس من محرم فاتح سنة ست وسبعين وسبعمائة وغرب إلى الأندلس فكانت
دولته سنة وثمانية أشهر وأربعة عشر يوما والله غالب على أمره الخبر عن الدولة
الأولى للسلطان المستنصر بالله أبي العباس أحمد بن أبي سالم بن أبي الحسن
هذا السلطان يقال له ذو الدولتين لأنه ولي الملك مرتين كما سيأتي أمه حرة بنت أبي
محمد السبائي كنيته أبو العباس لقبه المستنصر بالله صفته أبيض اللون ربعة تعلوه
صفرة رقيقة أدعج أسود الشعر أكحل الحاجبين ضيق البلج أسيل الخدين براق الثنايا
جميل الوجه مليح الصورة ظريف المنزع لطيف الشمائل حسن الشكل إذا ركب بويع أولا
بطنجة في شهر ربيع الآخر سنة خمس وسبعين وسبعمائة ثم بويع البيعة العامة بالمدينة
البيضاء بعد استيلائه عليها يوم الأحد السادس من محرم سنة ست وسبعين
____________________
وسبعمائة وكان الأمير عبد
الرحمن بن أبي يفلوسن عندما أشرفوا على فتح فاس شرط عليهم ولاية مراكش عوضا عن
سجلماسة فعقدوا له على كره مخافة أن تفترق كلمتهم ولا يتم أمرهم ففعلوا وطووا له
على النكث فارتحل إلى مراكش واستولى عليها ثم فارقه وزيره مسعود بن عبد الرحمن
وأجاز البحر إلى الأندلس فاستقر بها في إيالة ابن الأحمر
واستقل السلطان أبو العباس بن أبي سالم بملك فاس وأعمالها واستوزر محمد بن عثمان
بن الكاس وفوض إليه أموره فغلب على هواه وجعل أمر الشورى إلى سليمان بن داود
فاستقل بها وحاز رياسة المشيخة واستحكمت المودة بينه وبين ابن الأحمر وجعلوا إ ليه
المرجع في نقضهم وإبرامهم فصار له بذلك تحكم في الدولة المرينية وأصبح المغرب كأنه
من بعض أعمال الأندلس وذلك بما كان لابن الأحمر من إعانة السلطان أبي العباس على
ملك المغرب حتى تم له وبما كان تحت يده من أبناء الملوك المرشحين للأمر فكان أبو
العباس وحاشيته يصانعونه لأجل ذلك والله تعالى أعلم محنة الوزير ابن الخطيب ومقتله
رحمه الله
لما لجأ ابن الخطيب إلى بني مرين وأصاب عندهم دارا وقرارا عز ذلك على ابن الأحمر
وسعى بطانته عنده في ابن الخطيب لعداوتهم له ثم بلغه أنه يغري السلطان عبد العزيز
بتملك أرض الأندلس وقطع دعوة بني الأحمر منها فعظم عليه ذلك ودبر الحيلة في قتل
ابن الخطيب وتتبع أعداؤه كلمات زعموا أنها صدرت منه في بعض تآليفه فأحصوها عليه
ورفعوها إلى قاضي غرناطة أبي الحسن النباهي فاسترعاها وسجل عليه بالزندقة وبعث ابن
الأحمر برسم الشهادة مع هدية لم يسمع بمثلها إلى السلطان عبد العزيز وطلب منه
إقامة الحد على ابن الخطيب أو إ سلامه إليه فصم السلطان عبد العزيز عن ذلك وأنف
لذمته أن تخفر ولجواره أن يؤذى وقال للوفد هلا
____________________
انتقمتم منه وهو عندكم وأنتم
عالمون بما كان عليه وأما أنا فلا يخلص إليه بذلك أحد ما كان في جواري ثم وفر
الجراية والإقطاع له ولبنيه ولمن جاء من فرسان الأندلس في جملته
ثم لما مات السلطان عبد العزيز رحمه الله وولي ابنه أبو زيان وقام بأمره الوزير
أبو بكر ابن غازي عاود ابن الأحمر الكلام في شأن ابن الخطيب وبعث بهدية أخرى إلى
الوزير المذكور وطلب منه إسلامه إليه فأبى الوزير وأساء الرد وعادت رسل ابن الأحمر
إليه مخفقين وقد رهبوا سطوته فعند ذلك عمد ابن الأحمر إلى الأمير عبد الرحمن بن
أبي يفلوسن وكان عنده بالأندلس فأطمعه في ملك المغرب وأركبه البحر فقذف به بساحل
بطوية من بلاد الريف تشغيبا على الوزير أبي بكر بن غازي كما مر ثم ثاب له رأي آخر
فأغرى محمد بن عثمان بن الكاس وهو ابن عم أبي بكر بن غازي المذكور وكان يومئذ
بسبتة قائما على ثغرها فداخله في البيعة لأبي العباس ابن أبي سالم وكان يومئذ
بسبتة محتاطا عليه في جملة من القرابة والتزم أن يمده بالمال والرجال حتى يتم أمره
لكن بشرط أن ينزل له عن جبل طارق ويبعث له بالقرابة الذين هم بطنجة ليكونوا تحت
يده ويسلم إليه ابن الخطيب متى قدر عليه فكان الأمر كذلك فإن السلطان أبا العباس
لما استولى على الأمر نزل لابن الأحمر عن جبل طارق فمحا دعوة بني مرين من وراء
البحر ثم ملك بعد ذلك سبتة فاستولى عليها وبعث إليه بالقرابة المذكورين فأوسع لهم
جنابه بغرناطة ثم قبض السلطان أبو العباس ووزيره محمد بن عثمان على ابن الخطيب
وطيروا بالأعلام لابن الأحمر فحينئذ بعث وزيره أبا عبد الله بن زمرك وكان من
تلاميذه ابن الخطيب وبه تخرج فقدم على السلطان أبي العباس وأحضروا ابن الخطيب
بالمشور في مجلس الخاصة وأهل الشورى من الفقهاء وعرضوا عليه بعض كلمات وقعت له في
بعض كتبه فعظم عليه النكير فيها فوبخ ونكل وامتحن بالعذاب بمشهد ذلك
____________________
الملأ ثم ثل إلى محبسه
وتفاوضوا في قتله بمقتضى تلك المقالات المسجلة عليه فأفتى بعض الفقهاء بقتله فدس
سليمان بن داود إليه بعض الأوغاد حاشيته من حاشيته فطرقوا السجن ليلا ومعهم زعانفة
من أهل الأندلس جاؤوا في لفيف ذلك الوفد فقتلوه خنقا في محبسه وأخرجوا شلوه من
الغد فدفن في مقبرة باب المحروق ثم أصبح من الغد طريحا على شافة قبره وقد جمعوا له
أعوادا فأضرموها عليه نارا فاحترق شعره واسود بشره وأعيد إلى حفرته وكان في ذلك
انتهاء محنته وعجب الناس من هذه السفاهة التي جاء بها سليمان بن داود واعتدوها من
هنتاته وعظم النكير فيها عليه وعلى قومه وأهل دولته
وكان ابن الخطيب رحمه الله أيام مقامه بالسجن يتوقع مصيبة الموت فتجيش هواتفه
بالشعر يبكي نفسه فمما قال في ذلك
( بعدنا وإن جاورتنا البيوت ** وجئنا بوعظ ونحن صموت )
( وأنفسنا سكنت دفعة ** كجهر الصلاة تلاه القنوت )
( وكنا عظاما فصرنا عظاما ** وكنا نقوت فها نحن قوت )
( وكنا شموس سماء العلا ** غربنا فناحت عليها السموت )
( فكم جدلت ذا الحسام الظبي ** وذو البخت كم جدلته البخوت )
( وكم سيق للقبر في خرقة ** فتى ملئت من كساه التخوت )
( فقل للعدا ذهب ابن الخطيب ** وفات ومن ذا الذي لا يفوت )
( فمن كان يفرح منكم له ** فقل يفرح اليوم من لا يموت )
وكانت نكبته رحمه الله أوائل سنة ست وسبعين وسبعمائة وعند الله تجتمع الخصوم
____________________
بقية أخبار أمير مراكش عبد
الرحمن بن أبي يفلوسن رحمه الله
قد تقدم لنا ما كان من معاقدة السلطان أبي العباس والأمير عبد الرحمن ابن أبي
يفلوسن على ولاية سجلماسة أولا ثم التعويض عنها بمراكش ثانيا فلما فتح السلطان أبو
العباس فاسا وفى للأمير عبد الرحمن بعقده فسار إلى مراكش واستولى عليها وعلى
أعمالها واقتسمت مملكة المغرب الأقصى يومئذ بنصفين
وكان الحد بين الدولتين ثغر آزمور فكانت في إيالة صاحب فاس وما وراءها إلى مراكش
في إيالة صاحب مراكش ثم كانت بينهما بعد ذلك مواصلات ومناقضات ومسالمات ومحاربات
يطول جلبها واتصل ذلك إلى منتصف سنة أربع وثمانين وسبعمائة فظفر السلطان أبو
العباس بعبد الرحمن بعد محاصرته بقصبة مراكش تسعة أشهر ولما أشرف السلطان أبو
العباس على فتحها وانفض الناس من حول الأمير عبد الرحمن ونزلوا من الأسوار ناجين
إلى السلطان وبقي هو في قصبته منفردا بات ليلته يراود ولديه على الاستماتة وهما
سليم وأبو عامر وركب السلطان أبو العباس من الغد في التعبية إلى القصبة فاقتحمها
بمقدمته ولقيه الأمير عبد الرحمن وولداه مسابقين إلى الميدان ومباشرين القتال بين
أبواب دورهم فجالوا معهم جولة قتل فيها الولدان قتلهم علي بن إدريس وزيان بن عمر
الوطاسي
قال ابن خلدون وطالما كان زيان يمتري ثدي نعمتهم ويجر ذيله خيلاء في جاههم فذهب
مثلا في كفران النعمة وسوء الجزاء والله لا يظلم مثقال ذرة وكان ذلك خاتم جمادى
الآخرة سنة أربع وثمانين المذكورة لمضي عشر سنين من إمارة عبد الرحمن على مراكش ثم
رحل السلطان أبو العباس منقلبا إلى فاس وقد استولى على سائر أعمال المغرب وظفر
بعدوه ودفع النازعين عن ملكه والله غالب على أمره
____________________
ذكر الشاوية وبيان نسبهم
وأوليتهم وشرح لقبهم وتسميتهم
ذكر ابن خلدون أن الشاوية من ولد حسان بن أبي سعيد الصبيحي نسبة إلى صبيح بالتصغير
بطن من سويد وسويد إحدى قبائل بني مالك بن زغبة الهلاليين وكان دخول حسان وأخيه
موسى ابني أبي سعيد إلى المغرب الأقصى أيام السلطان يعقوب بن عبد الحق رحمه الله
قدموا في صحبة عبد الله بن كندوز العبد الوادي ثم الكمي وكان عبد الله هذا قد نزع
عن يغمراسن بن زيان إلى السلطان يعقوب المذكور فقدم عليه قبل فتح مراكش فاهتز
السلطان يعقوب لقدومه وأحله بالمكان الرفيع من دولته وأنزل قومه بجهات مراكش
وأقطعهم البلاد التي كفتهم مهماتهم وجعل انتجاع إبله ورواحله وسائر ظهره في
إحيائهم فقدم عبد الله بن كندوز على رعايتها حسان وأخاه موسى الصبيحيين وكانا
عارفين برعاية الإبل والقيام عليها فأقاموا يتقلبون في تلك البلاد ويتعدون في
نجعتها إلى أرض سوس وكانت ماشية السلطان يعقوب متفرقة في سائر المغرب فجمعها لعبد
الله بن كندوز وجمعها عبد الله لحسان الصبيحي المذكور فكان حسان يباشر أمور
السلطان في شأن تلك الماشية ويطالعه بمهماته فحصلت له مداخلة معه جلبت إليه الحظ
حتى ارتفع قدره ونشأ بنوه في ظل الدولة وعزها وتصرفوا في الولايات منها وانفردوا
بخطة الشاوية فلم تزل ولايتها متوارثة فيهم منقسمة بينهم لهذا العهد إلى ما كانوا
يتصرفون فيه من غير ذلك من الولايات وكان لحسان من الولد علي ويعقوب وطلحة وغيرهم
ومن حسان هذا تفرعت شعوبهم في ولده
قال ابن خلدون وهم لهذا العهد يتصرفون في الدولة على ما كان لسلفهم من ولاية
الشاوية والنظر في رواحل السلطان والظهر الذي يحمل من الإبل ولهم عدد وكثرة ونباهة
في الدولة أه قلت ولفظ الشاوية نسبة إلى الشاء التي هي جماعة الغنم مثلا قال
الصحاح والنسبة إلى الشاء شاوي قال الراجز
____________________
( لا ينفع الشاوي فيها شاته ** ولا حماراه ولا علاته )
وإن سميت به رجلا قلت شائي وإن شئت شاوي اه
واعلم أن الشاوية اليوم يطلقون على سكان تامسنا من قبائل شتى بعضها عرب وبعضها
زناتة وبربر غير أن لسان الجميع عربي وكان أصل جمهورهم من هؤلاء الذين ذكر ابن
خلدون ثم انضافت إليهم قبائل أخر واختلطوا بهم فأطلق على الجميع شاوية تغليبا
وهكذا وقع في سائر عرب المغرب الأقصى المواطنين بتلوله فإنهم وقع فيهم اختلاط كبير
حتى نسوا أنسابهم وأصولهم الأولى إلا في النادر وذلك بسبب تعاقب الأعصار وتناسخ
الأجيال وتوالي المجاعات والانتجاعات ووقعات الملوك بهم في كثير من الأحيان وتفريق
بعضهم من بعض ونقل بعضهم إلى بلاد بعض ومع ذلك فأسماؤهم الأولى لا زالت قائمة فيهم
لن تتغير إلى الآن فمنها يهتدي الفطن إلى التنقير عن أنسابهم وإلحاق فروعهم
بأصولهم متى احتاج إلى ذلك والله تعالى أعلم نهوض السلطان أبي العباس إلى تلمسان
وفتحها وتخريبها
لما نهض السلطان أبو العباس إلى مراكش وحاصر بها عبد الرحمن بن أبي يفلوسن خالفه
إلى المغرب أبو حمو بن يوسف الزياني في جمع من أولاد حسين عرب معقل وذلك بإغراء
عبد الرحمن المذكور فدخلوا إلى أحواز مكناسة وعاثوا فيها ثم عمدوا إلى مدينة تازا
فحاصروها سبعا وخربوا قصر الملك هنالك ومسجده المعروف بقصر تازروت وبينما هم على
ذلك بلغهم الخبر اليقين بفتح مراكش وقتل الأمير عبد الرحمن فأجفلوا من كل ناحية
ومر أبو حمو في طريقه إلى تلمسان بقصر ونزمار بن عريف السويدي في نواحي بطوية
المسمى بمرادة فهدمه
ووصل السلطان أبو العباس إلى فاس فأراح بها أياما ثم أجمع النهوض إلى تلمسان
فانتهى إلى تاوريرت وبلغ الخبر إلى أبي حمو فاضطرب رأيه
____________________
واعتزم على الحصار وجمع أهل
البلد عليه فاستعدوا له ثم بدا له فخرج في بعض تلك الليالي بولده وأهله وخاصته
وأصبح مخيما بالصفيصف فأهرع أهل البلد إليه بعيالهم وأولادهم متعلقين به تفاديا من
معرة هجوم العسكر عليهم فلم يزعه ذلك عن قصده وارتحل ذاهبا إلى البطحاء ثم قصد
بلاد مغراوة فنزل في بني بو سعيد قريبا من شلف وأنزل أولاده الأصاغرة وأهله بحصن
تاجحمومت وجاء السلطان أبو العباس إلى تلمسان فملكها واستقر بها أياما ثم هدم
أسوارها وقصور الملك بها بإغراء وليه ونزمار جزاء بما فعله أبو حمو في تخريب قصر
تازروت وحصن مرادة ثم خرج من تلسمان في اتباع أبي حمو ونزل على مرحلة منها وهنالك
بلغه الخبر بإجازة موسى بن أبي عنان من الأندلس إلى المغرب وأنه خالفه إلى دار
الملك فانكفأ راجعا عوده على بدئه ورجع أبو حمو إلى تلمسان فاستقر ملكه بها إلى أن
كان ما نذكره إن شاء الله خلع السلطان أبي العباس بن أبي سالم وتغريبه إلى الأندلس
والسبب في ذلك
قد قدمنا ما كان من تحكم ابن الأحمر في مملكة المغرب ودالته على السلطان أبي
العباس بما أنه كان السبب في ولايته وبما تحت يده من القرابة المرشحين الذين
أرصدهم للتشغيب على دار الملك بالمغرب متى رأى من أحدهم ما لا يوافق هواه وكان مع
كثرة تحكمه فيهم يتجنى عليهم في بعض الأوقات بما يأتونه من تقصير في شفاعة أو
مخالفة في أمر لا يجدون عنها محيصا فيضطغن ذلك عليهم وكان يعتد على السلطان أبي
العباس بشيء من هذه الهنات
فلما نهض إلى تلمسان واستولى عليها سنة خمس وثمانين وسبعمائة اتصل بابن الأحمر أن
دار الملك بفاس قد بقيت عورة من الجند والحامية فانتهز الفرصة وبادر بتسريح موسى
ابن السلطان أبى عنان إلى المغرب
____________________
واستوزر له مسعود بن عبد
الرحمن بن ماساي رئيس الفتنة وقطب رحاها وكان عنده بالأندلس بعد مفارقة عبد الرحمن
بن أبي يفلوسن فنزل موسى ابن أبي عنان سبتة فاستولى عليها وسلمها لابن الأحمر
فدخلت في طاعته ثم تقدم إلى فاس فدخلها من يومه واستقر قدمه بها
واتصل الخبر بالسلطان أبي العباس وهو بتلمسان فجاء مبادرا ونزل بتازا فأقام بها
أربعا ثم تقدم إلى الموضع المعروف بالركن فانتقض عليه رؤساء جيشه وتسللوا إلى موسى
طوائف وأفرادا ولما رأى ما نزل به رجع إلى تازا بعد أن انتهب معسكره وأضرمت النار
في خيامه وذلك يوم الأحد الموفي ثلاثين من ربيع الأول سنة ست وثمانين وسبعمائة
ثم بعث موسى بن أبي عنان من أتاه بالسلطان أبي العباس في الأمان فقدم عليه وقيده
وبعث به إلى ابن الأحمر فبقي عنده محتاطا عليه إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء
الله
وكانت دولته هذه عشر سنين وشهرين وأربعة وعشرين يوما ومن وزرائه في هذه الدولة
محمد بن عثمان بن الكاس المجذولي ومن كتابه عبد المهيمن ابن أبي سعيد بن عبد
المهيمن الحضرمي تغمد الله الجميع برحمته الخبر عن دولة السلطان المتوكل على الله
أبي فارس موسى ابن أبي عنان بن أبي الحسن
أمه مولدة اسمها تاملالت صفته أسمر مائل إلى السواد قصير القامة جاحظ العينين عظيم
اللحية تملأ صدره قائم الأنف وإذا تكلم يملأ لسانه فمه فيخرج من بين شفتيه ويتحرك
فيقبح كلامه بويع يوم الخميس الموفي عشرين من شهر ربيع الأول سنة ست وثمانين
وسبعمائة وقام بأمر دولته وزيره مسعود بن ماساي مستبدا عليه ولما استقر أمره
بالحضرة وجه إليه ابن الأحمر أمه وعياله وكانوا عنده وهناه وزيره أبو عبد الله بن
زمرك بتوشيح يقول في مطلعه
____________________
( قد نظم الشمل أتم انتظام ** ولاحت الأقمار بعد المغيب )
( وضاحك الروض ثغور الغمام ** عن مبسم الزهر البرود الشيب )
إلى أن قال في آخره
( مولاي يهنيك وحق الهنا ** قد نظم الشمل كنظم السعود )
( قد فزت بالفخر ونيل المنى ** وأنجز السعد جميع الوعود )
( وقرت العين وزال العنا ** وكلما مر صنيع يعود )
( ولم يزل ملكك حلف الدوام ** يحوز في التخليد أوفى نصيب )
( يتلو عليك الدهر بعد السلام ** نصر من الله وفتح قريب ) خروج الحسن بن الناصر
بغمارة ونهوض الوزير ابن ماساي إليه
كان الحسن بن الناصر بن أبي علي بن أبي سعيد قد لحق من مقره بالأندلس بحضرة تونس
في سبيل طلب الملك وكان الوزير مسعود بن ماساي قد قتل محمد بن عثمان بن الكاس
وافترقت حاشيته في الجهات فطلبوا بطن الأرض دون ظهرها ولحق منهم ابن أخيه العباس
بن المقداد بتونس فعثر على الحسن بن الناصر بها فثاب له رأي في الرجوع به إلى
المغرب لطلب الأمر فخرج به من تونس وقطع المفاوز إلى أن انتهى إلى جبال غمارة ونزل
على أهل الصفيحة منهم فأكرموا مثواه ومنقلبه وأعلنوا بالقيام بدعوته واستوزر العباس
بن المقداد
وبلغ الخبر إلى مسعود الوزير فجهز العساكر مع أخيه مهدي بن عبد الرحمن بن ماساي
فحاصره بجبل الصحيفة أياما فامتنع عليه فنهض إليه مسعود بنفسه على ما نذكره
____________________
وفاة السلطان موسى بن أبي عنان
رحمه الله
لما كان من استبداد ابن ماساي على السلطان موسى ما قدمناه استنكف من ذلك وداخل
بطانته في الفتك به فنما ذلك إليه وحصلت له نفرة من السلطان طلب لأجلها البعد عنه
وبادر إلى الخروج لدافعة الحسن بن الناصر القائم بغمارة واستخلف على دار الملك
أخاه يعيش بن عبد الرحمن بن ماساي فلما انتهى إلى قصر كتامة بلغه الخبر بوفاة
السلطان موسى وكانت وفاته في جمادى الآخرة طرقه المرض فهلك ليوم وليلة من مرضه
وكان الناس يرمون يعيش أخا الوزير بأنه سمه قاله ابن خلدون
وقال ابن القاضي في الجذوة توفي السلطان موسى بن أبي عنان مسموما يوم الجمعة
الثالث من شهر رمضان سنة ثمان وثمانين وسبعمائة وله إحدى وثلاثون سنة فكانت دولته
سنتين وأربعة أشهر وولي بعده محمد بن أحمد بن أبي سالم اه
ومن كتابه أبو الفضل محمد بن محمد بن أبي عمرو التميمي وأبو القاسم محمد بن سودة
المري ومن قضاته أبو عبد الله محمد بن محمد المغيلي والله تعالى أعلم الخبر عن
دولة المنتصر بالله السلطان أبي زيان محمد بن أبي العباس ابن أبي سالم بن أبي
الحسن
أمه حرة وهي رقية بنت السلطان أبي عنان صفته أبيض اللون قائم الأنف أسيل الخدين
بويع بعد خاله موسى بن أبي عنان يوم الجمعة الثالث من شهر رمضان سنة ثمان وثمانين
وسبعمائة وسنه يوم بويع خمس سنين وخلع يوم الجمعة الخامس عشر من شوال من السنة
المذكورة وغرب إلى الأندلس مع أبيه فكانت دولته ثلاثة وأربعين يوما تحت استبداد
الوزير مسعود عفا الله عنه
____________________
الخبر عن دولة السلطان الواثق
بالله أبي زيان محمد بن أبي الفضل بن أبي الحسن
أمه أم ولد اسمها عسيلة صفته أسود اللون عظيم الخلق رحب الوجه طويل القامة
والساقين ممتلئ الأنف عظيم الساعدين وكان قبل ولايته عند ابن الأحمر بالأندلس في
جملة القرابة ولما استوحش الوزير مسعود من السلطان موسى بن أبي عنان بعث ابنه يحيى
إلى ابن الأحمر يسأل منه إعادة السلطان أبي العباس إلى ملكه فأخرجه ابن الأحمر من
الاعتقال وجاء به إلى جبل الفتح يروم إجازته إلى العدوة فلما توفي السلطان موسى
بدا للوزير مسعود في أمره ودس لابن الأحمر في رده وأن يبعث إليه بالواثق هذا ورآه
أليق بالاستبداد والحجر فأسعفه ابن الأحمر في ذلك ورد السلطان أحمد إلى مكانه
بالحمراء وجيء بالواثق فحضر بجبل الفتح عنده فأجازه إلى سبتة واتفق أن جماعة من
الحاشية انتقضوا على الوزير مسعود ولحقوا بسبتة فقدم عليهم الواثق بها ورجعوا به
إلى المغرب وتقلبوا في نواحيه إلى أن وصلوا إلى جبل مغيلة قرب فاس فبرز الوزير
مسعود في العساكر ونزل قبالتهم وقاتلهم هنالك أياما ثم وقع الاتفاق على أن يبايع
مسعود للواثق بشرط الاستبداد فتم العقد على ذلك
قال في الجذوة بويع السلطان الواثق بالله أبو زيان محمد بن أبي الفضل يوم الجمعة
الخامس عشر من شوال سنة ثمان وثمانين وسبعمائة وقام بأمره الوزير مسعود بن ماساي
ثم حدثت الفتنة بين الوزير المذكور وابن الأحمر بسبب أن الوزير طلب منه إعادة سبتة
إلى الإيالة المرينية وكان موسى ابن أبي عنان قد نزل له عنها كما مر وكان طلبه على
سبيل الملاطفة فاستشاط ابن الأحمر غضبا وأساء الرد فجهز ابن ماساي العساكر لحصار
سبتة مع العباس بن عمر بن عثمان الوسنافي ويحيى بن علال بن آمصمود والرئيس محمد بن
أحمد الأبكم من بني الأحمر فاستولى عليها
____________________
ثم سرح ابن الأحمر السلطان أبي
العباس من اعتقاله وبعثه إلى المغرب لطلب ملكه وللتشغيب على ابن ماساي الجاحد
لإحسانه فعبر السلطان أبو العباس البحر إلى المغرب فاحتل سبتة واستولى عليها ثم
تقدم إلى فاس فحاصرها وضيق على ابن ماساي وسلطانه الواثق بالله وأهرع الناس إلى
الدخول في طاعته حتى من مراكش فاستمر الحصار على فاس الجديد ثلاثة أشهر ثم أذعن
الوزير مسعود للطاعة على شرط أن يبقى وزيرا ويغرب سلطانه إلى الأندلس فأجيب وخلع
الواثق بالله ثم خرج إلى السلطان أبي العباس فبايعه وتقدم أمامه فدخل داخل ملكه
يوم الخميس خامس رمضان سنة تسع وثمانين وسبعمائة ولحين دخوله قبض على الواثق بالله
فقيده وبعث به إلى طنجة فقتل بها بعد ذلك وسنه يوم قتل ثمان وثلاثون سنة وبها قبر
ومن وزرائه يعيش بن علي بن فارس الياباني ومسعود بن رحو بن ماساي ومن كتابه منصور
بن أحمد بن محمد التميمي وأبو يحيى محمد ابن محمد بن أبي القاسم بن أبي مدين ومن
قضاته أبو يحيى محمد بن محمد السكاك رحمهم الله تعالى بمنه الخبر عن الدولة
الثانية للسلطان أبي العباس بن أبي سالم بن أبي الحسن
لما دخل السلطان أبو العباس حضرة فاس الجديد في التاريخ المتقدم بويع البيعة
العامة في اليوم الثالث من دخوله وهو يوم السبت السابع من رمضان سنة تسع وثمانين
وسبعمائة لمضي ثلاث سنين وخمسة أشهر وستة أيام من خلعه
ولما ملك أمر نفسه قبض على الوزير ابن ماساي وعلى إخوته وحاشيته وامتحنهم امتحانا
بليغا فهلكوا من العذاب ثم سلط على مسعود من العذاب
____________________
والانتقام ما لا يعبر عنه
واعتد عليه بما كان يفعله في دور بني مرين النازعين عنه إليه فإنه كان متى هرب
منهم أحد عمد إلى بيوته فنهبها فأمر السلطان أبو العباس بعقابه في أطلالها فكان
يؤتى به إلى كل بيت فيها فيضرب عشرين سوطا إلى أن برح به العذاب وتجاوز الحد ثم
أمر به فقطعت أربعته فهلك عند قطع الثانية وذهب مثلا للآخرين ظهور محمد بن عبد
الحليم بن أبي علي بسجلماسة ثم اضمحلاله بعد ذلك
قد قدمنا أن الأمير عبد الحليم بن أبي سعيد كان تغلب على سجلماسة ثم غلبه عليها
أخوه عبد المؤمن وسافر عبد الحليم إلى المشرق فهلك في سفرته تلك وكان قد ترك ابنه
محمدا هذا رضيعا فشب متقلبا بين الدول من ملك إلى آخر على أن أكثر مقامه إنما كان
عند أبي حمو صاحب تلمسان ولما حاصر السلطان أبو العباس فاس الجديد كان محمد هذا
عند العرب الأحلاف فلما اشتد الحصار على مسعود بن ماساي دس إلى الأحلاف أن ينصبوا
محمد بن عبد الحليم للأمر ويجلبوا به على المغرب ليأخذ بحجزة السلطان أبي العباس
عنه ففعلوا ودخل محمد بن عبد الحليم سجلماسة فملكها حتى إذا استولى السلطان أبو
العباس على فاس الجديد وأوقع بمسعود ابن ماساي وإخوته خرج محمد بن عبد الحليم عن
سجلماسة ولحق بأحياء العرب فسارت طائفة منهم معه إلى أن أبلغوه مأمنه ونزل على أبي
حموا بتلمسان إلى أن هلك فسار إلى تونس ونزل على صاحبها أبي العباس الحفصي ثم
ارتحل بعد وفاته إلى المشرق لحج الفريضة والله تعالى أعلم
____________________
نكبة الكاتب ابن أبي عمرو
وحركات بن حسون ومقتلهما
كان محمد بن محمد بن أبي عمرو التميمي وقد تقدم ذكر والده في دولة السلطان أبي
عنان كاتبا عند السلطان أبي العباس في دولته الأولى فلما خلع وولي موسى بن أبي
عنان تقرب إليه بسالف المخالصة لأبيه من أبي عنان فقد كان أعز بطانته كما مر
فاستخلصه السلطان موسى للشورى ورفع منزلته على منازل أهل الدولة وجعل إليه كتابة
علامته على المراسم السلطانية كما كان لأبيه وكان يفاوضه في مهماته ويرجع إليه في
أموره حتى غص به أهل الدولة وسعى هو عند السلطان موسى في جماعة من بطانة السلطان
أبي العباس فأتى عليهم النكال والقتل لكلمات كانت تجري بينهم وبينه في مجالس
المنادمة عند السلطان أبي العباس حقدها عليهم فلما ظفر بالحظ من السلطان موسى سعى
بهم عنده فقتلهم وكان القاضي أبو إسحاق إبراهيم اليزناسني من بطانة السلطان أبي
العباس وكان يحضر مع ندمائه فحقد عليه ابن أبي عمرو وأغرى به السلطان موسى فضربه
وأطافه وجاء بها شنعاء غريبة في القبح ثم سفر ابن أبي عمرو عن سلطانه موسى إلى الأندلس
فكان يمر بمجلس السلطان أبي العباس من محل اعتقاله فلا يلم به وربما يلقاه فلا
يحييه ولا يوجب له حقا فأحفظ ذلك السلطان أبا العباس فلما رد الله عليه ملكه وفرغ
من ابن ماساي قبض على ابن أبي عمرو هذا وأودعه السجن ثم امتحنه بعد ذلك إلى أن هلك
تحت السياط وحمل إلى داره وبينما أهله يحضرونه إلى قبره إذا بالسلطان قد أمر بأن
يسحب في نواحي المدينة إبلاغا في النكال فحمل من نعشه وقد ربط في رجله حبل وسحب في
سكك المدينة ثم ألقي على بعض المزابل
ثم قبض السلطان على حركات بن حسون شيخ العرب وكان مجلبا في الفتنة وكان العرب المخالفون
من معقل لما أجاز السلطان أبو العباس إلى
____________________
سبتة وحركات هذا بتادلا راودوه
على طاعة السلطان فامتنع أولا ثم أكرهوه وجاؤوا به إلى السلطان فطوى على ذلك حتى
إذا استقام أمره وملك حضرة فاس الجديد قبض عليه وامتحنه إلى أن هلك وإلى الله عاقبة
الأمور أخبار تلمسان واستيلاء السلطان أبي العباس عليها
كان السلطان أبو حمو بن يوسف الزياني قد عاد إلى تلمسان وثبت قدمه بها كما قلنا
إلى أن خرج عليه ابنه أبو تاشفين آخر سنة ثمان وثمانين وسبعمائة فوقعت بينهما حروب
وشرق أبوه بدائه ثم عادت له الكرة عليه في أخبار طويلة فاستمد أبو تاشفين السلطان
أبا العباس فأمده بابنه الأمير أبي فارس ووزيره محمد بن يوسف بن علال عقد لهما على
جيش كثيف من بني مرين وغيرهم فانتصر أبو تاشفين على أبيه فقتله وبعث برأسه إلى
السلطان أبي العباس ثم تقدم فدخل تلمسان آخر سنة إحدى وتسعين وسبعمائة واستمر بها
مقيما لدعوة السلطان أبي العباس فكان يخطب له على منابر تلمسان ويبعث إليه
بالضريبة كل سنة كما شرط على نفسه عند توجيه العساكر معه واستمر على ذلك إلى أن
مات سنة خمس وتسعين وسبعمائة فتغلب على تلمسان أخوه الأخير يوسف بن أبي حمو
ولما اتصل الخبر بالسلطان أبي العباس خرج من الحضرة إلى تازا ومن
____________________
هنالك بعث ابنه الأمير أبا
فارس في العساكر إلى تلمسان فاستولى عليها وأقام فيها دعوة والده وفر يوسف بن أبي
حمو إلى بعض الحصون فاعتصم به إلى أن كان ما نذكره وصول هدية صاحب مصر السلطان
الظاهر برقوق إلى السلطان أبي العباس بتازا والسبب في ذلك
كان العلامة الرئيس ولي الدين ابن خلدون قد استوطن في آخر عمره مصر القاهرة ونزل
من سلطانها بالمنزلة الرفيعة قال رحمه الله وكان يوسف ابن علي بن غانم أمير أولاد
حسين من معقل ثم من أولاد جرار منهم قد حج سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة واتصل بصاحب
مصر الملك الظاهر برقوق أول ملوك الجراكسة من الترك قال فتقدمت إلى السلطان
المذكور فيه وأخبرته بمحله من قومه فأكرم تلقيه وحمله بعد قضاء حجه هدية إلى صاحب
المغرب يطرفه فيها بتحف من بضائع بلده على عادة الملوك فلما قدم يوسف بها على السلطان
أبي العباس أعظم موقعها وجلس في مجلس حفل لعرضها والمباهاة بها وشرع في المكافأة
عليها بمتخير الجياد والبضائع والثياب حتى إذا استكمل من ذلك ما رضيه وعزم على
بعثها مع يوسف بن علي حاملها الأول وإنه يبعثه بها من موضع مقامه بتازا اخترمته
المنية دون ذلك
____________________
وفاة السلطان أبي العباس بن
أبي سالم رحمه الله **
كانت وفاة السلطان أبي العباس بمحل مقامه من تازا وهو يشارف أحوال ابنه أبي فارس
ووزيره صالح بن حمو الياباني وكان قد قدمهما لفتح تلمسان والبلاد الشرقية فأصابه
حمامه هنالك ليلة الخميس السابع من محرم فاتح سنة ست وتسعين وسبعمائة وحمل إلى فاس
فدفن بالقلة وسنه يومئذ تسع وثلاثون سنة فكانت دولته الثانية ست سنين وأربعة أشهر
ومن وزرائه في هذه الدولة صالح بن حمو الياباني ومحمد بن يوسف بن علال الصنهاجي
ومن حجابه أبو العباس أحمد بن علي القبائلي ومن كتابه الشريف أبو القاسم محمد بن
عبد الله الحسني السبتي والقائد محمد بن موسى بن محمود الكردي ويحيى بن الحسن بن
أبي دلامة التسولي ومن قضاته القاضي أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم
اليزناسني قال في الجذوة وكان السلطان أبو العباس شاعرا مفلقا بديع التشبيه فمن نظمه
قوله
( أما الهوى يا صاحبي فألقته ** وعهدته من عهد أيام الصبا )
( ورأيته قوت النفوس وحليها ** فتخذته دينا إلي ومذهبا )
( ولبست دون الناس منه حلة ** كان الوفاء لها طرازا مذهبا )
( لكن رأيت له الفراق منغصا ** لا بفراقنا لا مرحبا )
ومن أخبار السلطان أبي العباس ما حكاه في نفح الطيب أن الأديب الكاتب أبا الحسن
علي ابن الوزير لسان الدين ابن الخطيب كان مصاحبا للسلطان أبي العباس هذا فحضر معه
ذات يوم في بستان سح فيه ماء المذاكرة الهتان وقد أبدى الأصيل شواهد الاصفرار
وأزمع النهار لما قدم الليل على الفرار فقال السلطان أبو العباس لما لان جانبه
وسألت بين سرحات البستان جداوله ومذانبه
( يا فاس أني وأيم الله ذو شغف ** بكل ربع به مغناه يسبيني )
( وقد أنست بقربك منك يا آملي ** ونظرة فيكم بالأنس تحييني )
____________________
فأجابه أبو الحسن ابن الخطيب بقوله المصيب
( لا أوحش الله ربعا أنت زائره ** يا بهجة الملك والدنيا مع الدين )
( يا أحمد الحمد أبقاك الإله لنا ** فخر الملوك وسلطان السلاطين )
ومن أخباره أيضا أن كاتبه أبا زكرياء يحيى بن أحمد بن عبد المنان دخل عليه عشاء
فقال له أنعم الله صباح مولانا فأنكر السلطان ذلك وظن أنه ثمل فتفطن أبو زكرياء
لما صدر منه وتدارك ذلك فأنشد مرتجلا
( صبحته عند المساء فقال لي ** ماذا الكلام وظن ذلك مزاحا )
( فأجبته إشراق وجهك غرني ** حتى توهمت المساء صباحا ) الخبر عن دولة السلطان
المستنصر بالله أبي فارس عبد العزيز ابن أبي العباس بن أبي سالم رحمه الله
من الاتفاق الغريب أن سلطان فاس والمغرب في هذا التاريخ كان اسمه عبد العزيز بن
أحمد وسلطان تونس وإفريقية كان اسمه أيضا عبد العزيز بن أحمد وكانت ولايتهما في
سنة واحدة إلا أن مدة الحفصي طالت جدا
أم هذا السلطان أم ولد اسمها جوهر صفته شاب السن ربعة من القوم أدعج العينين جميل
الوجه
لما توفي السلطان أبو العباس بن أبي سالم رحمه الله بتازا كان ابنه أبو فارس هذا
بتلمسان فاستدعاه رجال الدولة منها فقدم عليهم بتازا وبايعوه بها يوم السبت التاسع
من محرم سنة ست وتسعين وسبعمائة ولما تم أمره أطلق أبا زيان بن أبي حمو الزياني
وكان معتقلا عنده بفاس لالتجائه إلى أبيه من قبل في خبر ليس تفصيله من غرضنا وبعثه
إلى تلمسان أميرا عليها من قبله فسار إليها أبو زيان وملكها وأقام فيها دعوة
السلطان أبي فارس ثم
____________________
خرج عليه أخوه يوسف بن أبي حمو
واتصل بأحياء بني عامر بن زغبة وعزم على الإجلاب عليه بهم فسرب أبو زيان فيهم
الأموال فقتلوه وبعثوا إليه برأسه فسكنت أحوال تلمسان وذهبت الفتنة بذهاب يوسف
واستقامت أمور دولة السلطان أبي فارس قاله ابن خلدون وهو آخر ما ورخه عن دولة
المغرب
واعلم أن ما نسوقه بعد هذا من الأخبار عن هذه الدولة المرينية لم يسمح لنا الوقت
بالوقوف عليه في تأليف يخصها أو موضوع يقص أخبارها نسقا وينصها وإنما تتبعنا ما
أثبتناه من ذلك في مواضع ذكرت فيها بحسب التبع لا بالقصد الأول وعلى الله تعالى في
الهداية إلى الصواب المعول بقية أخبار السلطان عبد العزيز ووفاته
قالوا كان السلطان عبد العزيز بن أبي العباس رحمه الله كثير الشفقة رقيق القلب
منقبضا عن الغدر متوقفا في سفك الدماء وكان فارسا عارفا بركض الخيل ويحسن قرض
الشعر ويحب سماعه فمن نظمه وقد نزل المطر يشكر الله تعالى عليه قوله
( الله يلطف بالعباد فواجب ** أن يشكروا في كل حال نعمته )
( فهو الذي فيهم ينزل غيثه ** من بعد ما قنطوا وينشر رحمته )
توفي رحمه الله يوم السبت ثامن صفر سنة تسع وتسعين وسبعمائة ودفن مع أبيه بالقلة
فكانت دولته ثلاث سنين وشهرا ومن وزرائه صالح بن حمو الياباني ويحيى بن علال بن
آمصمود الهسكوري ومن كتابه يحيى بن الحسن ابن أبي دلامة ومن قضاته عبد الحليم بن
أبي إسحاق اليزناسني رحمهم الله تعالى بمنه
____________________
الخبر عن دولة السلطان
المستنصر بالله أبي عامر عبد الله ابن أبي العباس بن أبي سالم رحمه الله تعالى
هذا السلطان شقيق الذي قبله أمه الجوهر المتقدمة صفته أدعج العينين حسن الأنف لامي
العذار بويع بعد أخيه عبد العزيز يوم السبت الثامن من صفر سنة تسع وتسعين وسبعمائة
وكان التصرف والنقض والإبرام في هذه المدة كلها للوزراء وتوفي السلطان المذكور بعد
صلاة العصر من يوم الثلاثاء الموفي ثلاثين من جمادى الآخرة سنة ثمانمائة فكانت
دولته سنة وخمسة أشهر سوى أيام ومن وزرائه صالح بن حمو ويحيى بن علال ومن قضاته
عبد الرحيم اليزناسني ومن حجابه أبو العباس أحمد بن علي القبائلي وفارح بن مهدي
العلج والله تعالى أعلم
وأما أخبار الغني بالله ابن الأحمر بالأندلس فإنه كان أسقط رياسة الجهاد من بني
مرين بها ومحا رسمها من مملكته أيام أجاز عبد الرحمن بن أبي يفلوسن للتشغيب على
أبي بكر بن غازي بن الكاس حسبما تقدم وصار أمر الغزاة والمجاهدين إليه وباشر
أحوالهم بنفسه واستمر الحال على ذلك إلى أن هلك سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة فولي مكانه
ابنه أبو الحجاج يوسف وبايعه الناس وقام بأمره خالد مولى أبيه وتقبض على إخوته سعد
ومحمد ونصر فكان آخر العهد بهم ولم يوقف لهم بعد على خبر ثم سعى عنده في خالد
القائم بدولته وأنه أعد السم لقتله وأن يحيى بن الصائغ اليهودي طبيب دارهم قد
داخله في ذلك ففتك بخالد وتناوشته السيوف بين يديه لسنة أو نحوها من ملكه ثم حبس
الطبيب المذكور فذبح في محبسه ثم هلك سنة أربع وتسعين وسبعمائة لسنتين أو نحوها من
ولايته
وقد وقفت لبعض الإصبنيوليين واسمه منويل باولو القشتيلي على كتاب موضوع في أخبار
المغرب الأقصى فنقلت منه بعض أخبار لم أجدها إلا عنده وهو وإن كان ينقل الغث
والسمين والرخيص والثمين إلا أن الناقد
____________________
البصير يميز حصباءه من دره
ويفرق بين حشفه وثمره فمن ذلك أنه حكى عن السلطان أبي الحجاج المذكور ما صورته قال
كانت مراسلات السلطان المريني يعني السلطان أبا العباس مع السلطان يوسف بن الغني
بالله صاحب غرناطة حسنة في الظاهر تدل على الموافقة والمحبة وكان المريني في
الباطن يحب الاستيلاء على مملكة غرناطة ولما لم يمكنه ذلك بالسيف عدل إلى أعمال
الحيلة فأهدى إلى السلطان أبي الحجاج كسى رفيعة أحدها مسمومة فلبسها فهلك لحينه
ومع ذلك فلم يدرك المريني غرضه فإنه لم يلبث إلا يسيرا حتى توفي أيضا اه ولم توفي
أبو الحجاج بويع ابنه محمد بن يوسف وقام بأمره القائد أبو عبد الله محمد الخصاصي
من صنائع أبيه قال ابن خلدون والحال على ذلك لهذا العهد ولنذكر ما كان في هذه
المدة من الأحداث
ففي سنة خمسين وسبعمائة كان الوباء الذي عم المسكونة شرقا وغربا على ما نبهنا عليه
فيما مضى
وفي سنة خمس وستين وسبعمائة توفي الولي الزاهد أبو العباس أحمد ابن عمر بن محمد بن
عاشر الأندلسي نزيل سلا العارف المشهور قال أبو عبد الله بن سعد التلمساني في
كتابه النجم الثاقب فيما لأولياء الله من المناقب كان ابن عاشر أحد الأولياء
الأبدال معدودا في كبار العلماء مشهورا بإجابة الدعاء معروفا بالكرامات مقدما في
صدور الزهاد منقطعا عن الدنيا وأهلها ولو كانوا من صالحي العباد ملازما للقبور في
الخلاء المتصل ببحر مدينة سلا منفردا عن الخلق لا يفكر في أمر الرزق وله أخبار
جليلة وكرامات عجيبة مشهورة ممن جمع الله له العلم والعمل وألقى عليه القبول من
الخلق شديد الهيبة عظيم الوقار كثير الخشية طويل التفكير والاعتبار قصده أمير
المؤمنين أبو عنان وارتحل إليه سنة سبع وخمسين وسبعمائة فوقف ببابه طويلا فلم يأذن
له وانصرف وقد امتلأ قلبه من حبه وإجلاله ثم عاود
____________________
الوقوف ببابه مرارا فما وصل
إليه فبعث إليه بعض أولاده بكتاب كتبه إليه يستعطفه لزيارته ورؤيته فأجابه بما قطع
رجاءه منه وأيأسه من لقائه فاشتد حزنه وقال هذا ولي من أولياء الله تعالى حجبه
الله عنا اه ومناقب الشيخ ابن عاشر وكراماته كثيرة وقد ألف فيها أبو العباس بن
عاشر الحافي من علماء سلا كتابه المسمى بتحفة الزائر في مناقب الشيخ ابن عاشر
فانظره
وفي سنة ست وسبعين وسبعمائة وهي السنة التي قتل فيها ابن الخطيب كان الجوع بالمغرب
قال أبو العباس ابن الخطيب القسنطيني المعروف بابن قنفذ في كتابه أنس الفقير ما
حاصله أنه رجع من هجرته بالمغرب الأقصى في السنة المذكورة إلى بلده قسنطينة فاجتاز
في طريقه بتلمسان قال وفي هذه السنة كانت المجاعة العظيمة وعم الخراب المغرب فأقمت
بتلمسان نحو شهر أنتظر تيسر سلوك الطريق فالتجأت إلى قبر الشيخ أبي مدين ودعوت
الله عنده فوقع ما أملته وارتحلت بعد أيام يسيرة فرأيت في الطريق من الخير ما كان
يتعجب منه من شاهده وكان أمر الطريق في الخوف والجوع بحيث أن كل من نقدم عليه
يتعجب من وصولنا سالمين ثم عند ارتحالنا من عنده يتأسف علينا حتى أن منهم من
يسمعنا ضرب الأكف خلفنا تحسرا علينا حتى انتهى سفرنا على وفق اختيارنا والحمد لله
وفي سنة ثمان وسبعين وسبعمائة توفي الشيخ الفقيه المحدث أبو عبد الله محمد بن محمد
بن محمد بن عمران الفنزاري السلاوي المعروف بابن المجراد صاحب لامية الجمل وشرح الدرر
وغيرهما من التآليف الحسان قال صاحب بلغة الأمنية ومقصد البيت فيمن كان بسبتة في
الدولة المرينية من مدرس وأستاذ وطبيب في حق الشيخ المذكور كان محدثا حافظا راوية
له معرفة بالرجال والمغازي والسير وكان رجلا صالحا حسن السيرة صادق اللهجة انتفع
به الناس وظهرت بركته على كل من عرفه أو لازم مجلسه أو قرأ عليه من صغير أو كبير
قال وذلك عندنا معروف بسبتة
____________________
مشهور بين أهلها وانتقل إلى
بلده سلا وتوفي بها في السنة المذكورة قلت وقبره مشهور بها إلى الآن وعليه قبة
صغيرة وهو من مزارات سلا خارج باب المعلقة منها عن يمين الخارج على نحو غلوة وأهل
سلا يسمونه سيدي الإمام السلاوي رحمه الله ورضي عنه
وفي سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة توفي الشيخ الإمام العارف المحقق الرباني أبو عبد
الله محمد بن إبراهيم النفزي المعروف بابن عباد شارح الحكم العطائية وأحد تلامذة
الشيخ ابن عاشر المذكور آنفا قال صاحبه وأخوه في الله الشيخ أبو زكرياء السراج في
حقه ما نصه كان حسن السمت طويل الصمت كثير الوقار والحياء جميل اللقاء حسن الخلق
والخلق على الهمة متواضعا معظما عند الخاصة والعامة نشأ ببلدة رندة على أكمل طهارة
وعفاف وصيانة وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين ثم اشتغل بعد بطلب العلوم النحوية
والأدبية والأصولية والفروعية حتى رأس فيها وحصل معانيها ثم أخذ في طريق الصوفية
والمباحثة عن الأسرار الإلهية حتى أشير إليه وتكلم في علوم الأحوال والمقامات
والعلل والآفات وألف فيها تآليف عجيبة وتصانيف بديعة غريبة وله أجوبة كبيرة في
مسائل العلوم نحو مجلدين ودرس كتبا وحفظها كلها أو جلها إلى أن قال ولقي بسلا
الشيخ الحاج الصالح السني الزاهد الورع أحمد بن عاشر وأقام معه ومع أصحابه سنين
عديدة قال رحمه الله قصدتهم لوجدان السلامة معهم وتوفي رحمه الله بفاس بعد صلاة
العصر من يوم الجمعة ثالث رجب من السنة المذكورة وحضر جنازته السلطان أبو العباس
بن أبي سالم فمن دونه وهمت العامة بكسر نعشه تبركا به رحمه الله ورضي عنه
ومن فوائده التي نقلها عن شيخه ابن عامر ما ذكره في رسائله قال كنت قد ما خرجت في
يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم صائما إلى ساحل البحر فوجدت هنالك سيدي الحاج
أحمد بن عاشر رحمه الله ورضي عنه وجماعة من
____________________
أصحابه ومعهم طعام يأكلونه
فأرادوا مني الأكل فقلت إني صائم فنظر إلي سيدي الحاج نظرة منكرة وقال لي هذا يوم
فرح وسرور يستقبح في مثله الصوم كالعيد فتأملت قوله فوجدته حقا وكأنه أيقظني من
النوم اه
واعلم أنه في آخر هذا القرن الثامن تبدلت أحوال المغرب بل وأحوال المشرق ونسخ
الكثير من عوائد الناس ومألوفاتهم وأزيائهم قال ابن خلدون في مقدمة تاريخه بعد أن
ذكر أن الأحوال العامة للآفاق والأجيال والأعصار هي أس المؤرخ الذي تنبني عليه
أكثر مقاصده ما نصه وأما لهذا العهد وهو آخر المائة الثامنة فقد انقلبت أحوال
المغرب الذي نحن شاهدوه وتبدلت بالجملة واعتاض من أجيال البربر أهله على القدم بمن
طرأ فيه من لدن المائة الخامسة من أجيال العرب بما كثروهم وغلبوهم وانتزعوا منهم
عامة الأوطان وشاركوهم فيما بقي من البلدان بملكتهم وبأسهم هذا إلى ما نزل
بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف
الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها وجاء للدول على حين
هرمها وبلوغ الغاية من مداها فقلص من ظلالها وفل من حدها وأوهن من سلطانها وتداعت
إلى التلاشي والاضمحلال أحوالها وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر فخربت الأمصار
والمصانع ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبدل
الساكن وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه
وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة والله وارث
الأرض ومن عليها وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم
بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث إلى آخر كلامه رحمه الله فافهم هذه
الجملة وتفطن لأحوال الدول التي سردنا أخبارها فيما مضى وأحوال التي نسرد أخبارها
فيما بعد وتأمل الفرق بين ذلك والسبب فيه والله تعالى الموفق للصواب بمنه
____________________
الخبر عن دولة السلطان أبي
سعيد عثمان بن أبي العباس ابن أبي سالم
هذا السلطان هو ثالث الإخوة الأشقاء من بني أبي العباس الذين ولوا الأمر من بعد
ولاء أمه الجواهر أم أخويه قبله بويع بعد صلاة العصر له من يوم الثلاثاء الموفي
ثلاثين من جمادى الآخرة سنة ثمانمائة وسنه يومئذ ست عشرة سنة وكان النقض والإبرام
وسائر التصرفات في دولته للوزراء والحجاب والسلطان متفرغ لاستيفاء لذاته ومن أكبر
حجابه أبو العباس القبائلي الذي نذكر خبره الآن حجابة أبي العباس القبائلي ونكبته
ومقتله والسبب في ذلك
بيت بني القبائلي بيت مشهور في الوزارة والحجابة والكتابة من لدن الدولة الموحدية
بمراكش إلى هذا التاريخ وكان الرئيس الفقيه أبو العباس أحمد بن علي القبائلي كاتبا
مشهورا وحاجبا مذكورا وكان قد بذ الأقران وتصدر الأعيان وبلغ من الجاه ونفوذ
الكلمة مبلغا عظيما وكان يحابي بالخطط السلطانية الأقارب والأرحام لا يعدل بها عمن
سواهم فاضطغنت عليه القلوب وكثرت فيه السعايات إلى أن نفذ أمر الله فأوقع به
السلطان أبو سعيد وقعة شنعاء كان من خبرها أنه كان للحاجب المذكور ولد اسمه عبد
الرحمن وكان من فضلاء وقته وكان لعبد الرحمن هذا ولد اسمه علي وكان من نجباء
الأبناء فكان لجده أبي العباس لذلك ميل إليه ومحبة وافتتان به فاتفق أن مرض هذا
الحافد ذات يوم فنزل جده أبو العباس من الحضرة بفاس الجديد لعيادته بدار ولده عبد
الرحمن من عدوة القرويين من فاس القديم
____________________
وكانت الدار بزنقة الجيلة من
الطالعة فبات الشيخ عند حافده تلك الليلة وكان منذ ولي خطة الحجابة لم يغب عن دار
الملك ليلة واحدة بل كان يأخذ في ذلك بالحزم بحيث يسد أبواب الحضرة ويفتحها ويباشر
سائر الأمور السلطانية بنفسه فلما أراد الله إنفاذ قدره غطى على عقله وبصره فتساهل
في تلك الليلة وبعث ولده أبا القاسم ليقوم مقامه في غلق الأبواب وفتحها مع صاحب
السقيف ومساهمه في القيام بالأمور السلطانية أبي محمد عبد الله الطريفي الآتي ذكره
فغلقا الأبواب على العادة ولما كان الصباح من الغد تقدم الولد أبو القاسم لأخذ
المفاتيح من دار الخلافة فأخرجت إليه وتولى فتح الأبواب وحده دون أن يحضر الطريفي
المشارك له في ولاية السقيف فلما جاء أبو محمد المذكور ورأى الأبواب مفتحة بدون
حضوره أخذه من ذلك ما قدم وما حدث وأسرها في نفسه حتى إذا كان المساء وحضر الوقت
المعهود لغلق الأبواب طلع للحضرة ولد آخر من ولد الحاجب القبائلي يعرف بأبي سعيد
فبادر أبو محمد فسد الأبواب في وجهه قبل أن يصل إليه وأمسك المفاتيح عنده واستبد
بها فطلب منه أبو سعيد أن يفتح له الباب فتجهمه وامتنع وكأنه أمر دبر بليل ثم تقدم
القائد أبو محمد المذكور إلى السلطان أبي سعيد فأعلمه بما اتفق له مع أولاد الحاجب
فأوعز إليه السلطان أن لا يفتح الباب بعد غلقه إلا وقت فتحه المعتاد وزاد في
الوصية بأن لا يفتح ولا يغلق إلا بمحضر السعيد ابن السلطان أبي عامر رحمه الله
ولما رجع أبو سعيد إلى والده بعدوة القرويين من فاس أعلمه بما اتفق له مع القائد
الطريفي فامتلأ غيظا وقامت قيامته وكانت فيه دالة على السلطان فتخلف عن الحضور ولم
يذكر ما قالته الحكماء إذا عاديت من يملك فلا تلمه إنه يهلكك ثم استعطفه السلطان
فأبى أن يعطف ثم بعث إليه ببراءة بخطه ليزيل ما بصدره من الموجدة فكتب الحاجب
جوابها وأقسم أن لا يطأ بساطا فيه فارح بن مهدي العلج وكان فارح هذا بعين التجلة
من السلطان فلما وقف السلطان أبو سعيد على جواب الحاجب حمى أنفه وأظلمت الدنيا في
عينيه وأمر بالإيقاع بالحاجب في الحين فذبح هو وولده عبد الرحمن يوم الخميس الموفي
ثلاثين
____________________
من شوال سنة اثنتين وثمانمائة
وكان عبد الرحمن هذا فاضلا شاعرا فمن شعره في الغزل قوله
( اتسمع في الهوى قول اللواحي ** وقد أبصرت خشف بني رياح )
( غزال خلف الصب المعني ** من الوجد المبرح غير صاح )
( وقد قتلت ولا إثم عليها ** مراض جفونه كل الصحاح )
( يقول ولحظه بالعقل يزري ** علام تطيل وصفي وامتداحي )
( فقلت فنون سحر فيك راقت ** قضت للقلب بالعشق الصراح )
( جبينك والمقلد والثنايا ** صباح في صباح في صباح )
وبقي الحافد أبو الحسن علي بن عبد الرحمن المذكور مرتبا في جملة الكتاب وكان فاضلا
شاعرا أيضا ولما مرض السلطان أبو سعيد في شعبان سنة سبع وثمانمائة وصح من مرضه
وهنأته الشعراء بقصائد كثيرة فكان من جملتهم أبو الحسن المذكور فقال
( هنيئا لنا ولكل الأنام ** براحة فخر الملوك الهمام )
( إمام أقام رسوم العلا ** وحل من المجد أعلى السنام )
( به قرت العين لما بدا ** صحيحا وما إن به من سقام )
( وهل هو إلا كبدر الدجا ** يواري قليلا وراء الغمام )
( ويظهر طورا فيجلو به ** عن الناس يا صاح ساجي الظلام )
( أو الليث يعكف في غيله ** فتحذر منه السباح اهتجام )
( أمولاي عثمان بحر الندى ** ومردي العداة ونجل الكرام )
( لقد رفع الله مقداركم ** فنفسي الفداء لكم من إمام )
( أمولاي عبدك قد ضره ** أفول رضاكم وبعد المرام )
( وأضحى كئيبا لإبعادكم ** مشوقا لتقبيل ذاك المقام )
( فكن راحما يا إمام الورى ** عطوفا بمملوكك المستهام )
( لعل الذي ناله ينقضي ** وتشمل منك هبات جسام )
( فأيدك الله بالنصر ما ** ترنم فوق الغصون حمام )
____________________
حجابة فارح بن مهدي وأوليته
وسيرته
قال ابن خلدون يا فراح بن مهدي من معلوجي السلطان يعني أبا العباس وأصله من موالي
بني زيان ملوك تلمسان اه وقال في الجذوة هو من موالي السلطان أبي سعيد بن أبي
العباس ولا منافاة بين الكلامين والله أعلم ولما قتل أبو العباس القبائلي ولي
الحجابة من بعده فارح بن مهدي هذا قال في الجذوة ولم يكن من أهل العلم لكنه كان شيخا
مجربا للأمور عارفا مجيدا في التدبير قد أعطى الرياسة حقها والخطط مستحقها وكان
ممسكا عنانه فلا يميل مع نفسه ولا يسحب أردانه ولا يوحش سلطانه موسوما عند الخلافة
بالأمانة ملحوظا لديها بعين المروة والصيانة وكان السلطان أبو سعيد يعتني به لأجل
كبر سنه وتربيته الحرة آمنه بنت السلطان أبي العباس كانت تبدي له وجهها في حالي
صغرها وكبرها فكانت له بذلك مزية لم تكن لغيره بهذا ذكره التاورتي ولعل فيه تعريضا
بالحاجب قبله ولما تكلم أبو عبد الله محمد العربي الفاسي في كتابه مرآة المحاسن
على مدينة تيجساس وصفها بقوله إنها في شرقي تطاوين على مسيرة يوم منها في موضع
كثير الحجارة والصخر في سفح جبل من غربيها وتحتها من شمالها جرف كثير الصخر عظيمة
على مكسر موج البحر ولها نهر نفاع يجلب إليها منه جدول ولها بسيط تركبه الجداول من
كل جهة فتسقي الزرع والكتان والثمار فأهلها في أمن من القحط إلى أن قال ولم تزل
عامرة إلى حدود ثمانمائة فجلا عنها أهلها بسبب جور فارح بن مهدي الوالي عليها من
قبل بني مرين فخلت من سكانها وانتقلوا إلى القبائل وغيرها ولم يزل سورها ماثلا إلى
الآن اه قلت وفي هذه المدة خربت تطاوين القديمة أيضا فزعم منويل في تاريخه أن
قراصين المسلمين من أهل تطاوين وغيرهم
____________________
كانت تغير على سواحل أصبانيا
وتغنم مراكبها ولما كانت سنة ألف وأربعمائة مسيحية الموافقة لسنة ثلاث وثمانمائة
هجرية بعث الطاغية الريكي الثالث شكوادرة لغزو تطاوين ومراكبها فانتهت إلى وادي
مرتيل وأفسدت قراصين المسلمين التي به ثم نزلت عساكر الإصبنيول للبر فاقتحمت مدينة
تطاوين بعد أن جلا أهلها عنها وخربتها وعاثت فيها وبقيت خربة نحو تسعين سنة ثم جدد
بناؤها على يد الرئيس أبي الحسن علي المنظري الغرناطي كما سيأتي وكانت وفاة فارح
بن مهدي في الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة ست وثمانمائة والله تعالى أعلم حجابة
أبي محمد الطريفي وسيرته
لما توفي الحاجب فارح بن مهدي ولي الحجابة من بعده أبو محمد عبد الله الطريفي وكان
من فضلاء الحجاب وهو الذي بنى مسجد السوق الكبير بفاس الجديد وحبس عليه كتبا كثيرة
فكان ذلك من حسناته الباقية نفعه الله بقصده حدوث الفتنة بين السلطان أبي سعيد
والسلطان أبي فارس الحفصي والسبب في ذلك
لما توفي السلطان أبو العباس الحفصي صاحب تونس ولي الأمر من بعده ابنه أبو فارس
المذكور فوزع الوظائف من الإمارة والوزارة وولاية الأعمال على إخوته فاعتضد بهم
وكان من جملتهم أخوه أبو بكر بن أبي العباس بقسنطينة فنازعه بها ابن عمه الأمير
أبو عبد الله محمد بن أبي زكرياء الحفصي صاحب بونة وألح عليه في الحصار فصمد إليه
السلطان أبو فارس الحفصي وأوقع به على سيبوس وقعة شنعاء انتهت به هزيمتها إلى فاس
مستصرخا صاحبها وهو يومئذ أبو فارس المريني فأقام أبو عبد الله بفاس
____________________
إلى سنة عشر وثمانمائة في دولة
السلطان أبي سعيد فاتفق أن فسد ما بين السلطان أبي فارس الحفصي وبين أعراب إفريقية
من سليم فقدمت طائفة منهم حضرة فاس مستنجدين السلطان أبا سعيد على صاحبهم أبي فارس
فألفوا عنده الأمير أبا عبد الله المنهزم بسيبوس كما مر فعقد له السلطان أبو سعيد
على جيش من بني مرين وغيرهم وبعثه مع العرب فلما انتهى إلى بجاية تلقته أعراب
إفريقية طائعة وهون عليه المرابط شيخ حكيم منها أمر تونس فرد الجيش المريني وقصدها
بمن انضم إليه من الحشود فأخذ بجاية من أبي يحيى وفر في البحر وعقد أبو عبد الله
عليها لابنه المنصور ثم زحف إلى السلطان أبي فارس فخالفه إلى بجاية فافتكها من يد
ابنه المنصور ووجه به مع جماعة من كبار أهلها معتقلين إلى الحضرة وعقد عليها لأحمد
ابن أخيه ونهض لقتال ابن عمه أبي عبد الله المذكور فنزع المرابط عنه إلى السلطان
أبي فارس لعهد كان بينهما فانفض جمع أبي عبد الله وقتل واحتز رأسه ووجهه السلطان
أبو فارس مع من علقه بباب المحروق أحد أبواب فاس إغاظة للسلطان أبي سعيد وذلك سنة
اثنتي عشرة وثمانمائة ثم تحرك السلطان أبو فارس إلى جهة المغرب قاصدا أخذ الثار من
السلطان أبي سعيد فاستولى على تلمسان ثم قصد حضرة فاس فلما شارفها جنح السلطان أبو
سعيد إلى السلم فوجه إليه بهدايا جليلة فقبل ذلك أبو فارس وكافأ عليه وانكفأ راجعا
إلى حضرته ولحقته في طريقه بيعة أهل فاس وانتظم له ملك المغرب وبايعه صاحب الأندلس
أيضا قاله صاحب الخلاصة النقية وهو الأديب أبو عبد الله محمد الباجي أحد كتاب
الدولة التركية بتونس
____________________
+ اسيتلاء البرتغال على مدينة
سبتة أعادها الله
كان جنس البرتغال وهو البردقيز في هذه السنين قد كثر بعد القلة واعتز بعد الذلة
وظهر بعد الخمول وانتعش بعد الذبول فانتشر في الأقطار وسما إلى تملك الأمصار
فانتهى إلى أطراف السودان بل وأطراف الصين على ما قيل وألح على سواحل المغرب
الأقصى فاستولى في سنة ثمان عشرة وثمانمائة على مدينة سبتة أعادها الله بعد
محاصرته لها حصارا طويلا وسلطان المغرب يومئذ أبو سعيد بن أحمد صاحب الترجمة
وسلطان البرتغال يومئذ خوان الأول
وذكر منويل في تاريخه أن سلطان المغرب يومئذ عبد الله بن أحمد أخو أبي سعيد
المذكور وسيأتي كلامه بتمامه
وذكر صاحب نشر المثاني في كيفية استيلاء البرتغال على سبتة قصة تشبه قصة قصير مع
الزباء قال رأيت بخط من يظن به التثبت والصدق أن النصارى جاؤوا بصناديق مقفلة
يوهمون أن بها سلعا وأنزلوها بالمرسى كعادة المعاهدين وذلك صبيحة يوم الجمعة من
بعض شهور سنة ثمان عشرة وثمانمائة وكانت تلك الصناديق مملوءة رجالا عددهم أربعة
آلاف من الشباب المقاتلة فخرجوا على حين غفلة من المسلمين واستولوا على البلد وجاء
أهله إلى سلطان فاس مستصرخين له وعليهم المسوح والشعر والوبر والنعال السود رجالا
ونساء وولدانا فأنزلهم بملاح المسلمين ثم ردهم إلى الفحص قرب بلادهم لعجزه عن
نصرتهم حتى تفرقوا في البلاد والأمر لله وحده قال وسمعت من بعضهم أن الذي جرأ
النصارى على ارتكاب تلك المكيدة هو أنهم كانوا قد قاطعوا أمير سبتة على أن يفوض
إليهم التصرف في المرسى والاستبداد بغلتها ويبذلوا له خراجا معلوما في كل سنة فكان
حكم المرسى حينئذ لهم دون المسلمين ولو كان المسلمون هم الذين يلون حكم المرسى ما
تركوهم ينزلون ذلك العدد من الصناديق مقفلة لا يعلمون ما فيها والله أعلم بحقيقة
الأمر
____________________
1- 92 اسيتلاء البرتغال على مدينة سبتة أعادها الله
كان جنس البرتغال وهو البردقيز في هذه السنين قد كثر بعد القلة واعتز بعد الذلة
وظهر بعد الخمول وانتعش بعد الذبول فانتشر في الأقطار وسما إلى تملك الأمصار
فانتهى إلى أطراف السودان بل وأطراف الصين على ما قيل وألح على سواحل المغرب
الأقصى فاستولى في سنة ثمان عشرة وثمانمائة على مدينة سبتة أعادها الله بعد
محاصرته لها حصارا طويلا وسلطان المغرب يومئذ أبو سعيد بن أحمد صاحب الترجمة
وسلطان البرتغال يومئذ خوان الأول
وذكر منويل في تاريخه أن سلطان المغرب يومئذ عبد الله بن أحمد أخو أبي سعيد
المذكور وسيأتي كلامه بتمامه
وذكر صاحب نشر المثاني في كيفية استيلاء البرتغال على سبتة قصة تشبه قصة قصير مع
الزباء قال رأيت بخط من يظن به التثبت والصدق أن النصارى جاؤوا بصناديق مقفلة
يوهمون أن بها سلعا وأنزلوها بالمرسى كعادة المعاهدين وذلك صبيحة يوم الجمعة من
بعض شهور سنة ثمان عشرة وثمانمائة وكانت تلك الصناديق مملوءة رجالا عددهم أربعة
آلاف من الشباب المقاتلة فخرجوا على حين غفلة من المسلمين واستولوا على البلد وجاء
أهله إلى سلطان فاس مستصرخين له وعليهم المسوح والشعر والوبر والنعال السود رجالا
ونساء وولدانا فأنزلهم بملاح المسلمين ثم ردهم إلى الفحص قرب بلادهم لعجزه عن
نصرتهم حتى تفرقوا في البلاد والأمر لله وحده قال وسمعت من بعضهم أن الذي جرأ
النصارى على ارتكاب تلك المكيدة هو أنهم كانوا قد قاطعوا أمير سبتة على أن يفوض
إليهم التصرف في المرسى والاستبداد بغلتها ويبذلوا له خراجا معلوما في كل سنة فكان
حكم المرسى حينئذ لهم دون المسلمين ولو كان المسلمون هم الذين يلون حكم المرسى ما
تركوهم ينزلون ذلك العدد من الصناديق مقفلة لا يعلمون ما فيها والله أعلم بحقيقة
الأم
ولما استولى البرتغال على سبتة اعتنى بها وحصنها واستمرت في ملكتهم مدة تزيد على
مائتين وخمسين سنة ثم ملكها منهم طاغية الإصبنيول في سبيل مهادنة وشروط انعقدت
بينهم بمدنية أشبونة في حدود الثمانين وألف وأخبار السلطان أبي سعيد كثيرة وقد أرخ
دولته وسيرته الكاتب أبو إسحاق إبراهيم ابن أحمد التاورتي رحمه الله وتوفي السلطان
المذكور سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة وولي الأمر من بعده ابنه عبد الحق الأخير كذا
ذكره في جذوة الاقتباس وقد ذكر منويل في أمر أبي سعيد ووفاته ما يخالف هذا قال لما
كانت دولة السلطان أبي سعيد المريني كان المسلمون أهل جبل طارق قد سئموا ملكة ابن
الأحمر صاحب غرناطة وتحققوا بأن المريني أقوى منه شوكة وأقدر على تخليصهم مما عسى
أن ينالهم به الإصبنيول من حصار ونحوه فبعثوه إليه يخطبون ولايته ويعرضون عليه
الدخول في طاعته إن هو أمدهم بما يدفعون به في نحر ابن الأحمر فأعجب أبا سعيد ذلك
وللحين بعث إليهم أخاه عبد الله بن أحمد المعروف بسيدي عبو ومعه طائفة من الجيش
إمدادا لهم وكان قصد أبي سعيد ببعث أخيه عبد الله الحصول على إحدى الفائدتين أما
فتح جبل طارق إن كان الظهور له أو الاستراحة منه إن كان عليه لأنه كان يشوش عليه
فجاء الأخ المذكور حتى نزل بإزاء جبل طارق ففتح أهل البلد الباب وأدخلوه وأدخلوا
جنده وتحصن قائد الغرناطي وعسكره بقلعة الجبل وطير الأعلام بذلك إلى صاحبه فبعث
إليه جيشا قويت به نفسه فنزل من القلعة وانضم إليه مدده وقاتلوا جيش المريني
فهزموه وقبضوا على عبد الله باليد وعلى جماعة من أصحابه وبعثوا بهم أسرى إلى صاحب
غرناطة فعمد صاحب غرناطة إلى عبد الله وأنزله في محل معتبر وأحسن إليه فتخلف ظن
السلطان أبي سعيد فيما كان يحب لأخيه من التلف وغاظه فعل ابن الأحمر معه من
الإحسان والإبقاء عليه ثم أن أبا سعيد دبر حيلة بأن بعث من قبله رجلا إلى أخيه
ليسقيه السم ويستريح
____________________
منه مع أن غوغاء أهل المغرب
وقبائله المنحرفة عن السلطان كانوا قد تشوقوا لقدومه عليهم وقيامهم معه فبطلت حيلة
أبي سعيد في السم ولم يحصل على طائل ثم إن ابن الأحمر اتفق مع عبد الله على أن
يمده بالعسكر والمال ويسرحه إلى المغرب ليستولي على ملكه ويأخذ له بالثأر من أخيه
فقبل عبد الله ذلك وأمده ابن الأحمر وسرحه إلى المغرب فلما احتل به تبعه عدد وافر
من قبائله الذين كانوا مستثقلين لوطأة أبي سعيد فنهض إليه أبو سعيد فكانت الكرة عليه
ورجع مفلولا في يسير من الجند إلى فاس فتقبض عليه أهلها وسجنوه وأعلنوا بنصر أخيه
عبد الله وفتحوا الباب فدخل الحضرة واستولى عليها وتم أمره وسجن أخاه أبا سعيد إلى
أن مات قال ولما استقل عبد الله بأمر المغرب كله هدأت الرعية واستقامت الأحوال إلا
أنه تكدر عيشه بذهاب سبتة التي استولى عليها طاغية البرتغال خوان الأول بعد ما
حاصرها أشد الحصار وكان ذلك على السلطان من أعظم النحوس وتكدر المسلمون غاية لفوات
هذه المدينة العظيمة منهم ثم ثاروا على السلطان عبد الله واعتورته رماحهم حتى فاظ
ولما قتل تنازع الملك بعده اثنان من اخوته وبعد قتال شديد ولم ينتصف أحد منهما من
صاحبه اتفق أهل الحل والعقد على أن يولوا عبد الحق بن أبي سعيد اه كلام منويل وهذا
السلطان عبد الله الذي زاده منويل بين أبي سعيد وعبد الحق لم يذكره صاحب جذوة
الاقتباس ويبعد أن يكون هذا الخبر الذي ساقه منويل لا أصل له والله أعلم بحقيقة
الأمر
ومن جملة حجاب السلطان أبي سعيد الرئيس أبو فارس عبد العزيز بن أحمد الملياني قال
في الجذوة أصله من زرهون وتولى حجابة السلطان المذكور قال فغدر مولاه ومخدومه وهتك
ستره وخرب داره وعبث بحريمه وقتل أولاده وإخوانه ورفع الأذناب وحط الرؤساء وكان
فساد المغرب على يده وقد ذكره التاورتي فأثنى عليه قال في الجذوة
____________________
ووجدت في طرة ذمه وتنقيصه
والله أعلم
ومن وزراء السلطان أبي سعيد صالح بن حمو الياباني ويحيى بن علال بن آمصمود
الهسكوري وقد تقدم ذكرهما ومن كتابه الفقيه الأديب أبو زكرياء يحيى بن أبي الحسن
بن أبي دلامة وكان صاحب العلامة عند السلطان المذكور وممن شهد له أهل عصره
بالتبريز في النظم الفائق ثم ابنه محمد من بعده ومن قضاته الفقيه أبو محمد عبد
الرحيم بن إبراهيم اليزناسني وقد تقدم ذكره والله تعالى أعلم الخبر عن دولة
السلطان عبد الحق بن أبي سعيد ابن أبي العباس بن أبي سالم المريني رحمه الله
هذا السلطان هو آخر ملوك بني عبد الحق من بني مرين وهو أطولهم مدة وأعظمهم محنة
وشدة وهو أبو محمد عبد الحق بن أبي سعيد عثمان ابن أبي العباس أحمد بن أبي سالم
إبراهيم بن أبي الحسن علي بن أبي سعيد عثمان بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق
الزناتي المريني أمه علجة إصبنيولية على ما ذكره منويل وفي أيامه ضعف أمر بني مرين
جدا وتداعى إلى الانحلال وكان التصرف للوزراء والحجاب شأن دولة أبيه من قبله على
نذكره زحف البرتغال إلى طنجة ورجوعهم عنها بالخيبة
قال منويل كان لطاغية البرتغال خمسة إخوة شجعان فأرادوا أن يدركوا فخرا باستيلائهم
على ثغر من ثغور المغرب يضيفونه إلى سبتة ويوسعون به ما ملكوه من أعمالها فركبوا
قراصينهم في ستة آلاف عسكري ونزلوا بسبتة ثم زحفوا إلى طنجة سنة إحدى وأربعين
وثمانمائة وحاصروها وضيقوا على أهلها ثم عاجلهم سلطان فاس وسلطان مراكش وأرهقوهم
عن
____________________
فتحها وأوقعوا بهم وقبضوا على
كبير عسكرهم فرناندو وجماعة من أصحابه وعادوا بهم أسرى إلى فاس فلما صارت عظماء
البرتغال في يد المسلمين وأسرهم جنحوا إلى السلم فسالمهم المسلمون على أن يردوا
لهم سبتة ويسرحوا لهم كبيرهم وأصحابه الذين معه فرضي البرتغال بذلك وانعقد الصلح
عليه ثم كان من قدر الله أن هلك كبير البرتغال الذي وقع الشرط عليه في سجن فاس
واستمرت سبتة في يد العدو وعد ذلك من سوء بخت المسلمين والأمر لله وحده
وقد ذكر صاحب المرآة أن البرتغال استولى على طنجة سنة إحدى وأربعين وثمانمائة وهو
غير صواب وإنما كان الحصار فقط والله تعالى أعلم أخبار الوزراء والحجاب وتصرفاتهم
كان من جملة وزراء السلطان عبد الحق الوزير صالح بن صالح بن حمو الياباني قالوا
وهو الذي أوقع بالفقيه القاضي أبي محمد عبد الرحيم ابن إبراهيم اليزناسني قتله
ذبحا سنة أربع وثلاثين وثمانمائة ومن وزراء السلطان المذكور الوزير أبو زكرياء
يحيى بن زيان الوطاسي قالوا وفي سنة ست وأربعين وثمانمائة غزا الوزير المذكور
الشاوية وكانوا قد تمردوا على الدولة وأعضل داؤهم ففل الوزير المذكور جمعهم وخرب
منازلهم ثم كانت وفاته سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة قتله عرب أنكاد على سبيل الغدر
قعصا بالرماح وحمل قتيلا إلى فاس فدفن بالقلة خارج باب الحبيسة وولي الوزارة بعده
علي بن يوسف الوطاسي قالوا فكانت أيامه مواسم لديانته وصيانته وحفظه أمور الملك
ورفقه بالرعية مع العدل وحسن الإدارة ثم توفي بتامسنا خامس رمضان سنة ثلاث وستين
وثمانمائة وحمل إلى فاس فدفن بالقلة أيضا وفي هذه السنة أو التي قبلها استولى
البرتغال على
____________________
قصر المجاز وهو المعروف بقصر
مصمودة والقصر الصغير وهو الآن خراب والله أعلم وزارة يحيى بن يحيى الوطاسي ومقتله
ومقتل الوطاسيين معه والسبب في ذلك
لما توفي الوزير علي بن يوسف رحمه الله قدم للوزارة بعده أبو زكرياء يحيى بن يحيى
بن عمر بن زيان الوطاسي قالوا فكانت ولاية هذا الوزير هي مبدأ الشر ومنشأ الفتنة
وذلك أنه لما استقل بالحجابة أخذ في تغيير مراسم الملك وعوائد الدولة وزاد ونقص في
الجند ونقض جل ما أبرمه قبله الوزراء وعامل الرعية بالعسف ومن جملة ما نقم عليه
أنه عزل قاضي فاس الفقيه أبا عبد الله محمد بن محمد بن عيسى بن علال المصمودي وقدم
مكانه الفقيه يعقوب التسولي وكان المصمودي من الدين وتحرى المعدلة بمكان فلما رأى
السلطان عبد الحق فعل الوزير واستحواذه على أمور الدولة وتبين له أن الوطاسيين قد
التحقوا معه رداء الملك وشاركوه في بساط العز وكادوا يغلبونه على أمره سطا بهم
سطوة استأصلت جمهورهم إلا من حماه الأجل منهم فتقبض على الوزير يحيى وعلى أخويه
أبي بكر وأبي شامة وعلى عمهم فارس بن زيان وقريبهم محمد بن علي بن يوسف وأتى الذبح
على جميعهم واستمر البحث عن محمد الشيخ ومحمد الحلو أخوي الوزير المذكور فلم يوجدا
لذهاب الشيخ في ذلك اليوم للصيد واختفاء الحلو عند قيام الهيعة فكان ذلك من لطف
الله بهما واتصل بهما ما جرى على عشيرتهم وبني أبيهم فذهبا إلى منجاتهما وكان من
أمرهما ما نذكره وكانت هذه الحادثة الصماء بعد مضي سبعين يوما من وزارة يحيى بن
يحيى
____________________
المذكور وصفا للسلطان عبد الحق
أمره ورأى أن قد شفا نفسه من الوطاسيين ونقى بساط حضرته من قضضهم وأبرأ جسم ملكه
من مرضهم والله غالب على أمره رياسة اليهوديين هارون وشاويل وما نشأ عن استبدادهما
من المحنة والفتنة
قالوا كان السلطان عبد الحق منذ أوقع ببني وطاس لم تسمح نفسه بإعطاء منصب الوزارة
لأحد ثم نما إليه أن العامة وكثيرا من الخاصة قد نقموا عليه إيقاعه بالوطاسيين وأن
أذنهم صاغية إلى محمد الشيخ صاحب آصيلا وكان قد استولى عليها بعد فراره حسبما نذكر
وربما شافهه البعض منهم بذلك فولى عليهم اليهوديين المذكورين تأديبا لهم وتشفيا
منهم زعموا فشرع اليهوديان في أخذ أهل فاس بالضرب والمصادرة على الأموال واعتز
اليهود بالمدينة وتحكموا في الأشراف والفقهاء فمن دونهم وكان اليهودي هارون قد ولى
على شرطته رجلا يقال له الحسين لا يألو جهدا في العسف واستلاب الأموال واستمر
الحال على ذلك والناس في شدة
وفي سنة سبع وستين وثمانمائة انتزع الإصبنيول جبل طارق من يد ابن الأحمر استيلاء
البرتغال على طنجة
ثم في سنة تسع وستين وثمانمائة استولى البرتغال على طنجة زحفوا إليها من سبتة في
ألوف من العساكر واستولوا عليها واستمرت بأيديهم أكثر من مائتين وخمس سنين ثم
بذلوها لطاغية النجليز سنة أربع وسبعين وألف في سبيل المهاداة والصهر الذي انعقد
بينهما كما سيأتي
____________________
مقتل السلطان عبد الحق بن أبي
سعيد والسبب في ذلك
ثم إن اليهودي عمد إلى امرأة شريفة من أهل حومة البليدة فقبض عليها والبليدة حومة
بفاس قالوا وكانت بدار الكومى قرب درب جنيارة فأنحى عليها بالضرب ولما ألهبتها
السياط جعلت تتوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم فحمى اليهودي وكاد يتميز غيظا من
سماع ذكر الرسول وأمره بالإبلاغ في عقابها وسمع الناس ذلك فأعظموه وتمشت رجالات
فاس بعضهم إلى بعض فاجتمعوا عند خطيب القرويين الفقيه أبي فارس عبد العزيز بن موسى
الورياكلي وكانت له صلابة في الحق وجلادة عليه بحيث يلقي نفسه في العظائم ولا
يبالي وقالوا له ألا ترى إلى ما نحن فيه من الذلة والصغار وتحكم اليهود في
المسلمين والعبث بهم حتى بلغ حالهم إلى ما سمعت فنجع كلامهم فيه وللحين أغراهم
بالفتك باليهود وخلع طاعة السلطان عبد الحق وبيعة الشريف أبي عبد الله الحفيد
فأجابوه إلى ذلك واستدعوا الشريف المذكور فبايعوه والتفت عليه خاصتهم وعامتهم
وتولى كبر ذلك أهل حومة القلقليين منهم ثم تقدم الورياكلي بهم إلى فاس الجديد
فصمدوا إلى حارة اليهود فقتلوهم واستلبوهم واصطلموا نعمتهم واقتسموا أموالهم وكان
السلطان عبد الحق يومئذ غائبا في حركة له ببعض النواحي قال في نشر المثاني خرج
السلطان عبد الحق بجيشه إلى جهة القبائل الهبطية وترك اليهودي يقبض من أهل فاس
المغارم فشد عليهم حتى قبض على امرأة شريفة وأوجعها ضربا وحكى ما تقدم فاتصل ببعد
الحق الخبر وانفض مسرعا إلى فاس واضطرب عليه أمر الجند ففسدت نياتهم وتنكرت وجوههم
وصار في كل منزلة تنفض عنه طائفة منهم فأيقن عبد الحق بالنكبة وعاين أسباب المنية
ولما قرب من فاس استشار هارون اليهودي فيما نزل به فقال اليهودي له لا تقدم على
فاس لغليان قدر الفتنة بها وإنما يكون قدومنا على مكناسة الزيتون لأنها بلدنا
____________________
وبها قوادنا وشيعتنا وحينئذ
يظهر لنا ما يكون فما استتم اليهودي كلامه حتى انتظمه بالرمح رجل من بني مرين يقال
له تيان وعبد الحق ينظر وقال وما زلنا في تحكم اليهود واتباع رأيهم والعمل
بإشارتهم ثم تعاورته الرماح من كل جانب وخر صريعا لليدين والفم ثم قالوا للسلطان
عبد الحق تقدم أمامنا إلى فاس فليس لك اليوم اختيار في نفسك فأسلم نفسه وانتهبت
محلته وفيئت أمواله وحلت به الإهانة وجاءوا به إلى أن بلغوا عين القوادس خارج فاس
الجديد فاتصل الخبر بأهل فاس وسلطانهم الحفيد فخرج إلى عبد الحق وأركبه على بغل
بالبردعة وانتزع منه خاتم الملك وأدخله البلد في يوم مشهود حضره جمع كبير من أهل
المغرب وأجمعوا على ذمه وشكروا الله على أخذه ثم جنب إلى مصرعه فضربت عنقه صبيحة
يوم الجمعة السابع والعشرين من رمضان سنة تسع وستين وثمانمائة ودفن ببعض مساجد
البلد الجديد ثم أخرج بعد سنة ونقل إلى القلة فدفن بها وانقرضت بمهلكه دولة بني
عبد الحق من المغرب والبقاء لله وحده
ونقل الثقات أن الشيخ أبا العباس أحمد زروق رحمه الله كان قد ترك الصلاة خلف
الفقيه أبي فارس الورياكلي لما صدر منه في حق السلطان عبد الحق وكان يقول لا آمن
الغندور على صلاتي يعيبه بذلك والغندور في لسان المغاربة ذو النخوة والإباية وما
أشبه ذلك والله يتغمدنا والمسلمين برحمته آمين
ولنذكر ما كان في هذه المدة من الأحداث فنقول
في سنة سبع وثمانمائة توفي الشيخ أبو زيد عبد الرحمن بن علي بن صالح المكودي عالم
فاس وأديبها ونحويها صاحب المقصورة وشرح
____________________
الخلاصة وغير ذلك من التآليف
قيل هو آخر من درس كتاب سيبويه في النحو بفاس
وفي سنة ثمان عشرة وثمانمائة توفي الشيخ أبو عبد الله محمد بن عمر ابن الفتوح
التلمساني ثم المكناسي يقال إن سبب انتقاله من تلمسان أنه كان شابا حسن الصورة
جميل الشارة فمرت به امرأة جميلة فجعل ينظر إليها من طرف خفي فقالت اتق الله يا
ابن الفتوح يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فتأثر لقولها واتعظ وتاب إلى الله
تعالى وجعل من تمام توبته أن يهاجر من الأرض التي قارف الذنب فيها فارتحل إلى فاس
فأقام بها مدة وانتفع الناس به ثم انتقل بعدها إلى مكناسة فتوفي بها في السنة
المذكورة قالوا وهو أول من أدخل مختصر الشيخ خليل مدينة فاس والمغرب
وفي سنة ست وأربعين وثمانمائة كان الوباء العظيم بالمغرب هلك فيه جمع من كبار
العلماء والأعيان ويسمى هذا الوباء عند أهل فاس بوباء عزونة
وفي سنة تسع وأربعين وثمانمائة في ذي القعدة منها توفي الشيخ أبو محمد عبد الله
العبدوسي مفتي فاس وعالمها الكبير ومحدثها الشهير وكان من أهل الصلاح والخير
والإيثار
وفي سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة في أواخر ذي القعدة منها توفي إمام الجماعة بفاس
الشيخ أبو عبد الله محمد بن قاسم الأندلسي الأصل المعروف بالقوري ودفن بباب
الحمراء منها
وفي سنة تسع وتسعين وثمانمائة في أواخر صفر منها توفي الشيخ العارف بالله المحق
أبو العباس أحمد البرنسي الشهير بزروق وكانت وفاته بمسراته من أعمال طرابلس والله
أعلم
____________________
بقية أخبار بني الأحمر
واستيلاء العدو على غرناطة وسائر الأندلس منها وانقراض كلمة الإسلام منها
كانت دولة بني الأحمر في هذه المدة متماسكة والفتنة بين أعياصها متشابكة والعدو
فيما بين ذلك يخادعهم عما بأيديهم ويراوغهم ويسالمهم تارة ويحاربهم إلى أن كانت
دولة السلطان أبي الحسن علي ابن السلطان سعد ابن الأمير علي ابن السلطان يوسف ابن
السلطان محمد الغني بالله فنازعه أخوه أبو عبد الله محمد بن سعد المدعو بالزغل قدم
من بلاد النصارى وبويع بمالقة وبقي بها مدة وعظم الخطب واشتدت الفتن وشرق المسلمون
بداء الخلاف الواقع بين هذين الأخوين وتكالب العدو عليهم ووجد السبيل إلى تفريق
كلمتهم والتمكن من فسخ عهدهم وذمتهم وذلك أعوام الثمانين وثمانمائة ثم انقاد أبو
عبد الله لأبي السحن فسكنت أحوال الأندلس بعض الشيء ثم خرج عليه ولده أبو عبد الله
محمد بن أبي الحسن وأسره النصارى في بعض الوقعات فراجع الناس طاعة أبي الحسن ثم
نزل لأخيه أبي عبد الله الزغل عن الأمر لآفة أصابته في بصره ثم إن العدو عمد
لأسيره أبي عبد الله ابن الحسن فوعده ومناه وأظهر له من أكاذيبه وخدعه غاية مناه
وبعثه للتشغيب على عمه طلبا لتفريق كلمة المسلمين وعكس مرادهم وتوصلا إلى ما بقي
عليه من حصون المسلمين وبلادهم وطالت الفتنة بين العم وابن الأخ وكل عقد كان بين
العدو وبينه انحل وانفسخ وخبت العامة الذين هم أتباع كل ناعق في ذلك ووضعت وكان
ذلك من أعظم الأسباب المعينة للعدو على التمكن من أرض الأندلس والتهامها واستئصال
كلمة الإسلام منها ثم إن ابن الأخ استولى على غرناطة بعد خروج العم عنها إلى
الجهاد ففت ذلك في عضده وعطف إلى وادي آش فاعتصم بها وحاصر العدو مالقة فقاتله
أهلها بكل ما أمكنهم حتى إذا لم يجدوا للقتال مساغا نزلوا على الأمان فاستولى
العدو عليها أواخر شعبان سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة ثم استولى بعد ذلك على وادي
آش وأعمالها صلحا ودخل في طاعته صاحبها أبو عبد الله العم بعد
____________________
أن استهوى العدو قواده
بالأموال الجزيلة ثم إن العدو خذله الله وأرسل أبا عبد الله بن أبي الحسن صاحب
غرناطة وعرض عليه الدخول في الخطة التي دخل فيها عمه من النزول له عن البلاد على
أموال جزيلة يبذلها له ويكون تحت حكمه مخيرا في أي بلاد الأندلس شاء فشاور رعيته
فاتفق الناس على الامتناع والقتال فعند ذلك أرهف العدو حده وجعل غرناطة وأهلها من
شأنه بعد أن استولى أثناء هذه الفتن والتضريبات على حصون كثيرة لم نتعرض لذكرها حتى
لم يبق له إلا غرناطة وأعمالها وقد اختصرنا معظم هذه الأخبار إذ لم تكن من موضوع
الكتاب وإنما ألممنا بهذه النبذة تتميما للفائدة وزيادة في الإمتاع ولما كان اليوم
الثاني والعشرون من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين وثمانمائة خرج العدو بمحلاته إلى
مرج غرناطة وأفسد الزرع ودوخ الأرض وهدم القرى وأمر ببناء موضع بالسور والحفير
فأحكمه وكان الناس يظنون أنه عازم على الانصراف فإذا به قد صرف عزمه إلى الحصار
والإقامة وصار يضيق على غرناطة كل يوم ودام القتال سبعة أشهر واشتد الحصار
بالمسلمين غير أن النصارى على بعد الطرق بين غرناطة والبشرات متصلة بالمرافق
والطعام يأتي من ناحية جبل شلير إلى أن تمكن فصل الشتاء وكلب البرد ونزل الثلج
فانسد باب المرافق وانقطع الجالب وقل الطعام واشتد الغلاء وعظم البلاء واستولى
العدو على أكثر الأماكن خارج البلد ومنع المسلمين من الحرث والسبب وضاق الحال وبان
الاختلال وعظم الخطب وذلك أول سنة سبع وتسعين وثمانمائة وطمع العدو في الاستيلاء
على غرناطة بسبب الجوع والغلاء دون الحرب والقتال ففر ناس كثيرون من الجوع إلى
البشرات ثم اشتد الأمر في شهر صفر من السنة وقل الطعام وتفاقم الخطب فاجتمع ناس مع
من يشار إليه من أهل العلم كأبي عبد الله الموافق شارح المختصر وغيره وقالوا
انظروا لأنفسكم وتكلموا مع سلطانكم فأحضر السلطان أبو عبد الله بن أبي الحسن أهل
دولته وأرباب مشورته وتكلموا في هذا الأمر وأن العدو يزداد مدده كل يوم ونحن لا
مدد لنا وكنا نظن أنه يقلع عنا في فصل الشتاء فخاب الظن وبنى وأسس وأقام وقرب
____________________
منا فانظروا لأنفسكم وأولادكم
فاتفق الرأي على ارتكاب أخف الضررين وشاع أن الكلام وقع بين النصارى ورؤساء
الأجناد قبل ذلك في إسلام البلد خوفا على نفوسهم وعلى الناس ثم عددوا مطالب وشروطا
أداروها وزادوا أشياء على ما كان في صلح وادي آش منها أن صاحب رومة يوافق على
الالتزام والوفاء بالشرط إذا مكنوه من حمراء غرناطة والمعاقل والحصون ويحلف على
عادة النصارى في العهود وتكلم الناس في ذلك وذكروا أن رؤساء أجناد المسلمين لما
خرجوا للكلام في ذلك امتن عليهم النصارى بمال جزيل وذخائر ثم عقدت بينهم الوثائق
على شروط قرئت على أهل غرناطة فانقادوا إليها ووافقوا عليها وكتبوا البيعة لصاحب
قشتالة فقبلها منهم ونزل سلطان غرناطة أبو عبد الله عن الحمراء ولا حول ولا قوة
إلا بالله
وفي ثاني ربيع الأول من السنة أعني سنة سبع وتسعين وثمانمائة استولى النصارى على
الحمراء ودخلوها بعد أن استوثقوا من أهل غرناطة بنحو خمسمائة من الأعيان رهنا خوف
الغدر وكانت الشروط سبعة وستين شرطا منها تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل
والمال وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعتهم وعقارهم ومنها إقامة شريعتهم على
ما كانت ولا يحكم على أحد منهم إلا بشريعته وأن تبقى المساجد كما كانت والأوقاف
كذلك وأن لا يدخل النصارى دار مسلم ولا يغصبوا أحدا وأن لا يولي على المسلمين
نصراني أو يهودي ممن يتولى عليهم من قبل سلطانهم وأن يفتك جميع من أسر في غرناطة
حيث كانوا وخصوصا أعيانا نص عليهم ومن هرب من أسارى المسلمين ودخل غرناطة لا سبيل
عليه لمالكه ولا لغيره والسلطان يدفع ثمنه لمالكه ومن أراد الجواز إلى العدوة لا
يمنع ويجوزون في مدة عينت في مراكب السلطان لا يلزمهم إلا الكراء ثم بعد تلك المدة
يعطون عشر مالهم والكراء وأن لا يؤخذ أحد بذنب غيره وأن لا يجبر من أسلم على
الرجوع للنصارى ودينهم وأن من تنصر من المسلمين يوقف أياما حتى يظهر حاله ويحضر له
حاكم من المسلمين وآخر من النصارى فإن أبى الرجوع إلى الإسلام تمادى على ما أراد
ولا يعاتب
____________________
على من قتل نصرانيا أيام الحرب
ولا يؤخذ منه ما سلب من النصارى أيام العداوة ولا يكلف المسلم بضيافة أجناد
النصارى ولا يسفر لجهة من الجهات ولا يزيدون على المغارم المعتادة وترفع عنهم جميع
المظالم والمغارم المحدثة ولا يطلع نصراني للسور ولا يتطلع على دور المسلمين ولا
يدخل مسجدا من مساجدهم ويسير المسلم في بلاد النصارى آمنا في نفسه وماله ولا يجعل
علامة كما يجعل اليهود وأهل الدجن ولا يمنع مؤذن ولا صائم ولا مصل ولا غيره من
أمور دينه ومن ضحك منهم يعاقب ويتركون من المغارم سنين معلومة وأن يوافق على كل
الشروط صاحب رومة ويضع خط يده وأمثال هذا مما تركنا ذكره
وبعد انبرام ذلك ودخول النصارى للحمراء والمدينة جعلوا قائدا بالحمراء وحكاما
ومقدمين بالبلد ولما علم بذلك أهل البشرات دخلوا في هذا الصلح وشملهم حكمه على هذا
الوجه ثم أمر العدو ببناء ما يحتاج إليه في الحمراء وتحصينها وتجديد بناء قصورها
وإصلاح سورها وصار الطاغية يختلف إلى الحمراء نهارا ويبيت بمحلته ليلا إلى أن
اطمأن من خوف الغدر فدخل المدينة وتطوف بها وأحاط خبرا بما يرومه منها ثم أمر
سلطان المسلمين أن ينتقل لسكنى البشرات وأنها تكون له في سكناه بأندرش فانصرف
إليها وأخرج الأجناد منها ثم احتال عدو الله في نفيه لبر العدوة وأظهر أن السلطان
المذكور طلب منه ذلك ثم كتب لصاحب المرية أنه ساعة وصول كتابي هذا لا سبيل لأحد أن
يمنع مولاي أبا عبد الله من السفر حيث أراد من بر العدوة ومن وقف على هذا الكتاب
فليصرفه وليقف معه وفاء بما عهد له فانصرف السلطان أبو عبد الله في الحين بنص هذا
الكتاب وركب البحر فنزل بمليلة واستوطن فاسا وكان قبل ذلك قد طلب الجواز لناحية
مراكش فلم يسعف بذلك وحين جوازه لبر العدوة لقي شدة وغلاء وبلاء ثم إن النصارى
نكثوا العهد ونقضوا الشروط عروة عروة إلى أن آل الحال لحملهم المسلمين على التنصر
سنة أربع وتسعمائة بعد أمور وأسباب أعظمها عليهم أنهم قالوا إن القسيسين كتبوا على
جميع من أسلم من النصارى أن
____________________
يرجع مهرعا لدينه ففعلوا ذلك
وتكلم الناس ولا جهد لهم ولا قوة ثم تعدوا ذلك إلى أمر آخر وهو أن يقولوا للرجل
المسلم إن جدك كان نصرانيا فأسلم فترجع أنت نصرانيا ولما تفاحش هذا الأمر قال أهل
البيازين على الحكام فقتلوهم وهذا كان السبب الأعظم في التنصر قالوا لأن الحكم خرج
من عند السلطان أن من قام على الحاكم فليس إلا الموت إلا أن يتنصر فينجو من الموت
وبالجملة فإنهم تنصروا عن آخرهم بادية وحاضرة وامتنع قوم من التنصر واعتزلوا
النصارى فلم ينفعهم ذلك وامتنعت قرى وأماكن كذلك منها بلفيق وأندرش وغيرهما فجمع
لهم العدو الجموع واستأصلهم عن آخرهم قتلا وسبيا إلا ما كان من جبل بللنقة فإن
الله تعالى أعانهم على عدوهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة مات فيها صاحب قرطبة وأخرجوا
على الأمان إلى فاس بعيالهم وما خف من أموالهم دون الذخائر
ثم بعد هذا كله كان من أظهر التنصر من المسلمين يعبد الله في خفية ويصلي فشدد
النصارى في البحث عنهم حتى إنهم أحرقوا كثيرا منهم بسبب ذلك ومنعوهم من حمل السكين
الصغيرة فضلا عن غيرها من الحديد وقاموا في بعض الجبال على النصارى مرارا فلم يقيض
الله تعالى لهم ناصرا إلى أن كان إخراج النصارى إياهم جملة أعوام سبعة عشر وألف
بعد أن ساكنوهم بغرناطة وأعمالها نحوا من مائة وعشرين سنة كانوا فيها تحت ذمة
النصارى كما رأيت والأمر لله وحده ولما أجلاهم العدو عن جزيرة الأندلس خرجت ألوف
منهم بفاس وألوف أخر بتلمسان ووهران وخرج جمهورهم بتونس فتسلط عليهم في الطرقات
الأعراب ومن لا يخشى الله تعالى من الأوباش ونهبوا أموالهم وهذا ببلاد تلمسان وفاس
ونجا القليل من هذه المضرة وأما الذين خرجوا بنواحي تونس فسلم أكثرهم وكذلك
بتطاوين وسلا وبيجة الجزائر ولما استخدم سلطان المغرب الأقصى وهو المنصور السعدي
منهم عسكرا جرارا وسكنوا سلا كان منهم من الجهاد في البحر ما هو مشهور وحصنوا قلعة
سلا وهي رباط الفتح وبنوا بها القصور والحمامات والدور
____________________
قال أبو العباس المقري في نفح الطيب وهم الآن يعني في حدود الثلاثين وألف بهذا
الحال ووصل جماعة منهم إلى القسطنطينية العظمى وإلى مصر والشام وغيرها من بلاد
الإسلام وانقضى أمر الأندلس وعادت نصرانية كما كانت أول مرة والله وارث الأرض ومن
عليها وهو خير الوارثين
وفي السنة التي استولى الإصبنيول على غرناطة انكشفت لهم أرض ماركان التي كانت
مجهولة قبل هذا التاريخ لسائر الأمم وذلك أن الحكماء الأقدمين من اليونان وغيرهم
أجمعوا على أن شكل الأرض كرة وأن الماء قد غمر أحد جانبيها كله بحيث صارت الأرض
فيه كأنها بيضة مغرقة في طست ماء قد رسب فيه أكثرها وبرز أقلها وأجمعوا على أن هذا
البارز منها هو المسكون ببني آدم وغيرهم من الحيوانات وهو المقسم إلى سبعة أقسام
تسمى الأقاليم ولم يهتدوا إلى أن الجانب الآخر منكشف عنه الماء ولا أنه مسكون كهذا
الجانب بل جزموا بأنه ماء صرف يسمى البحر المحيط واستمر هذا الاعتقاد عندهم ونقله
الخلف عن السلف ووضعوا فيه التآليف العديدة إلى أن كانت سنة سبع وتسعين وثمانمائة
وهي السنة التي استولى فيها الإصبنيول على غرناطة وسائر الأندلس فاتفق أن ظهر في
تلك المدة رجل من فرنج جنوة اسمه كلنب بضم الكاف واللام كانت حرفته الملاحة والسفر
في البحر وكان بعيد الهمة مولعا بالشهرة مغرى بالذكر وحسن الصيت فخطر بباله أن
جانب الأرض الذي أغفل الحكماء الأولون ذكره وزعموا أنه بحر صرف ربما يكون مسكونا
كهذا الجانب
وكان جنس البرتغال في هذه المدة قد كثرت أسفارهم في البحر وملكوا عدة محال من
جزائره الخالدات فحصل لكلنب الجنويزي بعض غيرة ونفاسة منهم وأراد أن يأتي بأعظم
مما فعلوا فعزم على التلجيج في البحر المحيط والإبعاد فيه عسى أن يظفر بمراده
فتطارح على ملك البرتغال واسمه يومئذ يوحنا الثاني في أن يعينه على ما هو بصدده
ويمده بما يكون سببا في نيل مقصده فلم يلتفت إلى قوله ولا عرج على رأيه ومن قبل ما
كان أهل
____________________
جنوة يحمقونه وينسبونه إلى
التهور بمثل هذه الآراء فلما لم يجد عند ملك البرتغال مراده تطارح على ملكة
الإصبنيول وهي يومئذ إيسابيلا الشهيرة الذكر عندهم فأسعفته وهيأت له ثلاث سفائن
وشحنتها بالرجال والسلاح والزاد والمال ودفعت ذلك إليه فسافر بها كلنب في البحر
المحيط على سمت المغرب حتى أرسى ببعض الجزائر الخالدات فأراح بها أياما ثم سافر
على السمت المذكور ملججا مدة من شهرين ولما طال السفر على أصحابه الذين معه أرادوا
قتله وبينما هم في ذلك ظهرت له أرض ماركان فسار حتى أرسى بأجفانه على ساحلها في
اليوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة سبع وتسعين وثمانمائة المذكورة فعثر منها على
أرض واسعة ذات أقطار ونواحي وجبال وأنهار تفوت الحصر حتى قيل إنها تساوي نصف هذا
المسكون من الأرض أو تزيد وإذا فيها خلق كثير من بني آدم كهذه إلا أنهم لم يفقهوا
قوله ولا فقه قولهم فعاد كلنب إلى ملكة الإصبنيول بعد أن بنى هنالك حصنا وترك به
بعض الجند وساق من تلك الأرض بعض الغرائب من حيوان وغيره إثباتا لمدعاه فلما قدم
على الملكة بعد مغيبه سبعة أشهر وأحد عشر يوما أعظمت قدره ونوهت باسمه وسرت بما
أتى به من ذلك كله وعدت ذلك من سعادتها إلى ما تسنى لها من الظفر بجزيرة الأندلس
والاستيلاء عليها وتبين للفرنج حينئذ أن الأرض معمورة من كلا الجانبين لا من جانب
واحد كما اعتقده الأقدمون فحينئذ تسارعت أجناسهم إلى أرض ماركان واقتسموها واعتنوا
بعمرانها وسموها الدنيا الجديدة فكانت من أعظم الأسباب في انتعاشهم وتقويتهم
وضخامة دولهم واتساع خطط ممالكهم والأمور كلها بيد الله
ومن جملة ما كان مفقودا بأرض ماركان نوع الخيل وكذا غيرها من الحيوانات الأهلية
ولما رأوا الأدمي راكبا على الفرس مسرجا ظنوه قطعة واحدة وأن الفارس وفرسه حيوان
واحد خلق على تلك الكيفية إلى غير ذلك وأخبار أرض ماركان وكيفية العثور عليها ثم
التردد إليها واعتمارها بعد ذلك طويلة وملخصها ما ذكرناه والله تعالى الموفق بمنه
____________________
وهذا آخر النصف الأول من كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى قد شرعنا في
إملائه منتصف رجب الفرد الحرام من سنة سبع وتسعين ومائتين وألف وفرغنا منه في
منتصف ذي الحجة الحرام في السنة المذكورة ونشرع بعون الله تعالى في الجزء الثاني
منه مفتتحا بما يكون كالتوطئة لدولة بني وطاس من أخبار البرتغال على الجملة وعلى
الله تعالى الكمال بمنه وفضله أخبار البرتغال بالمغرب الأقصى على الجملة
اعلم أن هذا المغرب الأقصى حرسه الله وكلأه بعين حفظه لم يزل بجميع ثغوره وسواحله
وأقطاره منذ الفتح الإسلامي إلى المائة التاسعة محفوظا الجوانب من طروق أمم الفرنج
وغيرهم من أعداء الدين محفوف الأكتاف بالحامية من جنود المسلمين مرهوبة شوكة ملوكه
عند أمم النصرانية جيلا بعد جيل وأمة بعد أمة ودولة بعد دولة لم تكن الفرنج تحدث
نفسها بغزو شيء من بلاده أو طرق ثغر من ثغوره أو الاستيلاء على شيء من سواحله ولم
يكن أهله أيضا يتوقعون ذلك منهم ولا يخشونه بل هم الذين كانوا يغزون الفرنج في عقر
ديارهم وأعز بلادهم ويحامون عن بلاد الأندلس وسواحل إفريقية وغيرها متى هاج أهلها
هيج من ذلك حسبما تقدمت الأخبار المفصحة عن ذلك ولم يبلغنا أن جنسا من أجناس
الفرنج فيما قبل المائة التاسعة غزا شيئا من أطراف المغرب الأقصى أو ثغرا من ثغوره
بقصد الاستيلاء والتملك إلا ما كان من مدينة سلا التي دخلها الإصبنيول غدرا أيام
الفتنة بين اليعقوبين ثم خرجوا عنها لمدة يسيرة حسبما مر وإلا ما كان من محاصرة
أهل جنوة لسبتة ثم الإقلاع عنها كذلك ونحو هذا مما لا يعتبر فلما دخلت المائة
التاسعة ومضى صدرها وتداعت دول المغرب من بني أبي حفص بإفريقية وبني زيان بالمغرب
الأوسط وبني مرين بالمغرب الأقصى
____________________
وبني الأحمر بالأندلس وأشرفت
على الهرم وحدثت الفتن بين المسلمين ودامت فيهم واشتغلوا بأنفسهم دون الالتفات إلى
جهاد العدو ومطالبته في أرضه وبلاده على ما كان لهم من العادة قبل ذلك وافق ذلك
ابتداء ظهور الجلالقة وهم الإصبنيول والبرتغال وهم البرطقيز بجزيرة الأندلس
واستفحال أمرهم فكثرت أسفار البرتغال في البحر المحيط ودام تقلبهم فيه ومرنوا عليه
حتى حصلوا على عدة جزائر منه واكتشفوا بعض الرؤوس الساحلية من أرض السودان وغيرها
ثم شرهوا لتملك سواحل المغرب الأقصى فهجموا عليها وجالدوا أهلها دونها حتى تمكنوا
منها ونشبوا فيها فقويت شوكتهم وعظم ضررهم على الإسلام وطمحت نفوسهم للاستيلاء على
ما وراء ذلك حسبما تقف عليه مبينا في مواضعه إن شاء الله
فاستولوا في سنة ثمان عشرة وثمانمائة على مدينة سبتة بعد محاصرتهم لها ست سنين على
ما في بعض تواريخ الإفرنج ثم في سنة اثنتين وستين وثمانمائة استولوا على قصر
المجاز ثم استولوا في سنة تسع وستين وثمانمائة على طنجة ثم في حدود سنة ست وسبعين
وثمانمائة ملكوا آصيلا وفي هذا التاريخ نفسه أو قبله بيسير استولوا على مدينة آنفا
وبعض سواحل السوس ثم في حدود سنة سبع وتسعمائة نزلوا بأرض الجديدة فيما بين آزمور
وتيط وبنوا بها حصن البريجة وطال مقامهم بها ثم في سنة عشر وتسعمائة استولوا على
مدينة العرائش ثم بعد ذلك بيسير في حدود العشر وتسعمائة على ما تقتضيه تواريخ
الفرنج ملكوا حصن آكادير وما اتصل به من سواحل السوس الأقصى ثم ملكوا في حدود
اثنتي عشرة وتسعمائة رباط آسفي ثم عطفوا على ثغر آزمور فاستولوا عليه في سنة أربع
عشرة وتسعمائة ثم المعمورة وهي المهدية ملكوها أيضا في حدود سنة عشرين وتسعمائة
وفي هذا التاريخ نفسه رجعوا إلى مدينة آنفا بعد هدمها فبنوها وسكنوها وبالجملة فلم
يبق من ثغور المغرب الأقصى بيد المسلمين إلا القليل مثل سلا ورباط الفتح وفجئ
المسلمون من هذا البرتغال بالأمر العظيم ودهوا منه بالخطب الجسيم واستحوذ عدو الله
على بلاد الهبط وضايقهم بها حتى
____________________
انحازوا إلى الأمصار المنزوية
عن الأطراف والقرى النائية عن السواحل وكان ذلك كله فيما بين انقراض دولة بني وطاس
وظهور دولة الشرفاء السعديين ولقد ذكر في مرآة المحاسن أن قصر كتامة كان في صدر
المائة العاشرة مقصدا للتجار وسوقا تجلب إليه بضائع العدوتين وسلعها قال إذ كان
القصر المذكور ثغرا بين بلاد المسلمين وبين بلاد النصارى تحط به رحال تجار
المسلمين من آفاق المغرب وتجار الحربيين من أصيلا وطنجة وقصر المجاز وسبتة ولأنه
كان محل عناية سلطان المغرب إذ ذاك محمد الشيخ بن أبي زكرياء الوطاسي فإن القصر
قاعدة بلاد الهبط التي كانت موقد شرارة السلطان المذكور ومشب ناره وموشج عصبيته مع
مجاورته لبلاد الحرب فكان نظره مصروفا إليه واختصاصه موقوفا عليه وتقبل بنوه من
بعده مذهبه فيه اه كلامه فهذا يدلك على ما كان عليه العدو خذله الله من المضايقة
للمسلمين في ثغورهم وبلادهم ولله الأمر من قبل ومن بعد
ولما نزل بأهل المغرب الأقصى ما نزل من غلبة عدو الدين واستيلائه على ثغور
المسلمين تباروا في جهاده وقتاله وأعملوا الخيل والرجل في مقارعته ونزاله وتوفرت
دواعي الخاصة منهم والعامة على ذلك وصرفوا وجوه العزم لتحصيل الثواب فيما هنالك
فكم من رئيس قوم قام لنصرة الدين غيرة واحتسابا وكم من ولي عصر أو عالم مصر باع
نفسه من الله ورأى ذلك صوابا حتى لقد استشهد منهم أقوام وأسر آخرون وبلغ الله
تعالى جميعهم من الثواب ما يرجون فمن استشهد منهم في سبيل الله سيدي عيسى ابن
الحسن المصباحي دفين الدعداعة بأرض البروزي من بلاد طليق وأبو الحسن علي بن عثمان
الشاوي من أصحاب الشيخ أبي محمد الغزواني وأبو الفضل فرج الأندلسي ثم المكناسي
وأبو عبد الله محمد القصري المعروف بسقين قتله النصارى عند ضريح الشيخ أبي سلهام
وكان قد قصده للزيارة ففتكوا به هنالك وكل هؤلاء معدود في أولياء الله تعالى وممن
أسر منهم ثم خلصه الله الشيخ أبو محمد عبد الله بن ساسي دفين تانسيفت من أحواز
مراكش والشيخ أبو محمد عبد الله الكوش دفين جبل العرض من أحواز
____________________
فاس ووالد صاحب دوحة الناشر
وهو أبو الحسن علي بن مصباح الحسني عرف بابن عسكر والشيخ العلامة أبو العباس أحمد
ابن القاضي المكناسي أحد قضاة سلا وهو صاحب جذوة الاقتباس والمنتقى المقصور
وغيرهما من التآليف الحسان أسر وهو ذاهب إلى الحج وأبو عبد الله محمد بن أبي الفضل
التونسي المعروف بخروف نزيل فاس وشيخ الجماعة بها هؤلاء كلهم أصابه الأسر ثم خلصه
الله بعد حين وغير هؤلاء ممن لم يحضرنا ذكرهم أجزل الله ثوابهم ويسر بمنه حسابهم
ولقد ألف الناس في ذلك العصر التآليف في الحض على الجهاد والترغيب فيه وقال
الخطباء والوعاظ في ذلك فأكثروا ونظم الشعراء والأدباء فيه ونثروا فممن ألف في ذلك
الباب فأفاد الشيخ المتفنن البارع الصوفي أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم ابن
يجيش التازي قال في الدوحة وقفت له على تأليف ألفه في الحض على الجهاد في سبيل
الله فكان مما ينبغي أن يتناول باليدين ويكتب دون المداد باللجين أودعه نظما ونثرا
وممن نظم في ذلك فأجاد الشيخ الصالح المتصوف المجاهد أبو عبد الله محمد بن يحيى
البهلولي قال في الدوحة كان هذا الشيخ ممن لازم باب الجهاد وفتح له فيه وله في ذلك
أشعار وقصائد زجليات وغيرها وكان معاصرا للسلطان أبي عبد الله محمد ابن محمد الشيخ
الوطاسي المعروف بالبرتغالي فكان إذا جاءه زائرا حضه على الغزو فيساعده على ما
أراد من ذلك ولما توفي السلطان المذكور ودالت الدولة لولده السلطان أحمد وغص
بالشرفاء القائمين عليه ببلاد السوس عقد الهدنة مع النصارى المجاورين له ببلاد
الهبط وصاحبهم سلطان البرتغال فبلغ ذلك الشيخ أبا عبد الله المذكور فآلى على نفسه
أن لا يلقى السلطان المذكور ولا يمشي إليه ولا يقبل منه ما كان عينه له والده من
جزية أهل الذمة بفاس لقوته وضرورياته فمكث على ذلك إلى أن حضرته الوفاة وكان في
النزع وأصحابه دائرون به فقال له بعضهم يا سيدي أخبرك أن السلطان أمر بالغزو ونادى
به وحض الناس عليه والمسلمون في شرح لذلك وفرح ففتح الشيخ عينيه وتهلل وجهه فرحا
وحمد الله وأثنى عليه
____________________
ففاضت نفسه وهو مسرور بذلك
ولهذا الشيخ زجليات ومقطعات حسان في الحض على الجهاد منها اللامية المشهورة التي
خاطب بها السلطان أبا عبد الله المذكور ومطلعها
( قل للأمير محمد ** يا طلعة الهلال )
( لويلة في السواحل ** من أفضل الليال )
ومنها القصيدة التي مطلعها
( ظهر الرمل مرادي ** والعسكر يا كرام )
( نفسي على الجهاد ** سبلت والسلام )
ومنها القصيدة التي أولها
( قم للجهاد رعاك الله منتهجا ** نهج الرشاد إلى الأقوام لو فهموا )
( من بعد أندلس ما زلت محتدما ** لو كان يمكنني في الليل أحتزم )
إلى غير ذلك مما يطول ذكره قال صاحب الدوحة حدثني الفقيه العدل أبو العباس أحمد
الدغموري القصري قال كان الشيخ أبو عبد الله يقول ما غزونا غزوة قط إلا رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم فيها ويخبرني بجميع ما يتفق لي ولأصحابي في تلك الغزوة
وله رضي الله عنه في شأن الجهاد والرجولية حكاية ظريفة وهي أنه غز مرة غزوة إلى
الثغور الهبطية ثم قدم منها مع أصحابه فوجد زوجته فلانة بنت الشيخ أبي زكرياء يحيى
بن بكار قد توفيت وصلى الناس عليها بجامع القرويين وإمامهم الشيخ غازي ابن الشيخ
أبي عبد الله محمد بن غازي الإمام المشهور فوصل الشيخ أبو عبد الله ووجد جنازتها
على شفير القبر والناس يحاولون دفنها فقال لهم مهلا ثم تقدم وأعاد الصلاة عليها مع
أصحابه الذين قدموا معه فبادر الناس إليه بالإنكار في تكرير الصلاة في الجنازة
بالجماعة مرتين فقال لهم على البديهة صلاتكم التي صليتم عليها فاسدة لكونها بغير
إمام فقالوا له كيف ذلك يا سيدي قال لأن شرط الإمام الذكورية وهي مفقودة في صاحبكم
لأن الذي لم يتقلد سيفا في سبيل الله قط ولم يضرب به ولا عرف الحرب كما كان نبينا
صلى الله عليه وسلم ولم يتعبد بالسيرة النبوية فكيف يعد إماما ذكرا بل
____________________
إمامكم والله من جملة النساء
اه وحكى أيضا في ترجمة الشيخ أبي محمد عبد الله الورياكلي الذي قال له العلامة ابن
مرزوق وقد عزم على الرحلة إلى بلاد المشرق في طلب العلم ليس أمامك أحد أعلم منك
قال فرجع من هنالك فوجد النصارى قد تغلبوا على طنجة وآصيلا فلازم الثغور الهبطية
لأجل الرباط والجهاد في سبيل الله وبث العلم ونشره قال وكان من عادته أن يشتغل
بالتدريس في فصلي الشتاء والربيع ويخرج في الصيف والخريف فيربط في ثغور القبائل
الهبطية إلى آخر كلامه وأمثال هذا كثير ذكرنا منه هذه النبذة اليسيرة لتقف بها على
أحوال القوم وما كانوا عليه من الرغبة في الجهاد والمثابرة عليه قدس الله أرواحهم
وجعل في دار النعيم غدوهم ورواحهم
وقد آن أن نشرع في الأخبار عن دولة بني وطاس بعد أن نذكر دولة الشريف العمراني
الذي بايعه أهل فاس يوم مقتل السلطان عبد الحق بن أبي سعد رحمه الله الخبر عن دولة
الشريف أبي عبد الله الحفيد وأوليته
هذا الشريف هو أبو عبد الله محمد بن علي الإدريسي الجوطي العمراني من بيت بني
عمران فرقة من أدارسة فاس وهم واسطة عقد البيت الإدريسي وأوضحهم نسبا وأعلاهم حسبا
قال ابن خلدون ليس في المغرب فيما نعلمه من أهل البيت الكريم من يبلغ في صراحة
نسبه ووضوحه مبلغ أعقاب إدريس رضي الله عنه قال وكبراؤهم لهذا العهد بنو عمران
بفاس من ولد يحيى الجوطي بن محمد بن يحيى العدام بن القاسم بن إدريس بن إدريس وهم
نقباء أهل البيت هناك والساكنون ببيت جدهم إدريس ولهم السيادة على أهل المغرب كافة
اه والجوطي قال في المرآة نسبة إلى جوطة بجيم مضموم وواو مد وطاء مفتوحة وهاء
تأنيث وهي قرية عظيمة على نهر سبو في العدوة الجنوبية خربت ولم يبق منها إلا أثار
ولها مسيل شتوي يعرف بمخروط جوطة نزلها السيد يحيى فنسب إليها وقبره هنالك معروف
اه
____________________
بيعة السلطان أبي عبد الله
الحفيد والسبب فيها
كان بنو مرين أيام ولايتهم على المغرب يعظمون هؤلاء الأشراف الأدارسة ويوجبون حقهم
ويتقربون إلى الله تعالى برفع منزلتهم وجبر خواطرهم لما فاتهم من رتبة الخلافة
التي كانت تكون لهم بطريق الاستحقاق الشرعي فكان بنو مرين لما جبلوا عليه من
الجنوح إلى مراسم الدين وانتحالها يرون في أنفسهم كأنهم متغلبون مع وجود هؤلاء
الأشراف فلذا كانوا يخضعون لهم ويتأدبون معهم ما أمكن ولقد حكى أبو عبد الله بن
الأزرق أن الشيخ الكبير أبا عبد الله المقري كان يحضر مجلس السلطان أبا عنان ليث العلم
وكان نقيب الشرفاء بفاس إذا دخل مجلس السلطان يقوم له السلطان وجميع من في المجلس
إجلالا له إلا الشيخ المقري فإنه كان لا يقوم له فجرت بين الشريف والفقيه المذكور
معاتبة ومراجعة في حكاية مشهورة تركناها لعدم تعلق الغرض بها إذ الغرض هو الوقوف
على ما كان عليه القوم من التجلة والتعظيم لأهل هذا البيت الكريم فلما اضطربت
أحوال الدولة المرينية بفاس واجتمع رؤساء فاس إلى الفقيه أبي فارس الورياكلي في
شأن اليهوديين اللذين كانا يحتكمان في المدينة ويعتسفان أهلها أجمع رأيهم على
مبايعة هذا الشريف الحفيد وكان يومئذ على نقابة الأشراف بفاس فاستدعوه فحضر
وبايعوه في العشر الأواخر من رمضان سنة تسع وستين وثمانمائة وتم أمره وكان من قتله
للسلطان عبد الحق ما تقدم ذكره والله أعلم
____________________
فتنة الشاوية ووصولهم إلى بلاد
الغرب
قد قدمنا ما كان من أمر الشاوية وفتنتهم في أيام السلطان عبد الحق ولما كانت أيام
الحفيد هذا تزايد ضررهم واستطال شرهم فزحفوا إلى بلاد الغرب من أحواز مكناسة وفاس
وعاثوا وأفسدوا ولما تكلم أبو عبد الله محمد العربي الفاسي في مرآة المحاسن على
الشيخ عبد الوارث اليالصوتي وأنه أخذ من جماعة منهم أبو النجاء سالم الروداني
الشاوي والشيخ أبو عبد الله الصغير السهلي والشيخ أبو محمد الغزواني قال وكان
الشيخ أبو النجاء أولا يقرأ بالمدرسة العنانية فلما نزل الشاوية الغرب خرج من فاس
خائفا يترقب وذلك في أيام الحفيد اه وبلاد الغرب تطلق في عرف أهله على خصوص بسيط
أزغار وما اتصل به إلى ساحل البحر والله أعلم استيلاء البرتغال على مدينة آنفي
وآصيلا
رأيت في بعض تواريخ الفرنج أن استيلاء البرتغال على آنفي كان في حدود أربع وسبعين
وثمانمائة وأنهم هدموها وبقيت كذلك مدة تزيد على أربعين سنة ثم شرعوا في تحصينها
والبناء بها ولم يزالوا مقيمين بها إلى حدود أربع وخمسين ومائة وألف في سنة ست
وسبعين وثمانمائة استولوا على آصيلا وظفروا فيها ببيت مال الوطاسي وأسروا ولده
محمدا المدعو بالبرتغالي وابنته وزوجتيه وجماعة من الأعيان وكان الخطب عظيما وبقي
ولد الوطاسي عند البرتغال سبع سنين ثم افتكه والده بعد وكان يوم أسر صبيا صغيرا
وأما مدينة فضالة فلم يقع عليها استيلاء وإنما كانت بها كمبانية خمسة نفر من تجار
مادريد قاعدة قشتالة نزلوها بقصد التجارة بإذن سلطان الوقت وكانت سلعهم توسق وتوضع
من مرساها وبنوا بها البناء الموجود
____________________
اليوم والله تعالى أعلم خلع
السلطان أبي عبد الله الحفيد وانقراض أمره
قال في الجذوة لما قامت عامة فاس على السلطان عبد الحق وأقاموا هذا النقيب من أهل
مدينة فاس إماما استمر بها وابنه وزير له إلى سنة خمس وسبعين وثمانمائة فعزل عن
الإمامة وكان الذي خلعه أبا الحجاج يوسف بن منصور بن زيان الوطاسي وكان ذلك سبب
ذهاب الشريف المذكور إلى تونس لمدة يسيرة من خلعه وبقيت حضرة فاس الجديد في يد أخت
أبي الحجاج المذكور وهي الزهراء المدعوة بزهور مع قائده السجيري إلى أن تولى الأمر
أبو عبد الله محمد الشيخ الوطاسي والله غالب على أمره
____________________
الخبر عن دولة بني وطاس وذكر
نسبهم وأوليتهم
اعلم أن بني وطاس فرقة من بني مرين غير أنهم ليسوا من بني عبد الحق ولما دخل بنو
مرين المغرب واقتسموا أعماله حسبما تقدم كان لبني وطاس هؤلاء بلاد الريف فكانت
ضواحيها لنزولهم وأمصارها ورعاياها لجبايتهم وكان بنو الوزير منهم يسمون إلى
الرياسة ويروسون الخروج على بني عبد الحق وقد تكرر ذلك منهم حسبما مر ثم أذعنوا
إلى الطاعة وراضوا أنفسهم على الخدمة فاستعملهم بنو عبد الحق في وجوه الولايات
والأعمال واستظهروا بهم على أمور دولتهم فحسن أثرهم لديها وتعدد الوزراء منهم فيها
وذكر ابن خلدون أن بني الوزير هؤلاء يرون أن نسبهم دخيل في بني مرين وأنهم من
أعقاب يوسف بن تاشفين اللمتوني لحقوا بالبدو ونزلوا على بني وطاس ووشجت فيهم
عروقهم حتى لبسوا جلدتهم ولم يزل السرو متربعا بين أعينهم لذلك والرياسة شامخة
بأنوفهم اه ولما كانت دولة السلطان أبي عنان واستولى على بجابة عقد عليها لعمر بن
علي الوطاسي من بني الوزير هؤلاء فثار عليه أهلها واستلحموه في خبر مر التنبيه
عليه
ثم لما كانت الدولة الأولى للسلطان أبي العباس بن أبي سالم وخلص ملك مراكش
وأعمالها إلى ابن عمه الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن كان من جملة من تحيز إليه
وصار في جملته زيان بن عمر بن علي المذكور فكانت له في دولته الوجاهة الكبيرة
والمنزلة الرفيعة ثم لما فسد ما بين السلطان أبي العباس والأمير عبد الرحمن كان
زيان بن عمر في جملة النازعين إلى السلطان أبي العباس فاتصل به وصار في جملته إلى
أن حاصر السلطان أبو العباس قصبة مراكش وبها يومئذ الأمير عبد الرحمن فأبلى
____________________
زيان بن عمر في ذلك الحصار
وكان أحد الذين باشروا قتل ولدي الأمير عبد الرحمن
قال ابن خلدون وطالما كان زيان هذا يمتري ثدي نعمتهم ويجر ذيله خيلاء في جاههم
فذهب مثلا في كفران النعمة وسوء الجزاء والله لا يظلم مثقال ذرة ثم جاء بعده ابنه
أبو زكرياء يحيى بن زيان فولي الوزارة للسلطان عبد الحق كما مر ثم بعده ابنه يحيى
أيضا وهو الذي قتله السلطان عبد الحق في جماعة من عشيرته وفر أخوه أبو عبد الله
محمد الشيخ إلى الصحراء وبقي متنقلا في البلاد إلى أن كان من أمره ما نذكره الخبر
عن دولة السلطان أبي عبد الله محمد الشيخ بن أبي زكرياء الوطاسي رحمه الله
قد تقدم لنا ما كان من إيقاع السلطان عبد الحق ببني وطاس وإفلات محمد الشيخ ومحمد
الحلو من النكبة وأن الشيخ كان قد خرج للصيد فاتصل به الخبر فذهب على وجهه لا يلوي
على شيء وأن الحلو اختفى حتى إذا سكنت الهيعة تسلل ولحق بالشيخ فسارا إلى جهة
الصحراء وجعلا يترددان فيما بينها وبين البلاد الهبطية حتى ملكا آصيلا وذلك قبل
استيلاء البرتغال عليها ولما ملك الشيخ آصيلا واستفحل أمره بها تشوفت إليه الأعيان
من أهل فاس والرؤساء من أهل دولة السلطان عبد الحق وصاروا يكاتبونه ويقدمون إليه
الوسائل سرا وربما دعوه إلى القدوم على أن يبذلوا له من الطاعة والنصرة ما شاء
فاستمر الحال على ذلك إلى أن قتل عبد الحق وبويع الحفيد فحينئذ أرهف الشيخ حده
واستفرغ في المطالبة جهده إلى أن استولى على الحضرة وصفا له ملك المغرب
قال في المرآة لما بايع أهل فاس أبا عبد الله الحفيد قام محمد الشيخ الوطاسي في
آصيلا واستتبع القبائل واستفحل أمره وحاصر فاسا وقتا
____________________
بعد وقت إلى أن دخلت في طاعته
في رمضان سنة ست وسبعين وثمانمائة وخرج عنها الحفيد ودخلها محمد الشيخ المذكور في
أوائل شوال من السنة المذكورة وهو مورث الملك لبنيه بها اه وقد تقدم لنا أن الذي
خلع الشريف من الملك هو أبو الحجاج يوسف بن منصور الوطاسي وأن حضرة فاس الجديد قد
بقيت بعد ذهاب الشريف إلى تونس في يد زهور الوطاسية والقائد السجيري إلى أن قدم
السلطان محمد الشيخ والله تعالى أعلم
وقال منويل في أخبار محمد الشيخ هذا ما صورته كانت مملكة المغرب الأقصى في غاية
الاضطراب والانتكاس حتى طمع في ملكها كل من كانت توسوس له نفسه بذلك واستولى ابن
الأحمر على جميع الثغور التي كانت لبني مرين بأرض الأندلس ولم يترك لهم قيد شبر
واشرأبت أجناس الفرنج للتغلب على المغرب وفي تلك المدة كان بآصيلا محمد الشيخ
الوطاسي وكان شجاعا مقداما وأحس من نفسه بالقدرة على الاستيلاء على كرسي فاس
وتنحية الشريف عنه لا سيما مع ما كان الناس فيه من افتراق الكلمة فجمع جندا صالحها
وزحف إلى فاس فبرز إليه الشريف والتقوا بأحواز مكناسة فوقعت بينهما حرب عظيمة كانت
الكرة فيها على الوطاسي ثم جمع عسكرا آخر وزحف به إلى فاس وحاصرها نحو سنتين
والشريف فيها مع أرباب دولته وفي أثناء الحصار ورد عليه الخبر باستيلاء البرتغال
على آصيلا وعلى بيت ماله الذي كان بها وعلى حظاياه وأولاده فأفرج عن فاس ورجع
مبادرا إلى آصيلا فحاصرها ولما امتنعت عليه عقد مع البرتغال هدنة وعاد سريعا إلى
فاس فحاصرها وضيق على الشريف بها حتى خرج فارا بنفسه وأسلمها إليه فدخلها محمد ا
لشيخ وتمت بيعته وتفرغ لتدويخ القبائل التي بأحواز فاس وغيرها فدخلوا في طاعته
واغتبطوا به اه كلامه
____________________
رياسة بني راشد من شرفاء
العالم بغمارة وبناؤهم مدينة شفشاون وما يتبع ذلك
قال في نشر المثاني اختط بعض شرفاء العلم مدينة شفشاون بقصد تحصين المسلمين من
نصارى سبتة إذ كانوا بعد استيلائهم عليها يتطاولون على أهل تلك المداشر في أواخر
دولة بني وطاس
وقال في المرآة كان ابتداء اختطاط مدينة شفشاون في الجهة المعروفة عندهم بالعدوة
وهي عدوة وادي شفشاون في حدود سنة ست وسبعين وثمانمائة على يد الشريف الفقيه
الصالح الناصح المجاهد أبي الحسن بن أبي محمد المعروف بأبي جمعة العلمي واسمه
الحسن بن محمد ابن الحسن بن عثمان بن سعيد بن عبد الوهاب بن علال بن القطب أبي
محمد عبد السلام بن مشيش ومات شهيدا قبل إتمام ما شرع فيه بتدبير النصارى دمرهم
الله مع أهل النفاق إذ ذاك من أهل الخروب وقد جاءهم في سبيل الجهاد وبينما هو يتهجد
من الليل في مسجد هنالك إذ أضرموا عليه نارا فمات رضوان الله عليه وقام مقامه فيما
كان بسبيله من الجهاد والاستنفار له وتجييش الجيوش ابن عمه الأمير الجليل الفاضل
الأصيل أبو الحسن علي بن موسى بن راشد بن علي بن سعيد بن عبد الوهاب إلى آخر النسب
المتقدم فشرع في اختطاط مدينة شفشاون في العدوة الأخرى فبنى قصبتها وشيدها وأوطنها
بأهله وعشيرته وزل الناس بها فبنوا وصارت في عداد المدن إلى أن توفي سنة سبع عشرة
وتسعمائة وورثها بنوه من بعده ولم يزالوا فيها بين سلم وحرب إلى أن أخرجهم منها
الشرفاء السعديون عند استيلائهم على بلاد المغرب والله تعالى أعلم
____________________
ثورة عمرو بن سليمان السياف
ببلاد السوس وشيء من أخباره
هذا الرجل هو عمرو بن سليمان الشيظمي المغيطي المعروف بالسياف ويقال له المريدي
بضم الميم وكان ابتداء أمره أنه كان من تلامذة الشيخ أبي عبد الله محمد بن سليمان
الجزولي صاحب دلائل الخيرات نقل الثقات أنه كان يتردد إلى الشيخ المذكور أيام
حياته ويأتيه بألواح فيها كلام كثير منسوب إلى الخضر عليه السلام فلا يقول له في
ذلك شيئا غير انه أثنى عليه مرات كثيرة ثم لما مات الشيخ المذكور رحمه الله سنة
سبعين وثمانمائة ثار عمرو المذكور مظهرا الطلب بثأر الشيخ والانتقام من الذين سموه
إذ كان سمه بعض فقهاء عصره فتتبعهم حتى قتلهم ثم صار يدعو الناس إلى إقامة الصلاة
ويقاتلهم عليها فانتصر عليهم وشاع ذكره وتمكن ناموسه ثم تجاوز ذلك إلى أن صار يدعو
الناس إلى نفسه ويقتل المنكرين عليه وعلى شيخه وأصحابه وسمى أصحابه المريدين بضم
الميم قال زروق وما أحقها بالفتح وسمى المخالفين له الجاحدين ثم جعل يتفوه
بالمغيبات ويزعم أنه مأذون وربما ادعى النبوة وكان قد أخرج شلو الشيخ الجزولي من
قبره وجعله في تابوت وصار يقدمه بين يديه في حروبه كتابوت بني إسرائيل فينتصر على
من خالفه وقيل إنه لم يدفنه وإنما أخذه بعد موته فكفنه وجعله في التابوت وجمع
الجموع وقاد الجيوش وسفك الدماء واستمرت فتنة في الناس عشرين سنة
قال الشيخ زروق رحمه الله بلغني أن شيخنا الفقيه أبا عبد الله القوري ورد عليه
سؤال في شأن عمرو بن سليمان السياف فبادرت إليه كي أراه فقال لي قد خرج من يدي
فقلت له فما مقتضاه قال مقتضاه أنه يقول إن أحكام الكتاب والسنة ارتفعت ولم يبق
إلا ما يقول له قلبه قال زروق وشاع من أمره أنه يقول إنه وارث النبوة وأن له
أحكاما تخصه كما في قصة الخضر مع موسى عليهما السلام وأن الخضر حي ونبي مرسل وأنه
يلقاه ويأخذ عنه بل يدعي ذلك من هو دونه من تلامذته
____________________
وحكى بعضهم أن عمرا المذكور لما جعل شلو الشيخ في التابوت كان إذا رجع به من حربه
وضعه في روضة عنده يسميها الرباط فإذا جنه الليل أطاف الحرس بالروضة يحرسون
التابوت من السراق ويوقد عليه كل ليلة فتيلة عظيمة في مقدار الثوب مغموسة في نحو
مدين من الزيت ليقوى الضوء وينتشر ويبلغ من كل الجهات إلى مسافة بعيدة فتنكشف
الطرق عمن يأتي عليها كل ذلك مخافة أن يؤخذ منه شلو الشيخ فينتصر به عليه
ويقال إن ثورة عمرو المذكورة وفتنته كانت أثرا من آثار دعوات الشيخ الجزولي رحمه
الله فقد ذكر تلامذته كالشيخ التباع وغيره أن الشيخ الجزولي خرج عليهم من آخر
الليلة التي قتل في صبيحتها فقالوا له يا سيدي الناس يزعمون أنك الفاطمي المنتظر
فقال ما يبحثون إلا عمن يقطع رقابهم الله يسلط عليهم من يقطع رقابهم وكرر ذلك
مرارا فكانوا يرون أن أثر دعوته ظهر في عمرو السياف والله أعلم
وقتل عمرو المذكور سنة تسعين وثمانمائة واختلف فيمن قتله فقيل كان عمرو قد تزوج
زوجة الشيخ الجزولي وبنته فلما رأتا ما هو عليه من الزندقة والفساد في الأرض
قتلتاه امتعاضا للدين ترصدتاه حتى إذا نام عدتا عليه فقتلتاه ثم رمت إحداهما وهي
بنت الشيخ بنفسها من كوة هنالك في البيت الذي كانوا به فوصلت إلى الأرض سالمة ونجت
وبقيت الأخرى وهي الزوجة بالبيت فدخلوا عليها فقتلوها وقيل إنما قتلته زوجته
وربيبته وقيل غير ذلك والله أعلم
ولما هلك عمرو السياف دفن الناس الشيخ الجزولي وقيل هو دفنه بموضع يعرف بتاصروت ثم
نقل بعد إلى مراكش على ما نذكر إنشاء الله ولما ذكر الشيخ أبو العباس الصومعي في
كتابه الموضوع في مناقب الشيخ أبي يعزى قصة نقل الشيخ الجزولي إلى مراكش وأنه وجد
طريا لم يتغير بعد وفاته بنحو سبعين سنة قال وأعجب من هذا أن عمرا المغيطي السياف
زعموا أنه وجد كذلك ولعله أدركته بركة هذا الشيخ مع ما كان عليه والفضل بيد الله
اه
____________________
وفي سنة إحدى وتسعين وثمانمائة استدعى السلطان محمد الشيخ الإمام أبا عبد الله بن
غازي من مكناسة إلى فاس فولي الخطابة أولا بالمسجد الجامع من فاس الجديد ثم ولي
الإمامة والخطابة ثانيا بمسجد القرويين من فاس وصار شيخ الجماعة بها واستوطنها إلى
أن مات رحمه الله
وفي سنة خمس وتسعين وثمانمائة تحرك السلطان محمد الشيخ إلى دبدو ثم عاد إلى حضرته
وفيها أيضا في يوم الخميس السابع من ذي القعدة توفي الوزير أبو عبد الله محمد
الحلو الوطاسي ودفن بالقلة خارج باب الحبيسة
وفي سنة سبع وتسعين وثمانمائة استولت الرينة إيسابيلا صاحبة مادريد قاعدة بلاد
قشتالة على حمراء غرناطة ومحت دولة بني الأحمر من جزيرة الأندلس ولم يبق للمسلمين
بها سلطان وتفرق أهلها في بلاد المغرب وغيرها أيادي سبا وقد تقدم الخبر عن ذلك
مستوفى بناء مدينة تطاوين
قال منويل لما استولى الإصبنيول على غرناطة خرج جماعة كبيرة من أهلها إلى المغرب
فنزلوا في مرتيل قرب تطاوين ولما نزلوا به لم يقدموا شيئا على الوفادة على سلطان
فاس محمد الشيخ الوطاسي فأجل مقدمهم ورحب بهم فقالوا إن ضيافتنا عندك أن تعين لنا
موضعا نبني فيه بلدا يكننا ونحفظ فيه عيالنا من أهل الريف فأجابهم إلى مرادهم وعين
لهم مدينة تطاوين الخربة منذ تسعين سنة وولى عليهم كبيرهم أبا الحسن عليا المنظري
وكان رجلا شجاعا من كبار جند ابن الأحمر وكان قد أبلى معه في حرب غرناطة البلاء
الحسن ثم انتقل إلى المغرب كما قلنا ولما عقد له الشيخ الوطاسي على أصحابه رجع بهم
إلى تطاوين وشرع في بناء أسوار البلد القديم فجدده وبنى المسجد الجامع به واستوطنه
هو وجماعته ثم أخذ في جهاد البرتغال بسبتة وبلاد الهبط إلى أن أسر منهم ثلاثة آلاف
فاستخدمهم في إتمام ما بقي
____________________
عليه من بناء تطاوين واتصلت
الحرب بينهم وبين برتقال سبتة كاتصالها بين أهل آزمور وبرتقال الجديدة اه
وقوله إن بناء تطاوين كان عقب أخذ غرناطة مخالف لما يقول أهل تطاوين من أن تاريخ
بنائها رمز تفاحة وأن ذلك كان بإعانة الشريف أبي الحسن علي بن راشد فيظهر والله
أعلم أن أبا الحسن المنظري كان قد قدم من الأندلس قبل أخذ غرناطة بسنين يسيرة
موافق الرمز المذكور والله أعلم قدوم أبي عبد الله بن الأحمر مخلوعا على السلطان
محمد الشيخ الوطاسي رحمهما الله
لما استولى طاغية الإصبنيول على حضرة غرناطة وسائر الأندلس انتقل سلطانها أبو عبد
الله بن الأحمر إلى حضرة فاس فاستوطنها تحت كنف السلطان محمد الشيخ بعد أن خاطبه
من إنشاء وزيره أبي عبد الله محمد العربي العقيلي بقصيدة بارعة يقول في صدرها
( مولى الملوك ملوك العرب والعجم ** رعيا لما مثله يرعى من الذمم )
( بك استجرنا ونعم الجار أنت لمن ** جار الزمان عليه جور منتقم )
( حتى غدا ملكه بالرغم مستلبا ** وأفظع الخطب ما يأتي على الرغم )
( حكم من الله حتم لا مرد له ** وهل مردا لحكم منه منحتم )
وهي طويلة ثم وصلها برسالة يقول فيها بعد الحمد لله والصلاة على نبيه ما نصه
أما بعد فيا مولانا الذي أولانا من النعم ما أولانا لا حط الله لكم من العزة
أرواقا ولا أذوى لدوحة دولتكم أغصانا ولا أوراقا ولا زالت مخضرة العود مبتسمة عن
زهرات البشائر متحفة بثمرات السعود ممطورة بسحائب البركات المتداركات دون بروق ولا
رعود هذا مقام العائذ بمقامكم المتعلق بأسباب ذمامكم المرتجي لعواطف قلوبكم وعوارف
أنعامكم
____________________
المقبل الأرض تحت أقدامكم
المتلجلج اللسان عند محاولة مفاتحة كلامكم وماذا الذي يقول من وجهه خجل وفؤاد وجل
وقضيته المقضية عن التنصل والاعتذار تجل بيد أني أقول لكم ما أقول لربي واجترائي
عليه أكثر واحترامي إليه أكبر اللهم لا بريء فاعتذر ولا قوي فأنتصر لكني مستقيل
مستعتب مستغفر وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء هذا على طريق التنازل
والاتصاف بما تقتضيه الحال ممن يتحيز إلى حيز الإنصاف وأما على جهة التحقيق فأقول
ما قالته الأم ابنة الصديق والله إني لأعلم أني إن أقررت بما يقوله الناس والله
يعلم أني منه بريئة لا قول ما لم يكن ولئن أنكرت ما تقولون لا تصدقوني فأقول ما
قاله أبو يوسف فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون على أني لا أنكر عيوبي فأنا
معدن العيوب ولا أجحد ذنوبي فأنا جبل الذنوب إلى الله أشكو عجري وبجري وسقطاتي
وغلطاتي نعم كل شيء ولا ما يقوله المتقول المشنع المهول الناطق بفم الشيطان المسول
ومن أمثالهم سبني واصدق ولا تفتر ولا تخلق أفمثلي كان يفعل أمثالها ويحتمل من
الأوزار المضاعفة أحمالها ويهلك نفسه ويحبط أعمالها عياذا بالله من خسران الدين
وإيثار الجاحدين والمعتدين { قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين } وايم الله لو علمت
شعرة في فودي تميل إلى تلك الجهة لقطعتها بل لقطفت ما تحت عمامتي من هامتي وقطفتها
غير أن الرعاع في كل أوان أعداء للملك وعليه أحزاب وأعوان كان أحمق أو أجهل من أبي
ثروان أو أعقل أو أعلم من أشج بني مروان رب متهم بريء ومسربل بسربال وهو منه عري
وفي الأحاديث صحيح وسقيم ومن التراكيب المنطقية منتج وعقيم ولكن ثم ميزان عقل
تعتبر به أوزان النقل وعلى الراجح الاعتماد ثم إساغة الأحماد المتصل المتماد
وللمرجوح الإطراح ثم التزام الصراح بعد النفض من الراح وأكثر ما تسمعه الكذب وطبع
جمهور الخلق إلا من عصمه الله تعالى إليه منجذب ولقد قذفنا من الأباطيل بأحجار
ورمينا بما لا يرمى به الكفار فضلا عن الفجار وجرى من الأمر المنقول على لسان زيد
وعمرو ما
____________________
لديكم منه حفظ الجار وإذا عظم
الإلكاء فعلى تكأة التجلد والاتكاء أكثر المكثرون وجهد في تعثيرنا المتعثرون
ورمونا عن قوس واحدة ونظمونا في سلك الملاحدة أكفرا أيضا كفرا غفرا اللهم غفرا أعد
نظرا يا عبد قيس فليس الأمر على ما خيل لك ليس وهل زدنا على أن طلبنا حقنا ممن رام
محقه ومحقنا فطاردنا في سبيله عداة كانوا لنا غائظين فانفتق علينا فتق لم يمكنا له
رتق { وما كنا للغيب حافظين } وبعد فاسأل أهل الحل والعقد والتمييز والنقد فعند
جهينتهم تلقى الخبر يقينا وقد رضينا بحكمهم يوثمنا فيوبقنا أو يبرئنا فيقينا إيه
يا من اشرأب إلى ملامنا وقدح حتى في إسلامنا رويدا رويدا فقد وجدت قوة وأيدا ويحك
إنما طال لسانك علينا وامتد بالسوء إلينا لأن الزمان لنا مصغر ولك مكبر والأمر
عليك مقبل وعنا مدبر كما قاله كاتب الحجاج المتبر وعلى الجملة فهنا صرنا إلى تسليم
مقالك جدلا وذهبنا فأقررنا بالخطأ في كل ورد وصدر فلله در القائل
إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر وكأنا بمعتسف إذا وصل إلى هنا وعدم إنصافا يعلمه
الهنا قد أزور متجانفا ثم أفتر متهانفا وجعل يتمثل بقولهم إذا عيروا قالوا مقادير
قدرت وبقولهم المرء يعجزه المحال فيعارض الحق بالباطل والحالي بالعاطل وينزع بقول
القائل رب مسمع هائل وليس تحته طائل وقد فرغنا أول أمس من جوابه وتركنا الضغن يلصق
حرارة الجوى به وسنلم الآن بما يوسعه تبكيتا ويقطعه تسكيتا فنقول له ناشدناك الله
تعالى هل اتفق لك قط وعرض خروج أمر ما عن القصد منك فيه والغرض مع اجتهادك أثناءه
في إصدارك وإيرادك في وقوعه على وفق اقتراحك ومرادك أو جميع ما تزاوله بإدارتك لا
يقع إلا مطابقا لإرادتك أو كل ما تقصده وتنويه تحرزه كما تشاء وتحويه فلا بد أن
يقر اضطرارا بأن مطلوبه يشذ عنه مرارا بل كثيرا ما يفلت صيده من أشراكه ويطلبه
فيعجز عن إدراكه فنقول ومسألتنا من هذا القبيل أيها النبيه النبيل ثم نسرد له من
الأحاديث النبوية ما شئنا مما يسايرنا في غرضنا منه ويماشينا كقوله
____________________
صلى الله عليه وسلم ( كل شيء
بقضاء وقدر حتى العجز والكيس ) وقوله أيضا ( لو اجتمع أهل السموات والأرض على أن ينفعوك
بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يقضه الله
عليك لم يقدروا عليه ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم فأخلق به أن يلوذ بأكناف
الأحجام ويزم على نفث فيه كأنما الجم بلجام حينئذ نقول له والحق قد أبان وجهه
وجلاه وقهره بحجته وعلاه ( ليس لك من الأمر شيئا ) ( قل إن الأمر كله لله ) وفي
محاجة آدم وموسى ما يقطع لسان الخصم ويرخص عن أثواب أعراضنا ما عسى أن يعلق بها من
دون الوصم وكيفما كانت الحال وإن ساء الرأي والانتحال ووقعنا في أوجال وأوحال فثل
عرشنا وطويت فرشنا ونكس لوانا ومللت مثوانا فنحن أمثل من سوانا وما في الشر خيار
ويد الألطاف تكسر من صولة الأغيار فحتى الآن لم نفقد من اللطيف تعالى لطفا ولا
عدمنا أدوات أدعية تعطف بلا مهلة على جملتنا المقطوعة جمل النعم الموصولة عطفا
وإلا فتلك بغداد دار السلام ومتبوأ الإسلام المحفوف بفرسان السيوف والأقلام مثابة
الخلافة العباسية ومقر العلماء والفضلاء أولي السير الأويسية والعقول الأياسية قد
نوزلت بالجيوش ونزلت وزوزلت بالزحوف وزلزلت وتحيف جوانبها الحيف ودخلها كفار
التتار عنوة بالسيف ولا تسل إذ ذاك عن كيف أيام تجلت عروس المنية كاشفة عن ساقها
مبدية وجرت الدماء في الشوارع والطرق كالأنهار والأودية وقيد الأئمة والقضاة تحت
ظلال السيوف المنتضاة بالعمائم في رقابهم والأردية وللنجيع سيول تخوضها الخيول
فتخضبها إلى أرساغها وتهم ظماؤها بوردها فتنكل عن تجرعها ومساغها فطاح عاصمها
ومستعصمها وراح ولم يغد ظالمها ومتظلمها وخربت مساجدها وديارها واصطلم بالحسام
أشرارها وخيارها فلم يبق من جمهور أهلها عين تطرف حسبما عرفت أو حسبما تعرف فلاتك
متشككا متوقفا فحديث تلك الواقعة الشنعاء أشهر عند المؤرخين من قفا فأين تلك
الجحافل والآراء المدارة في المحافل حين أراد الله تعالى بإدالة الكفر لم تجد ولا
قلامة ظفر إذن من سلمت له نفسه
____________________
التي هي رأس ماله وعياله
وأطفاله اللذان هما من أعظم آماله وكل أوجل أو قل رياشه وأسباب معاشه الكفيلة
بانتهاضه وانتعاشه ثم وجد مع ذلك سبيلا إلى الخلاص في حال مياسرة ومساهلة دون تعصب
واعتياص بعد ما ظن كل الظن أن لا محيد ولا مناص فما أحقه حينئذ وأولاه أن يحمد
خالقه ورازقه ومولاه على ما أسداه إليه من رفده وخيره ومعافاته مما ابتلي به كثير
من غيره ويرضى بكل إيراد وإصدار تتصرف فيهما الأحكام الإلهية والأقدار فالدهر غدار
والدنيا دار مشحونة بالأكدار والقضاء لا يرد ولا يصد ولا يغالب ولا يطالب
والدائرات تدور ولا بد من نقص وكمال للبدور والعبد مطيع لا مطاع وليس يطاع إلا
المستطاع وللخالق القدير جلت قدرته في خليقته علم غيب للأذهان عن مداه انقطاع
ومالي والتكلف لما لا أحتاج إليه من هذا القول بين يدي ذي الجلالة والمجادة والفضل
والطول فله من العقل الأرجح ومن الخلق الأسجح ما لا تلتاط معه تهمتي بصفره ولا
تنفق عنده وشاية الواشي لا عد من نفره ولا فاز قدحه بظفره والمولى يعلم أن الدنيا
تلعب باللاعب وتجر براحتها إلى المتاعب وقديما للأكياس من الناس خدعت وانحرفت عن
وصالهم أعقل ما كانوا وقطعت وفعلت بهم ما فعلت بيسار الكواعب الذي جبت وجدعت ولئن
رهصت وهصرت فقد نبهت وبصرت ولئن قرعت ومعضت ولقد أرشدت ووعظت ويا ويلنا من تنكرها
لنا بمرة ورميها لنا في غمرة أي غمرة أيام قلبت لنا ظهر المجن وغيم أفقها المصمي
وأدجن فسرعان ما عاينا حبالها منبته ورأينا منها ما لم نحتسب كما تقوم الساعة بغته
فمن استعاذ من شيء فليستعذ مما صرنا إليه من الحور بعد الكور والانحطاط من النجد
إلى الغور
( فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ** إذا نحن فيهم سوقة نتنصف ) ( فتبا لدينا لا
يدوم نعيمها ** تقلب تارات بنا وتصرف )
وأبيها لقد أرهقتنا إرهاقا وجرعتنا من صاب الأوصاب كأسا دهاقا ولم نفزع إلى غير
بابكم المنيع الجناب المنفتح حين سدت الأبواب ولم نلبس
____________________
غير لباس نعمائكم وحين خلعنا
ما ألبسنا الملك من الأثواب وإلى أمه يلجأ الطفل لجأ اللهفان وعند الشدائد تمتاز السيوف
من الأجفان ووجه الله تعالى يبقى وكل من عليها فان وإلى هنا ينتهي القائل ثم يقول
حسبي هذا وكفان ولا ريب في اشتمال العلم الكريم على ما تعارفته الملوك بينها في
الحديث والقديم من الأخذ باليد عند زلة القدم وقرع الإنسان وعض البنان من الندم
دينا تدينته مع اختلاف الأديان وعادة أطردت على تعاقب الأزمان والأحيان ولقد عرض
علينا صاحب قشتالة مواضع معتبرة خير فيها وأعطى من أمانة المؤكد فيه خطه بأيمانه
ما يقنع النفوس ويكفيها فلم نر ونحن من سلالة الأحمر مجاورة الصفر ولا سوغ لنا
الإيمان الإقامة بين ظهراني الكفر ما وجدنا عن ذلك مندوحة ولو شاسعة وأمنا المطالب
المشاغب حمة شر لنا لا سعة وادكرنا أي ادكار قول الله تعالى المنكر لذلك غاية
الإنكار { ألم تكن أرض الله واسعة } وقول الرسول صلى الله عليه وسلم المبالغ في
ذلك بأبلغ الكلام ( أنا بريء من مؤمن مع كافر تتراءى ناراهما ) وقول الشاعر الحاث
على حث المطية المتثاقلة عن السير في طريق منجاتها البطية
( وما أنا والتلذذ نحو نجد ** وقد غصت تهامة بالرجال )
ووصلت أيضا من الشرق إلينا كتب كريمة المقاصد لدينا تستدعي الانحياز إلى تلك
الجنبات وتتضمن مالا مزيد عليه من الرغبات فلم نختر إلا دارنا التي كانت دار
آبائنا من قبلنا ولم نرتض الانضواء إلا لمن بحبله وصل حبلنا وبريش نبله ريش نبلنا
إدلالا على محل إخاء متوارث لا عن كلالة وامتثالا لوصاة أجداد لا نظارهم وأقدارهم
أصالة وجلالة إذ قد روينا عن سلف من أسلافنا في الإيصاء لمن يخلف بعدهم من أخلافنا
أن لا يبتغوا إذا دهمهم أمر بالحضرة المرينية بدلا ولا يجدوا عن طريقها في التوجه
إلى فريقها معدلا فاخترقنا إلى الرياض الأريضة الفجاج وركبنا إلى البحر الفرات ظهر
البحر الأجاج فلا غرو أن نرد منه على ما يقر العين ويشفي النفس الشاكية من ألم
البين ومن توصل هذا التوصل وتوسل بمثل
____________________
ذلك التوسل تطارحا على سدة
أمير المؤمنين المحارب للمحاربين والمؤمن للمستأمنين فهو الخليق الحقيق بأن يسوغ
أصفى مشاربه ويبلغ أوفى مآربه على توالي الأيام والشهور والسنين ويخلص من الثبور
إلى الحبور ويخرج من الظلمات إلى النور خروج الجنين ولعل شعاع سعادته يفيض علينا
ونفحة قبول إقباله تسري إلينا فتخامرنا أريحية تحملنا على أن نبادر لإنشاد قول
الشريف الرضي في الخليفة القادر
( عطفا أمير المؤمنين فإننا ** في دوحة العلياء لا نتفرق )
( ما بيننا يوم الفخار تفاوت ** أبدا كلانا في المعالي معرق )
( إلا الخلافة ميزتك فإنني ** أنا عاطل منها وأنت مطوق )
لا بل الأحرى بنا والأحجى والأنجح لسعينا والأرجى أن نعدل عن هذا المنهاج ويقوم
وافدنا بين يدي علاه مقام الخاضع المتواضع الضعيف المحتاج وينشد ما قال في
الشيرازي ابن حجاج
( الناس يفدونك اضطرارا ** منهم وأفديك باختياري )
( وبعضهم في جوار بعض ** وأنت حتى أموت جاري )
( فعش لخبزي وعش لمائي ** وعش لداري وأهل داري )
ونستوهب من الوهاب تعالى جلت أسماؤه وتعاظمت نعماؤه رحمة تجعل في يد الهداية
أعنتنا وعصمة تكون في مواقف المخاوف جنتنا وقبولا يعطف علينا نوافر القلوب وصنعا
يسني لنا كل مرغوب ومطلوب ونسأله وطالما بلغ السائل سؤلا ومأمولا متابا صادقا على
موضوع الندم محمولا ثم عزاء حسنا وصبرا جميلا عن أرض أورثها من شاء من عباده معقبا
لهم ومديلا وسادلا عليهم من ستور الإملاء الطويلة سدولا { سنة الله التي قد خلت من
قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } فليطر طائر الوسواس المرفرف مطيرا { كان ذلك في
الكتاب مسطورا } لم نستطع عن مورده صدورا { وكان أمر الله قدرا مقدورا } إلا وإن
لله سبحانه في مقامكم العالي الذي أيده وأعانه سرا من النصر يترجم عنه لسان من
النصل وترجع فروع البشائر الصادقة بالفتوحات المتلاحقة من قاعدته
____________________
المتأصلة إلى أصل فبمثله يجب
اللياد والعياذ ولشبهه يحق الالتجاء والارتجاء ولأمر ما آثرناه واخترناه بعد أن
استرشدنا الله سبحانه واستخرناه ومنه جل جلاله نرغب أن يخير لنا ولجميع المسلمين
ويأوب بنا من حمايته ووقايته إلى معقل منيع وجناب رفيع آمين آمين آمين ونرجو أن
يكون ربنا الذي هو في جميع الأمور حسبنا قد خار لنا حيث أرشدنا وهدانا وساقنا
توفيقه وحدانا إلى الاستجارة بملك حفي كريم وفي أعز جارا من أبي داود وأحمى أنفا
من الحارث بن عباد ويشهد بذلك الداني والقاصي والحاضر والباد إن أغاث ملهوفا فما
الأسود بن قنان يذكر وإن أنعش حشاشة هالك فما كعب بن مامة على فعله وحده يشكر
جليسه كجليس القعقاع بن شور ومذاكره كمذاكر سفيان المنتسب من الرباب إلى ثور إلى
التحلي بأمهات الفضائل التي أضدادها أمهات الرذائل وهي الثلاث الحكمة والعدل
والعفة التي تشملها الثلاثة الأقوال والأفعال والشمائل وينشأ عنها ما شئت من عزم
وحزم وعلم وحلم وتيقظ وتحفظ واتقاء وارتقاء وصول وطول وسماح نائل فبنور حلاه
المشرق يفتخر المغرب على المشرق وبمجده السامي خطره في الأخطار وبيته الذي ذكره في
النباهة والنجابة قد طار يباهي جميع ملوك الجهات والأقطار وكيف لا وهو الرفيع
المنتمي والنجار الراضع من الطهارة صفو البان الناشئ من السراوة وسط أحجار في ضئضئ
المجد وبحبوح الكرم وسرواة أسرة المملكة التي أكنافها حرم وذؤابة الشرف التي
مجادتها لم ترم من معشر أي معشر بخلوا أن وهبوا ما دون أعمارهم وجبنوا إن لم يحموا
سوى دمارهم بنو مرين وما أدراك ما بنو مرين سم العداة وآفة الجزر النازلون بكل
معترك والطيبون معاقد الأزر لهم عن الهفوات انتفاء وعندهم من السير النبوية اكتفاء
انتسبوا إلى بر بن قيس فخرجوا في البر عن القيس ما لهم القديم المعروف قد نفد في
سبيل المعروف وحديثهم الذي نقلته رجال الزحوف من طريق القنا والسيوف على الحسن من
المقاصد موقوف تحمد من صغيرهم وكبيرهم ذابلهم ولدنهم فلله آباء أنجبوهم وأمهات
ولدنهم شم
____________________
الأنوف من الطراز الأول إليهم
في الشدائد والاستناد وعليهم في الأزمات المعول ولهم في الوفاء والصفاء والاحتفاء
والعناية والحماية والرعاية الخطو الواسع والباع الأطول كأنما عناهم بقوله جرول
( أولئك قوم إن بنو أحسنوا البنا ** وإن عاهدوا وفوا وإن عقدوا شدوا )
( وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها ** وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا )
( وتعذلني أبناء سعد عليهم ** وما قلت إلا بالذي علمت سعد )
وبقول الوثيق مبناه البليغ معناه
( قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ** شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا )
يزيحون عن النزيل كل نازح قاصم وليس له منهم عائب ولا واصم فهو أحق بما قاله في
منقر قيس بن عاصم
( لا يفطنون لعيب جارهم ** وهم لحفظ جوارهم فطن )
حلاهم هذه الغريزة التي ليست باستكراه ولا جعل وأمير المؤمنين دام نصره قسيمهم
فيها حذو النعل بالنعل ثم هو عليهم وعلى من سواهم بالأوصاف الملوكية مستعل ارفض
مزنهم منه عن غيث ملث يمحو آثار اللزبة وانشق عيلهم منه عن ليث ضار منقبض على
براثنه للوثبة فقل لسكان الفلا لا تغرنكم أعدادكم وأمدادكم فلا يبالي السرحان
المواشي سواء مشي إليها النقرا أو الجفلى بل يصدمهم صدمة تحطم منهم كل عرنين ثم
يبتلع بعد أشلاءهم المعفرة ابتلاع التنين فهو هو كما عرفوه وعهدوه وألفوه وأخو
المنايا وابن جلا وطلاع الثنايا مجتمع أشده قد احتنكت سنه وبان رشده جاد مجد محتزم
بحزام الحزم مشمر عن ساعد الجد
( لا يشرب الماء إلا من قليب دم ** ولا يبيت له جار على وجل )
( أسدى القلب آدمي الروا لابس ** جلد النمر يزني العناد والنوى )
( وليس بشاري عليه دمامة ** إذا ما سعى يسعى بقوس وأسهم )
( ولكنه يسعى عليه مفاضة ** دلاص كأعيان الجراد المنظم )
فالنجاء النجاء سامعين له طائعين والوجل الوجل لاحقين به خاضعين
____________________
قبل أن تساقوا إليه مقرنين في
الأصفاد ويعيي الفداء بنفائس النفوس والأموال على الفاد حينئذ يعض ذو الجهل
والفدامة على يديه حسرة وندامة إذا رأى أبطال الجنود تحت خوافق الرايات والبنود قد
لفحتهم نار ليست بذات خمود وأخذتهم صاعقة مثل صاعقة الذين من قبلهم عاد وثمود
زعقات تؤز الكتائب أزا وهمزا محققا للخيل بعد المد المشبع للأعنة همزا وسلا للهندية
سلا وهزا للخطية هزا حتى يقول النسر للذئب هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ثق
خليفة الله بذاك في كل من رام أذى رعيتك أو أذاك فتلك عادة الله سبحانه في ذوي
الشقاق والنفاق الذين يشقون عصا المسلمين ويقطعون طريق الرفاق وينصبون حبائل البغي
والفساد في جميع النواحي والآفاق فلن يجعلهم الله عز وجل من الآمنين أنى وكيف وقد
أفسدوا وخانوا وهو سبحانه { لا يصلح عمل المفسدين } و { لا يهدي كيد الخائنين }
وها نحن قد وجهنا إلى كعبة مجدكم وجوه صلوات التقديس والتعظيم بعد ما زينا معاظفها
باستعطافكم بدر ثناء أبهى من در العقد النظيم منتظمين في سلك أوليائكم متشرفين
بخدمة عليائكم ولا فقد عزة ولا عدمها من قصد مثابتكم العزيزة وخدمها وأن المترامي
على سنائكم لجدير بحرمتكم واعتنائكم وكل ملهوف تبوأ من كنفكم حصنا حصينا عاش بقية
عمره محروسا من الضيم مصونا وقد قيل في بعض الكلام من قعدت به نكاية الأيام أقامته
إغاثة الكرام ومولانا أيده الله تعالى ولي ما يزفه إلينا من مكرمة بكر ويصنعه لنا
من صنيع حافل يخلد في صحائف حسن الذكر ويروي معنعن حديث حمده وشكره طرس عن قلم عن
بنان عن لسان عن فكر وغيره من ينام عن ذلك فيوقظ ويسترسل مع الغفلة حتى يذكر ويوعظ
وما عهد منذ وجد إلا سريعا إلى داعي الندى والتكرم بريئا من الضجر بالمطالبة
والتبرم حافظا للجار الذي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بحفظه مستفرغا وسعه في
رعيه المستمر ولحظه آخذا من حسن الثناء في جميع الأوقات والآناء بحظه
( فهو من دوحة السنا فرع عز ** ليس يحتاج مجتنيه لهز )
____________________
( كفه في الأمحال أغزر ويل ** وذراه في الجوف أمنع حرز )
( حلمه يسفر اسمه لك عنه ** فتفهم يا مدعي الفهم لغزي )
( لا تسله شيئا ولا تستلنه ** نظرة منه فيك تغني وتجزي )
( فنداه هو الفرات الذي قد ** عام فيه الأنام عوم الأوز )
( وحماه هو المنيع الذي ترجع ** عنه الخطوب مرجع عجز )
( فدعوا ذهنه يزاول قولي ** فهو أدرى بما تضمن رمزي )
( دام يحيى بكل صنع ومن ** ويعافى من كل بوس ورجز )
وكأنا به قد عمل على شاكلة جلاله من مد ظلاله وتمهيد خلاله وتلقى ورودنا بتهلله
واستهلاله وتأنيسنا بجميل قبوله وإقباله وإيرادنا على حوض كوثره المترع بزلاله
والله سبحانه يسعد مقامه العلي ويسعدنا به في حله وارتحاله ومآله وحاله ويؤيد جنده
المظفر ويؤيدنا بتأييده على نزال عدوه واستنزاله وهز الذوابل لإطفاء ذباله وهو
سبحانه وتعالى المسؤول أن يريه قرة العين في نفسه وأهله وخدامه وأمواله وأنظاره
وأعماله وكافة شؤونه وأحواله وأحق ما نصل بالسلام وأولى على المقام الجليل مقام
الخليفة المولى و صلى الله عليه وسلم صلاة وسلاما دائمين أبدا موصولين بدوام الأبد
واتصاله ضامنين لمجددهما ومرددهما صلاح فساد أعماله وبلوغ غاية آماله وذلك بمشيئة
الله تعالى وإذنه وفضله وأفضاله انتهت الرسالة وما كادت
ووصل السلطان ابن الأحمر المخلوع بعد نزوله بمليلية إلى مدينة فاس بأهله وأولاده
معتذرا عما أسلفه متلهفا على ما خلفه وبنى بفاس بعض قصور على طريق بنيان الأندلس
وتوفي بها سنة أربعين وتسعمائة ودفن بإزاء المصلى خارج باب الشريعة وخلف ذرية من
بعده قال في نشر المثاني انقرضوا ولم يبق منهم أحد وزعم منويل أنه هلك في وقعة أبي
عقبة في حرب الوطاسيين مع السعديين قال ولم يحسن هذا الرجل أن يدفع عن ملكه فدفع
عن ملك غيره
____________________
استيلاء البرتغال على ساحل
البريجه وبناؤهم مدينة الجديدة صانها الله سبحانه وتعالى بمنه
قال مؤلفه عفا الله عنه قد وقفت لبعض البرتغاليين واسمه لويز مارية على تأليف في
أخبار الجديدة من لدن بنوها إلى أن انتزعها المسلمون منهم فاقتطفت منه ما أثبته في
هذه الترجمة قال هذا المؤلف لما كانت سنة ألف وخمسمائة واثنتين مسيحية قلت
ويوافقها من تاريخ الهجرة سنة سبع وتسعمائة تقريبا بعث سلطان البرتغال واسمه منويل
من دار ملكه أشبونة عمارة في البحر للاستيلاء على بعض ثغور المغرب فألجأهم هيجان
البحر وموجه إلى ساحل البريجة فيما بين آزمور وتيط وكانت البريجة على ما يفهم من
كلامه بناء متخذا هنالك للحراسة ونحوها كان يسمى برج الشيخ ولا زال مسمى بهذا
الاسم إلى الآن فأرسى البرتغاليون على الساحل المذكور ونزلت طائفة منهم إلى البر
فتطوفوا بالبريجة وما حولها وأعجبهم المكان فعزموا على المقام به واتفق رأيهم أن
يتركوا جماعة هنالك يحفظون المحل ويرجع باقيهم إلى ملكهم يستأذنوه فيما عزموا عليه
فتركوا اثني عشر رجلا بالبريجة بعد أن حصنوها وشحنوها بما يحتاجون إليه من عدة
وقوت ونحوهما ورجع الباقون إلى الملك فأخبروه بشأنهم فأذن لهم وبعث معهم جماعة من
البنائين والعملة ليبنوا لهم ما يتحصنون به فقدموا على إخوانهم وشرعوا في إدارة
السور على قطعة من الأرض فنذر بهم أهل تلك البلاد من المسلمين وتسابقوا إليهم على
الصعب والذلول ففر النصارى إلى البريجة وتحصنوا بها وأفسد المسلمون كل ما كانوا
عملوه في تلك الأيام وأحجروهم بحصنهم ووضعوا عليهم الرصد إلى أن فتر عزمهم وأيسوا
من نجاح سعيهم فعاد جلهم أو كلهم إلى أشبونة وأعادوا الكلام على ملكهم منويل في
شأن البريجة ووصفوا له حسن البقعة وصحة هوائها ومنزلتها من البحر ومن قبائل أهل
المغرب من أهل تامسنا ودكالة وغيرهم وأنها عسى أن تكون سلما للاستيلاء
____________________
على غيرها من بلاد المغرب لا
سيما ودولة المسلمين به يومئذ قد تلاشت وملكهم قد ضعف فوقر ذلك في نفس الملك
واستأنف العزم وبعث معهم حصة من العسكر تحصل بها الكفاية وتتأتى بها المدافعة
والممانعة مع جماعة وافرة من البنائين والمهندسين وحملهم ما يحتاجون إليه من آلة
وغيرها فانتهوا إلى الموضع المذكور بعد سبع سنين من مقدمهم الأول وتحينوا غفلة أهل
البلاد وشرعوا في بناء حصن مربع على كل ربع منه برج وثيق ودأبوا في العمل ليلا
ونهارا فلم تمض مدة يسيرة حتى فرغوا منه وامتنعوا على المسلمين به وكان إنشاؤهم
لهذا الحصن على البريجة القديمة بأن جعلوها أحد أرباعه وأضافوا إليها ثلاثة أرباع
أخر وأداروا السور على الجميع واتخذوا في داخل هذا الحصن ماجلا عظيما لخزن الماء
وهو النطفية في لسان الجيل بنوه مربعا بتربيع الحصن مساحة كل ربع منه مائة وثلاثون
شبرا وجوانبه وقبوه من حجر النصف العجيب النحت المحكم الوضع والالتئام محمولا ذلك
القبو على ستة أقواس في كل ربع قال هذا المؤلف وامتلاء نحو بلكاظة من هذا الماجن
يسع عشرين بوطة من الماء ثم شيدوا على أحد أرباع هذا الحصن طريا عظيما مرتفعا جدا
ليس صادق التربيع ولا الاستدارة غير مهندس الشكل ثم بنوا في أعلاه على أحد جوانبه
بناء آخر لطيفا مستديرا صاعدا في الجويرقي إليه على مدارج لطيفة وجعلوا في أعلاه
صاريا خارجا من جوفه وناقوسا للحراسة يشرف الحارس منه على نحو خمسة وعشرين ميلا من
سائر جهاته وجميع هذه البناءات التي ذكرها المؤلف من الحصن وما معه لا زالت قائمة
العين والأثر إلى الآن إلا الطري فإنه قد اتخذ في هذه الأيام التي هي سنة سبع
وتسعين ومائتين وألف منارا للمسجد الجامع وذلك أن عامل الجديدة في هذا العصر وهو
الرئيس الفاضل أبو عبد الله محمد بن إدريس الجراري حفظه الله استأذن الخليفة وهو
السلطان الأعظم المولى الشريف أبو علي الحسن بن محمد العلوي نصره
____________________
الله في جعله منارا لكون
المنار القديم قصيرا لا يسمع الناس الأذان فأذن أعزه الله في ذلك وهذا العامل
اليوم جاد في إصلاحه والزيادة فيه وقد أشرف على التمام وكذلك استأذن هذا العامل
حضرة السلطان المذكور في إدارة جدار من داخل سور المدينة يكون سترة على منازل
أهلها وبيوتهم لأن السور المذكور كان مرتفعا على البلد بحيث يكون الصاعد عليه
متكشفا على البيوت واستأذنه في إصلاح القبة المشرفة على البحر المعروفة بقبة
الخياطين وكانت قد تلاشت وباتخاذ سجن متسع محكم عن يمين الداخل من باب المدينة
المذكورة لأنه لم يكن بها سجن معتبر فأجابه الخليفة المذكور إلى ذلك كله أدام الله
علاه وقد تم جل ذلك وعادت القبة إلى أحسن حالاتها التي كانت عليها أيام البرتغال
والله لا يضيع أجر من أحسن عملا
ولنرجع إلى موضوعنا الذي كنا فيه فنقول ثم شرع نصارى البرتغال بعد الفراغ من الحصن
المذكور في إدارة سور المدينة على أوثق وجه وأحكمه وذلك أنهم عمدوا إلى بقعة مربعة
من الأرض مساحة كل ربع منها ثلاثمائة وخمس وسبعون خطوة وجعلوا مركزها الحصن
المذكور ثم أداروا بها سورين عاديين ثخن الخارج منهما نحو خمسة عشر شبرا والداخل
على نحو الثلثين منه وبينهما فضاء مردوم بالتراب والحجارة الصغيرة فصار السوران
بذلك سورا واحد سعته خمسون شبرا وهذا في غير الربع الموالي للبحر أما هو فليس فيه
ردم وإنما هو سور واحد مصمت أضيق مما عداه يسيرا وارتفاع هذه الأسوار من داخل
البلد نحو ستين شبرا ومن خارجه نحو السبعين ثم أداروا خارج السور خندقا فسيحا
وجعلوا عمقه أربعة عشر شبرا بحيث بلغوا به الماء وإذا فاض البحر ملأ ما بين جوانبه
واتخذوا للمدينة ثلاثة أبواب أحدها للبحر وهو باب المرسى وقد سد بالبناء في هذه
السنين واثنان للبر وجعلوا أمامهما قنطرتين بالعمل الهندسي بحيث ترفعان وتوضعان
وقت الحاجة إلى ذلك فصارت المدينة بهذا كله في غاية المناعة
____________________
وكان بنو وطاس في هذه المدة أشغل من ذات النحيين مع برتقال سبتة وطنجة وسائر بلاد
الهبط فلذا تأتي لهؤلاء النصارى أن يفعلوا ما فعلوه في هذه المدة اليسيرة وجعلوا
داخل المدينة خمس حارات وسموا كل حارة باسم كبير من قدمائهم على عادتهم في ذلك
واتخذوا بها أربع كنائس واتخذوا المخازن والأهراء للاختزان وسائر المرافق ومن
جملتها هرى كان يسع ستمائة فنيكة من الحب وأوطنوها بأهلهم وعيالهم وكان فيها جماعة
من أشرافهم وذوي بيوتاتهم من أهل أشبونه وغيرها وكانوا يعدون فيها أربعة آلاف نفس
ما بين المقاتلة والعيال والذرية وكانوا يأملون الاستيلاء منها على مراكش فخيب
الله رجاءهم ثم ذكر هذا المؤلف ما كان يقع بين المسلمين ونصارى الجديدة من الحروب
والغارات مما لعلنا نشير إلى بعضه في محله إن شاء الله استيلاء البرتغال على سواحل
السوس وبناؤهم حصن فونتي قرب أكادير وما قيل في ذلك
ذكر بعض المؤرخين من الفرنج أن استيلاء البرتغال على آكادير كان في مدة ملكهم
منويل المذكور آنفا وإن ذلك كان على حين غفلة من أهل تلك البلاد
قال منويل لما علم طاغية البرتغال منويل أن مرسى آكادير جيدة لمناعتها وكثرة
تجارتها بسبب مجاورتها لقبائل السوس أراد الاستيلاء عليها وكان يظن أن ذلك لا
يتأتى له لحصانتها وكثرة القبائل المجاورين لها ثم خاطر وبعث إليها جيشا فاستولوا
عليها على حين غفلة من أهلها وحصنوها وبنوا بها دورا وبرجا جيدا وأخذوا في التجارة
بها مع أهل السوس وكثرت أرباحهم ثم لما ضعفت شوكتهم خرجوا عنها وعن آسفي وآزمور
قلت مراده بآكادير حصن فونتي القريب منه وإلا فآكادير إنما بني بعد هذا التاريخ
____________________
بكثير كما سيأتي ثم مقتضى ما
ذكره أن يكون زمان استيلائهم عليه موافقا أو قريبا لزمان استيلائهم على البريجة
ومقتضى ما نقله في النزهة عن ابن القاضي أن يكون استيلاؤهم عليه في حدود سنة خمس
وسبعين وثمانمائة فإنه لما وصف حال السلطان محمد الشيخ السعدي الآتي ذكره إن شاء
الله قال وكان له بخت عظيم في الجهاد فتح حصن النصارى بسوس بعد أن أقاموا به
اثنتين وسبعين سنة اه وكان فتحه إياه في حدود سبع وأربعين وتسعمائة والظاهر أنهم
استولوا على بعض حصون السوس في التاريخ الأول وعلى بعضها في الثاني والله أعلم وفاة
السلطان محمد الشيخ الوطاسي رحمه الله
ذكر ابن القاضي في الجذوة أن وفاة السلطان المذكور كانت سنة عشر وتسعمائة قال ومن
حملة وزرائه أخوه الناصر بن أبي زكرياء والله أعلم وولي الأمر من بعده ابنه محمد
البرتغالي على ما نذكره الخبر عن دولة السلطان محمد بن محمد الشيخ الوطاسي المعروف
بالبرتغالي رحمه الله
لما توفي السلطان محمد الشيخ بويع ابنه محمد البرتغالي في التاريخ المتقدم وكان
نصارى سبتة وطنجة وآصيلا قد استحوذوا على بلاد الهبط وضايقوا المسلمين بها حتى
ألجأوهم إلى قصر كتامة فكان هو الثغر يومئذ بين بلاد المسلمين وبلاد النصارى كما
مر وكان السلطان محمد هذا قد عني بجهادهم وترديد الغزو إليهم والإجلاب عليهم حتى
شغل بذلك عن البلاد المراكشية وسواحلها فكان ذلك سببا لظهور الدولة السعدية بها
سنة خمس عشرة وتسعمائة على ما نذكره إن شاء الله
____________________
استيلاء البرتغال على ثغر آسفي
حرسه الله
قال منويل كان البرتغال قد تشوفوا للاستيلاء على آسفي وكان أهلها فيهم شجاعة أكثر
من غيرهم من أهل الثغور فزحفوا إليها وجرى بينهم وبين أهلها قتال شديد هلك فيه عدد
كبير من البرتغال وعظم عليهم أن تمتنع منهم بلدة صغيرة ليس لها حامية سوى أهلها ثم
طاولوها بالحصار حتى قل القوت عند أهل آسفي وأشرفوا على الهلاك فحينئذ شارطوا
البرتغال وأسلموها إليهم على الأمان فاستولوا عليها وحصنوها غاية لتوقعهم كرة
المسلمين عليهم فكان كذلك فإنهم زحفوا إليهم بعد ثلاث سنين من أخذها ووقع بينهم
وبين البرتغال حرب شديدة كانت صفوف المسلمين تترادف فيها كأمواج البحر وقتل قواد
عسكر البرتغال وكبارهم ثم قدمت عليهم شكوادره من مادرة بالعسكر والزاد فقويت نفوس
البرتغال وارتحل المسلمون عنها بعد أن أشرفوا على الفتح وتبعهم البرتغال لينتهزوا
فيهم الفرصة فكر المسلمون عليهم واستلبوهم وهذا أول حصار كان على آسفي
ثم بعد سنين قلائل زحف المسلمون إليها أيضا ومعهم عدد من المدافع وقاتلوا قتالا
صعبا وزحفوا إلى السور فهدموا منه ثلمة كبير واشتد القتال عليها بما خرج عن العادة
ثم رحل المسلمون من غير فتح وأعرضوا عنها مدة لم يحدثوا أنفسهم بالقتال وعمرت آسفي
بالنصارى وانتقل إليها التجار وبنوا بها الدور وكانوا يسقون منها الحب ويحملونه في
السفن إلى بلادهم ولعل ذلك لهدنة كانت لهم مع المسلمين
ثم عادت للمسلمين بعد نحو ثلاث وعشرين سنة وقال الشيخ أبو عبد الله محمد العربي
الفاسي في مرآة المحاسن ما نصه قرأت بخط شيخنا أبي عبد الله القصار أن صاحب آسفي
أخرج الشيخ أبا عبد الله محمد بن سليمان الجزولي منها فدعا عليهم فسئل منه العفو
فقال أربعين سنة فأخذها النصارى بعدها اه وهذا يقتضي أن استيلاءهم عليها كان في
حدود
____________________
عشر وتسعمائة لأن وفاة الشيخ
الجزولي رحمه الله كانت في سنة سبعين وثمانمائة كما مر وعند الفرنج ما يقتضي أن
استيلاءهم عليها كان بعد ذلك بسنتين أو ثلاث والله أعلم زحف السلطان أبي عبد الله
البرتغالي إلى آصيلا
قال منويل لما أفضى الأمر إلى السلطان محمد بن محمد الشيخ الوطاسي أراد أن يأخذ
بثأره من البرتغال الذين أسروه لسبع سنين فزحف إلى آصيلا في حدود أربع عشرة
وتسعمائة وحاصرها وطال قتاله عليها ثم اقتحمها المسلمون عليهم اقتحاما واقتتلوا في
وسط الأزقة والأسواق يومين ثم جاء المدد إلى البرتغال من طنجة وجبل طارق فقويت
نفوسهم وخرج المسلمون عنهم لكن ما خرجوا حتى هدموها وأحرقوها ولم يتركوا لهم بها
إلا الخربات ثم جد البرتغال في إصلاحها وأقاموا بها برهة من الدهر إلى أن رجعت
للمسلمين استيلاء البرتغال على ثغر آزمور حرسه الله
قال منويل بعث طاغية البرتغال أربع عشرة وتسعمائة إلى ثغر آزمور شكوادره فيها
ألفان من العسكر وأربعمائة خيالة فدافعهم زيار الوطاسي ابن عم السلطان ونشبت مراكب
البرتغال في الساحل وتكسر جلها وعاث فيها المسلمون ورجع الباقي مفلولا ثم بعد أربع
سنين بعث إليها الطاغية منويل شكوادره فيها عشرون ألفا من العسكر وألفان وسبعمائة
خيالة فانتهوا إلى آزمور وحاصروها بحرا وزحفوا إليها من الجديدة برا ووقع حرب
شديدة بينهم وبين أهل آزمور وأهل البادية ثم انهزم المسلمون وخرجوا من باب تركه
لهم البرتغال قصدا قال لأنه يقال في المثل الفار منك في الحرب
____________________
اجعل له قنطرة من فضة يعبر
عليها
وقال في النزهة كان نزول النصارى بآزمور سنة أربع عشرة وتسعمائة قال وفي هذه السنة
بنى النصارى حجر باديس وفي أواخر المحرم منها أخذ النصارى يعني الإصبنيول مدينة
وهران ونكبوا أهلها فما منهم إلا أسير أو قتيل إلى أن أعادها الله للإسلام على يد
الأتراك في حدود العشرين ومائة وألف اه
قلت أهل آزمور يزعمون أن استيلاء البرتغال على مدينتهم كان متكررا وسيأتي ما يفهم
منه ذلك والله أعلم
ومن أخبار السلطان أبي عبد الله ما وقفت عليه في تاريخ البرتغاليين من أن السلطان
المذكور كتب لطاغيتهم منويل يطلب منه أن يتقدم بالوصاة لأصحاب قراصينه البحرية أن
لا يتعرضوا لمركبين له كان قد عزم على بعثهما إلى الجزائر ثم منها إلى تونس وكان
الطاغية لم يجبه أو أبطأ بالجواب فكرر إليه الكتاب ثانيا في القضية المذكورة وسرد
هذا المؤرخ نص الكتابين معا مترجمين بلغته وذكر أن تاريخ الأول منهما الثالث
والعشرون من جمادى سنة عشرين وتسعمائة وتاريخ الثاني الثامن والعشرون من ذي القعدة
من السنة اه استيلاء البرتغال على ثغر المعمورة حرسه الله
قال في نشر المثاني إن الذي اختط حصن المعمورة هو المهدي الشيعي على يد بعض عماله
وزعم بعض الفرنج أن المعمورة من بناء يعقوب المنصور الموحدي قال ولما كان زمن
منويل البرتغالي بلغه أن مينا المعمورة جيدة وبلادها نفاعة فبعث إليها طائفة من
جنده فوصلوا إلى ساحلها ونزلوا في البر المقابل لها وبنوا هنالك برجا لحصارها ثم
أردفهم ملكهم المذكور بعمارة تشتمل على مائتي مركب مشحونة بثمانية آلاف
____________________
من المقاتلة قال وكان خروج هذه
العمارة من مدينة أشبونة في اليوم الثالث عشر من يونيه العجمي سنة ألف وخمسمائة
وخمس عشرة مسيحية قلت يوافقها من تاريخ الهجرة تقريبا سنة إحدى وعشرين وتسعمائة
فوافت مينا المعمورة في الثالث والعشرين من يوينه المذكور وحاصروها وألحوا عليها
بالقتال أياما وبلغ الخبر بذلك إلى السلطان أبي عبد الله البرتغالي فبعث أخاه
الناصر صريخا في جيش كثيف فوصل سادس أغشت من السنة المذكورة وقاتل البرتغال قتالا
شديدا وهزمهم هزيمة قبيحة ثم كانت لهم الكرة على المسلمين فهزموهم واستولوا على
المعمورة وثبت قدمهم بها وحصنوها بالسور الموجود بها الآن واستمروا بها نحو خمس
سنين ثم استرجعها المسلمون منهم في دولة السلطان المذكور والله تعالى أعلم وفي
السنة التي استولوا على المعمورة رجعوا إلى موضع مدينة آنفي فشرعوا في بنائها ومن
يومئذ سميت الدار البيضاء وبقوا بها مدة طويلة إلى زمن السلطان المولى عبد الله بن
إسماعيل على ما زعم منويل أخبار السلطان أبي عبد الله البرتغالي مع الشيخ أبي محمد
الغزواني رضي الله عنه
أصل الشيخ أبي محمد عبد الله الغزواني دفين حومة القصور من مراكش من غزوان قبيلة
من عرب تامسنا وكان في ابتداء أمره يقرأ العلم بمدرسة الوادي من عدوة الأندلس بفاس
فحصلت له إرادة فسافر إلى مراكش ولازم الشيخ التباع وتخرج به ثم انتقل إلى بلاد
الهبط فنزل بها على قبيلة يقال لهم بنو فزنكار واجتمع عليه الناس واشتهر أمره وعظم
صيته فبلغ ذلك السلطان أبا عبد الله وكان يومئذ ببلاد الهبط قد خرج إليها بقصد
الغارة على نصارى آصيلا وكان معه في هذه الحركة الشيخ أبو عبد الله محمد بن غازي
الإمام المشهور فتوهم السلطان المذكور من أمر الشيخ الغزواني وخشي
____________________
على الدولة عاقبة أمره وأغراه
به مع ذلك الفقيه ابن عبد الكبير البادسي السفياني الأصل وكان هذا الفقيه يصحب الولاة
والعمال ويخرج في بعوثهم قاضيا فكثرت سعايته بالشيخ حتى وقر ذلك في نفس السلطان
فبعث إ ليه فحضر وأمر بالقبض عليه بالموضع المعروف بتاجناوت وجعله في سلسلة وبعث
به إلى فاس وتقدم في شأنه إلى ابن شقرون صاحب شرطته بقصبة فاس القديم وكان الشيخ
ابن غازي قد مرض في هذه الغزوة وأمر السلطان بحمله إلى منزله من فاس فلما وصل إلى
قرب عقبة المساجين اشتد به الحال وأمر أصحابه أن يريحوا به هنالك فبينما هو كذلك
إذ مر به الشيخ الغزواني في سلسلته فسأل الموكلين به أن يعوجوا به على الشيخ ابن
غازي كي يعوده ويؤدي حقه فلما وقف عليه طلب ابن غازي منه الدعاء فدعا له بخير
وانصرف فلما غاب عنه قال ابن غازي لأصحابه احفظوا وصيتي فإني راحل عنكم إلى الله
تعالى بلا شك قالوا له يا سيدي ما عندك باس فقال إن الله وعدني أن لا يقبض روحي
حتى يريني وليا من أوليائه وقد أرانيه الساعة فدلني ذلك على انقضاء الأجل فحملوه
من حينه إلى منزله فكان آخر العهد به هكذا ساق هذا الخبر صاحب الدوحة في ترجمتي
الشيخين المذكورين
وكانت وفاة ابن غازي أواخر جمادى الأولى سنة تسع عشرة وتسعمائة وقال صاحب المرآة
عن بعض شيوخه بعد أن ذكر سعاية ابن عبد الكبير بالشيخ الغزواني ما نصه فتحرك الشيخ
الغزواني لزيارة ضريح الشيخ أبي سلهام فعرض له العروسي قائد القصر الكبير وناوله
كتاب السلطان يأمره فيه بقدوم الشيخ إلى فاس دار الملك إذ ذاك فقال له الشيخ طاعة
السلطان واجبة وقال للزائرين معه بلغت النية فتوجه الشيخ إلى فاس من ذلك المكان
وكلما بات في منزل ذهبت جماعة من الذين معه فلم يصل معه إلا القليل وكان الشيخ أبو
البقاء عبد الوارث اليالصوتي إذ ذاك ساكنا بفاس
____________________
ولم يكن صحب الشيخ قبل ذلك
فلما دخل الشيخ حضرة فاس لقيه أبو البقاء المذكور فسلم عليه فشد الشيخ يده على يده
فلم يرسلها حتى عاهده على الرجوع فلما انفصل عنه اشترى خبزا وعنبا وحمل ذلك إلى
الشيخ وأصحابه فوجدهم عند القاضي أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله اليفرني
المكناسي وهو مؤلف المجالس المكناسية فوجدهم في المسجد القريب من دار القاضي
المذكور بدرب السعود فناولهم ما معه ووجد الشيخ موكلا به وأصحابه يدخلون ويخرجون
ثم دخل القاضي على الشيخ بالمسجد فقال له ما هذا الذي يذكر عنك قال أبو البقاء
فتكلمت أنا وقلت إن هذا الرجل قد نزل بلدا عظيمة المناكر وأخذت أعدد مناكرها وصار
هذا السيد ينهاهم عن ذلك فهدى الله على يده من هدى وشنئه من أبى فقام القاضي وركب
إلى دار السلطان ثم رجع إلى منزله فبات ومن الغدر ركب إلى دار السلطان أيضا ومعه
الشيخ الغزواني فلما اطمأن بهم مجلس السلطان وكان فيه صاحب تازا وهو أبو العباس
أحمد ابن الشيخ أخو السلطان المذكور سكت الجميع وتكلم كاتب السلطان وإمام صلاته
قال صاحب المرآة ولم يسم لنا فقال للشيخ ما هذا الذي يذكر عنك فقال له الشيخ أنت
لا تتكلم حتى تغتسل من جنابتك فاستشاط الكاتب غضبا فقال له أخو السلطان هؤلاء
القوم يعنون الجنابة غير ما تعنيه العامة يشير إلى ما في الحكم فقال له السلطان
ومن أين تعرف هذا فقال له من سيدي محمد بن عبد الرحيم بن يجيش ففرح السلطان بمعرفة
أخيه ذلك وقال للشيخ نحن نريد قربك وأن تكون معنا في هذه المدينة فقال له على بركة
الله فانتقل إلى فاس القديم وبنى خارج باب القليعة داخل باب الفتوح وأقام هنالك ما
شاء الله قيل سبع سنين إلى أن كانت سنة تعذر فيها المطر وأخذ الناس في استخراج
السواقي للحرث فأخرج الشيخ من وادي اللبن ساقية لم يكن
____________________
في سواقي السلطان وغيره مثلها
فبعث إليه أخوه السلطان وهو الناصر الملقب بالكديد بالكاف المعقودة والدال المشددة
على لغة العامة وقال له نحن أحق بتلك الساقية فقال له الشيخ خذها وأخذ في الرحيل
إلى مراكش ولما توجه تلقاءها أخذ خنيفه في يده وجعل يشير به من جهة فاس إلى جهة
مراكش ويقول أيا يا سلطنة إلى مراكش قال صاحب المرآة هذا حديث شيخنا أبي عبد الله
النيجي قال وآخنيف معروف وهو نوع من البرانس السود ومعنى أيا بلغة عامة المغرب
سيري معي وموضع بني فزنكار أظنه تاصروت فإن بها رسما منسوبا إليه إلى الآن وأنه
منزله الذي كان يأوي إليه وما زالت آثاره هنالك والدار التي بنى بباب القليعة هي
المتصيرة إلى تلميذه الشيخ أبي عبد الله محمد بن علي الهروي المعروف بالطالب ولعل
سنة إخراج السواقي هي سنة ست وعشرين وتسعمائة فإنه قد تعذر فيها المطر وحدث الغلاء
الكبير المؤرخ بسنة سبع وعشرين وتسعمائة وكأنه أشار إلى انتقال السلطنة عن بني
وطاس ملوك فاس إلى الشرفاء السعديين ملوك مراكش يومئذ والله أعلم نهوض السلطان أبي
عبد الله البرتغالي إلى مراكش ومحاصرته أبا العباس الأعرج السعدي بها
قد تقدم لنا أن ظهور الدولة السعدية ببلاد السوس كان في سنة خمس عشرة وتسعمائة وما
زال أمرهم في الزيادة إلى أن كانت دولة أبي العباس الأعرج منهم فاستفحل أمره وبعد
صيته وفتك بنصارى السوس فكاتبه أمراء هنتاتة أصحاب مراكش ودخلوا في طاعته فانتقل
إليها وملكها في حدود الثلاثين وتسعمائة ولما اتصل خبره بالسلطان أبي عبد الله وهو
يومئذ بفاس قامت قيامته وأقبل في جموع عديدة ومعه وزيره ابن عمه المسعود بن الناصر
كذا في النزهة والذي عند غيره أن الوزير الذي جاء معه هو الناصر
____________________
أخو السلطان المذكور ولما رأى
أبو العباس السعدي ما لا قبل له به تحصن بمراكش وشحن أسوارها بالرماة فتقدم
السلطان أبو عبد الله ونصب الأنفاض على مراكش ودام الحصار عليها أياما فيحكى أنه
قيل للشيخ أبي محمد الغزواني وكان قد استوطن مراكش يومئذ أن أهل مراكش سئموا الحصار
فركب الشيخ في جماعة من أصحابه وخرج من باب فاس المعروف اليوم بباب الخميس فوجد
رماة السلطان أبي عبد الله يرمون من علا الأسوار من أهل البلد فوقف الشيخ ينظر
فجاءت رصاصة ضربت صدره وخرقت الجبة التي عليه والتصقت بلحمه كأنها وقعت في صخرة
صماء فقبض عليها بيده وقال هذه خاتمة حربهم ثم رجع إلى منزله فوردت الأنباء على
السلطان أبي عبد الله في تلك الليلة بأن بني عمه قد قاموا عليه بفاس ونبذوا دعوته
فأصبح من الغد راحلا إلى فاس وظهر مصداق ما قال الشيخ الغزواني ولم يعد لبني وطاس
وصول بعدها إلى مراكش ولا إلى أعمالها والله تعالى أعلم ذكر وزراء السلطان أبي عبد
الله وما قيل فيهم
كان من جملة وزرائه ابن عمه المسعود بن الناصر وهو الذي زحف معه إلى مراكش على ما
في النزهة وكان من جملة وزرائه القائمين بأمره أخوه الناصر بن محمد الشيخ المعروف
عند عامة فاس بأبي علاقة وبالكديد على ما مر قال في الجذوة لقب بذلك لكثرة سفكه
الدماء وإقدامه عليه فكان يقتل الناس ويجزرهم كثيرا وكذا بمكناسة أيام وزارته بها
كذا حدث غير واحد ممن أدركه ورآه وتوفي الوزير المذكور سنة ثلاثين وتسعمائة وفاة
السلطان أبي عبد الله رحمه الله
كانت وفاة السلطان أبي عبد الله البرتغالي سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة على ما في
الجذوة ويؤخذ من النزهة أنها كانت سنة اثنتين وثلاثين بعدها والله أعلم وولي الأمر
من بعده أخوه أبو حسون بولاية عهده إليه
____________________
الخبر عن الدولة الأولى
للسلطان أبي حسون بن محمد الشيخ الوطاسي
هو أبو الحسن علي بن محمد الشيخ ابن أبي زكرياء يحيى بن زيار الوطاسي ويعرف بأبي
حسون البادسي قال في النزهة بويع بفاس سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة ثم قبض عليه
ولد أخيه أبو العباس أحمد بن محمد البرتغال وخلعه وأشهد عليه بالخلع آخر ذي الحجة
من السنة المذكورة انتهى الخبر عن دولة السلطان أبي العباس أحمد بن محمد الوطاسي
رحمه الله تعالى
هو أبو العباس أحمد بن أبي عبد الله محمد البرتغالي ابن أبي عبد الله محمد الشيخ
ابن أبي زكرياء يحيى بن زيان الوطاسي بويع يوم خلع عمه أبي حسون آخر ذي الحجة من
سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة قال ابن القاضي وقد رأيت البيعة التي كتبت له بخط
الإمام أبي محمد عبد الواحد ابن أحمد الوانشريسي من إنشائه وعليها خطوط جماعة من
فقهاء فاس كأبي العباس الحباك والفقيه أبي العباس أحمد الماواسي وغيرهما اه
قال أبو عبد الله اليفرني في النزهة وانظر ما وجه كتب البيعة لأحمد مع أن خلع أبي
حسون لم يكن لموجب والوانشريسي من أهل الورع وقال ولعله لأمر لم يظهر لنا والله
أعلم اه وقال ابن عسكر في الدوحة لما توفي السلطان أبو عبد الله البرتغالي ودالت
الدولة لولده السلطان أبي العباس أحمد وغص بالشرفاء القائمين عليه ببلاد السوس
وزوحم بهم عقد الهدنة مع النصارى المحاورين له ببلاد الهبط وصاحبهم سلطان البرتغال
فبلغ ذلك الشيخ أبا عبد الله محمد بن يحيى البهلولي وكان له رغبة في الجهاد وممن
له وصلة بالسلطان أبي عبد الله فكان إذا جاءه زائرا حضه على الغزو
____________________
فيساعده على ما أراد من ذلك
فلما بلغ الشيخ المذكور ما عقده السلطان أبو العباس من الصلح آلى على نفسه أن لا
يلقى السلطان المذكور ولا يمشي إليه ولا يقبل منه ما كان عينه له والده من جزية
أهل الذمة بفاس لقوته وقوت عياله فمكث على ذلك إلى أن حضرته الوفاة وكان في النزع
وأصحابه دائرون به فقال له بعضهم يا سيدي أخبرك أن السلطان أمر بالغزو وأمر
بالنداء به وحض الناس عليه والمسلمون في شره لذلك وفرح ففتح الشيخ عينيه وتهلل
وجهه فرحا وحمد الله وأثنى عليه ففاضت نفسه وهو مسرور بذلك اه وقعة آنماي بين
الوطاسيين والسعديين
قد تقدم لنا في خبر السلطان أبي عبد الله أنه لما حاصر مراكش وأصابت الرصاصة الشيخ
الغزواني قال هذه خاتمة حربهم ولم يعد لبني وطاس وصول إلى مراكش ولا إلى أحوازها
قال في النزهة فكان أبو العباس الأعرج يتلاقى مع أبي العباس الوطاسي بتادلا
وأحوازها قال وكانت بينهما معركة بموضع يقال له آنماي وذلك في ذي القعدة سنة خمس
وثلاثين وتسعمائة فافترقا على اصطلاح اه وآنماي موضع قرب مراكش به زاوية الشيخ أبي
العزم رحال الكوش
____________________
عقد الصلح بين السلطانين أبي
العباس الوطاسي وأبي العباس السعدي رحمهما الله تعالى
لما رأى أهل المغرب ما وقع بين السلطان أبي العباس أحمد الوطاسي صاحب فاس وأبي
العباس أحمد السعدي المعروف بالأعرج صاحب مراكش من التقاتل على الملك والتهالك
عليه وفناء الخلق بينهم دخلوا في الصلح بينهم والتراضي على قسمة البلاد وحضر لذلك
جماعة من العلماء والصلحاء منهم أبو حفص عمر الخطاب دفين جبل زرهون وأبو الرواين
المحجوب دفين مكناسة الزيتون وكان صاحب حال وجذب فجعل الناس يوصونه بالسكوت مخافة
أن يفسد عليهم أمرهم فلما دخلوا على أبي العباس الأعرج وأخيه وزيره محمد الشيخ
وتكلموا فيه جاءوا لأجله وجدوا فيهما شدة وغلظة وامتناعا من مساعدتهم على ما أرادوا
فحلف أبو حفص الخطاب لا دخلوها يعني فاسا ما دمت على وجه الأرض فما دخلوها حتى مات
بعد مدة فكان بعضهم يقول لو كان بنو وطاس يعرفون شيئا ما دفنوا أبا حفص الخطاب
يعني لتركوه في تابوت على وجه الأرض لأنه حلف لا دخلوها ما دام على وجه الأرض حكاه
صاحب ممتع الأسماع وذكر في شرح زهرة الشماريخ أن الصلح انبرم بين الطائفتين على أن
للأشراف من تادلا إلى السوس ولبني وطاس من تادلا إلى المغرب الأوسط وإن ممن حضر
الصلح المذكور قاضي الجماعة بفاس أبا الحسن علي بن هارون المطغري بالطاء المهملة
مطغرة تلمسان والإمام الشهير أبا مالك عبد الواحد بن أحمد الوانشريسي وغيرهما من
مشايخ فاس ويذكر أنه لما تواطأت كلمة الحاضرين على الصلح وعقدوا شروطه وهدأت
الأصوات وسكن اللجاج أتى بدواة وقرطاس ليكتب الصلح فما وضعت الدواة بين يدي أحد
الفقهاء الحاضرين إلا وجم وانقبض ودفعها عن نفسه استحياء في ذلك المحفل أن يكتب ما
لا يناسب الجهتين فقام قاضي الجماعة المذكور وأخذ الدواة وأساودها ووضعها بين يدي
أبي مالك
____________________
المذكور فأنشأ أبو مالك في
الحين خطبة بليغة ونسج الصلح على منوال عجيب واخترع أسلوبا غريبا تحير فيه
الحاضرون وعجبوا من ثبات جأشه وجموم قريحته في مثل ذلك المشهد العظيم الذي تخرس
فيه ألسن الفصحاء هيبة وإكبارا فقام قاضي الجماعة وقبله بين عينيه وقال جزاك الله
عن المسلمين خيرا وما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر وكان ذلك كله في حدود أربعين
وتسعمائة اه غزوة الحمر قرب آصيلا حرسها الله
ذكر صاحب الدوحة في ترجمة الشيخ أبي الحسن علي بن عثمان الشاوي رحمه الله أنه
استشهد في وقعة الحمر التي كانت في حدود أربعين وتسعمائة بين النصارى والقائد عبد
الواحد بن طلحة العروسي على مقربة من آصيلا قال حدثني غير واحد ممن يوثق به ممن
حضر الوقعة وبعضهم يصدق بعضا قالوا لما انهزم الناس استقبل الشيخ أبو الحسن
النصارى وسيفه في يده وهو يتلو بردة البوصيري فكان ذلك آخر العهد به ولما رجع
الناس من الغد ليحملوا قتلاهم لم يوقف له على عين ولا أثر وإنما وجد غنباز من
لباسه عند النصارى وفيه أثر طعنة في صدره اه كلام الدوحة
وفي المرآة أن الشيخ المذكور مات في حياة شيخه الغزواني شهيدا في الجهاد سنة خمس
وعشرين وتسعمائة اه ولعله الصواب
والعروسي المذكور هو من أمراء بني عبد الحميد العروسيين أصحاب قصر كتامة وكانت لهم
رياسة وسياسة وجهاد في العدو إلى أن انقرض أمرهم أعوام الخمسين وتسعمائة
قال في الدوحة أخبر غير واحد من فقهاء قصر كتامة أن الشيخ أبا الرواين جاء إلى
القصر وصاحبه يومئذ القائد عبد الواحد العروسي في عصبة من أقاربه أولاد عبد الحميد
فصعد أبو الرواين صومعة المسجد ثم نادى بأعلى صوته يا بني عبد الحميد اشتروا مني
القصر وإلا خرجتم منه
____________________
في هذه السنة فسمع القائد عبد
الواحد ذلك فقال إن كان القصر له أو بيده فلينزعه منا ما بقي لنا إلا كلام الحمقى
نلتفت إليه ومن الغد خرج الشيخ أبو الرواين من البلد وهو يقول القائد عبد الواحد
وأهله يخرجون من القصر ولا يعودون إليه أبدا فكان كذلك بقدرة الله تعالى وقعة أبي
عقبة بوادي العبيد وما كان فيها بين الوطاسيين والسعديين من القتال الشديد
هذه الوقعة من أعظم الوقعات التي كانت تكون بين الوطاسيين والسعديين وما زالت
العامة تتحدث بها في أنديتها إلى الآن ويبالغون في وصفها والأخبار عنها وقد ذكرها
شعراؤهم في أزجالهم الملحونة وهي محفوظة فيما بينهم وذلك أنه لما طمى عباب
السعديين على بلاد الحوز وكادوا يلجون على الوطاسيين دار ملكهم من فاس نهض إليهم
السلطان أبو العباس الوطاسي أواخر سنة اثنتين وأربعين وتسعمائة يجر الشوك والمدر
في جمع كثيف من الجند وقبائل العرب في حللها وظعنها وجاء أبو العباس السعدي في
قبائل الحوز بحللها وظعنها كذلك فكان اللقاء بمشروع أبي عقبة أحد مشارع وادي
العبيد من تادلا فنشبت الحرب وتقاتل الناس وبرز أهل الحفائظ منهم والتراث وقاتل
الناس على حرمهم وأحسابهم وعزهم فأفنى بعضهم بعضا إلا قليلا ودامت الحرب أياما على
ما قيل إلى أن كانت الهزيمة على الوطاسيين عشية يوم الجمعة ثامن صفر سنة ثلاث
وأربعين وتسعمائة قال في الجذوة فرجع السلطان أبو العباس الوطاسي إلى فاس وبقيت
محلته وقصبة تادلا بين الشريف السعيد قال وتسمى هذه السنة سنة أبي عقبة
وقال في المرآة ومما اشتهر من كرامات الشيخ أبي طلحة محمد المصباحي الشاوي الزناتي
أنه لما التقى مقاتلة فاس وسلطانهم أبو العباس أحمد الوطاسي ومقاتلة مراكش
وسلطانهم أبو العباس أحمد الأعرج ومعه
____________________
أخوه المتولي بعده أبو عبد
الله محمد الشيخ سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة على مشرع أبي عقبة من وادي العبيد
انهزم السلطان أبو العباس الوطاسي وتفرقت جموعه وتبعته الخيل فكادوا يقبضون عليه
فحضر هنالك رجل على فرس أنثى فجعل يحول بينه وبينهم ويقول له سر يا أحمد ولا تخف
ولم يزل معه إلى أن رجعوا عنه وأمن الطلب وقد عرف السلطان صفته وتحققها ولم يزل
يسأل عن صاحب تلك الصفة حتى قيل له هذه صفة أبي طلحة المصباحي وتحقق ذلك ولما كان
خروج السلطان المذكور الذي وصل فيه تطاوين وتزوج بها الحرة بنت الأمير السيد أبي
الحسن علي بن موسى ابن راشد الشريف وذلك في ربيع الأول سنة ثمان وأربعين وتسعمائة
وبتطاوين بنى بها وقصد أبا طلحة المذكور ونزل عليه فلما رآه عرفه وأيقن أنه الرجل
الذي أغاثه فأكب عليه السلطان وذكر ما وقع له معه فقال الشيخ يا رب كيف العيش مع
هذه الشهرة فاقبضني إليك فمات عقب ذلك من سنته قال في المرآة سمعت هذه الحكاية من
غير واحد وسألت شيخنا أبا القاسم بن أبي طلحة المذكور فقال لي أعقل مجيء السلطان
وأنا صغير جدا أقعد في حجر أبي وعند ركبته اه قلت والأمير أبو الحسن بن راشد
المذكور هو الذي اختط مدينة شفشاون كما مر وذكر في المرآة أن وفاته كانت سنة سبع
عشرة وتسعمائة فيكون السلطان المذكور إنما تزوج ابنته بعد وفاته ولعله خطبها من
أخيها الأمير أبي عبد الله محمد بن أبي الحسن والله أعلم
واعلم أن ما سلكناه هنا من تقديم قضية الصلح على وقعة أبي عقبة هو ما يقتضيه
التاريخ الذي صرحوا به وسيأتي بعد هذا ما ربما يفهم منه أن الأمر بالعكس والجواب
أن قضية الصلح تكررت حسبما يؤخذ مما مر والله أعلم وفي هذه السنة أيضا عقد السلطان
أبو العباس الوطاسي مع برتقال آسفي صلحا على ثلاث سنين ودخل في هذا العقد آسفي
والجديدة وآزمور وكتب البرتغال بذلك إلى ملكهم ووقعت المحادة في البلاد وتفرغ
الوطاسي لقتال السعديين
____________________
بناء السلطان أبي العباس
الوطاسي قنطرة الرصيف بفاس حرسها الله
كان السلطان أبو العباس أحمد الوطاسي قد جدد بناء قنطرة الرصيف بحضرة فاس وذلك
منتصف سنة إحدى وخمسين وتسعمائة وفي ذلك يقول الفقيه أبو مالك عبد الواحد بن أحمد
الوانشريسي مشيرا إلى التاريخ المذكور
( جسر الرصيف أبو العباس جدده ** فخر السلاطين من أبناء وطاس )
( فجاء في غاية الإتقان مرتفقا ** لمن يمر به من عدوتي فاس )
( وكان تجديده في نصف عام غنا ** من هجرة المصطفى المبعوث للناس )
وقال الفقيه أبو مالك أيضا
( أيا أهل فاس سدد الله سدكم ** برأي أبي العباس حامي حمى فاس )
( وأحيى به أشجاركم وثماركم ** على رغم قوم منكرين من الناس )
( فدام ودام السعد يخدم مجده ** وفاز من الشكر الجميل بأجناس )
وقال الشيخ أبو زكرياء يحيى السراج
( ألا سدد الله رأي الذي ** بتسديده سديدا حصينا )
( وخلد في عزه ملكه ** وأولاه فتحا ونصرا مبينا )
( إمام الهدى أحمد المرتضى ** مبيد العدا عدة المسلمينا )
وقال الإمام أبو الحسن علي بن هارون
( لقد سدد الله رأي العماد ** وأبطل في السد رأي الجهول )
( وقرب ما رامه من بعاد ** بمولاي أحمد مدحي يطول )
( فطردا وعكسا لساني يناد ** عقول الملوك ملوك العقول )
____________________
وقعة وادي درنة بتادلا وأسر
الأمير أبي زكرياء الوطاسي ومهلكه رحمه الله
ذكر في المرآة عند الكلام على أبي عبد الله محمد بن يوسف الفاسي وهو والد الشيخ
أبي المحاسن رضي الله عنه أن أبا عبد الله المذكور كانت له وجاهة كبيرة عند أمير
القصر أبي زكرياء يحيى بن أبي عبد الله البرتغالي وهو يومئذ أخو السلطان أبي
العباس الوطاسي قال فانتفع بوجاهة أبي عبد الله الفاسي خلق كثير ولم يسامح هو نفسه
في نيل شيء من الدنيا بسبب ذلك الجاه إلى أن أسر الأمير أبو زكرياء المذكور في
وقعة وادي درنة من تادلا للشرفاء على بني وطاس في رجب سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة
ومات في تلك الليالي القريبة غما وأسفا رحمه الله قلت وكان سلطان السعديين يومئذ
محمد الشيخ الملقب بالمهدي فإنه تغلب على أخيه الأعرج وانتزع منه الملك وسجنه كما
يأتي إن شاء الله تعالى استيلاء السلطان محمد الشيخ السعدي على فاس وقبضه على بني
وطاس ومهلك سلطانهم أبي العباس رحمه الله تعالى بفضله
لما غلب السلطان محمد الشيخ السعدي على أخيه أبي العباس الأعرج واستولى على مراكش
طمحت نفسه للتوغل في بلاد الغرب وقراه فتفرغ لحرب بني وطاس ونكث ما كان بينه
وبينهم من الصلح ورموا منه بحجر الأرض وردد إليهم البعوث والسرايا وأكثر فيهم من
شن الغارات وصار يستلبهم البلاد شيئا فشيئا إلى أن استولى عليها وكان أول ما ملك
من أمصار الغرب مكناسة الزيتون افتتحها عقب سنة خمس وخمسين وتسعمائة بعد حصار
ومقاتلة ثم تقدم إلى فاس فألح عليها بالقتال وضايقها بالحصار مدة قريبة من السنة
ثم استولى عليها بعد أن أسر سلطانها أبا العباس الوطاسي وصار في قبضته وكان دخوله
إياها أوائل سنة ست وخمسين وتسعمائة ولما
____________________
4 دخلها تقبض على الوطاسيين
أجمع وبعث بهم مصفدين إلى مراكش عدا أبا حسون المخلوع فإنه فر إلى الجزائر إلى أن
كان من أمره ما نذكره ثم إن الشيخ السعدي غدر ببني وطاس فيما قيل بعد أن أظهر
العفو عنهم وسرح سلطانهم أبا العباس من ثقافة والله أعلم وفي الجذوة كانت وفاة
السلطان أبي العباس الوطاسي بمراكش قرب سنة الستين وتسعمائة اه
وزعم منويل أنه قتل مذبوحا بدرعة قال زحف أبو عبد الله محمد الشيخ السعدي إلى فاس
فبرز إليه أبو حسون الوطاسي وكان قائد جيش ابن أخيه ووقع بينهما قتال عظيم انهزم
فيه أبو حسون إلى فاس وحاصره السعدي بها سنتين ولما قلت الأقوات وعجز الوطاسيون عن
الدفاع نزلوا على حكم السعدي فقبض على أبي العباس الوطاسي وفر أبو حسون إلى
الجزائر واستقل محمد الشيخ السعدي بأمر المغرب وغرب الوطاسيين إلى درعة فقتل أبا
العباس الوطاسي الذي كان تلميذا له ذبحا اه كلامه بقية أخبار السلطان أبي العباس
الوطاسي وسيرته
كان من جملة وزراء السلطان أبي العباس المذكور ابنه محمد ومن أخباره ما ذكره في
الدوحة في ترجمة الشيخ أبي عثمان سعيد بن أبي بكر المشترائي دفين مكناسة الزيتون
قال من كراماته الشائعة ما اتفق له مع الوزير أبي عبد الله محمد بن السلطان أبي
العباس أحمد الوطاسي لما استوزره أبوه وولاه على مكناسة فكان بها فغضب ذات يوم على
أحد المشاورية فهرب المشاوري إلى زاوية الشيخ أبي عثمان فبعث الوزير إلى الشيخ بأن
عليه الأمان ويبعثه إليه فقال له الشيخ إن شئت أن تذهب إلى سيدك فافعل فقال
المشاوري يا سيدي أخاف أن يقتلني فقال الشيخ إن قتلك فالله يقتله فذهب المشاوري
إلى الوزير وبقي عنده ليلتين وفي الثالثة قتله ولم يظهر له فجاءت أمه إلى الشيخ
وقالت يا سيدي إن ولدي قد
____________________
قتله الوزير فقال لها سبق ذلك
في علم الله وإن الآخر سيلحقه الآن يعني الوزير فوعك الوزير تلك الليلة وسلط عليه
آكال في جسمه فتمزق لحمه وتقطع شيئا فشيئا إلى أن هلك لليال قلائل من مرضه فاعتبر
الناس والسلطان بذلك ومن ذلك الوقت زاد الأمراء وغيرهم في احترام حرم زاوية الشيخ
المذكور اه
وكان للسلطان أبي العباس اعتقاد في المتصلحين وأرباب الأحوال فمن فوقهم من أهل
العلم والدين من ذلك ما حكاه في الدوحة أيضا في ترجمة أبي الحسن علي الصنهاجي
المعروف بالدوار قال كان أبو الحسن المذكور من الملامتية وكان يدخل دور الملوك من
بني وطاس فيتلقاه النساء والصبيان يقبلون يديه وقدميه فلا يلتفت إلى أحد ويعطونه
الثياب الرفيعة والذخائر النفيسة ويلبسه السلطان يعني أبا العباس من أشرف لباسه
فإذا خرج تصدق بجميع ذلك ويمر على حوانيت الزياتين فيغمس أكمام الحلة التي تكون
عليه ويبرقعها بالزيت أو بالسمن ولا يزال يدور في الأماكن ويصرخ باسم الجلالة اه
قالوا وكان السلطان أبو العباس المذكور واقفا عند إشارة الفقيه أبي مالك عبد
الواحد بن أحمد الوانشريسي وهو ابن صاحب المعيار لا يتعدى أمره ولا يخالف رأيه كما
وقع له في مسألة رجل إسلامي يعرف بعبد الرحمن المنجور وكان تاجرا جامعا للمال فشهد
عليه في حكاية طويلة أربعون رجلا من العدول باستغراق ذمته فأخذه السلطان أبو
العباس الوطاسي وقتله وصير أملاكه لبيت مال المسلمين فرغب أولاد المنجور من
السلطان أن يؤدوا له عشرين ألف دينار ويرد إليهم أملاكهم ويسقط عنهم بينة
الاستغراق فقال السلطان لحاجبه اذهب إلى الشيخ عبد الواحد الوانشريسي وشاوره في
ذلك وعرفه بأني في الحاجة إلى هذا المال لأجل هذه الحركة التي عرضت لي فذهب الحاجب
إليه وأخبره بمقالة السلطان ورغبته في قبول ذلك فقال الشيخ
____________________
والله لا ألقى الله بشهادة
أربعين رجلا من عدول المسلمين لأجل سلطانك اذهب وقل له إني لا أوافق على ذلك ولا
أرضاه فرجع الحاجب إلى السلطان وأخبره بما قال الشيخ فرجع السلطان عما عزم إليه
ونظير هذا ما اتفق له معه أيضا وهو أن الناس خرجوا يوم العيد للصلاة فانتظروا
السلطان فأبطأ عليهم ولم يأت إلى خروج وقت الصلاة وحينئذ أقبل السلطان أبو العباس
في أبهته فلما انتهى إلى المصلى نظر الشيخ أبو مالك فرأى أن الوقت قد فات فرقي
المنبر وقال معشر المسلمين أعظم الله أجركم في صلاة العيد فقد عادت ظهرا ثم أمر
المؤذن فأذن وأقام الصلاة فتقدم الشيخ أبو مالك وصلى الناس الظهر فخجل السلطان أبو
العباس واعترف بخطيئته رحم الله الجميع الخبر عن الدولة الثانية للسلطان أبي حسون
الوطاسي رحمه الله
لما دخل السلطان أبو عبد الله محمد الشيخ السعدي إلى فاس سنة ست وخمسين وتسعمائة
وقبض على بني وطاس بها حسبما تقدم فر أبو حسون هذا إلى ثغر الجزائر حقنا لدمه
ومستجيشا لتركها ومستجيشا على السعدي وكان الترك قد استولوا على المغرب الأوسط
وانتزعوه من يد بني زيان كما سيأتي
____________________
فلم يزل أبو حسون عندهم يفتل
لهم في الغارات والسنام ويحسن لهم بلاد المغرب الأقصى ويعظمها في أعينهم ويقول إن
المتغلب عليها قد سلبني ملكي وملك آبائي وغلبني على تراث أجدادي فلو ذهبتم معي
لقتاله لكنا نرجو الله تعالى أن يتيح لنا النصر عليه ويرزقنا الظفر به ولا تعدمون
أنتم مع ذلك منفعة من ملء أيديكم غنائم وذخائر ووعدهم بمال جزيل فأجابوه إلى ما
طلب وأقبلوا معه في جيش كثيف تحت راية باشاهم صالح التركماني المعروف بصالح رئيس
إلى أن اقتحموا حضرة فاس بعد حروب عظيمة ومعارك شديدة وفر عنها محمد الشيخ السعدي
إلى منجاته
وكان دخول السلطان أبي حسون إلى فاس ثالث صفر سنة إحدى وستين وتسعمائة ولما دخلها
فرح به أهلها فرحا شديدا وترجل هو عن فرسه وصار يعانق الناس كبيرا وصغيرا شريفا
ووضيعا ويبكي على ما دهمه وأهل بيته من أمر السعديين واستبشر الناس بمقدمه وتيمنوا
بطلعته وقبض على كبير فاس يومئذ القائد أبي عبد الله محمد بن راشد الشريف الإدريسي
واطمأنت به الدار ثم لم يلبث السلطان أبو حسون إلا يسيرا حتى كثرت شكاية الناس
إليه بالترك وأنهم مدوا أيديهم إلى الحريم وعاثوا في البلاد فبادر بدفع ما اتفق
معهم عليه من المال وأخرجهم عن فاس وتخلف بها منهم نفر يسير
____________________
مجيء السلطان محمد الشيخ
السعدي إلى فاس واستيلاؤه عليها ومقتل السلطان أبي حسون رحمه الله
لما فر السلطان محمد الشيخ السعدي من وقعة الأتراك بفاس وصل إلى مراكش فاستقر بها
وصرف عزمه لقتال أبي حسون فأخذ في استنفار القبائل وانتخاب الأبطال وتعبية العساكر
والأجناد فاجتمع له من ذلك ما اشتد به أزره وقوي به عضده ثم نهض بهم إلى فاس فخرج
إليه السلطان أبو حسون في رماة فاس وما انضاف إليهم من جيش العرب فكانت الهزيمة
على أبي حسون فرجع إلى فاس وتحصن بها فتقدم الشيخ السعدي وحاصره إلى أن ظفر به في
وقعة كانت بينهما بالموضع المعروف بمسلمة فقتله واستولى على حضرة فاس وصفا له
أمرها وكان استيلاؤه عليها يوم السبت الرابع والعشرين من شوال سنة إحدى وستين
وتسعمائة على الصواب خلاف ما وقع في الدوحة والله أعلم وبمقتل السلطان أبي حسون
رحمه الله انقرضت الدولة المرينية بالمغرب والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير
الوارثين
وبقي علينا الإلماع بأواخر دولة بني زيان ملوك تلمسان وكيف كان انقراض أمرهم فلنشر
إلى ذلك فنقول كانت دولة بني زيان على ما علمت من الاضطراب سائر أيام بني مرين
وكان منهم في صدر المائة التاسعة السلطان الواثق بالله من أمثل ملوكهم وغلبهم على
تلمسان في تلك المدة السلطان أبو فارس عبد العزيز بن أحمد الحفصي فأخذوا بطاعته ثم
بعد موته سنة سبع وثلاثين وثمانمائة اعتزوا بعض الشيء إلى أن كانت دولة السلطان
أبي عمرو عثمان بن محمد الحفصي فغزا تلمسان أعوام السبعين وثمانمائة مرتين وفي
الثانية هدم أسوارها وعزم على استئصال أهلها إلى أن تشفع إليه علماؤها وصلحاؤها
فعفا عنهم وكان الباعث له على غزوها أولا ما بلغه من أن الأمير محمد بن محمد بن
أبي ثابت استولى عليها ففعل ما فعل وصاهرهم ببعض حفدته
وقال صاحب بدائع السلك شاهدت بتلمسان وبعض أعمالها تصريح
____________________
الخطيب باسم السلطان أبي عمرو
عثمان صاحب تونس مقدما في الذكر على اسم صاحب تلمسان أبي عبد الله من أعقاب بني
زيان لما بينهما من الشرط في ذلك وبقيت حال بني زيان متماسكة إلى أن ظهر جنس
الإصبنيول في صدر المائة العاشرة بعد ما تم له ملك الأندلس وعظمت شوكته فطمح
للتغلب على ثغور المغربين الأدنى والأوسط فاستولى على بجاية سنة عشر وتسعمائة ثم
على وهران سنة أربع عشرة وتسعمائة وفعل بأهلها الأفاعيل ثم سما لتملك الجزائر وشره
لالتهامها وضايق المسلمين في ثغورهم وضعف بنو زيان عن مقاومته وكان الشيخ الفقيه
الصالح أبو العباس أحمد ابن القاضي الزواوي ممن له الشهرة والوجاهة الكبيرة في
بسائط المغرب الأوسط وجباله وكانت دولة العثامنة من الترك في هذه المدة قد زخر
عبابهم وملكت أكثر المسكونة وظهر من قواد عساكرهم البحرية قائدان عظيمان وهما خير
الدين باشا وأخوه عروج باشا وكانا قد تابعا الغزو على بلاد الكفر برا وبحرا وأوقعا
بأهل دول الأوروبا وقائع شهيرة وصار لهم ذكر في أقطار البلاد وتمكن ناموسهم من
قلوب العباد فكاتبهم الفقيه أبو العباس المذكور وعرفهم بما المسلمون فيه من مضايقة
العدو الكافر وقال إن بلادنا بقيت لك أو لأخيك أو للذئب فأقبل الترك نحوه مسرعين
واستولى عروج على ثغر الجزائر بعد ما كاد العدو يملكه فتخلصه منه ثم استولى على
تلمسان وغلب بني زيان على أمرهم وذلك سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة على ما في النزهة
ثم إن أهل تلمسان أنكروا سيرة الترك وسئموا ملكتهم ويقال إن الترك عسفوهم وصادروهم
على أموالهم وكان عروج قد أغرى بالفقيه أبي العباس المستدعي له فقتل شهيدا بعد
الثلاثين وتسعمائة ورأى عروج أن أمر المغرب الأوسط لا يصفو له مع وجود الفقيه
المذكور فدس عليه من قتله ثم نهض عروج إلى بني يزناسن فكان الكرة عليه وقتل هنالك
مع جماعة من وجوه عسكره وتفرقت جموعه
وعادت تلمسان إلى بني زيان فجددوا بها رياستهم وأحيوا رمق دولتهم إلى أن عاود
الترك غزوها بعد حين وانتزعوها من يد صاحبها أبي العباس
____________________
أحمد بن عبد الله من أعقاب
يغمراسن بن زيان
قال في المرآة ما نصه قال الشيخ الإمام قاضي الجماعة أبو محمد عبد الواحد بن أحمد
الوانشريسي رحمه الله ومن خطه نقلت قدم حسن ابن خير الدين التركي فاستولى على
تلمسان في أواسط شعبان سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة وأخرج منها الأمير أحمد ابن
الأمير عبد الله ووزيره منصور بن أبي غانم ولحقا بدبدو مع من انضاف إليهما من
أمراء تلمسان وكبرائها فغدر بهم عمر بن يحيى الوطاسي صاحب دبدو وأخذ أموالهم
واعتقلهم وسرح منصورا في محرم من سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة اه واستمرت تلمسان في
يد الترك إلى أواسط صدر المائة الثالثة عشرة فاستولى عليها الفرنسيس على ما نذكره
إن شاء الله
واعلم أنه كان في صدر هذه المائة العاشرة أمور عظام
منها ظهور الفرنج بالديار المغربية واستيلاؤهم على ثغورها بما لم يعهد مثله قبل
ذلك لا سيما البرتغال والإصبنيول حسبما تقدمت الإشارة إليه ومنها ظهور دولة آل
عثمان ملوك التركمان بالديار المشرقية وما أضيف لها الظهور الذي لا كفاء له
وابتداء هذه الدولة وإن كان قبل هذا التاريخ بنحو مائتي سنة لكن إنما كان عنفوان
شبابها وفيضان عبابها في هذه المدة لا سيما في دولة سلطانهم الأعظم وخاقانهم
الأفخم سليمان بن سليمان خان فإنه ملك أكثر المعمور وقام بدعوته من الأمم الجمهور
وهجمت عساكره على ديار الأرنا فقاتلوهم في أعز بلادهم واستلبوهم من طارفهم وتلادهم
وخضعت ملوكهم لعزته واستكانوا لصولته وأعطوه يد المقادة وآتوه من الطاعة والخضوع
ما خالف العادة ثم أوطأ عساكره المغربيين الأدنى والأوسط فاستولى عليهما وكاد
يتناول الأقصى ويضيفه إليهما على ما تقف عليه في أخبار السعديين إن شاء الله
ومنها ظهور الأولياء وأهل الصلاح من الملامتية وأرباب الأحوال والجذب في بلاد
الشرق والغرب لكنه انفتح به للمستورين على النسبة
____________________
وأهل الدعوى باب متسع الخرق
متعسر الرتق فاختلط المرعى بالهبل وادعى الخصوصية من لا ناقة له فيها ولا جمل وصعب
على جل الناس التمييز حتى بين البهرج والإبريز لا سيما العامي الغمر الذي لا يفرق
بين الحصباء والدر ويرحم الله الشيخ اليوسي إذ قال في محاضرته ما نصه وقد طرق
أسماع القوم من قبل اليوم كلام أهل الصولة كفحول القادرية والشاذلية رضي الله عنهم
وكلام أرباب الأحوال في كل زمان فتعشقت النفوس ذلك وأذعن له الجمهور وخاضوا في
التشبيه بهم فما شئت أن تلقى جاهلا مسرفا على نفسه لم يعرف بعد ظاهر الشريعة فضلا
عن أن يعمل فضلا عن أن يخلص إلى الباطن فضلا عن أن يكون صاحب مقام إلا وجدته يصول
ويقول وينابذ المنقول والمعقول وأكثر ذلك في أبناء الفقراء يريد الواحد منهم أن
يتحلى بحلية أبيه ويستتبع أتباعه بغير حق ولا حقيقة بل لمجرد حطام الدنيا فيقول
خدام أبي وزريبة أبي ويضرب عليهم المغرم كمغرم السلطان ولا يقبل أن يحبوا أحدا في
الله أو يعرفوه أو يقتدوا به غيره وإذا رأى من خرج يطلب دينه أو من يدله على الله
تعالى يغضب عليه ويتوعده بالهلاك في نفسه وماله وقد يقع شيء من المصائب بحكم
القضاء والابتلاء فيضيفه إلى نفسه فيزداد بذلك هو وأتباعه ضلالا ثم يخترق لهم من
الخرافات والأمور المعتادة ما يدعيه سيرة ودينا يستهويهم به ثم يضمن لهم الجنة على
مساوئ أعمالهم والشفاعة يوم المحشر ويقبض على لحمة من ذراعه فيقول للجاهل مثله أنت
من هذه اللحمة فيكتفي جهال العوام بذلك ويبقون في خدمته ولدا عن والد قائلين نحن
خدام الدار الفلانية وفي زريبة فلان فلا نخرج عنها وكذا وجدنا آباءنا وهذا هو
الضلال المبين وهؤلاء قطاع العباد عن الله إلى آخر كلامه فقف عليه في الفصل الخامس
والعشرين منها فإنه نفيس وبالله تعالى التوفيق
وفي سنة إحدى عشرة وتسعمائة توفي الفقيه أبو العباس أحمد بن عيسى الماواسي البطوي
الموقت المشهور
وفي سنة اثنتي عشرة بعدها توفي الشيخ الفقيه أبو الحسن علي بن قاسم
____________________
التجيبي المعروف بالزقاق فقيه
فاس وهو صاحب المنظومة اللامية في علم القضاء وغيرها وفي سنة أربع وتسعمائة في يوم
الثلاثاء العشرين من صفر منها توفي الشيخ الإمام أبو العباس أحمد بن يحيى
الوانشريسي مؤلف المعيار وغيره من التآليف الحسان أصله من تلمسان واستوطن مدينة
فاس إلى أن توفي بها في التاريخ المذكور وفيها أيضا توفي الشيخ الكبير أبو فارس
عبد العزيز بن عبد الحق الحرار المعروف بالتباع دفين حومة الفحول من مراكش من
أصحاب الشيخ الجزولي رضي الله عنهما وصفه شيخه المذكور بالكيمياء وكان يقال النظرة
فيه تغني أفاض الله علينا من مدده
وفي سنة تسع عشرة وتسعمائة توفي الشيخ الإمام العلامة النظار أبو عبد الله محمد بن
أحمد بن غازي العثماني المكناسي ثم الفاسي وقد تقدم خبره مع الشيخ أبي محمد الغزواني
رحمهما الله
وفي سنة ست وعشرين وتسعمائة انحبس المطر بفاس والمغرب واضطر الناس إلى استخراج
السواقي من الأودية والأنهار لسقي زرعهم وثمارهم
وفي سنة سبع وعشرين بعدها كان الغلاء والجوع الكبير الذي صار تاريخا في الناس مدة
وفي سنة ثمان وعشرين بعدها كان الوباء بالمغرب سنة الله في خلقه وفي هذه المدة
أعني أعوام الثلاثين وتسعمائة على ما في الدوحة توفي الشيخ أبو عبد الله محمد بن
منصور السفياني دفين جزيرة البسابس من بلاد أولاد جلون على مسيرة نصف يوم من مصب
نهر سبو في البحر من جهة المشرق وكان من أصحاب الشيخ التباع والروضة التي عليها
بناها الشيخ أبو زيد عبد الرحمن المجذوب يقال إنه لما أكملها رآه في المنام وألبسه
حلة خضراء
وفي سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة في ثاني يوم من ربيع الأول منها توفي الشيخ أبو
محمد عبد الكريم بن عمر الحاجي المعروف بالفلاح ضجيع القاضي عياض في روضته بحومة
باب إيلان من مراكش وهو من أصحاب
____________________
الشيخ التباع أيضا وفي هذه
المدة على ما في الدوحة توفي الشيخ أبو يشو مالك بن خدة الصبيحي من عرب صبيح كان
من أهل العلم والفضل والدين ودفن على ضفة نهر سبو على نحو مرحلة من فاس وقبره
مزارة إلى الآن
وفي سنة خمس وثلاثين وتسعمائة توفي الشيخ أبو محمد الغزواني رضي الله عنه دفين
حومة القصور من مراكش وقد تقدم شيء من خبره
وفي أعوام أربعين وتسعمائة توفي الشيخ الكامل أبو عبد الله محمد بن عيسى السفياني
المختار ثم الفهدي دفين مكناسة الزيتون وهو شيخ جليل القدر شهير الذكر رضي الله
عنه ونفعنا به آمين
تم الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس
أوله
الخبر عن دولة الأشراف السعديين من آل زيدان
____________________
5
____________________
بسم الله الرحمن الرحيم الدولة
السعدية الخبر عن دولة الأشراف السعديين من آل زيدان وذكر أوليتهم وتحقيق نسبهم
اعلم أن هؤلاء السعديين كانوا يقولون إن أصل سلفهم من ينبع النخل من أرض الحجاز
وأنهم أشراف من ولد محمد النفس الزكية رضي الله عنه وإليه كانوا يرفعون نسبهم
ويقولون في أول ملوكهم القائم بأمر الله مثلا هو محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن
علي بن مخلوف بن زيدان بن أحمد ابن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن الحسن بن عبد
الله بن أبي محمد بن عرفة بن الحسن بن أبي بكر بن علي بن حسن بن أحمد بن إسماعيل
بن قاسم ابن محمد النفس الزكية ابن عبد الله الكامل بن حسن المثنى بن الحسن السبط
ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم فهم بنو عم السادة العلويين أشراف سجلماسة
يجتمعون معهم في محمد بن أبي القاسم المذكور في النسب
قالوا والسبب في قدوم سلفهم من الحجاز إلى المغرب أن أهل درعة كانت لا تصلح ثمارهم
وتعتريها العاهات كثيرا فقيل لهم لو أتيتم بشريف إلى بلادكم كما أتى أهل سجلماسة
لصلحت ثماركم كما صلحت ثمارهم وقد كان أهل سجلماسة جاؤوا بالمولى الحسن بن قاسم بن
محمد بن أبي القاسم من أرض ينبع في قصة ظريفة تأتي في محلها إن شاء الله قالوا
فأتى أهل درعة بالمولى زيدان بن أحمد مضاهاة لأهل سجلماسة فعادت عليهم بركته
واعلم أن هذا النسب الشريف المسرود آنفا فيه كما قال اليفرني بتر
____________________
بين قاسم ومحمد النفس الزكية
فإنه لا يعرف في أولاد النفس الزكية من اسمه قاسم وإنما هو قاسم بن محمد بن عبد
الله الأشتر بن محمد النفس الزكية ولعله سقط عن ذهول من الناسخ وقيل الصواب إنه
قاسم بن حسن بن محمد بن عبد الله الأشتر بن محمد النفس الزكية
واعلم أيضا أن ما زعمه هؤلاء السعديون من انتسابهم لهذا البيت الكريم هو المعروف
عند الكافة وتلقاه فضلاء عصرهم بالقبول وأثبتوه في تقريضاتهم ومؤلفاتهم الموضوعة
في أخبارهم ومن الناس من يطعن في ذلك ونقله بعضهم عن الشيخ أبي العباس المقري صاحب
نفح الطيب وأنه صحح أنهم من بني سعد بن بكر بن هوازن الذين منهم حليمة السعدية ظئر
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا النقل ضعيف لأن الشيخ المقري صرح في نفح الطيب
بشرف هؤلاء السادة في غير موضع وهو من آخر ما ألف
وممن طعن في نسبهم المولى محمد فتحا بن الشريف السجلماسي أول ملوك السادة العلويين
صرح بذلك في بعض الرسائل التي كانت تدور بينه وبين الشيخ ابن زيدان منهم قال فيها
وقد اعتمدنا في ذلك يعني في عدم شرفهم على ما نقله الثقات المؤرخون لأخبار الناس
من علماء مراكش وتلمسان وفاس ولقد أمعن الكل التأمل بالذكر والفكر فما وجدوكم إلا
من بني سعد بن بكر اه
ويحكى شائعا عن الفقيه الورع المولى أبي محمد عبد الله بن علي بن طاهر السجلماسي
وكان من أهل الصلاح والدين أنه كان ذات يوم جالسا مع المنصور السعدي في بعض قصوره
من حضرة مراكش وهما مجتمعان على خوان طعام فقال المنصور للشيخ أبي محمد أين
اجتمعنا يا فقيه يعني في النسب فقال أبو محمد على هذا الخوان ويروى في هذا المشور
فأسرها المنصور في نفسه ولم يبدها له إلى أن احتال عليه بما كان السبب في إتلاف
مهجته فكان المنصور بعد ذلك يدعو الشيخ أبا محمد فيجلسه على الرخام في زمان كلب
البرد وهيجانه من غير حائل وقد اتخذ المنصور فيما زعموا لبدة صوف داخل سراويله لا
يحس معها بالبرد فإذا
____________________
رآه أبو محمد جالسا معه تجلد
واستحيى أن يقوم عن السلطان ويتركه ويستمران على المذاكرة في مسائل العلم فعل ذلك
به أياما حتى سكنته علة البرد فلم يزل أبو محمد يشتكي من ذلك إلى أن قضت عليه
وأنكر هذا صاحب نشر المثاني ورده بتأخر وفاة ابن طاهر عن وفاة المنصور بأكثر من
ثلاثين سنة
وجواب أبي محمد هذا من النوع البياني المسمى بتلقي المخاطر بغير ما يترقب على ما
هو معروف في كتب الفن وإنما سأله المنصور لما مر من أن السعديين يزعمون أن جدهم
قدم من ينبع أيضا كما قدم جد العلويين والعلويون ينكرون ذلك كل الإنكار ويقولون
إنهم لم يجتمعوا معهم في قبيل ولا دبير
قال اليفرني لكن صحح لنا غير واحد من أشياخنا أن الشيخ ابن طاهر رجع عن ذلك
الإنكار وأن المنصور أطلعه بعد ذلك على ظهير فيه خط الإمام ابن عرفه وشيخه ابن عبد
السلام بثبوت نسبهم فاطمأنت نفس ابن طاهر لذلك فكان يصرح بصحة نسبهم بعد ذلك ويزجر
من يطعن فيه اه
قلت وهذا هو الصواب إذ مستند من يطعن في نسبهم عدم وضوحه ولا يلزم من عدم وضوحه
عدم ثبوته في نفس الأمر وإلا فيبعد أن يكون هؤلاء المنكرون قد اطلعوا على أحوال
عمود نسبهم وما اشتمل عليه من الآباء والأجداد من لدن مبدئه إلى منتهاه مع طول
المدة وتناسخ الأجيال فالتنقير عن ذلك عسير جدا ولذا وكل الشارع أمر الأنساب إلى
أهلها وجعلهم مصدقين فيها إذ لا تعرف غالبا إلا من قبلهم فهؤلاء السادة الزيدانيون
لو فرضنا أنهم ما كانوا ملوكا ولا بلغوا من الشهرة إلى حيث بلغوا ثم ادعوا هذا
النسب الكريم فلا سبيل لأحد أن يدفعهم عنه إلا بقاطع ولا قاطع كما علمت نعم
الحكاية المسوقة في سبب دخولهم إلى المغرب يظهر عليها أثر الصنعة والله أعلم بحقائق
الأمور
وأما تسميتهم بالسعديين فقد قال اليفرني إن هذه النسبة لم تكن لهم
____________________
في القديم ولا وقعت بها
تحليتهم في ظهائرهم ولا في سجلاتهم وصدور رسائلهم بل كانوا لا يقبلون ذلك ولا
يجترئ أحد على مواجهتهم به لأنه إنما يصفهم بذلك من يقدح في نسبهم ويطعن في شرفهم
ويزعم أنهم من بني سعد بن بكر كما قلنا وكثير من العامة وإخوانهم من الطلبة
يعتقدون أنهم إنما سموا بذلك لأن الناس سعدوا بهم ونحو ذلك مما لا معنى له اه
قلت وإنما نصفهم نحن بذلك لأنهم اشتهروا عند الخاصة والعامة به فصار كالعلم الصرف
المرتجل مع أنه لا محذور بعد تحقيق النسب وثبوت الشرف والله تعالى يلهمنا الصواب
بمنه وفضله الخبر عن دولة الأمير أبي عبد الله محمد القائم بأمر الله وبيعته
والسبب فيها
قال ابن القاضي درة السلوك لم يزل أسلاف السعديين مقيمين بدرعة إلى أن نشأ منهم
أبو عبد الله محمد القائم بأمر الله فنشأ على عفاف وصلاح وحج البيت الحرام وكان
مجاب الدعوة ولقي جماعة من العلماء الأعلام والصلحاء العظام في وفادته على الحرمين
الشريفين أخبرني بعض الفضلاء أنه لقي رجلا صالحا بالمدينة الشريفة على ساكنها أفضل
الصلاة والسلام فأشار له بما يكون منه ومن ولديه وكان قد رأى رؤيا وهي أن أسدين
خرجا من إحليله فتبعهما الناس إلى أن دخلا صومعة ووقف هو ببابها فعبرت له رؤياه
بأنه سيكون لولديه شأن وإنهما يملكان الناس ثم رجع إلى المغرب وهو معلن بالدعوة
فيقول في كل محفل إن ولديه سيملكان المغرب وسيكون لهما شأن من غير تردد منه ثقة
بخبر الرجل الصالح وبرؤياه المذكورة فما زال إلى أن قام سنة خمس عشرة وتسعمائة اه
وقال صاحب زهرة الشماريخ ما صورته إن سبب قيام أبي عبد الله القائم أن أهل السوس
أحاط بهم العدو الكافر ونزل بجوانبهم من كل جهة حتى أظلم الجو واستحكمت شوكة
البرتغال وبقي المسلمون في أمر مريج لعدم أمير تجتمع عليه كلمة الإسلام لأن بني
وطاس فشلت ريحهم يومئذ
____________________
في بلاد السوس وإنما كان لهم
الملك في حواضر المغرب ولم يكن لهم منه بالسوس إلا الاسم مع ما كانوا فيه من قتال
العدو بطنجة وآصيلا وحجر بادس وغيرها من ثغور بلاد الهبط فلما رأى قبائل السوس ما
دهمهم من تفاقم الأحوال وكثرة الأهوال وطمع العدو في بلادهم ذهبوا إلى الشيخ
الصالح أبي عبد الله محمد بن مبارك الأقاوي نسبة إلى آقة من بلاد السوس فذكروا له
ما هم فيه من افتراق الكلمة وانتشار الجماعة وكلب العدو على مباكرتهم بالقتال
ومراوحتهم وطلبوا منه أن يعقدوا له البيعة وتجتمع كلمتهم عليه فامتنع من ذلك وقال
إن رجلا من الأشراف بتاجمدارت من درعة يقول إنه سيكون له ولولديه شأن فلو بعثتم
إليه وبايعتموه كان أنسب بكم وأليق بمقصودكم فبعثوا إليه وكان من أمره ما كان
وقال اليفرني رأيت بخط الفقيه العلامة أبي زيد عبد الرحمن ابن شيخ الجماعة أبي
محمد عبد القادر الفاسي ما صورته ذكر لنا الوالد عن سيدي أحمد بن علي السوسي
البوسعيدي أن ابتداء دولة الشرفاء بالسوس أن بعض السادة وهو سيدي بركات توسط في
فداء بعض الأسارى وأراد أن يكون مع النصارى اتفاق على أن لا يحبسوا أسيرا فكلمهم
في ذلك فقالوا له حتى يكون لكم أمير فإن ملككم قد ذهب واضمحل قال ثم إن بعض أهل
السوس ساروا إلى قبيلة جسيمة يكتالون الطعام فأخذتهم جسيمة وأكلوا متاعهم وبضاعتهم
فذهبوا إلى شيخهم وكان ذا حزم وتدبير فرد عليهم كل ما ضاع لهم حتى لم يبق لهم شيء
فلما رجعوا إلى بلادهم قالوا إن هذا الشيخ الرئيس هو الذي يليق أن نبايعه فاجتمعوا
وأتوه وطلبوا منه أن يرأسهم فامتنع واحتاط لدينه واعتذر بتشويش هذا الأمر للدين
ودلهم على رجل شريف كان مؤذنا بدرعة فقال لهم إن كان ولا بد فاقصدوا الشريف
الفلاني
____________________
فإنه يذكر أن ولديه يملكان
المغرب فقصدوه وحملوه إلى بلادهم وبايعوه وفرضوا له من المؤنة ما يكفيه وأولاده
وبقي هنالك في نحر العدو
ويروى أنه لما بايعه أهل السوس ورأى قلة ما بيده مع أن الملك لا يقوم إلا بالمال
احتال بأن أمر أهل السوس أن يأتوه ببيضة لكل كانون فاجتمع له من ذلك آلاف من البيض
لا تحصى لأن الناس استهونوا أمر البيضة فلما اجتمع عنده البيض أمر أن كل من أتى
ببيضة يأتي بدلها بدرهم ففعلوا فاجتمع له من ذلك مال وافر فأصلح به شأنه وقوى به
جيشه وكانت تلك أول نائبة فرضت في دولة السعديين والله أعلم
وقال ابن القاضي إن الأمير أبا عبد الله القائم لما اجتمع بالشيخ ابن مبارك ببلده
آفة وذلك سنة خمس عشرة وتسعمائة على ما مر فاوضه في شأنه ثم عاد إلى مقره من درعة
ثم في سنة ست عشرة بعدها بعث إليه فقهاء الصامدة وشيوخ القبائل ودعوه إلى توليته
عليهم وتسليم الأمر إليه فلبى دعوتهم وجاء إلى قرية يقال لها تيدسي قرب تارودانت
فبايعه الناس بها وأصبحوا معه بقلوب متفقة وأهواء على الجهاد مجتمعة اه
وقد ساق منويل أولية هذه الدولة مساقا غريبا ولا يخلو عن فائدة فلنذكر منه ما يقرب
إلى الصحة ويكون كالشرح لما مضى أو يأتي من أخبار هذه الدولة قال
لما كان السلطان أبو عبد الله الوطاسي يعني البرتغالي أميرا بفاس ظهر في درعة رجل
شريف يعني أبا عبد الله محمدا القائم بأمر الله قال وكان هذا
____________________
الشريف من قراء القرآن ومن أهل
العلم والدين والفقر والخمول ولم يكن من بيت الرياسة وكان له اطلاع على تواريخ
قطره وعوائد جيله وأخلاقهم وطبائعهم ورأى ما وصل إليه ملك المغرب من الانحطاط
والضعف وتيقن أنه لا يصعب عليه تناوله فأعمل في ذلك فكره ومكره وصار يحض الناس على
القيام بأمور دينهم والامتعاض لها وكان قد بعث ثلاثة من أولاده وهم عبد الكبير
وأحمد ومحمد إلى الحجاز بقصد الحج وكانت لهم فصاحة ورجاحة ومعرفة بإدارة الكلام
فظهر لهم ناموس في تلك البلاد وأحبهم الناس لا سيما أحمد ومحمد ولما رجعا من مكة
أقاما بفاس وهي يومئذ دار الملك وترتب أحمد في مجلس بالقرويين لتدريس العلم فاكتسب
بذلك جاها وتقرب محمد إلى السلطان حتى صار مؤدبا لأولاده وبقيا على ذلك مدة وهما
في ذلك كله يتحببان إلى الناس ويسعيان في مذاهب الشهرة والبرتغال في أثناء ذلك ملح
على الثغور واستلابها من أهلها ولم تكن تقوم للمسلمين معه راية فدعا ذلك الأخوين
أحمد ومحمدا إلى أن ندبا السلطان وهو أبو عبد الله البرتغالي إلى المناداة في
الناس بالجهاد إظهارا للنصح وهما يسران حسوا في ارتغاء وقصدهما تفرقة الكلمة على
السلطان لا غير فاغتر السلطان بنصحهما وقال لهما لا أحد أولى منكما بالقيام بهذه
الوظيفة فأجاباه إلى ذلك عن توفر داعية وكمال رغبة فأرسلهما يناديان ويستنفران
الناس في نواحي المغرب إلى الجهاد ويحضان الناس عليه ويخطبان بذلك في المحافل
ويعظان وتتبعا الحواضر والبوادي وتقريا الأحياء والمداشر والقرى إلى أن وصلا إلى
درعة حيث أبوهما وأخوهما عبد الكبير فاجتمعا بهما وذاكراهما في أمرهما وأنهما قد
أشرفا على المراد وكادا يلجان الملك من بابه لأن أهل تلك البلاد كانوا سامعين لهم
من قبل اليوم فكيف بهم اليوم فحينئذ أخذ الأب وأولاده في نشر معايب الدولة للعامة
ويقررون ذلك بفصاحتهم ووجاهتهم وما أوتوه من القبول وعضدهم على ذلك شيوخ البلد
وتبعهم الناس واجتمعوا عليهم من كل جهة وصار حالهم ينموا شيئا فشيئا إلى أن
استبدوا على السلطان ولم يرجعوا إليه بعد
____________________
وقال في نشر المثاني كان السبب في قيام الشرفاء الزيدانيين واستبدادهم بملك المغرب
أن الحرب نشبت بين النصارى وأهل السوس ودامت وكان بنو وطاس يمدون أهل السوس بالمال
والعدد فاتفق أن خرج الشريفان محمد الشيخ وأخوه أحمد الأعرج للجهاد مع أهل السوس
فظهر مكانهما في الجهاد فلما وفدا على الوطاسي تلقاهما بالرحب وأقبل عليهما لأجل
قيامهما بالجهاد وأعطاهما عدة وخيولا كثيرة فرجعا إلى جهادهما ثم عادا إليه مرة
أخرى فأعطاهما مثل ذلك وكانت لهما وقائع في النصارى ونكاية وظهور وصارا يكتبان إلى
القبائل فيساعدونهما على ذلك حتى اجتمعت عليهم جموع عديدة فحينئذ خلعا طاعة
الوطاسي ودعوا لأنفسهما اه
قال منويل وكان أكثر شهرة أمرهم بالسوس الأقصى ودرعة وأعمالهما وصاروا يرفعون
إليهم زكواتهم وأعشارهم ثم بايعوهم ونهض هؤلاء الأشراف إلى تارودانت فاستولوا
عليها وحصنوها ثم زحفوا إلى آكادير لحرب البرتغال فقاتلوه مدة ولم يفتح لهم وكانوا
يشيعون أنهم لا قصد لهم إلا في الجهاد ومحاربة عدو الدين ومن هو سلم له من
المسلمين إذ لم يتأت لهم إذ ذاك التصريح بخلع السلطان
وفي سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة تجاوزوا جبل درن إلى بلاد حاحة والشياظمة ثم دخلوا
بسيطة عبدة وكان بآسفي رجل تنصر اسمه يحيى بن تافوت احتمى بالبرتغال من السلطان
وكان معروفا بالشجاعة واتصل خبره بطاغية البرتغال منويل فولاه على النصارى وعلى
أتباعه من المسلمين تأليفا له
ولما زحف الأشراف إلى بلاد عبدة كان بينهم وبين يحيى المذكور ونصاراه معركتان
شديدتان كان الظهور فيهما ليحيى لكن أبو العباس أحمد الأعرج تدارك أمره فورا وجمع
عسكرا آخر وخطبهم ووعظهم وزحف إلى يحيى المذكور ففضه وفض نصاراه إلى أن انجحروا
بآسفي وأغلقوه عليهم وأتيح لأحمد عليهم ما لم يتقدم لغيره فيهم فبذلك تأتى له أن
يتناول ملك المغرب
____________________
ولما اتصل خبر هذا الظهور له بالسلطان الوطاسي لم يعجبه ذلك وظهر له أن ما كان
أحمد وأخوه يحاولانه من أمر الجهاد لم يكن ظاهره كباطنه وحقق له ذلك ما فعلوه من
تحصين تارودانت مع ما كان لأبيهم من نفوذ الكلمة بالسوس
وكان في هذا التاريخ بمراكش وأعمالها عامل اسمه ناصر بوشتنوف وكان مستبدا على
الوطاسي ويبذل له شيئا تافها يتقيه به ولما مر به هؤلاء الأشراف في أول أمرهم
داعين إلى الجهاد أحسن إليهم غاية ولما أوقعوا وقعة آسفي أبرموا أمرهم مع ناصر أبي
شتنوف وأظهروا له المحبة والموالاة وطلبوا منه أن يظاهرهم على جهاد العدو وأن
يكونوا يدا واحدة وجندا واحدا عليه فأسعفهم وقدموا مراكش فدخلوها مرة ثانية وأحسن
إليهم وبعد أيام خرجوا به للصيد فسموه في خبز صغير يسمى القريشلات فهلك للحين وصفا
للأشراف مراكش وأعمالها إذا كان أهلها قد أحبوهم وشرهوا إليهم ولما تم لهم أمر
درعة والسوس ومراكش تسمى أحمد باسم الأمير واستخلف أخاه محمدا الشيخ
ولما اتصل الخبر بالوطاسي وأنهم استولوا على مراكش أقلقه ذلك ومن مكر أحمد أنه بعث
إليه يقول ما أنا إلا واحد من أعمالك وما كان يعطيه أهل هذه البلاد أبذله لك
مضاعفا ومع ذلك لم يطمئن إليه ثم هلك الوطاسي وولي مكانه ابنه أبو العباس أحمد
وانقسمت مملكة المغرب فصارت فاس للوطاسي ومراكش وأعمالها لأبي العباس الأعرج
وتارودانت والسوس ودرعة لمحمد الشيخ وأما عبد الكبير فإنه كان استشهد قبل هذا في
حرب البرتغال قرب آسفي
ولما رأى أبو العباس الوطاسي استفحال أمر الأشراف وأنهم أمسكوا عنه ما وعدوا
بأدائه لأبيه عزم على حربهم فجمع عسكرا عظيما وزحف إلى مراكش فتحصن أحمد الأعرج
بها وقدم عليه أخوه فظاهره على عدوه وفي أثناء حصاره الوطاسي لمراكش اتصل به الخبر
بأن أهل فاس قد قاموا عليه وبايعوا بعض إخوته فرجع إلى فاس وقبض على أخيه الثائر
عليه ثم كر إلى
____________________
مراكش بعسكر أعظم من الأول وفي
هذه المرة برز إليه الأشراف خارج البلد ثم تقدموا إليه فكان اللقاء على أبي عقبة
من تادلا ووقعت بينهم حرب هائلة لأن الوطاسيين كانوا يرون أن هذه الحرب هي الفيصل
بينهم وبين عدوهم والأشراف كذلك وحضر هذا الحرب أبو عبد الله ابن الأحمر سلطان
الأندلس المخلوع وأبلى بلاء حسنا حتى قتل وكان الظهور للأشراف ورجع الوطاسي مفلولا
إلى فاس وترك محلته بما فيها من مدافع وغيرها بيد عدوه وبعد هذه الوقعة استولى
الأشراف على تافيلالت وملكوا آكادير وآسفي وآزمور لأن البرتغال كانوا قد تخلوا
عنها ثم عن قريب حدث بين الأخوين النفرة وحاول رجال دولتهما الوفاق بينهما فلم
يتفقا وكانت الكرة على أحمد وفر ابنه زيدان الذي كان عضد أبيه في الحروب إلى
تافيلالت فاستولى عليها واقتطعها عن عمه محمد الشيخ ثم زحف الشيخ إلى فاس فحاصرها
إلى أن قبض على الوطاسيين وغربهم إلى درعة اه كلام منويل
ثم نرجع إلى سياقة الخبر عن هذه الدولة حسبما عند اليفرني وغيره أخبار الأمير أبي
عبد الله القائم في الجهاد وما هيأ الله له من النصر فيه
لما استتب أمر الأمير أبي عبد الله القائم واجتمعت كلمة القبائل السوسية عليه ندب
الناس إلى مقارعة البرتغال وجهاده ونفيه عن ثغور المغرب وبلاده وكانت معه يومئذ
جموع حافلة من المسلمين فصمدوا معه إلى النصارى وناوشوهم الحرب فأتاح الله للأمير
أبي عبد الله الفتح والنصر ونثر أثلاء الكفار بمخالب الظفر وأخرج حية الغي من
جحرها وأعاد كلمة الإسلام إلى مقرها فلما رأى المسلمون ذلك تيمنوا بطلعته وتفاءلوا
بطائره الميمون ونقيبته وزادهم ذلك محبة في جانبه وتعظيما في مكانته ولما فصل من
جهاده عاد إلى محله المذكور من تيدسي فوقع بينه وبين بعض الرؤساء هنالك منافرة أدت
إلى ارتحاله عنها وعوده إلى درعة فلم يزل مقيما
____________________
بها إلى سنة ثمان عشرة
وتسعمائة فرجع إلى مكانه من تيدسي واطمأنت به دارها وأزال الله عنه ما كان أزعجه
عنها والله غالب على أمره عقد الأمير أبي عبد الله القائم ولاية العهد لابنه أبي
العباس الأعرج رحمهم الله تعالى
قد تقدم لنا ما كان من أمر الرؤيا التي رآها الأمير أبو عبد الله القائم في شأن
ولديه وأنهما يملكان المغرب وفي معنى ذلك أيضا ما يحكى شائعا أن ولدي أبي عبد الله
المذكور وهما أبو العباس الأعرج وأبو عبد الله الشيخ كانا يقرآن في مكتب وهما
صبيان فدخل ديك فوثب على رأس كل منهما وصرخ فأول ذلك مؤدبهما بأنهما سيكون لهما
شأن فمن أجل هذا ونحوه كان والدهما يعلن بأن أمر المغرب صائر إليهما فلما قضى الله
ببيعته واجتماع الناس عليه واطمأنت به في البلاد السوسية الدار وطاب له بها المقام
والقرار ندب الناس إلى بيعة أكبر ولديه وهو الأمير أبو العباس أحمد المعروف
بالأعرج فبايعوه وكان ذلك مبدأ ظهور أمره على ما نذكره إن شاء الله تعالى انتقال
الأمير أبي عبد الله القائم إلى أفغال من بلاد حاحة ووفاته بها رحمه الله
ثم إن أبا عبد الله القائم وفد عليه أشياخ حاحة والشياظمة لما بلغهم من حسن سيرته
ونصرة لوائه فشكوا إليه أمر البرتغال ببلادهم وشدة شوكته واستطالته عليهم وطلبوا
منه أن ينتقل إليهم هو وولده ولي العهد المذكور فأجابهم إلى ذلك ونهض معهم هو
وابنه أبو العباس إلى الموضع المعروف بآفغال من بلاد حاحة وترك ولده الأصغر أبا
عبد الله الشيخ بالسوس يرتب
____________________
الأمور ويمهد المملكة ويباكر
العدو بالقتال ويراوحه واستمر الأمير أبو عبد الله القائم بمكانه من آفغال مسموع
الكلمة متبوع العقب إلى أن توفي به سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة ودفن هنالك بإزاء
ضريح الشيخ أبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي رضي الله عنه إلى أن نقل إلى
مراكش بنقل الشيخ المذكور على ما يأتي إن شاء الله الخبر عن دولة السلطان أبي
العباس أحمد الأعرج ابن الأمير أبي عبد الله القائم رحمه الله
كانت ولادة السلطان أبي العباس الأعرج فيما حققه ابن القاضي سنة إحدى وتسعين
وثمانمائة وبويع بولاية العهد من أبيه سنة ثمان عشرة وتسعمائة كما مر ولما توفي
أبوه في التاريخ المتقدم اجتمع الناس على بيعته من سائر الآفاق وآتوه طاعتهم عن
رضا منهم وإصفاق فاستقام أمره وصرف عزمه إلى تمهيد البلاد واقتناء الأجناد وتعبية
الجيوش إلى الثغور وشن الغارات على العدو في الآصال والبكور في أحواز تيلمست وآسفي
وغيرهما وكان النصارى قد خيموا بشاطئ البحر وعاثوا في تلك السواحل فأجلاهم عنها
وطهر تلك البقاع من رجسهم وأراح أهلها من شؤمهم ونحسهم وفي ذلك يقول البقاع مخلوف
بن صالح يمدحه
( فلله هذا الهاشمي وفضله ** فلولاه صال الكفر أعظم صولة )
____________________
دخول السلطان أبي العباس
الأعرج مراكش واستيلاؤه عليها
لما كان من إيقاع السلطان أبي العباس بنصارى السوس وانتصاره عليهم ما ذكرناه بعد
صيته وانتشر في البلاد ذكره وأهرع الناس إليه من كل جانب ودخلت في طاعته سائر
البلاد السوسية فعند ذلك كاتبه أمراء هنتاتة ملوك مراكش يخطبون أمره ويرومون
الدخول في طاعته فأجاب داعيهم وانتقل إلى مراكش فدخلها في حدود الثلاثين وتسعمائة
واستولى عليها وكان من أمره ما نذكره نقل الشيخ الجزولي رضي الله عنه من مدفنه
بآفغال إلى مراكش والسبب في ذلك
قد تقدم لنا في أخبار عمرو السياف أنه كان في ابتداء أمره من أصحاب الشيخ الجزولي
هذا وأنه لما توفي الشيخ المذكور جعل جثته في تابوت وصار يستنصر به في حروبه مدة
من عشرين سنة أو نحوها ثم دفن بعد ذلك بآفغال وتقدم لنا أن الأمير أبا عبد الله
القائم لما توفي دفنه ابنه أبو العباس بإزاء هذا الشيخ ثم لما ملك أبو العباس
المذكور مراكش نقل الشيخ الجزولي إليها ونقل أباه معه فدفنه بقربه أيضا
واختلف في سبب ذلك فقيل إن السلطان المذكور خاف أن يثور عليه أحد بتلك البلاد
فيستخرج الشيخ من ملحده وينتصر عليه به فنقله إلى مراكش ليأمن من ذلك وقيل إن
الحامل له على نقله أنه ذكر له أن تحته كنز فتعلل للنبش عنه بأنه قصد نقله إلى
الحضرة تبركا به والله أعلم وكان ذلك كله في حدود الثلاثين وتسعمائة
____________________
مجيء السلطان أبي عبد الله
الوطاسي إلى مراكش وحصاره للسلطان الأعرج بها ثم إقلاعه عنها
لما استولى السلطان أبو العباس الأعرج على مراكش وصفا له أمرها اتصل خبره بصاحب
فاس أبي عبد الله الوطاسي المعروف بالبرتغالي فأقبل في جموع عديدة مع وزيره ابن
عمه المسعود بن الناصر ويقال مع أخيه الناصر فلما رأى السلطان أبو العباس ما لا
قبل له به تحصن بمراكش وشحن أسوارها بالرماة والمقاتلة وزحف الوطاسي إلى الحضرة
فنصب الأنفاض عليها ووالى الرمي عليها أياما واشتد الأمر على الناس فكان من ذهابهم
إلى الشيخ الغزواني وخروجه إلى باب الخميس وقوله عند إصابة الرصاصة له أنها خاتمة
حربهم ما قدمناه في أخبار الوطاسيين مستوفى ثم كان اللقاء بعد ذلك بين الفريقين
إنما يكون في تادلا وأعمالها على ما مر والله أعلم خبر آسفي والثغور
رأيت في تواريخ الفرنج أن البرتغال خرجوا من آسفي سنة ألف وخمسمائة وثلاثين مسيحية
وهذا التاريخ يوافقه من سني الهجرة سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة وهي وسط دولة
السلطان أبي العباس وزعم هذا المؤرخ
____________________
أنهم خرجوا منها من قبل أنفسهم
ونقلوا جميع ما كان فيها من عدة وأثاث إلى الجديدة بعدما خربوها وأفسدوها وأوقدوا
فيها النار قال وبقيت اثنتي عشرة سنة وهي مخربة إلى أن أصلحها السلطان محمد الشيخ
يعني السعدي الآتي ذكره
وفي النزهة ما يقرب من هذا فإنه قال بعد ذكر إيقاع السلطان أبي العباس بنصارى
السواحل ما نصه ويقال إن النصارى لما رأوا ما فعل بمن كان منهم بالسوس من القتل
والسبي أخلوا ثغر آزمور ورباط آسفي وآصيلا من غير قتال ثم نقل هذا الخبر في محل
آخر عن ابن القاضي منسوبا إلى أبي عبد الله الشيخ وسيأتي ذكره في محله وأظن أن
الإخلاء كان متكررا والله أعلم وعلى كل حال فذكر آصيلا هنا غير مناسب إذ هي يومئذ
في جهة الوطاسيين وتخومهم فما بال نصاراها يخرجون فرارا منها خوفا من السعديين
وليسوا مجاورين لهم ولا متوقعين هجومهم عليهم ثم كان بعد هذا بين أبي العباس
السعدي وأبي العباس الوطاسي من الحرب والسلم ما تقدم بيانه كوقعة آنماي ووقعة أبي
عقبة وغيرهما مما لا فائدة في إعادته حدوث النفرة بين الأخوين السلطان أبي العباس
الأعرج ووزيره أبي عبد الله الشيخ وما نشأ عن ذلك
كان السلطان أبو العباس رحمه الله من الشهامة والصرامة واستفحال الأمر بالمحل الذي
وصفناه قبل وكان أخوه أبو عبد الله الشيخ أصغر سنا منه وكان تحت طاعته واقفا عند
إشارته وكان السلطان أبو العباس يستشيره في أموره ويفاوضه في مهماته ويستعين
بنجدته في الزحوف والمعارك ويستضيء برأيه في الحوادث الحوالك وكان الشيخ ثاقب
الذهن نافذ البصيرة مصيب الرأي حازما شهما فكانت كلمتهما واحدة وأمرهما
____________________
جميعا إلى أن دخل الوشاة
بينهما فأفسدوا قلوبهما وأفضى الحال إلى المصافة والمقاتلة وانقسم الجند حزبين
وانصرفت كل طائفة إلى متبوعها وصاحب أمرها وتقاتلا مدة وكانت جل القبائل السوسية
صاغية إلى الشيخ لما كان نشأ بين أظهرهم وسبروه من نجابته وكفايته منذ تركه أبوه
عندهم عند انتقاله إلى آفغال حسبما مر فاستفحل أمره وغلب على أخيه أبي العباس فقبض
عليه واستولى على ما بيده واجتمعت كلمة أهل السوس عليه ثم أودع أخاه وأولاده السجن
ووسع عليهم في الجرايات والنفقات وأصبح ملكا مستقلا بعد أن كان وزيرا وكان ذلك سنة
ست وأربعين وتسعمائة
وفي نشر المثاني أن قبض الشيخ على أخيه أبي العباس الأعرج كان سنة إحدى وخمسين
وتسعمائة والأول أصح ولم يزل السلطان أبو العباس وأولاده في حكم الثقاف إلى أن قتل
يوم مقتل أخيه الشيخ بعد ثمان عشرة سنة أو نحوها حسبما يأتي إن شاء الله وكانت
دولته من يوم بويع إلى أن قبض عليه أخوه ثلاثا وعشرين سنة وكان من حجابه محمد بن
علي الأنكراطي اليملالي ومحمد بن أبي زيد المنزاري ومن كتابه سعيد بن علي الحامدي
رحمهم الله أمر زيدان ابن السلطان أبي العباس وما كان منه
قال صاحب درة الحجال اختلف الناس هل بويع لزيدان بن الأعرج بعد وفاة أبيه أم لا
وقال شارح زهرة الشماريخ كان زيدان بن أبي العباس بسجلماسة وبويع له بها فلم يتم
أمره ونفي إلى أن توفي سنة ستين وتسعمائة
____________________
الخبر عن دولة السلطان أبي عبد
الله محمد المهدي المعروف بالشيخ ابن الأمير أبي عبد الله القائم بأمر الله
كانت ولادة السلطان أبي عبد الله محمد الشيخ سنة ست وتسعين وثمانمائة ويلقب بالشيخ
بآمغار وهو الشيخ بالبربرية ويلقب من الألقاب السلطانية بالمهدي لقبه به غير واحد
من أئمة عصره ونشأ في عفاف وصيانة وعني بالعلم في صغره وتعلق بأهدابه فأخذ عن
جماعة من الشيوخ وبلغ فيه إلى درجة الرسوخ فتح حصن فونتي وآسفي وآزمور وما قيل في
ذلك
لما استقل السلطان أبو عبد الله الشيخ بأمر السوس واجتمعت كلمته عليه صرف عزمه إلى
جهاد العدو الذي بثغوره وحصونه وأرهف حده لتطهيرها من بقايا شغبه وزبونه فانتصر
عليهم واستأصل شأفتهم وقطع من تلك النواحي دابرهم وحسم آفتهم
قال ابن القاضي كان الشيخ رحمه الله ماضي العزيمة قوي الشكيمة عظيم الهيبة كثير
الغزوات ذا همة عالية وشهامة عالية فعد قواعد الملك وأسس مبانيه وأحيى مراسم
الخلافة الدارسة ومعالمها الطامسة وكان له سعد وبخت عظيم في الجهاد ويد بيضاء في
الإسلام فتح حصن النصارى بالسوس يعني حصن فونتي بعد أن أقاموا فيه اثنتين وسبعين
سنة وكان منصورا بالرعب حتى تركوا له آسفي وآزمور وآصيلا من غير قتال ولا إيجاف
عليهم اه ونحوه في تاريخ البرتغاليين زاد مؤرخهم أن ذلك كان بإذن طاغيتهم صاحب
أشبونة وقد تقدم نحو هذا في أخبار الأعرج والجواب عنه وكان فتح فونتي سنة سبع وأربعين
وتسعمائة كما في النزهة وفتح آسفي سنة
____________________
ثمان وأربعين بعدها كما في
المرآة وعند البرتغاليين أن ذلك كان سنة ألف وخمسمائة واثنتين وأربعين مسيحية وهو
موافق لهذا التاريخ الهجري
وفي الدوحة لما أخلى النصارى آزمور تسارع إليها جماعة من الفقراء منهم الشيخ أبو
محمد عبد الله الكوش دفين جبل العرض من فاس والشيخ أبو محمد عبد الله بن ساسي دفين
تانسيفت قرب مراكش فقعدوا بها يحرسونها حتى يأتي مدد المسلمين ومن يعمرها منهم
مخافة أن يرجع إليها العدو فإذا به قد رجع واقتحمها عليهم وأسرهم إلى أن افتكهم
المسلمون
قال منويل كان فداؤهما بألفي ريال ومائتي ريال بالتثنية فيهما ولما افتدى الشيخ
الكوش وعزم على الخروج وكان أسيرا عند امرأة نصرانية ناولته كتبا للمسلمين وقالت
له هذه كتب كانت عندي ولا حاجة لي بها فخذها إليك فأخذها وخرج بها في قفة على رأسه
فكان من جملتها كتاب تنبيه الأنام الموضوع في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
فكان ذلك أول دخوله لهذه البلاد على يد الشيخ المذكور اه بناء حصن آكادير
قال الشيخ أبو العباس ابن القاضي في كتابه المنتقى المقصور كانت للأمير السلطان
أبي عبد الله الشيخ مآثر حسنه منها أنه أول من اختط مرسى آكادير بالسوس الأقصى سنة
سبع وأربعين وتسعمائة لما أجلى النصارى من الموضع المعروف بفونتي على مقربة من
آكادير المذكور وكان له في اختطاطه رأي مصيب وفراسة تامة اه
____________________
استيلاء السلطان أبي عبد الله
محمد الشيخ على مراكش وتجديد البيعة له بها
كان السلطان أبو عبد الله الشيخ بعد القبض على أخيه واستقلاله بالأمر قد أقام
بالبلاد السوسية مثابرا على جهاد العدو إلى أن قلع عروق مفسدته منها وكانت مراكش
في هذه المدة قد توقفت عن بيعته وتربصت عن الدخول في دعوته اتقاء للوطاسيين
وارتياء في أمره إلى ماذا يؤول واستمر الحال إلى سنة إحدى وخمسين وتسعمائة فانقادت
له حينئذ وبايعه أهلها فقدمها واستولى عليها وخلص له جميع ما كان بيد أخيه المخلوع
من تادلا إلى وادي نول والله غالب على أمره نهوض السلطان أبي عبد الله محمد الشيخ
لحرب بني وطاس واستيلاؤه على مكناسة وما اتفق له في ذلك
لما استولى السلطان أبو عبد الله محمد الشيخ على مراكش وصفت له أعمالها طمحت نفسه
للاستيلاء على بقية بلاد المغرب وأمصاره وقطع جرثومة الوطاسيين من سائر أقطاره
فجمع الجموع وتقدم بها إلى أعمال فاس فلم يزل يستفتحها بلدا بلدا ومصرا مصرا إلى
أن أتى عليها أجمع وكان أول ما ملك منها مكناسة الزيتون فإنه افتتحها عقب سنة خمس
وخمسين وتسعمائة بعد حصار وقتال كبير
____________________
حصار السلطان أبي عبد الله
الشيخ حضرة فاس ومقتل الشيخ عبد الواحد الوانشريسي رحمه الله
كان السلطان أبو عبد الله الشيخ قد ألح على فاس بالقتال وحاصرها حصارا طويلا ولما
عسر عليه أمرها بحث عن ذلك فقيل له لا سبيل لك إليها ولا يبايعك أهلها إلا إذا
بايعك ابن الوانشريسي يعنون الشيخ الفقيه أبا محمد عبد الواحد بن أحمد الوانشريسي
رحمه الله فبعث إليه السلطان المذكور سرا ووعده ومناه فقال له الشيخ عبد الواحد
بيعة هذا السلطان يعني أبا العباس الوطاسي في رقبتي ولا يحل لي خلعها إلا لموجب
شرعي وهو غير موجود وزعم بعضهم أن السلطان المذكور كتب إلى أهل فاس يقول لهم إني
إن دخلت فاسا صلحا ملأتها عدلا وإن دخلتها عنوة ملأتها قتلا فأجابه ابن الوانشريسي
بأبيات أغلظ له فيها منها قوله
( كذبت وبيت الله ما تحسن العدلا ** ولا خصك المولى بفضل ولا أولى )
كذا في النزهة قلت وهذا البيت من أبيات قديمة والوانشريسي إنما تمثل به لا غير فقد
ذكر العلامة ابن خلدون في أخبار بني صالح بن منصور الحميري أصحاب قلعة نكور لأول
الفتح أن عبيد الله المهدي العبيدي صاحب إفريقية لما تغلب على المغرب خاطب سعيد بن
صالح منهم يدعوه إلى أمره وكتب له في أسفل كتابه
( فإن تستقيموا أستقم لصلاحكم ** وإن تعدلوا عني أرى قتلكم عدلا )
( وأعلوا بسيفي قاهرا لسيوفكم ** وأدخلها عنوا وأملأها قتلا )
فأجابه سعيد بن صالح بأبيات من نظم شاعره الطليطلي نصها
____________________
( كذبت وبيت الله ما تحسن العدلا ** ولا علم الرحمن من قولك الفصلا )
( وما أنت إلا جاهل ومنافق ** تمثل للجهال في السنة المثلى )
( وهمتنا العليا بدين محمد ** وقد جعل الرحمن همتك السفلى )
فلعل الشيخ كتب لأهل فاس بالبيتين الأولين والوانشريسي كان مطلعا على القضية
فأجابه بجوابهما
ولما بلغ ذلك السلطان الشيخ حقد على الوانشريسي ودس إلى جماعة من المتلصصة بأن
يأخذوه ويأتوا به إلى محلته محبوسا من غير قتل وكان الشيخ عبد الواحد يقرأ صحيح
البخاري بجامع القرويين بين العشاءين وينقل عليه كلام ابن حجر في فتح الباري
ويستوفيه لأنه شرط المحبس فقال له ابنه يا أبت إني قد سمعت أن اللصوص أرادوا الفتك
بك في هذه الليلة فلو تأخرت عن القراءة فقال له الشيخ أين وقفنا البارحة قال على
كتاب القدر قال فكيف نفر من القدر إذا اذهب بنا إلى المجلس فلما افترق المجلس خرج
الشيخ عبد الواحد من باب الشماعين أحد أبواب المسجد المذكور فثار به اللصوص
وأرادوا حمله فأخذ بإحدى عضادتي الباب فضرب أحدهم يده فقطعها وأجهز عليه الباقون
فقتلوه بباب المسجد المذكور في السابع والعشرين من ذي الحجة سنة خمس وخمسين
وتسعمائة
قال الشيخ المنجور في فهرسته واشتهر عن الفقيه الصالح أبي عبد الله محمد بن
إبراهيم المدعو بأبي شامة أنه رأى الشيخ عبد الواحد في المنام بعد مقتله فسأله عن
حاله فأنشأ يقول
( لقد عمني رضوان ربي وفضله ** ولم أر إلا الخير في وحشة القبر )
( وإني أسأل الإله بفضله ** ليحفظني يوم الخروج إلى الحشر )
( وما بعد ذاك من أمور عسيرة ** كنشر الكتاب والمرور على الجسر )
____________________
استيلاء السلطان أبي عبد الله
الشيخ على فاس وقبضه على الوطاسيين وتغريبهم إلى مراكش
ثم إن السلطان أبا عبد الله الشيخ جد في حصار فاس وألح عليها بالقتال إلى أن ملكها
واحتوى عليها
قال في الدوحة لما ألح السلطان الشيخ بالحصار على فاس جاءه الشيخ أبو الرواين
المحجوب وقال له اشتر مني فاسا بخمسمائة دينار فقال له السلطان ما أنزل الله بهذا
من سلطان هذا شيء لم تأت به الشريعة فقال والله لا دخلتها هذه السنة فبقي أشهرا
والأمر لا يزداد إلا شدة فقال ابن السلطان وهو الأمير أبو محمد عبد القادر ابن
الشيخ لأبيه يا أبت افعل ما قال لك الشيخ أبو الرواين فإنه رجل مبارك من أولياء
الله تعالى ولم يزل به حتى أذن له في الكلام معه فكلمة الأمير عبد القادر فقال له
ادفع المال فدفعه إليه فقال له عند تمام السنة يقضي الله الحاجة وأمري بأمره
سبحانه ثم إن الشيخ أبا الرواين فرق المال من يومه ولم يمسك منه لنفسه حبة ومن ذلك
اليوم والسلطان المذكور في الظهور إلى أن انقضت السنة فدخل فاسا كما قال اه
وقال صاحب الممتع والشيخ أبو الرواين هو كان أحد الأسباب في تمكن السلطان المذكور
من الملك وإخراج بني وطاس عنه فإنه لما رأى اضطراب أمر الناس وهيجان النصارى على
المسلمين جعل ينادي يا حران جئ فإني قد أعطيتك الغرب وذلك قبل ظهور السعديين ولم
يكن الناس يدرون ما يقول حتى ظهر الحران وهو أحد أولاد السلطان أبي عبد الله الشيخ
وهو الذي كان يتقدم للحرب ولم يفتح والده من البلاد إلا ما فتح له على يده
وكان دخول السلطان الشيخ إلى فاس سنة ست وخمسين وتسعمائة ولما دخلها تقبض على
الوطاسيين أجمع وبعث بهم مصفدين إلى مراكش عدا
____________________
أبا حسون منهم فإنه فر إلى
الجزائر مستجيرا بتركها حسبما مر
وقال اليفرني لما دخل الشيخ حضرة فاس دخلها وعليه وعلى أصحابه الدراعات الصفر وسمة
البداوة لائحة عليهم فحملوا أنفسهم على التأدب بآداب الحاضرة والتخلق بأخلاقهم
يعني حتى رسخ فيهم ذلك والله أعلم نهوض السلطان أبي عبد الله الشيخ إلى تلمسان
واستيلاؤه عليها
قد قدمنا ما كان من استيلاء حسن بن خير الدين التركي على تلمسان وانقراض دولة بني
زيان منها سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة فلما فتح أبو عبد الله الشيخ حضرة فاس في
التاريخ المتقدم تاقت نفسه إلى الاستيلاء على المغرب الأوسط وكان يعز عليه استيلاء
الترك عليه مع أنهم أجانب من هذا الإقليم ودخلاء فيه فيقبح بأهله وملوكه أن
يتركوهم يغلبون على بلادهم لا سيما وقد فر إليهم عدو من أعدائه وعيص من أعياص
أقتاله وهو أبو حسون الوطاسي فرأى الشيخ من الرأي وإظهار القوة في الحرب أن يبدأهم
قبل أن يبدؤوه فنهض من فاس قاصدا تلمسان في جموعه إلى أن نزل عليها وحاصرها تسعة
أشهر وقتل في محاصرتها ولده الحران وكان نابا من أنيابه وسيفا من سيوفه ثم استولى
الشيخ على تلمسان ودخلها يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى الأولى سنة سبع
وخمسين وتسعمائة ونفى الترك عنها وانتشر حكمه في أعمالها إلى وادي شلف واتسعت خطة
مملكته بالمغرب ودانت له البلاد ثم كرت عليه الأتراك وأخرجوه من تلمسان فعاد إلى
مقره من فاس ثم عاود غزو تلمسان حين بلغه قيام رعاياها على الترك وانحصار الترك
بقصبتها فأقام مرابطا عليها أياما فامتنعت عليه وأقلع عنها ولم يعاود غزوها بعد
ذلك وخلص أمرها إلى الترك على ما نذكره
____________________
امتحان السلطان أبي عبد الله
الشيخ أرباب الزوايا والمنتسبين والسبب في ذلك
لما كانت سنة ثمان وخمسين وتسعمائة أمر السلطان أبو عبد الله الشيخ بامتحان أرباب
الزوايا والمتصدرين للمشيخة خوفا على ملكه منهم لما كان للعامة فيهم من الاعتقاد
والمحبة والوقوف عند إشاراتهم والتعبد بما يتأولونه من عباراتهم ألا ترى أن بيعة و
الده أبي عبد الله القائم لم تنعقد إلا بهم ولا ولج بيت الملك إلا من بابهم فامتحن
جماعة منهم كالشيخ أبي محمد الكوش فأخلى زاويته بمراكش وأمر برحيله إلى فاس
وفي الدوحة لما امتحن السلطان أبو عبد الله الشيخ زوايا المغرب قيل لأبي علي الحسن
بن عيسى المصباحي دفين الدعادع التي على وادي مضي من عمل القصر ألا تخشى من هذا
السلطان فقال إنما الخشية من الله ومع هذا فالماء والقبلة لا يقدر أحد على نزعهما
والباقي متروك لمن طلبه
وكان السلطان المذكور يطالب أرباب الزوايا بودائع أمراء بني مرين ويتهمهم بها وبعث
خديمه يوما إلى الشيخ أبي عثمان سعيد بن أبي بكر المشترائي دفين مكناسة يطالبه
بشيء من ذلك فوجده جالسا بناحية زاويته يضفر الدوم وإذا بطائر لعله اللقلاق سلح
أمامه فما رفع أبو عثمان بصره حتى سقط الطائر ميتا متطاير الريش فلما رأى الخديم
ذلك فزع وولى هاربا قاله في الممتع والله تعالى أعلم
____________________
وفادة الإمام أبي عبد الله
الخروبي من جانب دولة الترك في شأن قسم البلاد وتحديدها
لما كان من السلطان أبي عبد الله الشيخ ما كان من غزوه تلمسان مرتين وكان يحدث
نفسه بمعاودة غزو تلك البلاد عينت دولة الترك من جانبها الفقيه الصالح أبا عبد
الله محمد بن علي الخروبي الطرابلسي نزيل الجزائر ودفينها للوفادة على السلطان
المذكور في شأن عقد المهادنة وتحديد البلاد فقدم عليه الفقيه المذكور وهو بمراكش
سنة إحدى وستين وتسعمائة في هذا الغرض فأكرم السلطان أبو عبد الله وفادته إلا أنه
لم تظهر ثمرة لمقدمه
وفي المرآة أن أبا عبد الله الخروبي قدم المغرب الأقصى مرتين في سبيل السفارة بين
ملوك المغرب الأوسط والمغرب الأقصى فأخذ عنه كثير من أهل المغرب الأقصى وأخذ هو عن
الشيخ زروق رحمه الله وفي قدمة الخروبي هذه إلى مراكش أنكر على الشيخ أبي عمرو
القسطلي دفين رياض العروس من مراكش حلق شعر التائب الذي يريد الدخول في طريق القوم
وقال إنه بدعة فقالوا له إن الشيخ الجزولي كان يفعله فقال لهم لعله بإذن والإذن له
لا يعمكم فإن الإذن للنبي يعم أتباعه والإذن للولي لا يعم أتباعه وأنكر عليه مسائل
كثيرة وبعث إليه رسالة أقذع له فيها وقد وقفت عليها رحم الله الجميع بمنه وتوفي
الخروبي هذا سنة ثلاث وستين وتسعمائة ودفن خارج الجزائر والله أعلم
____________________
قدوم أبي حسون الوطاسي بجيش
التراك واستيلاؤه على فاس ونفيه الشيخ عنها
قد قدمنا ما كان من استيلاء السلطان أبي عبد الله على فاس سنة ست وخمسين وتسعمائة
وقبضه على بني وطاس وفرار أبي حسون إلى الجزائر فلم يزل أبو حسون عند تركها إلى أن
قدم بهم مع باشاهم صالح التركماني فاستولى على فاس ثالث صفر سنة إحدى وستين
وتسعمائة ونفى أبا عبد الله الشيخ عنها حسبما مر الخبر عنه مستوفى عود السلطان أبي
عبد الله الشيخ إلى فاس واستيلاؤه عليها
لما فر السلطان أبو عبد الله الشيخ من وقعة الترك بفاس ووصل إلى مراكش صرف عزمه
لقتال أبي حسون فاستنفر قبائل السوس وجمع الجموع وزحف إلى فاس فدارت بينه وبين
سلطانها أبي حسون حروب شديدة كان في آخرها الظفر للشيخ فقتل أبا حسون واستولى على
فاس وصفا له أمر المغرب وقد تقدمت هذه الأخبار مستوفاة في محلها وكان استيلاء
السلطان الشيخ على فاس يوم السبت الرابع والعشرين من شوال سنة إحدى وستين وتسعمائة
وفي الدوحة أن دخول أبي حسون لفاس كان سنة ستين وتسعمائة وعود السلطان الشيخ إليها
واستيلاؤه عليها كان في ذي القعدة سنة ستين أيضا والله تعالى أعلم
____________________
مقتل الفقيهين أبي محمد الزقاق
وأبي علي حرزوز والسبب في ذلك
لما استولى السلطان أبو عبد الله الشيخ على فاس في هذه المرة أمر بقتل الفقيه
الصالح قاضي الجماعة بفاس أبي محمد عبد الوهاب بن محمد ابن علي الزقاق لأنه اتهمه
بالميل إلى أبي حسون
ويحكى أنه لما مثل بين يديه قال له اختر بأي شيء تموت فقال له الفقيه اختر أنت
لنفسك فإن المرء مقتول بما قتل به فقال لهم السلطان اقطعوا رأسه بشاقور فكان من
حكمة الله وعدله في خلقه أن السلطان المذكور قتل به أيضا كما سيأتي
وفي كتاب خلاصة الأثر أن الشيخ الزقاق كان يقول من قتل سوسيا كان كمن قتل مجوسيا
فلما قبض عليه الشيخ قال له أنت زق الضلال فقال له لا والله بل أنا زق العلم
والهداية ثم قتله
وأمر أيضا بقتل خطيب مكناسة الزيتون الشيخ أبي علي حرزور المكناسي لكلام بلغه عنه
وأنه كان يذكره في خطبه ويحذر الناس من اتباعه والانقياد إليه ويقول في خطبته
جاءكم أهل السوس الأقصى البعاد ثم يذكر الشيخ ويقول { وإذا تولى سعى في الأرض
ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته
العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد } في كلام غير هذا وكان مقتل الفقيهين
المذكورين في ذي القعدة سنة إحدى وستين وتسعمائة
____________________
ترتيب السلطان أبي عبد الله
الشيخ أمر دولته وما قيل في ذلك
قال اليفرني كان السلطان أبو عبد الله الشيخ مولعا بتدبير أمر الرعية مستيقظا في
أموره حازما غير متوقف في سفك الدماء قال ويحكى أنه لما دخل فاسا دخلها وعليه وعلى
أصحابه سمة البداوة فحملوا أنفسهم على التأدب بآداب أهل الحاضرة والتخلق بأخلاقهم
وذكر أن ملك السعديين إنما تأنق على يد رجل وامرأة فأما الرجل فقاسم الزرهوني فإنه
رتب للسلطان أبي عبد الله الشيخ هيئة السلاطين في ملابسهم ودخولهم وخروجهم وآداب
أصحابهم وكيفية مثولهم بين أيديهم وأما المرأة فالعريفة بنت خجو فإنها علمته سيرة
الملوك في منازلهم وحالاتهم في الطعام واللباس وعاداتهم مع النساء وغير ذلك فاكتسى
ملك الشيخ بذلك طلاوة وازداد في عيون العامة رونقا وحلاوة بسبب جريانه على العوائد
الحضرية لأن أهل البادية مسترذلون في عيون أهل الحاضرة قالوا ولم يزل السلطان أبو
عبد الله الشيخ يدور على مدن المغرب وأمصاره ويطيل الإقامة بفاس
قال في المنتقى ومن مآثره أنه بنى جسر وادي سبو وجسر وادي أم الربيع وتقدم بناؤه
حصن آكادير والله تعالى أعلم وضع الوظيف المسمى في لسان العامة بالنائبة
قد تقدم لنا في صدر هذا الكتاب اختلاف العلماء في أرض المغرب هل فتحت عنوة أو صلحا
أو غير ذلك وعلى القول بأنها فتحت عنوة فهي خراجية كما هو مقرر في كتب الفقه وتقدم
لنا أيضا أن أول من وظف الخراج على أرض المغرب عبد المؤمن بن علي وتبعه بنوه على
ذلك وقفا نهجهم بنو مرين وفي الظهير الذي كتبه السلطان أبو زيان المريني لابن
الخطيب أيام مقامه بسلا شاهد بذلك ولما جاء السعديون من بعدهم سلكوا هذا السبيل
أيضا وقول اليفرني إن أبا عبد الله الشيخ أول من أحدث النائبة
____________________
بالمغرب يحمل على أنه أول من
أحدثها على الوجه الآتي بيانه وذلك أنه لما صفا للسلطان أبي عبد الله الشيخ أمر
المغرب واستأصل جرثومة بني وطاس منه التفت إلى ترتيب ملكه وتهذيب أعطافه وتأسيس
أمور دولته كما قلنا فمن ذلك أنه فرض على قبائل المغرب الضريبة المسماة في لسان
العامة بالنائبة ولم ينزه عنها شريفا ولا مشروفا حتى أرباب الزوايا والمنتسبين
ومنهم أولاد الشيخ أبي البقاء خالد المصمودي مع ما كان لأبيهم من الشهرة بالولاية
والصيت في بلاده وكان قدر هذه النائبة صحفة من الشعير وعشرين مدا من القمح لكل
نائبة وصاعا من السمن وكبشا لكل أربع نوائب وكانت تفرض في زمان الشيخ على الكوانين
وتوظف على حسب السكان وتدفع بأعيانها وجرى على ذلك ولده الغالب بالله وأخوه
المعتصم ولما جاء المنصور من بعدهم قوم تلك الأعيان بسعر الوقت وصارت تدفع دراهم
ثم ازداد ذلك إلى أن خرج الأمر عن القياس واتسع الخرق على الراقع والله لا يظلم
مثقال ذرة مراسلة السلطان سليمان العثماني للسلطان أبي عبد الله الشيخ وما نشأ عن
ذلك
قد قدمنا ما كان من غص السلطان أبي عبد الله الشيخ بمكان الترك من تلمسان والمغرب
الأوسط وأنه غزاهم مرتين وقدم الإمام أبو عبد الله الخروبي ساعيا في الهدنة فلم
يرجع بطائل وكان السلطان الشيخ يقول فيما زعموا لا بد لي أن أغزو مصر وأخرج الترك
من أحجارها وكان يطلق لسانه في السلطان سليمان العثماني ويسميه بسلطان الحواتة
يعني لأن الترك كانوا أصحاب أساطيل وسفر في البحر فأنهى ذلك إلى السلطان سليمان
فبعث إليه رسله فهذا سبب المراسلة على ما في النزهة
وأشبه منه بالصواب ما حكاه بعضهم قال لما بلغ خبر انقراض الدولة الوطاسية إلى
السلطان سليمان العثماني واستيلاء السعديين على ملك المغرب الأقصى كتب إلى الشيخ
يهنئه بالملك ويلتمس منه الدعاء له على منابر
____________________
المغرب وبعث إليه بذلك رسولا
في البحر فانتهى إلى الجزائر ومنها قدم إلى مراكش في البر ولما وصل إلى السلطان
أبي عبد الله الشيخ أنزله على كبير الأتراك في محلته صالح باي المعروف بالكاهية
وكان هؤلاء الأتراك قد انحاشوا إلى الشيخ من بقايا القادمين مع أبي حسون فضمهم
إليه وجعلهم جندا على حدة وسماهم اليكشارية بالياء ثم الكاف ثم الشين وهو لفظ تركي
معناه العسكر الجديد ولما قرأ السلطان أبو عبد الله الشيخ كتاب السلطان سليمان
ووجد فيه أنه يدعو له على منابر المغرب ويكتب اسمه على سكته كما كان بنو وطاس حمى
أنفه وأبرق وأرعد وأحضر الرسول وأزعجه فطلب منه الجواب فقال لا جواب لك عندي حتى
أكون بمصر إن شاء الله وحينئذ أكتب لسلطان القوارب فخرج الرسول من عنده مذعورا
يلتفت وراءه إلى أن وصل إلى سلطانه وكان من أمره ما نذكره قدوم طائفة الترك من عند
السلطان سليمان العثماني واغتيالهم للسلطان أبي عبد الله الشيخ رحمه الله
لما خرج رسول السلطان سليمان العثماني من عند السلطان أبي عبد الله الشيخ ووصل إلى
الجزائر ركب البحر إلى القسطنطينية فانتهى إليها واجتمع بالوزير المعروف عندهم
بالصدر الأعظم وأخبره بما لقي من سلطان المغرب فأنهى الوزير ذلك إلى السلطان
سليمان فأمره أن يهيئ العمارة والعساكر لغزو المغرب فاجتمع أهل الديوان وكرهوا
توجيهها واتفق رأيهم على أن عينوا اثني عشر رجلا من فتاك الترك وبذلوا لهم اثني
عشر ألف دينار وكتبوا لهم كتابا إلى صالح الكاهية كبير عسكر الشيخ ووعدوه بالمال
والمنصب إن هو نصح في اغتيال الشيخ وتوجيه رأسه مع القادمين عليه
وفي النزهة أن صالحا هذا كان من ترك الجزائر جاء في جملة
____________________
الطائفة الموجهين لاغتيال
الشيخ والله أعلم ثم دخل الوزير على السلطان سليمان واعتذر إليه عن توجيه العمارة
وقال هذا أمر سهل لا يحتاج فيه إلى تقويم عمارة وهذا المغربي الذي أساء الأدب على
السلطان يأتي رأسه إلى بين يديك فاستصوب رأيهم وشكر سعيهم وأمر بتوجيه الجماعة
المعينة في البحر إلى الجزائر ومنها يتوجهون إلى مراكش في البر ففعلوا ولما وصلوا
إلى الجزائر هيؤوا أسبابا واشتروا بغالا وساروا إلى فاس في هيئة التجار فباعوا بها
أسبابهم وتوجهوا إلى مراكش ولما اجتمعوا بصالح الكاهية أنزلهم عنده ودبر الحيلة في
أمرهم إلى أن توجهت له
وفي النزهة أن هؤلاء الأتراك خرجوا من الجزائر إلى مراكش مظهرين أنهم فروا من
سلطانهم ورغبوا في خدمة الشيخ والاستيجار به ثم إن صالحا الكاهية دخل على السلطان
أبي بعد الله الشيخ وقال يا مولاي إن جماعة من أعيان جند الجزائر سمعوا بمقامنا
عندك ومنزلتنا منك فرغبوا في جوارك والتشرف بخدمتك وليس فوقهم من جند الجزائر أحد
وهم إن شاء الله السبب في تملكها فأمره بإدخالهم عليه ولما مثلوا بين يديه رأى
وجوها حسانا وأجساما عظاما فأكبرهم ثم ترجع له صالح كلامهم فأفرغه في قالب المحبة
والنصح والاجتهاد في الطاعة والخدمة حتى خيل إلى الشيخ أنه قد حصل على ملك الجزائر
فأمره بإكرامهم وأن يعطيهم الخيل والسلاح ويكونوا يدخلون عليه مع الكاهية كلما دخل
فكانوا يدخلون عليه كل صباح لتقبيل يده على عادة الترك في ذلك
وصار الشيخ يبعث بهم إلى أشياخ السوس مناوبة في الأمور المهمة ليتبصروا في البلاد
ويعرفوا الناس وكان يوصي الأشياخ بإكرام من قدم عليهم منهم واستمر الحال إلى أن
أمكنتهم فيه الفرصة وهو في بعض حركاته بجبل درن بموضع يقال له آكلكال بظاهر
تارودانت فولجوا عليه خباءه ليلا على حين غفلة من العسس فضربوا عنقه بشاقور ضربة
أبانوا بها رأسه واحتملوه في مخلاة ملؤوها نخالة وملحا وخاضوا به أحشاء الظلماء
وسلكوا طريق درعة وسجلماسة كأنهم أرسال تلمسان لئلا يفطن بهم أحد من
____________________
أهل تلك البلاد ثم أدركوا ببعض
الطريق فقاتلت طائفة منهم حتى قتلوا ونجا الباقون بالرأس وقتل مع الشيخ تلك الليلة
الفقيه مفتي مراكش أبو الحسن علي بن أبي بكر السكتاني والكاتب أبو عمران الوجاني
ولما شاع الخبر بأن الترك قتلوا السلطان واستراب الناس بجميع من بقي منهم بالمغرب
أغلق إخوانهم الذين كانوا بتارودانت أبوابها واقتسموا الأموال واستعدوا للحصار
ولما بويع ابنه الغالب بالله وقدم من فاس نهض في العساكر إلى تارودانت للأخذ بثأر
أبيه من الترك الذين بها فحاصرهم مدة ولما لم يقدر منهم على شيء أعمل الحيلة بأن
أظهر الرحلة عنهم وأشاع أنه راجع إلى فاس لثائر قام بها ولما أبعد عنهم مسيرة يوم
خرجوا في اتباعه ليلا والعيون موضوعة عليهم بكل جهة إلى أن شارفوا محلة السلطان
الغالب بالله فعطف عليهم ولما لم يمكنهم الرجوع إلى تارودانت تحيزوا إلى الجبل
وبنوا به قياطنهم وجعلوا عليها المتارزات من الأحجار وتحصنوا بها وأحاطت بهم
العساكر من كل جهة فقاتلوا إلى أن فنوا عن آخرهم ولم يؤخذ منهم أسير وقتلوا من
محلة الغالب بالله ألفا ومائتين وأما الذين نجوا بالرأس فانتهوا إلى الجزائر
وركبوا البحر منها إلى القسطنطينية فأوصلوا الرأس إلى الصدر الأعظم وأدخله على
السلطان سليمان فأمر به أن يجعل في شبكة نحاس ويعلق على باب القلعة فبقي هنالك إلى
أن شفع في إنزاله ودفنه ابناه عبد الملك المعتصم وأحمد المنصور حين قدما
القسطنطينية على السلطان سليم بن سليمان مستعديين له على ابن أخيهما المسلوخ كما
يأتي وكان مقتل الشيخ رحمه الله يوم الأربعاء التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة
أربع وستين وتسعمائة ولما بلغ خبر مقتله إلى خليفته بمراكش القائد أبي الحسن علي
بن أبي بكر آزناك بادر بقتل أبي العباس الأعرج المخلوع وأولاده ذكورا وإناثا كبارا
وصغارا خشية أن يخرجه أهل مراكش فيبايعوه ولما قتلوا لم يتجرأ أحد على دفنهم فبقوا
مصرعين حتى دفنهم الشيخ أبو عمرو القسطلي الولي الشهير بمقربة من ضريح الشيخ
الجزولي وهي القبة التي قرب الضريح المذكور تسمى قبور الأشراف وأما السلطان أبو
عبد الله الشيخ
____________________
فإنهم حملوا جثته إلى مراكش
فدفنت بها قبلي جامع المنصور بروضة السعديين وقبره شهير بها إلى الآن ومما نقش على
رخامة قبره هذه الأبيات
( حي ضريحا تغمدته رحمات ** وظلت لحده منها غمامات )
( واستنشقن نفحة التقديس منه فقد ** هبت من الخلد لي منها نسيمات )
( بحر به كورت شمس الهدى فكست ** من أجلها السبعة الأرضين ظلمات )
( يا مهجة غالها غول الردى قنصا ** وأثبتت سهمها فيها المنيات )
( دكت لموتك أطواد العلا صعقا ** وارتج من بعدك السبع السموات )
( وشيعت نعشك المزجى إلى عدن ** من الملائك ألحان وأصوات )
( يا رحمة الله عاطيه سلاف رضا ** تدور منها عليه الدهر كاسات )
( قضى فوافق في التاريخ منه حلى ** دار إمام الهدى المهدي جنات ) بقية أخبار
السلطان أبي عبد الله الشيخ وسيرته
كان السلطان أبو عبد الله محمد الشيخ يلقب من الألقاب السلطانية بالمهدي ونشأ في
عفاف وصيانة وعني بالعلم في صغره وتعلق بأهدابه فأخذ عن جماعة من الشيوخ وبلغ فيه
درجة الرسوخ حتى كان يخالف القضاة في الأحكام ويرد عليهم فتاويهم فيجدون الصواب
معه وقع ذلك منه مرارا وله حواش على التفسير وذلك مما يدل على غزارة علمه
وقال في المنتقى كان السلطان أبو عبد الله الشيخ رحمه الله أديبا متفننا حافظا
حدثني شيخنا أبو راشد أنه كان ممتع المجالسة والمذاكرة نقي الشيبة عظيم الهيبة ما
رأيت بعد شيخي أبي الحسن علي بن هارون أحفظ منه للمقطعات الشعرية وكثيرا ما ينشد
( الناس كالناس والأيام واحدة ** والدهر كالدهر والدنيا لمن غلب )
وكان حافظا للقرآن فهما جدا حافظ لصحيح البخاري ويستحضر ما للناس عليه ويقول في
شرح ابن حجر ما صنف في الإسلام مثله عارفا بالتفسير وغيره وكان يحفظ ديوان المتنبي
عن ظهر قلب وكان يحض على
____________________
المشاورة ويقول لا سيما في حق
الملوك وينشد قول المتنبي
( ومن جهلت نفسه قدره ** رأى غيره منه ما لا يرى )
وكان يقول ينبغي للملك أن يكون طويل الأمل فإن طول الأمل وإن كان لا يحسن من غيره
فهو منه صالح لأن الرعية تصلح بطول أمله وكان يقول من طول أمله أخذ تلمسان وسبتة
وغيرهما انتهى
وقوله إنه كان يحفظ ديوان المتنبي سببه ما ذكره في الدوحة قال أخبرني الوزير
المعظم أبو عبد الله محمد بن الأمير أبي محمد عبد القادر بن السلطان أبي عبد الله
محمد الشيخ الشريف قال لما غدرت قبيلة المنابهة بجد السلطان المذكور وأنجاه الله
من غدرتهم عرف الشيخ أبا محمد عبد الله ابن عمر بذلك فكتب إليه يقول أين أنت من
قول أبي الطيب المتنبي
( غاض الوفاء فما تلقاه في عدة ** وأعوز الصدق في الإخبار والقسم )
قال فعكف السلطان المذكور على ديوان المتنبي حتى حفظه كله ولم يعزب عنه بيت واحد
اه وابن عمر المذكور هو أحد أشياخ السلطان المذكور وهو أبو محمد عبد الله بن عمر
المضغري الفقيه الفرضي الحاسب فقيه درعة وعالمها وكان قد وفد على السلطان المذكور
أيام كونه بالسوس ولما عاد إلى درعة سأله فقهاؤنا كيف وجدت أهل السوس فقال وجدت
فقهاءهم على ضعيف الفتاوي وفقراءهم على عظيم الدعاوي وعامتهم على كثير المساوي
ومن أشياخ السلطان المذكور الإمام الشهير شيخ الجماعة بالصقع السوسي أبو الحسن علي
بن عثمان الثاملي ذكره في المنتقى وأثنى عليه ومن أشياخه علامة فاس ومحققها أبو
عبد الله محمد بن أحمد اليستني أخذ عنه علوما منها التفسير قال المنجور وكنت أنا
قارئه بين يدي أمير المؤمنين أبي عبد الله الشيخ المذكور وكان شديد المحبة له قال
ولما
____________________
توفي الفقيه المذكور وذهبت مع
ولده صبيحة تلك الليلة التي توفي بها لنخبر السلطان بوفاته وجدناه يقرأ ورده بحمام
المريني فخرج السلطان إلينا وهو يبكي بصوت عال يفزع من سمعه حتى رأينا منه العجب
وما سكت إلا بعد مدة لما كان يعلم منه من صحة الدين والنصح لخاصة المسلمين وعامتهم
وحضر جنازته وكانت وفاته رحمه الله سنة تسع وخمسين وتسعمائة وللسلطان المذكور عدة
أشياخ غير هؤلاء
ومن وزرائه الرئيس أبو الحسن علي بن أبي بكر آصناك الحاحي وأبو عمران موسى بن أبي
جمدي العمري وغيرهم
ومن قضاته بفاس أبو الحسن علي بن أحمد الخصاصي وبمراكش أبوالحسن علي بن أبي بكر
السكتاني رحم الله الجميع
وكان للسلطان أبي عبد الله الشيخ عدة أولاد نجباء ومن أنجبهم أبو عبد الله محمد
المعروف بالحران القتيل على تلمسان ومنهم أبو محمد عبد الله الغالب بالله وأبو
مروان عبد الملك الغازي وأبو العباس أحمد المنصور وهؤلاء الثلاثة ولوا الأمر بعد
أبيهم ومنهم الوزير أبو محمد عبد القادر وتوفي في حياة أبيه سنة تسع وخمسين
وتسعمائة
وفي نشر المثاني أنه قتل مخنوقا بأمر أخيه عبد الله الغالب بالله سنة خمس وسبعين
وتسعمائة فالله أعلم ومنهم عثمان وعبد المؤمن وعمر وغيرهم
قال المنجور في فهرسته حضرت يوما مجلس أمير المؤمنين أبي عد الله الشيخ وقد حضر
عنده أولاده الصناديد الأمراء المولى محمد الحران والمولى عبد القادر والمولى عبد
الله فدخل شيخنا الإمام أبو عبد الله اليستني فلما نظر إليهم حول أبيهم أنشد بيت
تلخيص المفتاح
( فقلت عسى أن تبصريني كأنما ** بنى حوالي الأسود الحوارد )
فأعجب ذلك السلطان وأولاده رحمة الله عليهم
____________________
الخبر عن دولة السلطان أبي
محمد عبد الله الغالب بالله ابن السلطان محمد الشيخ رحمه الله
كانت ولادة السلطان أبي محمد عبد الله الغالب بالله كما رأيته مرقوما على الرخامة التي
على قبره في رمضان سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة وكان رحمه الله أدعج العينين مستدير
الوجه عريضه أسيل الخدين مشرف الوجنتين ربعة للقصر ونشأ في عفاف وصيانة وحفظ
القرآن وأخذ بطرف صالح من العلم وكان ولي عهد أبيه وكان يلقب من الألقاب السلطانية
بالغالب بالله لقبه به غير واحد من الأئمة ولما وافته الأنباء بمقتل أبيه وهو بفاس
بايعه أهلها ولم يتخلف عن بيعته منهم أحد
وذكر صاحب زهرة الشماريخ أن الفقيه الميقاتي المعدل بمنار القرويين أبا عبد الله
المزوار وكان بصيرا بعلم الأحكام والحدثان بينما هو ذات ليلة يرقب الطالع والغارب
وقد ابهار الليل واسود ديجوره رأى طالع السلطان الشيخ قد سقط وكانت بينه وبين ابنه
أبي محمد عبد الله وصلة فأسرع في الذهاب إليه ليخبره بما رأى فلما بلغ باب فاس
الجديد وجده مغلقا فاستأذن الموكلين به في فتحه فأبوا فقال لهم إني جئت إلى
الخليفة يعني خليفة السلطان في أمر مهم عنده وإن لم تعلموه بمكاني الساعة لحقكم
منه غدا ما تكرهون فأنذروا الخليفة المذكور به فحمل إليه وسأله عن قضيته فأخبره
بما رأى ونعى إليه أباه فلم يكذب في ذلك وتهيأ واستعد فلم تمض إلا أيام قلائل حتى
وافته الأنباء بمقتل أبيه في تلك الساعة التي قال له المعدل المذكور فصادفه الحال
على أهبة واستعداد ولما بلغ أهل مراكش مبايعة أهل فاس له وافقوا عليها فاستوسق له
الأمر وتمهد له ملك أبيه وكان ذلك كله في المحرم سنة خمس وستين وتسعمائة
____________________
مجيء حسن بن خير الدين التركي
إلى فاس ورجوعه منهزما عنها
قال ابن القاضي لما ولي السلطان أبو محمد عبد الله الغالب بالله الخلافة اشتغل
بتأسيس ما بيده وتحصينه بالعدد والعدة ولم تطمح نفسه إلى الزيادة على ما ملك أبوه
من قبله
وفي سنة خمس وستين وتسعمائة في جمادى الأولى منها غزاه حسن بن خير الدين باشا
التركي صاحب تلمسان في جيش كثيف من الأتراك فخرج إليه السلطان الغالب بالله
فالتقيا بمقربة من وادي اللبن من عمالة فاس فكانت الدبرة على حسن فرجع منهزما يطلب
صياصي الجبال إلى أن بلغ إلى باديس وكانت يومئذ للترك ورجع الغالب بالله إلى فاس
لكنه لم يدخلها لوباء كان بها يومئذ ولما رجع من حركته هذه أمر بقتل أخيه عثمان
لأمر نقمه عليه فقتل في السنة المذكورة والله تعالى أعلم بناء جامع المواسين بحضرة
مراكش والبركة المتصلة به والمارستان وغير ذلك
قال اليفرني وفي عشرة السبعين وتسعمائة أنشأ السلطان الغالب بالله جامع الأشراف
بحومة المواسين من مراكش والسقاية المتصلة به التي عليها مدار المدينة المذكور
والمارستان الذي ظهر نفعه ووقف عليه أوقافا عظيمة قلت وهذا المارستان هو الذي
بحومة الطالعة قرب السجن وقد اتخذ اليوم سجنا للنساء قال وهذا السلطان هو الذي جدد
أيضا بناء المدرسة التي بجوار جامع ابن يوسف اللمتوني وليس هو الذي أنشأها كما
يعتقده كثير من الناس بل الذي أنشأها أولا هو السلطان أبو الحسن المريني رحمه الله
حسبما ذكره ابن بطوطة في رحلته وشاع على الألسنة أن السلطان الغالب بالله توصل إلى
بنائها بصناعة الكيمياء وأن الشيخ أبا العباس أحمد بن موسى السملالي علمه إياها
حين تلمذ له كما سيأتي
قال اليفرني وهو كذب فإن المنقول عن الشيخ المذكور إنكارها
____________________
وما كان ليفتح على مسلم بابا
عظيما من أبواب الفتنة وسببا بليغا من أسباب المحنة لأن هذه الحرفة من أعظم أبواب
الفتن وقد أجمع أرباب البصائر على التحذير من تعاطيها لوجوه ثلاثة أولها إنها من
المستحيلات كما ذكره ابن سيناء مستدلا عليه بقوله تعالى { لا تبديل لخلق الله }
وكما أنه ليس في قدرة المخلوق أن يحول القرد إنسانا والذئب غزالا كذلك ليس في
قدرته أن يصير الرصاص فضة والنحاس ذهبا يعني لأن ذلك من باب قلب الحقائق وهو محال
ولقد تناظر رجلان فيها فقال مجوزها أتنكر ما تشاهده في الصبغ وتصيير الجسد الأحمر
أصفر والأبيض أسود فقال مانعها لا أنكر ذلك لأن الصبغ ليست تغيير أصل وإنما أنكر
أن ثوب الصوف الأبيض ترده صناعة الصبغ قطنا أو حريرا أحمر أو أخضر وأما الصبغ فلا
شك أن النحاس يصير أبيض ولا يخرجه ذلك عن أصله ولا يسلب عنه اسم النحاس بل يقال
فيه نحاس أبيض كما لا يسلب صبغ الصوف عنه اسم الصوف ثانيها سلمنا أنها جائزة
الوجود لكنها معدومة في الخارج كما ذهب إليه أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله إذ
قال ثلاث متفق على وجودها في الغالب وقد اتفق على عدم رؤيتها أهل المشارق والمغارب
الكيمياء والعنقاء والغول وأخبارها كلها على وجه السماع والإسنادات وحكايتها
كالموضوعات عن العجماوات والجمادات ثالثها سلمنا أنها موجودة في الخارج لكنه يحرم
تناولها والبيع والشراء بها
وقد سئل عنها الشيخ أبو إسحاق التونسي رحمه الله فقيل له أحلال هي إذا كانت خالصة
فقال لو دبر النحاس أو غيره من الأجساد حتى صار ذهبا خالصا لا شك فيه فمتى لم يقل
بائعه لمبتاعه هذا كان نحاسا أو جسدا من الأجساد فدبرته حتى صار ذهبا كما ترى لكان
غاشا مدلسا قال ومتى ذكره لم يشتر أحد منه ذلك بفلس ويقول فكما دبرته حتى صار ذهبا
فكذلك يدبره غيرك حتى يرجع إلى أصله فمن لم يبين فيها فهو داخل
____________________
في قوله صلى الله عليه وسلم من
غشنا فليس منا فتكون صناعتها حراما وقيل لبعض الفضلاء لم لم تتعلل بهذه الصناعة
فإنها تسلي الخاطر فقال قيل للحمار لم لم تجتر فقال أكره مضغ الباطل وأنشد
( فقلت لأصحابي هي الشمس ضوءها ** قريب ولكن في تناولها بعد )
اه ما نقله اليفرني ملخصا مهذبا وهو الحق الذي لا عوج فيه ولا أمت ثم قال وبالجملة
فما شاع عن السلطان الغالب بالله من ذلك لا أصل له ولقد كان أهل الورع يجتنبون
الصلاة في جامع الأشراف بعد ما بنى مدة ويقال إن موضع ذلك الجامع كان مقبرة لليهود
والله تعالى أعلم فتح مدينة شفشاون وانقراض أمر بني راشد منها
تقدم أن مدينة شفشاون حرسها الله بناها بنو راشد من شرفاء العلم وكانوا أهل جهاد
ومرابطة على العدو ببلاد غمارة والهبط ولما توفي مختطها الأمير أبو الحسن علي بن
موسى بن راشد بقيت بيد أولاده يتولون رياستها قال في المرآة ولم يزالوا فيها بين
سلم وحرب إلى أن حاصرهم بها الوزير أبو عبد الله محمد بن عبد القادر ابن السلطان
محمد الشيخ السعدي بجيوش عمه السلطان أبي محمد عبد الله الغالب بالله وصاحب شفشاون
يومئذ الأمير الفاضل أبو عبد الله محمد ابن الأمير أبي الحسن علي بن موسى بن راشد
فلما اشتد عليه الحصار خرج فيمن إليه من أهله وولده وقرابته وصعدوا الجبل المطل
على شفشاون في مسلك وعر صحبتهم فيه السلامة وذلك ليلة الجمعة الثاني من صفر سنة
تسع وستين وتسعمائة وساروا إلى ترغة فركبوا منها البحر يوم الجمعة تاسع الشهر
المذكور واستقر الأمير أبو عبد الله بالمدينة المنورة إلى أن مات بها رحمه الله
____________________
حصار البريجة المسماة اليوم
بالجديدة
قد قدمنا ما كان من بناء البرتغال لمدينة الجديدة وتحصينهم لها بما فيه كفاية
وكانت غارات المسلمين المجاورين لهم لا تنقطع عنهم وكذلك هم سائر مقامهم بها ولما
كانت سنة تسع وستين وتسعمائة جهز إليها السلطان الغالب بالله جيشا كثيفا واستنفر
لها قبائل الحوز وعقد عليهم لابنه محمد المعروف بالمسلوخ قتيل وادي المخازن وكان
يومئذ ابن عشرين سنة على ما قيل واستوزر له القائد المجاهد الشاعر الفاضل أبا زيد
عبد الرحمن بن تودة العمراني وجعل إليه أمر الحرب وابن السلطان صورة فزحف إليها
وحاصرها أربعة وستين يوما وملك بعض أسوارها ولم يقض الله بفتحها
وفي النزهة ذكر أن القائد ابن تودة دخل البريجة التي قرب آزمور وأخذ أسوارها وعزم
على أن يستأصل في الغد بقيتها ولا يبقي للكفر بها أثرا فكتب إليه السلطان الغالب
بالله ينهاه عنها فتراجع النصارى إليها بعد أن ركبوا البحر عازمين على الجلاء عنها
اه
وقد وقفت في التاريخ البرتغالي الموضوع في أخبار الجديدة واسم مؤلفه لويز مارية
على أخبار هذا الحصار وقد استوعبها وبسطها وتتبع الوقائع فصلا فصلا ويوما يوما
وأتى من ذلك بما يزيد على الكراسة فكان من جملة ما قال إنه لما عزم السلطان الغالب
بالله على غزوهم وأخذ في تجهيز الجيوش إليهم أتاهم بعض المتنصرة قال وهو عبد أسود
فأخبرهم بأن السلطان مستعد لحربهم وكانوا عازمين على التوثق من هذا الجاسوس فأفلت
منهم فعلموا أن إظهاره للتنصر كان مكيدة ثم أخذوا في الاستعداد واشتروا من عند
قائد آزمور ألفي سيف هكذا زعم قال وفي اليوم الرابع من مارس سنة ألف وخمسمائة
واثنتين وستين مسيحية وصلت جموع المسلمين إلى حوز الجديدة وهذا التاريخ موافق
للتاريخ العربي الذي قدمناه قال فكانت خيل المسلمين نحو ثلاثين ألف والرماة ضعف
ذلك وكان فيهم عسكر الترك المعروف بالبلدروش وكانوا يومئذ جندا للسعديين وكان معهم
____________________
عشرون مدفعا عشرة كبيرة وعشرة
صغيرة وفيها واحد أعظم من الجميع يسمى ميمونا وكان معهم العلم الكبير الأبيض
ورايات أخر ملونة وتقدموا إلى الجديدة فحاصروها حصارا شديدا وحاربوها حربا هائلة
وصف هذا المؤرخ ذلك كله وصفا كاشفا وكانت الجديدة يومئذ في غاية الحصانة والمناعة
فلم يتمكن المسلمون من النصارى على ما ينبغي وأرسل الترك عليهم أنواع الحراقيات
وملكوا المتارزات التي كانت حول السور بعد أن هلكت عليها نفوس من الفريقين ثم صنع
النصارى للمسلمين عندها مينا البارود مرتين ففي الأولى كانت المينا تسعة براميل
نفط منهن سبعة فأهلكت خلقا من المسلمين والنصارى وفي الثانية كانت تسعة عشر برميلا
أمام السور فنفطت بالمسلمين وأتلفت منهم عددا فبعضهم طار في الهواء وبعضهم تحت
التراب
وكان رماة المسلمين ينالون منهم نيلا عظيما واعترف النصارى لهم بجودة الرمي بحيث
كانوا كلما ظهر منهم عسكري على السور اختطفته رصاصة في أخير موضع من بدنه من الرأس
أو الصدر
قال لويز المؤرخ ولقد قدم في بعض الأيام من أشبونة كبير من كبراء جندهم فقال لهم
أروني كيف قتالكم لهؤلاء المسلمين وكيف مصافتكم لهم قال فما ظهر برأسه على السور
ليرى محلة المسلمين حتى أصابته رصاصة نثرت دماغه كأن صاحبها كان ينتظره وكان ذلك
بنفس نزوله من البحر قبل أن يذهب إلى منزله فعوضه منه المسلمون القبر قال فما كان
النصارى بعدها يقدرون أن يظهروا على السور إلا في النادر ولما طال عليهم الحصار
ندب كبيرهم جماعة منهم للخروج إلى السواحل البعيدة عن محلة المسلمين لعلهم يظفرون
بأسير منهم يستكشفونه عن خبر الجيش المحاصر لهم هل هو مرتحل أو مقيم وما مدة
الإقامة قال فخرجوا في فلك لهم ليلا وساروا حتى بلغوا ساحل طيط وهي يومئذ خالية
وكان بقربها محلة لقائد آسفي فلما طلع الفجر تقدموا إلى البر وأرسوا فلكهم إلى
جانب بعض الأحجار هنالك بحيث يخفى على المارين بالساحل ثم كمنوا هنالك فلما كان
وقت الإسفار إذا برجل من محلة آسفي أتى على فرسه إلى
____________________
شاطئ البحر لبعض حاجاته فلم
يرعه إلا النصارى قد أحدقوا به وأخذوا بلجام فرسه وجعل بعضهم فم مكحلته في صدره
فلم يملك المسلم من نفسه شيئا ثم أنزلوه عن الفرس وساقوه إلى الفلك أسيرا ولججوا
به في البحر ولما بعدوا عن البر شيئا ما رمى أحدهم الفرس برصاص فقتله ثم أسرعوا
إلى الجديدة فدخلوها واجتمع النصارى على المسلم وهو كالمبهوت بينهم ثم سألوه عن
خبر الجيش المحاصر لهم فأخبرهم بأنهم يناجزونهم بعد هذا مرة أخرى أو مرتين فإن لم
يظفروا بهم ارتحلوا عنهم فكان كذلك قال وكان ارتحال المسلمين من الجديدة في سابع
مايه العجمي من السنة المذكورة فعمل النصارى لذلك عيدا وأحدثوا في كنائسهم صلوات
لم تكن قبل وذلك بإشارة باباهم صاحب رومة
ومما حكاه هذا البرتغالي فيما كان يجري بين أهل آزمور وبينهم من الحرب وذلك بعد
هذا الحصار بمدة يسيرة أنه كان بآزمور امرأة حسناء وخطبها رجل من أهل البلد سماه
لويز إلا أنه لم يحسن النطق به لعجمته وأظنه اسمه الميلودي لأن الحروف التي ذكر
تقرب منه قال فامتنعت عليه فراودها أياما واشتد كلفه بها فلم تزدد عليه إلا تمنعا
فبعث إليها ذات يوم يرغبها في نفسه ويدلي عليها بمآثره التي من جملتها الشجاعة حتى
قال لها وإن شئت أن آتيك برأس أعظم نصراني بالجديدة وأشجعه فعلت ولعلها كانت
موتورة لهم فقالت له إن أتيتني به تزوجتك فذهب الرجل المذكور إلى قائد آزمور ولم
يسمه لويز وعرض عليه أن يكتب إلى كبير نصارى الجديدة وصاحب رأيهم بأن يعين من
جانبه رجلا من شجعانهم
____________________
ليبارزه إن شاء فأجابه القائد
إلى مراده وذهب الرسول بالكتاب حتى وقف على نحو غلوة من المدينة وهذا الموضع هو
الذي كانت تقف فيه رسل آزمور إذا قدمت لغرض فخرج إليه البريد من عند صاحب الجديدة
وحاز الكتاب ورجع به إلى صاحبه فلما قرأه أحضر جماعة من وجوه جنده وعرض عليهم ما
فيه فقام رجل منهم وقال أن صاحبه وهذا الرجل سماه لوزير وقال كان ابن ثلاثين سنة
كامل القامة ممتلئ الأعضاء أسمر اللون كثير شعر البدن أسود اللحية وكان برأسه جرح
لم يندمل من وقعة كانت بينهم وبين أهل أزمور قبل ذلك فكتب صاحب الجديدة إلى قائد
آزمور إنا قد أجبناك إلى ما دعوت وقد أعجبنا ذلك وها نحن قد عينا لصاحبك قرنه
فلتعينوا لنا اليوم والساعة التي تكون فيها الملاقاة فاتفقا على يوم معلوم وفي ذلك
اليوم سار قائد آزمور في أصحابه ووجوه أهل بلده ومعهم الرجل المذكور إلى الجديدة
فانتهوا إلى الموضع الذي جرت العادة أن يقف فيه المسلمون وخرج قائد النصارى في
جماعته وشرطوا للمبارزة وكيفتها شروطا منها أن تبعد كل جماعة من صاحبها بخمسين
خطوة ولا يلتقي إلا المتبارزان وحدهما بمرأى من الفريقين ومنها أن مساحة الموضع
الذي يكون فيه مجالهما خمسون شبرا وسطا من الفريقين وإن من خرج عن هذا المحل منهما
ولو قيد شبر كان رقا للآخر وأعطوا خطوطهم بذلك ولما حان وقت البراز خرج عدلان من
جانب المسلمين حتى انتهيا إلى النصراني ففتشاه لينظرا ما عليه من السلاح وما معه
لأن من جملة الشروط أن لا يتبارزا إلا بالسيف والرمح فقط فلم يجدا مع النصراني
سواهما قال لويز وكان صاحبهم المذكور يحسن الضرب بكلتا يديه فشرط عليه العدلان أن
لا يقاتل إلا باليمين فرضي ثم خرج شاهدان من جانب النصارى حتى انتهيا إلى المسلم
ففتشاه فلم يجدا عنده سوى السيف والرمح أيضا غير أنه قد علق على ذراعه تمائم كثيرة
مخروزة في الجلد فقال له الشاهدان لا بد أن تنزع
____________________
هذه التمائم لأن صاحبنا ليس
عنده شيء من هذا وأيضا فيمكن أن تقيك هذه التمائم بعض الوقاية فقال لهم لا أنزعها
لأن مثل هذا لا يتقى به في الحرب ولا يغني في الظاهر من السيف والرمح شيئا وإنما
فيها أسماء الله ولا يحسن بي أن أطرحها في هذه الحالة التي أنا مشرف فيها على
الموت فيكون ذلك سوء أدب مني مع اسم الله تعالى وربما يكون سببا في خذلاني فرجع
النصرانيان إلى قائدهما وأخبراه بالقضية فقال لا بد من نزعها فعادا إليه وزعم لويز
أن المسلمين وافقوا على نزعها وقال له العدلان إن الحق مع النصارى لأنا كشفنا
صاحبهم كشفا تاما وراوده القائد أيضا فأصر على الامتناع معتذرا بما سلف ولما لم
يحصلوا على طائل رجع المسلمون إلى بلدهم ولم يكن براز قال لويز وعد النصارى ذلك
غلبا وجعلوا يصيحون ويخرجون البارود قال وكان سور الجديدة مكسوا بالنساء والصبيان
واغتاظ قائد آزمور فسجن المسلم المذكور لكونه جر هذه المذلة على المسلمين
قلت من تأمل وأنصف علم أن الفشل إنما هو من جانب النصارى لأن تلك التمائم من حيث
الظاهر لا تغني شيئا وكون بركتها تقيه من ضربات السيف وطعنات الرمح فهذا لا يعتقده
النصارى بل ولا يسلمونه فلم يبق إلا الفشل والتعلل بما لا اعتبار به عند العقلاء
ثم قال لويز وقد كانت بين المسلمين والنصارى بعد ذلك وقائع فأبلى فيها ذلك المسلم
البلاء الحسن وعرف محله من الشجاعة اه والحق ما شهدت به الأعداء وإنما أثبت هذه
الحكاية بطولها لغرابتها ولما اشتملت عليه من خلال الفتوة ومنازع النخوة الإيمانية
فنسأله سبحانه وتعالى أن يعلي منار الدين ويكبت كيد الجاحدين والمعتدين آمين
وفي سنة سبعين وتسعمائة ولى السلطان الغالب بالله الفقيه أبا مالك عبد الواحد بن
أحمد الحميدي قضاء فاس فطالت مدته
____________________
وفادة السلطان الغالب بالله
على الشيخ أبي العباس أحمد بن موسى السملالي رضي الله عنه
حكى صاحب الممتع أن السلطان أبا محمد عبد الله الغالب بالله قال للأستاذ أبي عبد
الله الترغي إني أجد في نفسي إرادة وطلبا للشيخ فامض فاطلب لي شيخا فذهب يطوف على
مشايخ المغرب وكانوا إذ ذاك متوافرين حتى أتى على الشيخ أبي العباس أحمد بن موسى
الجزولي ثم السملالي فوجده شيخا جليلا سنيا متواضعا زاهدا ظاهر الورع حسن الأخلاق
باهر الكرامات واضح الطريقة جامعا لمحاسن الخلال والأوصاف فرجع إليه وجعل يصف له
كل من رأى من المشايخ بما ظهر له فيه حتى أتى على الشيخ المذكور فقال وهو ولي ثم
ولي ثم ولي ثم ولي سبعا فقال له كأنك تدلني عليه وأنه مطلوبي وأنه المقدم على غيره
فقال له لا أدلك عليه ولا عندي ما أعرفه به تقديمه غير أن هذا الذي ظهر لي فأزمع
السلطان الغالب بالله الرحلة إليه فلما بلغ الشيخ المذكور مجيء السلطان إليه خرج
يتلقاه وقد هيأ له النزل وما يصلحه وأعد له ما يناسبه من الأطعمة الرفيعة النفيسة
وقدم إليه الثمر الجيد واللبن الحليب ولما خرج للقائه أتاه بعضهم بفرس وكان من
عادته أن لا يركب وإذا أتاه أحد بمركوب لا يرده عليه بل يستصحبه معه ويعلفه له حتى
يرجع ففعل ذلك ولقي السلطان ورجع به معه وأنزله عنده فمكث في ضيافته ثلاثة أيام ثم
طلب منه أن يتخذه وسيلة إلى الله تعالى وسأله مع ذلك تمهيد الملك واعتذر إليه بأنه
لا يمكنه العيش بدونه ولا يأمن على نفسه ولا تؤويه أرض إذا هو تخلى عنه فقال الشيخ
يا عرب يا بربر يا سهل يا جبل أطيعوا السلطان مولاي عبد الله ولا تختلفوا عليه ثم
بعد الثلاث انصرف السلطان إلى محله فبقي مدة وهو مسكن ممهد الملك في عافية
____________________
ثم أتى الترك إلى بوغاز طنجة
وسبتة فخافهم وتشوش منهم كثيرا ولم يهنأ له عيش فجعلت حاشيته يهونون عليه أمرهم
فقال دعوني منكم حتى أستقي من رأس العين ثم أبرد بريدا إلى الشيخ فلما انتهى إليه
سمعه يقول يا ترك ارجعوا إلى بلادكم ويا مولاي عبد الله هناك الله في بلادك
بالعافية فتقدم الرسول وسلم على الشيخ وبلغه سلام السلطان ثم انقلب من فوره بعد ما
ورخ وقت سماع مقالته فلما بلغ إلى السلطان أخبره بما كان من الشيخ من تلك المقالة
وما كان منه من التاريخ وأقاموا ينتظرون ما يكون فإذا الخبر قد ورد على السلطان
بأن الترك قد ارتحلوا وانصرفوا إلى بلادهم وإذا ارتحالهم كان وقت مقالة الشيخ
المذكورة
ثم إن الشيخ قدم مراكش في بعض الأيام زائرا من كان بها من أهل الله تعالى فرغب
إليه السلطان الغالب بالله أن يدخل داره هو وأصحابه ويصنع لهما طعاما وشرط على
نفسه أن لا يطعمهم إلا الحلال ولا يطعمهم ما فيه شبهة وحلف للشيخ على ذلك فأسعفه
ولما حضر الطعام وضع الشيخ يده عليه ولم يصب منه فلما خرج قيل له مالك لا تتناول
من طعام السلطان وقد حلف أن لا يطعمكم إلا الحلال فقال له من أكل طعام السلطان وهو
حلال أظلم قلبه أربعين يوما ومن أكله وفيه شبهة مات قلبه أربعين سنة اه
ومما ينخرط في هذا السلك أن السلطان المذكور كان له اعتقاد في الشيخ أبي عمرو
القسطلي وكان يعظمه غاية وكانت عنده مظلة له من سعف النخل يتقي بها الحر تبركا بها
ولما توفي الشيخ أبو عمرو المذكور وذلك يوم الجمعة منتصف شوال سنة أربع وسبعين
وتسعمائة حضر السلطان المذكور جنازته وحثا التراب على قبره بيده
ومن أخبار السلطان المذكور أن الشيخ أبا محمد عبد الله بن حسين المغاري كان ظهر
بمراكش وكثرت الجموع عليه وقصده الناس من كل جهة فأرسل إليه السلطان المذكور إما
أن تخرج عني أو أخرج عنك فقال
____________________
الشيخ ابن حسين بل أنا أخرج
وخرج من فوره إلى تامصلوحت فكان من أمره ما كان استيلاء النصارى على حجر باديس
والسبب في ذلك
قد تقدم لنا في أخبار الوطاسيين أن النصارى بنوا حجر باديس واستولوا على وهران سنة
أربع عشرة وتسعمائة واستمروا بهما إلى أن انتزعهما الترك من أيديهم ولما كانت دولة
السلطان الغالب بالله وطمع الترك في الاستيلاء على المغرب الأقصى أغرى السلطان
المذكور النصارى بالاستيلاء على الثغور الهبطية وسد أنقابها دونه
قال في النزهة ذكر بعضهم أن السلطان الغالب بالله لما رأى عمارة ترك الجزائر
وأساطيلهم لا ينقطع ترددها عن حجر باديس ومرسى طنجة يعني البوغاز وتخوف منهم اتفق
مع الطاغية أن يعطيه حجر باديس ويخليها لهم من المسلمين فتنقطع بذلك مادة الترك عن
المغرب ولا يجدوا سبيلا إليه فنزل النصارى على حجر باديس وأخرجوا المسلمين منها
ونبشوا قبور الأموات وحرقوها وأهانوا المسلمين كل الإهانة ولما بلغ خبر نزولهم
عليها لولده محمد وكان خليفته على فاس خرج بجيوشه لإغاثة المسلمين فلما كان بوادي
اللبن بلغه استيلاؤهم عليها فرجع وتركها لهم اه
وذكر اليفرني أنه وجد هذه الأخبار في أوراق مجهولة والله تعالى أعلم
____________________
فتنة الفقيه أبو عبد الله
الأندلسي ومقتله
كان الفقيه أبو عبد الله محمد الأندلسي نزيل مراكش متظاهرا بالزهد والصلاح حتى
استهوى كثيرا من العامة فتبعوه وكانت تصدر عنه مقالات قبيحة من الطعن على أئمة
المذاهب رضي الله عنهم ينحو فيها منحى ابن حزم الظاهري ويتفوه بمقالات شنيعة في
الدين فأمر السلطان الغالب بالله بقتله فاستغاث بالعامة من أتباعه واعصوصبوا عليه
ووقعت فتنة عظيمة بمراكش بسببه إلى أن قتل وصلب على باب داره برياض الزيتون من
المدينة المذكورة وكان ذلك أواسط ذي الحجة من سنة ثمانين وتسعمائة ظهور بدعة
الشراقة من الطائفة اليوسفية وما قيل فيهم
قال في الدوحة كان الشيخ أبو العباس أحمد بن يوسف الراشدي نزيل مليانة تظهر على
يده الكرامات وأنواع الانفعلات فبعد صيته وكثرت أتباعه فغلوا في محبته وأفرطوا
فيها حتى نسبه بعضهم إلى النبوة قال وفشا ذلك الغلو على يد رجل ممن صحب أصحابه
يقال له ابن عبد الله فإنه تزندق وذهب مذهب الإباضية على ما حكى عنه واعتقد هذا
المذهب الخسيس كثير من الغوغاء وأجلاف العرب وأهل الأهواء من الحواضر وتعرف هذه
الطائفة باليوسفية قال ولم يكن اليوم بالمغرب من طوائف المبتدعة سوى هذه الطائفة
وسمعت بعض الفضلاء يقول إنه قد ظهر ذلك في حياة الشيخ أبي العباس المذكور فلما
بلغه ذلك قال من قال عنا ما لم نقله يبتليه الله بالعلة والقلة والموت على غير ملة
____________________
قال صاحب الدوحة ولقد أشار الفقهاء على السلطان الغالب بالله بالاعتناء بحسم مادة
فساد هذه الطائفة فسجن جماعة منهم وقتل آخرين وهؤلاء المبتدعة ليسوا من أحوال
الشيخ في شيء وإنما فعلوا كفعل الروافض والشيعة في أئمتهم وإنما أصحاب الشيخ كأبي
محمد الخياط والشيخ الشطيبي وأبي الحسن علي بن عبد الله دفين تافلالت وأنظارهم من
أهل الفضل والدين وإلا فالأئمة المقتدى بهم كلهم يعظم الشيخ ويعترف له بالولاية
والعلم والمعرفة اه
وقال في المرآة ما نصه والشيخ أبو العباس أحمد بن يوسف الراشدي الملياني من كبار
المشايخ أهل العلم والولاية وعموم البركات والهداية وكان كثير التلقين فقال له
الشيخ أبو عبد الله الخروبي أهنت الحكمة في تلقينك الأسماء للعامة حتى النساء فقال
له قد دعونا الخلق إلى الله فأبوا فقنعنا منهم بأن نشغل جارحة من جوارحهم بالذكر
قال الشيخ الخروبي فوجدته أوسع مني دائرة
قال صاحب المرآة وانتسبت إليه الطائفة المعروفة بالشراقة بتشديد الراء وهو بريء من
بدعتهم فما كان إلا إمام سنة وهدى مقتدى به في العلم والدين قد نزهه الله وطهر
جانبه وقد أظهروا شيئا من ذلك في حياته فتبرأ منهم وقاتلهم وبلغ المجهود في
تشريدهم قال وحدثني شيخنا أبو عبد الله النيجي أن الشيخ أبا البقاء عبد الوارث
اليالصوتي لما ظهرت بدعة الشراقة وانتسابهم إليه وقع في نفسه من ذلك شيء فقيل له
إن الشيخ أبا محمد الخياط من أصحابه فقال أنا تائب إلى الله كفى في طهارة جانبه أن
يكون الخياط من أصحابه وكانت وفاة الشيخ الملياني سنة سبع وعشرين وتسعمائة لكن ما
كان عنفوان تلك البدعة المدسوسة عليه إلا في دولة السلطان الغالب بالله كما مر
والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء
____________________
احتيال النصارى بمكيدة البارود
بجامع المنصور من مراكش وما وقى الله تعالى من شرها
كان بقصبة مراكش جماعة من أسارى النصارى من لدن أيام أبي العباس الأعرج وأخيه أبي
عبد الله الشيخ فرأوا الجم الغفير من أعيان المسلمين وأهل الدولة يحضرون كل جمعة
للصلاة مع السلطان بجامع المنصور من القصبة المذكورة فحدثتهم نفسهم الشيطانية بأن
يصنعوا مكيدة يهلكون بها السلطان ومن معه فحفروا في خفية تحت الجامع المذكور حفرة
ملأؤها من البارود ووضعوا فيها فتيلا تسري فيه النار على مهل كي ينقلب الجامع
بأهله وقت الصلاة فنفطت المينا وانهدت بها القبة الواسعة من الجامع المذكور وانشق
مناره شقا كبيرا ولا زال ماثلا به إلى الآن وكان ذلك مبلغ ضررهم وكفى الله
المسلمين شر تلك المكيدة ولم يتمكن لهم الحال على وفق ما أرادوا وكان ذلك سنة إحدى
وثمانين وتسعمائة وفاة السلطان أبي محمد عبد الله الغالب بالله رحمه الله
قال الشيخ أبو العباس ابن القاضي في شرح درة السلوك توفي السلطان أبو محمد عبد
الله الغالب بالله يوم الجمعة الثامن والعشرين من رمضان سنة إحدى وثمانين وتسعمائة
بسبب غم كان يعتريه اه وهذا الغم هو الداء المسمى عند العامة بالضيقة أعاذنا الله
منه وذكر غيره أنه توفي في شوال بسبب تكلفه للصيام فعدت عليه العلة المذكورة وشاع
على ألسنة الناس أنه بات يصلي ليلة سبع وعشرين من رمضان فوافته ميتته وهو ساجد
وذلك كذب ودفن رحمه الله عند ضريح أبيه بقبور الأشراف وقبره معروف ومما كتب بالنقش
على رخامة قبره هذه الأبيات
( أيا زائري هب لي الدعاء ترحما ** فإني إلى فضل الدعاء فقير )
____________________
( وقد كان أمر المؤمنين وملكهم ** إلى وصيتي في البلاد شهير )
( فها أنا ذا قد صرت ملقى بحفرة ** ولم يغن عني قائد ووزير )
( تزودت حسن الظن بالله راحمي ** وزادي بحسن الظن فيه كثير )
( ومن كان مثلي عالما بحنانه ** فهو بنيل العفو منه جدير )
( وقد جاء إن الله قال ترحما ** إلى ما يظن العبد بي سيصير )
وحكى أنا ابنه أبا عبد الله المعروف بالمسلوخ لما قرأ هذه الأبيات عاقب ناظمها
وقال له إن في قولك ملقى بحفرة دسيسة وتلويحا إلى الحديث ( القبر روضة من رياض
الجنة أو حفرة من حفر النار ) فهلا قلت ببلقع أو نحوه بقية أخبار السلطان الغالب
بالله وسيرته
كان السلطان أبو محمد عبد الله الغالب بالله ذا سياسة وخبرة بأحوال الملك وتأن في
الأمور ولما ولي الخلافة ألان الجانب وخفض الجناح وسار بسيرة حسنة حتى صلحت الرعية
وازدانت الدنيا وانتعش الناس حتى كان يقال ثلاث عينات هم عيون الزمان السلطان
المولي عبد الله والشيخ أبو محمد عبد الله بن حسين المغاري والشيخ أبو السرور عياد
السوسي
قال اليفرني ورأيت من جملة سؤال كتب به الفقيه الصالح خطيب الجامع الأعظم
بتارودانت أبو زيد عبد الرحمن التلمساني إلى قاضي الجماعة أبي مهدي عيسى بن عبد
الرحمن السكتاني يقول فيه ولا شك أن مولاي عبد الله مجمع على عدالته وبيعته وقد
أخبرني الثقة من أصحاب الشيخ الجامع أبي العباس أحمد بن موسى السملالي أنه قال
مولاي عبد الله ياقوتة الأشراف هو صالح لا سلطان وقد اشتهر بين الأنام وعلى ألسنة
الخاص والعام أن السلطان الغالب بالله كان عدلا صالحا ووقع في الرسالة
____________________
التي كتب بها ابن أخيه السلطان
أبو المعالي زيدان بن منصور إلى الفقيه أبي زكرياء يحيى بن عبد الله بن سعيد بن
عبد المنعم الحاحي ما ظاهره يخالف ذلك ويؤذن بأنه كان كغيره من الملوك ونص المحتاج
إليه من تلك الرسالة مخاطبا للفقيه المذكور يقول وقد تحققت وعلمت أن ولاية أحمد بن
موسى السملالي كادت تكون قطعية واشتهر أمره عند الخاص والعام حتى أطبق أهل المغرب
على ولايته وقد كان على عهد مولانا عبد الله برد الله ضريحه وكان المولى المذكور
على ما كان عليه واشتهر عنه وما برح الشيخ المذكور يدعو له ولدولته بالبقاء ويظهر
حبه وكان المولى المذكور يعزل ويولي ويقتل وكان شرد منه إلى زاويته المرابط
الأندلسي وولد آصناك وأمثالهم وكان الشيخ يقدم للشفاعة فيشفع ولا يتعقب ولا يبحث
عما وراء ذلك باق على عهده ومودته وكان المولى المذكور بعث لابن حسين بسد داره فما
فتحها حتى أمره ولا استعظم أحد ذلك ولا أكثر فيه ولا جعله سببا لفتح الفتنة وكان
قواد المذكور مثل وزيره ابن شقراء وبعد الكريم بن الشيخ وعبد الكريم بن مؤمن العلج
والهبطي والزرهوني وعبد الصادق بن ملوك وغيرهم ممن لا يحضرني ذكرهم لبعد عصرهم قد
انغمسوا في شرب الخمور واتخاذ القيان وبسط الحرير وغير ذلك من آلات الفضة والذهب
وكان في عصره أحمد بن موسى المذكور وابن حسين والشرقي وأبو عمرو القسطلي وأبو محمد
بن إبراهيم التامنارتي والشيظمي وغير هؤلاء من المشايخ وأهل الدين الذين لا يسع من
يدعي هذه الطريقة التقدم عليهم ولا اكتساب الفضيلة دونهم فأحسنوا السيرة ولا
تعرضوا للسلطنة ولا سمع منهم ما يقدح في ولاة الأمر وقادة الأجناد ممن ذكر الذين
كان الملك يدور عليهم ويرجع إليهم في تدبيره اه القدر المحتاج إليه من الرسالة
المذكورة
قال اليفرني ومثل هذا ما ذكر بعضهم أن السلطان الغالب بالله أعطى حجر باديس
للطاغية لتنقطع بذلك مادة الترك عنه ومثله ما ذكر عنه أيضا أن قائده ابن تودة أخذ
بعض أسوار الجديدة وعزم على فتحها من الغد فكتب إليه السلطان المذكور ينهاه عن ذلك
ونظيره أيضا قضيته مع أهل غرناطة
____________________
وأطال فيها هذا البعض المنقول
عنه بما استنكفت من ذكره هنا قال وهذه أمور شنيعة إن صح أنه فعلها ولست أدخل في
عهدتها لأني إنما رأيتها في أوراق مجهولة المؤلف اشتملت على ذم هذه الدولة السعدية
وظني أنها من وضع بعض أعدائهم لحطة من قدرهم وإخراجه إياهم من النسب الشريف ووصفه
دولتهم بالدولة الخبيثة فلذا تجنبت منهم كثيرا من الأخبار التي لا تظن بأولئك
السادة رحمهم الله فقد قال الشيخ تاج الدين السبكي رحمه الله في طبقاته إن
المؤرخين على شفا جرف هار لأنهم يتسلطون على أعراض الناس وربما وضعوا من الناس
تعصبا أو جهلا أو اعتمادا على نقل من لا يوثق به قال فعلى المؤرخ أن يتقي الله
تعالى اه إلا أن الملوك لا يستغرب في حقهم أن يهدموا أساس الشريعة ليبنوا منار
رياستهم ويستهونوا عظائم الأمور لتطيعهم الرعية ساعة كيف لا وشراع أفئدتهم تلعب به
رياح الشهوات فتلقي سفينة قلوبهم على ساحل بحر القنوط من رحمة الله تعالى والله
يسامح الجميع ويتجاوز عن كافة عصاة هذه الأمة بمنه وفضله اه كلام اليفرني رحمه الله
ومن وزراء السلطان الغالب بالله ابن أخيه الأمير الأجل الأديب الأحفل أبو عبد الله
محمد بن عبد القادر بن محمد الشيخ كان من أنبل الوزراء وألطفهم مسلكا وأخفهم روحا
وله عارضة في النظم والنثر
ذكر الأديب أبو محمد عبد الله بن محمد الفاسي في كتابه الأعلام بمن مضى وغبر من
أهل القرن الحادي عشر ما صورته قدم الوزير أبو عبد الله محمد بن عبد القادر السعدي
من مراكش إلى فاس ومعه الفقيه قاضي الجماعة أبو مالك عبد الواحد بن أحمد الحميدي
والفقيه الإمام أبو العباس أحمد المنجوز فلما تبدت لهم معالم فاس الجديد وتلظى
للشوق في جوانحهم أوار
( وأبرح ما يكون الشوق يوما ** إذا دنت الديار من الديار )
وأنشد الوزير المذكور لنفسه ارتجالا
( أخلائي هذا المستقى وربوعه ** وهذي نواعير البلاد تنوح )
____________________
( وذاك المصلى مطرح الشوق والأسى ** وتلك منازل الديار تلوح )
فقال القاضي الحميدي ارتجالا
( وتلك القباب الخضر شبه زبرجد ** بهن غوان طرفهن جموح )
( يمسن كأملود من الروض يانع ** شذاهن من حول الديار يفوح )
فقال الفقيه أبو العباس المنجور ارتجالا أيضا
( ويرفلن في الحلات يختلن في الحلى ** وفيهن أنواع الجمال وضوح )
( يبادرن ترقيع الكوى بمحاجر ** لإقبال حب طال منه نزوح )
ولما بلغت الأبيات إلى الأستاذ أبي العباس أحمد الزموري قال مذيلا
( تأمل سنا الحسناء تحت قبابها ** كشمس غدت تحت السحاب تلوح )
( تحلت ربوع المستقي بجمالها ** وأنت إلى تلك القباب تروح )
وبعضهم جعل البيتين الأولين للمولى الأديب أبي محمد عبد الواحد بن أحمد الشريف
السجلماسي وكان كاتبا للوزير المذكور ويجعل موضع أخلائي أمولاي والبيتين بعدهما
للوزير والله تعالى أعلم والمستقى بصيغة اسم المفعول اسم بستان معروف
ونظير هذا ما ذكره الأديب المذكور في أعلامه المذكور قال كان الوزير المذكور مع
كاتبه المولى عبد الواحد الشريف في بعض الأسفار وأرسلت السماء بغيثها المدرار فقال
الوزير المذكور
( لله أشكو غداة السفح إذ ركضت ** أيدي المطايا وحادي الريح يحدونا )
فأجابه الكاتب المذكور
( والغيم في الأفق قد أرخى ذوائبه ** بأسهم الودق لا ينفك يرمينا )
فقال الوزير
( حتى استوى الماء والآكام واستترت ** معالم الرشد لا خريت يهدينا )
( فطلت الخيل في الأمواج سابحة ** سبح السلاحف نحو الدار يهوينا )
فقال الكاتب
( والنفس في قلق لبين مألفها ** والشوق يحدو بنا والحال يقصينا )
____________________
فقال الوزير
( كأننا لم نبت والوصل ثالثنا ** حتى غدا الطير فوق السرح يفشينا )
وأخبار هذا الوزير ونوادره كثيرة وهو الذي أخرج بني راشد من مدينة شفشاون حسبما مر
وكانت وفاته في العشرين من جمادى الثانية سنة خمس وسبعين وتسعمائة
ومن وزراء السلطان الغالب بالله أيضا القائد عبد الكريم بن مؤمن بن يحيى العلج
الجنوي وعبد الرحمن بن تودة وقاسم الزرهوني وأحمد الهبطي ومن ولاة مظالمه أبو
عمران موسى بن مخلوف الكنسوسي وهو والي الشرطة وكان فقيها مشاركا
وذكر بعضهم أن الشيخ الصالح أبا العباس أحمد بن موسى السملالي كان في بعض قدماته
على السلطان الغالب بالله قد انحشر الناس لزيارته بزاويته فوقف أبو عمران المذكور
يذود الناس عنه ويقول رحمكم الله من زار خرج فسمعه الشيخ فقال له لا تقل ذلك وقل
من جار خرج ومن كتاب السلطان المذكور محمد بن عبد الرحمن السجلماسي ومحمد بن أحمد
بن عيسى وغيرهما ومن قضاته بمراكش الفقيه قاضي الجماعة أبو القاسم بن علي الشاطبي
وبفاس أبو عبد الله العوفي وأبو مالك عبد الواحد الحميدي رحمهم الله الخبر عن دولة
السلطان أبي عبد الله محمد المتوكل على الله ابن السلطان عبد الله الغالب بالله
رحمه الله
لما توفي السلطان الغالب بالله بحضرة مراكش كان ابنه محمد هذا بفاس وكان ولي عهد
أبيه فاجتمع أهل العقد والحل بمراكش واستأنفوا له
____________________
البيعة وكتبوا بها إليه فوصلت
إليه وهو بفاس أوائل شوال سنة إحدى وثمانين وتسعمائة فبايعه أهل فاس وتم أمره
قال ابن القاضي أمه أم ولد وكنيته أبو عبد الله ولقبه المتوكل على الله ويعرف عند
العامة بالمسلوخ لأنه سلخ جلده وحشي تبنا كما سيأتي
وكان مما وقع في أيامه أنه كانت بين المسلمين وبين نصارى طنجة وقعة بالرملة
المسماة بأبي غاص من فحص طنجة قرب قنطرة عصماء وذلك يوم الأربعاء منتصف جمادى
الأولى سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة وفي هذه الوقعة استشهد الشيخ أبو مهدي عيسى بن
الحسن المصباحي دفين الدعادع على وادي مضي من عمل القصر فإنه حمل بعد استشهاده إلى
الموضع المذكور فدفن بإزاء قبر أبيه في الروضة التي هنالك
واستمر أمر أبي عبد الله المتوكل منتظما إلى أواخر سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة فقدم
عليه عمه عبد الملك ابن الشيخ بجيش الترك فنثر سلكه وبدد ملكه على ما نذكره ويقال
إنه كان أضمر الفتك بعميه أحمد وعبد الملك ففرا منه إلى ناحية الترك على ما سيأتي
قالوا وكان السلطان المذكور فقيها أديبا مشاركا مجيدا قوي العارضة في النظم والنثر
وكان مع ذلك متكبرا تياها غير مبال بأحد ولا متوقفا في الدماء عسوفا على الرعية
ومن شعره قوله
( فقم بنا نصطبح صهباء صافية ** في وجهها عسجد في وجهه نقط )
( وانهض إليها على رغم العدا قلقا ** فإن تأخير أوقات الصبا غلط )
ومن شعره أيضا قوله
( ساروا فسار فؤادي إثر ظعنهم ** وخلفوني نحيل الجسم حيرانا )
( لا افتر ثغر الثرى من بعد بينهم ** ولا سقى هاطل وردا وريحانا )
وكان خليفته بمراكش القائد ابن شقراء وحاجبه أحمد بن حمو الدرعي وكتابه يونس بن
سليمان الثاملي وعلي بن أبي بكر وغيرهما رحمهم الله تعالى
____________________
الخبر عن دولة السلطان أبي
مروان عبد الملك المعتصم بالله ابن محمد الشيخ وأولية أمره ومآله
كان أبو مروان عبد الملك بن أبي عبد الله الشيخ السعدي وأخوه أبو العباس أحمد
المدعو بعد بالمنصور مقيمين بسجلماسة سائر أيام أبيهما فلما توفي وولي الأمر بعده
ابنه الغالب بالله فر عبد الملك وأحمد إلى تلمسان خوفا على أنفسهما منه فأقاما عند
صاحبها حسن بن خير الدين مدة ولحق بهما أخوهما عبد المؤمن فصار ثالثة الأثافي ثم
انتقلوا بعد ذلك إلى الجزائر ومنها ركب عبد الملك البحر إلى القسطنطينية متطارحا
على صاحبها السلطان سليم بن سليمان العثماني رحمه الله فأمده بالجند حتى ملك
المغرب كما سيأتي
ولنذكر هنا كيفية استيلاء العساكر العثمانية على تونس وانقراض أمر الحفصيين منها
ثم نرجع إلى بقية أخبار السلطان أبي مروان المعتصم بالله لأنها تنبني على ذلك
فنقول اعلم أن أمر بني أبي حفص أصحاب تونس كان قد مرج في هذه المدة وتداعى إلى
الاختلال وكان خير الدين باشا التركي المقدم ذكره في أخبار تلمسان قد استولى على
تونس في حدود الأربعين وتسعمائة وغلب عليها صاحبها الحسن بن محمد الحفصي ففر الحسن
المذكور إلى طاغية الإصبنيول صاحب قشتالة فأعطاه العساكر وجاء بها إلى تونس فنزل
عسكر النصارى ببرج العيون قرب حلق الوادي وتقدموا إلى تونس فملكوها وانهزم خير
الدين إلى الجزائر وشارك النصارى الحسن بن محمد في إمرة تونس واستباحوا أهلها قتلا
وأسرا ونهبا يقال إنهم قتلوا من أهل تونس الثلث وأسروا الثلث وأبقوا الثلث وكل ثلث
ستون ألفا هكذا عند صاحب الخلاصة النقية ثم ملكوا الموضع المسمى بحلق الوادي وليس
هناك واد عذب وإنما هو جون دخل من البحر في البر وعليه مرسى تونس ثم بنى النصارى
في الحلق المذكور حصنا عاديا أقاموا في بنائه نحو ثلاث وأربعين سنة بحيث عجز الترك
عن هدمه لما ملكوه بعد
____________________
ثم ثار على الحسن ابنه أحمد المدعو حميدة وملك الحضرة مدة وقاتل نصارى حلق الوادي
فامتنعوا عليه ثم غزاه علي باشا صاحب الجزائر واستولى على تونس سنة سبع وسبعين
وتسعمائة وطرد أحمد عنها فذهب أحمد إلى طاغية قشتالة مستغيثا به شأن أبيه من قبله
هذا كله ونصارى الحلق لا زالوا متمكنين منه أي تمكين فأمد الطاغية أحمد المذكور
بأسطول عظيم واشترط عليه أداء مال فالتزمه
ولما وصل الأسطول إلى ظاهر تونس اطلع قائده السلطان أحمد على كتاب من الطاغية
مضمنه المشاركة في الحكم فأنكر أحمد ذلك وأنف منه وذهب إلى صقلية فبقي بها إلى أن
مات وحمل إلى تونس وكان هنالك أخوه محمد بن الحسن فرضي بالمقاسمة ودخل بالنصارى
إلى تونس فاستولى عليها وملك قصبتها وجالسه شريكه النصراني بها وانتهبت المدينة
وأهين الدين وعم الخراب وتكدر المشرب وتفرق الجمع وارتبطت خيل العدا بالجامع
الأعظم وألقيت ما فيه من نفائس الكتب بالطرق ونبش قبر الشيخ أبي محفوظ محرز بن خلف
فلم يوجد فيه إلا الرمل حماية من الله له وحاشا أن تعدو الأرض على جسد مثله وأرسل
محمد بن الحسن إلى الناس بالأمان واستمالهم النصراني بعد بكاذب الرفق فأقاموا بدار
مذلة وهوان
واتصل ذلك كله بالسلطان سليم بن سليمان العثماني فأعظمه وجهز العمارة للحين مع
الوزير سنان باشا يقال كانت أربعمائة وخمسين قطعة فخرج بها الوزير المذكور من
القسطنطينية وهي إصطنبول غرة ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وتسعمائة ووصلوا إلى حلق
الوادي في الرابع والعشرين منه وكان حيدر باشا صاحب القيروان ومصطفى باشا صاحب
طرابلس محاصرين لتونس قبل ذلك حتى فتر عزمهم فلما قدم عليهم سنان باشا قويت نفوسهم
واعصوصبوا عليه وتقدموا إلى الحصن الذي بحلق الوادي فحاصروه حتى اقتحموه عنوة سادس
جمادى الأولى من السنة المذكورة أعني سنة إحدى وثمانين وتسعمائة واستلحموا من به
وغنموا ما فيه والتجأ محمد بن الحسن الحفصي وأنصاره من النصارى إلى البستيون وهو
حصن آخر كانوا قد بنوه خارج باب تونس فحاصرهم سنان باشا به حتى اقتحمه
____________________
عنوة وقتلوا من به وامتلأت
أيديهم من المغانم وطهر الله بهم البلاد وكانت إحدى الوقائع الجليلة القدر الباقية
الذكر وظفر الوزير بمحمد بن الحسن فاحتمله معه إلى السلطان سليم فاعتقله في يد قلة
أحد حصونه حتى هلك وانقرضت بمهلكه دولة بني أبي حفص التي هي بقية الموحدين
إذا علمت هذا فاعلم أن استيلاء العساكر العثمانية على تونس كان قبل وفاة السلطان
الغالب بالله بنحو خمسة أشهر لأن وفاته كانت في آخر رمضان سنة إحدى وثمانين
وتسعمائة كما مر وفتح تونس كان في جمادى الأولى من السنة المذكورة ووقع في النزهة
أن فتح تونس كان سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة وهو غير صواب والله تعالى أعلم مجيء
السلطان أبي مروان عبد الملك بن الشيخ السعدي بعسكر الترك واستيلاؤه على المغرب
اعلم أنه وقع في النزهة وغيرها أن عبد الملك بن الشيخ وأخاه أحمد كانا في ابتداء
أمرهما بسجلماسة فلما توفي أبوهما وولي أخوهما الغالب بالله لحقا بتلمسان فأقاما
بها مدة ثم انتقلا إلى الجزائر فلما اتصل بهما خبر وفاة أخيهما الغالب وولاية ابنه
محمد المتوكل من بعده ركب عبد الملك البحر إلى القسطنطينية وتطارح على ملكها
العثماني في أن يمده بجيش ليملك المغرب فتثاقل عنه العثماني إلى أن بعث بالعمارة
لفتح تونس فشهد عبد الملك الفتح وعاد إليه بالبشارة فأسعفه وهذا غير صواب من جهة
أن فتح تونس كان متقدما على وفاة الغالب بالله كما مر اللهم إلا إذا كان عبد الملك
وفد على العثماني مستعديا على أخيه الغالب بالله وفي أثناء ذلك توفي وولي ابنه
المتوكل فيكون الكلام صحيحا وأما ما في النزهة مما يقتضي تأخر فتح تونس عن وفاة
الغالب بالله فغير صواب كما مر
ولنذكر ما حكوه من ذلك فنقول لما بويع السلطان أبو عبد الله محمد
____________________
المتوكل على الله كان عبد
الملك بن الشيخ وأخوه أحمد المدعو بعد بالمنصور بالجزائر فركبا البحر إلى
القسطنطينية العظمى قاصدين السلطان سليم بن سليمان العثماني رحمه الله ومع عبد
الملك أمه سحابة الرحمانية وزعم بعضهم أن التي كانت معهما مسعودة الوزكيتية وهي أم
أحمد منهما فانتهيا إلى القسطنطينية وتعلقا بكراء الدولة حتى أدخلوهما على السلطان
سليم ودخلت أمهما داره وطلبوا منه أن يبعث معهم العساكر لتملك المغرب ويقوموا فيه
بدعوته فتثاقل عنهم مدة إلى أن كان الغزو إلى تونس فكتب السلطان سليم إلى أهل
الجزائر وأهل طرابلس أن يوجهوا قراصينهم لحصار تونس مع العمارة الموجهة من قبله
فطلب عبد الملك وأخوه أحمد من الدولاتي وهو صاحب الجزائر أن يجعل لهما رياسة قرصان
منهما يتوجهان فيه للجهاد معه فأعطاهما غليوطة فيها ستة وثلاثون رجلا فركباها
ولحقا بعمارة السلطان سليم في جملة مراكب الجزائر هكذا وقع في سياقة هذا الخبر وهو
يقتضي أنهما كانا يومئذ بالجزائر لا بالقسطنطينية فلعلهما عادا إليها من عند
السلطان سليم إلى أن سافرا في جملة عسكر الجزائر والله تعالى أعلم ولما فتحوا تونس
واستأصلوا من بها من الكفار حسبما مر عين رئيس العمارة العثمانية مركبين يتوجهان
بكتاب الفتح إلى السلطان سليم فطلب منه عبد الملك وأحمد أن يأذن لهما في الذهاب
معهما بالغليوطة ليأتيا بأمهما التي تركاها هنالك فلم يزالا بالرئيس المذكور حتى
أسعفهما فكان من قدر الله تعالى أن هاج البحر عليهم ذات ليلة ففرق مراكبهم ولما
أصبح عبد الملك وأحمد لم يجدا للمركبين أثرا فوافقهم السعد وساعدتهم الريح فوصلوا
إلى القسطنطينية قبل المركبين بثلاث
واتصل خبرهما بالصدر الأعظم فأحضرهما وسألهما عن العمارة وما كان منها فأخبراه
بفتح تونس وقصا عليه الحديث من البدء إلى التمام فأعلم السلطان سليما بهما
فأدخلهما عليه وسألهما كذلك فأخبراه وسألهما عن كتاب الفتح إن أمير العمارة قد بعث
به مع مركبين صحبناهما إلى أن فرق بيننا البحر ولم ندر ما كان منهما بعد ذلك
____________________
ولما رأيا من السلطان سليم تنازلا واهتزازا لكلامهما طلبا منه في بشارتهما أن يبعث
معهم العساكر إلى الغرب وشفعا في إنزال رأس والدهما ودفنه فقبل شفاعتهما ثم أمر
بهما إلى بعض المنازل فأنزلهما به وأكرمهما وبعث إليهما بالأم التي كانت هنالك
وأرجأ أمرهما إلى قدوم الخبر اليقين وبعد ثلاث قدم المركبان ومعهما كتاب الفتح
وظهر صدق عبد الملك الملك وأحمد فحينئذ أقبل عليهما السلطان سليم وأعطاهما مالا
وسلاحا وزادا وكتب لهما فرمانا للدولاتي صاحب الجزائر ليبعث معهما خمسة آلاف من
عسكر الترك تطأ معهما أرض المغرب الأقصى
ولما قدما على الدولاتي بالفرمان وقرأه على أهل الديوان قالوا علينا الرجال
وعليهما المال وهذه عادتنا مع السلطان ولما لم يكن عندهما مال يومئذ تطارحا على
الخزندار وعلى الآغا والوكيل وأهديا إليهم ورغبا منهم أن يسلفوهما ما ينفقانه في
وجهتهما تلك إلى أن يبعثا به إليهم من المغرب فسهلوا لهما وقوموا العسكر بما يحتاج
إليه وفرضوا له المؤنة كل يوم بيومه إلى أن يرجع وأشهدوا عليهما بذلك في دفتر
فقبلا وأعطوا خطوطهما به ثم نهض عبد الملك وأخوه إلى المغرب يجران عساكر الترك
خلفهما وكتب عبد الملك إلى شيعته بالمغرب يعرفهم قدومه ويعدهم ويمنيهم إلى أن كان
من أمره ما كان
وساق اليفرني هذا الخبر وفيه بعض مخالفة لما تقدم قال لما فتحت تونس كان عبد الملك
أول من أرسل البشارة مع أصحابه إلى السلطان العثماني فبلغت الرسالة أمه سحابة
الرحمانية فأعطتها السلطان المذكور والتمست منه أن يعطيها في بشارتها أمر أهل
الجزائر بالذهاب معها إلى المغرب فأعطاها ذلك فجاء عبد الملك مع أمه بكتاب السلطان
إلى أهل الجزائر يأمرهم بالمسير معه لتملك ما كان بيد آبائه فطالبه أهل الجزائر
بالراتب فقال لهم أسلفوني وعلي القضاء فاتفق معهم أن يعطيهم عشرة آلاف لكل مرحلة
وكان عدد جيش الترك أربعة آلاف
وقال في شرح الدرة إن عبد الملك طلب من رئيس الترك أن يعينه
____________________
بحصة منهم توصله إلى تخم بلاده
ليدخلها إذ الجند كله جند أبيه لا يمكن أن يقاتلوه ويضربوا في وجهه لتعظيمهم إياه
فأسعفه على مراده وأرسل معه عصابة وحصة قليلة فأقبل بهم حتى انتهى إلى الموضع
المعروف بالركن من أحواز فاس فلما سمع بذلك ابن أخيه محمد المتوكل خرج للقائه
بنفسه ولما التقى الجمعان نزع رئيس جند الأندلس سعيد الرغالي إلى عبد الملك وكان
عبد الملك يكاتب حاشية المتوكل وبطانته ورؤوس أجناده ويعد طائعهم ويوعد عاصيهم
فلما سمع المتوكل بما فعله جند الأندلس فت ذلك في عضده وفشلت ريحه وأيقن بالنكبة
ظنا منه أن جنده كله سيفعل فعل الرغالي فكان ذلك سبب جزعه وفراره من المعركة وسبب
خراب ملكه وإقامة ملك عمه ويقال إن بعض الجند لما سمع بأن القائد جرمون وأولاد
عمران نزعوا إلى عبد الملك أيضا جاء إلى المتوكل وقال له إن القائد ابن شقراء قد
غدر وفر إلى عبد الملك وكان ابن شقراء هذا من أكبر قواده وأصدقهم لديه فارتاع
المتوكل لذلك وانقلب منهزما وانتهبت خزائنه وأوقد فيها النار ونفط ما كان بها من
البارود حتى رئي من رؤوس الجبال
ولما انهزم المتوكل بالركن عطف على فاس الجديد فأخذ منها ما يعز عليه من الذخيرة
ثم خرج على وجهه إلى مراكش لا يلوي على شيء فلحق به القائد ابن شقراء بوادي النجاة
على مقربة من فاس وأغلظ له في القول ولامه على عدم التأني والتثبت وكان أمر الله
قدرا مقدورا استيلاء السلطان أبي مروان عبد الملك المعتصم بالله على حضرة فاس وما
يتبع ذلك
لما انهزم المتوكل بالركن وأجفل إلى مراكش تقدم عمه أبو مروان إلى فاس فدخلها
واستولى عليها يوم الأحد سابع ذي الحجة سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة من باب الفتوح
وبعد أن دخلها وبايعه أهلها أقام بها أياما ثم طمحت نفسه إلى اتباع ابن أخيه إلى
مراكش ولما عزم على النهوض إليه
____________________
طالبه الترك بأن يردهم إلى
بلادهم وأن يعطيهم المال الذي اتفق معهم عليه وهم يسمونه بلغتهم البقشيش فبذل لكل
واحد منهم أربعمائة أوقية واستسلف المال من تجار أهل فاس حتى يتسع حاله فكان جملة
ما أعطى الترك خمسمائة ألف وأعطاهم عشرة من الأنفاض منها النفض الكبير الذي له
عشرة أفواه وزادهم من تحف المغرب وطرفه ما سلى به نفوسهم وركب لوداعهم بنفسه إلى
نهر سبو ثم رجع إلى فاس
وفي هذه المدة قبض على قاضيها الفقيه أبي مالك عبد الواحد بن أحمد الحميدي لأمر
نقمه عليه وأودعه السجن فبعث الفقيه المذكور أولاده إلى الشيخ الصالح أبي النعيم
رضوان بن عبد الله الجنوي يطلب منه أن يشفع له عند السلطان المعتصم بالله فكتب
إليه الشيخ أبو النعيم يحضه على الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم والاستمساك
بحبله لأنه باب الله الأعظم فقبل القاضي إشارته وتوجه إلى ربه بكليته فأتاه الفرج
من حينه رحم الله الجميع بمنه نهوض السلطان أبي مروان إلى مراكش واستيلاؤه عليها
وفرار ابن أخيه إلى السوس وما نشأ عن ذلك
ثم إن السلطان أبا مروان نهض من فاس في جنده الذي أقامه وكان غرس يده وفيما انضاف
إليه من جند ابن أخيه وتقدم إلى البلاد المراكشية قاصدا حربه وتشريده عنها ولما
سمع ابن أخيه بخروجه إليه وقصده إياه تهيأ لملاقاته وسار إلى منازلته فالتقى
الجمعان بموضع يسمى خندق الريحان على مقربة من وادي شراط من أحواز سلا فكانت
الهزيمة أيضا على المتوكل وفر برأس طمرة ولجام وأجفل كعادته إجفال النعام وتبعه
أحمد المنصور خليفة أخيه أبي مروان يومئذ فلما سمع المتوكل باتباعه بعد بلوغه إلى
مراكش فر عنها إلى جبل درن وأسلم له مراكش فدخلها أحمد نائبا عن أخيه وأخذ له
البيعة على أهلها ثم لحق به السلطان أبو مروان فدخلها يوم الاثنين
____________________
تاسع عشر ربيع الثاني سنة أربع
وثمانين وتسعمائة وأقام بها أياما ثم خرج في طلب ابن أخيه فعميت عليه أنباؤه وسقط
بين سمع الأرض وبصرها فعاد أبو مروان إلى مراكش فأقام بها إلى أن كان من أمره ما
نذكره استخلاف السلطان أبي مروان لأخيه أبي العباس أحمد على فاس وأعمالها
لما استقر السلطان أبو مروان بمراكش وانقطع خبر المتوكل عنه بالسوس تقدم إليه أخوه
أحمد وسأله أن يستخلفه على فاس ليكفيه أمرها فأجابه إلى ذلك وولاه عليها ظنا منه
أن أمر المغرب قد صفا له وإن المتوكل لا يعود إليه وكان الوزير أبو فارس عبد
العزيز بن سعيد الوزكيتي حاضرا للطلبة والعطية فأنكر ذلك ولم يره صوابا وقال لا
ينبغي لكما أن تقعدا حتى يحكم الله بينكما وبين ابن أخيكما فغاظ ذلك أحمد وظن أنه
من سوء رأي عبد العزيز فيه وبغضه لجانبه فأعرض عن مقالة الوزير المذكور وذهب إلى
فاس خليفة عليها وبقي السلطان أبو مروان بمراكش
وفي هذه المدة كتب السلطان أبو مروان لأخيه أحمد برسالة يقول فيها بسم الله الرحمن
الرحيم و صلى الله عليه وسلم من عبد الله المعتصم بالله المجاهد في سبيل الله أمير
المؤمنين أبي مروان عبد الملك ابن أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد الشيخ الشريف
الحسني أيده الله وأعز نصره وأسعد زمانه المبارك وعصره وأبقى بمنه فخره من إملائه
أيده الله ونصره إلى أخينا الأعز الأحظى بابا أحمد حفظه الله السلام عليكم ورحمة
الله وبركاته أما بعد فاعلم أني لا أحب أحدا بعد نفسي كمحبتي لك ورغبتي في انتقال
هذا الأمر بعدي إليك لا لغيرك غير أني أعتاد منك التراخي في الأمور حتى أنك لا
تبالي بعظيم الأمر ولا تعتبره إلى أن يتطرق إلى ما لا يتلافى جبره من الأمور التي
تكاد لولا لطف الله تذهب بهذا الملك وتهد أركانه ويبلغ العدو معها مناه ومراده من
ذلك التراخي إهمالك أمر الجند الذي
____________________
بالعرائش وإغفالك له مع ما
يترادف عليك في كل ساعة من تلقائه من استدعاء ما دعت الحاجة إليه من المؤونة
والبارود والرصاص الذي لا يستقيم لهم أمر في مقاومة العدو دون ذلك وجعلت تقابل
خطابهم بالإهمال وعدم المبالاة والآن ساعة يرد عليك كتابنا هذا قبل وضعه من يدك
ابعث إليهم مؤنة عشرة أيام بينما نصل إن شاء الله فيقع التدبير فيما يحتاجون إليه
زائدا على ذلك مع ما عندكم هنالك من البارود والرصاص من غير عطلة ولا تراخ بحيث لا
نقبل منك عذرا في هذه المسألة التي لا تحتاج إلى الإهمال ولا بد ولا بد فقد بلغنا
أن صاحب النصارى بقرب آصيلا في خمس عشرة مائة من النصارى وتمنيت أن لو حركتك الهمة
للاقتحام عليه في مكانه بجيش يكسوه أردية الصغار ويرجع ساعة رؤيته إلى عادته من
الذل والفرار فانتبه من الغفلة وافتح عين الانتباه واليقظة فإن الساعة لا تقتضي
إلا الحزم والتشمير عن ساعد الاجتهاد والعزم والسلام اه ظهور أبي عبد الله المتوكل
بالسوس ومجيئه إلى مراكش واستيلاؤه عليها
كان أبو عبد الله المتوكل بعد فراره من مراكش يجول في جبال السوس ويتنقل في
قبائلها وأحيائها إلى أن اجتمعت عليه طائفة من الصعاليك وتأشب عليه ما يشبه أن
يكون جيشا فاستهوتهم منه الأضاليل وقادهم قود الملك الضليل وجاء بهم إلى مراكش
فسمع به السلطان أبو مروان فخرج للقائه فخالفه المتوكل وسلك طريقا غير طريقه وفجا
غير فجه وقصد مراكش فدخلها باتفاق أهلها ونصروه وكتبوا له البيعة إلا أنه لم يتمكن
من القصبة
____________________
لأن السلطان أبا مروان كان قد
ترك بها أخته الست مريم في نحو ثلاثة آلاف من الرماة فتحصنوا بها وبلغ الخبر أبا
مروان باستيلاء المتوكل على مراكش فرجع عوده على بدئه إلى أن وافى الحضرة فحاصره
بها وكتب إلى أخيه أحمد الخليفة على فاس أن يأتيه بجيش منها فأتاه به أحمد مسرعا
وما انتهى إلى مراكش اجتمع بالوزير أبي فارس الوزكيتي فقال له أوقفت على الرأي أول
الفكرة آخر العمل فبانت لأحمد نصيحته وزال ما كان يختلج بصدره عليه
ولما جاء أحمد بجيش فاس أسلم المتوكل شيعته من أهل مراكش وفر إلى السوس فبقي أهل
مراكش متمادين على الحصار إلى أن اتفق السلطان أبو مروان مع أعيان جراوة فأدخلوه
من بعض الأسوار والأنقاب ولما فر المتوكل إلى السوس تبعه أحمد المنصور فكانت
بينهما هنالك حروب عظيمة أتاح الله فيها النصر للمنصور منها وقعة تينزرت التي
أنشده فيها وزيره الكاتب أبو الحسن علي بن منصور الشيظمي البيتين اللذين قالهما
فيه الكاتب أبو عبد الله بن عيسى وهما
( هو الغيث والبحر الغطمطم في الندى ** وليث إذا جد الطعان هصور )
( يفوق السهام عزمه وانبعاثه ** ويقصر عنه في الثبات ثبير )
فأجابه أحمد المنصور ببيتي أبي فراس الحمداني وهما
( ونحن أناس لا توسط عندنا ** لنا الصدر دون العالمين أو القبر )
( تهون علينا في المعالي نفوسنا ** ومن خطب الحسناء لم يغله المهر )
ومنها الوقعة التي بعدها بأساطين المنصور وهو في نحو ثلاثة آلاف والمتوكل في نحو
ستين ألفا ومع ذلك هزمه المنصور
قلت كان أحمد المنصور هذا مجدودا محظوظا مسعودا بحيث أربت سعادته على شجاعته وما
كان أخوه عبد الملك يسري إلا في ضوء طلعته ويمن نقيبته فلذا كان يقدمه في الحروب
ويستكفي به في نوازل الخطوب ومن سعادته ما اتفق له في ذهابه إلى العثماني بخبر
الفتح وتقدمه
____________________
قبل الكتاب بثلاث حتى تسنى له
من جانب السلطان المذكور ما كان سببا في استيلائهما على المغرب وستسمع في أخبار
دولته من أنباء سعاداته ما تقف به على حقيقة الحال إن شاء الله وأما أمر المتوكل
فإنه بعد توالي الهزائم عليه فر إلى جبل درن وتوغل في قننه ثم فر منه إلى باديس
فأقام بها مدة ثم ذهب إلى سبتة ثم دخل طنجة مستصرخا بعظيم البرتغال والله تعالى لا
يهمل من حقوق عباده وزن المثقال الغزوة الكبرى بوادي المخازن من بلاد الهبط والسبب
فيها
كان من خبر هذه الغزوة أن السلطان المخلوع أبا عبد الله محمد بن عبد الله السعدي
لما دخل طنجة قصد طاغية البرتغال واسمه سبستيان بكسر السين وفتح الباء والسين
وسكون التاء القريبة من الطاء وهو طاغيتهم الأعظم وليس قائد الجيش فقط على ما هو
المحقق في تواريخهم وتطارح عليه وشكا إليه ما ناله من عمه أبي مروان المعتصم بالله
وطلب منه الإعانة عليه كي يسترجع ملكه وينتزع منه حقه فأشكاه الطاغية ولبى دعوته
وصادف منه شرها إلى تملك سواحل المغرب وأمصاره فشرط عليه أن يكون للنصارى سائر
السواحل وله هو ما وراء ذلك فقبل أبو عبد الله ذلك والتزمه وللحين جمع الطاغية
جموعه واستوعب كبراء جيشه ووجوه دولته وعزم على الخروج إلى بلاد الإسلام
ومن المتواتر في تواريخ الإفرنج أن كبار دولته حذروه عاقبة هذا الخروج ونهوه عن
التغرير ببيضة البرتغال وتوريطها في بلاد المغرب وقبائله فصم عن سماع قولهم ولج في
رأيه وملك الطمع قلبه وأبى إلا الخروج فأسعفوه وخرج من طنجة في جيش قال ابن القاضي
في المنتقى المقصور عدده مائة ألف وخمسة وعشرون ألفا وقال أبو عبد الله محمد
العربي الفاسي في مرآة المحاسن يقال إن مجموعهم كان مائة ألف وعشرين ألفا وأقل ما
قيل في عددهم ثمانون ألف مقاتل وكان مع محمد بن عبد الله نحو الثلاثمائة من أصحابه
قال بعضهم وكان عدد الأنفاض التي يجرونها مائتين
____________________
وقصدوا هلاك المغرب وحصد
المسلمين وإدارة رحى الهوان على الدين فعظم ذلك على الناس وامتلأت صدورهم رعبا
وقلوبهم كربا وبلغت القلوب الحناجر واتقدت بها نيران الهواجر وكان محمد بن عبد
الله المذكور قد كتب عند خروجه بجيش البرتغال إلى بلاد الإسلام رسالة بعث بها إلى
أعيان المغرب من علمائه وأشرافه وذوي رأيه يغمض عليهم بها في نكث بيعته ونقضها
ومبايعة عمه من غير موجب شرعي وقال لهم ما استصرخت بالنصارى حتى عدمت النصرة من
المسلمين وقد قال العلماء أنه يجوز للإنسان أن يستعين على من غصبه حقه بكل ما
أمكنه وتهددهم فيها وأبرق وأرعد وقال فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله
وسمى النصارى أهل العدوة واستنكف من تسميتهم نصارى فأجابه علماء الإسلام رضوان
الله عليهم عن رسالته تلك برسالة دامغة لجيش أباطيلة وفاضحة لركيك تأويله وهذا نص
جواب تلك الرسالة حرفا حرفا الحمد الله كما يجب لجلاله و صلى الله عليه وسلم
والرضى عن آله وأصحابه الذين هجروا دين الكفر فما نصروه ولا استنصروا به حتى أسس
الله دين الإسلام بشروط صحته وكماله
وبعد فهذا جواب من كافة الشرفاء والعلماء والصلحاء والأجناد من أهل المغرب وفقهم
الله لمولانا محمد ابن مولانا عبد الله السعدي عن كتابه الذي استدعاهم فيه لحكم
الكتاب والسنة واستدل بحججه الواهية المنكبة عن الصواب قائلين له عن أول حجة صدر
بها الخطاب لو رجعت على نفسك اللوم والعتاب لعلمت أنك المحجوج والمصاب فقولك خلعنا
بيعتك التي التزمناها وطوقناها أعناقنا وعقدناها فلا والله ما كان ذلك منا عن هوى
متبع ولا على سبيل خارج عن طريق الشرع مبتدع وإنما ذلك منا على منهج الشرع وطريقه
وعلى سبيل الحق وتحقيقه وسنشرح لك ذلك ونبينه ونسطره لك بالأدلة الشرعية التي
ترقيه وتزينه نعم كنت سلطانا بما عقد لك والدك من البيعة وترك لك من الأموال
والعدد والحصون مما لم يتهيأ مثله لأحد من أسلافكم الكرام رضوان الله عليهم
فجاهدوا بما حصل لهم من ذلك في الله حق جهاده حتى استخلصوا من أيدي الكفار رقاب
عباد الله وحصون بلاده
____________________
وأسسوا لدين الله قواعد
وأركانا وملكوا من المغرب بلادا معتبرة وأوطانا فلما وصل ذلك إليك ألقت إليك
العباد أعنتها وملكتك أزمتها غير مبدلين ولا مغيرين ولا باغين ولا منكرين إلى أن
قام عليك عمك بحجته التي لا يمكنك جحدها حسبما ثبت كما يجب عقدها فخرجت مبادرا له
بدفعها ولقيته بها وأنت واسطة عقدها وحامل راية عهدها وعمك في فئة لا يخطر على بال
عاقل أن يقابل جندا من جنودك أو يدافع ما تحت لواء من ألويتك وبنودك فما هو إلا أن
جرى القتال وحضر النزال رجعت على عقبك هاربا هروب مطرود بقصاص وجنودك تناديك ولات
حين مناص فتركت عددك ومحلتك بكل ما فيها وخلفتها لعدوك ينهبها ويسبيها وهربت عن
مدينة فاس المحروسة وسكانها ينادونك لمن تركتنا وإلى من تكلنا فلم تلتفت إليهم
وأسلمت بلادهم على ما فيها من خزائن ا لأموال والعدد الوافرة والرجال والأسوار
المرتفعة المانعة والمدينة المشهورة الجامعة فأصبح أهلها واليد العادية من
المفسدين تريد أن تمتد إلى الحريم والأولاد والطارف والتلاد ولا دافع عن الضعفاء
والمساكين إلا الله تعالى الذي قال في مثلهم { ومن أصدق من الله قيلا } { لا
يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا } فما أمكنهم بعد هروبك عنهم وإسلامك لهم فوضى
مهملين إلا النظر في أمرهم وإعمال الفكر في التدبير على أنفسهم فبينما هم على ذلك
إذا بعمك بجنوده على باب مدينتهم قائما بحجته سالكا في ذلك سبيل أبيه رحمه الله
ومحجته حسبما تقرر ذلك عندكم وظهر ولم يخف عنكم منه عين ولا أثر إذ كان مولانا
محمد الجد الأكبر عهد لأولاده مولانا أحمد ومولانا محمد الشيخ وإخوانهم لا يتولى
الخلافة منهم ولا من أولادهم إلا الأكبر فالأكبر فالتزموا ذلك إلى أن كبر أولادهم
فطلب جدك من عمك الوفاء بذلك فامتنع فقاتله على ذلك حتى تم له الأمر وانتظم فعهد
لوالدك الذي كان أكبر أولاده فلم ينازعه أحد في ذلك إلى أن ألقى والدك رحمه الله
ذلك وعهد إليك فلم ينازعكم أحد فأبى الله إلا الحق فأعطى ملكه لعمك الذي هو أكبركم
بعد أبيك فإن سلمت هذا فأي حجة تدلي بها وأي طريق
____________________
تعتمد عليها وإن أنكرت هذا فلا
أثر لخلافة أبيك من قبلك ولا لجدك من قبله لثبوتها لعمكم مولانا أحمد إذ لا حجة
حينئذ لجدك في القيام على عمك فخلافته صحيحة لبيعة جدك له فلم يبق إلا التغلب الذي
تدلي به في مسألة عمك وفي قيامه عليك فإن كنت تريد أن تسقط حجته بالتغلب عليك
فحجتك أبين في السقوط لعدم ثبوت الخلافة لمن عقدها لك إذ المعدوم شرعا كالمعدوم
حسا فلم يبق بينكم إلا والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا فيلزمك على هذا أن تثبت ما
عقده مولانا الجد رحمة الله وعليه فالخلافة لعمك القائم عليك إذ هو أكبركم في هذا
التاريخ
فإن قلت إن ما عقده الجد غير صحيح قلنا فقد ذكر الإمام الماوردي رحمه الله ورضي
عنه في كتاب الأحكام السلطانية له في باب عقد الخلافة أن عبد الملك بن مروان رتبها
في الأكبر فالأكبر من بنيه فلم ينازعه أحد في ذلك
فإن قلت فعل عبد الملك ليس بحجة قلنا سكوت العلماء على ذلك وهم ما هم في زمانه هو
الحجة إذ لا يمكن أن يسكتوا على باطل وإقرار أهل العصر الواحد على مسألة من المسائل
واتفاقهم عليها يقوم مقام الإجماع الذي هو حجة الله في أرضه وكان أيضا من محفوظات
علماء فاس المحروسة ما خرجه مسلم رضي الله عنه في صحيحه في كتاب الإمارة ما نصه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة عند رأسه يقال
هذه غدرة فلان ابن فلان ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة ) قال القاضي أبو
الفضل عياض رحمه الله في كتاب إكمال المعلم على شرح فوائد مسلم يعني لم يحطهم ولم
ينصح لهم ولم يف بالعقد الذي تقلده من أمرهم وفي الباب نفسه عنه صلى الله عليه
وسلم ما نصه ( ما من أمير استرعاه الله رعية ثم لم ينصح لهم إلا لم يرح رائحة
الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام ) وفي الإكمال نفسه قال القاضي والذي
عليه الناس إن القوم إذا بقوا فوضى مهملين لا إمام لهم فلهم أن يتفقوا على إمام
يبايعونه ويستخلفونه عليهم ينصف بعضهم من بعض ويقيم لهم الحدود
____________________
فلما أسلمتهم وأضحوا بغير إمام
وعمك يدلي بحجته التي ذكرنا لك مع ما حفظوه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم
وكلام السلف الصالح وأيسوا من رجوعك إليهم وبقوا فوضى مهملين لم يسعهم إلا الرجوع
إلى ما عليه الناس رضوان الله عليهم فاتفقوا على أن يبايعوا عمك لما ذكرنا لك من
الحجج التي لا يسعك جحدها إلا على وجه المكابرة فاطمأن الناس وسكنوا وانفتحت السبل
وأقيمت الحدود وارتفعت اليد العادية
فإن قلت كان يجب على أهل فاس أن يقاتلوا على البيعة التي التزموها لك قلنا إنما
يلزمهم القتال أن لو أقمت بين أظهرهم فيكون قتالهم على وجه شرعي لأن القتال على
الحدود الشرعية إنما يكون بعد نصب إمام يصدر الناس عن رأيه ولا يمكنك أيضا جحدها
إيه ثم وصلت إلى مراكش الغراء التي تجبى إليها الأموال من البوادي والأمصار وتشد
إليها الرحال من سائر الأقطار فلقيك أهلها بالترحاب والسرور وأنواع الفرح والحبور
فوجدت خزائنها تتدرج ملئا من كل شيء فأما أسوارها ورحابها فهي كما قيل تربة الولي
ومدرج الحلي وحضرة الملك الأولي والبرج النير الجلي فحللتها وتمكنت من أموالها
وخزائنها ووافقك أهلها فما نكثوا ولا غدروا ولا خرجوا عليك في سلطانك ولا أنكروا
فطلبت أيضا قتال عمك وجندت جنودا لا يجمعها ديوان حافظ ولا يعهدها لسان لافظ فخرجت
إليه تجر أعنة الخيل وراءك كالسيول والرماة قد ملأت الهضاب والتلول فما كان من
حديثك إلا أن وقع القتال وحضر النزال بادرت هاربا محكما للعادة تاركا للرؤساء من
أجنادك والقادة فحلت بهم الخطوب والرزايا واختطفتهم أيدي المنايا فتركت أيضا محلتك
بما فيها من حريمك وأموالك وعدتك ثم أسرعت هاربا إلى مراكش فما صدك عنها أحد من
أهلها ولا قال لك أحد لست ببعلها فعملوا على القتال معك والتمنع بأسوارها الحصينة
والحصار داخل المدينة فلما كان الليل غدرتهم وغادرت بناتك وأخواتك وعماتك ونساءك
وخرجت عنهم من القصبة وتركتهم لا بواب عليهم ولا حارس ولا راجل ولا فارس فيالها من
مصيبة ما أعظمها ومن داهية ما أعضلها ولولا
____________________
فضل الله ولطفه ووعده بتطهير
أهل البيت لامتدت إليهم أيدي السفلة من الفسقة فأي حجة تبقى لك بعد هذا وأي كلام
لك بين الرجال يا هذا ثم جاءك عمك أيضا بما سلف من الحجج فوجد أهلها في لطف الله
سبحانه وهم يحرسون أولادهم وديارهم من اليد العادية فأنقذهم الله به أيضا فبايعوا
عمك بما سلف من الحجج واطمأنوا وسكنوا ثم هربت للجبل عند صاحبه فصرتما في نهب
أموال الرعية وسفك دمائهم وأكثر ما صفا لك من ذلك أهل الذمة المصغرون بحكم القرآن
الداخلون تحت عهد سيد الثقلين في الأمن والأمان فأنت وهم في استيلائك عليهم وظلمك
إياهما كما قيل
( إن هو مستوليا على أحد ** إلا على أضعف المجانين )
ولم تبال بقول النبي صلى الله عليه وسلم أنا خصيم من ظلم ذميا يوم القيامة ثم خربت
العامر وأفسدت ما شيدت الأسلاف للإسلام من المآثر فلما رأى أهل السوس الأقصى ذلك
أيقنوا أنك إنما قصدت خراب الإسلام وأهله فنكب عنك أهل الدين والعلم منهم وبقيت
كما قيل في خلف كجلد الأجرب
فإن قلت إن أولئك الخلف لم يبايعوا عمك فتنقض بهم ما قررناه قلنا لم يطعن في خلافة
أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من تخلف عنها من أهل الشام
وفيهم من قد علمت من الناس والإجماع على صحة بيعته وسمي من تخلف عنها باغيا لقول
النبي صلى الله عليه وسلم لعمار تقتلك الفئة الباغية فقتله أصحاب معاوية رضي الله
عنه والحديث من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم والقاعدة أن ما اجتمع عليه من
يعتبر من أهل العصر الواحد هو المعول عليه ولا يعد خلاف من خالفه خلافا وهذا كله
بالنظر إلى ما كان من حديثك قبل التحزب مع عدو الدين والأخذ
____________________
في التخليط العظيم على
المسلمين فإنك اتفقت معهم على دخول آصيلا وأعطيتهم بلاد الإسلام فيالله ويا لرسوله
لهذه المصيبة التي أحدثتها وعلى المسلمين فتقتها ولكن الله تعالى لك ولهم بالمرصاد
ثم لم تتمالك أن ألقيت بنفسك إليهم ورضيت بجوارهم وموالاتهم كأنك ما طرق سمعك قول
الله سبحانه { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء
بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم } قال أبو حيان رحمه الله أي لا تنصروهم ولا
تستنصروا بهم وفي كتاب القضاء من نوازل الإمام البرزلي رحمه الله أن أمير المسلمين
يوسف بن تاشفين اللمتوني رحمه الله استفتى علماء زمانه رضي الله عنهم وهم ما هم في
استنصار ابن عباد الأندلسي بالكتابة إلى الإفرنج على أن يعينوه على المسلمين
فأجابه جلهم رضي الله عنهم بردته وكفره فتأمل هذا مع قضيتك تجدها أحروية مناسبة
لقضية ابن عباد في عقدها ابتداء وأنه متى طرأ الكفر وجب العزل وناهيك بقول النبي
صلى الله عليه وسلم عليكم بالسمع والطاعة وبما أفتى العلماء رضوان الله عليهم بردة
من استنصر بالنصارى على المسلمين فهو نص جلي في وجوب خلعك وسقوط بيعتك فلم يبق لك
إلا منازعة الحق سبحانه في حكمه { ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب }
وأما قولك في النصارى فإنك رجعت إلى أهل العدوة واستعظمت أن تسميهم بالنصارى ففيه
المقت الذي لا يخفى وقولك رجعت إليهم حين عدمت النصرة من المسلمين ففيه محظوران
يحضر عندهما غضب الرب جل جلاله أحدهما كونك اعتقدت أن المسلمين كلهم على ضلال وأن
الحق لم يبق من يقوم به إلا النصارى والعياذ بالله والثاني أنك استعنت بالكفار على
المسلمين وفي الحديث أن رجلا من المشركين ممن عرف بالنجدة والشجاعة جاء إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فوجده بحرة الوبرة موضع على نحو أربعة أميال من المدينة فقال
له يا محمد جئت لأنصرك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إن كنت تؤمن بالله ورسوله
فقال لا أفعل فقال له صلى الله عليه وسلم إني لا أستعين بمشرك وما سمعته من قول
العلماء رضي الله عنهم في
____________________
الاستعانة بهم إنما هو على
المشركين بأن نجعلهم خدمة لأزبال الدواب لا مقاتلة فأما الاستعانة بهم على
المسلمين فلا يخطر إلا على بال من قلبه وراء لسانه وقد قيل قديما لسان العاقل من
وراء قلبه وفي قولك يجوز للإنسان أن يستعين على من غصبه حقه بكل ما أمكنه وجعلت
قولك هذا قضية أنتجت لك دليلا على جواز الاستعانة بالكفار على المسلمين وفي ذلك
مصادمة للقرآن والحديث وهو عين الكفر أيضا والعياذ بالله
وقولك فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله إيه أنت مع الله ورسوله أو مع
حزبه فتأمل ما قلت في الحديث يتكلم أحدكم بالكلمة تهوي به في النار سبعين خريفا
ولما سمعت جنود الله وأنصاره وحماة دينه من العرب والعجم قولك هذا حملتهم الغيرة
الإسلامية والحمية الإيمانية وتجدد لهم نور الإيمان وأشرق عليهم شعاع الإيقان فمن
قائل يقول لا دين إلا دين محمد صلى الله عليه وسلم ومن قائل يقول سترون ما أصنع
عند اللقاء ومن قائل يقول { وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين } ومن
قائل يقول إنما قصد التشفي بالمسلمين إذ لو كان يطلب الصلاح لما صدرت منه هذه
الأفعال القبيحة إلى غير ذلك فجزاهم الله عن الإسلام خيرا ورضي عنهم وبارك فيهم
فلله درهم من رجال وفرسان وأبطال وشجعان فلو لم يكن منهم إلا ما غير قلوبهم على
الدين لكان كافيا في صحة إيمانهم وعظيم إيقانهم فقد بلغ نور غضبهم لله سبحانه ساق
العرش والحب في الله والبغض في الله من قواعد الإيمان
وقولك أيضا متبرئا من حول الله وقوته فإن لم تفعلوا فالسيف فهو كلام هذيان يدل على
حماقة قائله فقط أنبأ سيفك هذا وأنت مع المسلمين في أربع وعشرين معركة لم تثبت لك
فيها راية ثم زال نبوه الآن بالكفار فهذه أضحوكة فتأملها
وأما ما نسبته لإمام دار الهجرة فكفاك عجزا إن لم تعين لنا نصا جليا نعتمد عليه
فيما تحتج به إلا أنك كثرت به سواد القرطاس مغربا بذكره لا معربا بنصه
____________________
وما نسبته للحنفية من أكل
الميتة عند الضرورة وتسويغ الغصة بخمر فهو ما نص عليه المالكية في مختصراتهم التي
ألفوها للصبيان فعدولك عن ذلك إلى الحنفية إما قصور وإما إلغاء لمذهب مالك رضي
الله عنه وهو النجم الثاقب
وأما قولك أنتم أهل بغي وعناد فلا نسلم لك ذلك إلا لو أقمت بين أظهرنا وقاتلت معنا
حتى ترى أنسلمك أم لا فأما إذا هربت عنا وتركتنا فالحجة عليك لا علينا على انك في
كتابك تفسق الكل بذلك وتكفره وقد قال العلماء رضي الله عنهم من يقول بتكفير العامة
فهو أولى بالتكفير وذلك معزو لزعيم العلماء القاضي أبي الوليد بن رشد والقاضي أبي
الفضل عياض وكيف لا تنظر لقضايا تلمسان وتونس وغيرهما من سائر البلدان وكيف وقع
لأمرائهم المستنصرين بالكفار على المسلمين هل حصلوا على شيء مما قصدوه أو بلغوا
شيئا مما أملوه على أن أكثر العلماء حكموا بردتهم ففاتتهم الدنيا والآخرة والعياذ
بالله
وقد افتخرت في كتابك بجموع الروم وقيامهم معك وعولت على بلوغ الملك بحشودهم وأنى
لك هذا مع قول الله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم
الإسلام دينا } { ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } وفي الحديث عن
النبي صلى الله عليه وسلم ( لن تغلب هذه الأمة ولو اجتمع عليها من الكفار ما بين
لابات الدنيا ) وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال سيقاتل آخر هذه الأمة الدجال وعنه
صلى الله عليه وسلم أنه قال ( سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته
ألا يهلكهم بسنة عامة فأعطانيها وسألته ألا يغلبهم عدوهم الكافر فأعطانيها وسألته
ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ) والكل عليك وإياك نعني
وما ذكرته عن عمك فاعلم أنه لما بلغه خبرك واستنصارك بالكفار عقد ألويته المنصورة
بالله في وسط جامع المنصور بعد أن ختم عليها أهل الله من حملة القرآن مائة ختمة
وصحيح البخاري وضجوا عند ذلك بالتهليل
____________________
والتكبير و صلى الله عليه وسلم
والدعاء له وللأسلام بالنصر والتمكين والفتح الشامخ المبين فلو سمعت ذلك لعلمت
وتحققت أن أبواب السماء انفتحت لذلك وقضى ما هنالك وبلغه كتابك الذي كان هذا جوبا
عنه وهو بوسط تامسنا معه من جنود الله وأنصاره وحماة دينه ما يجعل الله فيه البركة
ولولا أن الشرع العزيز أمر بتعظيم جنود الإسلام والمباهاة بها والافتخار بكثرتها
لما قررنا لكم أمرها إذ لا اعتماد له أيده الله عليها وكذلك هم لا اعتماد لهم إلا
على حول الله وقوته ونصره وتأييده والناس على دين الملك وقد قاتلت وأنت في وسط
المسلمين في بضع عشرة معركة لم تنصر لك فيها راية فأي نحس وشؤم حلا بديار الروم
فإن جلبتهم فالله لك ولهم بالمرصاد ارجع إلى الله أيها المسكين وتب إليه فإنه يقبل
التوبة عن عباده في كل وقت وحين ودع عنك كلام من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله
مقاله وهذه نصيحة إن قبلتها وموعظة إن وفقت إليها والله يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم وهو نعم المولى ونعم النصير وهو حسبنا ونعم الوكيل والسلام انتهت الرسالة
وكان خروج محمد بن عبد الله بجيش البرتغال وفصوله به من طنجة في ربيع الثاني سنة
ست وثمانين وتسعمائة قال في المرآة إنهم لما خرجوا إلى بلاد الإسلام ضربوا محلاتهم
بالفحص على أقل من مسيرة يوم من مدينة القصر وكانت آصيلا قد تصيرت إليهم قبل ذلك
بأشهر يعني بعد فرارهم عنها أيام السلطان محمد الشيخ كما تقدم فعاين أهل القصر
الهلكة لقرب العدو منهم وقوته التي لا طاقة لهم بها وفشا النفاق لأجل السلطان محمد
بن عبد الله الذي معهم ولأجل بعد صريخ المسلمين فإن السلطان أبا مروان المعتصم
بالله كان إذ ذاك بمراكش فاستبطؤوا وصول الخبر إليه ثم مجيئه بعد ذلك فلم يبق لهم
تدبير إلا الفرار والتحصن بالجبال وغيرها فقال الشيخ أبو المحاسن يوسف الفاسي رحمه
الله وكان إذ ذاك بالقصر لرجل من أصحابه ناد في الناس أن الزموا بلادكم ودوركم فإن
عظيم
____________________
النصارى مسجون حيث هو حتى يجيء
السلطان من مراكش وإن النصارى غنيمة للمسلمين ومن شاء فليعط خمسين أوقية في
النصراني يشير إلى مبلغ قيمة النصراني في الغنيمة فما انتقل النصارى من مكانهم ذلك
أكثر من شهر حتى قدم السلطان أبو مروان وكان مريضا اه
وقال في النزهة إن النصارى لما برزوا من طنجة شنوا الغارة على السواحل فأعلم أهلها
السلطان أبو مروان وكان بمراكش وشكوا إليه كلب العدو عليهم فكتب السلطان أبو مروان
من مراكش إلى الطاغية إن سطوتك قد ظهرت في خروجك من أرضك وجوازك العدوة فإن ثبت
إلى أن نقدم عليك فأنت نصراني حقيقي شجاع وإلا فأنت كلب ابن كلب فلما بلغه الكتاب
غضب واستشار أصحابه هل نقيم حتى يلحق بنا من خلفنا من أصحابنا فقال له محمد بن عبد
الله الرأي أن نتقدم ونملك تطاوين والعرايش والقصر ونجمع ما فيها من العدة ونتقوى
بما فيها من الذخائر فأعجب ذلك الرأي أهل الديوان ولم يعجب الطاغية وكتب السلطان
أبو مروان لأخيه أبي العباس أحمد وكان نائبه على فاس وأعمالها أن يخرج بجيوش فاس
وأحوازها ويتهيأ للقتال ثم كتب إليه أيضا في شأن مؤنة الجيش كتابا يقول فيه من عبد
الله المعتصم بالله المجاهد في سبيل الله أمير المؤمنين أبي مروان عبد الملك بن
أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد الشيخ الشريف الحسني أيد الله أمره وأعز نصره إلى
أخينا الأعز الأنجب بابا أحمد ابن مولانا الوالد حرس الله كريم إخائه سلام كريم
ورحمة الله وبركاته أما بعد فإنا كتبناه إليكم من محلتنا السعيدة بتامسنا ولا زائد
بحمد الله إلا الخير والعافية والنعم الضافية هذا وإنه ساعة وصوله إليكم تخرجون من
الخدام لعمالة مكناسة وقبيلة آزمور وأولاد جلول من يفرض عليهم علف محلتنا المنصورة
ومؤنتها ويأمرهم برفعه وإبلاغه إلى مدينة سلا وقدر ذلك صحفة شعير وعشرون مدا من
القمح لكل نائبة وصاع من سمن وكبش لكل أربع نوائب ووكد عليهم رعاك الله أن يعتنوا
بذلك وبإيصاله إلى المكان المذكور من غير عطلة وهذا ما وجب به الإعلام إليكم والله
يرعاكم بمنه والسلام اه
____________________
ثم كتب السلطان أبو مروان للطاغية ثانية وذلك بعد ما وصل إلى القصر إني رحلت إليك
ست عشرة مرحلة أما ترحل إلى واحدة فرحل الطاغية من موضع يقال له تاهدارت ونزل على
وادي المخازن بمقربة من قصر كتامة وكان ذلك من السلطان أبي مروان مكيدة ثم إن
الطاغية تقدم بجيوشه وعبر جسر الوادي ونزل من هذه العدوة فأمر السلطان بالقنطرة أن
تهدم ووجه إليها كتيبة من الخيل فهدموها وكان الوادي لا مشرع له سوى القنطرة ثم
زحف السلطان أبو مروان إلى العدو بجيوش المسلمين وخيل الله المسومة وانضاف إليه من
المتطوعة كل من رغب في الأجر وطمع في الشهادة وأقبل الناس سراعا من الآفاق
وابتدروا حضور هذا المشهد الجليل فكان ممن حضره من الأعيان الشيخ أبو المحاسن يوسف
الفاسي وغيره
قال في المرآة كان الشيخ أبو المحاسن في ذلك اليوم في أحد الجناحين وأظنه الميسرة
من عسكر المسلمين في مقابلة النصارى دمرهم الله قال فوقع في ذلك الجناح انكسار
تزحزح به المسلمون عن مصافهم وحملت عليهم النصارى دمرهم الله فثبت الشيخ وثبت من
كان معه إلى أن منح الله المسلمين النصر وركبوا أكتاف العدو يقتلون ويأسرون والشيخ
لم يتزلزل ولم يلتفت منذ توجه إلى قتالهم حتى فتح الله عليهم اه
ولما التقت الفئتان وزحف الناس بعضهم إلى بعض وحمى الوطيس واسود الجو بنقع الجياد
ودخان المدافع وقامت الحرب على ساق توفي السلطان أبو مروان رحمه الله عند الصدمة
الأولى وكان مريضا يقاد به في محفة فكان من قضاء الله السابق ولطفه السابغ أنه لم
يطلع على وفاته أحد إلا حاجبه مولاه رضوان العلج فإنه كتم موته وصار يختلف إلى
الأجناد ويقول السلطان يأمر فلانا أن يذهب إلى موضع كذا وفلانا أن يلزم الراية
وفلانا يتقدم وفلانا يتأخر
وقال شارح الزهرة لما توفي السلطان أبو مروان لم يظهر الذي كان سائس المحفة موته
فصار يقدم دواب المحفة نحو العدو ويقول للجند السلطان يأمركم بالتقدم إليهم وعلم
أيضا بموته أخوه وخليفته أبو
____________________
العباس أحمد بن الشيخ فكتمها
ولم يزل الحال على ذلك والناس في المناضلة والمقاتلة ومعانقة القواضب والاصطلاء
بنار الطعان واحتساء كؤس الحمام إلى أن هبت على المسلمين ريح النصر وساعدهم القدر
وأثمرت أغصان رماحهم زهر الظفر فولى المشركون الأدبار ودارت عليهم دائرة البوار
وحكمت السيوف في رقاب الكفار ففروا ولات حين فرار وقتل الطاغية سبستيان عظيم
البرتغال غريقا في الوادي وقصد النصارى القنطرة فلم يجدوا إلا آثارها فخشعت نفوسهم
وتهافتوا في النهر تهافت الفراش على النار فكان ذلك من أكبر الأسباب في استئصالهم
وأعظم الحبائل في اقتناصهم ولم ينج منهم إلا عدد نزر وشرذمة قليلة
وقال في المنتقى المقصور كانت هذه الغزوة من الغزوات العظيمة الوقائع الشهيرة حضرها
جم غفير من أهل الله تعالى حتى إنها أشبه شيء بغزوة بدر حدثنا شيخنا أبو راشد
يعقوب البدري عمن يثق به أن الرجل من حاضري ذلك المعترك كان يستبق إلى النصراني
لينتهز فيه الفرصة فما يصله حتى يجده ميتا اه
وبحث في القتلى عن محمد بن عبد الله المستصرخ بهم والقائد لهم إلى مصارعهم فوجد
غريقا في وادي المخازن وذلك أنه لما رأى الهزيمة فر ناجيا بنفسه واضطر إلى عبور
النهر فتورط في غدير منه وغرق فمات فاستخرجه الغواصون وسلخ وحشي جلده تبنا وطيف به
في مراكش وغيرها من البلاد
وممن وجد صريعا في القتلى يومئذ الفقيه أبو عبد الله محمد بن عسكر السريفي
الشفشاوني صاحب الدوحة فإنه كان هرب مع المسلوخ وكان من بطانته فدخل معه بلاد
العدو فوجد بين جيف النصارى قتيلا وتكلم الناس في أمره حتى قيل إنه وجد على شماله
مستدبر القبلة وفيه يقول الفقيه العلامة أبو عبد الله محمد ابن الإمام الشهير أبي
محمد عبد الله الهبطي رحمه الله في منظومته التي نظم فيها أصحاب أبيه معتذرا عن
ابن عسكر المذكور ومشيرا إلى توهين ما قيل فيه
( ومنهم الشيخ الذي لا ينكر ** محمد أخو الدهاء عسكر )
____________________
( وإن يكن أتى بذنب ظاهر ** فعرضه من الشكوك طاهر )
( رأيته في النوم ذا بشاره ** وهيئة حسنة وشارة )
وكان التقاء الجمعين يوم الاثنين منسلخ جمادى الأولى سنة ست وثمانين وتسعمائة
ويوافقه من التاريخ المسيحي اليوم الرابع من أغشت سنة ثمان وسبعين وخمس عشرة مائة
قال في المنتقى وكان مقدار زمان المقاتلة خمسا وأربعين درجة وقيل اثنتين وخمسين
على ما حدثني به بعض الميقاتيين
وقال في المرآة وحصل المسلمون على غنيمة لم يكن قط مثلها بالمغرب إذ لم يتقدم
للنصارى خروج به على هذه الصورة إلا أن الغنيمة لم تقسم وإنما انتهبها الناس كما
اتفق لهم بحسب القوة والبخت الدنيوي وكان الناس يتوقعون مغبتها لاختلاط الأموال
بالحرام فظهر ذلك من غلاء وغيره وكنا نسمع أن البركة رفعت من الأموال من يومئذ
وقد حضر الشيخ أبو المحاسن هذه الغزوة وأبلى فيها بلاء حسنا وتورع عن الغنيمة فلم
يتلبس منها بشيء وبلغت قيمة النصراني ما ذكره الشيخ وكان سبب عدم ضبط الغنيمة وقسمها
على الوجه المشروع موت السلطان أبي مروان قبل هزيمة النصارى وكان مريضا فاشتغل
أخوه أبو العباس أحمد بجمع الكلمة ولم يهتبل بأمر الغنيمة فتم له ما قصد
وقد ساق منويل في تاريخه خبر هذه الوقعة مساقا حسنا فقال لما استولى عبد الملك
السعدي المدعو عند أهل المغرب بمولاي ملوك على ملك المغرب وطرد ابن أخيه مولاي
محمد المعروف بالأكحل يعني المسلوخ ذهب أولا إلى إصبانيا وتطارح على طاغية
الإصبنيول فيليب الثاني في أن يعينه على استرجاع ملكه فامتنع ثم دخل أشبونة وتطارح
على طاغية البرتغال سبستيان فأجابه وذهب إلى خاله طاغية الإصبنيول فيليب المذكور
آنفا وطلب منه الإعانة على ما هو بصدده فوعده بأن يعطيه من المراكب والعساكر ما
يملك به العرائش لأنه كان يرى أنها تعدل سائر
____________________
مراسي المغرب ثم أمده بعشرين
ألفا من عسكر الإصبنيول وكان سبستيان قد ساق معه اثني عشر ألفا من البرتغال وثلاثة
آلاف من الطليان ومثلها من الألمان ومن متطوعة الإصبنيول وغيرهم عددا كثيرا وبعث
إليه البابا صاحب رومة بأربعة آلاف أخرى وبألف وخمسمائة من الخيل واثني عشر مدفعا
وجمع سبستيان نحو ألف مركب وجاء إلى قادس
ولما عزم على اقتحام بلاد المغرب تشفعت إليه جدته وأرباب دولته وشيوخ دينه في
الرجوع فصم عنهم وكذلك خاله فيليب حذره عاقبة التوغل في أرض المغرب فصم على ذلك
كله وجاء إلى قادس ومنها خرج إلى طنجة
وكان محمد بن عبد الله المسلوخ ينتظره هنالك فاجتمع به وزحفوا إلى بلاد المغرب
وزحف إليهم السلطان عبد الملك في عساكر المسلمين وكانوا أربعين ألفا وزيادة
ومدافعهم أربعة وثلاثين مدفعا وقواد الجيش أبو علي القوري والحسين العلج الجنوي
ومحمد أبو طيبة وعلي بن موسى وأخوه أحمد بن موسى الذي كان عاملا على العرائش فجاء
في جمعه إلى السلطان عبد الملك وانضم إليه ولما تقارب الجيشان جمع السلطان عبد
الملك الناس وخطبهم ثم استدعى النصارى إلى القتال ونصب لهم علامته فأحجموا وكان
قصدهم المطاولة وقصد السلطان عبد الملك المناجزة وذلك لأن محمد المسلوخ قد دس إليه
من سمه
قال منويل ولما أحس عبد الملك بذلك وأنه لا محالة هالك بذل نفسه للقتال ليموت في
الجهاد وكان المسلوخ يتربص كي يهلك عمه قبل اللقاء فتقع الفتنة في عسكر المسلمين
لكن جيش النصارى لم تكن لهم مؤنة يطاولون بها فألجأهم ذلك إلى المناجزة ولما
انتشبت الحرب هلك عبد الملك للحين
قال منويل وكان أمر هذا الرجل عجبا في الحزم والشجاعة حتى أنه لما مات مات وهو
واضع سبابته على فمه كأنه يشير إلى جيشه أن يسكتوا عن الخوض في وفاته حتى يتم
أمرهم ولا يضطربوا وكذلك كان فإنهم كتموا موته فانتصروا وظفروا بالنصارى ظفرا لا
كفاء له فكانوا يذبحونهم مثل
____________________
الكباش ودهش النصارى وتكبكبت
جموعهم وتراكمت أمتعتهم وصناديقهم وخيلهم وسلاحهم بلا ترتيب وزادهم دهشا أن بعض
طوابيرهم كان ينادي صاحب صفارته وراءكم وراءكم قطعكم العدو ووقدت النار في بارود
النصارى فنفط وانهزموا إلى وادي المخازن فتهافت جلهم فيه فهلكوا والباقي أسره
المسلمون
وزعم أن سبستيان هلك تحته في ذلك اليوم أربعة أفراس وكان شابا حدثا وقال لأصحابه
إن تروني تروني أمامكم وإن لم تروني فأنا في وسط العدو أقاتل عنكم قال وأبدأ وأعاد
في ذلك اليوم إلى أن خر قتيلا وبقي مذكورا عند البرتغال يسمرون بأخباره وذكره
شعراء الأوربا في أشعارهم ولا زالوا يذكرونه إلى الآن
وخلفه في ملكه الطاغية الريكي البرتغالي فهو الذي ولي بعده وافتدى جنازته من
المسلمين ونقلها إلى سبتة فبقيت هنالك إلى أن هلك الطاغية الريكي وتولى على
البرتغال طاغية الإصبنيول فيليب الثاني فصار ملك الدولتين معا وهو خال سبستيان أخو
أمه فنقل جنازته من سبتة إلى أشبونة ثم أرخ منويل الوقعة بالتاريخ العربي والعجمي
موافقا لما مر فهذا ما ذكره في هذه الوقعة
قال في النزهة توفي السلطان أبو مروان عبد الملك بن الشيخ في زوال اليوم المذكور
وبايع الناس أخاه أبا العباس أحمد المنصور بالله كما سيأتي إن شاء الله
قال في درة الحجال فانظر لحكمة الله الواحد القهار أهلك ثلاثة ملوك يوم واحد وهم
أبو مروان الشيخ وولد أخيه محمد بن عبد الله المسلوخ والطاغية سبستيان وأقام واحدا
وهو أبو العباس المنصور اه
قلت وفي إهلاك الثلاثة وإقامة الواحد إشارة واضحة لإهلاك دين التثليث ونصر دين
التوحيد في ذلك اليوم والله تعالى أعلم
ولما بلغت الهزيمة إلى الطاغية الأعظم أعني القائم بالأمر بعد سبستيان لأن التحقيق
أنه كان الأعظم يومئذ لما مر بعث إلى المنصور بعد استقلاله
____________________
بالملك وعوده إلى فاس كما
سيأتي يلتمس منه الفداء فيمن بقي بيده من الأسارى فأجابه إلى ذلك وحصل له بسببه
أموال طائلة وذكر بعضهم أن الأسارى لما ذهبوا إلى بلادهم قال الطاغية لم لم تأخذوا
تطاوين والعرائش والقصر قبل أن يصل ملكهم فقالوا له امتنع من ذلك الأمير الذي كان
علينا فأمر بهم فأحرقوا جميعا
مضحكة قال في النزهة ذكر بعضهم أن النصارى لما وقعت عليهم الكائنة المذكورة وفنى
من فنى منهم ورأى أساقفتهم قلة عددهم وخلاء بلادهم لكثرة من مات منهم أباحوا
للعامة فاحشة الزنى ليكثر التناسل ويخلف ما هلك منهم ورأوا ذلك من نصرة دينهم
وتقويم أود ملتهم أخزاهم الله اه
وقد وقفت على تاريخ لبعض مؤرخي الفرنج الإنجليزيين من أهل جزيرة مالطة فرأيته قد
ألم بخبر هذه الوقعة وصرح بأنها كانت سبب هلاك البرتغال وتلاشي دولتهم وبطلان كرسي
سلطنتهم حتى استضافهم إليه طاغية الإصبنيول بعد نحو سنتين وصيرهم من جملة رعيته
ومن فصول كلامه بعد أن ذكر أن أكثر البرتغال قتلوا في ذلك اليوم ما نصه وكانت يعني
الوقعة المذكورة وقعة هائلة ويوما مشؤوما وبالجملة فقد قتل في ذلك اليوم سائر
أشراف البرتكيسيين ولم يتخلف منهم أحد فلما بطل كرسي سلطنتهم قام وقتئذ فيليبس
الثاني ملك إصبانيا وتزوج ملكتهم وحكم على البلاد كلها اه كلامه إلا أنه ذكر أن السبب
في استغاثة السلطان محمد بن عبد الله بالبرتغال هو تغلب الإصبنيوليين على مملكته
وانتزاعها من يده وهو كذب أو غلط ولعله تصحف عليه لفظ الإصطنبوليين بالإصبنيوليين
إذ قد تقدم أن السلطان أبا مروان إنما استولى على المغرب بجيش الترك المنفذ من قبل
السلطان سليم العثماني والله أعلم
وقد ألم بهذه الوقعة أيضا لويز مارية في كتابه الموضوع في أخبار الجديدة لكنه لم
يبسطها على عادته في السكوت عن ما يكون من الظهور في جانب المسلمين وإشاعة ما يكون
من ذلك في جانب النصارى بل
____________________
والزيادة فيه ومع ذلك فقد قال
في وصفها كلاما هذه ترجمته وقد كان مخبوءا لنا في مستقبل الأعصار العصر الذي لو
وصفته كما وصفه غيري من المؤرخين لقلت هو العصر النحس البالغ في النحوسة الذي
انتهت فيه مدة الصولة والظفر والنجاح وانقضت فيه أيام العناية من البرتغال وانطفأ
مصباحهم بين الأجناس وزال رونقهم وذهبت النخوة والقوة منهم وخلفها الفشل وانقطع
الرجاء واضمحل إبان الغنى والربح وذلك هو العصر الذي هلك فيه سبستيان في القصر
الكبير من بلاد المغرب اه فهذا كلام هذا البرتغالي قد تحفظت عليه وأديت ترجمته كما
هي ليعتبر به من يقف عليه والحق ما شهدت به الأعداء
ولما تمت للسلطان أبي العباس المنصور البيعة بوادي المخازن طالبه الجيش بأرزاقهم
واستنجزوا أعطياتهم حسبما جرت به عادة من قبله معهم فطالبهم هو بخمس الغنيمة لأنهم
جعلوها نهبى ولم يقتسموها على الوجه الشرعي كما سبق فصعب استخراجها منهم لعدم
التعيين وجرأة الناس على الغلول فسامحهم فيها وسامحوه في عطائهم
ثم أمر المنصور بتوجيه كتب البشارات إلى الآفاق بهذا الفتح المبين فكتب إلى صاحب
القسطنطينية العظمى وإلى سائر ممالك الإسلام المجاورين للمغرب يعرفهم بما أنعم
الله به من إظهار الدين وهلاك عبدة الصليب واستئصال شوكتهم ورد كيدهم في نحرهم
فوردت عليه الأرسال من سائر الأقطار مهنئين له بما فتح الله على يده حسبما نذكره
بعد إن شاء الله بقية أخبار السلطان أبي مروان وسيرته
قال ابن القاضي كان سبب وفاة السلطان أبي مروان رحمه الله أنه سقي سما وذلك أن
قائد الترك الذين كانوا معه واسمه رمضان العلج بعث إلى بعض قواده أن يتلقاه بكعك
مسموم هدية للسلطان المذكور وقت مرورهم عليه وقصد بذلك قتله وذلك بعد أخذه به
مدينة فاس ليثبت لهم الملك بها فلم يكمل الله مرادهم لما شهدوه من عظيم جيش المغرب
فهذا كان سبب في موته رحمه الله اه ولما توفي حمل إلى مراكش فقبر بها وكانت مدة
____________________
خلافته أربع سنين ومن حجابه
القائد رضوان العلج وكتابه محمد بن عيسى ومحمد بن عمر الشاوي وقضاته قضاة ولد أخيه
وكان يتزيا بزي الترك ويجري مجراهم في كثير من شؤونه وكان يتهم بالميل إلى الأحداث
وربما كان يظهر ذلك وكان أخوه أبو العباس المنصور خليفته على فاس كما مر وكانت له
فيه محبة تامة وكان يظهر أنه ولي عهده ويرشحه لذلك كثيرا حسبما أفصحت عنه رسائله
التي كان يبعث بها إليه
ولنذكر ما كان في هذه المدة من الأحداث
ففي سنة ثمان وعشرين وتسعمائة كان الوباء بالمغرب كما قدمنا
وفي سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة نزل مطر غزير بمراكش حتى امتلأت منه الآبار وتهدمت
الدور وصار الناس يؤرخون بعام الآبار
وفي سنة إحدى وستين وتسعمائة توفي الشيخ أبو محمد عبد الله بن ساسي من أولاد أبي
السباع ودفن بزاويته على ضفة وادي تانسيفت من أعمال مراكش وقبره مزارة مشهورة
وعليه بناء حفيل
وفي سنة ثلاث وستين وتسعمائة توفي الشيخ الإمام أبو محمد عبد الله ابن محمد
الصنهاجي الطنجي المعروف بالهبطي وكانت وفاته في ذي القعدة من السنة المذكورة وكان
رحمه الله من أهل الورع والدين والاتباع للسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن
فوائده ما حكاه عنه في الدوحة قال سألت شيخنا الإمام أبا محمد عبد الله الهبطي عن
الشيخ أبي محمد الغزواني وكان من أصحابه فقلت له يا سيدي ما لسائر المشايخ من
أصحاب الشيخ الغزواني كأبي الحجاج التليدي وأبي البقاء اليالصوتي وأبي الحسن علي
بن عثمان وغيرهم يصرحون بقبطانية الشيخ وينسبونك أنت إلى التقصير في حقه حيث لم
تقل بما يقولونه فقال لي رضي الله عنه قد علمت معنى الشهادة في الشرع ما هي فقلت
نعم فقال لي كيف لي أن أشهد لأحد بمقام معين وأنا لم أسلكه ولم أتحققه ولم يكشف لي
عنه فإن فعلت فقد شهدت شهادة الزور فقلت له وأي شهادة تشهد في الشيخ
____________________
فقال لي أشهد أنه من العارفين
بالله تعالى وأنه كان يجيب بالحال أكثر مما يجيب بالمقال انتهى قلت وهذا شأن أهل
الدين والورع المحتاطين لدينهم لا يقدمون على أمر ولا يتفوهون به حتى يكونوا منه
على بصيرة وتجد كثيرا ممن عقله وراء لسانه يتقولون على الله في غيبه ويخبطون خبط
العشواء وينسبون المقامات والأحوال لمن ليس منها في قبيل ولا دبير نسأل الله تعالى
أن يلهمنا رشدنا بمنه
وفي سنة أربع وستين وتسعمائة في يوم الأربعاء الثامن والعشرين من رمضان منها كسفت
الشمس الكسوف الكلي العظيم
وفي سنة خمس وستين وتسعمائة كان بالمغرب وباء عظيم كسا سهله وجباله وأفنى كماته
وأبطاله واتصل أمره إلى سنة ست وستين بعدها
وفي سنة إحدى وسبعين وتسعمائة توفي الشيخ أبو العباس أحمد بن موسى الجزولي ثم
السملالي الشهير ببلاد السوس أخذ عن الشيخ أبي فارس عبد العزيز التباع والشيخ أبي
العباس أحمد بن يوسف الراشدي ثم الملياني
وفي سنة ست وسبعين وتسعمائة ليلة عبد الأضحى منها توفي الشيخ أبو زيد عبد الرحمن
بن عياد الصنهاجي ثم الفرجي الدكالي المعروف بالمجذوب الولي المشهور دفين مكناسة
الزيتون كان مأوى سلفه بمدينة تيط قرب آزمور ثم رحل هو ووالده إلى مكناسة فمات بها
وفي سنة سبع وسبعين وتسعمائة بعد صلاة الجمعة من أول يوم من المحرم منها زلزلت
الأرض زلزالا شديدا وفزع الناس لذلك وفي هذه السنة في الحادي والعشرين من ربيع
الأول منها توفي الشيخ أبو محمد عبد الله بن حسين من شرفاء بني آمغار دفين
تامصلوحت وقد تقدم ما جرى بينه وبين السلطان الغالب بالله
وفي سنة ثمان وسبعين وتسعمائة وذلك أواخر شوال منها الموافق لأواسط مارس العجمي
حدث بالمغرب جراد كثير وفي أيام السلطان الغالب بالله ظهر نجم لم يكن معهودا ثم
ظهرت في أيام ابنه محمد بن عبد الله أعلام حمر في الجو من الناحية الشرقية تبعتها
في الأرض أجناد الترك التي
____________________
جاء بها السلطان أبو مروان من
الجزائر كما مر وفي أيام السلطان أبي مروان المذكور ظهر الكوكب ذو الذنب الكبير في
برج العقرب وطلع أياما ثم غاب وظهر بعده كوكب آخر ذو ذنب أصغر منه وعلى أثره كان
خروج البرتغال من طنجة ووقعة وادي المخازن كما مر والله تعالى أعلم بغيبه الخبر عن
دولة السلطان أبي العباس أحمد المنصور بالله السعدي المعروف بالذهبي وأوليته
ونشأته
كانت ولادة السلطان أبى العباس أحمد المنصور بالله ابن السلطان أبي عبد الله الشيخ
بفاس سنة ست وخمسين وتسعمائة وأمه الحرة مسعودة بنت الشيخ الأجل أبي العباس أحمد
بن عبد الله الوزكيتي الوارززاتي وكانت من الصالحات الخيرات وستأتي بقية أخبارها
وذكر في المنتقى قال مرض المنصور في صغره مرضا شديدا حتى أيس منه فرأت أمه في
النوم شخصا يقول لها أزيريه الشيخ أبا ميمونة فإنما أصابته عين فأزارته إياه فعوفي
وكان أبوه المهدي ينبه على أنه واسطة عقد أولاده
قال في مناهل الصفا حدثني الشيخ المسن القائد أبو محمد مؤمن ابن الغازي العمري أن
المنصور أقبل يوما في حياة أبيه وهو صبي والمجلس غاص بالأكابر فاندفع يخترق الصفوف
قال فصاح بي المهدي إذ ذاك وأنا أصغر القوم فقال يا مؤمن ارفعه فيسنفعك أو ينفع
عقبك فابتدرت حمله وكان كذلك فإن المنصور لما أفضت إليه الخلافة كان القائد مؤمن
ابن الغازي عنده بالحظوة الرفيعة والمنزلة العالية
ونشأ المنصور رحمه الله في عفاف وصيانة وتعاط للعلم ومثافنة لأهله عليه وكانت
مخايل الخلافة لائحة عليه من لدن عقدت عليه التمائم إلى أن تم أمره حدثنا الفقيه
العالم سفير الخلفاء أبو محمد عبد الله بن محمد بن
____________________
محمد بن علي الجزولي الدرعي
أنه اجتمع ببعض أهل المكاشفة بمصر فسأله عن السلطان أبي عبد الله الشيخ وأولاده
قال فسميتهم له واقتصرت على الكبار منهم فلم أذكر المنصور لأنه كان أصغرهم سنا
يومئذ فقال لي بقي منهم من لم تذكره فقلت له احمد فقال ذاك واسطة عقدهم ووجه
صفقتهم فكان كذلك
وقال الشيخ أبو فارس عبد العزيز الفشتالي لما أخذ المهدي البيعة لولده السلطان
الغالب بالله كما تقدم استقدمه من فاس وأوصاه بالمنصور جدا وقال له إن الفائدة فيه
أو كما قال وهكذا كان ينبه على أنه واسطة عقد أولاده وكان المنصور رحمه الله يحدث
أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وأنواره تشرق قال فوقع في نفسي أن
أسأله عن نصيبي من الخلافة فكاشفني صلى الله عليه وسلم بما في خاطري وأجابني بما
حقق لي نيلها ثم أشار لي بأصابعه الثلاثة الشريفة ضاما الإبهام منها إلى السبابة
والوسطى وقال أمير المؤمنين اه
وقال الإمام أبو زيد عبد الرحمن بن محمد التامنارتي في كتابه الفوائد الجمة بإسناد
علوم الأمة أخبرني الفقيه أبو العباس أحمد بن عبد الله الدغوغي صاحب الحسبة
بتارودانت أنه رأى في منامه كأنه في حلقة يسرد فيها صحيح البخاري بموضع من دار
الخلافة بها وأبو العباس المنصور يومئذ بها وذلك قبل ولايته قال فرأيت في طرة
الكتاب هذا اللفظ ورى الزند فكنت أتأمل معناه فالتفت فإذا برجل انعزل ناحية على
طنفسة فوقع في نفسي أن أسأله فأتيته بالكتاب وقلت له يا سيدي ما معنى هذه الكلمة
التي في طرة هذا الكتاب فقال لي قل لمولاك أحمد أنا الذي أوريت زندك ما دمت على
الحق فإن عدلت عنه فأنا بريء منك فقلت له ومن أنت يا سيدي فقال لي رسول الله صلى
الله عليه وسلم لم يمض إلا قليل حتى ولي الخلافة وحمدت سيرته قال أبو زيد وناهيك
بزند أوراه النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أن ولاية الإسلام لا تنعقد إلا
بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وقد اشتهرت المرائي بذلك
____________________
ويقرب من هذا ما ذكره صاحب ابتهاج القلوب في مناقب الشيخ المجذوب أن الشيخ الصالح
أبا عبد الله الملقب بكدار ابن الشيخ أبي زكرياء يحيى بن علال المالكي البوخصيبي
رأى النبي صلى الله عليه وسلم يوم فشكا إليه أولاد مطاع لما رآهم عليه من الفساد
في الأرض فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يأتيهم أحمد فكان كذلك أتاهم عقب ذلك
السلطان أبو العباس المنصور فأخذهم وفل جمعهم اه وأخبار المنصور من هذا النمط
كثيرة
وكان رحمه الله طويل القامة ممتلئ الخدين واسع المنكبين تعلوه صفرة رقيقة أسود
الشعر أدعج أكحل ضيق البلج براق الثنايا حسن الشكل جميل الوجه ظريف المنزع لطيف
الشمائل
وكانت بيعته بعد الفراغ من قتال النصارى بوادي المخازن يوم الاثنين منسلخ جمادى
الأولى سنة ست وثمانين وتسعمائة واجتمع عليها من حضر هناك من أهل الحل والعقد ثم
لما قفل المنصور من غزوته تلك ودخل حضرة فاس يوم الخميس عاشر جمادى الآخرة من
السنة المذكورة جددت له البيعة بها ووافق عليها من لم يحضرها يوم وادي المخازن ثم
بعث إلى مراكش وغيرها من حواضر المغرب وبواديه فأذعن الكل للطاعة وسارعوا إلى
الدخول فيما دخلت فيه الجماعة
قال الفشتالي لما كانت وقعة وادي المخازن ونصر الله دينه وكبت الكفر وأهله واستوسق
الأمر للمنصور كتب إلى صاحب القسطنطينية العظمى وهو يومئذ السلطان مراد بن سليم
العثماني وإلى سائر ممالك الإسلام المجاورين للمغرب يعرفهم بما أنعم الله به عليه
من إظهار الدين وهلاك عبدة الصليب واستئصال شأفتهم فوردت عليه الأرسال من سائر
الأقطار مهنئين له بما فتح الله على يده وكان أول من وفد عليه رسول صاحب الجزائر
ثم تلته أرسال طاغية البرتغال وهو الريكي القائم بأمرهم بعد هلاك سبستيان وليس
خاله وإنما خاله طاغية الإصبنيول فيليب الثاني الذي جمع المملكتين معا بعد هلاك
الريكي المذكور وبعد وقعة وادي المخازن بثلاث سنين فقدموا بهدية عظيمة وضعوها يوم
دخولهم إلى فاس على الكراريص والعجل فعجب الناس منها
____________________
عجبا بليغا وكان ذلك اليوم
يوما مشهودا وكان من جملة ما فيها ثلاثمائة ألف دكات من ريال الفضة وأما الطرف
النفيسة والأثاث الرفيع فشيء لا يحصى ثم وردت أرسال طاغية الإصبنيول صاحبة قشتالة
بهدية عظيمة منها اليواقيت الكبار التي انتزعها الطاغية من تاج آبائه وصنيديق
مملوء من الدر الفاخر وقضب الزمرد وغير ذلك وتكلم الناس فيما بين الهديتين أعني
هدية البرتغالي وهدية الإصبنيولي أيهما أعظم ولم يهتد أهل العقل والمعرفة إلى
مقدار التفاوت بينهما ثم قدمت أرسال السلطان مراد العثماني ومعهم هدية وهي سيف
محلى لم ير مثله مضاء وصفاء متن ثم قدمت أرسال طاغية أفرانسة ومعهم هدية عظيمة ولم
تزل الوفود مترادفة بباب المنصور والأرسال تصبح وتمسي على أعتاب تلك القصور إلى أن
لم يبق أحد ممن تتشوف النفوس إليه وحينئذ اطمأنت بالمنصور الدار وطاب المقام وتم
القرار
وفي جمادى الأولى سنة سبع وثمانين وتسعمائة مرض المنصور مرضا مخوفا وطال به حتى
كادت الأمور تختل ثم تداركه الله على يد الحكيم الماهر أبي عبد الله محمد الطبيب
ولما أبل من مرضه أحسن إلى الطبيب المذكور ونثر عليه خروجه من الخلع ما لا يحصى
وكان يوم خروجه يوما مشهودا وفي ذلك يقول الفقيه الأديب أبو عبد الله محمد بن علي
الهوزالي المعروف بالنابغة
( تردى أذى من سقمك البر والبحر ** وضجت لشكوى جسمك الشمس والبدر )
( وبات الهدى خوفا عليك مسهدا ** وأصبح مذعور الفؤاد الندى الغمر )
( فلما أعاد الله صحتك التي ** أفاق بها من غمه البدو والحضر )
( تراءت لنا الدنيا بزينة حسنها ** وعاد إلى إبانه ذلك البشر )
( وصار بك الإسلام في كل بلدة ** يهني ويدعي أن يطول لك العمر )
( وصحت لنا الآمال بعد اعتلالها ** وعادت إلى الإيناع أغصانها الخضر )
( ولا غرو إن صامت على سمط الندى ** إذا اغبر وجه الأرض واحتبس القطر )
( لبيت أبي العباس أنضت عجافها ** قديما فخافت أن يعاودها الضر )
( لئن صدئت بيض المعالي لقد غدت ** تسيء الكماة البيض واللدن السمر )
____________________
( بقيت لهذا الدين تحمي ذماره ** ويحميك رب العرش ما بقي الدهر ) عقد المنصور
ولاية العهد لابنه محمد الشيخ المدعو المأمون
قال الفشتالي لما أبل المنصور من مرضه المذكور وعاد إلى حاله من الصحة أجمع رأي
أعيان الدولة واتفقت كلمة كبرائها على أن يطلبوا منه تعيين من يلي الأمر بعده
ويكون ولي عهده وكان المنصور مهيبا لا يقدر أحد على مواجهته بمثل هذا فاتفقوا على
أن يكون البادئ لذلك القائد المؤمن بن الغازي العمري لما له من الإدلال على
المنصور بطول الخدمة وسالف التربية فقال له القائد المذكور يا مولانا الله تعالى
حفظ الإسلام بإبلالك من هذا المرض وعصم الدين بإبقائه عليك وقد بقي الناس في أيام
سقمك في حيرة عظيمة ودخلهم من الدهش ما لا يخفى عليك فلو عينت لنا من أبنائك
القساورة من تجتمع كلمة الإسلام عليه ويشار بالخلافة إ ليه لكان أولى وأليق بسياسة
الملك وإن ابنك الأبر أبا عبد الله محمد المأمون حقيق بذلك وجدير بسلوك تلك
المسالك لما فيه من خلال الخير وخصال السيادة زيادة على ما هو عليه من التيقظ في
أموره والحزم في شؤونه وقد ظهرت للناس محاسن سيرته واطلعوا على جميل سريرته
فاستحسن المنصور ذلك وأعجبه ما أشار عليه به فقال له سوف أستخير الله في ذلك فإن
يكن من عند الله يمضه قلت هذا الذي حكاه الفشتالي على لسان القائد مؤمن في حق
المأمون المذكور هو بخلاف الواقع كما ستقف عليه من أحوال المأمون بعد هذا إن شاء
الله ولكن المؤرخين والشعراء يمدحون ويقدحون بحسب أغراضهم لا بحسب الواقع غالبا لا
سيما إذا كان من يعنونه بذلك مخدوما لهم ومنعما عليهم فلا ينبغي لمن وقف على كلام
هؤلاء الصنف منهم أن يعتمد عليه إلا بعد التثبت والتبصر والله تعالى الهادي إلى
الصواب بمنه ثم لبث المنصور بعد هذه الإشارة أيام يستخير ربه في ذلك ويستشير من يعلم
أهليته للمشورة من أهل العلم والصلاح فلما انقضت أيام الاستخارة وتواطأت الآراء
على حسن تلك الإشارة جمع المنصور أعيان حاضرة مراكش وأعيان مدينة فاس
____________________
وغيرهم من أشياخ القبائل بوجوه
الناس من أهل الحواضر والبوادي وأوصى بالعهد لولده المذكور أبي عبد الله محمد
المأمون وذلك يوم الاثنين منسلخ شعبان سنة سبع وثمانين وتسعمائة
وكان المأمون إذ ذاك خليفة أبيه على فاس فلم يحضر هذه البيعة فبعث إليه المنصور
بعد ذلك ليقدم من فاس ويبايع بحضرته ولم يقنعه ما كان عقد له من البيعة وهو غائب
ولما بعث إليه خرج المنصور بعسكره إلى تانسيفت خارج مراكش ثاني عشر صفر سنة تسع
وثمانين وتسعمائة ولم يزل بعسكره هناك متلوما ومنتظرا لقدوم المأمون إلى أن قدم
غرة جمادى الثانية من السنة المذكورة فكانت ملاقاتهما من عجائب الزمان ولما اصطف
جيش المنصور وجيش المأمون ترجل المأمون عن فرسه وتقدم حافي القدم فعفر وجهه بين
يدي والده ثم قبل رجله والمنصور على فرسه واقفا بين الصفين فدعا له بخير وأظهر
الفرح بمقدمه وكان المأمون قد عبأ جيشه تعبية لم ير مثلها ورتبهم ترتيبا حسنا في
لباسهم وسائر أمورهم فسر المنصور بذلك وبعد أيام من بلوغه أمر به فأجلس في سرادقه
الأعظم الذي لم يكن للملوك قبله مثله كما سيأتي وأمر أهل الحل والعقد فازدحموا على
تقبيل يده واقتضيت منهم الأيمان بحضرته وقام الشعراء فأفصحوا عن وصف الحال وغمر
المنصور الناس بالنوال وكان ذلك اليوم يوما مشهودا وبعد أيام منه أمر المنصور
المأمون أن يرجع إلى حضرة فاس فرجع ودخل المنصور حضرته وتم غرضه الذي قصده ثورة
داود بن عبد المؤمن بن محمد الشيخ والسبب في ذلك
قال الفشتالي لما وقعت البيعة للمأمون وتكامل أمرها ثار الرئيس الأجل أبو سليمان
داود بن عبد المؤمن ابن السلطان محمد الشيخ وهو ابن أخي المنصور وفر إلى جبل
سكسيوة وشق العصا ودعا إلى نفسه فانثالت عليه أوشاب من البربر وغيرهم ونجم أمره
وأثرت في إذن الرعية جعجعته فبعث إليه المنصور قائده الزعيم أبا عبد الله محمد بن
إبراهيم بن بجة فناوشه
____________________
القتال بجبل سكسيوة فهزمه وفر
إلى جبل هوزالة فتحزبوا عليه وقويت بهم شوكته وأخذ يشن لهم الغارات على أهل درعة
إلى أن ضاقوا به ذرعا فشكوا أمره إلى المنصور فبعث إليه قائده الذي ذكر فلم يزل في
مقابلته ومقاتلته إلى أن شرده عن جبل هوزالة ففر داود منه إلى الصحراء واستقر به
الرحيل بها عند عرب الودايا من بني معقل فلم يزل عندهم إلى أن هلك سنة ثمان
وثمانين وتسعمائة وكفى المنصور أمره حدوث النفرة بين المنصور والسلطان مراد
العثماني وتلافي المنصور لذلك
قد علمت ما كان من التجاء عبد الملك المعتصم وأحمد المنصور إلى السلطان سليمان
العثماني وتطارحهما عليه حتى أمدهما بالجيش الذي كان سببا في تملكهما المغرب ولما
صفا الأمر لعبد الملك أهمل جانب العثماني ولم يكاتبه بشيء ولا عرج عن ساحته ثم لما
ملك المنصور وكتب إلى النواحي بخبر وقعة وادي المخازن كتب إلى السلطان مراد في
جملتهم فبعث السلطان المذكور إلى المنصور بالهدية التي تقدم ذكرها وكان المنصور
استقلها و أنف منها فتشاغل عن الوفد وتركهم مهملين بحضرته وتأخر عن جواب السلطان
مراد فكان ذلك سببا للنفرة وكان وزير البحر للعثماني واسمه الرئيس علي علوج يبغض
المنصور فلم يزل يسعى به عند سلطانه ويذكره ما كان من أبيه الشيخ من القدح في
ولاية الترك والطعن عليهم وقال له في ذلك قد ضاع صنيعك في هذا الغادر وصنيع والدك
من قبلك ولم يزل يفتل له في الذروة والغارب ويهون عليه أمر المغرب حتى أذن له في
توجيه العمارة إليه ومنازلته والأخذ بآفاقه إلى أن يستأصل أمر المنصور ويخمد جمرته
ويقال إن السلطان مرادا أمر وزيره المذكور أن يذهب بالعمارة إلى الجزائر فتكون
هنالك ثم يتقدم بالعساكر في البر إلى المغرب فأخذ الوزير في التأهب لذلك واتصل
الخبر بالمنصور على يد بعض قناصل
____________________
النجليز فارتحل إلى فاس من
حينه وشحن الثغور وملأ المراسي وكان على أهبة وكمال استعداد وبعث أرساله إلى
السلطان المذكور بهدية عظيمة تلافيا لما فرط واعتذارا عما سلف وكان من جملة أرساله
القائد الأنجد أبو العباس أحمد بن ودة العمراني والكاتب الشهير أبو العباس أحمد بن
يحيى الهوزالي فركبوا البحر من مرسى تطاوين قاصدين القسطنطينية العظمى وبينما هم
في أثناء الطريق على ثبج البحر لقيهم الوزير علوج في أسطوله قاصدا ديار المغرب
عازما على منازلة المنصور به فلما رآهم سقط في يده وأيقن بخيبة مسعاه فرام صدهما
عما قصدا إليه وأيأسهما من تدارك الأمر وقال لهما إن الخرق قد اتسع على الراقع ولو
كان لصاحبكم غرض في المسألة ما بقي أصحابنا بأبوابه كالكلاب والبادي أظلم فلم يزل
الوزير علوج بالقائد ابن ودة إلى أن صرفه عن رأيه ورده معه وترك الهوزالي يبلغ
الرسالة والهدية ظنا منه أن صغير السن لا يحسن مخاطبة الملوك العظام وابن ودة الذي
كان عنده مظنة لكمال التدبير ومثافنة الملوك رده معه فلما انتهى الهوزالي إلى
السلطان مراد ودخل عليه أظهر من نبله ولطف مخاطبته ما خلب به قلب السلطان المذكور
واستل السخيمة من صدره واعتذر له عن تأخر المنصور عن الجواب بما لا يعود بوهن على
مخدومه ولا يفيد غلبة خصمه فقبل السلطان مراد الاعتذار وتقبل الهدية بقبول حسن
وكتب مع الهوزالي إلى الوزير علوج بالرجوع عن منازلة المنصور فرجع بها الهوزالي
يطير سرورا ولم يغب عن علوج إلا نحو الشهر حتى قدم عليه بأمر الملك فقرع لها علوج
سن الندم وأسف على تفريطه في الهوزالي وتركه وبعث السلطان مراد رسله مع الهوزالي
إلى المنصور يلومه على التراخي في أمور الملوك فلما قدموا عليه أكرم وفادتهم وأحسن
نزلهم وردهم مكرمين إلى مرسلهم وبعث معهم الفقيه الإمام قاضي الجماعة بحضرة مراكش
أبا القاسم ابن علي الشاطبي والقائد الأنجد أبا زيد عبد الرحمن بن منصور الشيظمي
المريدي فلما وردوا على خاقان الترك فرح بهم كل الفرح ورتب الشاطبي كلاما بليغا
أعرب فيه عن فضل الدولتين وقرر فيه حق أهل البيت وأطرى
____________________
المنصور وحض فيه على اتحاد
كلمة الإسلام وقرأ ذلك على السلطان مراد فاهتز لسماعه ثم بعد أيام أحسن إليهم
وأجزل صلتهم وردهم مكرمين إلى مرسلهم
وقال صاحب خلاصة الأثر كان المنصور موادعا لسلاطين آل عثمان فيرسل إليهم بالهدايا
في كل سنة وكانوا هم يرسلون إليه بالمكاتيب والخلع السنية حتى إن السلطان مراد بن
سليم كتب إليه أثناء مكاتيبه ملك علي العهد أن لا أمد يدي إليك إلا للمصافحة وإن
خاطري لا ينوي لك إلا الخير والمسامحة وكانت رسله دائما تأتي إلى القسطنطينية من
جانب البحر ويمكثون زمانا طويلا ويتعهدون الوزراء ومن له قرب من الدولة من جملتهم
الرئيس الأديب محمد الأمين الدفتري فقد ذكر صاحب خلاصة الأثر أن هذا الرئيس كان
يجمع نفائس الكتب ويبعث بها إلى المنصور فبسبب ذلك كانت المراسلات بينهما غير
منقطعة وقد ذكر صاحب خلاصة الأثر في ترجمة الرئيس المذكور بعض تلك المراسلات
فانظره
ولما تكامل هذا الغرض وصح جسم الدولة من المرض ورجعت الأرسال في أحسن الأحوال عاد
المنصور إلى مراكش وفي يوم خروجه من فاس خرج أعيان أهلها ومشيخة العلم بها وقرئ
البخاري بين يديه سردا على عادة الخلفاء في ذلك وكان ذلك كله سنة تسع وثمانين
وتسعمائة إيقاع المنصور بعرب الخلط والسبب في ذلك
قد قدمنا في أخبار الدولة المرينية ما كان لهؤلاء الخلط من الاعتزاز والدالة عليها
بسبب ما كان لهم من الشوكة والمصاهرة مع ملوكها ولما أدبرت دولة بني مرين واستولى
على ملكهم أبو عبد الله محمد الشيخ المهدي انحاشوا إليه وأظهروا الخدمة والنصيحة
فلما جاء أبو حسون الوطاسي بجيش الترك حسبما شرحناه قبل أوقعوا الهزيمة على المهدي
لأبي
____________________
حسون كما مر فلما غلب المهدي
على المغرب وصفا له أمره خلعهم من الجندية ووظف عليهم الخراج ومحا اسمهم من ديوان
الخدمة ونقل أعيانهم إلى مراكش واتخذهم رهائن عنده ولم يزل الأمر على ذلك إلى أيام
المنصور فرأى جلادهم يوم وادي المخازن وحسن بلائهم فاختار النصف منهم ورده إلى
الجندية وأبقى نصفهم الآخر في غمار الرعية ونقلهم إلى آزغار فاستوطنوه حينا من
الدهر ثم عاثوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد ومدوا أيديهم إلى أولاد مطاع
فنهبوهم وضايقوا بني حسن فكثرت الشكاية بهم إلى المنصور فضرب عليهم سبعين ألفا
غرامة فلم يزدادوا إلا عتوا وشدة فأرسل إليهم ليبعثوا طائفة منهم إلى تيكورارين
فامتنعوا من ذلك فحينئذ بعث إليهم القائد موسى بن أبي جمدي العمري فانتزع منهم
الخيل وأبقاهم رجالة ثم حكم السيف في رقابهم واستأصل جمهورهم فمن ثم خضدت شوكتهم
ولانت للغامز قناتهم استيلاء المنصور على بلاد الصحراء تيكورارين وتوات وغيرهما
لما استقر المنصور بمراكش مرجعه من فاس وأمن من هجوم الترك على المغرب طمحت نفسه
إلى التغلب على بلاد تيكورارين وتوات من أرض الصحراء وما انضاف إلى ذلك من القرى
والمداشر إذ كان أهل تلك البلاد قد انكفت عنهم أيدي الملوك ولم تسسهم الدول منذ
أزمان ولا قادهم سلطان قاهر إلى ما يراد منهم فسنح للمنصور أن يجمع بهم الكلمة
ويردهم إلى أمر الله فبعث إليهم القائد أبا عبد الله محمد بن بركة والقائد أبا
العباس أحمد ابن الحداد العمري المعقلي في جيش كثيف فقطعوا إليهم القفر من مراكش
وانتهوا إليهم على سبعين مرحلة منها فتقدموا إليهم أولا بالدعاء للطاعة والأعذار
والأنذار فامتنعوا فنازلوهم وقاتلوهم وطالت الحرب بينهم ياما ثم كان الظهور لجيش
المنصور فأوقعوا بهم وأثخنوا فيهم إلى أن أذعنوا للطاعة وصاروا في حزب الجماعة و
أنهى خبر الفتح إلى المنصور
____________________
فسر بذلك سرورا عظيما وقال الشعراء
في ذلك وعم الفرح بلاد المغرب وكان ذلك سنة تسعين وتسعمائة وبعد هذا تشوفت نفس
المنصور إلى الاستيلاء على بلاد السودان فكان من أمرها ما نذكره إن شاء الله
اعلم أن هؤلاء السودان هم من نسل حام بن نوح عليه السلام باتفاق النسابين
والمؤرخين ويجاور البربر بأرض المغرب منهم أمم كثيرة من أعظمها أهل مملكة غانة وهم
المتصلون بالبحر المحيط من جهة الغرب على مصب النيل السوداني فيه وتتصل بهم من جهة
الشرق أمة أخرى تعرف بصوصو بصادين أو سينين مهملتين مضمومتين ثم بعدها أمة أخرى
يقال لها مالي ثم بعدها أمة أخرى تسمى كوكو ويقال كاغو ثم بعدها أمة أخرى تعرف
بتكرور ويقال لهم أيضا سغاي ثم بعدها أمة أخرى تدعى كانم وهم أهل مملكة برنو
المجاورة لإفريقية من جهة قبلتها ثم بعدها أرض النوبة المجاورة لبلاد مصر وهكذا
إلى آخر الشرق أمم لا يحصيهم إلا خالقهم
فأما أهل مملكة غانة فقد كانوا في صدر الإسلام من أعظم أمم السودان أسلموا قديما
وكان لهم ملك ضخم وكانت حاضرة ملكهم هي غانة وهي مدينتان على ضفتي النيل السوداني
من أعظم مدن العالم وأكثرها عمرانا ذكرها صاحب نزهة المشتاق وصاحب المسالك
والممالك وغيرهما
وقال الفقيه الأديب أبو العباس أحمد بن عبد المؤمن القيسي الشريشي في شرح المقامات
الحريرية ما نصه غانة بلد من بلاد السودان وإليها ينتهي التجار يعني من المغرب
والمدخل إليها من سجلماسة ومن سجلماسة إليها ذهابا مسيرة ثلاثة أشهر ومن غانة إلى
سجلماسة إيابا مسيرة شهر ونصف ودون ذلك وسبب ذلك أن الرفاق تتجهز إليها من سجلماسة
بالأمتعة والأثقال فتباع في غانة بالتبر فمن سافر إليها بثلاثين حملا يرجع منها
بثلاثة أحمال أو بحملين واحد لركوبه وثان للماء بسبب المفازة التي في طريقها
____________________
حدثني غير واحد من تجارها أنهم
يقطعون المفازة في ستة عشر يوما لا يرون فيها ماء إلا على ظهور الإبل فأثمان أحمال
الثلاثين جملا يجتمع فيها من التبر ما يجعل في مزود واحد فيطوون المراحل للخفة قال
وغانة بلد مملكة السودان وانتشر الإسلام في أهلها وبها مدارس للعلم وبها من تجار
المغرب كثير يدخلون للتجارة فيصيبون الخصب والأمن وكثرة المتاجر فيشترون بها خدما
للتسري ويقيمون بها عند أميرها في غاية الكرامة والإماء فيها قد جعل الله فيهن من
الخصال الكريمة في خلقهن وخلقهن فوق المراد من ملاسة الأبدان وتفتق السواد وحسن
العينين واعتدال الأنوف وبياض الأسنان وطيب الروائح اه
وقال ابن خلدون كان في غانة فيما يقال ملك ودولة لقوم من العلويين يعرفون ببني
صالح
وقال صاحب نزهة المشتاق أنه صالح بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب
رضي الله عنهم قال ولا يعرف صالح هذا في ولد عبد الله بن حسن وقد ذهبت هذه الدولة
لهذا العهد اه
ثم أن أهل غانة ضعف ملكهم وتلاشى أمرهم في المائة الخامسة واستفحل أمر الملثمين
المجاورين لهم من جهة الشمال مما يلي البربر وزحف إليهم الأمير أبو بكر بن عمر
اللمتوني فاتح المغرب ومستخلف يوسف بن تاشفين عليه حسبما مر ذلك في أخبارهم فلما
رجع الأمير أبو بكر إلى الصحراء غزا بلاد السودان وفتح منها مسيرة ثلاثة أشهر
واقتضى منهم الأتاوات وحمل الكثير منهم ممن لم يكن أسلم قبل ذلك على الإسلام فدا
نوابه ثم اضمحل ملك أهل غانة بالكلية وتغلب عليهم أهل مملكة صوصو المجاورون لهم
واستعبدوهم وصيروهم في جملتهم ثم إن أهل مالي كثروا أمم السودان في نواحيهم تلك
واستطالوا على الأمم المجاورين لهم فغلبوا على صوصو وملكوا ما كان بأيديهم وبأيدي
أهل غانة ثم افتتحوا بلاد كوكو وأضافوها إلى ملكهم وصارت دولة مالي متصلة فيما بين
غانة في الغرب وأرض التكرور في الشرق واعتز سلطانهم وهابتهم أمم السودان ومن
____________________
هذه الدولة كان السلطان منسا
موسى بن أبي بكر وأخوه منسا سليمان اللذان كان بينهما وبين السلطان أبي الحسن
المريني من المهاداة والمواصلة ما تقدم ذكره وكان مع السلطان منسا موسى المذكور
الأديب الشاعر أبو إسحاق الطوبجن الأندلسي الذي بنى له القبة المربعة العجيبة الصنعة
البديعة النقش والتخريم التي أجازه عليها باثني عشر ألف مثقال من التبر وغير ذلك
مما مر ذكره في أخبار الدولة المرينية وكان منها أيضا السلطان ماري زاطة الذي هادى
السلطان أبا سالم المريني وأغرب عليه بالزرافة حسبما تقدم قالوا وكان هذا السلطان
مسرفا مبذرا بحيث أفسد ملكهم وأتلف ذخيرتهم وكاد أمر سلطانهم يختل حتى لقد انتهى
الحال به في سرفه وتبذيره أن باع حجر الذهب الذي كان من الذخائر الموروثة عندهم
وهو حجر يزن عشرين قنطارا من الذهب العين منقولا من المعدن كذلك من غير علاج ولا
تصفية بالنار فكانوا يرونه من أنفس الذخائر وأكبر الغرائب لندور مثله في المعدن
فعرضه منسا زاطة على تجار مصر المترددين إلى بلده فاشتروه منه بأبخس ثمن ثم أصابته
علة النوم وهو مرض يطرق أهل ذلك الإقليم كثيرا وخصوصا الرؤساء منهم بحيث يعتاده
غشي النوم عامة زمانه حتى لا يكاد يفيق ولا يستيقظ إلا في القليل من الأوقات ويضر
بصاحبه غاية ويتصل سقمه إلى أن يهلك ودامت هذه العلة بهذا السلطان سنتين ثم هلك
منها سنة خمس وسبعين وسبعمائة ثم توارث بنوه الملك من بعده فكانوا في تراجع
وانتقاص إلى أن انقرض أمرهم شأن غيرهم من الدول وظهرت دولة آل سكية من أهل مملكة
كوكو ويقال كاغو
قال الإمام التكروري في كتابه نصيحة أهل السودان إن آل سكية أصلهم من صنهاجة
وملكوا كثيرا من بلاد السودان وأول ملوكهم الحاج محمد سكية بضم السين وسكون الكاف
بعدها ياء مفتوحة ثم هاء تأنيث وكان الحاج محمد المذكور رحل في أواخر المائة
التاسعة إلى مصر والحجاز
____________________
بقصد حج بيت الله الحرام
وزيارة قبر نبيه صلى الله عليه وسلم فلقي بمصر الخليفة العباسي إذ كان رسم الخلافة
العباسة لا زال قائما بها يومئذ حتى محاه السلطان سليم العثماني أيام تغلبه على
مصر سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة فلما اجتمع الحاج محمد سكية بالخليفة المذكور طلب
منه أن يأذن له في إمارة بلاد السودان وأن يكون خليفته هناك ففوض إليه الخليفة
العباسي النظر في أمر ذلك الإقليم وجعله نائبه على من وراءه من المسلمين فرجع
الحاج محمد سكية إلى بلاده وقد بنى أمر رياسته على قواعد الشريعة وجرى على منهاج
أهل السنة ولقي بمصر أيضا الإمام شيخ الإسلام حافظ الحفاظ جلال الدين السيوطي فأخذ
عنه عقائده وتعلم منه الحلال والحرام وسمع عليه جملا من آداب الشريعة وأحكامها
وانتفع بوصاياه ومواعظه فرجع إلى السودان ونصر السنة وأحيى طريق العدل وجرى على
منهاج الخليفة العباسي في مقعده وملبسه وسائر أموره ومال إلى السيرة العربية وعدل
عن سيرة العجم فصلحت الأحوال وبرئ جسد الرشاد من الداء العضال وكان الحاج محمد
المذكور سهل الحجاب رقيق القلب خافض الجناح شديد التعظيم لأئمة الدين محبا للعلماء
مكرما لهم يفسح لهم في المجلس ويوسع عليهم في العطاء ولم يكن في أيامه كلها بؤس
ولا بأس بل كانت رعيته في خفض عيش وأمن سرب وفرض عليهم شيئا خفيفا من المغارم وظفه
عليهم وزعم أنه ما فعل ذلك حتى استشار الإمام السيوطي شيخه ولم يزل على سيرته
المذكورة إلى أن اخترمته المنية فقام بالأمر بعده ولده داود بن محمد فأحسن ما شاء
وتبع طريقة أبيه إلى أن لحق بربه ومضى لسبيله فقام بالأمر بعده ولده إسحاق بن داود
فعدل عن بعض سيرة أبيه ولم يكن في أمره بالذميم واستمر حاله على الانتظام إلى أن
غزته جيوش المنصور فنقضت ملكه ونثرت سلكه وانقرض عليه أمر آل سكية بعد أن كان تحت
طاعتهم مسيرة ستة أشهر من بلاد السودان وسنذكر كيفية ذلك
وأما مملكة التكرور وكانم فقال ابن خلكان ما نصه كانم بكسر النون جنس من السودان
وهم بنو عم تكرور وكل واحدة من هاتين القبيلتين لا تنسب إلى أب ولا أم وإنما كانم
اسم بلدة بنواحي غانة فسمي هذا الجنس
____________________
باسم هذه البلدة وتكرور اسم
للأرض التي هم فيها وسمي جنسهم باسم أرضهم اه
قلت وكان من كانم الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الكانمي الأسود الشاعر وهو
الذي دخل على يعقوب المنصور الموحدي فأنشده
( أزال حجابه عني وعيني ** تراه من المهابة في حجاب )
( وقربني تفضله ولكن ** بعدت مهابة عند اقترابي )
وأهل كانم هم أهل مملكة برنو المجاورة لإفريقية من جهة قبلتها كما قلنا وكانت لهم
مع الدولة الحفصية في المائة السابعة وما بعدها مهاداة ومواصلة كما كان لأهل مالي
مع بني مرين
قلت ومن أهل برنو الشيخ العارف بالله تعالى أبو محمد عبد الله البرنوي شيخ الولي
العارف بالله تعالى أبي فارس عبد العزيز الدباغ الموضوع في مناقبه كتاب الذهب
الإبريز
واتصل أمر أهل برنو على الانتظام إلى أن كان من أمرهم مع المنصور ما نذكره وكل
هؤلاء الأمم كانوا على دين الإسلام قديما كما رأيت وكان فيهم العلماء والصلحاء
والأدباء والشعراء كما علمته آنفا وتعلمه فيما بعد إن شاء الله تعالى
قال الشيخ أبو العباس أحمد بابا السوداني في تقييده المسمى بمعراج الصعود أن أهل
السودان أسلموا طوعا بلا استيلاء أحد عليهم كأهل كنوا وكنتي وبرنو وسغاي ما سمعنا
قط أن أحدا استولى عليهم قبل إسلامهم ومنهم من هم قدماء الإسلام كأهل مالي أسلموا
في القرن الخامس أو قربه وكأهل برنو وسغاي اه وقد علمت أن أهل غانة تقدم إسلامهم
على هذا التاريخ والله تعالى أعلم ولنرجع إلى ما كنا بصدده من أخبار المنصور فنقول
____________________
وصول هدية صاحب برنو إلى
المنصور بحضرة فاس وما نشأ عن ذلك من بيعته له والتزام طاعته
كان المنصور رحمه الله مسعودا محظوظا كما أشرنا إليه سابقا وكان من سعادته ما هيأ
الله له من مهاداة صاحب مملكة برنو ومخاطبته له حتى كان ذلك سببا في مبايعته له
والدخول في طاعته وكان من خبر ذلك ما حكاه في مناهل الصفا قال وفي سنة تسعين
وتسعمائة ورد على المنصور الخبر وهو بمدينة فاس بقدوم رسول صاحب مملكة برنو من
ملوك السودان وجلب في هديته ما جرت عادتهم أن يجلبوه من فتيان العبيد والإماء
وكساء السودان وطرفه وكان من ذلك عدد كثير يناهز المئين فوافى المنصور بعسكره على
رأس الماء من ساحة فاس وكان يوم ملاقاته يوما مشهودا حسنا وأبهة وجلالة جلس نصره
الله تعالى بالقبتين التوأمين المضروبتين أمام السياج المحيط بقبابه وهو آفراك
واستوقف الموالي والمماليك سماطين من التوأمين إلى القبة العربية ثم منها إلى فسطاط
الجلوس المعلوم بالديوان ثم منه إلى باب المعسكر القبلي وأتى بالرسول يخترق
السماطين حتى نزل بالديوان وكان الملأ من أكابر الدولة وصدور المملكة جلوسا وكرسي
المملكة وسرير الخلافة منصوبا به والمهابة قد أخرست الألسن وأخشعت القلوب والأبصار
فجلس الرسول هنالك مليا ثم توجه به على سبيل الترقي إلى القبة العربية فجلس بها ثم
جاء الإذن الكريم بإيصاله إلى مقر أمير المؤمنين بالتوأمتين فوقف بين يديه وتشرف
بالنظر إلى طلعته السعيدة فأدى الرسالة وقضى فرض التهنئة وسنة الهدية وأعرب عن
مقاصد مرسله واعترف للمملكة العظيمة بحقها وأظهر من الخضوع والتملق والاستكانة
والخدمة والطواعية ما أوصاه به مرسله ثم توجه به إلى معسكر ولي العهد وتاج الإسلام
وكافل الأمة بعد والده المولى الأمير أبي عبد الله محمد الشيخ المأمون بالله وكان
لصق معسكر أمير المؤمنين برأس الماء فأشرف الرسول على دنيا أخرى وأبهة مدهشة ومحلة
هائلة فوقف موقف الحيرة واستدرج إلى أن وصل لقباب ولي العهد ومضاربه وكان قد قعد
له
____________________
بفسطاط جلوسه أفخم قعود ولما
استؤذن عليه ووقف بين يديه هنأ وحيى وفدى وانصرف عنه إلى محل نزوله بالقصبة من فاس
وأدر عليه من الإنعام والإكرام ما لم يكن له في حساب
وكان من أغراض الرسالة التي أنفذه بها سلطانه طلب المدد من أمير المؤمنين بالعساكر
والأجناد وعدة البنادق ومدافع النار لمجاهدة من يليهم بقاصية السودان من الكفار
وكان هذا الرسول قد وفد قبل على سلطان الترك بالإصطنبول السلطان مراد العثماني
يطلب منه المدد لجهاز كفار السودان فأخفق سعيه ولم يحصل على طائل فوجهه في هذه
النوبة إلى ملك المغرب يطلب منه المدد ولما قرئ كتابه على أمير المؤمنين اتفق أن
وقع بينه وبين كلام الرسول اختلاف بين وتباين واضح فكان الذي دل عليه الكتاب خلاف
ما دل عليه كلام الرسول جر إليهم ذلك توغلهم في الجهل والغباوة وعدم من يحسن
الإعراب عن مقاصدهم من فرسان الإنشاء والكتابة لطموس معالم العلوم عندهم على
الجملة وقارن ذلك ما كان من توجيه أمير المؤمنين عساكره لتدويخ قطري توات
وتيكورارين وأمل أن يجعلهما ركابا لبلاد السودان والاستيلاء على ممالكها التي وجه
إليها عساكره بعد ذلك فبلغت مملكة مالي عظيم السودان إلى أن وردت من نيلها على
مائه مرحلة من ثغور المغرب فاغتنم المنصور لذلك اختلاف الرسول والرسالة وبنى عليه
ما اعتد به على صاحب برنو ورجع الرسول إلى مرسله بعد مكافأته وتوجيه هدية من عتاق
الخيل وأشرافها بكسي من ملابس الخلافة وأسباب أخر ولما بلغ الرسول وألقى المعذرة
إلى سلطانه استأنف الهدية وأعرب إذ ذاك عن مراده ورد الرسول ثانية إلى باب أمير
المؤمنين فوافاه بحضرته ودار خلافته من مراكش فأزال اللبس وبين الغرض وصرح
بالمقصود فلما تحقق المنصور بقصده صدع له بالحق والدعاء إلى التي هي أقوم وطالبهم
بالبيعة له والدخول في دعوته النبوية التي أوجب الله عليهم وعلى جميع العباد في
أقطار البلاد الانقياد إليها وقرر لهم بلسان السنة الناطق والكتاب المنزل على جده
الصادق أن الجهاد الذي ينتحلونه ويظهرون الميل إليه والرغبة فيه لا يتم لهم
____________________
فرضه ولا يكتب لهم علمه ما لم
يستندوا في أمرهم إلى إذن من إمام الجماعة الذي اختص الله أمير المؤمنين بوصفه إذ
هو الكافل لهذه الأمة ووارث تراث النبوة وقيضه الله لحماية بيضة الإسلام وخصه
بالشرف القرشي الذي هو شرط في الخلافة بإجماع من علماء الإسلام وأئمة السنة
الأعلام وألزمهم القيام في أقطارهم بدعوته ومجاهدة أعدائهم الكفار بكلمته وعلق لهم
أيده الله الإمداد على البيعة والوفاء بهذا الشرط فالتزمه بالرسول وزعم أيضا عن
سلطانه بالقبول والإجابة وطلب من السلطان نسخة يتوجه بها من صورة البيعة إذ ليس
ببلدهم من يحسن الإنشاء ويوفي الغرض لئلا يخلو بشيء من الشروط التي شارطتهم عليها
أمير المؤمنين فأنشأها كاتب الدولة أبو فارس عبد العزيز الفشتالي ونصها الحمد الله
الذي أعلى لكلمة الحق منارا يسامي في مطالعها النجوم وأزاح بها عن شمس الهداية
المنيرة غياهب الغباوة المدلهمة وسحائب الغواية المركوم وحي على الفلاح بها داعي
التوفيق الذي نشر للنجاح كتابه الموقوت واستنجز للسعادة أجلها المعلوم وشرف هذا
الموجود والعالم الموجود بالخلافة النبوية والإمامة الحسنية العلوية التي صرفت
الوجوه إلى قبلتها المشروعة واستبان الحق بتبلج الصباح في مبايعتها والانقياد
لدعوتها المسموعة ونسخ بدولتها الغراء دول الحيف التي هي بسيف النبوة المصلت
مقطوعه وبلسان السنة مدفوعه وقوض بها مباني الادعاء التي هي على غير أساس الشرع
الصحيح مدفوعه وفرق بكلمتها المجموعة على التوحيد فرق التثليث التي هي على مشاقة
الله ورسوله تابعة ومتبوعة وخلع بظهورها على أعطاف الحنيفية السمحة رداء العز
الفضفاض واستل بتأييدها للدين المحمدي سيف الأنفة والامتعاض وأشار للأعادي من
بأسها المروع بلسان الحية النضناض وفجر للمؤمنين ينبوع رحمتها الجاري على حصا
عدلها الرضراض ومهد بسيوفها المنتضاة الآفاق والأقطار تمهيدا أزال عن حكمه
الاعتراض وجلا بأنوارها المتألقة سدف الجهالة التي ادلهم جوها وغيم وأسعد الوجود
بيمنها الذي لبث في أكناف مجدها وخيم وقضى لهاب بتراحم الأرض ومن عليها إن شاء
الله إلى عيسى ابن مريم و صلى الله عليه وسلم
____________________
الذي تعاضدت البراهين القاطعة
على صدق رسالته البارعة ونهج الدين القويم طريقة الحق المثلى ومادته الشارعة وسوغ
لمن آمن به مناهل الهدى النميرة الزلال وموارده العذبة ومشارعه نبي الرحمة وشفيع
الأمة وعلى آله وأصحابه الكرام أئمة الهدى ومصابيح الظلام والدعاء لمولانا الإمام
العلوي الهمام أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين نجل سيد المرسلين وخاتم النبيين
وسليل الوصي والسبطين وبعد فإنه لما أذن الله في ليل الجهالة أن ينجاب وفي شمس
الحق الوهاجة أن يرتفع عنها الحجاب وفي العز الخلق الجلباب أن يعود إلى الشباب وفي
النجاح والاستقامة أن يفتح لهما الباب وفي الإمارة أن تستند إلى السنة والكتاب
وتتعلق من الشرع بأسباب تدارك الله سبحانه الوجود وأعز العالم الموجود واستطارت
الأنوار المضيئة للأغوار والنجود بطلوع شمس الخلافة النبوية والإمامة الهاشمية
العلوية ففاضت على أديم البسيطة أنوارها وارتفع إلى حيث السها والفرقدين منارها
وتبلج بالأصباح نهارها ولاحت في سماء المجد بدورها وأقمارها وكادت تنهب نجوم
السماء أتباعها وأنصارها وانتشرت في الآفاق والأقطار على البعد والقرب آثارها وهزت
عطف الزمان انتشاء مناقبها وأخبارها وفاض ببركتها على أكناف المعمور يمها الزاخر
وتيارها خلافة ينتمي إلى النبوة عنصرها وتستنبط من رسالة الوحي أسطرها ويناط
بعروتها الوثقى خنصرها وإمامة علي وليها والله نصيرها والسبط بدرها الذي حياه
منبرها وسريرها والحمد لله الذي اصطفى من هذه الدوحة النبوية الشماء والشجرة الطيبة
الهاشمية التي أصلها ثابت وفرعها في السماء إماما ألقى الله له في القلوب حبا
جميلا ومولى جعله الله على مرضاته سبحانه علامة ودليلا وخليفة استرعاه فكان بحسن
الرعي لخلقه وعباده كفيلا وانتضى من بأسه وبسالته لحماية حمى الشريعة حساما صقيلا
مولانا أمير المؤمنين وخليفة الله في الأرضين وسليل خاتم النبيين ووارث الأنبياء
والمرسلين المفترضة طاعته على الخلق أجمعين والممنون بإمامته المقدسة على العالمين
بحر الندى والباس وعصمة الله للناس أمير المؤمنين المنصور بالله مولانا أبا العباس
صلى الله عليه وسلم صلوات الله عليه وعلى آله الخلفاء الراشدين والأئمة
____________________
الطيبين الطاهرين وطيب بأنفاس
المغفرة لحودهم أجمعين إمام تهتز لذكره أعطاف المنابر وتتقلد من شريف دعوته أبهى
من نفيس الجواهر وتستضيء البلاد بإكليل شرفه الزاهر وتسكن العباد تحت ظل رحمته
الوارف الوافر أبقى الله أيامه الغر بقاء يصحب النصر دوامه وخلد له ولأعقابه هذا
الأمر الكريم إلى يوم القيامة ولما طلعت أيده الله على هذه الأصقاع الزنجية طلائع
إمامته النبوية وخلافته ولاحت في سمائها شهب مناقبه المنيفة الدالة على فخامة شرفه
وأنافته وتليت لمجده الآيات البينات التي تشهد له بتراث الرسالة وتقضي له على
الإسلام وعلى الأنام بحكم الولاء والكفالة وأوضح الله سبحانه للناس من اعتقاد وجوب
طاعته والاقتداء بإمامته والانقياد لدعوته وتقليد بيعته ما جاء به كتابه الحكيم
ووردت به سنة نبيه الكريم كما قال صلى الله عليه وسلم ( لا تزال الخلافة في قريش
ما بقي منهم اثنان ) وكما ورد في صحيح الخبر ( إن الخلافة في قريش والقضاء في
الأنصار وفي الحبشة الأذان ) ويدل على هذا تعاضد الخبر والعيان فلا ناكر أن ليس في
المعمور على هذا الشرط غيره أيده الله من ثان فنهض بدليل الشرع أنه إمام الجماعة
حقا المستوفي شروطها والوارث للخلافة النبوية والحريص على بيضة الإسلام أن يحوطها
وأن القائم بهذا الأمر على الإطلاق غيره دعي ومحاوله دون إذنه المشروع بدعي فتعين
لذلك أن الرجوع إلى الحق فريضة واستبان بما تقرر وعلم أن إمارة لا تلاقي في الشروع
محلها المشروع منبوذة مرفوضة وعروتها لذلك مفصومة ومنقوضة فانتدب لهذه الآثار صحيح
الأخبار وصرف إلى رضى الله العناية ووقف من الشرائع المشروعة حيث مركز الراية
ومنتهى الغية الرئيس أبو العلاء إدريس أكرمه الله انتداب من وقفت به مطية التوفيق
على حضرة الإخلاص والتصديق وأخذت بزمامه السعادة إلى حيث الفوز برضا الله ورضا
رسوله حقيق والتأييد صاحب ورفيق وروض الآمال أنيق وراح الراحة والاطمئنان عتيق إلى
تقلد إمام بيعة الجماعة أمير المؤمنين المنصور بالله زاده الله تقديسا وتشريفا
التي تؤسس إن شاء الله على تقوى من الله ورضوان وتشهد عقدها الكريم ملائكة الرحمن
وآثر أسعده الله أن يؤدي
____________________
فرضها المعدود من فروض الأعيان
وحكمها الذي توجه به خطاب الشرع العام إلى القاصي والدان وينشر سنتها المشروعة في
صقعه وما يليه من الأصقاع والبقاع بالسودان تقلدا يستضيء إن شاء الله بأنواره
ويستشرف به للعز المكين على مناره ويخمد به للجهل جذوة ناره وتنتظم به في اتباع
الحق زمر أنصاره ويجتلي به صورة إنسانه ويستوجب من الله عوارف صنعه وإحسانه ويرهف
به للعدو على العزمات حد سيفه وسنانه ويقرع به لرضا الله باب القبول ويتضاعف له
ببركته العمل المقبول ويستنشق بمشهد عقده الكريم نواسم النبوة ويعود له به الزمان
للشباب والفتوة ويرفع به منار الإمارة على قواعد الشرع الوثيقة ويعدل به في كل
الأحوال عن المجاز إلى الحقيقة وتتسنى له به وهي المقصد الأسنى والخاتمة الحسنى
الأسوة الحسنة بإمامي بني العباس السفاح والمنصور ويحيى سنتهما التي نقلها ثقات
الأعلام والصدور في مبايعتهما الإمام الخليفة المهدي الأكبر سليل سيد المرسلين وجد
مولانا أمير المؤمنين الذي رأى إمام دار الهجرة أنه بتراث الخلافة النبوية أولى
وأحق وفي منصب الإمامة على شرطها أعرق وبسريرها ومنبرها أليق فتأكد للمنتدب أكرمه
الله بهذه الآثار الشريفة والمناقب المنيفة العزم والقصد وأنجز له فيما أراده صادق
الوعد وساعد نيته الصالحة فيه السعد فبايعه أعلى الله يده على الأمن والأمانة
والعفاف والديانة والعدل الذي يشيد للمجد أركانه مبايعة شايعه على عقدها الكريم
أكرمه الله أتباعه وجموعه وأشياعه بحكم الوفاق والاتفاق والمواثيق الشديدة الوثاق
وبجميع الأيمان الصادقة الأيمان أعطوا بها صفقة أيديهم ورفع بها العقيرة مناديهم
عارفين أن يد الله فيها فوق أيديهم وأمضوها على السمع والطاعة والانتظام في سلك
الجماعة إمضاء يدينون به في السر والجهر واليسر والعسر والرخاء والشدة والأزمان
المشتدة والتزموا شروطها طوعا واستوعبوها جنسا ونوعا بنيات منهم خالصة صادقة وعدة
من الله لهم بالخير سابقة وسعادة بالحسنى لاحقة أبرموا عقدها وأحكموا وعدها وعهدها
على حكم الكتاب والسنة والجماعة والأخذ بسنتها أعقابا من أعقاب وأحقابا أثر أحقاب
إلى يوم القيامة
____________________
واقتراب الساعة لا يلحق عقدها
الكريم فسخ ولا يعقبه بحول الله نسخ ولا يتطرق إليه نقض ولا نكث ولا يشوبه بشوائب
الشبهات بحث وأجمع على هذا أسعده الله بالمواثيق المستفيضة والأيمان اللازمة
المغلظة هو وأتباعه إجماعا شرعيا وحتموه على أنفسهم حتما مقضيا واعتقده اعتقادا
أبديا وعرضوا على التزامه بمشهد عقده المبارك أفرادا وأزواجا وحدانا وأفواجا
وأشهدوا على الوفاء به بأيمانهم الصادقة البرور ومواثيقهم المثلجة للصدور قائلين
بالله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس العليم بالخفيات والخبير بالآجال والوفيات
وبجميع الرسل الكرام والأنبياء وملائكة الرحمن في الأرض والسماء وعلى أنهم إن
حادوا عن هذا السبيل وانقادوا لدعاء داعي التغيير والتبديل أو انحرفوا عن هذا
المنهاج وسنته فهم براء من حول الله وقوته ومن دينه وعصمته ومستوجبون لعذابه وغضبه
وسخطه ونقمته وبعداء من رحمته ومن شفاعة نبيه الكريم يوم القيامة لأمته وأنهم
خالعون لربقة الإسلام وخارجون عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أعلنوا بهذا
إعلانا تعضده النجوى وأدوه بشروطه الجارية على مذاهب الفتوى وأحكامه اللازمة لكلمة
التقوى استرضاء لله وللخلافة النبوية والإمامة العلوية ورياضة للنفوس على بيعتها
المباركة الميمونة النقيبة واستيفاء لشروطها وأقسامها الواجبة والمستحبة والمندوبة
مستسلمين إلى الله بالقلوب الخاشعة ومتضرعين إلى بابه الكريم بالأدعية النافعة في
أن يعرفهم خير هذا العقد الكريم والعهد الصميم بدأ وختاما وأن يمنحهم بركته التي
تصحبهم حالا ودواما لا رب غيره ولا خير إلا خيره أشهد على نفسه بما فيه وعلى رعيته
الرئيس أبو العلاء إدريس أسعده الله وأكرمه وبتاريخ المحرم الحرام من عام تسعين
وتسعمائة من الهجرة النبوية انتهى
ولما كتبت هذه البيعة دفعت للرسول وأكرم وكافأه أمير المؤمنين على هدية سلطانه
وتوجه إلى بلاده بجواب مرسله ولم يلبث أن رجعه سلطانه ثالثة ووجه معه هدية ورسالة
وخاض القفر إلى دار الخلافة فوصل إلى بلاد تيكورارين وهناك اعترضته منيته فاعتل
وهلك فأشخص أولو الأمر
____________________
الذين بتيكورارين الهدية مع
رفقائه القادمين معه من عند سلطانه فوصلوا بها إلى حضرة أمير المؤمنين بمراكش
وقدموا إليه رسالتهم وهديتهم فتقبلها بقبول حسن وتم السرور وعظم الحبور واستقامت
للمنصور الأمور بعث المنصور ورسوله بالدعوة إلى آل سكية وكيفية ذلك
لما أدى الوفد الواردون على المنصور من السلطان أبي العلاء صاحب مملكة برنو ما
قدموا لأجله ردهم المنصور إلى صاحبهم مكرمين وانتخب رسولا عارفا مجربا ممن لهم
بصيرة بأحوال السودان فبعثه معهم عينا يأتيه بأخبار البلاد حتى كأنه يشاهدها وبعث
معه رسالة إلى السلطان إسحاق بن داود من آل سكية صاحب مملكة كاغو من أرض السودان
يأمره فيها أن يرتب على معدن الملح الذي بتغازي بين المغرب والسودان ومنه يحمل
الملح إلى أقطار السودان وظيفا بأن يجعل كل من يحمل منه شيئا من الواردين عليه
مثقالا من الذهب العين لكل حمل تستعين بذلك الخراج عساكر المسلمين على جهاد الكفار
لأن ذلك بحر لا ساحل له
وكان المنصور لم يكاتبه في ذلك حتى أستفتى علماء إيالته وأشياخ الفتيا بها فأفتوه
بما هو المنصوص للعلماء رضوان الله عليهم من أن النظر في المعادن مطلقا إنما هو
للإمام لا لغيره وأنه ليس لأحد أن يتصرف في ذلك إلا عن إذن السلطان أو نائبه وبعث
إليه المنصور بتلك الفتاوى مع الرسالة الموجه بها مع الرسول وكانت من إنشاء
العلامة الأديب مفتي الحضرة المراكشية المولى أبي مالك عبد الواحد بن أحمد الشريف
السجلماسي لأن كاتب الإنشاء أبا فارس عبد العزيز بن محمد الفشتالي كان مريضا يومئذ
ولما فرغ الشريف المذكور من إنشائها بقي عليه الصدر فلم يدر كيف يقول في مخاطبة
إسحاق سكية ولا كيف يمدحه وهل يتوغل في المدح أو يتوسط فكتب أبو مالك حين تحير في
ذلك إلى المنصور بما نصه أيدكم الله ونصر
____________________
أعلامكم إن مخاطبة هذا الرجل
الذي هو في مرتبة مماليك الحضرة المولوية أمر تلعثم فيه لساني ووقف عن خوض لجته
بناني لأن النأي عن هذه المحجة قد مد بيني وبينها حجابا وأغلق في وجهي بابا فلا
آمن من أن أقتحم الوقوع في تفريط أو إفراط وخير الأمور لو علمته الأوساط لكن لا
سبيل إلى معرفته إلا بعد علم الطرفين والعبد محجوب عن ذلك دون مين فتركت أيدكم
الله الصدر لمن هو به مني أقعد وتحاميت عقده لمن هو له أعقد أبي فارس عبد العزيز
الذي فاضت عليه أنواركم وأضاءت له سبل هذا المخبر أقماركم وإلا قرعت هواتف لسان
الحال سمعي بقول القائل
( يا باري القوس بريا ليس يحسنه ** لا تظلم القوس أعط القوس باريها )
ولما بلغت رسالة المنصور إلى السلطان إسحاق سكية واطلع عليها شق عليه ذلك وماطل في
الجواب وحيث أبطأ الرسول فطن المنصور لما انطوى عليه سكية من عدم إجابته لما طلب
من الوظيف على الملاحة فاشتد غضبه وعزم على توجيه العساكر إلى السودان فهذا هو
الحامل له على قصد تلك البلاد وتدويخها ولما فتح تيكورارين وتوات قوي عزمه على ذلك
وطمحت نفسه للاستيلاء على ما هنالك على ما نذكره إن شاء الله مفاوضات المنصور
الملأ من أصحابه في غزو آل سكية وما دار بينهم في ذلك
قال الفشتالي رحمه الله لما رجعت أرسال المنصور إليه من عند إسحاق سكية وأعلموه
بمقالته وامتناعه واحتجاجه بأنه أمير ناحية والمنصور أمير ناحية وأنه لا تجب طاعته
عليه شاور المنصور أصحابه وجمع أعيان دولته والتقى أهل الرأي والمشورة فاجتمعوا
وكان يوم اجتماعهم يوما مشهودا فقال لهم المنصور إني عزمت على منازلة أمير السودان
صاحب كاغو
____________________
وبعث الجيوش إليهم لتجتمع كلمة
المسلمين وتتحد الرعية ولأن بلاد السودان وافرة الخراج كثيرة المال يتقوى بها جيش
الإسلام ويشتد ساعد كتيبته مع أن صاحب أمرهم والمتولي لسلطنتهم اليوم معزول عن
الإمارة شرعا إذ ليس بقرشي ولا اجتمعت شروط السلطنة فيه العظمى فلم نثل المنصور ما
في كنانته وأبدى ما في خبيئته وعرض ما في عيبته سكت الحاضرون ولم يراجعوا بشيء
فقال لهم أسكتم استصوابا لرأيي أو ظهر لكم خلاف ما ظهر لي فأجاب كلهم بلسان واحد
ورأي متفق إن ذلك رأي عن الصواب منحرف وأنه بمهامه عن الآراء السديدة ولا يخطر
ببال السوقة فكيف بالملوك وذلك لأن بيننا وبين السودان مهامه فيحا تقصر فيها الخطا
وتحار فيها لقطا وليس فيها ماء ولا كلأ فلا يتأتى السفر فيها ولا اعتساف شيء من
طريقها مع كونها مخوفة مملوءة الجوانب ذعرا وأيضا فإن دولة المرابطين على ضخامتها
ودولة الموحدين على عظمها ودولة المرينيين على قوتها لم تطمح همة واحد منهم لشيء
من ذلك ولا تعرضوا لما هنالك وما ذاك إلا لما رأوا من صعوبة مسالكها وتعذر مداركها
وحسبنا أن نقتفي أثر تلك الدول فإن المتأخر لا يكون أعقل من الأول فلما قضى أولئك
الأقوام كلامهم وأبدوا له رأيهم وملامهم قال لهم المنصور إن كان هذا غاية ما
استضعفتم به أمري وفيلتم به رأيي فليس فيه حجة ولا ما يخدش فيما عندي أما قولكم
بيننا وبينها صحار مخوفة ومفاوز مهلكة لجدوبتها وعطشها فنحن نرى التجار على ضعفهم
وقلة استعدادهم يشقون تلك الطرق في كل وقت ويخوضون في أحشائها مشاة وركبانا وجماعة
ووحدانا ولم تنقطع قط ركاب التجار عنها وأنا أقوى أهبة منهم وللجيش همة ليست
للقوافل وأما قولكم إن من كان قبلنا من الدول الطنانة لم تطمح أبصارهم لذلك
فاعلموا أن المرابطين صرفوا عنايتهم لغزو الأندلس ومقابلة الإفرنج ومن بذلك الساحل
من الأروام والموحدون اقتفوا سبيلهم في ذلك وزادوا بحرب ابن غانية والمرينيون كانت
غالب وقائعهم مع بني عبد الواد بتلمسان ونحن اليوم قد انسد عنا باب الأندلس
باستيلاء العدو الكافر عليها
____________________
جملة وانقطعت عنا حروب تلمسان
باستيلاء الترك عليها ثم إن أهل تلك الدول لو أرادوا ما أردنا لصعب عليهم لأن
جيوشهم كانت فرسانا رامحة ورماة ناشبة ولم يكن عندهم هذا البارود وعساكر النار
المرهبة الصواعق وأهل السودان ليس عندهم الآن إلا الرماح والسيوف وهي لا تقاوم هذه
المدافع المستحدثة فمقاتلتهم سهلة وحربهم أيسر من كل شيء وأيضا فإن بلاد السودان
أنفع من إفريقية فالاشتغال بها أولى من منازلة الترك لأنه تعب كثير في نفع قليل
فهذا جواب ما عرض لكم ولا يحملنكم ترك الملوك الأول ذلك على استبعاد القريب
واستصعاب السهل فإنه كم ترك الأول للآخر وقد يفتح على المتأخر بما لم يفتح به على المتقدم
فلما فرغ المنصور من خطابه وأبدى ما في وطابه استحسن الحاضرون جوابه واستملحوا
إشارته واستجادوا رأيه وقالوا له قد طبقت المفضل وألهمت الصواب ولم تبق لأحد ما
يقول وصدق من قال عقول الملوك ملوك العقول فانفصل الجمع على البعث إلى السودان
ومناهضة أهله ومتابعة المنصور في رأيه عليه قلت وفي كلام المنصور أمران يحتاجان
إلى مزيد بيان الأول ما قاله من أن الملثمين لم تكن لهم سلطنة على السودان يعني
بهم الذين أقاموا بأرض المغرب ودبروا أمره مثل يوسف بن تاشفين وبنيه فلا يرد عليه
أن الأمير أبا بكر بن عمر غزا السودان وفتح منه مسيرة ثلاثة أشهر لأن ذلك كان بعد
رجوعه إلى الصحراء واستقراره بها وإعراضه عن ملك المغرب بالكلية كما مر الثاني ما
قاله من أن البارود لم يكن في تلك الدول الفارطة يعني به لم يكن موجودا فيها بكثرة
بحيث يستغني به الجيش عن غيره ساعة القتال فلا يرد عليه أن ظهوره كان في أوائل
المائة السابعة لأول دولة بني مرين كما مر إذ ظهوره في تلك المدة كلا ظهور والله
تعالى أعلم بحقائق الأمور
____________________
استجازة المنصور لعلماء مصر
رضي الله عنهم وتلمذه لهم
قالوا ومن اعتناء المنصور رحمه الله أنه بعث إلى علماء مصر يستجيزهم رغبة في اتصال
حبل السند واقتفاء لاحب ذلك الطريق الأسد وممن أجازه الإمام العارف بالله أبو عبد
الله محمد ابن الشيخ أبي الحسن البكري رضي الله عنه ومن بعض فصول إجازته له قوله
يمدح كتاب المنصور إليه ويثني عليه بالفصاحة والبلاغة ما نصه ولقد وصل إلى المثل
العديم المثال المزري نظامه بعقود اللآل فإذا به السحر إلا أنه الحلال ولو ادعى
أحد أن من معجزات أحمد صلى الله عليه وسلم أن يمد الله كراما كاتبين في زمان نجله
أمير المؤمنين أحمد بكتاب كريم على أسلوب قويم يرسله إلى محب قديم من النبعة
والصميم لم تكذب دعواه فما من خارق في الأمة إلا وهو من معجزاته صلى الله عليه
وسلم دال على علاه وأما ما شرفني به من طلب الإجازة فالبيت والحديث له ولكن رب أب
أرسل إلى ابنه على يد عبده عطاء فقبله وإليه بأمره حمله وحيث وقع الأمر فأمر
مولانا حتم وطاعته غنم فمولانا مجاز من هذا العهد من جميع ما يجوز لهذا العبد
بجميع ما يجوز له وعند روايته بشرطه المعتبر عند أهل الأمر وكذلك مجاز أهل العصر
إجازة عام بعام ليكون أبناء الوقت جميعا على مائدة فضل مولانا وتحت ظلال ذلك
الإنعام فإنه هو السبب في تحصيل ذلك المرام وكتب تحريرا في رابع عشرين ربيع الثاني
سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة محمد بن أبي الحسن الصديقي سبط آل الحسن اه
وممن استجازه المنصور أيضا من علماء مصر الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن يحيى
المصري الشهير ببدر الدين القرافي صاحب ذيل الديباج فأجازه إجازة عامة بسط فيها
القول ثم ختمها بقوله
( أجزت لمن تفضل واستجازا ** وبادر لاقتنا خير وحازا )
( وأبرز في سلوك العلم حالا ** به من فضل مولانا يجازى )
( إمام كامل غوث البرايا ** أمير المؤمنين حوى مجازا )
____________________
( وذلك بعد تشريفي بأمر ** وقصد للإجازة فاستجازا )
( فبادرت امتثالا قدر وسعي ** ومقتفيا مناهج من أجازا )
( وقد أبديت حقا لا محالا ** بما صار الإمام به مجازا )
( بفاتحة وسنة خير هدى ** وسلسلة لمن حاز امتيازا )
( بدار الهجرة العليا إمام ** بما أبداه من فضل مجازا )
( وأرجو منه يهدي لي دعاء ** لما أرجوه من خير مجازا )
( بخاتمة تبلغني مراما ** بجنات أراها لي مفازا )
( وأشياخي يبلغهم رضاء ** ويواصلهم إلى خير يجازا ) تجديد المنصور ولاية العهد
لابنه المأمون وما وقع في ذلك
قالوا وفي شوال سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة جدد المنصور البيعة لولده محمد الشيخ
الملقب بالمأمون وأخذها له على إخوته خصوصا لأنهم كانوا في البيعة الأولى قبل
البلوغ فأراد أن يستوثق له منهم بعد البلوغ حسما لمادة النزاع بينهم فارتحل
المنصور من مراكش إلى تامسنا وبعث الباشا عزوز بن سعيد الوزكيتي ليأتيه بولي عهده
المذكور من فاس فتوافى القصدان بتامسنا وباشر المنصور أخذ البيعة له بنفسه وحضر
الأعيان وأهل الحل والعقد وأحضر المصحف الكريم الذي هو مصحف عقبة بن نافع الفهري
رضي الله عنه وهو من ذخائر الخلفاء وأحضر الصحيحان للشيخين وقرئ ظهير البيعة فتولى
قراءته الكاتب أبو فارس عبد العزيز الفشتالي وبجنبه القاضي أبو القاسم الشاطبي
يفسر ما أشكل من لفظ الظهير
ولما أخذ البيعة أخر أولاده إلى غد يومها فكتبوا خطوطهم عقبها بالموافقة على ذلك
والالتزام له ووقع في رسالة السلطان زيدان لأبي زكرياء ابن عبد المنعم الإمام بذكر
هذه البيعة فقال إني حضرت بيعة محمد الشيخ صاحب المغرب سامحه الله وحضر أولاد
السلطان فاستحلفهم له إلا أنا فإنه رضي الله عنه قال فلان لا يحلف لا يحتاج إليه
فيما نأمره به ونفعله وعظم
____________________
ذلك على إخوتي وظهرت في وجوههم
لأجله الكراهية اه
ولما فرغ المنصور من تجديد البيعة رأى أن يرشح كلا من أولاده للإمارة ويقسم بينهم
البلاد حتى لا تبقى في نفوسهم إحن ولا تنطوي قلوبهم على ضغائن فعقد لأبي فارس شقيق
المأمون على السوس وسائر عمائره وعقد لأبي الحسن على مكناسة وما والاها وعقد
لزيدان على تادلا ثم عكس ذلك لأمر اقتضاه الحال فنقل زيدان إلى مكناسة ونقل أبا
الحسن إلى تادلا ولم يزالوا على ذلك إلى أن كان من أمرهم ما نذكره في محله إن شاء
الله ثورة الحاج قرقوش ببلاد غمارة ومقتله
قالوا وفي سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة ثار رجل يقال له الحاج قرقوش بجبال غمارة
وبلاد الهبط وتسمى بأمير المؤمنين وكان في ابتداء أمره حائكا فتلبس بالزهد والصلاح
واعتقدته العامة ثم استحال أمره إلى ما ذكرنا فأخذ وقتل وحمل رأسه إلى مراكش
وانقطعت مادة فساده فلم تبكه أرض ولا سماء بناء المسجد الجامع بباب دكالة من حضرة
مراكش حرسها الله
كانت الحرة مسعودة أم المنصور وهي بنت الشيخ الأجل أبي العباس أحمد بن عبد الله
الوزكيتي الورززاتي من الصالحات حريصة على اقتناء المفاخر راغبة في فعل الخير قال
في المنتقى وهي التي أنشأت المسجد الجامع بحومة باب دكالة داخل مدينة مراكش ووقفت
عليه أوقافا عظيمة وكان ذلك سنة خمس وتسعين وتسعمائة قال وهي التي بنت جسر وادي أم
الربيع وغير ذلك اه
____________________
قلت المرقوم على رخامة قبرها أنها بنت جسرين بلفظ التثنية وتزعم العامة أنها بنت
المسجد المذكور كفارة لما انتهكته من حرمة رمضان وذلك أنها دخلت بستانا من بساتين
قصورها وهي في حال الوحم فرأت به خوخا ورمانا فتناولتهما وأكلت منهما في نهار
رمضان ثم ندمت على ما صدر منها وفعلت أفعالا كثيرة من باب البر رجاء أن يتجاوز
الله عنها ومنها الجامع المذكور ولا زال النساء والصبيان يسجعون بقضيتها إلى الآن
فيقولون عودة أكلت رمضان بالخوخ والرمان في أسجاع غير هذه ولفظ عودة مخفف من
مسعودة على طريقة البربر في مثل هذا والله تعالى أعلم بعث المنصور ببيلة الرخام
إلى جامع القرويين من فاس حرسها الله
قال ابن القاضي في المنتقى المقصور إن المنصور رحمه الله بعث الخصة العظيمة سنة ست
وتسعين وتسعمائة إلى جامع القرويين من فاس مع كرسي من المرمر توضع عليه وزنهما معا
مائة قنطار قال وهي الخصة التي تحت منار الجامع المذكور وقال ابن القاضي المذكور
فيها نقش برقبتها
( إمام دار الهدى المنصور شيدني ** بحر المكارم من أبناء عدنان )
( حزت المفاخر بالمنصور أجمعها ** ومن علاه سنام المجد أرساني )
( من جاء يشكو الظما يوما وقبلني ** أغناه ما قد همى من صوب أجفاني )
( لا تنكرن وجود الدمع من فرح ** فالعين تدمع من أفراط سلوان )
( واشرب هنيئا من السلسال لا حرج ** معين دمع جرى من فيض خلجاني )
( فخر السلاطين من أبناء فاطمة ** أشاع صيتي إلى أطراف عمان )
( وقد جرت مقلتي تحكي سحائبها ** كف الخليفة من أبناء زيدان )
( لا زال للدين والدنيا يسوسهما ** ما هيجت عاشقا ورق بأفنان )
( إنشائي في زمن التاريخ وافقه ** للدين والأجر بحر الجود سواني )
____________________
وفي هذه السنة أعني سنة ست وتسعين وتسعمائة في ذي الحجة منها سافر المنصور إلى فاس
وبينما هو في الطريق وافته البشرى بالفتك بنصارى سبتة وأن زعيم الفئة الجهادية وهو
المقدم أبو العباس أحمد النقسيس التطواني كمن لهم مع جماعة من الفرسان في موضع
فخرج النصارى بأولادهم وحشمهم فحال النقسيس بينهم وبين سبتة وأوقع بهم وكاد يفتحها
وسر المنصور بهذا الخبر وأنشده في ذلك الكاتب أبو عبد الله محمد بن علي الفشتالي
بيتين زجر له منهما الفال باستيلائه عليها وهما
( هذه سبتة تزف عروسا ** نحو ناديك في شباب قشيب )
( وهي بشرى وأنت كفؤ اللواتي ** كافأت بعلها بفتح قريب )
وفي سنة سبع وتسعين وتسعمائة في اليوم الثاني من ذي القعدة منها أخلى النصارى
مدينة آصيلا حملهم الخوف من كتيبة المسلمين المرابطة هنالك على الفرار بأنفسهم
فتركوها يبابا وذهبوا وفي ذلك يقول أبو العباس ابن القاضي
( يا أيها المنصور أبشر بالعلا ** فالله أبلغ في العدا المأمولا )
( أنضاكم سيفا لحتف عداته ** وبكم غدا سيف الردى مفلولا )
( وهزمتم الشرك المتين بعزمكم ** من غير سيف لم يرى مسلولا )
( وأذيتم كيد الخبيث بهمة ** وفتحتم دار العدا آصيلا )
( أكرم به من مالك بل صالح ** أضحى لبارود العداة خليلا )
( لا زال في أنف الهدى شمما وفي ** عين العلاء يشاكل التكحيلا )
وأشار بقوله لبارود العداة خليلا إلى ما صنعه النصارى دمرهم الله حين أرادوا
الخروج من آصيلا فإنهم حفروا تحت قصبتها وملؤوا الحفرة بالبارود وأوقدوا فتيلا
تبلغه ناره عند دخول المسلمين فيهلكون ففر نصراني منهم وأخبر المسلمين بذلك فنجاهم
الله تعالى من مكيدة الوبال وكفى الله المؤمنين القتال وقال في ذلك أيضا الكاتب
البارع أبو فارس عبد العزيز الفشتالي شعرا ذكره صاحب نشر المثاني فانظره
وكان في زمن المنصور رجال من بيوتات المغرب معروفون بالشجاعة
____________________
والنجدة في قتال العدو ومنهم
أولاد النقسيس التطوانيون ومنهم أولاد أبي الليف من أهل بلاد الهبط قال في المرآة
لما كان المقدم المجاهد الشهيد أبو عبد الله محمد بن الحسن أبو الليف من الشهامة
والصرامة على ما كان عليه ومن شدة نكايته في العدو الكافر الطنجي وبعد أثره فيهم
جرت أمور بينه وبين صاحب عمل القصر فسعى به إلى المنصور فأمر برحيله إلى فاس هو وعشيرته
مغربين عن وطنهم كأنهم في سجن فأقاموا بفاس مدة لا أدري هل هي سنة أ م أكثر إلا
أني كنت أراه عند الشيخ سنة ثمان وتسعين وتسعمائة وأنا إذ ذاك صغير ويعني بالشيخ
والده أبا المحاسن رحمه الله قال فضاقت عليهم أنفسهم من الاغتراب فقال يوما المقدم
عمر لأخيه كبيره المقدم محمد لو زرنا الشيخ اليوم وتبركنا به لعل الله يفرج عنا
فإن الناس كثيرا ما يقصدونه في المهمات فقال له لا أتحرك فقد غلب اليأس فسار
المقدم عمر وحده فلما وصل إلى الشيخ قال له قنطتم قال نعم يا سيدي فقال له الشيخ
غدا يخلي سبيلكم إن شاء الله فرجع إلى أخيه وأخبره فلما كان من الغد بعث إليهم
القاضي أبو محمد عبد الواحد الحميدي فلما أتوه قال لهم أبشروا بالسراح والرجوع إلى
الوطن إن شاء الله فإنه قد قرئ الآن بين يدي السلطان بعض الغزوات التي ذكرها ابن
النحاس وغناء أبطال المسلمين فيها فقال السلطان أو غيره ترى هل بقي في هذا الزمان
من يماثلهم فقالوا قد بقي من يفعل فعلهم وها هم أولاد أبي الليف المغربون هنا
يفعلون مثل ذلك فقال السلطان سرحوهم إلى بلادهم ليحموا ثغورهم ويجاهدوا في سبيل
الله فرجعوا إلى بلادهم وفعلوا الأفاعيل في عدو الدين إلى أن استشهد المقدم محمد
في ربيع الثاني سنة اثنتين وألف اه
____________________
غزو السودان وفتح مدينة كاغو
ومقتل سلطانها إسحاق سكية رحمه الله
قد تقدم لنا ما كان من مفاوضة المنصور لحاشيته في غزو السودان واستقرار رأيهم على
ذلك فبقي المنصور يقدم رجلا ويؤخر أخرى إلى أن كانت سنة سبع وتسعين وتسعمائة فقوي
عزمه واشتغل بتجهيز آلة الحرب وما يحتاج إليه الجيش من آلة السفر ومهماته وأمر
القواد أن يقوموا حصص القبائل وما يحتاجون إليه من إبل وخيل وبغال وإن من أتى بجمل
ضعيف يعاقب واشتغل هو بتقويم آلة الحرب من المدافع والعجلات التي تحملها والبارود
والرصاص والكور وتقويم الخشب واللوح والحديد للغلائط والسفن والفلك والمجاذيف
والقلوع والبراميل والروايا لحمل الماء وألف النجارون ذلك في البر إلى أن تألف ثم
خلعوه وشدوه أحمالا واستمر الحال إلى أن استوفى المنصور أمر الغزو في ثلاث سنين ثم
أمر بإخراج المضارب والمباني لوادي تانسيفت فخرجت الأحمال والأثقال من مراكش في
اليوم السادس عشر من ذي الحجة سنة ثمان وتسعين وتسعمائة ونزلت العساكر وضربت
أبنيتها خيلا ورجلا وجملتها عشرون ألفا ومعهم من المعلمين البحرية والطبجية ألفان
فالمجموع اثنان وعشرون ألفا وعقد المنصور على ذلك الجيش لمولاه الباشا جؤذر وشد
أزره بجماعة من أعيان الدولة فاختار منهم من يعلم نجدته ويعرف كفايته وتخير من
الإبل كل بازل وكوماء ومن الخيل كل عتيق وجرداء ثم نهضوا في زي عظيم وهيئة لم ير
مثلها وذلك في محرم فاتح سنة تسع وتسعين وتسعمائة وكتب المنصور إلى قاضي تنبكتو
الفقيه العلامة أبي حفص عمر ابن الشيخ محمود ابن عمراء قيت الصنهاجي يأمره بحض
الناس على الطاعة ولزوم الجماعة
ولما نهضوا من تانسيفت جعلوا طريقهم على ثنية الكلاوي ثم على درعة ودخلوا القفر
والفيافي فقطعوها في مائة مرحلة ولم يضع لهم عقال بعير ولا نقص منهم أحد فنزلوا على
مدينة تنبكتو ثغر السودان فأراحوا بها أياما
____________________
ثم صاروا قاصدين دار إسحاق
سكية ولما سمع بقدومهم احتشد أمم السودان وقبائلها وقبائل الملثمين المهادنين لهم
وخرج من مدينة كاغو يجر الشوك والمدر يقال إنه جمع مائة ألف مقاتل وأربعة آلاف
مقاتل
وقال الفشتالي ولم يقنع بالجيوش التي جمع حتى أضاف إليها أشياخ السحرة وأهل النفث
في العقد وأرباب العزائم والسيمياء ظنا منه أن ذلك يغنيه شيئا وهيهات ويرحم الله
أبا تمام إذ قال فيما يقرب من هذا الحال
( السيف أصدق إنباء من الكتب ** في حده الحد بين الجد واللعب )
( بيض الصفائح لا سود الصحائف في ** متونهن جلاء الشك والريب )
( والعلم في شهب الأرماح لامعة ** بين الخميسين لا في السبعة الشهب )
( أين الرواية بل أين النجوم وما ** صاغوه من زخرف فيها ومن كذب )
( تخرصا وأحاديثا ملفقة ** ليست بنبع إذا عدت ولا غرب )
ولما تقارب الجمعان عبأ الباشا جؤذر عساكره وتقدم للحرب فدارت بهم عساكر السودان
من كل جهة وعقلوا أرجلهم مع الإبل وصبروا مع الضحى إلى العصر وكانت سلاحهم إنما هي
الحرشان الصغار والرماح والسيوف ولم تكن عندهم هذه المدافع فلم تغن حرشانهم
ورماحهم مع البارود شيئا ولما كان آخر النهار هبت ريح النصر وانهزم السودان فولوا
الأدبار وحق عليهم البوار وحكمت في رقابهم سيوف جؤذر وجنده حتى كان السودان ينادون
نحن مسلمون نحن إخوانكم في الدين والسيوف عاملة فيهم وجند جؤذر يقتلون ويسلبون في
كل وجه وفر إسحاق في شرذمة من قومه ولم يدخل قلعة ملكه وتقدم جؤذر فدخلها واحتوى
على ما فيها من الأموال والمتاع وكان ذلك منتصف جمادى الأولى من سنة تسع وتسعين
وتسعمائة ويقال إن جؤذرا لم يدخل مدينة كاغو وإنما تحصن بها إسحاق فحاصره جؤذر
فيها وكتب إلى المنصور بخبر الفتح وبعث إليه بهدية فيها عشرة آلاف مثقال ذهبا
ومائتان من خيار الرقيق وغير ذلك وامتدت العساكر المنصورة في بلاد آل سكية تعيث
وتفسد وتسبي وتغنم إلى أن راسل إسحاق الباشا جؤذرا في تقرير الصلح على مال معين
يدفعه الآن وضريبة يؤديها كل سنة
____________________
فأجابه إلى ذلك على مشورة
المنصور وإمضائه إياه ثم كتب إلى المنصور بذلك وكانت العساكر قد أصابتها الحمى
ووخامة تلك الأرض فاتفق رأي الأمراء على الرجوع والإقامة بتنبكتو إلى أن يأتي جواب
المنصور فرجعوا وأخذ جؤذر في إنشاء الغلائط والسفن وتركيبها ولما أكملها دفعها في
النيل ولما بلغ المنصور خبر الصلح قام وقعد وقوم عسكرا خفيفا وبعث به مع مملوكه
الآخر محمود باشا وهو أخو جؤذر وقلده أمر العساكر كلها وعزل جؤذرا عنها وأمر
محمودا أن يبقيه معه وكتب إلى أمراء العسكر يعاتبهم يوبخهم على ما فعلوه مع إسحاق
من الصلح ويؤكد عليهم في الرجوع إلى بلاده واتباعه حيثما توجه ولو عبر النيل إلى
العدوة الأخرى وخرج محمود باشا فيمن عين له من العسكر في زمان الحر في وقت لا يقدر
على الحركة فيه إلا القطا الكدري وقطع القفر في خمسين مرحلة أمر لم يسمع بمثله
ونزل بالعساكر على ظاهر تنبكتو على رأس سنة الألف فأراح بها ثلاثا ثم شحن الغلائط
والسفن والفلك بالرؤساء والملاحين ووجوه الجند فساروا في النيل وسار السواد الأعظم
في البر إلى أن نزلوا على مدينة كاغو قاعدة ملك إسحاق سكية وكان إسحاق لما رجعت
عنه العساكر إلى تنبكتو احتشد أمم السودان المجاورين له وتذامروا وأصفقوا معه على
الموت فلما بلغه رجوع العساكر إلى كاغو قصدهم في جموعه ولما التقى الجمعان لم يكن
إلا مقدار فواق ناقة حتى انهزم السودان من سماع رعد المدافع والمهاريس وارتفاع
القنابل في الجو وهدير الطبول وتبعتهم العساكر يقتلون ويأسرون إلى أن غشيهم ظلم
الليل ورجعوا بالغنائم والسبي فاستراحوا ثلاثا ثم أمر محمود أخاه جؤذرا أن يقيم
بمدينة كاغو عامرا لها ويترك معه عددا من العسكر يكون ردءا لهم وسار هو في اتباع
إسحاق إلى أن لحقه ببعض الجهات فأوقع به وقعة شنعاء وفر في فل من قومه فعبر النيل
إلى العدوة الأخرى وتبعه محمود فعبر النيل بعساكره في السفن وسار خلفه إلى أن لحقه
فأوقع به وقعة ثالثة احتوى فيها على ما معه من المال والحريم ودخل إسحاق القفر
فهلك فيه ثم كانت لمحمود وقعة أخرى مع أخيه الذي كان ينازعه في
____________________
الملك فإنه قام بعد مهلك أخيه
وجمع الجموع وزحف إلى محمود باشا فنهض إليه محمود فهزمه وقتله فيمن معه من جنده
وأتباعه وتمهدت له البلاد واستولى عليها استيلاء كليا وكتب بخبر الفتح إلى المنصور
ولما بلغه هذا الفتح وصورته كان عنده ذلك اليوم عيدا من الأعياد أخرج فيه الصدقات
وأعتق الرقاب وأقام مهرجانا عظيما بظاهر الحضرة خرج له عامة الناس للفرجة والنزهة
وزينت الأسواق وأخرجت المدافع بالنفط وتسابقت الخيول وأطعم المنصور الناس عدة أيام
ونظم الشعراء قصائدهم ورفعوا أمداحهم وأجازهم بما تحدث الناس به دهرا وكتب بخبر
الفتح وصورته نسخ وجهت إلى جميع الآفاق وكان مما قيل في ذلك من الشعر ما أنشده
الكاتب أبو فارس عبد العزيز الفشتالي فقال
( جيش الصباح على الدجا متدفق ** فبياض ذا السواد ذلك يمحق )
( وكأنه رايات عسكرك التي ** طلعت على السودان بيضا تخفق )
( لاحت وأفقهم ليال كله ** كعمود صبح في الدجا يتألق )
( نشرت لتطوي منه ليلا دامسا ** أضحى بسيفك ذي الفقار يمزق )
( أرسلتهن جوائحا وجوارحا ** في كل مخلبها غراب ينعق )
( وسرت فكان دليلهن إليهم ** مشحوذ عزمك والسنان الأزرق )
( لهي الليالي قد جلى أحلاكها ** نور النبوة من جبينك يشرق )
( صعقت بهن رعود نارك صعقة ** رجت لصيحتها العراق وجلق )
( سحقا لإسحاق الشقي وحزبه ** فلقد غدا بالسيف وهو مطوق )
( رام النجاة وكيف ذاك وخلفه ** من جيش جؤذرك الغضنفر فيلق )
( جيش أواخره ببابك سيله ** عرم وأوله بكاغو محدق )
( لم يشعروا إلا وأسوار الردى ** ضربت عليهم من قناك وخندق )
( كتب الإله على عداتك أنهم ** قنص لسهمك غربوا أو شرقوا )
( ضلت ملوك ساجلوك على العلا ** سفها وشأوك في العلا لا يلحق )
( أن يشبهوك ولا شبيه يرى لكم ** في الخلق أين من اللجين الزئبق )
( بشر ملوك الأرض أنك فاتح ** بالمشرفي على الولا ما غلقوا )
____________________
( وبقاصل لك ذي الفقار مفرق ** ما جمعوه وجامع ما فرقوا )
( دامت طيور السعد وهي غوارد ** بالمشتهى لك والمسرة تنطق )
( ما دام أصل علاك في صحف الثنا ** أصل الفخار وكل غيرك ملحق )
والمشتهى والمسرة بستانان للمنصور ورى بهما هذا الشاعر وسيأتي الكلام عليهما وكان
محمود باشا لما استوسق له الأمر هنالك بعث بنصف جيشه إلى المنصور مع هدية عظيم
فيها من الذخائر ما لا يحصى من ذلك ألف ومائتان من متخير الرقيق الجواري والغلمان
وأربعون حملا من التبر وأربعة سروج ذهبا خالصا وأحمال كثيرة من اليانبور وقطوط
الغالية وغير ذلك ولما وافت المنصور سر بذلك سرورا عظيما وأمر بعمل المفرحات في
بلاد المغرب وبتزيين الأسواق غدوة وعشية ثلاثة أيام ووفدت عليه الوفود من كل ناحية
مهنئين له بما منحه الله من الظفر والنصر وانتظمت الممالك السودانية في سلك طاعته
ما بين البحر المحيط من أقصى المغرب إلى بلاد برنو المتاخمة لبلاد النوبة المتاخمة
لصعيد مصر قال الفشتالي فكلمة المنصور نافدة فيما بين بلاد النوبة إلى البحر
المحيط من ناحية المغرب وهذا ملك ضخم وسلطان فخم لم يكن لمن قبله والله يؤتي ملكه
من يشاء ولما فتح الله عليه ممالك البلاد السودانية حمل إليه من التبر ما يعيى
الحاسبين ويحير الناظرين حتى كان المنصور لا يعطي في الرواتب إلا النضار الصافي
والدينار الوافي وكان ببابه كل يوم أربع عشرة مائة مطرقة لضرب الدينار الوافي دون
ما هو معد لغير ذلك من صوغ الأقراط والحلى وشبه ذلك ولأجل هذا لقب بالذهبي لفيضان
الذهب في أيامه والأمور كلها بيد الله
____________________
وفاة أم المنصور الحرة مسعودة
الوزكيتية رحمها الله
كانت الحرة مسعودة هذه من الخيرات الصالحات وتقدم بعض مآثرها من بناء المسجد
الجامع بباب دكالة وغيره وكانت وفاتها سحر يوم الثلاثاء السابع والعشرين من المحرم
فاتح سنة ألف ومن المستفيض أنها ريئت بعد موتها فسئلت ما فعل الله بها فقالت غفر
لي بسبب أني كنت ذات يوم جالسة لقضاء الحاجة فسمعت المؤذن شرع في الآذان فرددت على
ثيابي إعظاما لذكر الله تعالى حتى فرغ المؤذن من آذانه فشكر الله لي ذلك فغفر لي
وفي سنة إحدى وألف أتي بالفيلة من بلاد السودان إلى المنصور وكان يوم دخولها
لمراكش يوما مشهودا برز لرؤيتها كل من بالمدينة من رجال ونساء وشيوخ وصبيان ثم
حملت إلى فاس في رمضان سنة سبع وألف قال في نشر المثاني كان دخول الفيل إلى فاس
يوم الاثنين سادس عشر رمضان سنة سبع وألف وبعث المنصور مع الفيل إلى ولده المأمون
بهدية سنية فيها تحف وأموال عريضة وخرج أهل فاس في ذلك اليوم للقاء الفيل بنحو
مائة ألف نفس
قال بعضهم وبسبب دخول هذه الفيلة إلى المغرب ظهرت هذه العشبة الخبيثة المسماة
بتابغ لأن أهل السودان الذين قدموا بالفيلة يسوسونها قدموا بها معهم يشربونها
ويزعمون أن فيها منافع فشاعت منهم في بلاد درعة ومراكش وغيرهما من بقاع المغرب
وتعارضت فيها فتاوى العلماء رضوان الله عليهم فمن قائل بالتحريم ومن قائل بالتحليل
ومتوقف والعلم فيها عند الله سبحانه قال اليفرني
قلت من تأمل أدنى تأمل في قواعد الشريعة وآدابها علم يقينا أن تناول هذه العشبة
حرام لأنها من الخبائث التي حرمها الله تعالى على هذه الأمة المطهرة وبذلك وصفها
في الكتب السالفة إذ قال تعالى { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه
مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم
الطيبات ويحرم عليهم الخبائث }
____________________
وبسط هذا المقام إن تعلم أن الله تعالى اختار هذه الأمة من بين سائر الأمم قال
تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس } واختار لها من الطاعات وأنواع العبادات ما هو
أفضلها قال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام
دينا } وأفضل تلك العبادات كلها الصلاة التي هي من الدين بمنزلة الرأس من سائر
الجسد ثم إذا أمعنت النظر رأيت الشارع صلى الله عليه وسلم قد بالغ في الاحتياط
لهذه العبادة الشريفة والاستعداد لها باستعمال كل طيب أمكن واجتناب كل خبيث أمكن
فشرع أولا الطهارة الكبرى الشاملة لسائر البدن وحظر من مقاربة الصلاة وما هو في
معناها حال الخلو عنها ثم شرع ثانيا الطهارة الصغرى المتعلقة بأطراف البدن زيادة
في الاعتناء بها لأنها تبرز في غالب الأحوال فيعلق بها من الأقذار ما لا يعلق
بغيرها وألزم المكلف استعمال هذه الطهارة عند عروض كل حدث مستقذر حتى الريح والسبب
الداعي إلى خروجه ثم ندبه إلى استعمالها عند القيام إلى كل صلاة من الصلوات الخمس
ثم إنا إذا تأملنا أفعال هذه الطهارة وجدناها تشتمل على مبالغات كثيرة تستدعي غاية
النظافة وتنفي كل قذر وإن قل فشرع الغسل في أعضاء الوضوء مكررا وشرع مسح شعر الرأس
بالماء دفعا لما يعلق به من الغبار وشرع تتبع مسام الوجه بالغسل والتنظيم كالمضمضة
والاستنشاق ثلاثا تطييبا للنكهة وشرع مسح الأذنين من ظاهرهما وباطنهما حتى
الصماخين إزالة لما بداخلهما من تلك الفضلة مع أن الحي ودمعه وعرقه ولعابه ومخاطه
كلها طاهرة أو ليس في هذا دليل واضح على أن الحكمة في هذا كله إنما هو المبالغة في
النظافة وتطييب الرائحة والنكهة إذ بذلك يستحق العبد أن يتلبس بالعبادة ويدخل حضرة
الرب وشرط للدخول فيها طهارة البدن والثوب والمكان من سائر المستقذرات حتى يكون
على أكمل الحالات بعيدا عن القذر بكل وجه ثم لم يكتف الشارع بهذا حتى شرع السواك
عند القيام إلى كل صلاة وقال ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة
) كل ذلك المقصود منه طيب النكهة فانظر وتأمل اعتناء الشارع بتطييب رائحة
____________________
فم المؤمن ونكهته حتى في حق
الصائم الذي ( خلوف فمه أطيب عند الله من ريح المسك ) هذا كله في حال الصلاة
وأما خارجها فقد علم من الشرع علما ضروريا أن العبد مطلوب بالمحافظة على هذه الحال
والبقاء عليها سائر أوقاته متى قدر على ذلك وتيسر له ومن هذا المعنى ما حرم الله
تعالى على هذه الأمة من تناول المستقذرات كالميتة والدم وسائر النجاسات إذ علة
حرمة الأشياء وتناولها إما كونها مستقذرة كالنجاسات إجماعا وكالحشرات وما تعافه
النفوس على مذهب الشافعي رضي الله عنه أو مضرة كالسم والطين ونحوهما مما يضر
بالبدن أو ببعض الأعضاء منه أو محترمة إما لذاتها كالأدمي أو لكونها ملكا للغير
وهو ظاهر فالشارع له غرض أكيد في اجتلاب الطيبات واجتناب ما يضادها من المستخبثات
وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعملون في حوائطهم فإذا حضرت
الجمعة أتوا إلى المسجد وأبدانهم سهكة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال
عند كل جمعة ثم منع كل من تلبس برائحة كريهة كالثوم والبصل والكراث من حضورها وحبب
إلى النبي صلى الله عليه وسلم من دنيانا النساء والطيب وندب أمته إلى استعماله في
المشاهد العامة مثل الجمع والأعياد ونحوها وخصال الفطرة إنما شرعت لهذا المعنى
ففيها كفاية لمن تأملها قوال صلى الله عليه وسلم ( إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه )
دفعا للسرف والخيلاء ولئلا يعلق به شيء من النجاسات والأقذار إلى غير هذا مما لو
استقصي لطال ودل دلالة قطعية على أن المطلوب من العبد أن يكون نظيفا طيب الرائحة
حسن البزة طاهر البدن والثوب مجانبا لكل خبيث مستقذر وهذه حالة أهل الجنة والعكس
بالعكس وأنت لا تجد أخبث ولا أقذر من رائحة أفواه شربة الدخان ولا أنتن ولا أعفن
من نكهات المستفين لغبار تابغ وهذا النتن من أقبح العيوب في نظر الشرع حتى أنه جعل
الخيار لأحد الزوجين إذا كان صاحبه أبخر فإذا لا نشك أن استعمال هذه العشبة
الخبيثة في الفم أو الأنف من أعظم المحظورات لأنها تصدم غرضا كبيرا من أغراض
الشارع وتضاده وتنفيه
____________________
وأقول لو كان نتنها يعلق بعضو
من الأعضاء غير الوجه لكان هين لكنه يعلق بالفم والأنف اللذين وضعهما الحكيم العلي
في وسط الوجه الذي هو أشرف الأعضاء فأي مضمضة وأي استنشاق وأي سواك يزيل ذلك النتن
الذي يرسخ في أنفاس أهلها وأفواههم وخياشيمهم رسوخا لا يماثله شيء
ولقد أفصح العامة عن شدة نتن هذه العشبة وصادفوا الصواب حيث قالوا إن فضلة الدخان
المسماة بالقير تنجس النجاسة هذا إلى ما يتبع ذلك من المفاسد المتعددة من تغيير
عقل متعاطيها حتى أنه إذا انقطعت عنه صار كالمجنون لا يبالي بما يصدر منه ومن دخول
الشك في صيامه لأن بقايا ذلك الدخان أو ذلك الغبار قد يمكث في حلقه إلى طلوع الفجر
وما بعده لأن جلهم إذا قرب الفجر والوا استعماله حتى يكون هو خاتمة سحورهم
وبالجملة فلا يستعمل ذلك إلا من لا خلاق له ولا يكترث بمروءه ولا دين وهو قادح في
الشهادة والإمامة والله تعالى الموفق بمنه نكبة الفقيه أبي العباس أحمد بابا
السوداني وعشيرته من آل آقيت والسبب في ذلك
كان بنو آقيت التكروريون من أهل مدينة تنبكتو وممن لهم الوجاهة الكبيرة والرياسة
الشهيرة ببلاد السودان دينا ودنيا بحيث تعددت فيهم العلماء والأئمة والقضاة
وتوارثوا رياسة العلم مدة طويلة تقرب من مائتي سنة وكانوا من أهل اليسار والسؤدد
والدين لا يبالون بالسلطان فمن دونه ولما فتح جيش المنصور بلاد السودان أبقاهم
الباشا محمود على حالهم إلى أن كانت سنة اثنتين وألف فكان أهل السودان قد سئموا
ملكة المغاربة وآنسوا منهم خلاف ما كانوا يعهدونه من سلطانهم الأول وكانت أذنهم مع
ذلك صاغية لآل آقيت فتخوف المنصور منهم وربما وشي إليه بهم فكتب إلى عامله محمود
بالقبض عليهم وتغريبهم إلى مراكش فقبض على جماعة كبيرة منهم كان فيها الفقيه
العلامة أبو العباس أحمد بن أحمد بن أحمد ثلاثة أحامد ابن
____________________
عمر بن محمد آقيت المدعو بابا
صاحب تكميل الديباج وغيره من التآليف وكان فيها أيضا الفقيه القاضي أبو حفص عمر بن
محمود بن عمر ابن محمد آقيت وغيرهما وحملوا مصفدين في الحديد إلى مراكش ومعهم
حريمهم وانتهبت ذخائرهم وكتبهم
قال في بذل المناصحة سمعت الشيخ أبا العباس أحمد بابا يقول أنا أقل عشيرتي كتبا
وقد نهب لي ست عشرة مائة مجلد وكان القبض عليهم في أواخر المحرم سنة اثنتين وألف
ووصلوا إلى مراكش في أول رمضان من السنة المذكورة واستقروا مع عيالهم في حكم
الثقاف إلى أن انصرم أمد المحنة فسرحوا يوم الأحد الحادي والعشرين من رمضان سنة
أربع وألف ففرحت قلوب المؤمنين بذلك
ولما دخل الفقيه أبو العباس على المنصور بعد تسريحه من السجن وجده يكلم الناس من
وراء حجاب وبينه وبينهم كلة مسدولة على طريقة خلفاء بني العباس ومن يتشبه بهم فقال
الشيخ إن الله تعالى يقول { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب
} وأنت قد تشبهت برب الأرباب فإن كانت لك حاجة في الكلام فانزل إلينا وارفع عنا
الحجاب فنزل المنصور ورفعت الأستار فقال له الشيخ أي حاجة لك في نهب متاعي وتضييع
كتبي وتصفيدي من تنبكتو إلى هنا حتى سقطت عن ظهر الجمل واندقت ساقي فقال له
المنصور أردنا أن تجتمع الكلمة وأنتم في بلادكم من أعيانها فإن أذعنتم أذعن غيركم
فقال الشيخ أبو العباس فهلا جمعت الكلمة بترك تلمسان فإنهم أقرب إليك منا فقال
المنصور قال النبي صلى الله عليه وسلم اتركوا الترك ما تركوكم فامتثلنا الحديث
فقال أبو العباس ذاك زمان وبعده قال ابن عباس لا تتركوا الترك وإن تركوكم فسكت
المنصور وانفض المجلس
ولما سرح الشيخ أبو العباس تصدر لنشر العلم وأهرع الناس إليه للأخذ عنه ولم يزل
بمراكش إلى أن مات المنصور لأنه ما سرحهم حتى شرط عليهم السكنى بمراكش ولما توفي
أذن ابنه زيدان لآل آقيت في الرجوع إلى بلادهم بعد أن مات جماعة منهم بمراكش وقد
كان الشيخ أبو العباس يتشوق إلى
____________________
رؤية بلدته ويسكب العبرات عند
ذكرها ولم ييأس من روح الله في العود إليها وله في ذلك شعر على طريقة الفقهاء ولما
خرج من مراكش قاصدا بلده شيعه أعيان طلبتها فأخذ بعضهم بيده عند الوداع وقرأ قوله
تعالى { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } على ما جرت به العادة من
قراءتها عند وداع المسافر فيرجع سالما فانتزع الشيخ أبو العباس يده بسرعة وقال لا
ردني الله إلى هذا المعاد ولا رجعني إلى هذه البلاد ثم لحق بتنبكتو فاستقر بها إلى
أن مات سنة ست وثلاثين وألف رحمه الله تتمة قد تبين لك بما قصصناه عليك من أخبار
السودان ما كان عليه أهل تلك البلاد من الأخذ بدين الإسلام من لدن قديم وأنهم من
أحسن الأمم إسلاما وأقومهم دينا وأكثرهم للعلم وأهله تحصيلا ومحبة وهذا الأمر شائع
في جل ممالكهم الموالية للمغرب كما علمت وبهذا يظهر لك شناعة ما عمت به البلوى
ببلاد المغرب من لدن قديم من استرقاق أهل السودان مطلقا وجلب القطائع الكثيرة منهم
في كل سنة وبيعهم في أسواق المغرب حاضرة وبادية يسمسرون بها كما تسمسر الدواب بل
أفحش قد تمالأ الناس على ذلك وتوالت عليه أجيالهم حتى صار كثير من العامة يفهمون
أن موجب الاسترقاق شرعا هو اسوداد اللون وكونه مجلوبا من تلك الناحية وهذا لعمر
الله من أفحش المناكر وأعظمها في الدين إذ أهل السودان قوم مسلمون فلهم ما لنا
وعليهم ما علينا ولو فرضنا أن فيهم من هو مشرك أو متدين بدين آخر غير الإسلام
فالغالب عليهم اليوم وقبل اليوم بكثير إنما هو الإسلام والحكم للغالب ولو فرضنا أن
لا غالب وإنما الكفر والإسلام هنالك متساويان فمن لنا بأن المجلوب منهم هو من صنف
الكفار لا المسلمين والأصل في نوع الإنسان هو الحرية والخلو عن موجب الاسترقاق
ومدعي خلاف الحرية مدع لخلاف الأصل ولا ثقة بخبر الجالبين لهم والبائعين لهم لما
تقرر وعلم في الباعة مطلقا من الكذب عند بيع سلعهم وإطرائها بما ليس فيها وفي باعة
____________________
الرقيق خصوصا مما هو أكثر من
ذلك كيف ونحن نرى أن الذين يجلبونهم أو يتجرون فيهم إنما هم من لا خلاق لهم ولا
مروءة ولا دين والزمان كما علمت وأهله كما ترى ولا يعتمد أيضا على قول ذلك العبد
نفسه أو الأمة نفسها كما نص عليه الفقهاء لاختلاف الأغراض والأحوال في ذلك فإن
البائع لهم قد يضربهم حتى لا يقرون إلا بما لا يقدح في صحة بيعهم وقد يكون للعبد
أو الأمة غرض في الخروج من ملك من هو بيده بأي وجه كان فيهون عليه أن يقر على نفسه
بالرقية كي ينفذ بيعه عاجلا إلى غير ذلك من الأغراض وقد استفاض عن أهل العدل
وغيرهم أن أهل السودان اليوم وقبل اليوم يغير بعضهم على بعض ويختطف بعضهم أبناء
بعض ويسرقونهم من الأماكن النائية عن مداشرهم وعمرانهم وإن فعلهم ذلك كفعل أعراب
المغرب في إغارة بعضهم على بعض واختطاف دوابهم ومواشيهم أو سرقتها والكل مسلمون
وإنما الحامل لهم على ذلك قلة الديانة وعدم الوازع فكيف يسوغ للمحتاط لدينه أن
يقدم على شراء ما هو من هذا القبيل وكيف يجوز له التسري بإناثهم وفي ذلك ما فيه من
الإقدام على فرج مشكوك
وقد قال الشيخ أبو حامد الغزالي رضي الله عنه في كتاب الحلال والحرام من إحياء
علوم الدين ما نصه اعلم أن كل من قدم إليك طعاما أو هدية أو أردت أن تشتري منه أو
تتهب فليس لك أن تفتش عنه وتسأل وتقول هذا مما لا أتحقق حله فلا آخذه بل أفتش عنه
وليس لك أيضا أن تترك البحث فتأخذ كل ما لا تتيقن تحريمه بالسؤال واجب مرة وحرام
مرة ومندوب مرة ومكروه مرة فلا بد من تفصيله والقول الشافي فيه هو أن مظنة السؤال
مواقع الريبة ثم أطال رضي الله عنه في تقرير ذلك وصرح بأن البائع إذا كان متهما
على ترويج سلعته لا يعتمد على قوله فإذا كان هذا في الأموال فكيف باسترقاق الرقاب
وملك الأبضاع الذين للشارع بهما مزيد اعتناء كما هو معلوم من الشرع وأصوله
وقد ذكر الشيخ أبو العباس أحمد بابا في تقييده الموضوع في هذه
____________________
المسألة المسمى بمعراج الصعود
تفصيلا ختم به كلامه وذكر قبائل من كفار السودان مثل موشى وبعض فلان وغيرهم وقال
إن كل من كان من هؤلاء القبائل فيجوز استرقاقه وكذلك ذكر ولي الدين ابن خلدون إن
وراء النيل قوما من السودان يقال لهم لملم قال وهم كفار ويكتوون في وجوههم
وأصداغهم قال وأهل غانة والتكرور يغيرون عليهم ويسبونهم ويبيعونهم للتجار
فيجلبونهم إلى المغرب وهم عامة رقيقهم وليس وراءهم في الجنوب عمران يعتبر إلى آخر
كلامه لكن هذا التفصيل الذي ذكره الشيخ أبو العباس إنما ينفع أهل تلك البلاد
المجاورين لهم والمطلعين على المجلوب منهم ومن غيرهم فأما أهل المغرب الذين هم من
وراء وراء وبينهم وبين أرض السودان مهامه فيح وقفار لا يعمرها إلا الريح فمن الذي
يحقق لهم ذلك وقد قلنا إنه لا يجوز الاعتماد على قول الجالبين لهم وأيضا فمن لنا
بأن أولئك القبائل لا زالوا على كفرهم إلى الآن على أن الناس اليوم لا يلتفتون إلى
ذلك أصلا ومهما رأى أحدهم العبد أو الأمة يسمسر في السوق إلا ويقدم على شرائه
غافلا عن هذا كله لا يسأل إلا عن عيوب بدنه لا فرق في ذلك بين أسود أو أبيض وغيرهما
بل صار الفسقة اليوم وأهل الجراءة على الله يختطفون أولاد الأحرار من قبائل المغرب
وقراه وأمصاره ويبيعونهم في الأسواق جهارا من غير نكير ولا امتعاض للدين وصار
النصارى واليهود يشترونهم ويسترقونهم بمرأى منا ومسمع وذلك عقوبة من الله لنا لو
اعتبرنا فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما دهينا به في ديننا
فالحاصل أنه لما كان الأصل في الناس هو الحرية كما قلنا وعلم تواترا أن أهل بلاد
السودان الموالية لنا جلهم أو كلهم مسلمون واستفاض عن أهل العدل وغيرهم أنهم يغير
بعضهم على بعض ويختطف بعضهم أبناء بعض ويبيعونهم ظلما وعدوانا ورأينا بالمشاهدة أن
الجالبين لهم والمتجرين فيهم إنما هم من لا خلاق لهم ولا دين لهم لم يبق لنا توقف
في أن الإقدام على شراء هذا الصنف محظور في الشرع والمقدم عليه مخاطر في دينه وأما
____________________
وضع يد الجالبين لهم عليهم فلا
تكفي شرعا في جواز الإقدام على شرائهم منهم لضعف هذه العلامة بما أحتف بها من
القرائن المكذبة لها وليستفت المرء قلبه فقد قال صلى الله عليه وسلم استفت قلبك
وإن أفتوك فإنه متى رجع إلى قلبه في هذه المعضلة إلا ولا يقدر أن يحوم حول هذا
الحمى بحال ثم تنزل عن هذا كله ونقول لو لم يكن في ذلك إلا الشبهة القوية وفساد
الزمان ورقة ديانة أهله لكان في هذه الأمور الثلاثة مع ملاحظة سد الذريعة الذي هو
أحد أصول الشريعة لا سيما عند الإمام مالك رضي الله عنه ما يقتضي وجوب التخلي عن
ملابسة هذه المفسدة المزرية بالعرض والدين فنسأله سبحانه أن يوفق من ولاه أمر
العباد لحسم مادة هذه الفساد فإن سبب الاسترقاق الشرعي الذي كان على عهد النبي صلى
الله عليه وسلم والسلف الصالح مفقود اليوم وهو السبي الناشئ عن الجهاد المقصود به
إعلاء كلمة الله تعالى وسوق الناس إلى دينه الذي اصطفاه لعباده هذا هو ديننا الذي
شرعه لنا نبينا صلى الله عليه وسلم وخلافه خلاف الدين وغيره غير المشروع والتوفيق
إنما هو بيد الله { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
} بناء قصر البديع بحضرة مراكش مرسها الله
قال في مناهل الصفا كان السبب الحامل للمنصور على بناء البديع وإنفاقه فيه جلائل
الأموال ونفائس الذخائر هو أنه أراد أن تكون لأهل البيت به مأثرة وشفوف على دولة
البرابر من المرابطين والموحدين ومن بعدهم فإن كلا من أهل تلك الدول أبقى بناء
يحيا به ذكره ولم يكن لأهل البيت في ذلك المعنى شيء تزداد به حظوتهم مع أنهم أحق
الناس بالمجد والسؤدد الأثيل فتصدى لبنائه بقصد تشريف أهل البيت لأن البناء كما
قيل
( همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ** من بعدهم فبألسن البنيان )
( إن البناء إذا تعاظم شأنه ** أضحى يدل على عظيم الشأن )
قلت هذا اعتذار بارد كما لا يخفى
____________________
ولما أراد المنصور أن يشرع فيه أحضر أهل العلم ومن يتسم بالصلاح فتحينوا أوان
الابتداء ووقت الشروع فيه فكان ابتداء الشروع في تأسيسه في شوال خامس الأشهر من
خلافته سنة ست وثمانين وتسعمائة واتصل العمل فيه إلى سنة اثنتين وألف ولم يتخلل
ذلك فترة وحشد له الصناع حتى من بلاد الإفرنجية فكان يجتمع كل يوم فيه من أرباب
الصنائع ومهرة الحكماء خلق عظيم حتى كان ببابه سوق عظيم يقصده التجار ببضائعهم
ونفائس أعلاقهم وجلب له الرخام من بلاد الروم فكان يشتريه منهم بالسكر وزنا بوزن
على ما قيل
وكان المنصور قد اتخذ معاصر السكر ببلاد حاحة وشوشاوة وغيرهما حسبما ذكره الفشتالي
رحمه الله في المناهل
وأما جبصه وجيره وباقي أنقاضه فإنها جمعت من كل جهة وحملت من كل ناحية حتى أنه
وجدت بطاقة فيها أن فلانا دفع صاعا من جير حمله من تنبكتو وظف عليه في غمار الناس
وكان المنصور مع ذلك يحسن إلى الأجراء غاية الإحسان ويجزل صلة العارفين بالبناء
ويوسع عليهم في العطاء ويقوم بمؤن أولادهم كي لا تتشوف نفوسهم وتتشعب أفكارهم
وهذا البديع دار مربعة الشكل وفي كل جهة منها قبة رائقة الهيئة وأحتف بها مصانع
أخر من قباب وقصور ودور فعظم بذلك بناؤه وطالت مسافته ولا شك أن هذا البديع من
أحسن المباني وأعجب المصانع يقصر عنه شعب بوان وينسى ذكر غمدان ويبخس الزهراء
والزاهره ويزري بقباب الشام وأهرام القاهرة وفيه من الرخام المجزع والمرمر الأبيض
والأسود ما يحير الفكر ويدهش النظر وكل رخامة طلي رأسها بالذهب الذائب وموه
بالنضار الصافي وفرشت أرضه بالرخام العجيب النحت الصافي البشرة وجعل في أضعاف ذلك
الزليج المتنوع التلوين حتى كأنه خمائل الزهر أو برد موشى من عمل صنعاء وتستر وأما
سقوفه فتجسم فيها الذهب وطليت الجدرات به مع بديع النقش ورائق الرقم بخالص الجبص
فتكاملت فيه المحاسن وأجرى بين قبابه
____________________
ماء غير آسن وبالجملة فإن هذا
البديع كان من المباني المتناهية البهاء والإشراق المباهية لزوراء العراق ومن
المصانع التي هي جنة الدنيا وفتنة المحيا ومنتهى الوصف وموقف السرور والقصف
( كل قصر بعد البديع يذم ** فيه طاب المجنى وطاب المشم )
( منظر رائق وماء نمير ** وثرى عاطر وقصم أشم )
( إن مراكشا به قد تباهت ** مفخرا فهي للعلا الدهر تسمو )
وبه من الأشعار المرقومة في الأستار والأبيات المنقوشة في الجهات على الخشب
والزليج والجبص ما يسر الناظر ويروق المتأمل ويبهر العقول وعلى كل قبة ما يناسبها
وفي بعض القباب مفاخرة على لسانها لمقابلتها وتتبع ذلك يطول لكن لا بأس أن نلم هنا
بثمالة من ذلك الحوض ونخوض في بحار تلك البدائع بعض الخوض إذ في ذلك عبرة لمن
اعتبر وترويح للقلوب بكيفية فعل الدهر بمن غبر فمن ذلك ما نقش خارج القبة
الخمسينية لأن فيها خمسين ذراعا بالعمل من إنشاء الكاتب البليغ أبي فارس عبد
العزيز الفشتالي على لسان القبة المذكورة
( سموت فخر البدر دوني وانحطا ** وأصبح قرص الشمس في أذني قرطا )
( وصغت من الإكليل تاجا لمفرقي ** ونيطت بي الجوزاء في عنقي سمطا )
( ولاحت بأطواقي الثريا كأنها ** نثير جمان قد تتبعته لقطا )
( وعديت عن زهر النجوم لأنني ** جعلت على كيوان رحلي منحطا )
( وأجريت من فيض السماحة والندى ** خليجا على نهر المجرة قد غطا )
( عقدت عليه الجسر للفخر فارتمت ** إليه وفود البحر تغرف ما أنطا )
( ينضنض ما بين الغروس كأنه ** وقد رقرقت حصباؤه حية رقطا )
( حواليه من دوح الرياض خرائد ** وغيد تجر من خمائلها مرطا )
( إذا أرسلت لدن الفروع وفتحت ** جنى الزهر لاح في ذوائبها وخطا )
( يرنحها مر النسيم إذا سرى ** كما مال نشوان تشرب اسفنطا )
( يشق رياضا جادها الجود والندى ** سواء لديها الغيث أسكب أم أبطا )
( وسالت بسلسال اللجين حياضه ** بحارا غدا عرض البسيط لها شطا )
____________________
( تطلع منها وسط وسطاه دمية ** هي الشمس لا تخشى كسوفا ولا غمطا )
( حكت وحباب الماء في جنباتها ** سنا البدر حل من نجوم السما وسطا )
( إذا غازلتها الشمس ألقى شعاعها ** على جسمها الفضي نهرا بها لطا )
( توسمت فيها من صفاء أديمها ** نقوشا كأن المسك ينقطها نقطا )
( إذا اتسقت بيض القباب قلادة ** فأنى لها في الحسن درتها الوسطا )
( تكنفني بيض الدمى فكأنها ** عذارى نضت عنها القلائد والريطا )
( قدود ولكن زادها الحسن عريها ** وأجمل في تنعيمها النحت والخرطا )
( سمت صعدا تيجانها فكسرت ** فوارير أفلاك السماء بها ضغطا )
( فيالك شأوا بالسعادة آهلا ** بأكنافه رحل العلا والهدى حطا )
( وكعة مجد شادها العز فانبرت ** تطوف بمعناها أماني الورى شوطا )
( ومسرح غزلان الصريم كناسها ** حنايا قباب لا الكتب ولا السقطا )
( فلكن به ما طاب لا الإثل والخمطا ** ووسدن فيه الوشي لا السدر والأرطا )
( ثراه من المسك الفتيت مدبر ** إذا مازجته السحب عاد بها خلطا )
( وإن باكرته نسمة ينسري بها ** إلى كل أنف عرف عنبره قسطا )
( أقرت له الزهراء والخلد وانثنت ** أواوين كسرى الفرس تغبطه غبطا )
( جناب رواق المجد فيه مطنب ** على خير من يعزى لخير الورى سبطا )
( إمام يسير الدهر تحت لوائه ** وترسي سفائن العلا حيثما حطا )
( وفتاح أقطار البلاد بفيلق ** يفلق هامات العدا بالظبي خبطا )
( تطلع من خرصاته الشهب فانثنت ** ذوائب أرض الزنج من ضوءها شمطا )
( كتائب نصران جرت لملمة ** جرت قبلها الأقدار تسبقها فرطا )
( إذا ما عقدن راية علوية ** جعلن ضمان الفتح في عقدها شرطا )
( فما للسما تلك الأهلة إنما ** سنابكها أبقت مثالا بها خطا )
( يطاوع أيدي المعلوات عنانها ** فيعتاض من قبض الزمان بها بسطا )
( يد لأمير المؤمنين بكفها ** زمام يقود الروم والفرس والقبطا )
( أدار جدارا للعلا وسرادقا ** يحوط جهات الأرض من رعيه حوطا )
وقال أيضا مما كتب بداخل القبة المذكورة
____________________
( جمال بدائعي سحر العيونا ** ورونق منظري بهر الجفونا )
( وقد حسنت بقوسي واستطارت ** سنا يغشى عيون الناظرينا )
( وأطلع سمكي الأعلى نجوما ** ثواقب لا تغور الدهر حينا )
( وجوى من دخان الند ألقى ** على أرضي الغياهب والدجونا )
( علوت دوائر الأفلاك سبعا ** لذاك الدهر ما ألفت سكونا )
( فصغت من الأهلة والحنايا ** أساور والخلاخل والبرينا )
( تكنفني حياض مائحات ** أمامي والشمائل واليمينا )
( يقيد حسنها الطرف انفساحا ** ويجري الفلك فيها والسفينا )
( تدافع نهرها نحوي فلما ** علاه البحر في غدا دفينا )
( وقد نشر الحباب على سماها ** لآلي تزدري العقد الثمينا )
( فخرت وحق لي لما اجتباني ** لمجلسه أمير المؤمنينا )
( هو المنصور حائز فصل سبق ** وباني المجد بنيانا مكينا )
( وليث وغى إذا زأر امتعاضا ** يروع زئيره هندا وصينا )
( إذا أمت كتائبه الأعادي ** بعثن برعبه جيشا كمينا )
( يدير عليهم من كل حرب ** تدقهم رحى أو منجنونا )
( إمام بالمغارب لاح شمسا ** بها الشرق اكتسى نورا مبينا )
( بقيت بذي القصور الغر بدرا ** تلوح بأفقهن مدى السنينا )
( تحف بكم عواكف عند بابي ** ملائكة كرام كاتبينا )
( لك البشرى أمير المؤمنين ادخلوها ** مع سلام آمنينا )
وقال أيضا مما كتب في بهوها بمرمر أسود في أبيض
( لله بهو عز منه نظير ** لما غدا كالروض وهو نضير )
( رصفت نقوش حلاه رصف قلائد ** قد نضدتها في النحور الحور )
( فكأنها والتبر سال خلالها ** وشي وفضة تربها كافور )
( وكأن أرض قراره ديباجة ** قد زان حسن طرازها تشجير )
( وإذا تصاعد نده نوأ ففي ** أنماطه نور به ممطور )
( شأو القصور قصورها عن وصفه ** سيان فيه خورنق وسدير )
____________________
( فإذا أجلت اللحظ في جنباته ** يرتد وهو بحسنه محسور )
( وكأن موج البركتين أمامه ** حركات سحب صافحته دبور )
( صفت بضفتها تماثل فضة ** ملك النفوس بحسنها تصوير )
( فتدير من صفو الزلال معللا ** يسري إلى الأرواح منه سرور )
( ما بين آساد يهيج زئيرها ** وأساود يعلو لهن صفير )
( ودحت من الأنهار أرض زجاجة ** وأضلها فلك يضيء منير )
( راقت فمن حصبائها وفواقع ** يطفو عليها اللؤلؤ المنثور )
( يا حسنه من مصنع فبهاؤه ** باهى نجوم الأفق وهي تنور )
( وكأنما زهر الرياض بجنبه ** حيث التفت كواكب وبدور )
( ولدسته الأسمى تخير رصفه ** فخر الورى وإمامها المنصور )
( ملك أناف على الفراقد رتبة ** وأقله فوق السماك سرير )
( قطب الخلافة تاج مفرق دولة ** رميت بجحفلها اللهام الكور )
( وجرى إلى أقصى العراق لرعبها ** جيش على جسر الفرات عبور )
( نجل النبي ابن الوصي سليل من ** حقن الدماء وعف وهو قدير )
( بحر الندى لكنه متموج ** سيف العلا لكنه مطرور )
( طود يخف لحلمه ووقاره ** ولجيشه يوم النزال ثبير )
( دامت معاليه ودام ومجده ** طوق على جيد العلا مزرور )
( وتعاهدته من الفتوح بشائر ** يغدو عليه بها مسا وبكور )
( ما زال منزل سعده يرتاده ** نصر يرف لواؤه المنشور )
( وجرت به مرحا جياد مسرة ** وأدار كأس الأنس فيه سمير )
وقال بعض الكتاب مما نقش في عضادتي باب القبة الخمسينية المذكورة
( يا ناظرا بالله قف وتأمل ** وانظر إلى الحسن البديع الأكمل )
( وإذا نظرت إلى الحقيقة فلتقل ** السر في السكان لا في المنزل )
وقال بعض الكتاب أيضا ما طرزت به الأستار المذهبة المحكمة الصنعة لتستر بها
النواحي الأربعة من القبة الخمسينية وتسمى هذه الأستار عند أهل
____________________
المغرب بالحائطي ففي الجهة
الأولى
( متع جفونك في بديع لباسي ** وأدر على حسني حميا الكاس )
( هذي الربا والروض من جرعائها ** لم تغتذي بالعارض البجاس )
( أنى لروض أن يروق بهاؤه ** مثلي وأن يجري على مقياسي )
( فالروض تغشاه السوام وإنما ** تأوي إلى كنفي ظباء كناس )
وفي الجهة الثانية
( من كل حسنا كالقضيب إذا انثنى ** تزري بغصن البانة المياس )
( ولقد نشرت على السماك ذوائبي ** ونظرت من شرز إلى الكناس )
( وجررت ذيلي بالمجرة عابثا ** فخرا بمخترعي أبي العباس )
( ما نيط مثلي في القباب ولا ازدهت ** بفتى سواه مراتب وكراس )
وفي الجهة الثالثة
( ملك تقاصرت الملوك لعزه ** ورماهم بالذل والإتعاس )
( غيث المواهب بحر كل فضيلة ** ليث الحروب مسعر الأوطاس )
( فرد المحاسن والمفاخر كلها ** قطب الجمال أخو الندى والباس )
( ملك إذا وافى البلاد تأرجت ** منه الوهاد بعاطر الأنفاس )
وفي الجهة الرابعة
( وإذا تطلع بدره من هالة ** يعشى سناه نواظر الجلاس )
( أيامه غرر تجلت كلها ** أبهى من الأعياد والأعراس )
( لا زال للمجد السني يشده ** ويقيم مبناه على الأساس )
( ما مال بالغصن النسيم وكللت ** درر الندى في جيده المياس )
وقال أبو فارس الفشتالي مما كتب على المصرية المطلة على الرياض المرتفعة على القبة
الخضراء من بديع المنصور وكان أنشأها في جمادى الأولى من سنة خمس وتسعين وتسعمائة
( باكر لدي من السرور كؤوسا ** وأرض النديم أهله وشموسا )
( وأعرج على غرفي المنيف سماؤها ** تلق الفراقد في حماي جلوسا )
____________________
( وإذا طلعت بأوجها قمر العلا ** لا ترتضي غير النجوم جليسا )
( شرق القصور بريقها لما اجتلت ** مني على بسط الرياض عروسا )
( واعتضت بالمنصور أحمد ضيغما ** وردا تخير من بديعي خيسا )
( ملك أرى كل الملوك ممالكا ** لعلاه والدنيا عليه حبيسا )
( وهناك يا شرف الخلافة دولة ** تلقى برايتها طلائع عيسا )
وقال أيضا مما كتب في بعض المباني البديعية
( معاني الحسن تظهر في المغاني ** ظهور السحر في حدق الحسان )
( مشابه في صفات الحسن أضحت ** تمت بها المغاني للغواني )
( بكل عمود صبح من لجين ** تكون في استقامة خوط بان )
( مفصلة القدود مثلثات ** مواصلة العناق من التدان )
( تردت سابري الحسن يزري ** بحسن السابري الخسرواني )
( وتعطو الخيزرانة من حماها ** بسالفة القطيع البرهماني )
( لمجدك تنتمي لكن نماها ** إلى صنعاء ما صنع اليدان )
( يدين لك ابن ذي يزن ويعنو ** لهما غمدان في أرض اليماني )
( غدت حرما ولكن حل فيها ** لوفدكم الأمان مع الأماني )
( مبان بالخلافة آهلات ** بها يتلو الهدى السبع المثاني )
( هي الدنيا وساكنها إمام ** لأهل الأرض من قاص وداني )
( قصور ما لها في الأرض شبه ** وما في المجد للمنصور ثاني )
وقال مما نقش في بعض الأبواب
( هذي وفود السعد نحوي ترتمي ** وطلائع البشرى لبابي تنتمي )
( وسمت إلي عفاة عرفك مثل ما ** يسمو الحجيج إلى سقاية زمزم )
( حطت بمصراعي السعود بشائرا ** لاحت على الشرفات مثل الأنجم )
( وأوان صنعي أن تقول ولا تبل ** ببديع أحمد جنة المتنعم )
وقال الفشتالي لما عرضت عليه هذه الأبيات استحسنها إلا أنه كره لفظة جنة وتغير
منها كثيرا وقال الوزير الأديب أبو الحسن علي بن منصور الشيظمي مما كتب على مباح
قبة الزجاج
____________________
( إن شئت تاريخ إكمال البديع فقل ** إيوان أحمد إيوان السعادات )
وقال الوزير المذكور مما نقش على أحد أبواب البديع
( باب أتى كبراعة استهلال ** وكأنما القصر القصيد التالي )
( ولذاك سمي بالبديع وجاء بال ** إغراق والتجنيس والإيفال )
( وأتى التمام فقلت في تاريخه ** بيتا بلا عقد ولا إشكال )
( صرح على تقوى من الله انبنى ** في طالع للسعد والإقبال )
وقال أيضا في تمام البديع مهنئا
( يا مليكا ملكه فيمن ملك ** كطلوع الفجر من بعد الحلك )
( تم هذا القصر فاسكنه على ** حسن حال بدوام الملك لك )
وكان الفراغ من تمام البديع سنة اثنتين وألف وفي تاريخه يقول الوزير المذكور وهو
مما نقش بباب الرخام أحد أبواب البديع
( الحسن لفظ وهذا القصر معناه ** ياما أميلح مرآه وأبهاه )
( فهو البديع الذي راقت بدائعه ** وطابق اسم له فيه مسماه )
( صرح أقيمت على التقوى قواعده ** ودل منه على التاريخ معناه )
( ولاح أيضا وعين الحفظ تكلاه ** تاريخه من تمام قل هو الله )
قال في نفح الطيب اخترع المنصور من المصانع ثلاثة أشياء فجاءت غريبة الشكل بديعة
الحسن وهي البديع والسمرة والمشتهى وفيهما يقول المنصور موريا
( بستان حسنك أبدعت زهراته ** ولكم نهيت القلب عنه فما انتهى )
( وقوام غصنك بالمسرة ينثني ** يا حسن رمان به للمشتهى ) اه
قال اليفرني والذي ذكره صاحب كتاب البيان المغرب عن أخبار المغرب وهو الشيخ أبو
عبد الله محمد بن عذاري الأندلسي حسبما رأيته في السفر الثاني منه أن أول من أنشأ
المسرة التي بظاهر جنان الصالحة عبد المؤمن بن علي كبير الموحدين قال وهو بستان
طوله ثلاثة أميال وعرضه قريب منها فيه كل فاكهة تشتهى وجلب إليه الماء من أغمات
واستنبط له عيونا كثيرة
____________________
قال ابن اليسع وما خرجت أنا من مراكش في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة إلا وهذا البستان
الذي غرسه عبد المؤمن يبلغ مبيع زيتونه وفواكهه ثلاثين ألف دينار مؤمنية على رخص
الفاكهة بمراكش اه ولعل المنصور جدد معالم المسرة بعد اندراسها وأفاض سجال الحياة
على ميت غراسها وكان المنصور يفتخر بالبديع كثيرا وينوه بقدره وفي ذلك يقول أبو
فارس الفشتالي
( هذا البديع يعز شبه بدائع ** أبدعتهن به فجاء غريبا )
( أضنى الغزالة حسنه حسدا له ** أبدى عليها للأصيل شحوبا )
( وانقضت الزهر المنيرة إذ رأت ** زهر الرياض به ينور عجيبا )
( شيدتهن مصانعا وصنائعا ** أنجزن وعدك للعلا المرقوبا )
( وجريت في كل الفخار لغاية ** أدركتهن وما مسست لغوبا )
( فانعم بملكك دام فيه مؤبدا ** تجني به فنن النعيم رطيبا )
ولما أكمل المنصور البديع وفرغ من تنميق بردته وتطريز حلته صنع مهرجانا عظيما ودعا
الأعيان والأكابر فقدم لهم من ضروب الأطعمة وصنوف الموائد وأفرغ عليهم من العطايا
ومنحهم من الجوائز ما لم يعهد منه قبل ذلك وكان ممن دخل في غمار الناس رجل من
البهاليل ممن كانت له شهرة بالصلاح في الوقت فقال له المنصور مباسطا كيف رأيت
دارنا هذه يا فلان فقال له إذا هدمت كانت كدية كبيرة من التراب فوجم لها المنصور
وتطير منها وتحكى هذه الحكاية عن غير المنصور فالله أعلم
قال اليفرني وقد ظهر مصداق ذلك على يد السلطان المظفر المولى إسماعيل بن الشريف
فإنه أمر بهدمه سنة تسع عشرة ومائة وألف لموجب يطول شرحه فهدمت معالمه ومحيت
مراسمه وفرق ما كان به من جموع الإنس وعاد حصيدا كأن لم يغن بالأمس حتى صار مرعى
للكلاب والمواشي ووكرا للصدى والبوم وحق على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا
وضعه ومن العجائب أنه لم يبق بلد من بلاد المغرب إلا ودخله شيء من أنقاض البديع
ولقد تذكرت بهذا ما حكاه بعض مؤرخي الأندلس أن
____________________
الزاهرة التي بناها المنصور بن
أبي عامر وهي من عجائب الدنيا مر عليها في أيام المنصور بعض أهل البصائر وهي في
نهاية العمران والازدهاء بسكانها فقال يا دار فيك من كل دار فجعل الله منك في كل
دار قال فضرب الدهر ضرباته وسلط عليها أيدي العدوان فهدمت وخربت وتفرقت محاسنها
حتى نقل بعض أنقاضها إلى العراق
قال اليفرني ولما دخلت البديع مقفلي من الرحلة ورأيت ما هالني أنشدت أبياتا أنشدها
الشيخ محيى الدين بن عربي في كتاب المسامرة لما دخل الزاهرة فوجدها متهدمة وهي
( ديار بأكناف الملاعب تلمع ** وما أن بها من ساكن فهي بلقع )
( ينوح عليها الطير من كل جانب ** فتصمت أحيانا وحينا ترجع )
( فخاطبت منها طائرا متفردا ** له شجن في القلب وهو مروع )
( فقلت على ماذا تنوح وتشتكي ** فقال على دهر مضى ليس يرجع )
وأنشدت ما أنشده ابن الآبار في تحفة القادم
( قلت يوما لدار قوم تفانوا ** أين سكانك الكرام علينا )
( فأجابت هنا أقاموا قليلا ** ثم ساروا ولست أعلم أينا )
ثم قال اليفرني رحمه الله
لطيفة تأملت لفظ البديع فوجدت عدد نقط حروفه بحساب الجمل مائة وسبعة عشر وهذا
القدر هو الذي بقي فيه البديع قائما فإنه فرغ منه سنة اثنتين وألف وشرع في هدمه
سنة تسع عشرة ومائة وألف فمدة عمره مائة وسبع عشرة سنة على عدد اسمه وذلك من غريب
الاتفاق فسبحان من دقت حكمته وجلت قدرته وعمت رحمته لا إله إلا هو الحكيم العليم
____________________
ثورة الناصر ابن السلطان
الغالب بالله ببلاد الريف ومقتله
كان الناصر هذا في حياة أبيه عبد الله الغالب بالله خليفته على تادلا ونواحيها
ولما توفي أبوه المذكور وقام بالأمر أخوه المتوكل كما استوفينا خبره قبض على
الناصر فاعتقله فلم يزل معتقلا عنده سائر أيامه إلى أن قدم المعتصم بجيش الترك
وانتزع الملك من يد المتوكل كما مر فسرح الناصر من اعتقاله وأحسن إليه فلم يزل
عنده في أرغد عيش إلى أن توفي المعتصم يوم وادي المخازن وأفضى الأمر إلى المنصور
ففر الناصر إلى آصيلا وكانت للنصارى يومئذ ثم عبر البحر منها إلى الأندلس فكان عند
طاغية قشتالة مدة طويلة إلى أن سرحه الطاغية إلى المغرب بقصد تفريق كلمة المسلمين
وإحداث الشقاق بينهم فخرج الناصر بمليلية ونزل بها لثلاث مضت من شعبان سنة ثلاث
وألف وتسامعت به الغوغاء والطغام من أهل تلك البلاد فأقبلوا إليه يزفون فكثرت
جموعه وتوفرت جيوشه واهتز المغرب بأسره لذلك
وذكر اليفرني في الصفوة أن الفقيه أبا عبد الله محمد بن قاسم القصار كتب كتابا إلى
الشيخ الصالح أبي عبد الله محمد بن علي بن ريسون من أهل بلاد غمارة وكان مسموع
الكلمة بها يحضه على الاستمساك بدعوة المنصور وأن يلزم الطاغية له فوقع الكتاب في
يد المنصور فعرف للشيخ القصار حقه ولما وفد عليه بعد ذلك وصله وولاه الفتوى
والخطبة بجامع القرويين وتفرقة صدقة المساكين
ثم إن الناصر خرج من مليلية قاصدا تازا فدخلها واستولى عليها ونزعت إليه القبائل
المجاورة لها كالبرانس وغيرهم فتألبوا عليه وتمالؤوا على إعزازه ونصره ولما دخل
تازا طالب أهلها بالمكس وقال لهم إن النصارى يغرمون حتى على البيض ولما سمع
المنصور بخبره أقلقه ذلك وتخوف منه غاية لأن الناصر اهتز المغرب لقيامه وتشوفت
النفوس إليه لميل القلوب عن المنصور لشدة وطأته واعتسافه للرعية
قال في ابتهاج القلوب في ترجمة الولي الصالح أبي الحسن علي بن
____________________
منصور البوزيدي المعروف بأبي
الشكاوي دفين شالة إنه كان سائرا يوما على بغلة ومعه أصحابه فقال لهم يا فقراء
أتسمعون ما تقول بغلتي إنها تصيح بالنصر لمولاي الناصر وكذلك الشجر والحجر وإني
أرى غير ذلك فكان الأمر كما قال اهتز لقيام الناصر كل شيء ثم قتل عن قريب ولم يتم
له أمر اه
ثم إن المنصور بعث إليه جيشا وافرا فهزمهم الناصر واستفحل أمره وتمكن ناموسه من
القلوب فأمر المنصور ولي عهده المأمون بمنازلته فخرج إليه من فاس في تعبية حسنة
وهيئة تامة فلما التقى الجمعان كانت الدبرة على الناصر بالموضع المعروف بالحاجب
ومر على وجهه فاحتل بالجاية بلدة من عمل بلاد الزبيب فلحق به ولي العهد فلم يزل في
مقاتلته إلى أن قبض عليه فأزال رأسه وبعث به إلى مراكش وكان ذلك سنة خمس وألف وقيل
سنة أربع وألف
قال في نشر المثاني كان مقتل الناصر وإدخاله مقطوع الرأس إلى فاس يوم الثلاثاء
الثالث والعشرين من رمضان سنة أربع وألف وهو الأصح
وذكر الشيخ أبو علي اليوسي في المحاضرات ما نصه حدثوا عن صلحاء تادلا أنه لما قام
على السلطان أحمد المنصور ابن أخيه الناصر قال الشيخ أبو العباس أحمد بن أبي
القاسم الصومعي إن الناصر يدخل تادلا يعني دخول الملك فلما بلغ الخبر إلى الشيخ
أبي عبد الله محمد الشرقي التادلي قال مسكين بابا أحمد رأى رأس الناصر قد دخل
تادلا فظنه الناصر يدخلها فكان الأمر كذلك فإنه هزم في نواحي تازا ثم قطع رأسه
وحمل إلى مراكش فدخل تادلا في طريقه اه
ولما قتل الناصر سر المنصور بذلك وأتته الوفود للتهنئة وقال الشعراء في ذلك منهم
الكاتب أبو عبد الله محمد بن عمر الشاوي قال
( تهنأ أمير المؤمنين فقد جرت ** بسطوتك الأقدار جري السوابق )
( أضاءت لك الأيام واحلولكت على ** عدوك وارتجت رؤوس الشواهق )
( وذاك الذي قد خيب الله سعده ** تردى فلم تنفعه نصرة مارق )
( فكان كما قد قيل لكن رأسه ** أتى سابقا والرجل ليست بسابق )
____________________
ضمن قول بعضهم في الوزير ابن الفرس وقد رآه مصلوبا منكوس الرأس
( لقد طمح المهر الجموح لغاية ** تقطع أعناق الجياد السوابق )
( جرى فجرت رجلاه لكن رأسه ** أتى سابقا والرجل ليست بسابق )
وكتب المنصور بخبر هذا الفتح إلى الآفاق
فمما كتبه للشيخين الإمامين أبي عبد الله محمد زين العابدين البكري وأبي عبد الله
محمد بدر الدين القرافي رسالة يقول فيها ما نصه
من عبد ربه المجاهد في سبيله أحمد المنصور بالله أمير المؤمنين الحسني إلى الفاضل
الذي اعتجر بالتقوى وهو زين العابدين وتحلى بحلى المعارف الربانية وتلك حلى
العارفين والسالك الذي برز في الطريقة وسلك على المجاز الواضح إلى الحقيقة ففات
شأو السابقين والعارف الذي تجرد عن رعونة الأهواء النفسانية فكان سلوكه على
التجريد إلى حضرة الواصلين الشيخ العالم الحجة الوافي السيد بدر الدين القرافي
والشيخ العارف الواصل السر الكامل سلالة العلماء سبط الفضلاء أبي عبد الله زين
العابدين ابن الشيخ السامي المقام قطب المشايخ الأعلام فخر علماء الإسلام الشهير
البركة في الأنام أبي عبد الله محمد بن أبي الحسن الصديقي أبقاكما الله وأرواحكما
تتعطر برياحين الإنس في حضرة القدس وتتنسم النفحات الهابة من رياض المشاهدة إلى
مدارج الإنس ومعارج النفس وسلام عليكما ورحمة الله تعالى وبركاته
وبعد حمد الله مفيض أنوار عناية أحمد على صاحبه الصديق مظهر كنوز المعارف الربانية
جيلا بعد جيل من بيت عتيق و صلى الله عليه وسلم الذي اختار لمرافقته صاحبه في
الغار والعريش والطريق والرضا عن آله أئمة الخلق وسيوف الحق وأصحابه الذين فاضت
أنوار هدايتهم على الغرب والشرق وببركتهم انتسق لنا الفتح انتساق الأسلاك وبفضلهم
يعلو سعدنا على الكفر علو القطب على دائرة الأفلاك فكتبنا هذا إليكم من حضرتنا
مراكش حاطها الله وصنع الله لها مفعم السجال وواسع المجال
____________________
وعزمتها الماضية تبعث إلى
العدا رسل الأوجال والأيام بعز صولتها ويمن دولتها بهذه المغارب باسمة الثغور
مؤذنة باتصال أمرها العزيز بحول الله إلى أن تطوى ملاءة الدهر هذا وأنه اتصل بعلي
مقامنا كتابكما الذي صدحت على أفنان البلاغة سواجعه وعذبت في موارد المحبة
الصديقية مناهله ومشارعه ولطفت في كل معنى من المعاني أفانينه ومنازعه وتألفت على
الإجادة في كل مقصد من المقاصد مواصله العذبة ومقاطعه وأينعت بأزهار العناية
الربانية أباطحه الفيح وأجارعه ومعه المنظومات التي سحت بالحكم ديمها ورسا في
البلاغة قدمها وربا في منبت المواهب الربانية يراعها الفصيح وقلمها وحل من نفوسنا
موقعها العجيب محلا من دونه الثريا في مطلعها والبدر ليلة تمامه إعجابا بها
وتنويها بمهديها وابتهاجا بالخوارق التي أطلق الله على لسان مبديها وإلى هذا فليحط
علمكما بأن مقامنا تنفق فيه على الدوام إن شاء الله نفائس بضائعكم وتنمو فيه مع
الأيام سعود مطالعكم وتسمو فيه على كل مقام مقاماتكم وتستوضح فيه على المحبة
الصميمة أماراتكم الواضحة وعلاماتكم فعلى هذا تنعقد منكم الخناصر وتشتد الأواخي
والأواصر بعز الله ومنه ثم مما نستطرد لكم ذكره على جهة البشرى وإهداء المسرة
الكبرى إعلامكم أن عدو الدين طاغية قشتالة الذي هو اليوم العدو الكبير للإسلام
وعميد ملل التثليث وعبدة الأصنام لما انس من تلقاء جنابنا نار العزم تلتهب منا
التهابا وبحر الاحتفال تضطرب أمواجه الزاخرة بكل عدد وعدة اضطرابا وهممنا قد همت
بتجديد الأسطول والاستكثار من المراكب المتكفلة للجهاد إن شاء الله بقضاء كل دين
ممطول وعلم أن الحديث إليه يساق وإلى أرضه بالخسف والتدمير بحول الله يهفو كل لواء
خفاق رام خذله الله مكافاتنا على ذلك بما أمل أن يفت به في عضدنا الأقوى وعزمنا
الذي بعناية الله يزداد ويقوى فرمى بمخذول من أبناء أخينا عبد الله كان ربى لديه
وطوحت به الطوائح منذ ثمانية عشر عاما إليه إلى مليلية إحدى الثغور المصاقبة لغرب
ممالكنا الشريفة التي إلى كفالة ولدنا وولي عهدنا كافل الأمة من بعدنا الأمير
الأجل الأرضى صارم العزم
____________________
المنتضى وحسام الدين الأمضى
أبي عبد الله محمد الشيخ المأمون بالله وصل الله لرايته التأييد والظهور والعز
الذي يستخدم الأيام والدهور فالتف عليه من اغتر بأباطيله الواهية البناء من أوباش
العامة والغوغاء ومن قضى له من أجناد تلك الناحية بالشقاء جموع تكاثر الرمل وتفوت
الحصا والنمل لاح بها للشقي خلب بارق أكذبته أمنيته إذ صدقته منيته فصمم نحوه
ولدنا أعزه الله بجنود الله التي إليه وبعساكر تلك الممالك التي ألقينا زمام
تدبيرها في يديه فما راع الشقي إلا انقضاضه عليه من الجو انقضاض الأجدل وتصميمه
إليه بعزائم تدك الطود وتفلق الصخر والجندل فاستولى عليه بحمد الله للحين وعلى
جموعه الأشقياء في يوم أغر محجل وساعة أنزل الله فيها على الخوارج المارقين العذاب
المعجل فاستأصلتهم الشفار وحصدت هشيمهم المصوح ألسنة النار وقبض على الشقي في يوم
كان شفاء للصدور ومنتزها لحملة السيوف وربات الخدور وأحرز الله تعالى فخر هذا
الفتح العظيم والمن الجسيم لولدنا أعزه الله عز وجل في خاصة أجناده ونهض وحده
بأعبائه ونحن على سرير ملكنا وادعون مطمئنون وأجنادنا في أوطارنا لاهون ومفتنون
فلم يحتج إلى أنجاده من قبلنا ولا إمداده والعاقبة للمتقين والحمد لله حمد
الشاكرين وعرفناكم لتأخذوا بحظكم من السرور بهذه البشرى التي سرت الإسلام وساءت
بحمد الله عبدة الأوثان والأصنام وتعلموا مع ذلك ما عليه الأحوال اليوم بحول الله
لدينا من خفق رايات العزم وشحذ آراء الجزم وأعمال عوامل الجزم إلى مجازاة عدو
الدين إن شاء الله على فعلته التي عادت عليه أسفا ولهفا وإعادة ما كان أسلف من ذلك
إن شاء الله بالمكيال الأوفى وقدمنا إليكم التعريف لتمدونا إن شاء الله بأدعيتكم
الصالحة في أوقات الإجابة وتحرصوا على التماسها هنالك وبالحرمين الشريفين من كل ذي
خضوع وإنابة أن يؤيدنا الله على عدو الدين بفضله وينجز لنا وعده الصادق في إظهار
دين الحق على الدين كله ويسهل علينا بفضله ومعونته أسباب فتح الأندلس وتجديد رسوم
الإيمان بها وإحياء أطلاله الدرس حتى ينطق لسان الدين في أرضها بكلمة
____________________
الله التي طالما سكت عنها
نداؤه وخرس وشرق بريقه فغص وخنس فبيده الحول والقوة وعنايته العناية المرجوة ثم
نوصيكم بحسن الوقوف مع أصحابنا فيما يشترى من الكتب العلمية برسم خزانتنا الكريمة
الإمامية العلية ثم الإتحاف بديوان الشيخ والدكم التماسا لجميل بركاته وتمسكا بما
سبق من الإجازة العامة في سائر منظوماته وموضوعاته ومروياته وهذا موجبه إليكم
والسلام الأتم معاد عليكم ورحمه الله وبركاته في ربيع النبوي سنة خمس وألف اه وهذه
الرسالة من إملاء المنصور على ما قيل
ومما كتب به أيضا بخط يده إلى سلطان مكة والمدينة والحجاز الشريف أبي المحاسن حسن
بن أبي نمي بن بركات ما نصه
من عبد الله المجاهد في سبيله الإمام المنصور بالله أحمد أمير المؤمنين ابن أمير
المؤمنين الشريف الحسني إلى الأصالة التي تبحبحت من ذؤابة هاشم في صميمها وتوغلت
من غرفات حرمة الله بين زمزمها وحطيمها وتمتعت من عرارة نجد بانتشاق نفحاتها
الأريجة وشميمها أصالة السلطان الأثيل الأثير الأسنى الأسمى الأزكى السلطان حسن بن
أبي نمي أبقاكم الله والبيت ذو الأستار تتفيؤون ظلاله وتلثمون من الحجر الأسود
الأسعد خاله وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد حمد الله الذي أعز هذه المثابة العلوية الإمامية النبوية العزيزة الأنصار
السامية المحتد والنجار الساحبة أذيال عزها الوريف الظلال على أهل البيت السامي
المقدار سكان الحمى والذين تبوءوا الدار و صلى الله عليه وسلم الذي أطلع شموس
الهداية الساطعة الأنوار والرضا عن آله الذين تتضاءل لمجدهم السامي المنار الشموس
والأقمار وعن أصحابه الذين استأصلوا شأفة الكفر بمواضي الشفار وصلة الدعاء لهذا
المقام العلي الإمامي المنصوري الحسني بنصر تجني الفتوح من قضب رماحه وتجري
الأقدار على وفق اقتراحه فكتابنا هذا إليكم من حضرة مراكش حاطها الله ووسع لها
المجال في ميادين السجال والأيام بعز صولتها ويمن دولتها بهذه المغارب باسمة
الثغور مؤذنة باتصال أمرها العزيز بحول الله إلى أن تطوى
____________________
ملاءة الدهور بعز الله وعنايته
هذا وإن شيخ الركب المغربي وهو المرابط الخير الحاج محمد بن عبد القادر لما أزمع
إلى المعاهد الشريفة الرحيل لتجديد رسم الطاعة الذي ليس بعاف ولا محيل وهب له من
محارم الله نسيم يميل وآن للمطايا أن تعمل الوخد والذميل مد إلى علي مقامنا أكف
الرغبة في كتاب كريم يتشرف بحمله ويتعرف منه السعادة بحول الله في مرتحله وحله
يتضمن الإيصاء به إليكم في المورد والمصدر ومدة مقامه من جواركم بحرم الله تجاه
البيت والمشعر فحملناه هذه العجالة لترعوا له إن شاء الله عنها الحق المعتبر
وتولوه من جانبكم بما يصدق به الخبر وتدنوا له من آماله قطوف كل فنن مهتصر ومما
نكلفكم النهوض لأجل حقوق الأخوة بأعبائه ونطالبكم لوشائج الرحم بالاعتناء بأدائه
التماس الدعاء مع الأحيان تجاه البيت الحرام وعند الملتزم والمقام أن يؤيدنا الله
على عدو الدين بفضله وينجز لنا وعده الصادق في إظهار دينه على الدين كله ويسهل
علينا بفضله ومعونته أسباب فتح الأندلس وتجديد رسوم الإيمان بها وإحياء أطلاله
الدرس حتى ينطق لسان الدين فيها بكلمات الله التي طالما سكت عنها نداؤه وخرس وشرق
بريقه فغص وخنس فذلك دعاء لا يرد لأنه جرى من أهله في محله ومعاد السلام الأثم
عليكم ورحمة الله وبركاته انتهى
وقوله حتى ينطق لسان الدين فيه تورية بابن الخطيب رحمه الله
قال الفشتالي كان ترتيب المنصور في الاحتفال بالمولد النبوي الكريم أنه إذا طلعت
طلائع شهر ربيع الأول صرف الرقاع إلى الفقراء أرباب الذكر على رسم الصوفية
والمؤذنين النعارين في الأسحار فيأتون من كل جهة ويحشرون من سائر حواضر المغرب ثم
يأمر الشماعين بتطريز الشموع وإتقان صنعتها فيتبارى في ذلك مهرة الشماعين من كل ما
يباري النحل في نسج أشكالها لطفا وإدماجا فيصوغون أنواعا من الشمع التي تحير
النواظر ولا تذبل زهورها النواضر فإذا كان ليلة المولد تهيأ لحملها وزفاف كواعبها
____________________
الصحافون المحترفون بحمل خدور
العرائس عند الزفاف فيتزينون لذلك ويكونون في أجمل شارة وأحسن منظر ويجتمع الناس
من أطراف المدينة كلها لرؤيتها فيمكثون إلى حين يسكن حر الظهيرة وتجنح الشمس
للغروب فيخرجون بها على رؤوسهم كالعذارى يرفلن في حلل الحسن وهي عدد كثير كالنحل
فيتسابق الناس لرؤيتها وتمتد لها الأعناق وتبرز ذوات الخدور ويتبعها الأطبال
والأبواق وأصحاب المعازف والملاهي حتى تستوي على منصات معدة لها بالإيوان الشريف
فتصطف هنالك فإذا طلع الفجر خرج السلطان فصلى بالناس وقعد على أريكته وعليه حلة
البياض شعار الدولة وأمامه تلك الشموع المختلفة الألوان من بيض كالدمى وحمر جليت
في ملابس أرجوان وخضر سندسية واستحضر من أنواع الحسك والمباخر ما يلهي المحزون
ويدهش الناظر ثم دخل الناس أفواجا على طبقاتهم فإذا استقر بهم المجلس تقدم الواعظ
فسرد جملة من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وذكر مولده ورضاعه وما وقع
في ذلك باختصار فإذا فرغ اندفع القوم في الأشعار المولديات فإذا فرغوا تقدم أهل
الذكر المزمزمون بكلام الششتري وأشعار الصوفية ويتخلل ذلك نوبة المنشدين للبيتين
فإذا فرغوا من ذلك كله قام شعراء الدولة فيتقدم قاضي الجماعة الشاطبي بلبل منابر
الجمع والأعياد فينشد قصيدة يفتتحها بالتغزل والنسيب فإذا تم تخلص لمدح النبي صلى
الله عليه وسلم ثم يختم بمدح المنصور والدعاء له ولولي عهده فإذا قضى نشيده تقدم
الإمام المفتي المولى أبو مالك عبد الواحد الشريف فينشد قصيدته على ذلك المنوال
فإذا فرغ تلاه الوزير أبو الحسن علي بن منصور الشيظمي ثم تلاه الكاتب أبو فارس عبد
العزيز الفشتالي ويليه الكاتب محمد بن علي الفشتالي ويليه الأديب محمد بن علي
الهوزالي النابغة ويليه الأديب الفقيه أبو الحسن علي بن أحمد المسفيوي فإذا طوى
بساط القصائد نشر خوان الأطعمة والموائد فيبدأ بالأعيان على مراتبهم ثم يؤذن
للمساكين فيدخلون جملة فإذا انقضت أيام المولد الشريف برزت صلات الشعراء على
أقدارهم هكذا كان دأبه في جميع الموالد ولا يحصى ما يفرغ فيه من أنواع الإحسان
____________________
على الناس اه من كتاب مناهل
الصفاء
وقال صاحب النفحة المسكية في السفارة التركية وهو العلامة المشارك أبو الحسن علي
بن محمد التامجروتي حضرت المولد الشريف بعد القفول من بلاد الترك فاستدعى المنصور
الناس لإيوانه السعيد واستدخلهم لقصره البديع المشيد المحتوي على قباب متقابلة
عالية وقد مد فيها من فرش الحرير وصفت النمارق وتدلت الأستار والكلل والحجال
المخوصة بالذهب على كل باب قبة وحنية سرير ودار على الحيطان حائطيات الحرير التي
هي كأزهار الخمائل ما رئيت قط في عهد الأوائل وتلك القباب مرفوعة الجوانب على
قواعد وأساطين من رخام مجزع مطلية الرؤوس بالذهب الذائب مفروش جلها بالمرمر الأبيض
مخططا بالسواد يتخلل ذلك ماء عذب فيدخل الناس على طبقاتهم ويأخذ كل مرتبته من قضاة
وعلماء وصلحاء ووزراء وقواد وكتاب وأصناف الأجناد فيخيل لكل منهم أنه في جنة
النعيم والسلطان جالس في فاخر ملابسه تعلوه الهيبة والوقار وترمقه الأبصار
بالتعظيم والإكبار ويجلس من عادته الجلوس ويقف على رأس السلطان الوصفان والعلوج
وعليهم الأقبية المخوصة والمناطق المرصعة والحزم المذهبة مما يدهش الناظر وركز
أمامهم الشمع الملون وأذن لعامة الناس فدخلوا من أصناف القبائل على أجناسها من
الأجناد والطلبة وسكنت بعد حين الجلبة وأوتي بأنواع الطعام في القصاع المالقية
والبلنسية المذهبة والأواني التركية والهندية وأوتي بالطسوس والأباريق وصب الماء
على أيدي الناس ونصبت مباخر العنبر والعود وأبرزت صحائف الفضة والذهب وأغصان
الريحان الغض فرش بها البساط ورش من ماء الورد والزهر وأنشدوا قصائد وتكلم
المنشدون وأحسن إليهم السلطان ثم ختموا المجلس بالدعاء للأمير وإذا كان يوم السابع
يكون ترتيب أبدع من الأول وهذه سيرته دائما اه
وهكذا كانت سيرته في شهر رمضان عند ختم صحيح البخاري وذلك أنه كان إذا دخل رمضان
سرد القاضي وأعيان الفقهاء كل يوم سفرا من نسخة
____________________
البخاري وهي عندهم مجزأة على
خمسة وثلاثين سفرا في كل يوم سفرا إلا يوم العيد وتاليه فإذا كان يوم سابع العيد
ختم فيه صحيح البخاري وتهيأ له السلطان أحسن تهيؤ إلا أن العادة الجارية عندهم في
ذلك أن القاضي يتولى السرد بنفسه فيسرد نحو الورقتين من أول السفر ويتفاوض مع
الحاضرين في المسائل ويلقى من ظهر له بحث أو توجيه ما ظهر له ولا يزالون في المذاكرة
فإذا تعالى النهار ختم المجلس وذهب القاضي بالسفر فيكمله سردا في بيته ومن الغد
يبتدئ سفرا آخر وهكذا والسلطان في جميع ذلك جالس قريب من حاشية الحلقة قد عين
لجلوسه موضع
قال الفشتالي وكان المنصور يعطي أموال لذوي الحاجات عند انقضاء رمضان ويقيم
مهرجانا يوم عاشوراء لختان أولاد الضعفاء وكل من ختن منهم أعطي أذرعا من كتان وحصة
من الدرهم وسهما من اللحم اه
وأما ترتيب جيش المنصور وعادته في أسفاره فسنذكرها في الفصل بعد هذا إن شاء الله
ولنذكر بعض القصائد الميلادية التي أنشدت بمجالس المنصور حسبما تقدمت الإشارة إليه
فمن ذلك قول القاضي أبي القاسم بن على الشاطبي رحمه الله
( ما بال طيفك لا يزور لماما ** وبمنحنى الأحشا ضربت خياما )
( أيعيش فيك عواذلي لسلوهم ** وأموت فيك صبابة وغراما )
( وتبيح نهرك سائلا من أدمعي ** أو ليس نهر السائلين حراما )
( ما ذقت ماء لماك في سنة الكرى ** إلا انتبهت فكان لي أحلاما )
( عرض إذا حدثت عن بان الحمى ** فحديث قلبي بالأوجاع هاما )
( أروى حديث الرقمتين مسلسلا ** عن دمع باكية الغمام سجاما )
( وتلق من جيب النسيم تحية ** أضحى الهوى بردا لها وسلاما )
( يا جيرة العلمين دعوة شيق ** للذيذ عيش بالغضا لو داما )
( فخذوا بجرعاء الحمى قلبي فقد ** ألف الإقامة بالحمى فأقاما )
( وخذوا بثار أهل نجدانهم ** سلبوا الفؤاد وأدنفوا الأجساما )
( في كل غرب دموع عيني مشرق ** لكواكب فيها أثرن ظلاما )
____________________
( صليت بنار الشوق ثم رثت إلى ** إنسانها في لجة قد عاما )
( وتسلسلت عبراتها شوقا لمن ** وقفت عليه صلاتها وسلاما )
( خير الأنام محمد الهادي الذي ** أردى الضلال وجب منه سناما )
( كنز العوالم سر طينة آدم ** ولحفظ ذاك السر جاء ختاما )
( وأجل أرسال الإله ومن به ** قد لاذ يونس حين خاض ظلاما )
( وتقاصرت عن فرده أعدادهم ** فلذا تقدم في الحساب إماما )
( أسرى إلى السبع الطباق فأقبلت ** زمر الملائك وفده إعظاما )
( في ليلة غصت بأملاك السما ** فتسير خلف ركابه وإماما )
( يا خير من بهر المعاند شأنه ** عجزا فغص بريقه إفحاما )
( أعيى جلالك أن يحيط بوصفه ** وصف البليغ وأخرس الأقلاما )
( صلى عليك الله ما زار الحيا ** روضا ففتح زهره الأكماما )
( ما لذتي في مدح غير مخلصا ** إلا بمدحي من بينك إماما )
( خير الورى وإمامها المنصور من ** في ظل دولته الأنام أناما )
( أضفى على الأرضين ظل مهابة ** فحمى بها حام العباد وساما )
( وسما على الدنيا عقاب تنوفة ** فانقض يفترس الأسود بهاما )
( قل للملوك هبوا لمالككم فدى ** وخذوا لأنفسكم لديه ذماما )
( هذا الذي يحيى البلاد بعدله ** ويعيدها نشرا وكن رماما )
( هذا الذي وعد الإله بأنه ** يطوي البلاد ويفتح الأهراما )
( يا مشبه المهدي في آرائه ** حزما وفي عزماته إقداما )
( أنت الذي ببنيه أبناء العلا ** أرسى البلاد ووطد الإسلاما )
( فكأنها من حولك الأشبال في ** غاب الوشيج تبوأت آجاما )
( وأمينها المأمون عضب سمامها ** علم أناف على الهضاب سناما )
( وأجل مضطلع تخيره الورى ** بعد الإمام فقدموه إماما )
( وحباه أحمد عهد أمة أحمد ** فوفى فكان لرعيه المعتاما )
( لا يعدون النصر سيفك أنه ** سيف يحوط الدين والإسلاما )
( خذها ينم على العبير مديحها ** ويفض عن مسك الختام ختاما )
وقال العلامة مفتي الحضرة أبو مالك المولى عبد الواحد بن أحمد
____________________
الشريف الفيلالي
( أرقت وشاقتني البروق اللوامع ** وذكرى خليط هيجتها المرابع )
( مرابع عفتها الروامس والسما ** تراق من الأشواق فيها المدامع )
( كأن لم تكن من قبل قدما أو أهلا ** إذ السلك منظوم وشملي جامع )
( تذكرني عهد الأجازع واللوى ** وأين اللوى مني وأين الأجازع )
( سحبنا بها ذيل الصبابة برهة ** وجفن الردى عنا وحاشاك هاجع )
( وقفت بها بالبزل والليل دامس ** أنازعها الشكوى بها وتنازع )
( أسائلها عن جيرة بان حيهم ** وضمت هواهم بعد ذاك الأضالع )
( فهل قدموا نحو العقيق صدورهم ** ولاح لهم برق من الغور لامع )
( يخبر عن دار الرسول وقربها ** عراص بها للوحي فاضت ينابع )
( ديار بها حل الحمى سيد الورى ** وهبت على الأشراك منها زعازع )
( عليك صلاة الله يا خير مرسل ** ويا خير من تثني عليه الأصابع )
( فلولاك هذا الكون ما زال معدما ** وأنت الذي يرجوه عاص وطائع )
( لك الفخر في الدارين والموقف الذي ** لأهواله كل النبيين جازع )
( فآدمهم والكل تحت لوائكم ** وليس لنا والله غيرك شافع )
( فجازاك رب العرش ما أنت أهله ** جزاء به يشجي المناوي المخادع )
( وجازى إماما قد نمته إليكم ** أصول وآباء كرام فوارع )
( سميك وابن السبط حقا ومن له ** عوارف في أعناقنا وصنائع )
( فدم للعلا يا ابن الخلائف مفردا ** إليك اشتراؤها وغيرك بائع )
( ودام ولي العهد بعدك صارما ** يخب إلى نيل العلا ويسارع )
( هو الآمن المأمون من كل فتنة ** لفيض الندى من راحتيه يدافع )
( ففيك أقول والنصوص شواهد ** أحاديث صحت ليس فيها منازع )
( بكم رأس هذا القرن جدد ديننا ** وفاضت بحور للعلوم هوامع )
أشار بهذا إلى ما أخرجه أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إن الله
يبعث على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها )
وحمله بعض الأئمة على أن المجدد من الملوك وقيل من العلماء
____________________
وقيل من الأولياء والصواب
الإطلاق
وقال الوزير القائد أبو الحسن علي بن منصور الشيظمي رحمه الله تعالى
( من بعد أهل قبا وأهل كداء ** شوقي يزيد وعز ذاك عزائي )
( ولي الشفاء بقربهم وهم جلا ** ما في الخواطر من صدى وصداء )
( لكنه بعد المزار فأين من ** تلك المعاهد ساكن الحمراء )
( بانوا وهاج الشوق ذكر ربوعهم ** ذات السنا والرند والأضواء )
( وشدا بهم حادي الركاب فكاد أن ** تدع القلوب جسومها بفضاء )
( يا سعد لو أن الزمان مساعدي ** ومجيب داعي البعد بعد ندائي )
( لركبت حرفا كالهلال منافرا ** للهمز إلا في المنادي النائي )
( ولجبت أحياء الفلا وطوبتها ** طي الملا بنجيبة فوداء )
( تختاض في جوف الظلام كأنها ** سري تولج في ضمير حجاء )
( وتخال في لجج السراب سفينة ** تجري القلوع بها بريح رخاء )
( هل أنزلن بها المخصب من منى ** وأزور بعد معاهد الزوراء )
( فأحط عنها الرحل ثم مخيما ** في ظل احمد بغيتي ومنائي )
( وامرغ الخدين ملتثما ترى ** وطئته رجلا خاتم النبئاء )
( محيى الهدى ماحي الضلالة والردا ** بالبيض والخطية السمراء )
( صلى عليه الله ما نسخ السخا ** لؤما وما أجلى الدجا ابن ذكاء )
( وعلى صحابته الكرام وآله ** أكرم بهم من سادة فضلاء )
( أكرم بوارث مجده وعلائه ** سبط الرسالة غرة الأبناء )
( خير الخلائف أحمد المنصور من ** حاز الكمال وشرط كل علاء )
( الصارم الهندي في يمنى الهدى ** والكوكب الوقاد في الظلماء )
( يا أيها الملك الذي بسيوفه ** حاط الهدى وبرأيه الوضاء )
( ذخر الإله لك الفتوح وصانها ** كالزهر في الأكمام والأوعاء )
( لا بد من فتح يروقك واضح ** كالصبح يدرأ في نحور عداء )
( وستملك الحرم الشريف وينتمي ** للوائك المنصور دون مراء )
____________________
( وترى الجهات وقد أتت منقادة ** بظبي بنيك السادة النجباء )
( وتقر عينا بالخليفة منهم ** وزر البرية عدة الأمراء )
( بمحمد المأمون خير من ارتقى ** درج الكمال ودب للعلياء )
( فرع سيحكي أصله ولقد حكى ** بمقاصد قد سددت ودهاء )
وقال الكاتب أبو فارس عبد العزيز بن محمد الفشتالي رحمه الله تعالى
( هم سلبوني الصبر والصبر من شأني ** وهم حرموا من لذة الغمض أجفاني )
( وهم أخفروا في مهجتي ذمم الهوى ** فلم يثنهم عن سفكها حبي الجاني )
( لئن أترعوا من قهوة البين أكؤسي ** فشوقهم أضحى سميري وندماني )
( وإن غادرتني بالعراء حمولهم ** كفى أن قلبي جاهد أثر أظعاني )
( قف العيس واسأل ربعهم أية مضوا ** أللجزع ساروا مدلجين أم البان )
( وهل باكروا بالسفح من جانب اللوا ** ملاعب آرام هناك وغزلان )
( وأين استقلوا هل بهضب تهامة ** أناخوا المطايا أم على كثب نعمان )
( وهل سال في بطن المسيل تشوقا ** نفوس ترامت للحمى قبل جثمان )
( وإذا زجروها بالعشي فهل ثنى ** أزمتها الحادي إلى شعب بوان )
( وهل عرسوا في دير عبدون أم سروا ** يؤم بهم رهبانهم دير نجران )
( سروا والدجى صبغ المطارف فانثنى ** بأحداجهم شتى صفات وألوان )
( وأدلج في الأسحار بيض قبابهم ** فلحن نجوما في معارج كثبان )
( لك الله من ركب يرى الأرض خطوة ** إذا زمها بدنا نواعم أبدان )
( أرحها مطايا قد تمشي بها الهوى ** تمشي الحميا في مفاصل نشوان )
( ويمم بها الوادي المقدس بالحمى ** به الماء صدا والكلا نبت سعدان )
( واهد حلول الحجر منه تحية ** تفاوح عرفا ذاكي الرند والبان )
( لقد نفحت من شيخ يثرب نفحة ** فهاجت مع الأسحار شوقي وأشجاني )
( وفتت منها الشرق في الغرب مسكة ** سحبت بها في أرض دارين أرداني )
( وأذكرني نجدا وطيب عراره ** نسيم الصبا من نحو طيبة حياني )
( أحن إلى تلك المعاهد إنها ** معاهد راحاتي وروحي وريحاني )
____________________
( وأهفو مع الأشواق للوطن الذي ** به صح لي أنسي الهني وسلواني )
( وأصبوا إلى أعلام مكة شائقا ** إذا لاح برق من شمام وشهلان )
( أهيل الحمى ديني على الدهر زورة ** أحث بها شوقا لكم عزمي الواني )
( متى يشتفي جفني القريح بنظرة ** يزج بها في نوركم عين إنساني )
( ومن لي بأن يدنوا لقاكم تعطفا ** ودهري عني دائما عطفه ثاني )
( سقى عهدهم بالخيف عهد تمده ** سوافح دمع من شؤوني هتان )
( وأنعم في شط العقيق أراكة ** بأفيائها ظل المنى والهوى داني )
( وحيا ربوعا بين مروة والصفا ** تحية مشتاق لها الدهر حيران )
( ربوعا بها تتلو الملائكة العلا ** أفانين وحي بين ذكر وقرآن )
( وأول أرض باكرت عرصاتها ** وطرزت البطحا سحائب إيمان )
( وعرس فيها للنبوة موكب ** هو البحر طام فوق هضب وغيطان )
( وأدى بها الروح الأمين رسالة ** أفادت بها البشرى مدائح عنوان )
( هنالك فض ختمها أشرف الورى ** وفخر نزار من معد بن عدنان )
( محمد خير العالمين بأسرها ** وسيد أهل الأرض الإنس والجان )
( ومن بشرت بالبعث من قبل كونه ** نوامس كهان وأخبار رهبان )
( وحكمة هذا الكون لولاه ما سمت ** سماء ولا غاضت طوافح طوفان )
( ولا زخرفت من جنة الخلد أربع ** تسبح فيها أدم حور وولدان )
( ولا طلعت شمس الهدى غب دجية ** تجهم من ديجورها ليل كفران )
( ولا لحقت بالمذنبين شفاعة ** يذود بها عنهم زباني نيران )
( له معجزات أخرست كل جاحد ** وسلت على المرتاب صارم برهان )
( له انشق قرص البدر شقين وارتوى ** بماء همي من كفه كل ظمآن )
( وأنطقت الأوثان نطقا تبرأت ** إلى الله فيه من زخارف ميان )
( دعا سرحة عجما فلبت وأقبلت ** تجر ذيول الزهر ما بين أفنان )
( وضاءت قصور الشام من نوره الذي ** على كل أفق نازح القطر أوداني )
( وقد بهج الأنوار بدعوته التي ** كست أوجه الغبراء بهجة نيسان )
( وأن كتاب الله أعظم آية ** بها افتضح المرتاب وابتأس الشاني )
____________________
( وعدى على شأو البليغ بيانه ** فهيهات منه سجع قس وسحبان )
( نبي الهدى من أطلع الحق أنجما ** محا نورها أسداف إفك وبهتان )
( بعزتها ذل الأكاسرة الألى ** هم سلبوا تيجانها آل ساسان )
( وأحرز للدين الحنيفي بالظبا ** تراث الملوك الصيد من عهد يونان )
( ونقع من سمر القنا السم قيصرا ** فجرعه منه مجاجة ثعبان )
( وأضحت ربوع الكفر والشرك بلقعا ** يناغي الصدا فيهن هاتف شيطان )
( وأصبحت السمحا تروق نضارة ** ووجه الهدى بادي الصباحة للراني )
( أيا خير أهل الأرض بيتا ومحتدا ** وأكرم كل الخلق عجم وعربان )
( فمن للقوافي أن تحيط بوصفكم ** ولو سجلت سبقا مدائح حسان )
( إليك بعثناها أماني أجدبت ** لتسقى بمزن من أياديك هتان )
( أجرني إذا أبدى الحساب جرائمي ** وأنقلت الأوزار كفة ميزاني )
( فأنت الذي لولا وسائل عزه ** لما فتحت أبواب عفو وغفران )
( عليك سلام الله ما هبت الصبا ** وماست على كثبانها ملد قضبان )
( وحمل في جيب الجنوب تحية ** يفوح بمسراها شذا كل تربان )
( إلى العمرين صاحبيك كليهما ** وتلوهما في الفضل صهرك عثمان )
( وحيي عليا عرفها وأريجها ** ووالي على سبطيك أوفر رضوان )
( إليك رسول الله صممت عزمة ** إذا أزمعت فالشحط والقرب سيان )
( وخاطبت مني القلب وهو مقلب ** على جمرة الأشواق فيك فلباني )
( فيا ليت شعري هل أزم قلائصي ** إليك بدارا أو أقلقل كيراني )
( وأطوي أديم الأرض نحوك راحلا ** نواجي المهاري في صحاصح فيعان )
( يرنحها فرط الحنين إلى الحمى ** إذا غرد الحادي بهن وغناني )
( وهل تمحون عني خطايا اقترفتها ** خطى لي في تلك البقاع وأوطان )
( وماذا عسى يثني عناني وإن لي ** بآلك جاها صهوة العز أمطاني )
( إذا صد عن زوارك الباس والعنا ** فجود ابنك المنصور أحمد أغناني )
( عمادي الذي أوطا السماكين أخمصي ** وأوفى على السبع الطباق فأدناني )
( متوج أملاك الزمان وإن سطا ** أحل سيوفا في معاقد تيجاني )
____________________
( وقاري أسود الغاب بالصيد مثلها ** إذا أضرب الخطى من فوق جدران )
( هز بر إذا زرا البلاد زئيره ** تضاءل في أخياسها أسد خفان )
( وإن اطلعت غيم القتام جيوشه ** وارزم في مركومه رعد نيران )
( صببن على أرض العداة صواعقا ** أسلن عليهم بحر خسف ورجفان )
( كتائب لو يعلون رضوى لصدعت ** صفاه الجياد الجرد تعدو بعقبان )
( عديد الحصا من كل أروع معلم ** وكل كمي بالرديني طعان )
( إذا جن ليل الحرب عنهم طلى العدا ** هدتهم إلى أوداجها شهب خرصان )
( من اللاء جرعن العدا غصص الردى ** وعفرن في وجه الثرى وجه بستان )
( وفتحن أقطار البلاد فأصبحت ** تؤدي الخراج الجزل أملاك سودان )
( إمام البرايا من على نجاره ** ومن عترة سادوا الورى آل زيدان )
( دعائم إيمان وأركان سؤدد ** ذووهم قد عرست فوق كيوان )
( هم العلويون الذين وجوههم ** بدور إذا ما احلولكت شهب أزمان )
( وهم آل بيت شيد الله ملكه ** على هضبة العلياء ثابت أركان )
( وفيهم أتى الذكر الحكيم وصرحت ** بفضلهم آيات ذكر وقرآن )
( فروع ابن عم المصطفى ووصيه ** فناهيك من فخرين قربى وقربان )
( ودوحة مجد معشب الروض بالعلا ** يجاد بأمواه الرسالة ريان )
( بمجدهم الأعلى الصريح تشرفت ** معد على العرباء عاد وقحطان )
( أولئك فخري إن فخرت على الورى ** ونافس بيتي في الولا بيت سلمان )
( إذا اقتسم المداح فضل فخارهم ** فقسمي بالمنصور ظاهر رجحان )
( إمام له في جبهة الدهر ميسم ** ومن عزه في مفرق الملك تاجان )
( سما فوق هامات النجوم بهمة ** يحوم بها فوق السموات نسران )
( وأطلع في أفق المعالي خلافة ** عليها وشاح من علاه وسمطان )
( إذا ما احتبى فوق الأسرة وارتدى ** على كبرياء الملك نخوة سلطان )
( توسمت لقمان الحجا وهو ناطق ** وشاهدت كسرى العدل في صدر إيوان )
____________________
( وإن هزه حر الثناء تدفقت ** أنامله عرفا تدفق خلجان )
( أيا ناظر الإسلام شم بارق المنا ** وباكر لروض في ذرا المجد فينان )
( قضى الله في علياك أن تملك الدنا ** وتفتحها ما بين سوس وسودان )
( وإنك تطوي الأرض غير مدافع ** فمن أرض سودان إلى أرض بغدان )
( وتملأها عدلا يرف لواؤه ** على الحرمين أو على رأس غمدان )
( فكم هنأت أرض العراق بك العلا ** ووافت بك البشرى لأطراف عمان )
( فلو شارفت شرق البلاد سيوفكم ** أتاك استلابا تاج كسرى وخاقان )
( ولو نشر الأملاك دهرك أصبحت ** عيالا على علياك أبناء مروان )
( وشايعك السفاح يقتاد طائعا ** برايته السوداء أهل خرسان )
( فما المجد إلا ما رفعت سماكه ** على عمدي سمر الطوال ومران )
( وهاتيك أبكار القوافي جلوتها ** تغازلهن الحور في دار رضوان )
( أتتك أمير المؤمنين كأنها ** لطائم مسك أو خمائل بستان )
( تعاظمن حسنا أن يقال شبيهها ** فرائد در أو قلائد عقيان )
( فلا زلت للدنيا تحوط جهاتها ** وللدين تحميه بملك سليمان )
( ولا زلت بالنصر العزيز مؤزرا ** تقاد لك الأملاك في زي عبدان )
انتهت القصيدة الفريدة
قال في نفح الطيب أخبرني ناظمها أنه أ راد بقوله ونافس بيتي في الولا بيت سلمان
قبيلة سلمان التي منها لسان الدين ابن الخطيب إشارة إلى ولاء الكتابة للخلافة كما
كان لسان الدين رحمه الله وفيه مع ذلك تورية بسلمان الفارسي رضي الله عنه انتهى
وهذه القصيدة على طولها من غرر القصائد ولذا لم يذكر في المنتقى من الأمداح المنصورية
غيرها وقد أثنى عليها في نفح الطيب جدا وتتبع ما قيل في هذا الاحتفال وإقامة
المولد العديم المثال من الأمداح يفضي إلى الطول وفي هذا القدر كفاية وبالله
التوفيق
____________________
ذكر سيرة المنصور في ترتيب
جيوشه وحالات أسفاره
قال الفشتالي كانت السيرة على عهد أبي عبد الله المهدي وولده الغالب بالله وابنه
المتوكل سيرة العرب في الجيش والمأكل والملبس وغير ذلك ولما ولي المعتصم حمل الناس
على السيرة العجمية وجنح إليها في سائر شؤونه لما رأى منها في بلاد الترك حيث كان
بها فكره الناس ذلك وأنفوا منه وقوفا مع العوائد فلما جاء الله بالمنصور ألف بين
سيرتي العرب والعجم واصطفى من العجم موالي رباهم بنعمته وأشملهم درور إحسانه منهم
مصطفى باي ومعناه بلغة الترك قائد القواد ويختص به قائد الإصباحية وكان برسم حراسة
الباب العالي ومنهم الباشا محمود وهو صاحب خزائن الدار بيده مفاتيح بيوت الأموال
ومنهم القائد علوج قائد جيش العلوج والباشا جؤذر فاتح السودان وهو قائد جيش
الأندلس وكان لأهل الأندلس جيش عظيم رماة وعمار قائد جيش السوس فهؤلاء أكابر
العلوج وتليهم طائفة أخرى منها بختيار وبغا ثم إن جيش العجم من الأتراك والعلوج
قسمه إلى أقسام منها البياك وهم أهل القلانس الصفرية المذهبة ذوات الأعراف من ريش
النعام الملون يقفون سماطين أمام قبته أو فسطاطه والسلاق أهل القلانس الطويلة
البيض المرسلة على المناكب ويناط بها من أعلى الجباه جعاب صفر مذهبة ويضيفون إليها
وقت الحزام أجنحة طوالا يؤلفونها أيضا من ريش النعام الباقي على أصل خلقته
ويركزونها في الجعاب المنوطة بالقلانس من أعلى الجباه ويرسلونها إلى وراء ويقف
هؤلاء خلف البياك وبلبدروش وهم أهل اللقاقيف وهي رماح قصيرة غليظة العصى مغشاة
بالحديد ومرصعة بالمسامير البيض ركبت عليها أسنة عظام وزجاج هائلة ينبت من ريشتي
كل سنان منها أضلاع مستقيمة ويقف هؤلاء خلف السلاق والشنشرية وهم أهل الطعام وضعا
ورفعا لا غير وقائدهم بختيار من سبي وادي المخازن والقبجية وهم أهل حفظ الأبواب
وغلقها وفتحها وقائدهم مولود المشاوري وطائفة من هؤلاء تحرس ليلا
____________________
وتطوف على مسايف السور المحيط
بالدار ومن وظيفة هؤلاء خدمة الكرسي والسرير اللذين يجلس عليهما السلطان بالإيوان
وتعاهد أنماط الجلوس وكنسها والشواش وهم الذين يتولون ضبط الجيوش في المصاف في حرب
أو سلم وإنهاء الكتب والرسائل للجهات بخير أو شر
قال الفشتالي وهذا مما زادت به دولته على سائر الدول فإذا خرج في يوم عيد أو
ملاقاة أو تهنئة خرجوا متزينين وكل قائد يقف عند مبدأ انبعاث حبل جيشه تحت ألوية
محفوفا بجيش من رؤساء جنده أهل الخيل وهم الذين يدعون عندهم بالبكباشات فاصلا بذلك
بين جيشه وجيش من يردفه خلفه وهكذا يمتد إلى انبعاث الجيش من تلقاء أمير المؤمنين
وكل يعرف مركزه ورتبته لا يتعداه إلى غيره بتقدم أو تأخر ولا يجد السبيل إلى ذلك
لو أراده
قال الفشتالي والترتيب الذي جرى به العمل في عساكر النار أن يتقدم أولا جيش السوس
ثم يردفه جيش شراكة وكل منهما ينقسم حبلين ثم يردفهما العسكران العظيمان عسكر
الموالي من المعلوجي ومن انضاف إليهم وعسكرك الأندلس ومن لبس جلدتهم ودخل في
زمرتهم وهذان يسيران صفين متساويين لاستواء مرتبتهما وعند العطاء تارة يتقدم هؤلاء
وتارة هؤلاء غير أن الموالي يكونون في الميمنة لمزية الولاء وكلاهما يحظى بموالاة
ركاب السلطان ويتقدم قائدهما محمود قائد الموالى وجؤذر قائد الأندلس وترفع على رأس
كل منهما الرايات ويحفه عسكر من بكباشات ثم يتصل بهذين العسكرين الدخلة العظيمة
المؤلفة من البياك والسلاق وبلبدروش فتسير الفرق الثلاث أمام المنصور صفوفا
متساوية فأما البياك فيلون ركابه يحفون به يمينا وشمالا ويرفع بالبعض رماحه
اليزنية المنصوبة أمامه ومنهم صاحب المظل المرفوع على رأسه كالغمامة يحمله حالة
ركوبه أقربهم درجة لقائدهم أبرويز وإذا مشى المنصور إلى جامع المنصور من جهة قبور
الأشراف أو للمشتهى وهو الروض المتصل بقصر البديع على رجليه حمله أبرويز بنفسه ثم
يسير عن يمينهم وشمالهم السلاق ويسير عن
____________________
يمين هؤلاء وشمالهم بلبدروش
أهل اللقاقيف وتتكيف من الجميع صورة تزرع الرعب في القلوب وتسير الجنائب فيما بين
سماطي هذه الدخلة مجنوبة صفا صفا إلى ألوية عساكر النار ومنبعث حبالها الممدودة
يقودها صنف يدعون السراجة ركبانا وكانت جنائب الخلفاء يقودها الرجل من الوزعة وهذا
أكمل مزية وجيش الإصباحية الذي إلى نظر بيلارباي ينقسم كتيبتين عظيمتين تسير
إحداهما ذات اليمين والأخرى ذات الشمال أمام الموكب الذي يرفع اللواء العظيم
الأبيض المدعو باللواء المنصور علامة على شعار الدولة على رأس المنصور يسامته من
خلفه وهناك ألوية كثيرة ذات ألوان مختلفة وأمامه الطبل العظيم الذي يسمع دويه من
مسافة بعيدة ومن خلفه الطبول الأخر معها الغيطات واحدتها غيطة يتولى النفخ فيها
قوم من العجم أساتيذ يتعلمونها فينفخون فيها فتنبعث منها أصوات وتلاحين لا تحرك
الطباع ولا تبعثها على شيء دون الحرب فإنها تشجع الجبان وتقوي جأش الخائف حكمة
فيلسوفية وهناك مزامير أخر وجعاب طوال صفرية على مقدار النفير تسمى الطرنباط مما
أحدثه أيضا في دولته وزادت به دولته فخامة وضخامة ثم يردف هذه الألوية والآلات من
خلف أمير المؤمنين موكبه العظيم فهذا ترتيب جيش المنصور انتهى باختصار من كتاب
مناهل الصفا وليس اتخاذ المظل مما أحدثته الدولة السعدية كما زعم بعضهم بل كان ذلك
موجودا في الدول القديمة شرقا وغربا
قال اليفرني وما ذكره الإمام الفشتالي من توافر أجناد المنصور وتكاثر جيوشه هو
كذلك وقد أولعت العامة في ذلك بأخبار واهية وزعموا أن المنصور خرج مرة إلى الرميلة
بظاهر مراكش ولم تعلم أصحابه بخروجه فحين علموا بخروجه تبعوه خفافا وثقالا فأمر
بعد ما معه هنالك من الجيش فوجد ثمانين ألفا فقال يا سبحان الله قد خاطرنا بأنفسنا
حيث ركبنا في هذا العدد يستقله ولا يخفى ما في هذا الكلام من الإفراط والذي ذكره
الشيخ أبو العباس أحمد أفقاي الأندلسي في كتابه المسمى ب رحلة الشباب إلى لقاء
الأحباب ما معناه قال إن جزيرة الأندلس التي استردادها من أيدي
____________________
الكفار سهل واسترجاعها منهم
قريب لما دخلت مراكش في أيام المنصور وجدت عنده من الخيل نحوا من ستة وعشرين ألفا
فلو تحركت همته لفتحها لاستولى عليها في الحين اه بالمعنى اه كلام اليفرني
وأما بيان حالة المنصور في السفر فقد قال شارح زهرة الشماريخ إن المنصور كان قليل
الأسفار وإنما سافر إلى فاس مرتين لا غير وإنما كان متفرغا للذاته واستيفاء شهواته
مدة خلافته قال اليفرني وبه يعلم أن ما شاع على الألسنة من أنه كان يمكث بفاس ستة
أشهر وبمراكش مثلها ليس بصحيح والله أعلم
وكان المنصور إذا سافر استعد غاية الاستعداد وأحسن في التهيئة ما شاء قال صاحب
النفحة المسكية كان له قصر من عود مسمر بمسامير ومخاطيف وحلق وصفائح مفضضة على
هيئة عظيمة وقد أحدق بذلك كله سرادق كالسور من نسيج الكتان كأنه حديقة بستان
وزخرفة بنيان وفي داخل القصر المذكور القباب الملونة بيضا وسودا وحمرا وخضرا كأنها
أزاهير الرياض قد نقش ذلك أحسن النقش ومليء بأبهى الفرش وللسرادق الذي هو كالسور
أبواب كأنها أبواب القصور المشيدة يدخل منها إلى دهاليز وتعاريج ثم ينتهي منها إلى
القصر الذي فيه القباب وهذا القصر كأنه مدينة تنتقل بانتقاله وهو من الأبهات
الملوكية التي لم يوجد مثلها عند الملوك الماضين اه
ومما يتعلق به ما حكاه أبو فارس الفشتالي في المناهل قال خرج المنصور يوم الاثنين
عاشر شعبان سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة لزيارة أضرحة الصالحين بأغمات قال فتأخرت
وراءه فلحقني المولى عبد الواحد بن أحمد الشريف وأنا في أخريات الناس فأنشده
( أبا فارس بان الخليط وودعوا ** )
فقلت
( وولوا وحسن الصبر مني شيعوا ** )
فقال
( وغرد حادي البين وانشقت العصا ** وكاد فؤادي للنوى يتقطع )
____________________
فقلت
( إلى الله أشكو فرقة منهم وقد ** تجرعت من كأس النوى ما تجرعوا )
ثم زدت
( لئن شرد السلوان عني بعدهم ** ففي صحبة المنصور أنسي أجمع )
ثم قال
( تدور عليه هالة لقبابه ** ومركزها قصر الخلافة يلمع )
فقلت
( سياج به بحر الندى متموج ** ومن أفقه شمس الإمامة تطلع )
وكان المنصور خرج لزيارة أغمات في شارة حسنة فلما بلغ أغمات مكث فيه يومين وفي
الثالث نهض إلى زيارة الإمام أبي عبد الله الهزميري وعاج على ضريح الشيخ سيدي عبد
الجليل ووقف عند الجبانة الكبرى فدعا ما تيسر وفرق أمولا على ذوي الحاجات على يد
القاضي الشابطي والفقيه الأمين أبي الحسن علي بن سليمان الثاملي وكان معه الفقيه
القاضي أبو مالك عبد الواحد بن أحمد الحميدي كان قد استقدمه من فاس برسم القراءة
معه وكان الحميدي لوذعيا خفيف الروح وفي هذه السفرة صدرت منه الأبيات التي تبارى
في معارضتها شعراء الدولة وقد ذكرها في النزهة فلتنظر هنالك
ومما يتعلق بأخبار الحميدي المذكور أن المنصور سافر مرة إلى تارودانت ومعه جماعة
من الأعيان كالقاضي الحميدي وأبي العباس المنجور وغيرهما فخيم المنصور بباب
تارودانت وضرب الناس أخبيتهم فمر رجل عليه أطمار بالية وهيئة رثة ويقال إن هذا
الرجل هو أبو عثمان الهلالي الروداني فوطئ على طنب من أطناب خباء القاضي الحميدي
فصاح القاضي من هذه البقرة التي قوضت على خيمتي متهكما بالرجل فألقى إليه الرجل
قرطاسا فيه أبيات وقال البقرة من لا يجيب عن هذه ونص الأبيات
( إلى بابك العالي مسائل ترتقي ** تفطن لهن يا حميدي واصدق )
( فما الحكم في الأوزاغ هل ساغ أكلها ** وما الحكم في موتى المجانين فانطق )
____________________
( وهل جاز للمسبوق بعد تشهد ** دعاء إذا ما رام إكمال ما بقي )
( وما وزن ليس يا أديب وأصله ** وما جمع قلة لصاع فحقق )
( وما وزنه شمر ولاتن وائتنا ** بجمع سواء والمقيد أطلق )
( وبين لنا من في أعوذ بربنا ** من إبليس والتخمين في الكل فاتق )
فبدا للحميدي ما لم يكن يحتسب وتوقف عن الجواب فرفعت القضية إلى المنصور فاستغربها
وقال هذا رجل من أهل البادية فضح قاضي قضاة الحواضر وأمر المنجور فأجاب عنها يقال
بعد أربع سنين وبعد موت السائل ونص الجواب
( جوابك في الأولى إباحة أكلها ** بمذهبنا فأجزم بذاك وصدق )
( كذا ابن حبيب في الخشاش أباحه ** لمحتاجه مثل العقارب فاسبق )
( وقد قيل في الأوزاغ يحرم أكلها ** وذلك في الكافي ليوسف فاتق )
( ومستقذر يحكي المخالف منعه ** وأنكره التنبيه فافهم ودقق )
( ورجح ما يحكي المخالف بعض من ** له العزو للتحقيق لا للتشدق )
( وميت مجنون جرى خلف حكمه ** بعلم كلام لا تكن غير متق )
( وتحقيقها إن الجنون الذي طرا ** يصير كموت فصل الحق يعبق )
( فآونة بعد البلوغ طروه ** وحينا يرى قبل البلوغ فطبق )
( وآونة إثر الصلاح وقوعه ** وحينا بعصيان الكبيرة يلتقي )
( وحينا يدوم للممات وتارة ** يفيق فخذ حكم الجميع ووثق )
( ويندب للمسبوق دعوى تشهد ** وفاق إمام في المناجاة فارتق )
( وليس له فعل كقال وأصله ** بكسر لياء فاكسر العين ترتق )
( وجمعك صاعا في القليل بأصوع ** وأصؤع بهمز الواو فانهج ونمق )
( وإن شئت فاقلبه فيرجع آصعا ** لضابط تصريف فللعلم شوق )
( وصاع كعام عينه فرع ضمة ** وتحريكه فتح فزنه وحقق )
( وجمع سواء فالذي منه جامد ** يأسوية علم يقاس ففرق )
( ومشتقه وزن الخطايا قياسه ** سواسية ثقل فبالحق فانطق )
( ومقصد من في العوذ بدء لغاية ** فإبليس مبدأ العوذ عند الموفق )
____________________
انتقاض ولي العهد محمد الشيخ
المأمون على أبيه المنصور وما آل إليه أمره في ذلك
كان المأمون كما تقدم ولي عهد أبيه المنصور وكان خليفته على فاس وأعمالها سائر مدة
أبيه وكان للمنصور اعتناء تام به واهتمام بشأنه حتى قيل إن المنصور كان لا يختم
على صندوق من صناديق المال إلا قال جعل الله فتحه على يد الشيخ رجاء أن يقوم
بالأمر بعده فلم يساعد القدر وخرج الأمر كما قال القائل
( ما كل ما يتمنى المرء يدركه ** تجري الرياح بما لا تشتهي السفن )
فأساء المأمون السيرة وأضر بالرعية
قال اليفرني وكان فسيقا خبيث الطوية مولعا بالعبث بالصبيان مدمنا للخمر سفاكا
للدماء غير مكترث بأمور الدين من الصلاة وشرائطها ولما ظهر فساده وبان للناس عواره
نهاه وزير أبيه القائد أبو إسحاق إبراهيم السفياني عن سوء فعله فلم ينته واستمر
على قبح سيرته فأعاد عليه اللوم فلح في مذهبه ولما أكثر عليه من التقريع سقاه السم
فكان فيه حتف القائد المذكور ومما أنكر عليه أنه قبض على كاتب أبيه أبي عبد الله
محمد بن أحمد بن عيسى وهو مؤلف كتاب الممدود والمقصود من سناء السلطان المنصور
ووظف عليه أموالا وابتزه ذخائره حتى كان مما أخذ منه ثمانون حسكة مذهبة ومائة تخت
من الملف المختلف الألوان فلما كثرت قبائحه وترددت الشكايات لأبيه كتب إليه لينكف
عن غيه وينزجر عن خبثه فما زاده التحذير إلا إغراء فلما رأى المنصور أنه لم يكترث
بأمره ولم ينزجر عن قبائحه عزم على التوجه إلى فاس بقصد أن يمكر به ويؤدبه بما
يكون رادعا له فسمع الشيخ بذلك فجمع عساكره وهيأ جنده ودفع المرتب لأصحابه وكان
عدد جيشه فيما قيل اثنين وعشرين ألفا كلهم بكساوى الملف والحرير
____________________
على أحسن شارة وأكمل زي وعزم
أنه إن بلغه خروج أبيه من مراكش أن يتوجه في أصحابه إلى تلمسان ويستجير بالترك
فلما بلغ المنصور ما عزم عليه الشيخ من الذهاب إلى تلمسان تخلف عن الخروج من مراكش
وكتب إلى الشيخ يلاطفه ويأمره أن لا يفعل وولاه سجلماسة ودرعة وتخلى له عن خراجهما
وقال له قد سوغتكه ولا أطالبك فيه ومراده بذلك أن تسكن نفرته ويرجع إليه عقله
فأظهر الشيخ امتثال الأمر وخرج يؤم سجلماسة فما انفصل عن فاس بشيء يسير حتى ندم
ورجع إليها وعاد لما كان عاكفا عليه فبعث إليه المنصور أعيان مراكش وعلمائها
فنصحوه ووعظوه وخوفوه سخط والده وحذروه عاقبة العقوق ولم يألوا جهدا في نصحه
فوجوده مشغول القلب عن نصيحتهم مغمور الذهن بخلاف قولهم إلا أنه أظهر الرجوع عما
كان عازما عليه من الفرار عن أبيه وأقصر في الظاهر عن بعض تلك المساوي فرجع الوفد
إلى المنصور وقالوا له إنه قد تاب وحسنت حاله واطمأنت نفسه وأنه واقف عند الأمر
والنهي فلم يطمئن المنصور لقولهم وقال لهم لعل هذا إطفاء لنار الشحناء وكذب لإصلاح
الباطن وصممم على المكر بالشيخ فكتب إليه كتابا طويلا يلومه فيه على بعض الأشياء
وفي ضمن ذلك تسكين خاطره حتى يبغته على حين غفلة ونص الكتاب
من عبد الله تعالى المجاهد في سبيله الإمام المنصور بالله أمير المؤمنين ابن أمير
المؤمنين أبي عبد الله محمد الشيخ الشريف الحسني أيد الله أوامره وظفر عساكره إلى
ولدنا وولي عهدنا الأمير الأجل الأفضل الأكمل الأعز بابا الشيخ وصل الله كمالكم
وسنى من خير الدارين آمالكم وسلام عليكم ورحمه الله أما بعد فكتابنا هذا إليكم من
حضرة مراكش حاطها الله ولا جديد إلا ما عوده مولانا من الخير لله الحمد وله المنة
هذا والذي أوجبه أسعدكم الله وكلاكم أنه بلغنا أنكم قد استخدمتم هناكم جماعة من
أولاد طلحة كأولاد أخي علي بن محمد وأخي علي بن ملوك وغير هؤلاء وأنك قد فرضت لهم
في أعطياتهم نحو خمسة آلاف وإلى هذا أي مصلحة ظهرت لك في استخدام هؤلاء القوم حتى
تتحمل كلفة فرض هذه الفروض بل ما
____________________
في ذلك إلا الفساد البين لأن
هذا الذي تعرضتم له لا يفي به المغرب ولا يقوم معه بكم شيء ومسألة هؤلاء أولاد
طلحة إن كنت رأيت استخدامنا وأردت تقليدنا في ذلك واقتفاء سيرتنا فيه فاعلم أن
بيننا وبينكم في هذه المسألة فرقا من وجوه منها إن مراكش ليست كفاس وإن خدمتهم هنا
لبعدهم عن بلادهم ليست كخدمتهم هناك وأيضا هؤلاء الناس أنا أعرفهم وكنت في بلادهم
وهذه الخدمة كانوا قد طلبوها مني وأنا هناك فوعدتهم إذ لا يمكنني وأنا ببلادهم إلا
مساعفتهم فلما جاؤوا اليوم وطالبونا بالوعد لم يمكن إلا الوفاء لهم به فعليه شرطنا
عليهم مراكش وسكناها وعلى هذا الشرط استخدمناهم ومع هذه الوجوه كلها والاعتبارات
فقد ندمت والله على استخدامهم غاية الندامة وكنت في ذلك على خطأ إذا كان الأولى إن
كنا حاسناهم وتركناهم في الخدمة وأما أنت ففي مندوحة عن هذا كله لأنه لا وعد لك
سابق حتى يلزمك الوفاء به ويمكنك أن تحيلهم على إذننا ومشورتنا فنكفهم عنك بالشرط
الذي شرطنا عليهم من الخدمة هنا بمراكش وسكناها وعلى هذا الشرط استخدمنا منهم من
استخدمنا وإلى هذا فالذي نؤكد به عليك أن تنقصهم من الخدمة ولا تستخدم منهم حتى
فارسا واحدا أصلا من الذين ذكرنا لك ومن غيرهم من كافة أولاد طلحة وأمرناك أن
تتنصل لهم فينا وتقول لهم إن السلطان منعني من استخدامكم هنا وتقرأ عليهم كتابنا
الواصل إليكم صحبة هذا لتتفادى منهم ولكن الجفاء مع هذا كله لا تظهره بل تحسن
اللقاء بهم وتواليهم بإظهار البشر والقبول وباب الطمع تسده دونهم
والذي شق علينا أعظم من هذا كله واستنكرناه ولم نجد صبرا عليه هو ما وجدناهم قد
اطلعوا عليه أعني أولاد طلحة علي بن محمد وغيره من أحوالكم وأخباركم وألفيناهم قد
توصلوا من ذلك إلى ما لم يتوصل إليه أحد من كبار خدامكم أهل بلادنا وخواص أهل
بساطنا لأن أهل بلادنا أحباء ما لهم بحث إلا في مصالح أنفسهم هؤلاء إنما ينتقدون
ويبحثون عن الغرة وعورات المملكة فإذا بكم تتخذونهم بطانة وأصدقاء وتطالعونهم
بأحوالكم
____________________
وأموركم مع أن القوم لا زالوا
ببلاد العدو وبين أظهرهم وما يطلعون عليه تحتاج تقطع وتجزم بأن الترك قد اطلعوا
عليه حتى كأنهم شاهدوه ووقفوا بأنفسهم عليه وأيضا لو كانوا أصدقاء ولا يريدون بنا
إلا خيرا فالقوم عرب لا يتحفظون على ما يطلعون عليه ولا يفهمون ما يحسن إخفاؤه ولا
إبداؤه ولا يتمالكون قولا ولا نطقا وبالجملة فقد أحرقتنا هذه المسألة وتفطرت لها
أكبادنا وصارت قلوبنا منها مطعونة وما عندكم علم بأن الناس كانوا يتحفظون في أقل
الأمور أن يطلع عليها الأجانب وإن كانوا أحب من كل محب وأقرب من كل قريب وهل ما
عندكم علم بأنا أخانا بابا منصور كان عرض له غرض ضعيف جدا أراد أن يطلبه من أخينا
بابا عبد الله وحضر في المجلس منصور بن المزوار فلم يرد بابا منصور لفطنته أن يذكر
ذلك حتى يشاور من بإزائه لئلا يكون عيب في ذكر ذلك بمحضره فعليه شاور القائد دحو
بن فرج كان بإزائه فقال له هذا رجل براني فلا تطلب شيئا قدامه على أن منصور بن
المزوار هذا كان مع أسلافنا من أقرب ما إليهم من خواص الخدام أهل بساطنا محبة
وقربا لأنه أسلف معهم خدمة عظيمة فقد كان عدوا للترك وبينه وبينهم أرواح وحضر مع
أخينا باب حمو الحران جميع ما كان في تلك البلاد أيام استيلائه على المغرب الأوسط
ثم مع بابا عبد القادر كذلك وشرب معهم الحلوة والمرة ولما جاء من تلمسان جاء
بأولاده منها راحلا كما جاء منها بابا عبد الله بأولاده وكما جاء معهم خدامنا أهل
تلك البلاد وما زال على الخدمة والوفاء حتى حصلت له يد عظيمة مع أسلافنا وناهيك
بمن بلغ إلى أن قلدوه حاضرة تازا ثم بلاد الفحص التي لا تعطى كلتاهما إلا لأقرب
الخدام الموثوق بمحبتهم وخدمتهم وقربهم ومع بلوغه إلى هذا المبلغ كله محبة وصداقة
وهجرة وانقطاعا حتى انه في دخول صالح رئيس مدينة فاس رحل بأولاده مع السلطان إلى
هنا كما فعل أهل هذه البلاد وحين دخلنا نحن من جهة الشرق لفاس رحلوا أيضا مع صاحب
الجبل إلى مراكش ولا يعدوا أنفسهم من هذا الجانب أبدا في الحديث القديم ثم إن
الناس استبعدوا أن يطلبوا أقل المسائل بمحضره وقالوا إنه
____________________
براني فضلا عن هؤلاء الذين ما
زالوا إلى اليوم في بلاد العدو يباكرونه ويراوحونه فإذا بكم تنزلون معهم إلى أن
تطالعوهم على أموركم ويتوصلوا إلى المعرفة بأحوالكم فما تمالكنا لهذه المسألة ولا
وجدنا عليها صبرا ومن جملة الأمور التي غاظتنا وقلنا كيف يتوصل الرجل البراني إلى
أمثال هذه الأمور أن علي بن محمد كان يتكلم يوما معنا وأخذ يثني عليكم في نجدتكم
وصبركم عند الشدة وسخائكم عند الحاجة ثم قال إلا أن الخيل ليست عنده لا في الحركة
الأولى ولا في الثانية لأن القبائل أهل الخيل امتنعوا من الحركة معه وهي التي
غاظتني وقلت كيف يتوصل الرجل البراني إلى أمثال هذه الأمور حتى أننا ما وجدنا إلا
الرد عليه وعكس ما عرفنا أنهم اعتقدوه وقلنا اللهم نسبة التقصير إليكم ولا
اعتقادهم خلو البلاد من الخيل لأننا فهمنا منهم ذلك ولهذا أجبته وقلت له إن ولدنا
لم يعطهم شيئا وأعطى من لا يستحق من ضعفاء القواد المعروفين بأكل المال وعدم
المخزنية ولو أعطى تلك القبائل لحشرها عليه لأن أولاد مطاع عندهم من الخيل نحو
الثلاثة آلاف وعند أولاد أبي عزيز نحو ألف ونصف وعند الغربية وعند أولاد عمران
وعند عبدة وعند الشياظمة وعند أولاد أبي رأس وعند أحمر وعند المنابهة أهل سايس
وعند المنابهة أصحاب عمر بن محمد عبو وجعلت أعدد له قبائل السوس وقبائل مراكش
وأحصي له خيلهم بما بهته وقلت له لو أنصفهم لحرك منهم معه ستة عشر ألفا أو أكثر ويكون
قد ملأ بهم تلك البلاد وسال عليها من سيل العرم لا في الحركة لأولى ولا في الثانية
ولو وجه إليهم المحركين والرماة لأتوه أيضا بلا خلاص وإلى هذا نوصيكم على المحافظة
من أولئك الناس ومن رفع الحجاب لهم عن أموركم والاطلاع على أحوالكم وعدم الغفلة عن
أمثال هذا واعلم أن من جملة ما بلغنا أيضا أن الخلط رجعوا كلهم رماة على يد مصطفى
باشا مع حديث عهدهم بالفساد والخلاف وكنا انتشبنا معهم بالعودات فإذا بهم اليوم
بالمدافع وعدة النار وهل هذا يجوز عليكم حتى تسمحوا فيه مع أن هذه المسائل ليست
بغائبة عنكم سمعتموها بالسماع فقط ولا طويلة عهد حتى
____________________
تنساها بالأمس شاهدت وباشرت
ورأيت فما الذي أنساك فعلهم وما زال جرحهم الآن لم يبرأ لأن خروج القائد مؤمن
الخارج الآن ما كان إلا إليهم والآن نؤكد عليك أن تنقصهم من الخدمة ولا تسمع
لمصطفى في هذه المسألة وقد سمعنا أيضا أن قواد الفساد الذين عندكم من أولاد حسين
قد صارت جملتهم من باب الخميس إلى دار الدبيبغ وكأنكم نسيتم أيضا ما عمل أولاد
حسين بالأمس دون بعد من النهب وأضرموا من الفساد في البلاد حتى ينزلوا تلك المنازل
وإلى هذا فساعة وصله إليكم تقبض على قواد الفساد هؤلاء خصوصا أحمد بن عبد الحق من
أولاد يحيى بن غانم الذي كان أبوه حاجبا عند المريني فهو أصل الفساد ثم لا تترك
لقبائلهم جناحا واحدا وزد للقائد مؤمن بن ملوك ألف رام ليستوفي لكم الغرض في هؤلاء
وأمثالهم من كل ما تأمره به لأن بقاء الرماة هنالك ما فيه إلا الاشتغال بالفساد في
المدينة فتحتاج أن تتولاهم بالقتل كل يوم باطلا فكان خروجهم إذ ذاك دفعا لمضرتهم
وجلبا للمصالح بهم وحتى الكاتب اللائق بأمثالكم ورسائلكم لم يكن عندكم لأن كتبكم
تأتي بخط سالم وهو غير عارف بالإنشاء وتارة بخط الكريني وهو جاهل مع أنك لما كنت
خليفتنا وولي عهدنا كنت بصدد أن يكتب لك كل أحد لا صاحب الجزائر ولا صاحب تونس
وحتى صاحب الترك وصاحب النصارى وكل من يكتب لنا من ملوك الأرض بصدد أن يكتب لك
فتحتاج حينئذ إلى من يحسن الجواب عنك لكل من يكتب إليك ويكون أيضا ممن يوثق به في
المحافظة على أسراركم وإلى هذا فلا بد من تعيين قائد المحلة وحاجب وكاتب سرك وصاحب
مشورك وصاحب المظالم كما هنا هو عندنا السيد علي بن سليمان واعلم أن مما تحتاج أن
ننبهك عليه مسألة القواد الذين يريدون أن يحملوك أثقال أولادهم مثل ما فعلت في
أولاد القائد بركة وإخوتهم الذين استخدمتهم وجعلت لهم خمسمائة أوقية فنؤكد عليك أن
لا تستخدم منهم أحدا فما أعطيناه سلا إلا ليرفع فيها أولاده وإخوته وكذلك
____________________
الحكم في أمثاله ممن أعطيناه
عملا وقلدناه قيادة ومن جملة من نحذرك من استخدامهم في الرماية أهل الجبال من أهل
الصحفة والدينار فلا تستخدموا منهم أحدا وإلا فاعلموا أنكم ما أردتم حينئذ أن
يغرموا لكم ولا يعطوكم شيئا وإن أردتم الخدمة فهاهم أهل هذه البلاد مثل أهل السوس
وأهل درعة وأهل مراكش فكل ما تستخدمون من هؤلاء فلا عليكم وإذا لم يكن من هؤلاء
وكان ولابد من غيرهم فمن أهل فاس سكان الحاضرة وأما من عداهم فلا على أن الرماة
أهل السوس ها هي عندنا كثيرة فكل ما تريد منهم عرفنا نبعثهم إليك ونضيفهم إلى
خدمتك ونؤكد عليك أن تكتب بجواب هذه الأمور كلها فصلا فصلا مع المملوك الحامل لهذا
الكتاب إن شاء الله ولابد ولابد وهذا موجبه إليكم والله يحرس بمنه علاكم والسلام
وفي مهل جمادى الأولى من عام أحد عشر وألف اه
ثم لم يلبث المنصور أن بعث إلى ولده زيدان وكان خليفته على تادلا يأمره أن يرسل
مائة من الفرسان على طريق تاقبلات وكل من وجوده قاصدا للغرب من ناحية مراكش يردونه
وأرسل مولاه مسعود الدوري على طريق سلا يفعل مثل ذلك وخرج المنصور من مراكش في
اثني عشر ألفا أوائل جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وألف وجد السير فلم يمض إلا أيام
قلائل حتى نزل بالدوح موضع قريب من فاس والشيخ في جميع ذلك لا شعور له بخروج أبيه
ولا بما هو عليه فبعث يوما عيونه يرصدون له من قدم من مراكش ويكشفون عن الخبر فما
راعهم إلا الأباطح تسيل بأعناق الجياد وأفواه الشعاب تقذف بالجيوش من بطون الأودية
والوهاد لأنهم كانوا قد عميت عليهم الأنباء بقطع المنصور للسابلة فرجعوا إلى الشيخ
مسرعين والرعب يفت في أعضادهم ويطفئ جذوة عزائمهم فقصوا عليه ما دهمهم وأخبروه بما
رأوا فعلم أنه محاط به فلم يمكنه إلا الفرار فركب من حينه وفر إلى زاوية الشيخ
الصالح أبي الشتاء من بلاد فشتالة قرب نهر ورغة وكان الشيخ أبو الشتاء قد توفي قبل
ذلك سنة سبع وتسعين وتسعمائة كما في
____________________
المرآة فنزل بالزاوية ومعه
بطانته وأصحاب دخلته من الأحداث وقرناء السوء فبلغ خبره المنصور فبعث إليه الباشا
جؤذرا مع القائد منصور النبيلي وحلف لهما بأغلظ الأيمان إن لم يأتياه به ليمكرن
بهما ويجعلهما عبرة فذهبا إليه فامتنع من الدخول في يدهما وانعزل في أصحابه حتى
ناوشوه القتال وتراموا بالنبال ثم قبضوا عليه وأتوا به إلى المنصور في خبر طويل
فأمر به إلى مكناسة فسجن بها
ودخل المنصور دار الملك من حضرة فاس الجديد وشكر الله على ما أولاه من الظفر
والنصر من غير إراقة دم وتصدق في ذلك بأموال عظيمة وكتب بذلك إلى ولده أبي فارس
خليفته على مراكش يعلمه بما كيف الله له من الظفر والنصر ونص الكتاب
إلى ولدنا الأجل الأرضى الأكمل الأسعد الأصعد الأمجد الأسمى الأسنى بابا أبي فارس
وصل الله كمالكم وسنى بمنه آمالكم وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فكتابنا
هذا إليكم أسعدكم الله من محلتنا السعيدة بالمستقى ولا شيء إلا ما جرت به الأقدار
وحكم به الفاعل المختار وما جاء به من عجائب الدهر الليل والنهار وهي قضية أخيكم
التي ثارت إلي بها صروف الدهر من مكمني وطلعت علي من مأمني إلا أن الله تعالى
بصنعه الجميل كفانا أولا ثم شفانا آخرا لله الحمد دائما والشكر واظبا وشرح ذلك
أسعدكم الله ووقاكم السوء إن الحال كان انتهى في معالجة أمره الذي تجاوزنا في وجوه
الخير إليه حد الاستقصا وأتينا في محاولة استصلاحه من أحوال السياسة المرجوة النجح
بما لا يحصى إلى ما كنا سوغناه من ولاية سجلماسة بخراجها وخراج درعة وأبحنا له
التوجه إليها بجملته وجمعه رجاء أن تسكن بالانتباذ إليهما نفرته وتطمئن نفسه ويثوب
إليه قلبه الطائر ويراجعه أنسه الحائر فأظهر أولا التوجه إليهما ونهض مرتحلا عن
فاس موريا بالقدوم عليهما ثم بدا له على الحين فكر راجعا إلى فاس ورجونا أن يكون
قد ذهب عنه النفار والشماس وثاب لنفسه السكون والاستئناس فإذا به قد انطوى برجوعه
على خلاف ما أظهر فأبدى ما أضمر فما كان إلا أن
____________________
طرأ عليه خبر نزولنا بالدوح
فلم يتمالك أن أقلع ليلة الخميس خامس عشر شهر تاريخه إقلاعا أزعجه من الدار فريدا
وطارت به النفرة إلى أن حل بزاوية الشيخ أبي الشتاء وحيدا فتلاحق به من جيش رماته
اليكشارية ومتفرقة سماسرة الفتن وطلائع الشؤم والمحن جمع عظيم وعدد من كثرته لا
يريم فبادرت حينئذ بتجهيز جؤذر باشا من غير إغفال في خمسمائة صبائحية ومعه القائد
مؤمن بن ملوك في خمسمائة فارس ثم أردفناه ببعوث أخر تألبت إليه وتناثلت عليه تناهز
الألفين ورماة بابا زيدان حفظه الله فأحدقت به من كل الجهات وملكوا عليه الفجاج
والثنيات ونحن مع ذلك خلال هذه الأحوال لم نهمل مقابلة نفرته بالتسكين وما يخشن من
أحواله بالتليين بإرسال المرابطين تجاهه بمواثيق تهنيه وعهود تؤنسه وتقرب أمانيه
رجاء أن يثوب إليه ثائب استبصار أو يخطر له خاطر إقلاع عما هو عليه وإقصار وقرناء
السوء المتلاحقون به من جيشه يقدحون للشر نارا ويزينون له عقوقا ونفارا فدهمتهم
حينئذ عساكرنا المظفرة بالله في مصافهم دونه ودارت بين الفريقين حرب عظيمة فخمدت
النار من وقت الظهر إلى العصر فأظهر الله تعالى فئة الحق على فئة الباطل وقضى بما
جرى به القضاء المحتوم الحكم العادل وكتبناه إليكم وقد حصل في القبضة كما سبق به
القضاء والقدر وجعل بمكان الاحتياط عليه من مكناسة فكانت مشيئة الله في ذلك من
إحدى العجائب العبر وعرفناكم أسعدكم الله لتستشعروا صنع الله في هذه الداهية التي
فجئت بها الأيام ودهمت والغاشية التي اعتكرت وادلهمت وتقدروا ما صنع الله في ذلك
من حسن العاقبة حق قدره وتشكروه فهو الجدير بجميل حمد كل لسان وشكره ونسأله تعالى
أن يجعلكم في حيز الكفاية وجانب الوقاية حتى لا تساؤوا بقريب مأمون ولا ببعيد
مظنون وفي ليلة الثلاثاء الموفي عشرين من جمادى الأولى عام أحد عشر وألف اه
ثم إن أم الشيخ واسمها الخيزران بعثت إلى أعيان مراكش الذين قدموا مع المنصور ترغب
إليهم في أن يشفعوا لولدها عند أبيه ويعتذروا عنه بما يزيل ما في باطنه عليه
فتقدموا إلى المنصور وقالوا له إن الشيخ قد
____________________
صلحت حالته وتاب مما كان عازما
عليه وأنه ندم على ما فرط منه فقال لهم اذهبوا إلى مكناسة واختبروا أمره كافيا
وانظروا هل رجع عن أباطيله وتنصل من أضاليله فلما أتوه وجدوه أخبث مما تركوه
وعاينوا منه من القبائح ما يقصر عن وصفه اللسان فلما جلسوا إليه في محبسه لم
يسألهم إلا عن أصحاب بطانته وقرناء السوء من أهل غيه ولم يظهر الأسف إلا على تلك
العصابة ورآهم أهل الإصابة
وكان من الأعيان الذين وجههم المنصور أولا وآخرا أولاد الشيخ أبي عمرو القسطلي
وأولاد الشيخ أبي محمد عبد الله بن ساسي وأولاد الشيخ أبي زكرياء يحيى بن بكار
وغيرهم فلما رجعوا إلى المنصور من مكناسة سألهم عن الخبر فنافق بعضهم وقال وجدناه
تائبا نادما على ما صدر منه وتكلم بعض أولا د الشيخ ابن ساسي فقال لا والله لا
داهنت في حق الله ولا واجهت الأمير بالخديعة إن ولدك لا نأذن لك أن تؤمره على
اثنين ولا تحكمه على عيال الله فإنا وجدناه خبيث الطوية قبيح السريرة لم يندم على
ما فرط منه فسكت الحاضرون ولم يتكلم أحد فقال لهم المنصور افتوني في أمر هذا الولد
فلم يجبه أحد إلا باشاه عبد العزيز بن سعيد الوزكيتي فإنه قال له الرأي أن تقتله
فإنه لا ينجبر أمره ولا يرجى صلاحه وقد رأيت ما صنع فلم يعجب المنصور ذلك وقال كيف
أقتل ولدي ثم بعث إلى مكناسة يأمر بالتضييق على الشيخ والزيادة عليه في ذلك ثم خرج
المنصور فنزل بمحلته في ظهر الزاوية قاصدا مراكش بعد أن استخلف ابنه زيدان على فاس
وأعمالها وقد كان كتب إلى ولده أبي فارس خليفته على مراكش برسالة أجابه فيها عما كتب
به إليه في شأن الوباء الذي ظهر بالسوس ومراكش هل يفر منه أم لا ونصها
من عبد الله تعالى المجاهد في سبيله الإمام الخليفة المنصور بالله أمير المؤمنين
ابن أمير المؤمنين الشريف الحسني أيد الله بعزيز نصره أوامره وظفر عساكره وأسعد
بمنه موارده ومصادره إلى ولدنا الأجل الأفضل الأكمل الأعز الأبر الأسعد الأمجد
الأرضى بابا أبي فارس وصل الله تعالى عنايتكم
____________________
ووالى بمنه رعايتكم وسلام
عليكم ورحمه الله أما بعد فكتابنا هذا إليكم من حضرتنا العالية بالله المدينة
البيضاء حاطها الله عن الخير والعافية ونعم الله المتوافية لله الحمد وله المنة
وأنه اتصل بعلي مقامنا كتابكم الأعز عشية يوم الثلاثاء فكتبنا إليكم صبيحة يوم
الأربعاء ولولا أنه وصل يوم الديوان ما كنا نؤخر كتب الجواب لكم عن ساعة وصوله في
اليوم بنفسه حرصا منا بذلك على المبادرة بوصوله إليكم في الحين وإلى هذا أسعدكم
الله أن أول ما تبادرون به قبل كل شيء هو خروجكم إذا لاح لكم شيء من علامات الوباء
ولو أقل القليل حتى بشخص واحد ويبقى في القصبة وصيفنا مسعود مع القائد محمد بن
موسى بن أبي بكر وتتركوا مائة رام تثقون بها من رماتكم مع أصحاب السقيف وتتكلون
على الله وتخرجون بالسلامة ثم لا تعملوا كعملنا في الاقتصار على الرميلة والتقلب
بها بل لا تزيدوا إذا خرجتم على المقام أكثر من يومين ثم اطووا المراحل إلى أن
تنزلوا بسلا وتدخلوها دخول هناء وعافية إن شاء الله وهناك يكون لقاؤنا بكم لقاء
يمن وسعادة إن شاء الله ثم لا تغفلوا عن استعمال الترياق أسعدكم الله فلازموه وإذا
استشعرتم منه حرارة وتخوفتموها فاستعملوا من الوزن الوصف المعروف منه ولا تهملوه
وأما ولدك حفظه الله فلما كان من سن الشبيبة بحيث منعه الحال من المداومة على
الترياق فها هي الشربة المعروفة النافعة لذلك قد تركناها كثيرة هناكم عند التونسي
فيكون يستعملها هو والأبناء الصغار المحفوظون بالله حتى إذا أحس ببرد المعدة من
أجلها تعطوه الترياق المرة والمرتين على قدر الحاجة فيعود إليها والله تعالى بمنه
وبحرمة صفوة خلقه خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم يتولى حمايتكم جميعا ويحلكم
من جميل كلاءته ورعايته حصنا منيعا وأن يعافي البلاد والعباد بمنه وفضله والسلعة
أسعدكم الله تبادرون بإرسالها إلينا وكذلك القائد مسعود النبيلي تعزمون بإرساله
إلى حيث أمرناه بالمقام من خنق الوادي بالسوس وطريق تاحظيشت واعلم أسعدكم الله ما
قط أرضانا أن أمرها يتم وقبل عقلنا الكريم إن أهل درن يتجرون بسببها ولكن هذا سبب
يكون حجة عليهم إن شاء الله وأنتم
____________________
تحاولون أسعدكم الله سلوك
الناس على بويباون على العادة وتجهدوا في أن تكون إن شاء الله سابلة وأولائكم أعني
أهل طريق تاحظيشت يسكت عنهم حتى نصل بخير وعافية لتلكم البلاد إن شاء الله ومسألة
أيسي التي كتبت لكم من خنق الوادي على الزرع وأنه ما عندهم ما يكفيهم منه سوى شهر
فلقد كنا كتبنا لكم أسعدكم الله على حمل الزرع إليهم على البحر فإن كان قد تيسر
ذلك فيكون قد بلغ إليهم وإن لم يكن ذلك قد تيسر فلتأمر أيسي هذا بالتدبير على
الزرع ولو بالشراء وألزموه عهدته وشددوا عليه في أمره وخالنا القائد حمو بن محمد
الذي استأذنكم في الخروج عن ذلكم المرض من المحمدية فإذا تفاحش فلا عليه في الخروج
ويلتحق بأهل تلك المحلة بخنق الوادي ويترك في القصبة أهل الأندلس مع قائدهم ومسألة
مؤمن بن منصور مع هكسيمة التي ذكرتم أسعدكم الله إن مؤمنا قد تثاقل بدمنات بسبب
مرض ألم به حتى جاء به شاوش وإن أخاه ذلكم المفسود بعث إليه يلتقي معه بتامصلوحت
فعلى بركة الله والحاضر بصيرة وهذا موجبه إليكم والله يصل بمنه رعايتكم والسلام
وفي يوم الأربعاء رابع عشر رمضان المعظم عام أحد عشر وألف عرفنا الله خيره وبركته
وبعد أن كتبنا لكم هذا بلغنا كتابكم ونحن نجيبكم عما تحتاجون إلى الجواب عنه
والبطاقة التي ترد عليكم من السوس من عند الحاكم أو ولد خالكم أو غيرهما لا تقرأ
ولا تدخل دارا بل تعطى لكاتبكم هو يتولى قراءتها ويعرفكم مضمنها ولأجل إن كاتبكم
يدخل مجلسكم ويلابس مقامكم حتى هو لا يفتحها إلا بعد أن تغمس في خل ثقيف وتنشر حتى
تيبس وحينئذ يقرؤها ويعرفكم بمضمنها إذ ليس يأتيكم من السوس والله سبحانه أعلم ما
يوجب الكتمان عن مثل كتابكم وقد طالعنا كتاب ولد خالكم أحمد بن محمد بن الصغير وصح
عندنا من فحوى كلامه ما ذكرتم عنه من أنه أكثر من خبر الوباء ليجده ذريعة للخروج
من السوس
____________________
والذي تأمرونه به أنكم تحذرونه
من القدوم عليكم بمراكش وإن ذلك لا يرضينا منه وكيف يروم الخروج من موضع عيناه له
من غير أمرنا لا سيما مع غيبتنا عن البلاد وأنه إن فعل ذلك لا محالة تسقط منزلته
عندنا ثم لا يعود أبدا إليها إلا أن تفاحش المرض بتلكم الناحية فلا عليه في الخروج
والتنقل قرب البلاد أو يلتحق بمحلة أصحابه الذين بخنق الوادي وأما ما ذكرتم عن
محمد بن عبد الرحمن الوردي فقد طالعنا الجريدة التي جرد لكم وتصفحناها ورأينا أن
جل ما يطلبه بها لا يمكن مع غيبتنا والذي نأمركم به في مسألته أنكم تحاولون في رده
لموضعه فإنه بذلك الموضع أليق من أخيه بكثير وكل ما يمكنكم من أغراضه المسطرة
فاقضوه له وما لا يمكن عدوه به عند قدومنا إن شاء الله وأما أمر أخي أحمد بن الحسن
الذي عيناه لجباية درعة وذكرتم أنه غير لائق بها وأنكم استصغرتموه عن تلك العمالة
فلا شك أنه كما ذكرتم ولكن إنما وقع الاختيار عليه لأمرين الأول الذمة لأنه بماله
ولا نخشى إن شاء الله على مالنا الثاني إن خراج درعة سهل معلوم ولعله يكره هذه
الولاية ويحب الجلوس بداره ويغري من يتكلم فيه عندكم فإن كان من ذكره لكم مثل
مسعود أوتاودي فاتهمه وقد طالعنا في جريدتكم أنكم وجهتم مع زرع المعاصر مائة رام
وهذا الذي ذكرتم ما نعلم أنا كتبنا لكم عليه قط وإنما كتبنا لكم على الزرع تحملونه
في البحر برسم المحلة التي هناكم بخنق الوادي فإن كان هو هذا فنحن أردناه للمحلة
وإن كان غيره فعرفنا بقضيته فإن زرع المعاصر إنما يلزم اليهود والنصارى المكثرين
للمعاصر وفيها أيضا ما أخبركم به أحمد بن محمد بن موسى بخبر ما سقط من القنطرة
وإنكم عنفتموه على عدم المبادرة وقد أشكل علينا الأمر لأنكم لم تعرفوا مقامنا
بالساقط هل هو من القديم أو من هذا الإصلاح الذي أمرنا به فعرفنا لنكون على بصيرة
من ذلك وفيها أيضا مسألة أولاد طلحة فدبروا عليهم إما من عند أيسي أو غيره حتى لا
يرجعون إلينا شاكين وولد إبراهيم بن الحداد إلى الآن لم يصل وزمام الأسرى وصل وأما
الدراقة التي ذكرتم فها السلتة المعدة لها عند صاحب بيت ثيابنا فوجه ليوسف العبد
حتى تكلمه
____________________
ومره يخرجها من عنده وركبها في
موضعها ولا تركب التي عندكم بل تمسكونها لأنفسكم واعلم أني تركت عند أولئك
المعلمين أعني معلمي بركاضو سلاتي برسم ابنتنا العزيزة طاهرة صانها الله وكلاها
وحيث يفرغون من الدراقة اجمعهم عليها كي نجد ذلك طالعا إن شاء الله فإنا قد أمرنا
بنسج درارق تلكم السلاتي هذا والمراد أن تجد السلاتي قد فرغ منها إن شاء الله وقصر
الخيل مع الحمام حرض المعلمين على المبادرة باشتغالهما بهما وحاول أن تسقفوا ذلك البلاط
الذي يوالي سور القصبة من قصر الخيل والقبة التي فيه لنجده كاملا إن شاء الله عند
قدومنا عليكم وحتى سواري الرخام ركبوها في تلك الجهة إذا سقفتم ولا تزالوا تعرفونا
بما تزايد من الأشغال في الموضعين المذكورين وأوصيكم أعزكم الله أن تتفقدوا فرسنا
الأحمر الصغير ولا تتركوهم يعطونه القصيل لئلا يكثر لحمه ويزداد ألمه بل انظر له
من يركبه كل يوم بل لا تنزع السرج بالكلية عن ظهره بياض النهار كله أو أعطوه لصاحب
المسرة يركبه في ذهابه وإيابه لداره والمسرة وأوصوه أن لا يركبه غيره ولا ينزل عن
ظهره النهار كله وأوصيكم أيضا إذا ظهر المرض بتلكم الناحية وخرجتم خروج يمن وسلامة
بحول الله وقوته أن لا تتركوا وراءكم بنت عمكم والدة ولدنا العزيز بابا عبد الملك
حفظه الله وامر يوسف العبد أن يخرج لكم من عند صاحب بيت الثياب القدر المحتاج إليه
من الترياق الجديد الذي كان بقبة المشور ويدخل على أيديكم لدارنا واستدعوا أم
المال قهرمانة الدار وأعطها إياه برسم أهل دارنا وأمرها أن تعطيهم إياه في كل رابع
من اليوم الذي يأكلونه فيه وهي أيضا تأكل منه والعبد يوسف أيضا يأكل منه وحتى صاحب
السقيف أعطوه منه أعني مسعود بن مبارك والله سبحانه يرعاكم ويتولى حفظكم أنتم
وأولادكم وقد استودعناكم الله الذي لا تضيع لديه الودائع وأنتم في أمان الله وحفظه
والله سبحانه خليفتي عليكم أنتم في يمين الرحمن وكلتا يديه يمين والسلام الأتم
____________________
عائد عليكم ورحمة الله تعالى
وبركاته ونسلم على ولدنا الأعز الأرضى بابا عبد الملك وعلى ابنتنا الرضية سيدة
الملك ونحن في غاية الاشتياق والتوحش لها جمع الله بكم الشمل جميعا آمين بحرمة
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله خير آل والسلام اه
قال مؤلفه عفا الله عنه قد وقع في كلام المنصور رحمه الله أمران يحتاجان إلى
التنبيه عليهما الأول إذنه لولده أبي فارس في الخروج من مراكش إذا ظهر بها أثر
الوباء ولو شيئا يسيرا وهذا الأمر محظور في الشرع كما هو معلوم ومصرح به في
الأحاديث والثاني أمره إياه أن لا يقرأ البطائق الواردة عليه من السوس وإنما يتولى
قراءتها كاتبه بعد أن تغمس في الحل وهذا عمل من أعمال الفرنج ومن يسلك طريقهم في
تحفظهم من الوباء المسمى عندهم بالكرنتينة وقد اتفق لي فيها كلام أذكره هنا تتميما
للفائدة وذلك أنه لما كانت سنة ست وتسعين ومائتين وألف عرض لنا سفر إلى حضرة
السلطان المولى أبي علي الحسن بن محمد الشريف أيده الله عز وجل بمراكش المحروسة
بالله فخرجنا من سلا أواخر ربيع الأول من السنة المذكورة ومررنا في طريقنا على
المحب القائد الأنبل أبي عبد الله محمد بن إدريس الجراري بثغر الجديدة وهو يومئذ
متول لعملها فأجل قدومنا على عادته حفظه الله في محبة العلم ومن ينتمي إليه وحضر
معنا عنده بعض فقهاء الوقت وكانت السنة سنة وباء فجرت المذاكرة فيما يستعمله
النصارى في أمر الكرنتينة من حبس المسافرين وشذاذ الآفاق عن المرور بالسبل والدخول
إلى الأمصار والقرى ومنع الناس من مرافقهم وأسباب معاشهم وحصل التوقف تلك الساعة
في حكمها الشرعي ماذا يكون لو أجريت على قواعد الفقه ثم بعد ذلك بنحو ثلاثة أشهر
وقفت على رحلة العلامة الشيخ رفاعة الطهطاوي المصري في أخبار باريز فرأيته ذكر في
صدرها أنه وقعت المحاورة بين العلامة الشيخ أبي عبد الله محمد المناعي التونسي
المالكي المدرس بجامع الزيتونة ومفتي الحنفية بها العلامة الشيخ أبي عبد الله محمد
البيرم في إباحة الكرنتينة وحظرها فقال المالكي بحرمتها وألف في ذلك
____________________
رسالة واعتماده في الاستدلال
فيها على أن الكرنتينة من جملة الفرار من القضاء وقال الحنفي بإباحتها واستدل على
ذلك من الكتاب والسنة أيضا فلما وقفت على هذا الكلام تجدد لي النظر في حكم هذه
الكرنتينة وظهر لي أن القول بإباحتها أو حرمتها منظور فيه إلى ما اشتملت عليه من
مصلحة ومفسدة ولو مرسلة على ما هو المعروف من مذهب مالك رحمه الله ثم يوازن بينهما
وأيتهما رجحت على الأخرى عمل عليها فإن استوتا كان درء المفسدة مقدما على جلب
المصلحة كما هو معلوم في أصول الفقه ونحن إذا أمعنا النظر في هذه الكرنتينة
وجدناها تشتمل على مصلحة وعلى مفسدة أما المصلحة فهي سلامة أهل البلد المستعملين
لها من ضرر الوباء وهذه المصلحة كما ترى غير محققة بل ولا مظنونة لأنه ليست
السلامة مقرونة بها كما يزعمون وأنه مهما استعملها أهل قطر أو بلد إلا ويسلمون لا
دائما ولا غالبا بل الكثير أو الأكثر أنهم يستعملونها ويبالغون في إقامة قوانينها
ثم يصيبهم ما فروا منه كما هو مشاهد ومن زعم أن السلامة مقرونة بهذا دائما أو
غالبا فعليه البيان إذ البينة على المدعي فنتج من هذا أن مصلحة الكرنتينة مشكوكة
أو معدومة وإذا كانت كذلك فلا يلتفت إليها شرعا بل ولا طبعا لأنها حينئذ من قبيل
العبث وأما المفسدة فهي دنيوية ودينية أما الدنيوية فهي الإضرار بالتجار وسائر
المسافرين إلى الأقطار بحبسهم وتسويقهم عن أغراضهم وتعطيل مرافقهم على أبلغ الوجوه
وأقبحها كما هو معلوم وأما الدينية فهي تشويش عقائد عوام المؤمنين والقدح في
توكلهم وإيهام أن ذلك دافع لقضاء الله تعالى وعاصم منه وناهيك بهما مفسدتين
محققتين ترتكبان لشيء يكون أو لا يكون فإن العامة لقصور أفهامهم قد تذهب أوهامهم
مع هذه الظواهر فيقفون معها ويقعون في ورطة ضعف الإيمان عياذا بالله فإن قلت هذا
الكلام فيه ميل إلى سوء الظن بالعامة وهم جمهور الأمة قلت ليس فيه ميل إلى سوء
الظن بهم وإنما فيه تقرير الخوف عليهم والاحتياط لهم حتى لا نتركهم هملا يفعلون ما
شاؤوا أو يفعل بهم ما يضرهم في دينهم ودنياهم مع أن سد الذريعة قاعدة من قواعد
الشرع لا سيما في المذهب
____________________
المالكي ولأمر ما جاءت الشريعة
المطهرة ممتلئة من التحذيرات من مكامن هذه المفاسد ونحوها ورد الأسباب والمسببات
كلها إلى الله تعالى مع ما في استعمال هذه الكرنتينة مع الاقتداء بالأعاجم والتزيي
بزي الكفرة الضلال ورمقهم بعين التعظيم ونسبتهم إلى الإصابة والحكمة كما قد يصرح
به الحمقى من العوام فأما إذا وافق قدر بالسلامة عند استعمالها فهي الفتنة والعياذ
بالله فأي مفسدة أقبح من هذه فالحاصل أن الكرنتينة اشتملت على مفاسد كل منها محقق
فتعين القول بحرمتها وجلب النصوص الشاهدة لذلك من الشريعة لا تعوز البصير وقد ذكر
العلامة الحافظ القسطلاني في تفسير سورة النساء من الجامع الصحيح عند قوله تعالى {
ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم
} ما نصه دل على وجوب الحذر من جميع المضار المظنونة ومن ثم علم أن العلاج بالدواء
والاحتراز عن الوباء والتحرز عن الجلوس تحت الجدار المائل واجب اه وهو يقتضي
بظاهره أن الاحتراز عن الوباء واجب بأي وجه كان ولا يخفى أنه يتعين تقييده بالوجه
الذي ليس فيه مفسدة شرعية كعدم القدوم على الأرض التي بها الوباء ونحو ذلك مما
وردت به السنة ولا تأباه قواعده الشريعة كبعض العلاجات المستعملة في إبانة
المنقولة عن أئمة الطب أما بالوجه الذي يشتمل على مفسدة أو مفاسد كهذه الكرنتينة
فلا هذا ما تحرر في هذه المسألة والله أعلم
ولما وقف على هذا الكلام أخونا في الله العلامة الأستاذ أبو محمد عبد الله بن
الهاشمي ابن خضراء السلاوي وهو اليوم قاضي حضرة مراكش كتب إلي ما نصه وأما حكم
الكرنتينه فهو ما ذكرتم من الحظر وبه أقول لما فيه من الفرار من القضاء مع المفاسد
العظيمة التي لا تفي بها مصلحتها على فرض تحققها أو غلبة ظن حصولها سيما وقد
انتفيا بعد التجربة المتكررة في الجهات المتعددة ولا يخالف في هذا الحكم إلا مكابر
متبع للهوى فماذا بعد الحق إلا الضلال ثم جلب حفظه الله من النصوص ما يشهد لذلك
تركناها اختصارا والله تعالى الموفق بمنه
____________________
وفاة المنصور رحمه الله
كان المنصور رحمه الله بعد فراغه من قضية ابنه المأمون قد عزم على الرجوع إلى
مراكش فلما بلغه ظهور الوباء بتلك الناحية تربص إلى أن دخلت سنة اثنتي عشرة وألف
فانتشر الوباء في بلاد الغرب أيضا فكان مصاب المنصور به على ما نذكره
قال صاحب الأصليت وهو الفقيه أبو العباس أحمد بن عبد الله السجلماسي المعروف بأبي
محلي كنا نسمع أن السلطان المنصور إذا خرج من مراكش قاصدا مدينة فاس لا يرجع إلى
مراكش وذاع هذا الخبر في الناس قبل نزوله فكان الأمر كذلك ثم لا أدري من أين للناس
بذلك هل أنطقهم الله به أو عن علم تلقوه عن أربابه وكأنه الأشبه والله أعلم قال
ومن هذا ما ذكره بعضهم أيضا لكن بعد الوقوع والنزول أن دخول رايات أبي العباس
المنصور في حياته للسودان واستيلاءه على سلطانها سكية في دار إمارته كاغو مع
تنبكتو وأعمالها كل ذلك من أمارات خروج الإمام المهدي الفاطمي وكذلك الوباء
المنتشر في هذه الأعوام وكثرة الهرج والغلاء في سائر البلاد حتى الآن وبقي من
إمارات خروجه فيما نسمع فتح وهران إما على يده أو بإذنه فيما يقوله من لا علم عنده
بحقيقة الأمر اه
وكان ابتداء مرض المنصور بمحلته خارج فاس الجديد قرب سيدي عميرة يوم الأربعاء حادي
عشر ربيع النبوي سنة اثنتي عشرة وألف ودخل إلى داره بالمدينة البيضاء عشية ذلك
اليوم واحتل بها بعد الغروب وتوفي هنالك ليلة الاثنين الموالي لتاريخه ودفن بإزاء
مقصورة الجامع الأعظم هنالك ضحوة يوم الاثنين المذكور وحضر جنازته ولده زيدان وقدم
للصلاة مفتي فاس وخطيب جامع القرويين بها الفقيه أبو عبد الله محمد بن قاسم القصار
قال اليفرني كانت وفاة المنصور بالوباء وقال الشيخ أبو محمد عبد
____________________
الله بن يعقوب السملالي في
شرحه لجامع شامل بهرام كان بالمغرب وباء استطال به من سنة سبع إلى سنة ست عشرة
وألف وعم سهل المغرب وجبله حتى أفنى أكثر الخلق ومات به جمع من الأعيان وبه مات
السلطان أبو العباس أحمد المنصور رحمه الله ونحوه ذكره صاحب الفوائد وغيره قال
اليفرني وبه تعلم ما شاع على الألسنة من أن المنصور سمه ولده زيدان بإشارة من أمه
الشبانية في باكور أوائل ظهوره وقطع عنه الأطباء إلى أن هلك وأن المنصور لما أحس
بذلك قال استعجلتها يا زيدان لا هناك الله بها أو كلاما هذا معناه قالوا وبسبب ذلك
لم تنصر لزيدان راية فإنه انهزم في زهاء سبع وعشرين معركة كله كذب لا أصل له لأن
المنصور طعن بالوباء ولم يذكر أحد ممن يوثق به ما شاع على ألسنة العامة وأضرابهم
من الطلبة اه ثم نقل المنصور رحمه الله بعد دفنه إلى مراكش فدفن بها في قبور
الأشراف قبلي جامع المنصور من القصبة وقبره هنالك شهير عليه بناء حفيل ومما نقش
على رخامة قبره هذه الأبيات
( هذا ضريح من غدت ** به المعالي تفتخر )
( أحمد منصور اللوا ** لكل مجد مبتكر )
( يا رحمة الله اسرعي ** بكل نعمى تستمر )
( وباكري الرمس بماء ** من رضاه منهمر )
( وطيبي ثراه من ** ندى كذكره العطر )
( وافق تاريخ الوفاة ** دون تفنيد ذكر )
( مقعد صدق داره ** عند مليك مقتدر )
____________________
بقية أخبار المنصور وبعض سيرته
كان المنصور رحمه الله حسن السياسة حازما يقظا مشاورا في مهمات الأمور وكان قد
اتخذ يوم الأربعاء للمشورة وسماه يوم الديوان تجتمع فيه وجوه الدولة ويتطارحون فيه
وجوه الرأي فيما ينوب من جلائل الأمور وعظيم النوازل وهنالك يظهر شكايته من لم يجد
سبيلا للوصول إلى السلطان قالوا ومن حزمه انه كان متطلعا لأخبار النواحي بحاثا
عنها غير متراخ في قراءة ما يرد عليه من رسائل عماله ولا يبطئ بالجواب ويقول كل
شيء يقبل التأخير إلا مجاوبة العمال عن رسائلهم وكان الكتاب لا يفارقون مراكزهم
إلا في أوقات مخصوصة
قال الفشتالي ولقد كنا بالباب يوما يعني معشر الكتاب قبل أن يخرج المنصور فورد
النذير على الكاتب أبي عبد الله محمد بن علي الفشتالي بأن ولدا له في النزع فلم
يملك نفسه أن ذهب إلى داره فخرج المنصور على أثره فسأل عنه فقيل إنه ذهب إلى داره
فاستشاط غضبا وبعث إليه فجيء به مزعجا وما شككنا في عقوبته فلما مثل بين يديه قال
له ما الذي ذهب بك فذكر له أمر ولده وأنه اشتد به المرض ولم ينجع فيه دواء طبيب
فرق له وقال إن أمراض الصبيان قلما ينجع فيها إلا طب العجائز ولا كعجائز دارنا
فابعث من يسألهن
ومن حزمه أنه اخترع أشكالا من الخط على عدد حروف المعجم وكان يكتب بها فيما يريد
أن لا يطلع عليه أحد يمزج فيها الخط المتعارف فيصير الكتاب مغلقا فإذا سقط ووقع في
يد عدو أو غيره لا يدري ما فيه ولا يعرف معنى ما اشتمل عليه فكان إذا جهز أحد
أولاده ناوله خطا من تلك الخطوط يفك بها رسائله إليه ويكتب عنوانه كذلك
ومن ضبطه أنه تعلم الخط المشرقي فكان يكاتب به علماء المشرق كتابة كأحسن ما يوجد
في خط المشارقة ومما وقع له في ذلك أنه بعث بطاقة
____________________
بخط يده على طريقة أهل المشرق
لكاتبه أبي عبد الله بن عيسى يستدعي منه كتابا فبعثه ابن عيسى إليه وبعث معه بهذين
البيتين
( سقتني كؤس السرور دهاقا ** خطوط أتتني في مهرق )
( رأت كف أحمد في الغرب بحرا ** فجاءت إليه من المشرق )
وكان المنصور على ما هو عليه من ضخامة الملك وسعة الخراج يوظف على الرعية أموالا
طائلة يلزمهم بأدائها وزاد الأمر على ما كان عليه في عهد أبيه حسبما مر وكانت
الرعية تشتكي ذلك منه ونالها إجحاف منه ومن عماله وكان غير متوقف في الدماء ولا
هياب للوقيعة فيها قال اليفرني وتتبع ما وقع في ذلك يناقض المقصود من الإغضاء عن
العورات والستر على الفضائح وقد ألمعنا لك بما يكون دالا على ما وراءه وذكر أن بعض
عمال المنصور عدا على امرأة من دكالة فأخذ منها أموالا فقدمت المرأة على المنصور
بمراكش تشكو له ما نالها من عامله فلم يشكها ولا كشف ظلامتها فخرجت إلى أولادها
بالباب وقالت لهم انصرفوا فإني كنت أظن أن رأس العين صافية فإذا بها مكدرة فلذا
تكدرت مصارفها
ويحكى أن الفقيه القاضي أبا مالك عبد الواحد الحميدي قد سافر في جمع من فقهاء فاس
وأعيانها إلى مراكش بقصد العيد مع المنصور كما هي العادة فمروا في طريقهم على
جماعة رجال ونساء قد سلكوا في سلسلة واحدة وفيهم امرأة أخذها الطلق وهي في كرب
المخاض فرأوا من ذلك ما أهمهم وأحزنهم فبقي ذلك في نفس القاضي فلما جلس إلى
المنصور ذكره له وأظهر الشكاية منه فسكت المنصور عن جوابه وهجره على ذلك أياما ثم
إن القاضي تلطف في القول وأظهر التوبة مما صدر منه وعدها بادرة فقال له المنصور
لولا ما رأيت ما أمكنك أن تجيء مع أصحابك مسيرة عشرة أيام في أمن ودعة فإن أهل المغرب
مجانين مارستانهم هي السلاسل والأغلال
ولقد وفد القاضي المذكور على المنصور في بعض المواسم مع الفقهاء فلما انصرفوا من
الحضرة جمعتهم الطريق بأرباب الموسيقى وأصحاب
____________________
الأغاني من أهل فاس وقد كانوا
وفدوا أيضا على المنصور على سبيل العادة فأخرج بعضهم شبابة من الإبريز مرصعة أعطاه
إياها المنصور وبعضهم قال أعطاني كذا وقال الآخر أجازني بكذا مما لم يعط مثله
للقاضي وشيعته من الفقهاء فقال القاضي لئن بلغت فاسا لأردن أولادي إلى صنعة
الموسيقى فإن صنعة العلم كاسدة ولولا أن الموسيقى هي العلم العزيز ما رجعنا مخفقين
ورجع المغني بشبابة الإبريز فنقل إلى المنصور هذا الكلام فلذعه عليه بيسير من
الملام
وذكر أبو زيد في الفوائد ما صورته عدا محمد الكبير خال المنصور على رجل بدرعة في
ضيعة له فشكاه إلى المنصور فقال له كم تساوي ضيعتك قال سبعمائة أوقية قال خذها وقل
لخالي الموعد بيني وبينك الموقف الذي لا أكون أنا فيه سلطان ولا أنت خال السلطان
فرجع صاحب الضيعة وأبلغ إلى العامل كلام المنصور فأمسك برأسه ساعة ثم قال له الحق
بضيعتك وغرم له كل ما أكل منها اه
وقال في المناهل كان للمنصور مصانع اخترعها ومآثر خلفها منها المعقلان الكبيران
اللذان أنشأهما بفاس أحدهما خارج باب عجيسة والأخر قبالته بباب الفتوح وهذان
المعقلان يعرفان عند العامة بالبستيون وهما من الإتقان بحيث لا يعرف قدرهما إلا من
وقف عليهما وكان الشروع في بنائهما يوم الاثنين الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة
تسعين وتسعمائة ومن ذلك الحصنان اللذان بناهما بثغر العرائش أحدهما يعرف بحصن
الفتح وهما أيضا في نهاية الوتاقة والحسن ومن ذلك معاصر السكر فإنه أحدثها بمراكش
وبلاد حاحة وشوشاوة قال الفشتالي وكان ابتدأ ذلك والده أبو عبد الله الشيخ فكثر
السكر في أيامه بالبلاد المغربية حتى لم تكن له قيمة وقد تقدم أنه كان يشتري
الرخام من النصارى بالسكر ومن مآثره النبيلة العظمي مع كرسيها من المرمر بجامع
القرويين تحت منار الجامع المذكور وقد تقدم الخبر عنها وقال ابن القاضي في المنتقى
المقصور إن اللباس المسمى بالمنصورية وهو لباس من الملف لم يكن مستعملا قبله وهو
____________________
أول من اخترعه وأضيف إليه فقيل
المنصورية
وكان في مدة المنصور من الأحداث أنه
في سنة سبع وثمانين وتسعمائة وقع غلاء عظيم بالمغرب حتى عرف ذلك العام بعام البقول
قال في المرآة لما انتهب الناس غنيمة وادي المخازن كان الناس يتوقعون مغبتها
لاختلاط الأموال بالحرام فظهر أثر ذلك من غلاء وغيره وكنا نسمع أن البركة رفعت من
الأموال من يومئذ وفي هذه السنة أيضا أصاب الناس في بعض فصولها سعال كثير قل من
سلم منه وكان الرجل لا يزال يسعل إلى أن تفيض نفسه فسمى العامة تلك السنة سنة
كحيكحة
وفي سنة إحدى وتسعين وتسعمائة توفي الشيخ العارف بالله تعالى الكبير الشأن أبو
النعيم رضوان بن عبد الله الجنوي نسبة إلى جنوة من بلاد الفرنج كان أبوه نصرانيا
وأمه يهودية وسبب إسلام والده ما حكاه أبو العباس الأندلسي في رحلته أنه كان له
فرس ببلده جنوة فانطلق ليلا ودخل الكنيسة العظمى وراث فيها من غير أن يشعر بذلك
أحد من السدنة ولا غيرهم ثم بادر بإخراج الفرس ولما أصبح أهل الكنيسة ورأوا الروث
قالوا إن المسيح جاء البارحة على فرسه إلى الكنيسة وراث فيها فاهتز البلد لذلك
وتنافس النصارى في شراء ذلك الروث حتى بيع قدر الذرة منه بمال جزيل فعلم أن
النصارى على ضلال وهاجر إلى بلاد الإسلام فنزل برباط الفتح من أرض سلا فوجد هنالك
امرأة يهودية فتزوج بها وولدت له الشيخ أبا النعيم فنشأ مثلا في العلم والولاية
ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم وكان رضي الله عنه يقول خرجت من بين فرث ودم أخذ
الطريقة عن أبي محمد الغزواني وقدم عليه مراكش ثم عاد إلى فاس فمات بها في السنة
المذكورة ودفن خارج باب الفتوح
وفي سنة خمس وتسعين وتسعمائة توفي الشيخ العلامة الإمام أبو العباس أحمد بن علي
المنجور كان متبحرا في العلوم خصوصا أصول الفقه أخذ عن اليسيتني وأبي زيد سقين العاصمي
وأبي الحسن بن هارون وأبي مالك الوانشريسي وغيرهم
____________________
وفي سنة سبع وتسعين وتسعمائة توفي الشيخ أبو الشتاء الشباوي دفين جبل آمركو من
بلاد فشتالة ويقال اسمه محمد بن موسى وكني بأبي الشتاء لأن الناس قحطوا ولجؤوا
إليه فسقوا في الحين وهو من أصحاب الشيخ الغزواني ويقال ما لقيه إلا مرة بقبيلتهما
الشاوية فعينه ومكنه فهام على وجهه وكان من أمره ما كان
وفي ثامن عشر ربيع الثاني سنة ثلاث وألف توفي القاضي أبو محمد عبد الواحد بن أحمد
الحميدي ودفن بروضة الشيخ أبي زيد الهزميري خارج باب مصمودة من عدوة فاس الأندلس
وقد تقدمت بعض أخباره
وفي سنة أربع وألف توفي الشيخ أبو الحسن علي بن منصور البوزيدي المعروف بأبي
الشكاوي دفين شالة وبها كان سكناه أخذ عن الشيخ المجذوب وأبي الرواين المحجوب
وغيرهما وأولاده ينتسبون إلى عيسى بن إدريس الحسني دفين آيت عتاب والله تعالى أعلم
وفي سنة ست وألف توفي الشيخ الرباني أبو عبد الله محمد بن مبارك الزعري دفين
تاستاوت من مشاهير الأولياء كان أول نشأته بمكناسة الزيتون ثم خرج إلى البادية بعد
أن صعبت عليه القراءة ورأى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له إنك لن تقرأ ولكنك
شيخ فخرج إلى البادية وكان يظن أنه يكون من أشياخ القبائل حتى هبت عليه نفحة
رحمانية فقدم مراكش وأخذ عن الشيخ أبي عمرو القسطلي ورجع إلى باديته فبنى مسجدا في
الموضع الذي عين له شيخه لسكناه فيقال إنه لما قيل له جعلت محرابه منحرفا عن
القبلة أشار بيده إلى جهة مكة فتزحزحت الجبال حتى شاهد الحاضرون مكة والله على كل
شيء قدير وكان الشيخ أبو عبد الله محمد الشرقي معاصرا له فقيل له إن الشيخ ابن
مبارك قال أهل زماننا محسوبون علينا فقال اشهدوا أنا من أهل زمان ابن مبارك وفي
هذه السنة أيضا كان الطاعون العظيم بمراكش وغيرها بحيث عم تلول المغرب واستطال
فيها ومات به جمع من الأعيان منهم الشيخ ابن مبارك المذكور
وفي سنة تسع وألف في جمادى الآخرة منها كان سيل عظيم بفاس ثم
____________________
في شعبان من السنة المذكورة
كان سيل أعظم من الأول تهدمت منه الدور والحوانيت وتهدم سد الوادي بفاس على وثاقته
وإحكامه وهذا السد هو الذي كان جدده السلطان أبو العباس أحمد الوطاسي ثم جدده
المنصور في هذه المرة من أحباس القرويين
وفي سنة عشر وألف توفي الشيخ العارف بالله الرباني أبو عبد الله ويقال أبو عبد
الله محمد فتحا الشرقي ابن الولي الصالح أبي القاسم الزعري الجابري ثم الرثمي هكذا
نسبه صاحب المرآة وغيره ورفع أبو علي المعداني في كتابه الروض الفائح نسبه إلى
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم نقل عن حفيده العارف بالله تعالى أبي
عبد الله محمد الصالح بن المعطي ما نصه إن الشيخ سيدي محمد الشرقي لم توجد هذه
النسبة العمرية بخطه فيما عثرنا عليه أما بنو أخيه وبنوه وحفدته فقد وجدت بخط
الثقة منهم وتواتر نقلها عنهم وكتبت في إجازاتهم وكذا في تمليكاتهم اه وهذا الشيخ
أعني أبا عبد الله الشرقي كان من أكابر أهل وقته يقال إنه بلغ درجة القطبانية
وتخرج به جماعة من الأولياء وبعث إليه المنصور جماعة يختبرونه فظهرت لهم كراماته
واتفقت له مع الشيخ المنجور كرامة حملته على أن وفد عليه زائرا ومدحه بقصيدة ذكر
بعضها اليفرني في الصفوة وله مع أبي المحاسن الفاسي مراسلات ومواصلات ووقع بينهما
كلام طويل انظر ابتهاج القلوب أخذ رضي الله عنه عن والده عن الشيخ التباع واعتمد
على الشيخ الكبير أبي عبد الله محمد بن عمرو المختاري من أحواز مكناسة وأخذ أيضا
عن ابن مبارك الزعري
____________________
وأبي محمد بن ساسي وتوفي أوائل
المحرم من السنة المذكورة ودفن بجعيدان وقبره شهير نفعنا الله به وبسائر أهل الله
تم الجزء الخامس ويليه الجزء السادس
وأوله الخبر عن دولة السلطان أبي المعالي زيدان بن أحمد المنصور رحمه الله تعالى
____________________
6
____________________
بسم الله الرحمن الرحيم الدولة
السعدية القسم الثاني الخبر عن دولة السلطان أبي المعالي زيدان بن أحمد المنصور رحمه
الله تعالى
لما توفي المنصور رحمه الله وفرغ الناس من دفنه اجتمع أهل الحل والعقد من أعيان
فاس وكبرائها والجمهور من جيش المنصور على بيعة ولده زيدان وقالوا إن المنصور
استخلفه في حياته ومات في حجره وكان ممن تصدى لذلك القاضيان قاضي الجماعة بفاس أبو
القاسم بن أبي النعيم والقاضي أبو الحسن علي بن عمران السلاسي والأستاذ أبو عبد
الله محمد الشاوي والشيخ النظار أبو عبد الله محمد بن قاسم القصار وغيرهم ويحكى أن
القاضي ابن أبي النعيم قام في الناس خطيبا وقال أما بعد السلام عليكم فإن رسول
الله صلى الله عليه وسلم لما مات اجتمع الناس على أبي بكر رضي الله عنه ونحن قد
مات مولانا أحمد وهذا ولده مولانا زيدان أولى بالملك من إخوته فبايعه الحاضرون يوم
الاثنين السادس عشر من ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وألف قالوا وكان زيدان لما توفي
والده كتم موته وبعث
____________________
جماعة للقبض على أخيه الشيخ
المسجون بمكناسة فمنعهم من ذلك الباشا جؤذر كبير جيش الأندلس وحمل الشيخ موثقا إلى
مراكش حتى دفعه إلى أخيه أبي فارس وكان شقيقا له فلم يزل مسجونا عنده إلى أن كان
من أمره ما يأتي كذا قال بعضهم وقال في شرح زهرة الشماريخ إن زيدان لما اشتغل بدفن
والده احتال القائد أبو العباس أحمد بن منصور العلج فذهب بنصف المحلة إلى مراكش
نازعا عن زيدان إلى أبي فارس ومر في طريقه بمكناسة فأخرج الشيخ من اعتقاله واحتمله
معه إلى أبي فارس فسجنه فلم يزل مسجونا عنده إلى أن كان من أمره ما نذكره والله
تعالى أعلم انحراف أهل مراكش عن طاعة زيدان وبيعتهم لأبي فارس وما نشأ عن ذلك من
الفتنة
كان المنصور رحمه الله قد فرق عمالات المغرب على أولاده كما مر فاستعمل الشيخ على
فاس والغرب وولاه عهده واستعمل زيدان على تادلا وأعمالها واستخلف عند نهوضه إلى
فاس ابنه أبا فارس على مراكش وأعمالها وكان يكاتبه بما مر بعضه من الرسائل فلما
اتصل بأهل مراكش وفاة المنصور وكتب إليهم أهل فاس بمبايعتهم لزيدان امتنعوا
وبايعوا أبا فارس لكونه خليفة أبيه بدار ملكه التي هي مراكش ولأن جل الخاصة من
حاشية أبيه كان يميل إلى أبي فارس لأن زيدان كان منتبذا عنهم بتادلا سائر أيام
أبيه فلم يكن لهم به كثير إلمام ولا مزيد استئناس مع أنه كان جديرا بالأمر لعلمه
وأدبه وكمال مروءته رحمه الله إلا أن السعد لم يساعده وقد قيل في المثل قديما قاتل
بسعد وإلا فدع ولما شق أهل مراكش العصا على زيدان كثر في ذلك القيل والقال حتى
صدرت فتوى من قاضي فاس ابن أبي النعيم ومفتيها أبي عبد الله القصار تتضمن التصريح
بحديث ( إذا بويع خليفتين فاقتلوا الآخر منهما ) وكانت بيعة أبي فارس
____________________
بمراكش يوم الجمعة أواخر ربيع
الأول من سنة اثنتي عشرة وألف وهو شقيق الشيخ المأمون أمهما أم ولد اسمها الجوهر
ويقال الخيزران واسم أبي فارس هذا عبد الله وتلقب بالواثق بالله وكان أكولا عظيم
البطن مصابا بمس الجن ويقال إنه لذلك ابتنى المسجد الجامع بجوار ضريح الشيخ أبي
العباس السبتي وشيد منارة وشحن الخزانة التي بقبلي الجامع المذكور بمنتخب الكتب
ونفيس الدفاتر كل ذلك رجاء أن تعود عليه بركة ذلك الشيخ بالبرء من تلك العلة وكان
مع ذلك يميل إلى المروءة والرفق وحسن السيرة رحمه الله نهوض السلطان زيدان لحرب
أبي فارس وانهزامه بأم الربيع ثم فراره إلى تلمسان
لما بايع أهل مراكش أبا فارس بن المنصور عزم زيدان على النهوض إليه فخرج من فاس
يؤم بلاد الحوز واتصل الخبر بأبي فارس فجهز لقتاله جيشا كثيفا وأمر عليهم ولده عبد
الملك إلى نظر الباشا جؤذر فقيل له إن زيدان رجل شجاع عارف بمكايد الحرب وخدعه
وولدك عبد الملك لا يقدر على مقاومته فلو سرحت أخاك الشيخ لقتاله كان أقرب للرأي
لأن أهل الغرب لا يقاتلونه لأنه كان خليفة عليهم مدة فهم آنس به من زيدان فأطلق
أبو فارس أخاه المأمون من ثقاف السجن وأخذ عليه العهود والمواثيق على النصح
والطاعة وعدم شق العصا ثم سرحه في ستمائة من جيش المتفرقة الذين كان المنصور جمعهم
ليبعث بهم إلى كاغو من أعمال السودان وقال له ولأصحابه جدوا السير الليلة كي
تصبحوا بمحلة جؤذر على وادي أم الربيع فلما انتهى الشيخ إلى المحلة المذكورة وعلم
الناس به أهرعوا إليه واستبشروا بمقدمه ثم كانت الملاقاة بينه وبين السلطان زيدان
بموضع يقال له حواتة عند أم الربيع ففر عن زيدان أكثر جيشه إلى المأمون وحنوا إلى
____________________
سالف عهده وقديم صحبته فانهزم
زيدان لذلك ورجع أدراجه إلى فاس فتحصن بها
وكان أبو فارس قد تقدم إلى أصحابه في القبض على الشيخ متى وقعت الهزيمة على زيدان
فلما فر زيدان انعزل الشيخ فيمن انضم إليه من جيش أهل الغرب وامتنع على أصحاب أبي
فارس فلم يقدروا منه على شيء وانتعش أمره واشتدت شوكته ثم سار إلى فاس يقفو أثر
السلطان زيدان
ولما اتصل بزيدان خبر مجيئه إليه راود أهل فاس على القيام معه في الحصار والذب عنه
والوفاء بطاعته التي هي مقتضى بيعتهم التي أعطوا بها صفقتهم عن رضى منهم فامتنعوا
عليه وقلبوا له ظهر المجن وأعلنوا بنصر الشيخ وبيعته لقديم صحبتهم له ولما آيس
زيدان من نصرهم وقد أرهقه الشيخ في جموعه خرج من فاس بحشمه وثقله ناجيا بنفسه
وتبعه جمع عظيم من أصحاب الشيخ فلم يقدروا منه على شيء وذهب إلى تلمسان فأقام بها
إلى أن كان من أمره ما نذكره
وأما الشيخ فإنه لما وصل إلى فاس تلقاه أهلها ذكورا وإناثا وأظهروا الفرح بمقدمه
فدخلها ودعا لنفسه فأجيب واستبد بملكها ثم أمر جيش أهل مراكش أن يرجعوا إلى بلادهم
فانقلبوا إلى صاحبهم مخفقين
وكان الشيخ لما تم غرضه من الاستبداد بالأمر والانفراد بالسلطنة دعا بالشيخين
الفقيهين قاضي الجماعة أبي القاسم بن أبي النعيم ومفتيها أبي عبد الله محمد بن
قاسم القصار فلامهما على مبايعة زيدان وقولهما فيه وفي أخيه أبي فارس إن أولاد
الإماء لا يتقدمون في الأمر على أولاد الحرائر وكان أبو فارس والشيخ ولدي أمه
اسمها الخيزران كما مر وزيدان أمه حرة من الشبانات وعزم أن ينكل بهما ثم بعث بهما
مع جيش مراكش إلى أخيه أبي فارس ليرى فيهما رأيه فأما الشيخ القصار فتوفي رحمه
الله على مقربة من مراكش بزاوية الشيخ ابن ساسي وحمل إلى مراكش فدفن بقبة القاضي
عياض
____________________
وذلك في أواسط سنة اثنتي عشرة
وألف وأما القاضي أبو القاسم فاجتمع بأبي فارس فقبل عذره وصفح عنه ورده مكرما إلى
فاس هكذا ذكره بعضهم وقيل إن الذي بعث بالشيخ القصار إلى مراكش هو السلطان زيدان
على وجه يخالف هذا والله أعلم نهوض عبد الله بن الشيخ لحرب عمه أبي فارس واستيلاؤه
على مراكش
ثم إن الشيخ المتغلب على فاس دعا بتجار أهلها فاستسلف منهم مالا كثيرا وأظهر من
الظلم وسوء السيرة وخبث السريرة ما هو شهير به ثم تتبع قواد أبيه فنهب ذخائرهم
واستصفى أموالهم وعذب من أخفى من ذلك شيئا منهم ثم جهز جيشا لقتال أخيه أبي فارس
بمراكش وكان عدد الجيش نحو الثمانية آلاف وأمر عليه ولده عبد الله فسار بجيوشه
فوجد أبا فارس بمحلته في موضع يقال له إكلميم ويقال في مرس الرماد فوقعت الهزيمة
على أبي فارس وقتل نحو المائة من أصحابه ونهبت محلته وفر هو بنفسه إلى مسفيوة ودخل
عبد الله بن الشيخ مراكش فأباحها لجيشه فنهبت دورها واستبيحت محارمها وا شتغل هو
بالفساد ومن يشابه أباه فما ظلم حتى حكي أنه زنى بجواري جده المنصور واستمتع
بحظاياه وأكل رمضان وشرب الخمر فيه جهارا وعكف على اللذات وألقى جلباب الحياء عن
وجهه وكان دخوله مراكش في العشرين من شعبان سنة خمس عشرة وألف
____________________
مجيء السلطان زيدان إلى المغرب
واستيلاؤه على مراكش وطرده عبد الله بن الشيخ عنها
كان السلطان زيدان لما فر من فاس إلى تلمسان كما مر أقام بها مدة وكان قد بعث إلى
ترك الجزائر يستمدهم ويستعديهم على أخويه فأبطؤوا عليه وطال عليه انتظارهم فلما
يئس منهم توجه إلى سجلماسة فدخلها من غير قتال ولا محاربة ثم انتقل عنها إلى درعة
ومنها إلى السوس فكتب إليه أهل مراكش وقد ندموا على ما فرطوا فيه من أمره والدخول
في طاعته أن يأتيهم ولو وحده فتوجه إليهم ودخل عليهم ليلا فلم يفجأ عبد الله بن
الشيخ إلا نداء أهل مراكش بنصر السلطان زيدان وتحزبوا معه وتقدموا إلى قائدهم عبد
الله آعراس الذي ولاه عليهم الشيخ فقتلوه وخرج عبد الله فارا بجموعه من أهل فاس
والغرب فحاصرهم أهل مراكش بين الأسوار والجنات وقتلوا من أصحاب عبد الله بموضع
يعرف بجنان بكار نحو الخمسة آلاف وخمسمائة وأمر زيدان بقتل كل من تخلف عن عبد الله
من جيشه فأتى القتل على جميع من وجد بمراكش من جيش أهل فاس وذلك في أواخر سنة خمس
عشرة وألف وفر عبد الله بن الشيخ ناجيا بنفسه حتى قدم على أبيه بفاس في أسوأ
الحالات مفلول العساكر مهزوم الجموع معتاضا عن جيش النصر بجيش الدموع
____________________
عودة عبد الله بن الشيخ إلى
مراكش واستيلاؤه عليها وطرده زيدان عنها
لما قدم عبد الله بن الشيخ على أبيه بفاس سليبا مهزوما قامت قيامته ورأى أن يهيئ
عسكرا آخر ويجدد جمعا ثانيا فلم يجد لذلك طاقة لفراغ يده من المال وقلة جبايته
واستحيى أن يستسلف من التجار لأنه كان استسلف منهم فلم يرد لهم شيئا ولما أعيته
الحيلة رجع على قواده فقلب لهم ظهر المجن ونهب أموالهم واستلب ذخائرهم وصار يفرقها
على التجار فاجتمع له من ذلك أموال عريضة فرقها في جيشه وتهيأ عبد الله للمسير إلى
مراكش وكان أهل فاس قد غضبوا لمن قتل من إخوانهم بها ونادوا بأخذ ثأرهم حتى إن
بعضهم خرج مع عبد الله من غير أخذ مرتب ولا جامكية فخرج عبد الله بجموع عديدة
وجيوش حفيلة ولما بلغ خبره للسلطان زيدان بعث إليه العلج مصطفى باشا في جيوش كثيرة
قال في شرح زهرة الشماريخ كان بعث مصطفى باشا وخروجه من مراكش في شعبان سنة ست
عشرة وألف فالتقى الجمعان بموضع يقال له تافلفلت على طريق سلا فهزم مصطفى باشا
وقتل من جيش مراكش نحو التسعة آلاف وبعث الشيخ جماعة من عدول فاس إلى موضع المعركة
حتى أحصوا القتلى ثم توجه عبد الله إلى مراكش فبرز إليه أهلها في ستة وثلاثين ألف
مقاتل والتقى الجمعان بموضع يقال له رأس العين فانهزم أهل مراكش وتقدم عبد الله بن
الشيخ فاقتحمها بجيشه وفر زيدان إلى المعاقل المنيعة والجبال الشامخة فبقي منتقلا
هنالك إلى أن كان من أمره ما نذكره
____________________
ثورة محمد بن عبد المؤمن ابن
السلطان محمد الشيخ وانقراض أمره وعود زيدان إلى مراكش
لما دخل عبد الله بن الشيخ مراكش واستولى عليها فعل فيها أعظم من فعلته الأولى
وهربت شرذمة من أهل مراكش إلى جبل جيليز واجتمع هنالك منهم عصابة من أهل النجدة
والحمية واتفق رأيهم على أن يقدموا للخلافة محمد بن عبد المؤمن ابن السلطان محمد
الشيخ وكان رجلا خيرا دينا صينا وقورا فبايعه أهل مراكش هنالك والتفوا عليه فخرج
عبد الله بن الشيخ لقتال من بجبل جيليز والقبض على أميرهم المذكور ولما التقى
الجمعان انهزم عبد الله وولى أصحابه الأدبار فخرج من مراكش مهزوما سادس شوال سنة
ست عشرة وألف وترك محلته وأنفاضه وعدته وجل الجيش وأخذ على طريق تامسنا وامتحن
أصحابه في ذهابهم حتى كان مد القمح عندهم بثلاثين أوقية والخبزة من نصف رطل بربع
مثقال ولم يزل أصحابه ينتهبون ما مروا عليه من الخيام والعمود ويسبون البنات إلى
أن وصلوا إلى فاس في الرابع والعشرين من شوال من السنة المذكورة
وأما محمد بن عبد المؤمن فإنه لما دخل مراكش واستولى عليها صفح عن الذين تخلفوا
بها من أهل الغرب من جيش عبد الله بن الشيخ وأعطاهم الراتب فلم يعجب ذلك أهل مراكش
ونقموا عليه إبقاءه عليهم وكانوا نحو الألف ونصف فكتبوا سرا إلى السلطان زيدان
بالجبل فأتاهم وخيم نازلا بظاهر البلد فخرج محمد بن عبد المؤمن إلى لقائه فانهزم
ابن عبد المؤمن ودخل السلطان زيدان مراكش واستولى عليها وصفح هو أيضا عن الفئة
المتخلفة عن عبد الله بن الشيخ وذكر في شرح زهرة الشماريخ إن هذا الثائر بجبل
جيليز اسمه أبو حسون من أولاد السلطان أبي العباس الأعرج والله أعلم ولعل هذا
الصواب بدليل ما يأتي في رسالة زيدان إن شاء الله
____________________
خروج جالية الأندلس من غرناطة
وأعمالها إلى بلاد المغرب وغيرها
قد قدمنا ما كان من استيلاء الطاغية صاحب قشتالة على غرناطة وأعمالها سنة سبع
وتسعين وثمانمائة وإن أهل غرناطة التزموا طاعته والبقاء تحت حكمه على شروط
اشترطوها عليه قد ذكرنا بعضها فيما سلف وأن عدو الدين قد نقض تلك الشروط عروة عروة
وكان أهل الأندلس من أجل ذلك كثيرا ما يهاجرون من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام
أثناء هذه المدة السالفة غير أن عامتهم كانوا قد تخلقوا بأخلاق العجم وأثر فيهم
ذلك أثرا ظاهرا لطول صحبتهم لهم ونشأة أعقابهم بين أظهرهم فكانت تصدر منهم في بعض
الأحيان مقالات قبيحة في حق ولاة المسلمين من أهل المغرب وعامتهم لا سيما إذا
نالهم منهم بعض الظلم ولقد رأيت في كتاب المعيار وغيره سؤالات وفتاوى صدرت عن
علماء المغرب في حق هؤلاء الصنف منهم وكان الملوك السعديون قد جمعوا منهم جندا
كبيرا وبهم فتح المنصور إقليم السودان واستمر الحال على ذلك إلى أن كانت سنة ست
عشرة وألف فهاجر جميع من لم يتنصر منهم إلى بلاد المغرب وغيرها
قال في نفح الطيب كان النصارى بالأندلس قد شددوا على المسلمين بها في التنصر حتى
أنهم أحرقوا منهم كثيرا بسبب ذلك ومنعوهم من حمل السكين الصغير فضلا عن غيرها من
الحديد وقاموا في بعض الجبال على النصارى مرارا ولم يقيض الله لهم ناصرا إلى أن
كان إخراج النصارى إياهم أعوام سبعة عشرة وألف فخرجت ألوف بفاس وألوف أخر بتلمسان
ووهران وخرج جمهورهم بتونس فتسلط عليهم الأعراب ومن لا يخشى الله تعالى في الطرقات
ونهبوا أموالهم وهكذا كان ببلاد تلمسان وفاس ونجا القليل منهم من هذه المضرة وأما
الذين خرجوا بنواحي تونس فسلم أكثرهم وهم لهذا العهد قد عمروا قراها الخالية
وبلادها اه
____________________
وقال صاحب الخلاصة النقية في أمراء إفريقية ما نصه وفي سنة ست عشرة وألف قدمت
الأمم الجالية من جزيرة الأندلس فأوسع لهم صاحب تونس عثمان داي كنفه وأباح لهم
بناء القرى في مملكته فبنوا نحو العشرين قرية واغتبط بهم أهل الحضرة وتعلموا حرفهم
وقلدوا ترفهم اه ثم قال في نفح الطيب وكذلك خرج طوائف منهم بتطاوين وسلا والجزائر
ولما استخدم سلطان المغرب الأقصى منهم عسكرا جرارا وسكنوا سلا كان منهم من الجهاد
في البحر ما هو مشهور الآن وحصنوا قلعة سلا وبنوا بها القصور والحمامات والدور وهم
الآن بهذا الحال ووصل جماعة منهم إلى القسطنطينية العظمى وإلى مصر والشام وغيرها
من بلاد الإسلام اه كلام نفح الطيب وقوله وحصنوا قلعة سلا يعني بها رباط الفتح إذ
هي يومئذ مضافة إلى سلا ومعدودة منها والله تعالى أعلم استيلاء السلطان زيدان على
فاس وفرار الشيخ بن المنصور عنها إلى العرائش ثم إلى طاغية الإصبنيول
كان الشيخ بن المنصور عفا الله عنه على ما تقدم من قبح السيرة والإساءة إلى الخاصة
والعامة حتى ملته النفوس ورفضته القلوب وضاق أهل فاس بشؤمه ذرعا وكان قد بعث ابنه
عبد الله مرة ثالثة إلى حرب السلطان زيدان بمراكش وأعمالها فخرج عبد الله من فاس
آخر ذي الحجة سنة ست عشرة وألف فالتقى الجمعان بوادي بوركراك فكانت الهزيمة على
عبد الله وفر في رهط من أصحابه وترك محلته بما فيها بيد السلطان زيدان فاستولى
عليها وانضم إليه جيش عبد الله من أهل فاس وغيرهم ميلا إليه ورغبة في صحبته فعفا
عنهم وتألفهم واستفحل أمر السلطان زيدان وتكلم به أهل فاس وسائر بلاد الغرب واتصل
الخبر بالشيخ وعرف أن قلوب الناس عليه فخاف الفضيحة وأصبح غاديا في أهله وحشمه إلى
ناحية العرائش فاحتل
____________________
بالقصر الكبير وهناك لحق به
ابنه عبد الله مهزوما من وقعة بوركراك وانضم إليهما أبو فارس بن المنصور فإنه بعد
فراره من مرس الرماد إلى مسفيوة أقام بها مدة ولما استولى السلطان زيدان على مراكش
كما مر شدد في طلبه ففر إلى السوس ولما أعيت عليه المذاهب وزيدان في طلبه لحق
بشقيقه الشيخ فكان معه إلى هذا التاريخ
ثم إن السلطان زيدان بعث كبير جيشه مصطفى باشا إلى فاس فانتهى إليها ونزل مخيما
بظهر الزاوية ووجد لأصحاب الشيخ زروعا كثيرة فأرسل مصطفى باشا عليها جيشه
فانتسفوها ودخلت فاس في طاعته ثم نهض إلى ناحية القصر الكبير ناويا القبض على
الشيخ وحزبه واتصل بالشيخ خبره ففر إلى العرائش ومنها ركب البحر إلى طاغية
الإصبنيول مستصرخا به على السلطان زيدان وحمل معه أمه الخيزران وبعض عياله وجماعة
من قواده وبطانته وذلك في ذي القعدة سنة سبع عشرة وألف
وانتهى مصطفى باشا إلى القصر الكبير فقبض على من وجد به من أصحاب الشيخ وفر عبد
الله وأبو فارس فنزلا بموضع يقال له سطح بني وارتين فبلغ خبرهما إلى السلطان زيدان
فجاء حتى نزل قبالتهما بموضع يقال له آرورات ففر من كان معهما إلى السلطان زيدان
ولما بقيا أوحش من وتد بقاع فرا إلى دار اليهودي ابن مشعل من بلاد بني يزناسن
فأقاما بها
واختصر صاحب المرآة هذا الخبر فقال كان السلطان أبو المعالي زيدان بن المنصور
التقى مع ابن أخيه عبد الله بن الشيخ صاحب فاس برؤوس الشعاب يوم الخميس السابع
والعشرين من شوال سنة سبع عشرة وألف فانهزم عبد الله بن الشيخ وفر إلى محلة أبيه
بالعرائش ثم رجع إلى جهة فاس وانتهى إلى دار ابن مشعل واستولى عمه السلطان زيدان
على محلته وسار إلى فاس فدخلها وأقام بها اه
وفي دخلة السلطان زيدان هذه إلى فاس قبض على الفقيه القاضي أبي
____________________
الحسن علي بن عمران السلاسي
رحمه الله قال اليفرني في الصفوة كان القاضي المذكور ممن أخذ عن الشيخ القصار وكان
مع ذلك لما ولي القصار الفتوى والخطابة بجامع القرويين يسعى عند السلطان في تأخيره
حتى أخر وولي هو مكانه مدة يسيرة ثم أعيد القصار وكانت بينهما شحناء عظيمة بسبب
فتوى تنازعا فيها ثم أفضت الحال بالقاضي أبي الحسن إلى أن قبض عليه السلطان زيدان
بسبب أنه عثر له على كتاب كتبه إلى بعض إخوته ينتقصه فيه ويوهن أمره فأوغر ذلك قلب
السلطان عليه فسطا به وسجنه ونهب داره وأثاثه ثم سقاه سما على ما قيل فكان فيه
حتفه وقد حكي هذا الخبر في موضع آخر من الصفوة مطولا فقال كان القاضي أبو الحسن
علي بن عمران السلاسي شديد الانحراف عن الشيخ العارف بالله أبي زيد عبد الرحمن بن
محمد الفاسي سيئ الاعتقاد فيه ولم يزل يسعى به ويكيده فاتفق أن اجتمع بالشيخ في
بعض الليالي بعض من يتعاطى العلم فتكلموا في مسائل من صفات الله فنقل كلام الشيخ
إلى القاضي على غير وجهه فأنكر ذلك وركب من حينه إلى السلطان زيدان وهو يومئذ بفاس
منتهزا للفرصة فقال إن ههنا رجلا يعلم الناس البدع ويلقنهم آراء الفرق الضالة فقال
له السلطان من هو قال فلان قال أخو سيدي يوسف قال نعم قال سمعنا أنه أعلم من أخيه
ثم بعث السلطان إليه وهو مستشيط غضبا لخبر بلغه من ثورة بعض أقاربه عليه فجاء
الشيخ أبو زيد ولم يخلع نعله حتى بلغ بساط السلطان فسلم عليه ومد يده فصافحه ثم
تكلموا في المسألة فانقطع القاضي ولم يجد ما يقول إلا أن الناقل لم يحسن نقلها
فقال له الشيخ فهلا تثبت وكان بعض علماء مراكش حاضرا فبالغ في عتاب القاضي وقيل
للشيخ ما سبب الوحشة بينك وبين هؤلاء فقال لا شيء إلا الاستغناء عنهم فقالوا يا
سيدي هذا وصف يوجب الحب فما انفصل الشيخ عن السلطان حتى اطلع على ما يوجب القبض
على القاضي فقبض عليه ونهب داره في الحين فنزل الشيخ من فاس الجديد فلقي أثاث
القاضي في الطريق جيء به منهوبا وبقي في السجن إلى أن مات مسموما رحمه الله وكان
____________________
الأديب الكاتب أبو عبد الله
المكلاثي قد كتب إليه بأبيات يقول فيها ما نصه
( أما لهلال غاب عنا سفور ** فيجلى به خطب دجاه تثور )
( فصبرا لدهر رام يمنحك الأسى ** فأنت عظيم والعظيم صبور )
( سيظهر ما عهدته من جمالكم ** فللبدر من بعد الكسوف ظهور )
( وتحيى رسوم للمعالي تغيرت ** فللميت من بعد الممات نشور )
( أبا حسن إني على الحب لم أزل ** مقيما عليه ما أقام ثبير )
( ففي الفم ماء من بقايا ودادكم ** وذلك عندي سائغ ونمير )
( عليكم سلام الله ما هطل الحيا ** وغنت بأغصان الرياض طيور )
قال منشئها وقد أنشدتها بين يديه بمحبسه فبكى حتى ظننت أنه سيهلك ثم أفاق وقال {
لله الأمر من قبل ومن بعد } الروم 4 فراجعني رضي الله عنه بأبيات يقول فيها
( تفتق عن زهر الربيع سطور ** فما هي إلا روضة وغدير )
( هزمت من الصدر الجريح همومه ** فأنت على جند الكلام أمير )
( محمد هل في العصر غيرك شاعر ** له معكم في الخافقين ظهور )
( فإني على صفو الوداد وإنني ** سأشدوا وقلبي بالهموم كسير )
( متى وعسى يثني الزمان عنانه ** بنهضة جد والزمان عثور )
( فتدرك آمال وتقضي مآرب ** وتحدث من بعد الأمور أمور )
( عليك سلام الله مني فإنني ** غريب بأقصى المغربين أسير )
وكانت وفاة القاضي المذكور رحمه الله في جامع المشور في مهل ربيع الثاني سنة ثمان
عشرة وألف==
4. الاستقصا لأخبار
دول المغرب الأقصى
أبو العباس أحمد بن خالد بن محمد الناصري
سنة الولادة 22/ذو الحجة/ 1250هـ /1835م/ سنة الوفاة
عود عبد الله بن الشيخ إلى فاس
واستيلاؤه عليها ومقتل مصطفى باشا رحمه الله
لما دخل السلطان زيدان حضرة فاس واستولى عليها أقام بها إلى أن دخلت سنة ثمان عشرة
وألف فاتصل به خبر قيام بعض الثوار عليه بناحية مراكش فنهض إليها مزعجا واستخلف
على فاس مولاه مصطفى باشا ولما اتصل خبر نهوضه بعبد الله بن الشيخ وهو بدار ابن
مشعل زحف إلى فاس فيمن انضم إليه فبرز إليه مصطفى باشا وضرب محلته بظاهر فاس من
ناحية باب الفتوح قال في المرآة وعرض لأبي الحسن علي بن يوسف الأندلسي المعروف
بالبيطار غرض من أمور العامة كان يتردد فيه إلى المحلة فركب إليها يوم الاثنين
السابع عشر من ربيع الثاني سنة ثمان عشرة وألف فالتقى الجمعان يومئذ بين الظهرين
فأجلت الحرب عن مقتل مصطفى باشا وفقد أبو الحسن ابن البيطار وقال في النزهة لما
رحل زيدان إلى مراكش بسبب ما بلغه من قيام بعض الثوار عليه هنالك قدم عبد الله بن
الشيخ وعمه أبو فارس إلى فاس فخرج مصطفى باشا لمقاتلتهما فعثر به فرسه وقتل وأخذت
محلته بأسرها وهلك ما لا يحصى من الناس ووقع النهب حتى انتهب من البقر التي تحلب
نحو ستة آلاف ودخل عبد الله بن الشيخ فاسا مع عمه أبي فارس وذلك سابع عشر ربيع
الثاني سنة ثمان عشرة وألف
____________________
تلخيص خبر أبي فارس ومقتله
رحمه الله تعالى
تقدم لنا أن أبا فارس بن المنصور بويع بمراكش وبعث أخاه الشيخ لقتال السلطان زيدان
فنكث الشيخ عهده واستبد عليه ثم بعث إليه ابنه عبد الله فهزمه إلى مسفيوة ثم فر
منها إلى السوس فأقام عند حاجب أبيه عبد العزيز بن سعيد الوزكيتي ثم لما بالغ
زيدان في طلبه فر إلى أخيه الشيخ فلم يزل مع ابنه عبد الله بن الشيخ إلى أن قتل
مصطفى باشا ودخل عبد الله فاسا فاستولى عليها كما ذكرناه آنفا فاتفق رأي قواد
شراكة على قتل عبد الله وتولية عمه أبي فارس فبلغ ذلك عبد الله فدخل على عمه أبي
فارس ليلا مع حاجبه حمو بن عمر فوجده على سجادته وجواريه حوله فأخرجهن وأمر بعمه
فخنق وهو يضرب برجليه إلى أن مات وذلك في جمادى الأولى سنة ثمان عشرة وألف هذا هو
الصواب لا ما في نشر المثاني على اضطرابه فأسف الناس عليه لأنه كان يرده عن
المناكر ويزجره عن كثير من القبائح وذكر في المنتقى أبياتا من إنشاء الكاتب أبي
محمد عبد القادر بن أحمد بن القاسم الفشتالي مما كتب تطريزا على نجاد الواثق بالله
أبي فارس المذكور وهي
( أتيه وأزرى بكل نجاد ** يروق على حلة اللابس )
( إذا كنت يوم الوغى محملا ** لعضب حكى شعلة القابس )
( على عاتق الملك المرتضى ** سليل الوصي أبي فارس )
____________________
عودة السلطان زيدان إلى فاس
واستيلاؤه عليها ثم إعراضه عنها سائر أيامه
لما سمع السلطان زيدان وهو بمراكش بمقتل مصطفى باشا نهض إلى فاس وجاء على طريق
الجبل وكان نصارى الإصبنيول يومئذ قد نزلوا على العرائش وحاولوا الاستيلاء عليها
وذلك بإذن الشيخ كما سيأتي وكان عبد الله بن الشيخ بفاس فسمع بنزول النصارى على
العرائش فاستنفر الناس وحضهم على الجهاد فتهيؤوا لذلك وعزموا على النهوض إليها فما
راعهم إلا السلطان زيدان قد أقبل من ناحية أدخسان وقد أنزل به محتله وتقدم إلى جهة
فاس وضرب بأنفاضه فأنهزم الناس عن عبد الله ودخل شراكة فاسا فبعث زيدان قائده عبد
الصمد لتسكين روعة أهل البلد وأمر المنادي أن ينادي بنصره فنزل المنادي إلى أن بلغ
باب السلسلة فقام في وجهه بعض السياب من أهل العدوة وضربه فجرحه ورجع المنادي وبطل
الأمر فبلغ الخبر السلطان زيدان فأمر بإطلاق السبيل في أهل فاس وتحكيم السيف فيهم
ثم ندم فأمنهم وسكن روعتهم ونزل زيدان بوادي فاس فخرج الناس للقائه وهو غضبان
عليهم وقد استولى على فاس وتمكن منها فأخذ يسب أعيانهم وهم بقتلهم ولكن الله سلم
ثم إن العرب اجتمعوا عند قنطرة المهدومة في نحو ثمانية آلاف فخرج إليهم زيدان ومعه
عرب الشرق فانهزموا عنه ولم يبق معه إلا رهط يسير فرأى زيدان أمامه خيلا قليلة
فقصدها فإذا فيها عبد الله بن الشيخ وقد رأى زيدان مقبلا إليه ففر مع أن زيدان
إنما قصد الفرار إليه من غير علم له به فاستتب أمر زيدان وتراجع إليه أصحابه ومن
الغد رجع إلى فاس فخرج إليه أهل فاس يهنئونه كبارا وصغارا فاتهمهم بأنهم يستهزئون
به فأمر بهم فسلبوا رجالا ونساء فكان بعضهم ينظر إلى عورة بعض وكان عدد السلب نحو
عشرة
____________________
آلاف كسوة ودخل أصحاب زيدان
فاسا فنهبوها وفعلوا فيها الأفاعيل ثم أمر زيدان بتسكين الروعة والأمان وكان ذلك
كله سادس رجب سنة تسع عشرة وألف فلما كان اليوم الحادي عشر من الشهر المذكور نزل
عبد الله بن الشيخ برأس الماء فخرج إليه زيدان واقتتلوا فانهزم زيدان وقتل من
أصحابه نحو الخمسمائة وفر إلى محلته التي ترك بأدخسان وكان ذلك آخر رجوع زيدان إلى
فاس فإنه لما أعياه أمر الغرب أعرض عنه وصرف عنايته إلى ضبط ما خلف وادي أم الربيع
إلى مراكش وأعمالها وتوارث بنوه سلطنته على ذلك النحو من بعده وبقي عبد الله بن
الشيخ يقطع الأيام بفاس إلى أن هلك وقام بأمر فاس من بعده ثوارها وسيابها على ما
نذكر وفي كتاب ابتهاج القلوب في أخبار الشيخ المجذوب ما صورته تكلم الشيخ سيدي
كدار يوما في ملوك وقته فقال أما الشيخ معطي العرائش فإن أهل الله قد دقوا أوتاده
هنالك حتى يموت فلم يتجاوز محله إلى أن قتل به حوز تطاوين كما سيأتي وأما زيدان
فإنه لما أطلق السبيل في أهل فاس ضربه مولاي إدريس بركلة صيرته وراء أم الربيع فلم
يتجاوزه بعد ذلك اه
____________________
استيلاء نصارى الإصبنيول على
العرائش والسبب في ذلك
قد تقدم لنا ما كان من خبر الشيخ المأمون من أنه فر إلى العرائش ومنها ركب البحر
إلى طاغية الإصبنيول مستصرخا به على أخيه السلطان زيدان فأبى الطاغية أن يمده
فراوده الشيخ على أن يترك عنده أولاده وحشمه رهنا ويعينه بالمال والرجال حتى إذا
ملك أمره بذل له ما شارطه عليه ولم يزل به إلى أن شرط عليه الطاغية أن يخلي له
العرائش من المسلمين ويملكه إياها فقبل الشيخ ذلك والتزمه وخرج حتى نزل حجر باديس
في ذي الحجة سنة ثمان عشرة وألف ثم تقدم فنزل ببلاد الريف
ولما سمع ذلك أهل فاس خافوا من شوكته وذهب جمع من علمائهم وأعيانهم كالقاضي أبي
القاسم بن أبي النعيم والشريف أبي إسحاق إبراهيم الصقلي الحسيني وغيرهما لملاقاته
وتهنئته بالقدوم فلما وصلوا إليه فرح بهم وأمر قبطان النصارى أن يخرج مدافعه
وأنفاضه إرهابا وإظهارا لقوة النصارى الذين استنصر بهم ففعل حتى اصطكت الآذان
وارتجت الجبال ونزل القبطان من السفينة للسلام على الأعيان فلما رأوه مقبلا أمرهم
الشيخ بالقيام له فقاموا إليه أجمعون وجازوه خيرا على ما فعل مع الشيخ من الإحسان
والنصرة وسلم هو عليهم بنزع قلنسوته على عادة النصارى وأنكر الناس على أولئك
الأعيان قيامهم للكافر وضربوا بعصى الذل حتى أنهم في رجوعهم إلى فاس تعرض لهم عرب
الحياينة فسلبوهم وأخذوا ما معهم وجردوهم من ملابسهم جميعا ما عدا القاضي ابن أبي
النعيم فإنه عرف بزي القضاء فاحترموه
ثم إن الشيخ انتقل إلى القصر الكبير وهو قصر كتامة وقصر عبد الكريم فأقام به مدة
وراود قواده ورؤساء جيشه أن يقفوا معه في تمكين النصارى من العرائش ليفي له
الطاغية بما وعده من النصرة فامتنع الناس من إسعافه في
____________________
ذلك ولم يوافقه على غرضه إلا
قائده الكرني فإنه ساعده على ذلك فبعثه الشيخ إليها وأمره أن يخليها ولا يدع بها
أحدا من المسلمين فذهب الكرني المذكور وكلم أهلها في ذلك فامتنعوا من الجلاء عنها
فقتل منهم جماعة وخرج الباقون وهم يبكون تخفق على رؤوسهم ألوية الصغار
ولما خرج منها المسلمون أقام بها القائد الكرني إلى أن دخلها النصارى واستولوا
عليها في رابع رمضان سنة تسع عشرة وألف ووقع في قلوب المسلمين من الامتعاض لأخذ
العرائش أمر عظيم وأنكروا ذلك أشد الإنكار وقام الشريف أبو العباس أحمد بن إدريس
العمراني ودار على مجالس العلم بفاس ونادى بالجهاد والخروج لإغاثة المسلمين
بالعرائش فانضاف إليه أقوام وعزموا على التوجه لذلك ففت في عضدهم قائدهم حمو
المعروف بأبي دبيرة وصرف وجوهم عما قصدوه في حكاية طويلة
وكان الشيخ لما خاف الفضيحة وأنكار الخاصة والعامة عليه إعطاءه بلدا من بلاد
الإسلام للكفار احتال في ذلك وكتب سؤالا إلى علماء فاس وغيرها يذكر لهم فيه أنه
لما وغل في بلاد العدو الكافر واقتحمها كرها بأولاده وحشمه منعه النصارى من الخروج
من بلادهم حتى يعطيهم ثغر العرائش وأنهم ما تركوه خرج بنفسه حتى ترك لهم أولاده
رهنا على ذلك فهل يجوز له أن يفدي أولاده من أيدي الكفار بهذا الثغر أم لا فأجابوه
بأن فداء المسلمين سيما أولاد أمير المؤمنين سيما أولاد سيد المرسلين صلى الله
عليه وسلم
____________________
من يد العدو الكافر بإعطاء بلد
من بلاد الإسلام له جائز وإنا موافقون على ذلك ووقع هذا الاستفتاء بعد أن وقع ما
وقع وما أجاب من أجاب من العلماء عن ذلك إلا خوفا على نفسه وقد فر جماعة من تلك
الفتوى كالإمام أبي عبد الله محمد الجنان صاحب الطرر على المختصر وكالإمام أبي
العباس أحمد المقري مؤلف نفح الطيب فاختفيا مدة استبراء لدينهما حتى صدرت الفتوى
من غيرهما وبسبب هذه الفتوى أيضا فر جماعة من علماء فاس إلى البادية كالشيخ أبي
علي الحسن الزياتي شارح جمل ابن المجراد والحافظ أبي العباس أحمد بن يوسف الفاسي وغيرهما
بقية أخبار الشيخ ومقتله رحمه الله وتجاوز عنه
ثم إن الشيخ ابن المنصور نزل بالفحص واجتمعت عليه لمة من أهل الذعارة والفساد على
شاكلته فنهض بهم إلى تطاوين فاستولى عليها وأخرج منها كبيرها المقدم المجاهد أبا
العباس أحمد النقسيس ولم يزل الشيخ يجول في بلاد الفحص ويعسف أهلها إلى أن ملته
القلوب وتمالأ أشياخ الفحص على قتله لما رأوا من انحلال عقيدته ورقة ديانته
وتمليكه ثغر الإسلام للكفار ففتك به المقدم أبو الليف في وسط محلته بموضع يعرف بفج
الفرس وبقي صريعا مكشوف العورة أياما حتى خرج جماعة من أهل تطاوين فحملوه مع من
قتل معه من أصحابه كالدبيريين وبعض أولاده ودفنوهم خارج تطاوين إلى حمل الشيخ إلى
فاس الجديد مع أمه الخيزران فدفنا به وكان مقتله خامس رجب سنة اثنتين وعشرين وألف
____________________
وقال منويل إنه وصل إلى قرب تطاوين وبنى هنالك أفراكا وأقام ينتظر اجتماع الجيوش
عليه ثم سكر ذات يوم على عادته وخرج إلى عين ماء هنالك فاستلقى قربها في نبات أخضر
أعجبته خضرته فجاءه أناس من أهل تلك البلدة فعرفوه وشدخوا رأسه بصخرة فقتلوه ويقال
إن قتله كان بإشارة الثائر أبي محلي الآتي ذكره وإنه كتب إلى المقدمين النقسيس
وأبي الليف يحضهما على قتله فقتلوه وانتهبوا ماله وكان شيئا كثيرا ومن جملة ما نهب
منه نحو المد من الياقوت وبقي من أثاثه نحو وسق سفينة كان قد تركه بطنجة فاستولى
عليه نصاراها من البرتغال لما قتل وكان للشيخ عفا الله عنه مشاركة في العلم ويد في
مبادئ الطب أخذ عن أشياخ الحضرتين وله شعر متقارب ومن كتابه الأديب المتفنن أبو
العباس أحمد بن محمد الغرديس التغلبي وكان من أهل الإجادة والتبريز في صناعة
الإنشاء قال الشيخ أبو محمد العربي الفاسي في شرحه لدلائل الخيرات عند قوله وكان
لي جار نساخ ما نصه وقد كان الشيخ الكاتب الرئيس أبو العباس أحمد الغرديس شيخ كتاب
الإنشاء بحضرة فاس رحمه الله استعار مني كتاب الأنباء في شرح الأسماء للإقليشي ثم
مرض مرض موته فعدته فوجدت الكتاب عند رأسه ومعه كراريس منسوخة وأخرى معدة للنسخ
فقال لي إني إذا وجدت راحة كتبت منه ما قدرت عليه فإذا غلبني ما بي أمسكت فقال له ولم
تتكلف هذا فقال إني عصيت الله بهذه الأصابع ما لا أحصيه فرجوت أن يكون ما أعانيه
على هذه الحال من نسخ هذا الكتاب خاتمة عملي وكفارة لذلك فكمل الله قصده وأتم
الكتاب وتوفي من مرضه ذلك وقد طال به سنة عشرين والف اه ولهذا الكاتب يقول الشاعر
( تمتعت يا غرديس والدهر راقد ** وأنت بفاس وابن حيون واجد )
( بسعدك راحت خيزران لقبرها ** مصائب قوم عند قوم فوائد )
____________________
رياسة ولي الله تعالى أبي عبد
الله سيدي محمد العياشي على الجهاد ومبدأ أمره في ذلك
هذا الرجل هو ولي الله تعالى المجاهد في سبيله أبو عبد الله محمد فتحا ابن أحمد
المالكي الزياني المعروف بالعياشي ونسبته إلى بني مالك ابن زغبة الهلاليين وهم
اليوم قبيلة من عرب الغرب كان رحمه الله مستوطنا مدينة سلا وكان من تلامذة الولي
العارف بالله تعالى أبي محمد عبد الله بن حسون السلاسي دفين سلا
وكان ابتداء أمر أبي عبد الله أنه كان ملازما لشيخه المذكور من أقرب التلامذة إليه
وأسرعهم إلى خدمته وأولهم دخولا عليه وآخرهم خروجا عنه وكان مع ذلك كثير الورع
قليل الكلام مديما للصيام وقراءة القرآن فكان الشيخ ابن حسون ملتفتا إليه ولم يزل
الأمر على ذلك إلى أن شاعت مناقب الشيخ وكثر غاشيه فأهدى له يوما بعض أشياخ
القبائل فرسا فأمر الشيخ بإسراجه وقال أين محمد العياشي فقال ها أنا ذا يا سيدي
فقال الشيخ اركب بحول الله فرسك ودنياك وآخرتك فتفهقر تأدبا فحلف عليه ليركبن وحبس
له الركاب بيده وقال له ارتحل عني إلى آزمور وانزل على أولاد أبي عزيز ولا بد لك
من الرجوع إلى هذه البلاد وسيكون لك شأن عظيم فودعه أبو عبد الله ووضع الشيخ يده
على رأسه وبكى ودعا له بخير فقصد ناحية آزمور ونزل حيث عين له شيخه المذكور وذلك
لأول دولة السلطان زيدان سنة ثلاث عشرة وألف فلم يزل أبو عبد الله العياشي مثابرا
على الجهاد شديد الشكيمة على العدو عارفا بوجوه المكايد الحربية بطلا شهما مقداما
في مواطن الإحجام وقورا صموتا عن الكلام فطار بذلك في البلاد صيته وشاع بين الناس
ذكره لما هو عليه من
____________________
التضييق على نصارى الجديدة
وكانوا يومئذ قد أمر أمرهم ففرح بذلك قائد آزمور ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن
توفي قائد الفحص والبلاد الآزمورية فسأل السلطان زيدان عمن يليق بتولية ذلك الثغر
فقيل له سيدي محمد العياشي فكتب إليه بالتولية فقبل ونهض بأعباء ما حمل من ولاية
الفحص وجهاده
وكانت له مع نصارى الجديدة وقائع وضيق عليهم حتى منعهم من الحرث والرعي فبعث
النصارى إلى حاشية السلطان زيدان بالتحف ونفائس الهدايا ليعزلوا عنهم أبا عبد الله
المذكور لمضايقته لهم فخوفوا السلطان زيدان عاقبته وحضوه على عزله وأظهروا له أنه
مسموع الكلمة في تلك النواحي وأنه يخشى على الدولة منه وكان أبو عبد الله العياشي
كلما بعث بالغنائم وما يفتح الله به عليه من الأسارى إلى مراكش ازدادت شهرته
وتناقل الناس حديثه فوغر بذلك قلب زيدان وحنق عليه فبعث إليه قائده محمد السنوسي
في أربعمائة فارس وأمره بالقبض عليه وقتله وألقى الله في قلب القائد المذكور
الشفقة عليه لما يعلم من براءته مما قذف به فبعث إليه خفية أن أنج بنفسك فإنك
مغدور فخرج أبو عبد الله العياشي في أربعين رجلا فرسانا ومشاة قاصدين سلا فاستقر
بها سنة ثلاث وعشرين وألف ولما انتهى السنوسي إلى آزمور ولم يجد له أثرا أظهر
العناية بالبحث عنه وعاقب شرذمة من أهل الفحص على إفلاته تعمية على السلطان وإقامة
لعذره عنده فقبل السلطان زيدان ذلك والله غالب على أمره
____________________
ثورة الفقيه أبي العباس أحمد
بن عبد الله السجلماسي المعروف بأبي محلي
قال في كتابه أصليت الخريت ما ملخصه كانت ولادتي سنة سبع وستين وتسعمائة بسجلماسة
والذي تلقيته من أبي وكافة عمومتي أن أولاد أبي محلي من ذرية العباس بن عبد المطلب
رضي الله عنه وأما جدنا الأشهر المكنى بأبي محلي فتح الميم والحاء وكسر اللام
المشددة بعدها ياء تحتية ساكنة مع كبير شهرته لا علم لي الآن بسبب تكنيته بذلك ولا
بتفاصيل أحواله بعد البحث عنه قال وبخطة القضاء اشتهر نسبنا فنعرف بأولاد القاضي
وزاويتنا بزاوية القاضي ولم تزل بقية العلم في دورنا وخصوصا دار أبي اه
وقال صاحب البستان أبو محلي هذا اسمه أحمد بن عبد الله وينتسب إلى بني العباس
ويعرفون في سجلماسة بأولاد ابن اليسع أهل زاوية القاضي انتهى قلت أما الانتساب إلى
العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقد أنكر ابن خلدون وجود النسبة العباسية في
المغرب قال في فصل اختلاط الأنساب وما بعده ما نصه ولم يعلم دخول أحد من العباسيين
إلى المغرب لأنه كان منذ أول دولتهم على دعوة العلويين أعدائهم من الأدارسة والعبيديين
فكيف يسقط العباسي إلى أحد من شيعة العلويين اه ثم قال أبو محلي في الكتاب المذكور
فلما نشأت في حجر والدي بذل مجهوده في تعليمي وقد كانت أمي رأت وهي حامل بي وليا
من أولياء الله تعالى أحد شيوخ التربية ببلدنا وهو الشيخ أبو الحسن علي بن عبد
الله السجلماسي قد سقاها قدحا من لبن وأرجو الله صدق تأويلها بالعلم والدين وحق
اليقين قال وكان خروجي لطلب العلم بفاس في حدود
____________________
الثمانين وتسعمائة وأنا يومئذ
مراهق أو بالغ الحلم لا همة لي إلا في العلم فأقمت بفاس نحو خمس سنين إلى أن جاء
النصارى إلى وادي المخازن فدهش الناس واستشرت أخا من الطلبة فدلني على الخروج إلى
البادية حتى ينجلي نهار الأمن فخرجت إلى كريكرة فحفظت فيها الرسالة وقد كنت ما
حصلت بفاس إلى النحو ثم رجعت إلى فاس بعد أن زال الدهش بهزيمة النصارى وولاية
المنصور والنحو صنعتي وفي الفقه رغبتي
وقد كنت في الخرجة الأولى إلى البادية زرت قبر الشيخ أبي يعزى رضي الله عنه فطلبت
الله عنده أن أكون من الراسخين في العلوم بأسرها وتوبة يتقبلها فما دار علي الحول
إلا وأنا بزاوية الشيخ أبي عبد الله سيدي محمد بن مبارك الزعري لا عن قصد لكوني إذ
ذاك مولعا بالعلم أما طريق الفقر فلا تخطر لي ببال لأن المعتمد يومئذ في فقراء
الوقت أخلاق الضلال فكنت أشد الناس حذرا منهم إلى أن انكشف الستر فرأيت ما رأيت
ووعيت فصاحبت شيخي الذي لولاه مع فضل الله لهلكت ولولا هدايته بإذن الله لضللت
أعني أبا عبد الله مولاي محمد بن مبارك الزعري القبيل الجراري السبيل وهو رضي الله
عنه من قبيلة عرب بالمغرب يقال لهم زعير بصيغة التصغير والنسب إليها زعرى على
التكبير وهي قبيلة من عرب السوس بالمغرب الأقصى قال فبقيت في صحبة شيخي المذكور
نحوا من ثمان عشرة سنة وما فارقته إلا عن أمره إذ هو الذي وجهني إلى بلدي سجلماسة
من غير اختيار قائلا لي صلاحهم فيك ثم ناولني عصاه وبرنسه ونعله من غير طلب مني
لشيء من ذلك وجعل في رأسي قلنسوة كالخرقة بيده اليمنى عند الوداع فلما استوطنت
بلدي عن إذنه زرته منه إحدى عشرة مرة وفي الأخيرة منها وذلك بعد مقفلي من الحجة
الأولى التي كانت سنة اثنتين بعد الألف دعا لي بقوله بلاك الله أكثر مما بلاني
فتأولتها بإقبال الخلق كما ترى وقد صاح عندها صيحة عظيمة لم أر مثلها منه منذ
____________________
صحبته إذ عادته كانت الطمأنينة
ولما توفي رحمه الله بقيت نحوا من ثلاث سنين عاطلا ثم تحلى النحر بدرر لطائفه الموعود
بها فله الحمد على ما أسدى وله الشكر فيما أولى ثم ذكر بقية أشياخه كالشيخ أبي
العباس المنجور والشيخ أبي العباس السوداني والشيخ سالم السنهوري وغيرهم ممن يطول
ذكرهم قال ثم كملت الفائدة بعد المقفل من الحج فرجعت إلى الديار المغربية ونزلت
بوادي الساورة ثم تحولت بجميع عيالي إلى الوادي المذكور هذا ملخص أوليته منقولا من
كتابه المذكور
وقال الشيخ أبو العباس أحمد التواتي رحمه الله تعالى في رسالته التي سماها مقامة
التحلي والتخلي من صحبة الشيخ أبي محلي وهي رسالة طويلة مسجعة قال كان الفقيه أبو
محلي في أول أمره فقيها صرفا ثم انتحل طريقة التصوف مدة حتى وقع على بعض الأحوال
الربانية ولاحت له مخايل الولاية فانحشر الناس لزيارته أفواجا وقصدوه فرادى
وأزواجا وبعد صيته وكثرت أتباعه قال فلما سمعت بذلك ذهبت إليه وجلست عنده إلى أن
وجدته يشير إلى نفسه بأنه المهدي المعلوم المبشر به في صحيح الأحاديث فتركته وراء
ونبذته بالعراء اه
وقال الشيخ اليوسي في محاضراته وقد تكلم على الدعوى الفاطمية ما نصه وممن ابتلي
بها قريبا أحمد بن عبد الله بن أبي محلي التستاوتي خاض في الطريق حتى حصل له نصيب
من الذوق وألف فيها كتابا يدل على ذلك ثم نزغت به هذه النزغة فحدثونا أنه كان في
أول أمره معاشرا لمحمد بن أبي بكر الدلائي وكان البلد إذ ذاك قد كثرت فيه المناكر
وشاعت فقال ابن أبي محلي لابن أبي بكر ذات ليلة هل لك في أن نخرج غدا إلى الناس
فنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر فلم يساعفه لما رأى من تعذر ذلك لفساد الوقت
وتفاقم الشر فلما أصبحا خرجا فأما ابن أبي بكر فانطلق إلى ناحية النهر فغسل ثيابه
وازال شعثه بالحلق وأقام صلاته وأوراده في أوقاتها
____________________
وأما ابن أبي محلي فتقدم لما
هم به من الحسبة فوقع في شر وخصام أداه إلى فوات الصلاة عن الوقت ولم يحصل على طائل
فلما اجتمعا بالليل قال له ابن أبي بكر أما أنا فقد قضيت مآربي وحفظت ديني وانقلبت
في سلامة وصفاء ومن أتى منكرا فالله حسيبه أو نحو هذا من الكلام وأما أنت فانظر ما
الذي وقعت فيه ثم لم ينته إلى أن ذهب إلى بلاد القبلة ودعا لنفسه وادعى أنه المهدي
المنتظر وأنه بصدد الجهاد فاستخف قلوب العوام واتبعوه اه
وصار ابن أبي محلي يكاتب رؤساء القبائل وعظماء البلدان يأمرهم بالمعروف ويحضهم على
الاستمساك بالسنة ويشيع أنه الفاطمي المنتظر وأن من تبعه فهو الفائز ومن تخلف عنه
فموبق وربما كان يقول لأصحابه محرضا لهم على نصرته أنتم أفضل من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم لأنكم قمتم بنصر الحق في زمن الباطل وهم قاموا به في زمن الحق ونحو
هذا من زخارف كلامه وإلى ذلك أشار الفقيه أبو زكرياء يحيى بن عبد المنعم الحاحي في
بعض قصائده معرضا بأبي محلي المذكور فقال
( يا أمة المصطفى الهادي أليس لكم ** فيمن مضى أسوة من سائر العلما )
( نسيتم دين خير الخلق وافترقت ** آراؤكم فغدا الإسلام منقسما )
( أتحسبون بأن الله تارككم ** سدى وخلقكم قد تعلمون لما )
( ناشدتكم بالذي في العرض يجمعنا ** أما فطنتم ومالاه كمن فهما )
( بأن مغربكم قد عمه سخط ** من المهيمن يا لله معتصما )
( إن قيل للناس إن الهرج يوبقكم ** قالوا الفقيه فلان قبلنا اعتزما )
( لو لم يكن جاز ما أفتى الإمام به ** ولا أتاه ألا تبنوا الذي انهدما )
( ومن يقل قال خير الخلق قيل له ** ها صاحب الوقت يكفينا الذي علما )
( ونحن أفضل من صحب الرسول لنا ** أجر يضاعف في أجفارنا نظما )
( وزخرفوا ترهات القول فانفعلت ** لهم نفوس عوام رشدها عدما )
____________________
نهوض ابن أبي محلي إلى سجلماسة
ودرعة واستيلاؤه عليها ثم على مراكش بعدهما
كان أبو العباس بن أبي محلي عفا الله عنه لما كثرت جموعه وانثال الناس عليه يصرح
بوجوب القيام بتغيير المنكر الذي شاع في الناس ويقول إن أولاد المنصور قد تهالكوا
في طلب الملك حتى فنى الناس فيما بينهم وانتهبت الأموال وانتهكت المحارم فيجب
الضرب على أيديهم وكسر شوكتهم ولما بلغه ما فعل الشيخ من إجلاء المسلمين عن
العرائش وبيعها للعدو الكافر استشاط غضبا وأظهر انه غضب لله لا لشيء سواه فخرج يؤم
سجلماسة وكان خليفة زيدان عليها يومئذ يسمى الحاج المير فخرج عامل زيدان لمصادمته
وهو في نحو أربعة آلاف وابن أبي محلي في نحو أربعمائة فلما التقى الجمعان كانت
الدبرة على جيش زيدان وأشاع الناس أن الرصاص يقع على أصحاب أبي محلي باردا لا
يضرهم ونفخ الشيطان في هذه الفرية فسكنت هيبته في القلوب وتمكن ناموسه منه ولما
دخل سجلماسة أظهر العدل وغير المناكر فأحبته العامة وقدمت عليه وفود أهل تلمسان
والراشدية يهنئونه وفيهم الفقيه العلامة أبو عثمان سعيد الجزائري المعروف بقدورة
شارح السلم وهو من تلامذة ابن أبي محلي كما ذكره في الأصليت ولما بلغ خبر الهزيمة
إلى زيدان وانتهى إليه فلها جهز إليه من مراكش جيشا وأمر عليه أخاه عبد الله بن
المنصور المعروف بالزبدة فسمع به أبو محلي فسار إليه فكان اللقاء بينهما بدرعة
فوقعت الهزيمة على عبد الله بن المنصور ومات من أصحابه نحو الثلاثة آلاف فقوي أمر
ابن أبي محلي واشتدت شوكته وجمع بين سجلماسة ودرعة وكان القائد يونس الأيسي قد هرب
من زيدان لأمر نقمه عليه وقصد إلى أبي محلي فجاء معه يقوده ويطلعه على عورات زيدان
ويهون عليه أمره وما زال به إلى أن أتى به
____________________
إلى مراكش فبعث إليه زيدان
جيشا كثيفا فهزمه أبو محلي وتقدم فدخل مراكش واستولى عليها وفر زيدان إلى ثغر آسفي
وهم بركوب البحر إلى بر العدوة هكذا في النزهة
وذكر الوزير البرتغالي في كتابه الموضوع في أخبار الجديدة إن نصارى الجديدة بعثوا
إلى السلطان زيدان بمائتين من مقاتلتهم إعانة له على عدوه من غير أن يطلب منهم ذلك
فلما وصلوا إليه أنف من الاستعانة بهم على المسلمين لكنه أحسن إليهم وأطلق لهم بعض
أسراهم وردهم مكرمين هذا كلامه والحق ما شهدت به الأعداء وذلك هو الظن بزيدان رحمه
الله
ولما دخل أبو محلي قصر الخلافة بمراكش فعل فيه ما شاء وولد له هنالك مولود سماه
زيدان ويقال إنه تزوج أم زيدان وبنى بها ودبت في رأسه نشوة الملك ونسي ما بنى عليه
أمره من الحسبة والنسك
وفي المحاضرات للشيخ اليوسي رحمه الله ما صورته وزعموا أن إخوانه من الفقراء ذهبوا
إليه حين استولى على مراكش برسم زيارته وتهنئته فلما كانوا بين يديه أخذوا يهنئونه
ويفرحون له بما حاز من الملك وفيهم رجل ساكت لا يتكلم فقال له ما شأنك لا تتكلم
وألح عليه في الكلام فقال الرجل أنت اليوم سلطان فإن أمنتني على أن أقول الحق قلته
قال له أنت آمن فقل فقال إن الكرة التي يلعب بها الصبيان يتبعها المائتان وأكثر من
خلفها وينكسر الناس وينجرحون وقد يموتون ويكثر الصياح والهول فإذا فتشت لم يوجد
فيها إلا شراويط أي خرق باليه ملفوفة فلما سمع ابن أبي محلي هذا المثل وفهمه بكى
وقال رمنا أن نجبر الدين فأتلفناه انتهى
____________________
استصراخ السلطان زيدان بأبي
زكرياء يحيى بن عبد المنعم الحاحي ومقتل أبي محلي رحمه الله
لما التف الرعاع من العامة على أبي محلي وكثرت جموعه وعلم زيدان ضعفه عن مقاومته
كتب إلى الفقيه أبي زكرياء يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد المنعم الحاحي ثم
الداودي مستغيثا به ثم وفد عليه بنفسه وكان يحيى بزاوية أبيه من جبل درن وله شهرة
عظيمة بالصقع السوسي وله أتباع فأتاه السلطان زيدان وقال له إن بيعتي في أعناقكم
وأنا بين أظهركم فيجب عليكم الذب عني ومقاتلة من ناوأني فلبي أبو زكرياء دعوته
وحشر الجيوش من كل جهة وخرج يؤم مراكش في ثامن رمضان سنة اثنتين وعشرين وألف
ولما انتهى إلى فم تانوت موضع على مرحلتين من مراكش كتب إليه أبو محلي بما نصه بسم
الله الرحمن الرحيم من أحمد بن عبد الله إلى يحيى بن عبد الله أما بعد فقد بلغني
أنك جندت وبندت وفي فم تانوت نزلت اهبط إلى الوطاء ينكشف بيننا الغطاء فالذئب ختال
والأسد صوال والأيام لا تستقيم إلا بطعن القنا وضرب الحسام والسلام فأجابه يحيي
بما نصه من يحيى بن عبد الله إلى أحمد بن عبد الله أما بعد فليست الأيام لي ولا لك
إنما هي للملك العلام وقد أتيتك بأهل البنادق الأحرار من الشبانة ومن انتمى إليهم
من بني جرار ومن أهل الشرور والبؤس من هشتوكة إلى بني كنسوس فالموعد بيني وبينك
جيليز هنالك ينتقم الله من الظالم ويعز العزيز
ثم زحف يحيى إلى مراكش في جموعه فنزل بقرب جيليز جبل مطل على مراكش وبرز إليه أبو
محلي والتحم القتال بينهما فكانت أول رصاصة في نحر أبي محلي فهلك مكانه وانذعرت
جموعه ونهبت محلته واحتز
____________________
رأسه وعلق على سور مراكس فبقي
معلقا هنالك مع رؤوس جماعة من أصحابه نحوا من اثنتي عشرة سنة وحملت جثته فدفنت
بروضة الشيخ أبي العباس السبتي تحت المكتب المعلق هنالك عند المسجد الجامع وزعم
أصحابه أنه لم يمت ولكنه تغيب
قال اليفرني وحدثني من أثق به من أهل وادي الساورة أن فيهم إلى الآن من هو على هذا
الاعتقاد
وذكر الشيخ اليوسي في المحاضرات أن أبا محلي كان ذات يوم عند أستاذه ابن مبارك
فورد عليه وارد حال فتحرك وجعل يقول أنا سلطان أنا سلطان فقال له الأستاذ يا أحمد
هب أنك تكون سلطانا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ووقع في يوم آخر
للفقراء سماع فتحرك أبو محلي وجعل يقول أنا سلطان أنا سلطان فتحرك فقيرا آخر وجعل
يقول ثلاث سنين غير ربع ثلاث سنين غير ربع قال وهذه هي مدة ملكه اه
ويذكر انه لما طاف بالبيت في وجهته الحجازية سمع وهو يقول يا رب إنك قلت وقولك
الحق { وتلك الأيام نداولها بين الناس } آل عمران 140 فاجعل لي يا رب دولة بينهم
قالوا ولم يسأل حسن العاقبة فرزق الدولة وآل به الأمر إلى ما أبرمته يد القدرة
وكان أبو محلي رحمه الله فقيها محصلا له قلم بليغ ونفس عال وله تآليف منها الوضاح
والقسطاس والأصليت والهودج ومنجنيق الصخور في الرد على أهل الفجور وجواب الخروبي
عن رسالته الشهيرة لأبي عمرو القسطلي وغير ذلك وقد وقعت بينه وبين يحيى بن عبد
الله مراسلات ومهاجيات نظما ونثرا كقوله
( أيحيى الخسيس النذل مالك تدعي ** بزور شعارا للفحول الأوائل )
( كدعواك في بيت النبوة نسبة ** وأنت دنيء من أخس القبائل )
( ووجهك وجه القرد قبح صورة ** ورأسك رأس الديك بين المزابل )
____________________
ويزعمون أن يحيى كان معاشرا
لأبي محلي أيام الطلب بالمدرسة بفاس قال اليفرني وحدثني صاحبنا القاضي أبو زيد
السكتاني أنه وقف على تأليف كبير مشتمل على ما وقع بين يحيى وأبي محلي من الشعر في
غرض الهجاء وغيره
وقد رمز تاريخ ثورة أبي محلي ووفاته الشيخ الفقيه أبو العباس أحمد المريدي
المراكشي فقال قام طيشا ومات كبشا ولا يخفى ما فيه بعد إفادة التاريخ من حسن
التلميح وبديع التورية ولما قتل ابن أبي محلي دخل يحيى مراكش واستقر بدار الخلافة
منها وألقى بها عصا تسياره ورام أن يتخذها دار قراره فكتب إليه السلطان زيدان يقول
أما بعد فإنا كنت إنما جئت لنصرتي وكف يد ذلك الثائر عني فقد أبلغت المراد وشفيت
الفؤاد وإن كنت إنما رمت أن تجر النار لقرصك وتجعل الملك من قنصك فأقر الله عينك
به والسلام فتجهز يحيى للعود إلى وطنه وأظهر العفة عن الملك وأنه إنما جاء ليدافع
عن السلطان الذي بيعته في عنقه وانقلب إلى بلاده ورجع زيدان إلى مراكش فاستقر بدار
ملكه وقد قيل إن يحيى رام الملك وأن أجناده من البربر لم يساعدوه في قصة طويلة
والله أعلم
____________________
بقية أخبار أبي زكرياء يحيى بن
عبد المنعم الحاحي وما دار بينه وبين السلطان زيدان رحمه الله
هو يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد المنعم الحاحي الداودي المناني وكان جده سعيد
واحد وقته علما ودينا وهو الذي أحيا الله به السنة بالسوس وانتعش به الإسلام فيه
وتوفي سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة فخلفه ولده أبو محمد عبد الله وجرى على نهجه
وسبيله بل كان بعض الناس يفضله على أبيه وتوفي سنة اثنتي عشرة وألف ودفن بزداغة من
جبل درن حيث كانت زاويته ولما مات جلس ولده أبو زكرياء يحيى موضعه وانتهج سبيله
وكان فقيها مشاركا رحل إلى فاس وأخذ عن شيوخها كالمنجور وغيره وعن الشيخ العارف
بالله أبي العباس أحمد الحسني على ما وجد بخطه السوساني الشهير بأدفال دفين درعة
وهو معتمده أخذ عنه كثيرا من الفنون وأجازه في علوم الحديث إجازة عامة وكان يحيى
شاعرا محسنا وكانت له شهرة عظيمة بالصلاح وله أتباع كوالده وجده وتوجهت إلى زيارته
الهمم وركبت إليه النجائب إلا أنه وقع له قريب مما وقع لأبي محلي فتصدى للملك وخاض
في أمور السلطنة فتكدر مشربه وقد قال بعض العلماء إن الرياسة إذا دخلت قلب رجل لا
تقصر عن إذهاب رأسه ولذلك قال صاحب الفوائد في حقه إنه قام لجمع
____________________
الكلمة والنظر في مصالح الأمة
فاستمر به علاج ذلك إلى أن توفي ولم يتم له أمر وكان يراسل السلطان زيدان ويكثر
عليه ويجير عليه من استجار به ويروم إلى مناصحته ابتغاء ويحسو من ذلك حسوا في
ارتغاء وكان زيدان يتحمل منه أمرا عظيما فمما كتب به يحيى إليه ما نصه من يحيى بن
عبد الله بن سعيد بن عبد المنعم كان الله له بجميل لطفه آمين اللهم إنا نحمدك على
كل حال ونشكرك يا ولي المؤمنين على دفع اللاواء والمحال و صلى الله عليه وسلم
ونستوهبك يا مولانا جميل لطفك وجزيل فضلك في المقام والترحال عائذين بوجهك الكريم
من مؤاخذتنا بسوء أعمالنا يا شديد المحال هذا وسلام الله الأتم ورضوانه الأعم
ورحمته وبركاته على المولى الإمام العلم المقدام العلوي الهمام كيف أنتم وكيف
أحوالكم مع هذا الزمان الذي شمر عن ساقه لسلب الأديان وألح في اقتضاء هواه على كل
مديان فإنا لله ولا حول ولا قوة إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل وبعد فالباعث به
إليكم في هذه البطاقة أمور ثلاثة مدارها على قوله صلى الله عليه وسلم ( الدين
النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولخاصة المسلمين وعامتهم ) فالأول بيان سبب الركون
إلى جانبكم والثاني الحامل على دفع مناويكم والثالث ملازمة نصحكم وتذكيركم والضجر
مما يصدر منكم ومن أعوانكم للرعية أما الأول فله أسباب كثيرة منها مراعاة الجناب
النبوي الكريم في أهل بيته ورضي الله عن أبي بكر الصديق القائل ارقبوا محمدا في
أهل بيته والقائل لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي
( يا أهل بيت رسول الله حبكم ** فرض من الله في القرآن أنزله )
( يكفيكم من عظيم المجد أنكم ** من لم يصل عليكم لا صلاة له )
ومنها نصح خاصة المسلمين الذي هو الدعاء بالهداية لهم ورد القلوب النافرة إليهم و
نصحهم بقدر الإمكان مشافهة ومراسلة ومكاتبة وقد
____________________
بذلنا الجهد في الجميع أخلص
الله القصد في الجميع وأما الثاني فلما جرى القدر بتغلب ذلك الإنسان المتسلط على
النفس والحريم والأموال وأدخل بتأويلاته البعيدة عن الصواب ما ليس في المذهب وتعدى
خصوص الولاة إلى سائر الرعية فاضلها ومفضولها ومد مع ذلك يد الوعيد المؤكد
بالإيمان إلينا في الأنفس والأموال فناشدناه كما تقرر في فتاوى الأئمة رضي الله
عنهم حيث توفرت فيه فصول الصائل كلها بشاهد العيان فكان الأمر كما قدر الله تعالى
{ لله الأمر من قبل ومن بعد } الروم 4 وأما الثالث فالكتاب والسنة والإجماع أما
الكتاب فسورة والعصر قائمة البرهان في كل أوان وعصر وقال تعالى في قضية كليمه { رب
بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين } القصص 17 وقد استشهد به بعض العلماء في
بري قلم لكاتب بعض الأمراء المتقدمين وحسبنا الله ونعم الوكيل وقوله جل من قائل {
وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } المائدة 2 وأما السنة
فالحديث الأول قوله صلى الله عليه وسلم ( المعين شريك ) وقوله ( من رأى منكم منكرا
فليغيره بيده فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) وقد كنا
مقتصرين على التغيير باللسان والقلم لكون التغيير العملي إليكم حتى جذبتمونا إليه
ودللتمونا بارتكاب أصعب مرام عليه وقوله ( من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء
يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله ) وقد قال المواق في شرحه على
المختصر من أعان على عزل إنسان وتولية غيره ولم يأمن سفك دم مسلم فهو شريك في دمه
إن سفك ثم أتى بالحديث المتقدم استعظاما لذلك الأمر الفظيع فإنا لله وإنا إليه
راجعون على أنا انخدعنا بالله حتى كنا نأمن بالقطع سفك الدماء إذ ذاك حيث كتبت إلينا
مرارا وأمنت وأرسلت وكنت أتخوف من هذا الواقع اليوم بآزمور وآسفي ومراكش والغرب
ولذلك كنت ألححت عليكم في تقرير العهد حتى أتاني القائد عبد الصادق بمصحف ذكر انه
لسلطان تلمسان في جرم صغير وقال لي أمرني السلطان أن أحلف لك فيه نيابة عنه على
بقائه
____________________
على العهد فيما بينك وبينه من
تأمين كل من أمنته وإمضاء كل ما رأيته صلاحا للأمة ثم لم أكتف حتى أتى القاضي
فكتبت إلي معه إن كل ما رأيت فيه الصلاح للأمة أمضيته وأنك آمنت كل من أمنته ثم
بعد استقرارك في دارك كتبت إلي كتابا إنك باق على ما تعاهدنا معك عليه من الأمور
كلها على معيار الشريعة فما راعني إلا وقد أخفرت في ذمة الله وأماني الذي عقدته
للناس فمن مأسور ومقيد ومطلوب بمال ومطرود عن بلد وأخبار آخر ترد علينا من جهة
السواحل وأن الناس تباع فيها للعدو دمره الله ولم نر من اهتبل بذلك ممن قلدتموه
أمور الثغور فلم ندر هل بلغك ذلك فتسقط عنا ملامة الشرع أو لم يبلغك فأعلمنا الله
لتطمئن قلوبنا فإني أكاتبك في ذلك فلا أرى جوابا فقضيت والله من الأمر عجبا فإن
عددت ما من الله به عليك من رجوعك إلى سرير ملكك واجتماعك بسربك آمنا من قبيل
النعم فقيده بما تقيد به كما في كريم علمك وإن رأيته بنظر آخر فإن لله ما في
السموات وما في الأرض وأما الإجماع فلم نر من العلماء من نهى عن نصح خاصة المسلمين
وتنبيههم على ما يصلح بهم وبالرعية بل عدوه من الدين للحديث الأول وغيره وأما
استشعرناه من امتعاضكم من عدم الأنة القول في مكاتبتنا لكم فما خاطبناكم قط رعيا
لذلك ولو بنصف ما خاطب به الأئمة الأول أهل زمانهم اتكالا على مطالعتكم لكتبهم
وعلمكم بما لم نعلمه من ذلك ولم نروه ويكفيكم نصح الفضيل وسفيان وإمامنا مالك رضي
الله عنهم لمعاصريهم من الولاة ومنهم من بكى وانتفع ومنهم من غشي عليه وتوجع ومنهم
من ندم واسترجع إلى غير ما ذكرنا على اختلاف الأعصار وتنوع الدول والأقطار فبذلك
اقتدينا وبما كان عليه أشياخنا وأسلافنا لكم ولأسلافكم عملنا كالفقيه شيخ والدنا
رحمه الله سيدي عبد الله الهبطي لجدكم المرحوم بكرم الله فطمعت بنجح النصح ونفعه
دنيا وأخرى فهذا أصل قضيتنا معكم وهلم جرا والذكرى تنفع المؤمنين على كل الأحوال
والحمد لله على كل حال و صلى الله عليه وسلم وبتاريخ أواخر ربيع النبوي الأنور
كتبه عن إذنه رضي الله عنه
____________________
عبد ربه محمد بن الحسن بن أبي
القاسم لطف الله به بمنه اه فأجابه السلطان زيدان رحمه الله بما نصه
بسم الله الرحمن الرحيم
و صلى الله عليه وسلم
من عبد ربه تعالى المقترف المعترف زيدان بن أحمد بن محمد بن محمد بن محمد إلى
السيد أبي زكرياء يحيى بن السيد أبي محمد عبد الله ابن سعيد أعاننا الله وإياكم
على اتباع الحق ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وسلام عليكم ورحمة
الله وبركاته وبعد فقد ورد علينا كتابكم ففضضنا ختامه ووقفنا على سائر فصوله ثم
إننا إن جاوبناكم على ما يقتضيه المقام الخطابي ربما غيركم ذلك وأدى إلى المباغضة
والمشاحنة فيحكى عن عثمان رضي الله عنه أنه بعث إلى علي رضي الله عنه وأحضره عنده
وألقى إليه ما كان يجده من أولاد الصحابة الذين اعصوصبوا بأهل الردة الذين كان
رجوعهم إلى الإسلام على يد الصديق رضي الله عنه وهو في كل ذلك لا يجيبه فقال له
عثمان رضي الله عنه ما أسكتك فقال يا أمير المؤمنين إن تكلمت فلا أقول إلا ما تكره
وإن سكت فليس لك عندي إلا ما تحب ولكن لما لم أجد بدا من الجواب أرى أن أقدم لك
مقدمة قبل الجواب فلتعلم أن الحجاج لما ولاه عبد الملك العراق وكان من سيرته ما
يغني اشتهاره عن تسطيره هنا فتأول ابن الأشعث الخروج عليه وتابعه على ذلك جماعة من
التابعين كسعيد بن جبير وأمثاله من أولاد الصحابة رضي الله عنهم ولما قوي عزمهم
على ذلك استدعوا الحسن البصري لذلك فقال لا أفعل فإنني أرى الحجاج عقوبة من الله
فنفزع إلى الدعاء أولى قال بعض فضلاء العجم يؤخذ من هذا أن الخروج على السلطان من
الكبائر وجواز المقام تحت ولاية الظلم والجور وقد علمت ما كان من أمر عبد الرحمن
بن الأشعث وسعيد وأمثاله وعلمت قضية أهل الحرة لما أوقع بهم جند يزيد بن معاوية
بالحرم الشريف ولما بلغه الخبر أنشد
____________________
( ليت أشياخي ببدر شهدوا ** جزع الخزرج من وقع الأسل )
وشاع ذلك عنه وذاع وكان على عهد أكابر الصحابة وأولادهم ولا تعرض أحد منهم لنكير
عليه ولا تصدى لقيام ولا خاطبه بملام وأما ما يرجع إلى جواب الكتاب فأما ما حكيت
عن الصديق رضي الله عنه في أهل البيت والأحاديث الواردة فيهم وأنه يجب تعظيمهم
واحترامهم وتبجيلهم لأجل النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان يجب عليكم تعظيمهم فإن
تعظيمهم يجب على أولى وأولى عملا بقوله تعالى { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة
في القربى } الشورى 23 وأجرى الله تعالى عادته أنه ما تصدى أحد لعداوة هذا البيت
النبوي إلا كبه الله لوجهه وأما ما أوردتم من الأحاديث في النصح فإني والله أحب أن
تنصحني سرا وعلانية مع زيادة شكري عليه وأراها منك مودة وأعدها محبة ولكني أفعل ما
أقدر عليه لأن الله سبحانه يقول { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } البقرة 286 ولهذا
قال أكثر العلماء في صدور تصانيفهم ولم آل جهدا في كذا لأن النفوس الشريفة العالية
لا تترك من فعل الخير والجد في اكتسابه إلا ما عز تناوله عليها وصعب اكتسابه
وأما ما ذكرتم من أمر أبي محلي وسيرته وما كان تسلط عليه أما ما كان من استنهاضكم
إليه المرة بعد المرة وتكررت في ذلك إليكم الرسل حتى أجبت إليه فلا نحتاج فيه إلى
إقامة حجة غير كونه خرج عن الجماعة وقد قال صلى الله عليه وسلم ( من أراد أن يشق
عصاكم فاقتلوه كائنا من كان ) وإلا فلو دخل الملك من بابه وبايعه أهل الحل والعقد
وأخذ ذلك بوسائط مثل بيعة جدنا المرحوم التي تضافرت عليها علماء المغرب وأهل الدين
المشاهير فلو كان وصل إلى ذلك بمثل هذه الوسائط لم يجب حربه ولا القيام عليه بما
ذكرتم لأن السلطان لا ينعزل بالفسق والجور وإلا فإن الصحابة في زمن يزيد بن معاوية
لا يحصى عددهم وما تصدى أحد للقيام عليه ولا قال بعزله وإلا فإنهم لا يقيمون على
الضلالة ولو نشروا بالمناشير وأما أبو محلي فبمجرد قيامه يجب عليك وعلى غيرك
إعانتنا عليه لأنك في بيعتنا وهي لازمة لك فالطاعة واجبة عليك واعلم أيضا أن والدك
أفضل منك بدليل { آباؤكم وأبناؤكم }
____________________
من أبنائكم إلى يوم القيامة )
وكان عمنا مولاي عبد الملك رحمه الله وسامحه على ما كان عليه واشتهر به إعلانا
وكان والدك في دولته وبيعته ووفد عليه ولم يستنكف من ذلك ولا ظهر منه ما يخالف
السلطنة ولا أنكر ولا عرض بما يسوء سلطان الوقت ولا سمع ذلك منه فإن كان راضيا
بفعله فهو مثله وإن لم يرض فما وجه سكوته والوفادة عليه وقد تحققت وعلمت أن ولاية
أحمد ابن موسى الجزولي كادت تكون قطعية واشتهر أمره عند الخاص والعام حتى أطبق أهل
المغرب على ولايته وقد كان على عهد مولاي عبد الله برد الله صريحه وكان المولى
المذكور على ما كان عليه واشتهر عنه وما برح الشيخ المذكور يدعو له ولدولته
بالبقاء ويظهر حبه وكان المولى المذكور يعزل ويولي ويقتل وكان قد شرد منه إلى
زاوية الشيخ المذكور المرابط الأندلسي وولد آضاك وأمثالهم وكان الشيخ المذكور يقدم
للشفاعة فيشفع ولا يتعقب ولا يبحث عما وراء ذلك باق على عهده ومودته وكان المولى
المذكور بعث لابن حسين بسد داره فما فتحها حتى أمره ولا استعظم أحد ذلك ولا أكثر
فيه ولا جعله سببا لفتح الفتنة وكان قواد المذكور مثل وزيره ابن شقراء وعبد الكريم
بن الشيخ وعبد الكريم بن مؤمن العلج والهبطي والزرهوني وعبد الصادق بن ملوك وغيرهم
ممن لم يحضرني ذكرهم لبعد عصرهم قد انغمسوا في شرب الخمور واتخاذ القيان وبسط
الحرير وغير ذلك من آلات الفضة والذهب وكان في عصره أحمد بن موسى المذكور وابن
حسين ومحمد الشرقي وأبو عمرو القسطلي ومحمد بن إبراهيم التامنارتي والشيظمي وغير
هؤلاء من المشايخ وأهل الدين الذين لا يسع من يدعي هذه الطريقة التقدم عليهم ولا
اكتساب الفضيلة دونهم فأحسنوا السيرة ولا تعرضوا للسلطنة ولا سمع منهم ما يقدح في
ولادة الأمر وقادة الأجناد ممن ذكر الذين كان الملك يدور عليهم ويرجع في تدبيره
إليهم ومثل من ذكر من الأولياء كان علامة الزمان وواحد وقته شيخ مشايخ إفريقية
وبعض أهل المغرب عبد العزيز القسنطيني الشيخ المتكلم الصوفي صاحب الآيات البينات
قد كان من سكان تونس وكان ملوك تونس ومن انضاف إليهم على الفساد الذي لا ينحصر
____________________
واشتهر أمرهم حتى عرفوا به في
المشارق والمغارب ولم يبرح الشيخ المذكور من بينهم ولا تصدى لتغيير المنكر والأمر
بالمعروف حتى قبضه الله إليه
وأما ما ذكرتم من أن من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا
بين عينيه آيس من رحمة الله هذه حجة عليك لا علينا لأني ما سعيت في قتل أحد يعلم
الله ولا قتل من قتل إلا بأمر القضاة وأهل العلم إن كان واعلم أنه إذا كان هذا
يكون وعيدا في قتل الواحد فما بالك بمن يريد فتح باب الفتنة حتى لا يقف القتل على
المئين والآلاف ونهب الأموال وكشف الحريم إلى غير ذلك أما تعلم أن فتنة أبي محلي
قد هلك بسببها من النفوس والأموال ما لا يحصى عدده ولا يستوفى نهايته كاتب وكان كل
ذلك على رقبته لأنه هو المتسبب الأول الفاتح أبواب الفتنة لأنه كان يقتل كل من
انتمى إلينا حتى قتل بسببه في يوم واحد بمكان واحد خمسمائة قتيل ولولا أبو محلي ما
قتلوا وأعظم في حرمة النفوس من هذا الذي قلت قوله تعالى { كتبنا على بني إسرائيل
أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا } المائدة 32
وليس في قول المواق ما يحتج به على السلطان وإنما هو في أصحاب الخطط على الترتيب
الذي كان على عهده مثل أصحاب الشرط كصاحب الشرطة الذي ينفذ أحكام القاضي وصاحب
شرطة السوق الذي ينفذ الأحكام عن قاضي الحضرة وغير ذلك من الولايات
وولاية أبي محلي لا تعد ولاية حتى يعتبر عزله وما عند المواق وغيره وقفنا عليه
وعرفناه وتلقيناه عن الأشياخ الجلة وعرفنا ما عند الشافعية والحنفية ودرسناه المرة
بعد المرة ولست ممن ينطبق عليه قوله ( أشقى الناس عالم لم ينفعه الله بعلمه ) ولكن
لماذا تحتج بقول المواق لغرضك وتجعله حجة ولم تجبنا نحن فيما كتبنا إليك به في
يونس اليوسي وقلنا لك
____________________
صلى الله عليه وسلم ( الحرم لا
يجير عاصيا ) قال الأبي وهذا يحتج به على أهل الزوايا وأضربت عن الجواب وليس ذلك
من أدب الجدل ولكن أخبرنا عن الوجه الذي منعت به يونس اليوسي من الشرع فإن متاعنا
عنده وإماء أهلنا في داره إلى يوم الوقعة وترتب في ذمته للمسلمين من الأموال
والدماء ما علمت فإن كنت ممن يريد العدل فهلا عدلت فيه فحينئذ نعلم أنك لا تريح
جهته ولا تذهب بك النفس مذهبها لا جرم حينئذ نكون عند ما تريد ومع هذا لما أمسكنا
زوجته وكتبت لنا فيها سرحناها ساعة وصول خطابك من غير توقف فلو كنت عناديا لعبثت
بها عبثه هو بإماء أهلي وأهل داري على أني ما رددت شفاعتك منذ عرفتك بعثت لي
إبراهيم بن يعزى فسرحناه لغرضك على أنه ترتب في ذمته ما ينيف على خمسين ألف أوقية
وذلك المال إنما يقال له بيت مال المسلمين وإنما كان يجب تخليده في السجن وأهل
الحصن أخرجناهم منه عن آخرهم وأنفذتم كتابكم بردهم فأمرنا بردهم عن آخرهم وابن
يعقوب أوزال حاكم البلد وشبه الخليفة تركناه على دارنا وحرك من غير إذننا ولا
مشورتنا وبعثنا مكانه فأنفذت الكتاب فيه فرد لمكانه ما هو الأمر الذي سافرت كتبك
فيه ولا أسرعنا فيه خفافا وأما مسألة أهل آزمور فلما جاء كتابكم عزلنا صاحبه
وسرحنا من كان عنده ورددنا الخيل وقضية الحناشة الناس في شأنهم بالاجتهاد وقضية
العرب اعلم أن العرب قد أفسدوا الأرض واستطالوا سواء هذه البلاد والغرب والذي يليق
بهم ما أفتى به سحنون في عرب إفريقية والمغرب ولو طالبناهم بمجرد العشر مدة هذه
الفتنة في المغرب لأتى ذلك على أموالهم والناس قد خرجوا عن أطوارهم وأحبوا الفتن
طلبا للراحة وانظر كتاب الإفادة كذا للقاضي واستطالتهم فيه عليه في قضية شرعية
مشروحة في رسمها القديم على أنهم أضعف الناس قلوبا انظر ما صدر منهم فما بالك
بالعرب الذين خرجوا عن الطاعة وتساوى الشيخ والصغير في ذلك فإن كنت تصغي لمقالاتهم
وإسعاف شهواتهم والتعرض للسلطان دونهم فهذا نفس خراب العالم وطالع كتاب صاحبنا من
عند الرحامنة وما صدر منهم لخديمكم ورأيت أن أقدم
____________________
لك مقدمة أمام هذا وإن كانت
أدبية قيل لابن الرومي وهو علي بن العباس لم لم تقل كقول ابن المعتز
( كان آذريوننا والشمس فيه عاليه ** مداهن من ذهب فيها بقايا غاليه )
فأجاب بأن قال لا يقدر أن يقول هو في مثل قولي في وصف الرقاقة
( ما أنس لا أنس خبازا مررت به ** يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر )
( ما بين رؤيتها في كفه كرة ** وبين رؤيتها فوراء كالقمر )
( إلا بمقدار ما تنداح دائرة ** في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر )
وقال كل منا وصف أواني بيته ورب البيت أعلم بما فيه وأهل مكة أدرى بشعابها
والصيرفي أعرف بنقد الدينار وقصة الخضر والكليم صلوات الله على نبينا وعليهم فيها
كفاية لمن يعتبر في خرقه السفينة وقتله الغلام وإقامته الجدار والكليم يرد عليه في
كل ذلك حتى أنبأه الله بسر ما لم يعلم على أن علم الخضر في علم موسى كحلقة ملقاة
في فلاة هكذا قال بعض العلماء وقال بعضهم كل منهم على علم خصه الله تعالى به ومن
هنا جوز ابن عربي الحاتمي في بعض كتبه وأحسب أن ذلك في الفصوص أن الولي الذي يتخذه
الله ويصطفيه بمحبته يطلعه على علم لم يطلع عليه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم
فقال مشيرا إلى نفسه أطلعني الله على علم لم يطلع عليه آدم فمن دونه
واعلم أن السلطنة لها أسرار لا بد منها وسياسة ينكر ظاهرها ولكن نرجع إلى غرضك
ومرادك أخبرنا كيف تحب أن يسلك الناس في العرب فإن كنت تحب أن يسلك الناس فيهم
مسلك مولاي عبد الله فالزمان غير الزمان والأسعار قد طلعت وبلغت النهاية والله
تعالى قد بعث أنبياءه وأنزل كتبه بحسب ما يقتضيه الزمان وهذا يعرفه من خالط
الشرائع والكتب المنزلة وأخذ العلم من أفواه الرجال وأدبته مجالس العلم ونحن نلخص
لكم الكلام
____________________
على بعض ما أورد الناس في
الخارج أما ما بنوا عليه فرضه في صدر الإسلام والدول العظام فلا نطيل بذكره لشهرته
وأما في المغرب خصوصا فأول من فرضه عبد المؤمن بن علي وجعله على أقطاع الأرض بناء
على أن المغرب فتح عنوة وإليه ذهب بعض العلماء ومنهم من يقول إن السهل فتح عنوة
والجبل فتح صلحا فإذا تقرر هذا وعلمت أن أهل ذلك العصر قد بادوا واندثروا وبقي
السهل كله إرثا لبيت المال تعين أن يكون الخراج فيه على ما يرضي صاحب الأرض وهو
السلطان والجبل تتعذر معرفة ما كان الصلح عليه ولا سبيل إلى الوقوف عليه فيرجع فيه
إلى الاجتهاد وقد اجتهد سلفنا الكرام رضوان الله عليهم في فرضه لأول الدولة
الشريفة على حسب وفق أئمة السنة ومشايخ أهل العلم والدين في ذلك العهد فجرى الأمر
على السنن القويم إلى أن هبت عواصف الفتنة لأيام ابن عمنا صاحب الجبل وإدالة
مولانا الإمام وصنوه المرحوم على حواضر المغرب وسهله عند الزحف بالأتراك وامتدت به
الفتنة في الجبل إلى أن هلك مع النصارى في الغزوة الشهيرة وجاء الله من مولانا
المقدس بالجبل العاصم للإسلام من طوفان الأهوال فقدر رضي الله عنه الأشياء حق
قدرها ورأى أن المغرب غب تلك الفتن قد فغر فمه لالتهامه عدوان عظيمان الترك وعدو
الدين الطاغية فاضطر رحمه الله إلى الاستكثار من الأجناد لمقاومة العدو والذب عن
الدين وحماية ثغور الإسلام فدعا تضاعف الأجناد إلى تضاعف العطاء وتضاعف العطاء إلى
تضاعف الخراج وتضاعف الخراج إلى الإجحاف بالرعية والإجحاف بالرعية أمر يستنكف رضي
الله عنه من ارتكابه ولا يرضاه في سيرة عدله طول أيامه فلم يمكن له حينئذ إلا أن
أمعن النظر رحمه الله في أصل الخراج فوجد بين السعر الذي بنى عليه في قيمة الزرع
والسمن والكبش الذي تعطيه الرعية منذ زمن الفرض وبين سعر الوقت أضعافا فحينئذ تحرى
رحمه الله العدل فخير الرعية بين دفع كل شيء بوجهه ودفع ما يساويه بسعر الوقت
فاختاروا السعر مخافة أن يطلع إلى ما هو أكثر
____________________
فأجابهم إليه رضي الله عنه
وعرف الناس الحق فلم ينكره أحد من أهل الدين ولا من أهل السياسة ليت شعري لو طلبنا
نحن الرعية بسعر الوقت الذي طلع اليوم إلى أضعاف مضاعفة ماذا تقولون وقد انتقدتم
علينا ما هو أخف من ذلك والحاصل راجعوا رضي الله عنكم ما عند الإمام الماوردي في
الأحكام السلطانية في ضرب الخراج فقد استوفى الكلام في ذلك
وأما ما تقضيه من العجب لتعطل أجوبتنا عنك فنحن نراجع أقل منك ولكن كتابك آكد
مبناه على قصة أهل آزمور فأنفذنا من أخرج الذي كان به وأقصاه عنه وشرد من كان عنده
فتوقف الجواب حتى رجع الخديم فحينئذ أجبناكم بما وصلكم وتعجيل الأجوبة وبطؤها
فاعلم أن الذي يقتضي ذلك أمور منها أن يكون الأمر الذي ورد الخطاب فيه منكم ما
سمعت به ولا بلغني فنتوجه للبحث عنه والفحص عن أسبابه فربما أوجب ذلك البطء بحسب
الأماكن والبلدان فيكون جوابنا على أساس وبيان وإن كان عندنا خبر ما ورد فيه
خطابكم فالجواب لا يتأخر وقد وقع هذا منا غير مرة وكون تعطيله منشأه ما من الله به
علينا من رجوعنا إلى سرير ملكنا واجتماعنا بسربنا آمنين اعلم أن أهل هذا المغرب
لما تمالؤوا علي وخرجت إلى المشرق والتقيت بالترك والأروام وجالسوني وجالستهم
وخاطبوني وخاطبتهم فمنهم مشافهة ومنهم مراسلة وكنت أيام مقامي في أرضهم كمقامي على
سرير ملكي لأن كبيرهم وصغيرهم ورئيسهم ومرؤوسهم كان ينتجع فضلي ويمد كفه رغبة في
نعمتي وواسيت الجميع عطاء مترفا مع قلة الزاد والذخيرة وترفعت عن مواساة الأماثل
والأكابر من العجم والعرب ولا ركنت لأحد بل تجودت بما قدرت عليه من الأخبية حتى
جعلت محلة برماتها وخيلها فترامت علي العجم بالرغبة وبسطوا أكف الضراعة في المقام
عندهم والدخول في جملتهم وعرضوا علي الإقطاعات السنية والبلادات الملوكية بلطف
مقال وأدب خطاب حتى قال لي القبطان مراد رئيس المجاهدين وما مثلك يكون مع العرب ها
نحن نخدمك بأموالنا وأنفسنا وبمالنا من السفن حيث أردت وأحببت وما انفصلت عنهم حتى
____________________
كتبت لهم بخطي إني احمل أهلي
وحاشيتي وأرجع إليهم إلا إن تمكن لي الدخول في الملك والغلبة على البلاد أو بعضها
وقفلت من عندهم ولم يتعلق بثوب عفافي ما يشينه معهم ولا مع العرب ولا كان لأحد علي
منة ولا نعمة إلا فضل الله سبحانه وكان فضل الله علينا عظيما
ثم إني دخلت سجلماسة على رغم أنف أهلها وواليها ومنها دخلت السوس وجعلت ولي الله
العارف به أبا محمد عبد الله بن المبارك واسطة بيني وبين أخي حتى اجتمعت بأهلي
ومالي ثم بعث إلي الترك بأحد بلكباشات اسمه مصطفى صولجي إلى السوس راغبين في إنجاز
الوعد وجنحت للمسير إليهم فرأيت الأهل والأتباع قد عظم الأمر عليهم واستعظموا
الخروج فأسعفت رغبتهم في المقام بالمغرب وشيعت الرسول قافلا إلى قومه من سجلماسة
عند الدخول الثاني لها ومغالبة أهلها عليها وعززته برسول من عندي إليهم بتحف
وأموال ورد بها عليهم مع رسولهم ثم إني اقتحمت مراكش على أهل فاس على كثرة عددهم
وعددهم وقلتي ففتح الله ثم خرجت إلى السوس مرة أخرى وأوقعت بولد مولاي أحمد الشريف
وجموع مراكش وقد تعصبوا عليه لأنهم شيعة جده ففضضته على رغمهم ونازلته بالسهل
والحزن حتى أمكن الله منه وحكم بيني وبينه ثم نجم الغوى أبو محلي وغلبت على الرأي
وقد قال من هو أفضل مني مولانا علي كرم الله وجهه لا رأي لمن لا يطاع ودخل هذه
البلاد وخرجت أنا إلى السوس ريثما تجتمع قبائلنا في المكان الذي كان اجتماعهم فيه
إلى أن بلغتهم وقصد إليهم أبو محلي فقاتلوه ورحل عنهم بعد أن أثخنوا فيه بالقتل ثم
وافيتهم فكان الحرب بيننا سجالا فهل سمعتم خلال هذه الأحوال أني احتجت إلى أحد
فيما قل أو جل وهذا كله بحيث لا يخفى عليك اللهم أن تعدوا الوفادة التي وفدنا عليك
من قبيل الاضطرار والاحتياج فلا أدري على أني ما قصدتك لطلب دنيا لأني كنت أسمع ما
أنت عليه من متانة الدين والصلاح والإقبال على طاعة الله والتمسك بسنة رسول الله
____________________
صلى الله عليه وسلم ولا غرو أن
من كان هذا وصفه كان جديرا بأن يقصد للدعاء ولإصلاح القلب ولا شك أننا نزلنا دارك
وحللنا بمكانك ولما وقع الاجتماع بك جرت المذاكرة في أبي محلي وغيره حتى كتبت
الكتاب الذي علمنا عليه وها هو بخط يدك فإن نسينا بعض ما فيه ولا فعلنا فأخبرنا به
نستدركه وهذه مراكش التي ذكرتم قد كنت فيها ما ذكرتم ووقفت على عبد المؤمن بن ساسي
وعدته مرة أخرى في مرضه وهل قصدته لطلب دنيا أو عرفته لأجلها ومحمد بن أبي عمرو
لما وقفت على المدرسة التي من بناء مولاي عبد الله وقفت عليه في داره وكل ذلك إنما
نفعله تأكيدا للمحبة وزيادة في المعرفة بالله ولو علمت أن ذلك يعد عيبا ويظن أنه
نوع من الاحتياج ما كنت والله لأقف على أحد ولو أنه يملكني الدنيا بحذافيرها لأن
الخير والشر بيد الفاعل المختار فهو أولى بالاضطرار إليه وأما سربي فما تروع قط
حتى يأمن وأما من كان بالدار التي ذكرتم فإنما هم أهلي ومتروك أعمامي وهذه الدار
التي ذكرتم فها نحن ننتقل عنها إلى بعض البلاد الغربية البحرية كما قلت لك ذلك
مشافهة ساعة قلت لي ينبغي للأشراف بناء بالجبل لوقت ما وحكيت ذلك عن والدك وأما ما
أخبركم به القاضي أيام ورودي إلى السوس وقت بلغني كتابكم الذي نصه قد اجتمعت أناس
وفسدت النيات وتعينت المطامع وأردنا تدبيركم لأن الملوك أهل التدبير والمراد
رجوعنا لأوكارنا من غير وصمة تلحق الجانبين فكلما حمل فهو عني والتزمته إلى الآن
إلا ما طرأ علينا فيه النسيان فذكرونا به فإنا لا نخرج عنه وأما يمين المصحف وأني
حلفت فيه للقائد عبد الصادق فلا والله ما حلفت فيه ولا أحلف لأحد إلى لقاء الله
أما علمت أني حضرت بيعة الشيخ المأمون صاحب الغرب سامحه الله وحضر أولاد السلطان
واستحلفهم له إلا أنا رضي الله عنه فإنه قال فلان لا يحلف لا يحتاج إليه فيما
نأمره به ونفعله وعظم ذلك على إخوتي وظهرت في وجوههم لأجله الكراهية ولكن الذي قلت
لعبد الصادق أحلف للمرابط فإني أوفى لك به ولا زلت على ذلك لأن
____________________
الذي كنت تقول في ذلك الوقت
أخاف أن تقع في أهل مراكش والأكابر ونحوهم مثل حكومة عبد القادر ونحوها أما أهل
مراكش فما تعرضنا لأحد منهم حتى تركنا متاعنا لأجلكم كولد المولوع وغيره وهذا
الميدان والشقراء فابعث من رضيت ينادي فيهم من له حق علينا ننصفه منه ومن خدامي
أيضا وإن كنت سمعت قضية منصور العكاري فالعكاري نزل أهلنا في خيمته عند وقعة رأس
العين فلما أرادوا الطلوع إلى الجبل تركوا أكثر مالهم في خيمته مع بعض الخدم خوفا
من غائلة البربر لما كان وقع منهم لأهل بابا أبي فارس فأخذ سماطا من ذهب يزيد على
ستين ألف أوقية وكان أيام أبي حسون معه وفي جملته حتى مات القائم فبذل حجته
بإنجازه عشرين ألفا والباقي حتى يؤديه على سعة وطلب منا أن يتعمل ويتولى بعض الخطط
لينتفع ويجمع بعض ذلك فصرفناه حتى إذا جاء أبو محلي ووقع ما وقع طالبناه بمتاعنا
وهو لا يسعه إنكاره وهكذا عبد الكريم الذي في زاويتك بنفسه يعلم أن إخوته أخذوا لي
سلعة في وسط حلتهم وأنا بين بيوتهم تزيد على خمسين ألفا وأخذوا الإبل وها نحن
سكتنا عنهم ولا طالبناهم بها وأيضا قال لك انظر ما فعل بإخوتي وصرت تكاتبنا وأنت
لا علم عندك بأصل المسألة وأما الأموال فإن الله سبحانه قد وسع علينا من فضله
وعندنا ما يكفي الخامس والسادس من الولد وعرفنا الناس وعرفونا وعاملناهم وعاملونا
ولو أردت خمسمائة ألف مثقال من أصحاب أفلا منك أو من أصحاب الإنجليز وكتبت إليهم
في ذلك ما تأنوا في بعثه ولا لاذوا فيه بمعذرة وقد كفانا الله به والحمد لله على
ذلك
واعلم أن الظن فيك جميل ولولا ذلك ما أعطيتك خمسة آلاف مثقال وسمحت بالمال الذي
حمل إليكم ابن عبد الواسع أولا وسلعة السفن أخيرا وبهذا كله تستدل على صفاء
السريرة وصالح النية والله سبحانه يعلم ذلك وأما الامتعاض من عدم الأنة القول وحسن
الخطاب فكما قال تعالى { وقولوا للناس حسنا } البقرة 83 وإنك لم تبلغ ولو نصف ما
خاطب به
____________________
الأئمة رضوان الله عليهم أهل
زمانهم اتكالا على علمنا به وحسبي نصح الفضيل ابن عياض وسفيان ومالك رضوان الله
عليهم فهذه المسألة حسبي في الجواب منك انتهى ما وقفنا عليه من هذه الرسالة وهي
دالة على براعة الرجل فقها وأدبا وكمال مروءة وعلو همة رحمه الله وغفر ذنوبه استيلاء
نصارى الإصبنيول على المعمورة ونهوض أبي عبد الله العياشي لجهادهم وانتفاض أندلس
سلا على السلطان زيدان رحمه الله
قد قدمنا في أخبار الوطاسيين ما كان من استيلاء البرتغال على المعمورة المسماة
اليوم بالمهدية ومقامهم بها سنين قلائل ثم جلائهم عنها ثم لما استولى الإصبنيول
خذله الله في هذه المدة على العرائش كما مر طمحت نفسه إلى الاستيلاء على غيرها
وتعزيزها بأختها فرأى أن المهدية أقرب إليها فبعث إليها الطاغية فيليبس الثالث من
جزيرة قادس تسعين مركبا حربية فانتهوا إليها واستولوا عليها من غير قتال لفرار
المسلمين الذين كانوا بها عنها هكذا في تواريخ الفرنج
وقال شارح الزهرة كان نزول النصارى بمرسى الحلق سنة اثنتين وعشرين وألف وقيل سنة
ثلاث وعشرين بعدها وقيل غير ذلك وكان عدو الله الإصبنيول أراد أن يضمها إلى
العرائش لينضبط له ما بينهما من السواحل وتتقوى عساكره بهما فخيب الله ظنه ولقي من
أهل الإسلام عرق القربة وكان أبو عبد الله العياشي بعد رجوعه من آزمور وسلامته من
اغتيال قائد زيدان دخل سلا في نحو أربعين رجلا وزار ضريح شيخه أبي محمد بن حسون
وبات عنده فجاءه أهل سلا وذكروا له ما هم فيه من الخوف من نصارى المعمورة وأن
مسارحهم قد امتدت إلى الغابة وأن النصارى ألفان من الرماة سوى الفرسان فأمرهم
بالتهيؤ إليهم
وفي نشر المثاني ما نصه وفي أواخر جمادى الثانية سنة ثلاث
____________________
وعشرين وألف أخذ النصارى
المهدية فكتب أهل سلا إلى السلطان زيدان فبعث إليهم أبا عبد الله العياشي الذي كان
مقدما بوكالته على الجهاد بدكالة وهو يقتضي أن مجيء العياشي إلى سلا كان بإذن
السلطان لا فرارا منه والأول أصح اللهم إلا أن يكون مجيئه فارا كان بعد هذا التاريخ
والله أعلم
وأمر أبو عبد الله العياشي أهل سلا بالتهيؤ للغزو واتخاذ العدة فلم يجد عندهم إلا
نحو المائتين منها وكانت السنون والفتن قد أضعفتها فحضهم على الزيادة والاستكثار
منها فكان مبلغ عدتهم بما زادوه زهاء أربعمائة ثم نهض بهم إلى المعمورة فصادف بها
من النصارى غرة فكانت بينه وبينهم حرب قربها إلى أن غربت الشمس فقتل من النصارى
زهاء أربعمائة ومن المسلمين مائتان وسبعون وهذه أول غزوة أوقعها في أرض الغرب بعد
صدوره من ثغر آزمور ومنها أقصرت النصارى عن الخروج إلى الغابة وضاق بهم الحال
ثم إن السلطان زيدان لما بلغه اجتماع الناس على سيدي محمد العياشي بسلا وسلامته من
غدرة قائده السنوسي بعث إلى قائده على عسكر الأندلس بقصبة سلا المعروف بالزعروري
وأمره باغتياله والقبض عليه ففاوض الزعروري أشياخ الأندلس في ذلك فاتفق رأيهم على
أن يكون مع العياشي جماعة منهم عينا عليه وطليعة على نيته واستخبارا لما هو عازم
عليه وما هو طالب له فلازمه بعضهم وشعر العياشي بذلك فانقبض عن الجهاد ولزم بيته
ثم إن الله أوقع النفرة بين السلطان زيدان وبين أهل الأندلس وذلك أن السلطان
المذكور كان قد بعث قبل ذلك إلى القائد الزعروري أن يجهز إلى درعة أربعمائة من
أندلس سلا فجهزهم إليها وطالت غيبتهم بها ففر أكثرهم ونفرت قلوبهم عن الزعروري
وسلطانه فكان زيدان يبعث إلى أهل الأندلس بسلا بتجديد البعث إلى درعة فيأبون
الانقياد إليه في ذلك وكرهوه وأزمعوا على خلع طاعته ثم وشوا إليه بقائده الزعروري
فبعث زيدان
____________________
بالقبض عليه فقبض عليه ونهب
أهل الأندلس داره وكتبوا إلى السلطان بذلك مظهرين طاعته مكيدة ونفاقا فبعث إليهم
مولاه وقائده المملوك عجيبا فمكث بين أظهرهم مدة فلم يعبؤوا به وصاروا يهزؤون به
ثم عدوا عليه فقتلوه فظهر منهم شق العصا على السلطان زيدان وأظلم الجو بينه وبينهم
وبقي أهل سلا فوضى لا والي عليهم وكثر النهب وامتدت أيدي اللصوص إلى المال والحريم
وسيدي محمد العياشي ساكت لا يتكلم واستمر الحال على ذلك إلى أن كان من أمره ما
نذكره بعد هذا إن شاء الله انعطاف إلى خبر عبد الله بن الشيخ بفاس والثوار
القائمين بها وما تخلل ذلك
قد قدمنا ما كان من قدوم السلطان زيدان إلى فاس أواسط سنة تسع عشرة وألف واستيلائه
عليها ثم خروجه عنها وإعراضه عنها وعن أعمالها إلى آخر دولته وكان عبد الله بن
الشيخ حياة أبيه الشيخ تحت أمره يصغي إليه ولا يقطع أمرا دونه وقيل إنه خرج عن
طاعته سنة عشرين وألف ولما قتل أبوه ببلاد الهبط كما مر استبد عبد الله هذا بفاس
وما انضاف إليها على وهن وفشل ريح وكان غالب جنده من شراقة وشراقة هؤلاء هم عرب
بادية تلمسان وما انضاف إليها وسموا بذلك لأنهم في ناحية الشرق من المغرب الأقصى
فأهل تلمسان وأعمالها يسمون أهل المغرب الأقصى مغاربة وأهل المغرب الأقصى يسمون
أهل تلمسان وأعمالها مشارقة لكن العامة يلحنون في هذه النسبة فيقولون شراقة فكان
غالب جند عبد الله من هؤلاء العرب ومن انضم إليهم فهم حماته وأنصاره وبهم كان
يعتصم حتى أعطاهم أجنة الناس ودورهم فكان الرجل من أهل فاس يأتي بستانه فيجد
الأعرابي بخيمته في وسطه فيقول له أعطانيه السلطان
ومدوا أيديهم إلى حريم الناس ونهبوا الأسواق وجاهروا بالفساد وأظهروا السكر في
الطرقات واقتحموا على الناس دورهم حتى أن امرأة كانت تطبخ خليعا وولدها رضيع عندها
فاقتحم عليها الدار أحد شراقة فهربت
____________________
المرأة وأغلقت عليها مشربة لها
فلم يقدر لها على شيء فراودها على النزول فأبت فقال لها إن لم تنزلي رميت الولد في
الطنجير فتمادت على الامتناع فرمى به فيه فما هو إلا أن رأت ولدها في وسط الطنجير
صاحت وألقت بنفسها عليه فاندقت رقبتها وماتت فغاظ الناس ذلك وأعظموه
وقام رجل منهم يقال له أبو الربيع سليمان بن محمد الشريف الزرهوني محتسبا على
شراقة واعصوصب عليه كثير من العامة وقاموا بنصرته فقتل شراقة والتلمسانيين بفاس
حيث وجدوا وحكم السيف في رقابهم ونفاهم عن فاس وحماها من إذايتهم وطهرها من رجسهم
فاستحسن الناس أمره وأذعنوا إليه
قال في المرآة وفي يوم الجمعة الحادي والعشرين من ربيع الأول يعني سنة عشرين وألف
ثار بفاس الشريف أبو الربيع سليمان بن محمد الزرهوني وعضده الفقيه أبو عبد الله
محمد اللمطي المعروف بالمربوع وتبعهما أهل فاس بأجمعهم وأخرجوا من كان بها من جيش
السلطان وقتلوا كثيرا منهم وجرت في ذلك خطوب آلت بعد سنين إلى انقطاع الملك بفاس
وبقي الناس فوضى إلى الآن اه كلام المرآة
وكان ابتداء أمر شراقة واشتداد شوكتهم سنة ست عشرة و ألف كانوا إدالة على أهل فاس
نازلين بقصبة الطالعة وبقصبة أخرى وببعض الفنادق وقرب باب المسافرين إلى أن قام
عليهم الشريف أبو الربيع في التاريخ المتقدم وكان عبد الله بن الشيخ يوم ثورة أبي
الربيع وفتكه بشراقة غائبا في سلا فلما بلغه الخبر قدم ورام أن يصلح بين أهل فاس
وبين شراقة وراودهم على ذلك فقالوا لا لا فسميت تلك السنة سنة لا لا ثم أمر أبو
الربيع أهل فاس بشراء العدة والتهيؤ لقتال شراقة وخرج إليهم فاقتتلوا خارج باب
الجيسة فانهزمت شراقة واستتب أمر أبي الربيع وسكنت أحوال المدينة وأمن الناس أمانا
لم يعهد من زمان السلطان الغالب بالله
وفي يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الثانية سنة عشرين وألف كانت
____________________
وقعة المترب موضع خارج باب
الفتوح وسببها أن أهل فاس استغاث بهم الملالقة واستصرخوهم على شراقة مكيدة وحيلة
فخرجوا في يوم شديد الريح وكمن لهم شراقة بخولان وأغاروا عليهم بغتة فانهزم الناس
وقتل من أهل فاس نحو الألفين
وفي نشر المثاني سبعمائة فقط قال وجلهم هلك بالعطش وغلقت الأبواب واضطربت المدينة
وهاج الشر بسبب ذلك مدة ثم خرج أهل فاس مرة أخرى لقتال عبد الله بن الشيخ فهزموه
وأسروه وبقي في أيديهم فعفوا عن قتله وأطلقوه وذهبوا خلفه حتى دخل داره من فاس
الجديد
ولما قتل أبوه الشيخ سنة اثنتين وعشرين كما مر واتصل خبر مقتله بابنه عبد الله عزم
على الأخذ بثأره من قاتليه أولاد أبي الليف وأزمع المسير إليهم ووافقه على ذلك
الشريف أبو الربيع والفقيه المربوع وأصحابهما وامتنعت العامة من الذهاب معهم لأن
الشيخ لم تبق له في نفوس المسلمين مودة حيث باع العرائش للنصارى فاجتمعت العامة
بجامع القرويين وقالوا لا نقبل سليمان ولا المربوع وحاصوا حيصة حمر الوحش واتخذوا
رؤساء آخرين فوقع بسبب ذلك شر عظيم أدى إلى قتل الشريف مولاي إدريس بن أحمد الجوطي
العمراني التونسي وسبب ذلك أن منادي أبي الربيع مر ينادي في السوق باستنفار الناس
مع عبد الله بن الشيخ فقام إليه الشريف مولاي إدريس وضربه بعصا وسبه فأقبل أبو
الربيع ومن معه واقتحموا على مولاي إدريس دار القيطون وقتلوه على خصتها ولما كان
صباح القبر من الغد قام ولد مولاي إدريس وشكا هضيمته لعلماء فاس فأمروه بالصبر ثم
التف عليه أهل العدوة وقصدوا دار أبي الربيع وناوشوه الحرب فرجعوا مفلولين وقتل
بعضهم والأمر لله وحده ووقع الغلاء حتى بيع القمح بأوقيتين وربع للمد وكثرت
الأموات حتى أن صاحب المارستان أحصى من الأموات من عيد الأضحى من سنة اثنتين
وعشرين وألف إلى ربيع النبوي من السنة بعدها أربعة آلاف وستمائة وخربت أطراف
المدينة وخلت المداسر ولم
____________________
يبق بلمطة إلا الوحوش وكثر
النهب في القوافل
ولما كان المحرم فاتح سنة ست وعشرين وألف قبض الشريف أبو الربيع على أربعة من كبار
شراقة ثم قتلهم فوجم لها اللمطيون وخاف الناس على المدينة وتوقعوا الشر وعظم الرعب
في القلوب حتى وقعت بسبب ذلك الهزيمة في كل مسجد من مساجد الخطبة بفاس وذلك أنه
كان إمام جامع القرويين ذات يوم يخطب والناس في صحن المسجد فوقع شؤبوب من المطر
غزير فابتدر من في الصحن الدخول إلى تحت السقف فظن الناس أن أبا الربيع قد قصده
شراقة فانهزموا وخرجوا من المسجد لا يلوي أحد على أحد فبلغ الخبر إلى أهل جامع
الأندلس فاقتدوا بهم وبلغ الخبر إلى أهل الطالعة فكان كذلك وتتابعت الهزائم
بالمساجد
وفي يوم السبت الخامس من صفر سنة ست وعشرين وألف قتل الشريف أبو الربيع غدرا في
جنازة رجل لمطي خرج إليها فقتله الفقيه المربوع وقتل أباه وأبناء عمه وستة من
أصحابه ودفن مع والده بمسجد الجرف ولما قتل أبو الربيع بقيت فاس في يد المربوع
واعصوصب عليه اللمطيون واشتدت شوكته ثم قدم جمع من عشيرة أبي الربيع من زرهون
وحاولوا الفتك بالمربوع ففطن بهم ووقع بينه وبينهم قتال هلك فيه نحو مائة وثلاثين
رجلا وسلم المربوع منها
وقال صاحب معتمد الراوي لما قتل أبو الربيع الزرهوني قام أخوه مولاي أحمد يطلب
بثأره وساق معه نحو أربعمائة من الزراهنة واقتحم بهم فاس وقاتلوا الفقيه المربوع
وشيعته من اللمطيين فالتف أهل فاس على المربوع وقاتلوا معه الشريف يدا واحدة
فانهزم الشريف وقتل جل من معه وكاد يقبض عليه باليد ففر إلى روضة سيدي أحمد الشاوي
ومعه نحو الثمانين من أصحابه فتبعهم الفقيه المربوع في جمع عظيم من اللمطيين
واقتحم عليهم الروضة ففر الزراهنة إلى بيوت دار الشيخ فهجم عليهم المربوع بجنده
وقتلهم أجمعين ثم إن المربوع واللمطيين جاؤوا برجل يقال له عبد الرحمن الخنادقي
كان يتعبد بزرهون فاستقدموه في جمادى الأولى سنة سبع
____________________
وعشرين وألف وراموا أن يملكوه
ويجتمعوا عليه فأنزلوه مع أصحابه في روضة الشيخ أبي الحسن علي بن حرزهم واتصل
الخبر بالقائد أحمد بن عميرة وزير عبد الله بن الشيخ فأتى وفتك بأصحاب الرجل
المذكور ولجأ هو إلى ضريح الشيخ ابن حرزهم فرموه من طاق هنالك فقتلوه وسقط ميتا
على القبر وبطل أمره
ولما سئم أهل فاس من الفتن وكثرة الحصار وضاق بهم الحال من غارات الأعراب ذهبوا
إلى عبد الله بن الشيخ بفاس الجديد ونصروه وأظهروا المحبة له ففرح بهم غاية
وتحالفت العامة والخاصة على نصره والإذعان إليه فصفح عنهم وعفا لهم عما سلف وبعث
وزيره إلى المربوع بالأمان فلم يأمن وخاف على نفسه وصمم مع اللمطيين على قتال عبد
الله وتهيؤوا له حتى لم تصل الصلوات الخمس بالقرويين ثم إن القائد حمو بن عمرو
وزير عبد الله أمر بأن ينادى بأمان اللمطيين ففر اللمطيون عن المربوع حينئذ حتى لم
يبق معه إلا قليل ثم بعث إليه عبد الله بسبحته وخاتمه أمانا فلم يأمن وفر ليلا إلى
بني حسن فأخذه شيخهم سرحان وأتى به إلى عبد الله فعفا عنه وعادت دولة عبد الله إلى
شبابها واستتب أمره وتمهدت له البلاد وذلك في جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وألف
فجمع الجيوش وبعث بعض جنده لحصار تطاوين وبعضهم لقبض الأعشار وبعث وزيره حمو بن
عمرو مع المربوع لأرجين موضع من جبال الزبيب فغدر المربوع بالوزير وقتله اعتمادا
على كلام سمعه من عبد الله فغضب عبد ا لله وأسرها في نفسه ثم في يوم الاثنين ثالث
ربيع النبوي سنة ثمان وعشرين وألف قتل المربوع اللمطي ونهبت داره
وقال في نشر المثاني قتله عبد الله بن الشيخ وعلقه على البرج الجديد خارج باب
السبع ثم أنزله ولعبت عليه خيله ثم بعد أيام وظف عبد الله على اللطميين ثمانين
ألفا فثقل عليهم أمرها فهربوا في كل وجه فأسقط عنهم نصفها والله تعالى أعلم
____________________
ثورة محمد بن الشيخ المعروف
بزغودة على أخيه عبد الله بن الشيخ وما وقع في ذلك
قال في شرح زهرة الشماريخ لما رأى أهل بلاد الهبط ما وقع من افتراق الكلمة وتوقد
الفتن بايعوا محمد بن الشيخ المعروف بزغودة على ضريح الشيخ عبد السلام بن مشيش رضي
الله عنه وكان الذي قام بدعوته الشريف أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن عيسى بن
عبد الرحمن الإدريسي المحمدي اليونسي المعروف بابن ريسون وهي أم جده علي نزيل تاصروت
وبايعوه على الكتاب والسنة وعلى إحياء الحق وإماتة الباطل فلما بلغ خبره أخاه عبد
الله خرج لقتاله فالتقى الجمعان بوادي الطين واقتتلوا فانهزم عبد الله وتقدم محمد
إلى فاس فدخلها واستولى عليها في شعبان سنة ثمان وعشرين وألف وقبض على بعض عمال
عبد الله فقتلهم واستصفى أموالهم
وفي آخر شعبان المذكور وقعت الحرب بينهما بمكناسة فانهزم محمد ودخل عبد الله فاسا
في مهل رمضان من السنة وأظهر العفو عن الخاص والعام ثم قتل أهل فاس قائده ابن شعيب
وأخذوا حذرهم من عبد الله ثم وقع قتال بين أهل الطالعة وأهل فاس الجديد ودام أياما
عديدة حتى اصطلحوا لتاسع رجب من سنة تسع وعشرين وألف ثم إن عبد الله خرج لقتال
أخيه محمد فوقعت المعركة بينهما بوادي بهت فانهزم محمد وفر شريدا إلى أن قتله ابن
عمه كما سيأتي إن شاء الله
وفي يوم الجمعة خامس ذي القعدة من سنة اثنتين وثلاثين وألف قتل الفقيه العالم القاضي
أبو القاسم بن أبي النعيم بعد أن نزل من صلاة الجمعة
____________________
بفاس الجديد فقتلته اللصوص
بباب المدرسة العنانية وفي نشر المثاني قتله اللمطيون بالزربطانة لأنهم اتهموه
بالميل إلى عبد الله بن الشيخ فوقع بسبب قتله شر عظيم بين أهل العدوتين من فاس
ولم يزل عبد الله في معالجة أهل فاس فتارة يميلون إليه وتارة ينحرفون عنه لفساد
سيرته وقبح طويته حتى كان قائده مامي العلج ينهب الدور جهارا ويعطي عبد الله كل
يوم على ذلك عشرة آلاف مما ينهب من الناس من غير جريمة ولا ذنب
وقام عليه بمكناسة أيضا رجل يقال له الشريف آمغار وقام عليه بتطاوين المقدم أبو
العباس أحمد النقسيس ولم يبق في يده إلا فاس الجديد وأما فاس القديم فتارة وتارة
كما ذكرنا آنفا لأنه استولى عليها الشريف أبو الربيع والفقيه المربوع ولما قتلا
كما ذكرناه آنفا قام بفاس محمد بن سليمان اللمطي المدعو الأقرع وعلي بن عبد الرحمن
فقتل ابن سليمان
وقام أحمد بن الأشهب مع ابن عبد الرحمن المذكور فوقعت فتن وحروب ثم قام الحاج على
سوسان وابن يعلى وتولى أيضا يزرور ومسعود ابن عبد الله وغيرهم من الثوار
وكانت فاس أيام هؤلاء على فرق وشيع لا يأمن التاجر على نفسه إلا إن استجار بأحد من
هؤلاء ووقع من الفتن ما أظلم به جو فاس ونتن أفقها العاطر الأنفاس وخلا أكثر
المدينة واستولى عليها الخراب ودام الشر بين أهل العدوتين حتى كادت فاس تضمحل
ويعفو رسمها
وحدث غير واحد من الثقات أنه لما دامت الحرب بين أهل العدوتين ولم يكن لأهل
الأندلس غلبة على اللمطيين قال الشيخ أبو زيد عبد الرحمن ابن محمد الفاسي لا يغلب
أحد اللمطيين ما داموا مواظبين على قراءة الحزب الكبير للإمام الشاذلي رضي الله
عنه وكانت طائفة من اللمطيين يقرؤونه كل صباح بزاوية سيدي رضوان الجنوي من عدوة
اللمطيين فسمع ذلك أهل عدوة الأندلس فاحتالوا على إبطال قراءة ذلك الحزب بأن بعثوا
____________________
أحدا فاحتال على أولئك الذين
يقرؤونه فاستضافهم فباتوا عنده جميعا في منزله فلما طلع الفجر أو كاد زعم أن مفتاح
الدار قد سقط منه وتلف ولم يزل يعاني فتحها إلى أن طلعت الشمس فخرجوا ولم يقرأوا
الحزب ذلك اليوم وأخبر أهل الأندلس بذلك فحملوا على أهل عدوة اللمطيين فهزموهم
وتحكموا فيهم مع أنهم كانوا لم يجدوا إليهم سبيلا قبل ذلك ببركة حزب الشاذلي رضي
الله عنه
وذكر بعضهم أن سبب هذه الفترة ما حكي أن عبد الله بن الشيخ عزم على التنكيل بأهل
فاس في بعض غلباته عليهم أيام خروجهم عليه فاستشفعوا إليه بالصالحين المجذوبين
سيدي جلول بن الحاج وسيدي مسعود الشراط وكان من الملامتية فلما وقفا بين يديه قال
أما وجد أهل فاس شفيعا غير هؤلاء الخراءين في ثيابهما فغضب سيدي جلول وقال والله
لا تصرف فيها يعني فاسا أحد أربعين سنة وانصرفا فيقال إن عبد الله بن الشيخ انقلبت
معدته فخرج غائطه من فمه أياما إلى أن أتى بالشيخين فاسترضاهما فكان أمر فاس كما
قال سيدي جلول لم يطأطئ رؤوس أعيانها سلطان إلى أن جاء الله بالمولى الرشيد بن
الشريف السجلماسي رحمه الله كما سيأتي وإنما كان يتصرف فيها رؤساء أهل فاس الذين
يسمونهم السياب قال اليفرني وهذه حكاية صحيحة سمعتها من غير واحد بفاس ملخصها ما
ذكرنا
ولم يزل عبد الله في محاربة أهل فاس القديم من سنة عشرين وألف إلى أن توفي يوم
الاثنين الثالث والعشرين من شعبان سنة اثنتين وثلاثين وألف بسبب مرض اعتراه من
إسرافه في الخمر وإدمانه عليه وكان لا يفارقه ليلا ولا نهارا ويتعاطاه سرا وجهارا
قال في شرح زهرة الشماريخ ولما توفي عبد الله ولي بعده أخوه عبد الملك في شعبان
سنة اثنتين وثلاثين وألف ولم يزل مقتصرا على ما كان قد صفا لأخيه إلى أن توفي في
ذي الحجة سنة ست وثلاثين وألف
____________________
ومن آثار عبد الله بن الشيخ القبة التي على الخصة الكائنة أسفل المنارة التي بوسط
صحن جامع القرويين فإنه لم يكن في القديم إلا الخصة المقابلة لها شرقي الجامع
المذكور غريبة
قال اليفرني حدثني شيخنا الفقيه أبو الحسن علي بن أحمد قال كان شيخ شيوخنا الفقيه
الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد ميارة يقول إن أحمد ابن الأشهب الذي تقدم ذكره
قبل في الثوار أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قال والحديث بذلك مذكور في كتاب
الجامع الكبير للحافظ جلال الدين السيوطي رحمه الله اه وقتل ولد ابن الأشهب رابع
جمادى الأولى سنة خمس وأربعين وألف فتك به علي بن سعد في جامع القرويين وهو في
صلاة العصر وقامت بسبب ذلك حرب بين أهل الأندلس واللمطيين وانتهبت السلع التي بسوق
القيسارية وسوق العطارين وبنى اللمطيون الدرب الذي بباب العطارين واستمرت الحرب
نحو ثمانية أيام ثم اصطلحوا ثورة أبي زكرياء بن عبد المنعم بالسوس ومغالبته لأبي
حسون السملالي المعروف بأبي دميعة على تارودانت
كان الفقيه أبو زكرياء يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد المنعم الحاحي لما رجع من
مراكش إلى السوس حسبما مر بدا له في طلب الملك وجمع الكلمة لما رأى من افتراقها في
حواضر المغرب وبواديه
وكان المرابط أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن الولي الصالح أبي العباس أحمد بن
موسى السملالي ويقال له أيضا أبو حسون قد ظهر بالصقع السوسي عند فشل ريح السلطان
زيدان به واستولى على تارودانت وأعمالها
فلما ثار الفقيه أبو زكرياء سار إلى تارودانت فتغلب عليها وملكها من يد أبي حسون
المذكور وبعد أن وقع بينه وبينه معارك ومقاتلات كبيرة وكان
____________________
القاضي بتارودانت يومئذ الفقيه
العالم أبو مهدي عيسى بن عبد الرحمن السكتاني وكان أبو زكريا قد استشاره فيما عزم
عليه فلم يوافقه على ذلك ولم يساعده على مراده لما فيه من الخروج على السلطان بلا
موجب فغضب عليه الفقيه أبو زكرياء حتى أمر بقتله غيله فيما قيل فخرج القاضي من
المدينة خائفا يترقب وذهب إلى مراكش فاستقر بها وعصمه الله منه وكتب إلى أبي
زكرياء برسالة يعظه فيها وينهاه عن الخروج على السلطان ونصها
بسم الله الرحمن الرحيم و صلى الله عليه وسلم
يقول الفقير الشديد الحاجة إلى رحمة مولاه الغني به عمن سواه السائل منه التوفيق
واللطف في ظعنه ومأواه كاتبه عيسى بن عبد الرحمن السكتاني عفا الله عنه وسمح له
الحمد لله الذي جعل الصدع بالحق وظيفة الأنبياء وأورثه بعدهم من خلقه فريق العلماء
و صلى الله عليه وسلم على من أكد أمر الصلح وقال ( الدين النصيحة ) فقيل لمن يا
رسول الله فقال ( لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) والرضا على آله وصحبه
الذين سلكوا سبيله وانتهجوا من المناهج طريقه وعن التابعين وتابع التابعين لهم إلى
وقوع القصاص بين الخليقة وبعد فإني لما قفلت بحمد الله بسلامة وعافية إلى جبلي
وجدت أهلي وأولادي مستوحشين من البادية وإن كانت محل سلفي ومقر تلادي بعد أن ألفوا
الحواضر وطبعوا على طباعها فكانوا أحق بها وكنت في غاية الضيق والتأسف لما حل
بالأولاد فتذكرت قول بعض فقهاء الأندلس ممن نابه مثل ما نابني وأصابه مثل ما
أصابني
( أليس من القبيح مقام مثلي ** بدار الخسف منكسف الجمال )
( أخالط أهل سائمة وسرح ** وأرتع بين راعية الجمال )
فأجلت فكري وإن كان الكل بقدر الله وإرادته فرأيت أن ذلك وفي القضاء لطف أمر أنتجه
كما لا يخفى على ذي بصيرة ما حل بالمغرب من
____________________
افتراق الكلمة وتلاعب شياطين
الإنس والجن بذوي العقول منهم فصاروا أحزابا وفرقا فاتبعت كل طائفة من هواها ما
كانت تعبد حتى إذا عرض لعاقل أو عرض عليه منهم الإقلاع بادره الشياطين فسدوا عليه
بابه وأروه بإغوائهم وزينوا له أن ذلك يشينه لدى العامة ويوجب له السقوط من أعين
الناس مع أنه لا يعده من السقوط إلا { الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من
الجنة والناس } الناس 6 - 4 وأين يغيب عن الموفق أن السقوط من عين الله هو الطامة
الكبرى وأين غاب عنه أن العبرة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا بكلام
الهمج الرعاع ممن لا يزال الشيطان يلعب به آخذا بزمامه ساكنا على قلبه ولسانه وأين
يغيب عنه من كتاب الله { فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى
وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى } النازعات 37 - 41
فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون هذه مصيبة عظيمة نزلت بمغربنا فافترق ملأهم وقتلت
سرواتهم وانتهبت أموالهم وهتكت حرمهم ومزقت أعراضهم وفسدت أديانهم واختلت وبدت عن
التوفيق آراؤهم وكادت تطمع بل طمعت فيهم أعداؤهم اللهم يا ذا الطول والامتنان يا
حنان يا منان يا ذا الجلال والإكرام تداركنا بألطافك الخفية في ديننا ودنيانا يا
خالق الأرض والسماء
فإن قلت ما ذكرته من أن خروجك من الحواضر إلى البوادي هو نتيجة افتراق الكلمة كما
فعله من يقتدي به من الصحابة رضي الله عنهم فتبدى صحيح وما دليلك على التلاعب قلت
ما خرجه أئمة الصحاح من منع الخروج على الأئمة وأن الواجب في حق من رأى منهم ما
يكره الصبر والاحتساب إذ غائلة الجور وإن تفاحش أقل بكثير من غائلة الخروج الذي
يترتب عليه فساد المهج والأموال والأعراض والأديان وهتك الحرم ولهذا صبر على
الحجاج من علماء الصحابة والتابعين من صبر حتى لقوا الله تعالى سالمي الأديان
وبعبادته مغتنمي الزمان وتذكر فما بالعهد من قدم بالمرابط أبي محلي كان في قطره
عالي الصيت يقصد ويتبرك به ويعتقد فيه أنه من قطب زمانه وبلغ به الحال إلى أن سولت
له نفسه أو سول لها أنه يصلح به
____________________
ما لم يصلح بغيره من أهل
الزمان فقام وأعانه عليه قوم آخرون حتى ملأ الدنيا صياحا ودعاوى وعياطا وأكاذيب لا
يشهد لها عقل ولا نقل فتمرد على المسلمين حتى لم يسلموا من لسانه ويده فقتل ونهب
وسب واغتاب وحمل نفسه ما لا تطيقه فاستهوته شياطين الإنس والجن والنفس والهوى ثم
بعد ذلك كله لم يحصل من سعيه على طائل وآفته الغفلة عن الكتاب والسنة والرضا عن
النفس حتى أنه حكمها فصارت تلعب به إلى أن فاه وادعى بدعاوى استبيح بها ما كان
معصوما من دمه وهلكت بسببه بعده نفوس وأموال وغير ذلك أيشك من ارتاض بالكتاب
والسنة ونظر بعين الشريعة إن فعله ذلك مما حمله عليه من تجب مخالفته من الشيطان
والنفس والهوى وربما اسحسن فعله ذلك من شيعته من ابتلي به أو قلده تقليدا رديا في
فعله فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين وإلى الآن كانوا يستصوبون فعله ويستحسنون
قوله مع أنه بمعزل عن الكتاب والسنة
فإن قلت وهذه طائفة الفقراء ما بين متعصب متحزب ومتحيل متصيد ومتسور على ما استأثر
به الباري من الغيوب مرتكب للآثام مصر على العيوب قلت وهذه طائفة الفقراء فيها جل
ما تقدم وزيادات تضيق عن الإحاطة بها السطور والطروس قد بددتها والعياذ بالله
الفتن وشردها ما تخوفته من المحن بانت العلوم واضمحلت الفهوم وتعطلت الرسوم فلا
منطوق يذكر ولا مفهوم
( هذا الزمان الذي كنا نحاذره ** في قول كعب وفي قول ابن مسعود )
وقلت وهذا الشيخ أبو زكرياء وهو الذي يساق إلى نصحه الحديث كنا نستسقي به ونستشفي
وكانت تشد إليه الرحال ولا يأنف من إتيانه النساء والرجال قد أتته من أقطار مغربنا
الوفود ودانت له الذئاب والأسود وكان يعلم الجهال ويهدي الضلال ويطعم الجائع ويكسو
العريان ويعين ذا الحاجة ويغيث اللهفان وهي سبيل يا لها من سبيل وطريقة ما أحسنها
من طريقة ثم صارت تلك الجموع وكان أمر الله قدرا مقدورا أيدي سبا
____________________
وتلاشت شذر مدر ما لها من نبا
أيها الشيخ أكرمك الله بتسديده أو تجد في الوجود ملكا أعظم من ذلك الملك فتطلبه أو
سلطانا يوازيه أو يقاربه فتحاوله أين خفي عليك الشيء وهو ضروري أم أين ضلت عنك
النصوص من الكتاب والسنة وأنت منقولي معقولي { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم
لذكر الله وما نزل من الحق } الحديد 16 { لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم } غافر
10 و ( إن أبغض الكلام إلى الله أن يقول الرجل للرجل اتق الله فيقول عليك نفسك )
وهو طرف من حديث خرجه النسائي وقد وعظتك وذكرتك إن نفعت الذكرى قال جل من قائل {
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } الذرايات 55
( فقلت من التعجب ليت شعري ** أأيقاظ أمية أم نيام )
فإن قال شيطان من شياطين الإنس أو الجن هذا ما أريد به وجه الله قلت الله الموعد
إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وإن خطر هذا
وهجس بقلب الشيخ أكرمه الله والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم قلت أدل دليل على
أني قصدت محض النصيحة هو أنه استنصحني على دفاع أبي محلي فنصحته وقلت له إن هذا لا
تستقيم معه الديانة فكأنه ما قبل فانفصلت عنه وهو يقول استخر لي الله فكاتبته بأن
لا يفعل ثم لما نزل وكان على باب الغزو من تارودانت خلوت به فقلت له إذ ذاك إن
الناس يقولون كذا وكذا وعرفته إذ ذاك بما عرفته من أبناء الزمان فجمعنا في رملة
إلى الآن أتخيل حرها وتبرأ من كل ما يقال وما زلت على المنع إلى أن جاءت كراريس من
قبل أبي محلي فتأملتها فوجدتها مشتملة على كفريات في جزئيات فيحنئذ شرح الله صدري
لإباحة دفاعه
ثم وإن قلت ذلك فنفسي آمرة ولا أقول في نفسي ما كان يقوله سحنون في قضية ابن أبي
الجواد مالي وله الشرع قتله ولو قلت أو غششت لغششت في قضية ذلك الرجل وزينت لك
قتاله أولا لأن ذلك هو مقتضى التعصب للأمير وإذا لم أتعصب إذ ذاك فكيف أستسهله
الآن فتعين
____________________
أني نصحت لكم أن قبلتم وإلا
فكما قال تعالى عن نبي من أنبيائه { ولكن لا تحبون الناصحين } الأعراف 79 أنشدك
الله الذي بإذنه تقوم السماوات والأرض أما قلت لك بعد رجوعي العام الأول من مراكش
بل الذي قبله إن العذر لا يحسن وصرحت ولوحت بأن شق العصا لا يحل غيرة مرة وما
كفاني القول الدال على ذلك إلى أن زدت الفعل بالخروج من مدينة لا أبغضها كما قال
( فوالله ما فارقتها عن قلي لها ** وإني بشطي جانبيها لعارف )
ورضيت بالبادية مع جفائها فرارا من الفتن وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم ( يوشك
أن يكون خير مال الرجل غنما يتبع به سعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن )
ثم بعد فعلى هذا كله نصحت فلم أفلح وخانوا فأفلحوا وعدوا علي من القبائح طاعتي
للأئمة مع أنك يوم جاء إلى دارك قلت لهم هذا أميركم ونحن لا نشك أنك من المعتبرين
في مغربنا وأن بيعتك لأحد لازمة لنا وكذلك حين ذهبت إلى مراكش في وقعة أبي محلي قد
أراد أهل مراكش فأبيت وأبحت البلاد لخدم الأمير وقلت لهم إنه الأمير وفهمه الناس
عنك بلسان الحال وبلسان المقال ونصروه بمرأى منك ومسمع أفتشك بعد أن كان منك هذا
أنك مبايع وأنت قدوة وإذا كان هذا فأي حجة لك على الأمير ولا على المأمورين فمن
زين لك قتاله فقد غشك إذ هو مسلم وابن مسلمين
فإن قلت موافقتي مشروطة بشروط لم يوف لي بها قلت هب أنه لم يوف لك أفتستبيح قتاله
لأجل ذلك والرسول صلى الله عليه وسلم يقول ( إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل
والمقتول في النار ) الحديث فبالله أيها الشيخ ما تقول في هذا الحديث وأنظاره وما
تقول فيما انتهب أو عسى أن ينتهب من أموال الناس وأخذ بغير حق وأنفق في سبيل
الطاغوت والرسول صلى الله عليه وسلم يقول ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس )
أو ما تستحي من ربك يوم تسأل عن النقير والقطمير ولست ممن خفي عليه ذلك كله فتعذر
عند
____________________
المخلوقين أو ما علمت أن كثيرا
من العوام يعتقد جواز ذلك إذ رآك ارتكبته فتكون قد سننت هذه السنة وضل بسبب ذلك
كثير من الناس أو ما خشيت دعوة المظلوم التي ما بينها وبين الله حجاب أو ما كنت
تعير من يرتكب مثل ذلك من الولاة وتتأسف عليه ( لا تعير أخاك المؤمن ) الحديث
( لا تنه عن خلق وتأتي مثله ** عار عليك إذا فعلت عظيم )
أما انتبهت لما وقع لأهل درعة من النهب والسلب واسترقاق الأحرار وهتك الحرم ( إن
دماءكم وأعراضكم عليكم حرام ) الحديث وقد أتانا السؤال من قبل الشيخ عن صنيع
سكتانة ذلك ولم يستطع إذ ذاك من نظر بنور العلم أن يقول لهم في وزر نظرا إلى ما آل
إليه الحال في أهل درعة مع أن جلهم حملة القرآن وعامتهم بله ( وأكثر أهل الجنة
البله ) أفيليق بحق الصلحاء أن يسلط عليهم من لا يرحمهم ( ولا تنزع الرحمة إلا من
قلب شقي ) ( إنما يرحم الله من عباده الرحماء ) ( من لا يرحم لا يرحم ) ( ارحموا
من في الأرض يرحمكم من في السماء ) أو نسيت أنه يقتص للجماء من القرناء وأن الظلم
الذي لا يتركه الله ظلم الناس بعضهم لبعض أفي علمك أن حسناتك تفي بما عليك من
التبعات أو أنه لا تباعة لأحد عليك ولو كنت بدريا لاحتمل أن يقال في شأنك ما قاله
صلى الله عليه وسلم لعمر ( وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر ) فقال ( اعملوا
ما شئتم فقد غفرت لكم ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم ( والظلم ظلمات يوم القيامة
) أو تستطيع أن تقتحم ظلمات الصراط وأنت مسؤول عن القيراط وحتى أهل تارودانت بلغنا
أنه لم يغن في شأنهم الترويع بل بلغ بهم الحال والجور إلى التقريع فاتق الله أيها
الشيخ ولا تكن كمن إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم هذا ما يتعلق ببعض حقوق
الناس على العموم ويتعلق بحق كاتبه على الخصوص إنك أخذت عليه أن يؤدي الطاعة
للأمير ويرعى ما هو من شيم المؤمنين من حسن العهد والتبري من الغدر وشق العصا بعد
أن بذل وسعه في نصحك ونصح الأمير وحاول بكليته على جمع الكلمة وتعب في ذلك
____________________
واقتحم فيه عقبات لا يقطعها
إلا بازل ولا سبيل إليها لمن يكون في دينه وعمله مثلي ممن هو نازل
( لعمر أبيك ما نسب المعلى ** إلى كرم وفي الدنيا كريم )
( ولكن البلاد إذا اقشعرت ** وصوح نبتها رعى الهشيم )
( إذا غاب ملاح السفينة فارتمت ** بها الريح هوجا دبرتها الضفادع )
ولكن ليس من شرط النصيحة كمال الناصح كما أنه ليس من شرط تغيير المنكر عدم ارتكاب
المغير ما غير لأن هذه طاعة وتلك أخرى والتوفيق بيد الله سبحانه نعم بلغني مع ذلك
وجزم لي به أنك مع بذل النصح لك وللأمير أصلح الله الجميع وأصلح ذات بينهم أخذت
علي بالرصد في قفولي لصبيتي والرجوع إليهم رعاية لما يجب ويندب من حقوقهم وهل هذا
إلا حكم الهوى والشيطان أعندك ما تستبيح به ذلك مع أني والحمد لله أينما كنت لا
أسعى إلا في مصلحة جهد الاستطاعة أو بث نصيحة حين لا أرى من يبثها أو إغاثة ملهوف
حين تجب إغاثته { لئن بسطت إلي يدك لتقتلني } المائده 28 الآية ولكن الله عز وجل
يقول { ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله } فاطر 43 وفي التوراة من حفر حفرة
فليوسعها ولا تحفرن بئرا تريد بها أخا فأين وجدت ما يسوغ لك ارتكاب مثل هذا قولا
أو فعل أو إشارة أو تصريحا أو تلويحا وأي جريمة توازي هذه الجريمة أو كبيرة من
الآثام أكبر منها والله الموعد { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } الشعراء
227 هذا والسعاية المصحوبة بسؤالي عن دفاع سكتانه أين تجدون ما يوجب إباحتها أين
غاب عنكم إنها من الكبائر وأين غاب عنكم قوله صلى الله عليه وسلم ( إن الرجل
ليتكلم بكلمة يهوي بها في النار سبعين خريفا ) أهذا من أخلاق المؤمنين والصالحين
وأنت من بيت الصلاح ما كان جدك يرضى مثل هذا { ما كان أبوك امرأ سوء } مريم 28
وهذا والله أعلم نتيجة قرناء السوء ولا تصحب من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله
مقاله وإلى هذا ينتهي حق الصحبة أعني بذل النصح إن الله يسأل عن صحبة ساعة
____________________
ونحن صحبناك واعتقدناك ونصحناك
ووعظناك ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ) فنصرناك بالرد إلى الجادة أين أنت من
مولانا الحسن بن علي إذ تخلى عن الأمر لابن عمه معاوية مع أنه هاشمي علوي فاطمي
إحدى ريحانتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعاوية أموي يجمعهما عبد مناف فتخلى عن
الإمارة مع أنه إمام وابن إمام وأصلح الله به وهو سيد بين فئتين عظيمتين من
المسلمين بعد أن كان يلقب بأمير المؤمنين فقال له بعض أصحابه إذ سلم عليه يا عار
المؤمنين فلم يكترث بذلك وقال النار أشد من العار ألهمنا الله وإياكم رشد أنفسنا وجعلنا
وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه انتهى
ولم يزل الفقيه أبو زكرياء مصمما على طلب جمع الكلمة إلى أن اخترمته المنية قال
صاحب الفوائد ما صورته قام الشيخ أبو زكرياء بجمع الكلمة والنظر في مصالح الأمة
واستمر به علاج ذلك إلى أن توفي ولم يتم له أمر انتهى وكانت وفاته ليلة الخميس
سادس جمادى الثانية من سنة خمس وثلاثين وألف بقصبة تارودانت وحمل من الغد إلى رباط
والده فدفن بجنبه رحمه الله
____________________
بقية أخبار السلطان زيدان وذكر
وفاته رحمه الله
قد ذكر المؤرخ لويز البرتغالي في كتابه الموضوع في أخبار الجديدة شيئا من أخبار
السلطان زيدان رحمه الله فقال كان السلطان زيدان صاحب مراكش مسالما لنا كافا عن
حربنا وكانت القبائل تفتات عليه في غزونا فكانت غاراتهم لا تنقطع عنا وكان هو أيضا
معهم في شدة ومكابدة من أجل اعوجاجهم عليه ثم ذكر أن من جملة من غزاهم في دولته
السيد سعيد الدكالي قلت وأظنه والد السيد إسماعيل صاحب الزاوية المشهورة ببلاد
دكالة قال فنهض سعيد بحال وغيرة وامتعاض للإسلام وسار إلى الجبل الأخضر وغيره فجمع
الجموع نحو اثني عشر ألفا وزحف بهم إلى الجديدة ووافقه على ذلك قائد آزمور وبعض
أشياخ الشاوية وكانوا في نحو مائتين وخمسين من الخيل وارتاع النصارى منهم وخافوا
خوفا شديدا وأمرهم قائدهم بالجد في حراسة الأسوار والأنقاب وأن يسدوا باب الجديدة
ولا يفتحوا منه إلا خوخته وحاصرهم المسلمون ثلاثا ثم قضى الله بوفاة السيد سعيد
فافترق ذلك الجمع قال لويز مات أسفا على ما فاته من الفتك بالنصارى كما يحب
وفي سنة أربع وثلاثين وألف خرج السلطان زيدان من مراكش وقصد ناحية آزمور ولما
انتهى إلى الموضع المعروف بأم كرس من بلاد دكالة حمل إليه نصارى الجديدة هدية
نفيسة ثم قدم ثغر آزمور في نحو أربعين ألفا من الخيل على ما زعم لويز ودخل البلد
وأخرج أهل آزمور عدة مدافع من البارود فرحا به ولما سمع نصارى الجديدة بذلك أخرجوا
مدافعهم أيضا فرحا بالسلطان وأدبا معه
____________________
وفي سنة ست وثلاثين وألف ثار على السلطان زيدان الفقير إبراهيم كانوت هكذا سماه
لويز ولم أدر من هو قال وفي خامس عشر من دجنبر من السنة تواقف جيش الثائر المذكور
مع جيش السلطان للحرب ببلاد دكالة وكان جيش السلطان يومئذ ألفا وخمسمائة فقط وجعل
على مقدمته ابنه عبد الملك فانهزم إبراهيم وقتل وقتل جماعة كثيرة من أصحابه وقبض
على ولده فبعثه السلطان مع عدد وافر من رؤوس أصحابه إلى مراكش وأخرج نصارى الجديدة
المدافع أيضا فرحا بهذا الخبر فبعث إليهم السلطان زيدان بفرس أحمر لقائدهم إكراما
له وكتب إليهم بكتاب تاريخه سادس رمضان سنة ست وثلاثين وألف مكافأة لهم على أدبهم
معه انتهى كلام لويز وقال اليفرني رحمه الله كان السلطان زيدان من لدن مات أبوه
المنصور وبويع هو بفاس في محاربة مع إخوته وأبنائهم ومقاتلة مع القائمين عليه من
الثوار الذين تقدم ذكر بعضهم ولم يخل قط في سنة من سني دولته من هزيمة عليه أو
وقيعة بأصحابه ووقعت بينه وبين إخوته معارك يشيب لها الوليد وكان ذلك سبب خلاء
المغرب وخصوصا مدينة مراكش ومما عد عن نحس زيدان واستدل به على فشل ريحه أنه في
بعض الوقائع بعث كاتبه عبد العزيز بن محمد التغلبي بعشرة قناطير من الذهب إلى صاحب
القسطنطينية العظمى وطلب منه أن يمده ببعض أجناده كما فعل مع عمه عبد الملك الغازي
فجهز له السلطان العثماني اثني عشر ألفا من جيش الترك وركبوا البحر فلما توسطوه
غرقوا جميعا ولم ينج منهم إلا غراب واحد فيه شرذمة قليلة
وقال منويل إن قراصين الإصبنيول غنمت في بعض الأيام مركبا للسلطان زيدان فيه أثاث
نفيسة من جملتها ثلاثة آلاف سفر من كتب الدين والأدب والفلسفة وغير ذلك
قال اليفرني وكان زيدان غير متوقف في الدماء ولا مبال بالعظائم قلت وهو مخالف لما
ذكره زيدان في رسالته التي خاطب بها أبا زكرياء
____________________
المتقدمة من أنه ما سعى في قتل
أحد إلا بفتوى أهل العلم والظن بزيدان أنه ما قال ذلك إلا عن صدق وإلا فمن البعيد
أن يفخر على خصمه ويدلي بشيء هو متصف بضده
وكان زيدان فقيها مشاركا متضلعا في العلوم وله تفسير على القرآن العظيم اعتمد فيه
على ابن عطية والزمخشري
قال اليفرني وكان كثير المراء والجدال كما وقع له مع الشيخ أبي العباس الصومعي قلت
الذي وقع له مع الصومعي هو أنه لما ألف كتابه الموضوع في مناقب الشيخ أبي يعزى رضي
الله عنه وسماه المعزى بضم الميم وفتح الزاي بصيغة اسم المفعول من الرباعي عارضه
زيدان وهو يومئذ بتادلا واليا عليها من قبل أبيه بأنه لم يسمع الرباعي من هذه
المادة وإنما قالت العرب عزاه يعزوه ثلاثيا فأصر أبو العباس رحمه الله على رأيه
إلى أن لطمه زيدان على وجهه بالنعل فشكاه إلى المنصور فقال له لو لطمك وهو المخطئ
لعاقبته أما إذا كان الصواب معه فلا
قلت كان زيدان يومئذ في عنفوان الشبيبة فصدر منه ما صدر
( فإن يك عامر قد قال جهلا ** فإن منظمة الجهل الشباب )
ومع ذلك فما كان من حقه أن يفعل وأظن أن انتكاس رايته سائر أيامه إنما هو أثر من
آثار تلك اللطمة فإن لله تعالى غيرة على المنتسبين إلى جنابه العظيم وإن كانوا
مقصرين فنسأله سبحانه أن يجنبنا موارد الشقاء ويسلك بنا مسالك الرفق في القضاء
وللسلطان زيدان شعر لا بأس به منه قوله
( فتنتنا سوالف وخدود ** وعيون مدعجات رقود )
( ووجوه تبارك الله فيها ** وشعور على المناكب سود )
( أهلكتنا الملاح وهي ظباء ** وخضعنا لها ونحن أسود )
وقوله
( مررت بقبر هامد وسط روضة ** عليه من النوار مثل النمارق )
____________________
( فقلت لمن هذا فقالوا بذلة ** ترحم عليه إنه قبر عاشق )
وكانت وفاته رحمه الله في المحرم فاتح سنة سبع وثلاثين وألف ودفن بجانب قبر أبيه
من قبور الأشراف قبلي جامع المنصور من قصبة مراكش ومما نقش على رخامة قبره قول
القائل
( هذا ضريح من به ** تفتخر المفاخر )
( حامي حمى الدين ** بكل ذابل وباتر )
( لا زال صوب رحمة ** الله عليه ماطر )
( أرخ وفاة من غدا ** جارا لرب غافر )
( زيدان سبط أحمد ** مبتكر المآثر )
( أجل من خاض الوغا ** وللأعادي قاهر )
( ومن شذا رضوانه ** نفحة كل عاطر )
( بمقعد الصدق علا ** أبو المعالي الناصر )
ووزراؤه الباشا محمود ويحيى آجانا الوريكي وغيرهما وكتابه عبد العزيز الفشتالي
كاتب أبيه وعبد العزيز بن محمد التغلبي وغيرهما وقضاته أبو عبد الله الرجراجي
وغيره وترك عدة أولاد منهم عبد الملك والوليد ومحمد الشيخ وهؤلاء ولوا الأمر بعده
وأحمد وغيرهم رحم الله الجميع الخبر عن دولة السلطان أبي مروان عبد الملك بن زيدان
رحمه الله
لما توفي السلطان زيدان رحمه الله في التاريخ المتقدم بويع بعده ابنه عبد الملك
ولما تمت له البيعة ثار عليه أخواه الوليد وأحمد فوقعت بينه وبينهما معارك وحروب
إلى أن هزمهما واستولى على ما كان بيدهما من العدة والذخيرة وفر أحمد إلى بلاد
الغرب فدخل حضرة فاس يوم الجمعة الخامس والعشرين من صفر بعد وفاة أبيه بستة
وأربعين يوما فاتسم بسمة
____________________
السلطان وضرب سكته وفي ثالث
عشر شوال من السنة عدا على ابن عمه محمد بن الشيخ المعروف بزغودة فقتله غدرا
بالقصبة ولما كان الحادي عشر من ذي الحجة سنة سبع وثلاثين وألف أخذ أحمد المذكور
وسجن بفاس الجديد على يد قائدهم عبو وباها وبقي مسجونا سبع سنين ثم خرج من السجن
مستخفيا بين نساء في سابع رجب سنة أربع وأربعين وألف وأعلن العامة بنصره ولم يتم
له أمر ثم توفي قتيلا في الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وألف رمي
برصاصة من بعض العامة فكان منها حتفه وذلك بفاس الجديد ولم يتم له أمر ظهور أبي
عبد الله العياشي بسلا ومبايعة أكابر عصره له على الجهاد والقيام بالحق
قد تقدم لنا انتقاض أندلس سلا على السلطان زيدان وقتلهم مولاه عجيبا فبقيت سلا
فوضى لا والي بها فكثر النهب وامتدت أيدي اللصوص إلى المال والحريم وسيدي محمد
العياشي ساكت لا يتكلم وكثرت الشكايات من التجار والمسافرين بمخافة السبل وقطع
الطرقات فأهرع الناس إلى أبي عبد الله المذكور من كل جانب وكثرت وفوده وأشرقت في
الجو السلاوي أنواره فشمر عن ساعد الجد وأظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ولما طالبه الناس بالتقدم عليهم والنظر في مصالح المسلمين وأمور جهادهم مع عدوهم
أمر أشياخ القبائل وأعيانها من عرب وبربر ورؤساء الأمصار أن يضعوا خطوطهم في ظهير
بأنهم رضوه وقدموه على أنفسهم والتزموا طاعته وأن أي قبيلة خرجت عن أمره كانوا معه
يدا واحدة على مقاتلتها حتى تفيء إلى أمر الله فأعطوا بذلك خطوطهم في ظهير وأنهم
رضوه وقدموه على أنفسهم ووافق على ذلك قضاة الوقت وفقهاؤه من تامسنا إلى تازا
____________________
وكان الحامل له على طلب ذلك منهم أنه بلغه عن بعض طلبة الوقت أنه قال لا يحل
الجهاد إلا مع الأمير ففعل ذلك خروجا من تلك الدعوى الواهية وإلا فقد كتب له علماء
الوقت كالإمام أبي محمد عبد الواحد بن عاشر والإمام أبي إسحاق إبراهيم الكلالي بضم
الكاف المعقودة والإمام أبي عبد الله محمد العربي الفاسي وغيرهم بأن مقاتلة العدو
الكافر لا تتوقف على وجود السلطان وإنما جماعة المسلمين تقوم مقامه ولما كمل أمره
وبايعه الناس على إعلاء كلمة الله ورد الظلم عن ضعفاء الأمة ضاق الأمر على عرب
المغرب لاعتيادهم الفساد وعدم الوازع ومحبتهم الخلاف والفتنة فنكث بيعته جماعة
منهم
وكان من نكث الناصر بن الزبير في لمة من شراقة فقاتلهم أبو عبد الله حتى ظفر بهم
ثم عفا عنهم ونكث أيضا الطاغي بالتاء بدل الطاء في لسانهم مع جموعه أولاد سجير
فغلبهم وعفا عنهم وكذلك عرب الحياينة طغوا على أهل فاس وعاثوا خلال تلك البلاد
بإغراء ولد السلطان زيدان فقاتلهم أبو عبد الله فكانت الدبرة عليهم وتاب على يده
جماعة من رؤساء شراقة الذين كانوا مع الحياينة وكانت عاقبة كل من بغى عليه خسرا
وكان أهل سلا قد لقوا من نصارى المعمورة مضرة وشدة فلما اجتمعت الكلمة على أبي عبد
الله العياشي ورد الله كيد من نكث في نحره كان أول ما بدأ به أنه تهيأ للخروج إلى
حلق المعمورة واستعد لقتاله ومنازلة من فيه من النصارى طمعا في فتحه فيتقوى
المسلمون بذخائره وكان المسلمون قد حاصروه قبل ذلك فلم يقدروا منه على شيء وصعب
عليهم أمره وكان أبو عبد الله إذا أراد الله أن يظفره بغنيمة رأى في منامه أنه يسوق
خنازير أو نحوها ولما سار بجموعه إلى الحلق ونزل عليه رأى قطعتين من
____________________
الخنازير معها عنوز فكان من
قضاء الله وصنعه أنه في صبيحة تلك الليلة قدمت أغربة من سفن النصارى بقصد الدخول
إلى الحلق فضيق عليهم رماة المسلمين الذين بالخندق فأرادوا أن ينحرفوا إلى البحر
فردهم البحر إلى ساحل الرمل هنالك فتمكن المسلمون منهم وقتلوا وسبوا ووجدوا في
الأغربة زهاء ثلاثمائة أسير من المسلمين فأعتقهم الله وأسر يومئذ من النصارى أكثر
من ثلاثمائة وقتل منهم أكثر من مائتين وظفر المسلمون بقبطان من عظمائهم ففدى به
الرئيس طابق رئيس أهل الجزائر وكان عندهم محبوسا في قفص من حديد
واستقامت الأمور لأبي عبد الله العياشي بسلا وبنى داره داخل باب المعلقة منها وبنى
برجين على ساحل مرسي العدوتين من ناحية سلا وهما المعروفان اليوم بالبساتين
ثم كانت غزوة الحلق الكبرى وكان من خبرها أن جيش أهل فاس خرجوا بقصد الجهاد فنزلوا
بموضع يعرف بعين السبع وكمنوا فيه ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع خرج النصارى إلى
تلك الجهات على غرة فظفر بهم المسلمون وكان النصارى لما خرج جيش أهل فاس أعلمهم
بذلك مسلم عندهم مرتد فأعطوه سلعا وجاء بها إلى سلا بقصد بيعها والتجسس لهم على
الخبر فأخذ وقتل وعميت عليهم الأنباء إذ كانوا ينتظرون من يرد عليهم فيخبرهم ولما
أبطأ عليهم خرجوا فلم يشعروا إلا بالخيل قد أحاطت بهم وقتل منهم نحو الستمائة ولم
ينج إلا القليل حتى لم يبت في الحلق تلك الليلة إلا نحو أربعين رجلا منهم وغنم
المسلمون منهم أربعمائة من العدة ولم يحضر أبو عبد الله العياشي في هذه الوقعة
لأنه كان قد ذهب إلى طنجة حنقا على يوم المسامير لأن النصارى خذلهم الله كانوا قد
صنعوا نوعا من المسمار بثلاثة رؤوس تنزل على الأرض والرابع يبقى مرفوعا وثبوا ذلك
في مجالات القتال مكيدة عظيمة تتضرر منها الفرسان والرجالة فلما رجع وأعلم بضعف من
بقي بالحلق بعث إلى أهل الأندلس بسلا يصنعون له السلالم كي يصعد بها إلى من بقي في
الحلق فيستأصلهم فتثاقلوا عن صنعها غشا
____________________
للإسلام ومناواة لأبي عبد الله
حتى جاء المدد لأهل الحلق وكانت تلك الرابطة بين أهل الأندلس والنصارى متوارثة من
لدن كانوا بأرضهم فكانوا آنس بهم من أهل المغرب فلما أتى أبو عبد الله بالسلالم لم
تغن بعد شيئا ومن هنالك استحكمت البغضاء بينه وبين أهل الأندلس وكان أهل الأندلس
قد أعلموا النصارى بأن محلة أبي عبد الله النازلة لمحاصرة الحلق ليست لها إقامة
فبلغ ذلك أبا عبد الله فأقام عليهم الحجة وشاور العلماء في قتالهم فأفتى أبو عبد
الله العربي الفاسي وغيره بجواز مقاتلتهم لأنهم حادوا الله ورسوله ووالوا الكفار
ونصحوهم ولأنهم تصرفوا في مال المسلمين ومنعوهم من الراتب وقطعوا البيع والشراء عن
الناس وخصوا به أنفسهم وصادقوا النصارى وأمدوهم بالطعام والسلاح وكان سيدي عبد
الواحد بن عاشر لم يجب عن هذه القضية حتى رأى بعينه حين قدم إلى سلا بقصد المرابطة
فرأى أهل الأندلس يحملون الطعام إلى النصارى ويعلمونهم بعورة المسلمين فأفتى حينئذ
بجواز مقاتلتهم فقاتلهم أبو عبد الله وحكم السيف في رقاب هم أياما إلى أن أخمد
بدعتهم وجمع الكلمة بهم
ولما وقعت غزوة الحلق الكبرى قدمت الوفود على أبي عبد الله بقصد التهنئة بما منحه
الله من الظفر فحض الناس على استئصال شافة من بقي بالحلق من النصارى وعير العرب
بترك الكفار في بلادهم وكان ممن حضر من العرب جماعة من الخلط وبني مالك والتاغي
والدخيسي وغيرهم فقال لهم أبو عبد الله والله والله والله إن لم تأخذكم النصارى
لتأخذنكم البربر فقالوا يا سيدي كيف يكون هذا وأنت فينا فقال لهم اسكتوا أنتم
الذين تقطعون رأسي فكان كذلك وهذا من كراماته رضي الله عنه ثم صرف عزمه إلى
التضييق على نصارى العرائش وشن الغارات عليهم فتقدم في جمع من المسلمين وكمن
بالغابة نحوا من سبعة أيام فخرجوا على حين غفلة فمكن الله من رقابهم وكان في مدة
كمونه بالغابة أخذ حناشا من عرب طليق يقال له ابن عبود والحناش في لسان عامة أهل المغرب
هو الجاسوس فأراد عبد الله قتله فقال له اسبقني وأنا تائب إلى الله وأنا أنفع
المسلمين
____________________
إن شاء الله فتركه فذهب إلى
النصارى وكان موثوقا به عندهم حتى كانوا يؤدون إليه الراتب فقال لهم إن أحياء
العرب وحللها قد نزلوا بوادي العرائش فلو أغرتم عليهم لغنمتموهم فخرجوا فمكن الله
منهم وطحنهم المسلمون في ساعة واحدة طحت الحصيد ولم ينج منهم إلا الشريد وكان ابن
عبود قد بقي بأيديهم فأخذوه ومثلوا به ونزعوا أسنانه وأرادوا قتله لولا أنه رفعهم
إلى شرعهم وكان عدد من قتل من النصارى نحو ألف وكانت هذه الوقعة سنة أربعين وألف بقية
أخبار السلطان عبد الملك بن زيدان ووفاته
قال اليفرني كان عبد الملك بن زيدان فاسد السيرة مطموس البصيرة وبلغ من قلة ديانته
أنه تزايد له مولود فأظهر أنه أراد أن يحتفل لسابعه فبعث إلى نساء أعيان مراكش
ونساء خدامه أن يحضرن وصعد هو إلى منارة في داره فنظر إلى النساء وهن منتشرات قد
وضعن ثيابهن فأيتهن أعجبته بعث إليها وكان مدمنا على شرب الخمر إلى أن قتله العلوج
بمراكش وهو سكران يوم الأحد سادس عشر شعبان سنة أربعين وألف ودفن إلى جانب قبر
أبيه
وبسط منويل خبر مقتله فقال لما ثار الوليد على أخيه عبد الملك وعادت الكرة عليه
بقي متنقلا في البلاد ثم رغب إلى أخيه حتى رده إلى مراكش فأخذ الوليد يستميل رؤساء
الدولة ووجوهها وتجارها ويعدهم بالإحسان حتى وافقوه على الفتك بأخيه فترصدوه حتى
غفل البوابون ودخلوا عليه قبته وهو متكئ على طنفسة فرموه برصاصة وتناولوه بالخناجر
المسماة عند المغاربة بالكميات وقامت الهيعة بالمشور والقصبة فخاف الوليد على نفسه
من بعض قواد الجند فأخرج جنازة أخيه إلى المشور حتى شاهده الناس ميتا فسكنوا
وانقطع أملهم وبايعوه انتهى قال اليفرني ومما رأيته منقوشا على رخامة قبره هذان
البيتان
____________________
( لا تقنطن فإن الله منان ** وعنده للورى عفو وغفران )
( إن كان عندك إهمال ومعصية ** فعند ربك أفضال وإحسان )
ومن وزرائه محمد باشا العلج ويحيى آجانا الوريكي وجؤذر وغيرهم وقاضيه الفقيه أبو
مهدي عيسى بن عبد الرحمن السكتاني قاضي مراكش ومفتيه أبو العباس أحمد السملالي رحم
الله الجميع الخبر عن دولة السلطان أبي يزيد الوليد بن زيدان رحمه الله
لما قتل السلطان عبد الملك بن زيدان في التاريخ المتقدم بويع أخوه الوليد بن زيدان
فلم يزل مقتصرا على ما كان لأخيه وأبيه من قبله لم يجاوز سلطانه مراكش وأعمالها
وعظمت الفتن بفاس حتى عطلت الجمعة والتراويح من جامع القرويين مدة ولم يصل به ليلة
القدر إلا رجل واحد من شدة الهول والحروب التي كانت بين أهل المدينة
واقتسم المغرب في أيام أولاد زيدان طوائف فكان حاله كحال الأندلس أيام طوائفها كما
ذكرنا ونذكر بعد إن شاء الله ظهور أبي حسون السملالي المعروف بأبي دميعة بالسوس ثم
استيلاؤه على درعة وسجلماسة وأعمالها
هذا الرجل هو أبو الحسن ويقال أبو حسون علي بن محمد بن محمد بن الولي الصالح أبي
العباس أحمد بن موسى السملالي وكان بدء أمره أنه لما ضعف أمر السلطان زيدان بالصقع
السوسي وفشل ريحه فيه نبغ هو فدعا لنفسه وجر نار الرياسة إلى قرصه وتألبت عليه
البرابرة من بسائط جزولة وجبالها والتفت عليه غالب القبائل السوسية فاستولى على
تارودانت وأعمالها إلى أن أخرجه عنها الفقيه أبو زكرياء بن عبد المنعم بعد حروب
____________________
وفتن عظيمة حسبما مرت الإشارة
إليه
ولما توفي أبو زكرياء في التاريخ المتقدم صفا لأبي حسون قطر السوس ونفذ فيه أمره
وسمعت كلمته ثم بعد مهلك زيدان مد يده إلى درعة فاستولى عليها ثم استولى سجلماسة
ونواحيها فاستحكم أمره وتقوى عضده
ولم يزل أمره نافذا في سجلماسة إلى أن ثار عليه الأسد الهصور المولى محمد بن
الشريف فأخرجه من سجلماسة بعد حروب يشيب لها الوليد ثم أخرجه من درعة أيضا على ما
نذكره بعد وقد وقفت على سؤال رفع من جانب أبي حسون إلى القاضي أبي مهدي السكتاني
في شأن مدينة إيليغ دار رياسته ومقر عزه يستفتيه في إحداث كنيسة اليهود بها هل يجوز
أم لا وفيه مع ذلك بعض الكشف عن حال هذه المدينة فلنذكره ونصه
الحمد لله الذي ارتضى للإسلام دينا وأنزل به على خيرة خلقه كتابا مبينا الفقيه
الأجل العلامة الأحفل القاضي الأعدل خاتمة المحققين ومعتمد الموثقين أبا مهدي عيسى
بن عبد الرحمن السكتاني وفقه الله لما يرضيه وأعانه على ما هو متوليه السلام عليكم
ورحمة الله وبركاته وبعد فقد تقرر عند سيدنا أمر هذه الحضرة العلية العلوية إيليغ
أدم بهجتها كما رفع كغيرها من الحواضر درجتها وأنها محدثة فتوفرت ببركة بانيها
عمارتها ومبانيها فاتخذها مسكنا أهل السهول والحزون وجمعت لطيب تربتها بين الضب
والنون فنزلها برسم الاستيطان أو شاب من أهل الذمة بإذن مختطها
____________________
الإمام العالي الهمة فاختطوا
بها عن إذنه منازلهم وبنوا بفنائها كنيستهم وصيروها متعبدهم فاتفق والحديث شجون أن
جرى ببعض أندية علمائها ومحضر جمع من نبهاء البلدة وفقهائها كلام أفضى بهم إلى ذكر
الكنيسة المذكورة والمجادلة في محصل الحكم الشرعي فيها في الدواوين المسطورة فأفتى
بعضهم بوجوب هدمها لأنها محدثة ببلاد الإسلام ولما في تركها من المفاسد العظام
وأنها لا تترك لهم متعبدا وجزم الكلام وقال هذا محصل ما ذكره في مثل هذه القضية
الأعلام وأفتى فريق بجواز إبقائها وأنه لا ينبغي تقويض بنائها ولا التعرض لهم في
إحداثها إذ على مثل هذا من دينهم الفاسد أقروا وأعطوا الذمة فأعطوا الجزية صاغرين
ولم يرد منع اجتماع دينين إلا في جزيرة العرب وكم من بلد إسلامي محدث مشحون
بالعلماء أحدثت فيه ولم يقولوا بمنعه وتواطؤهم على تركها كالنص والدليل على جواز
إحداثها وإبقائها بعده واستمر الحجاج وكثر اللجاج ولم يقنع كل فريق بما أبداه
الآخر من الاحتجاج فعطلت لذلك إلى أن تفرقوا فيها بعلمكم النافع بين العذب والأجاج
بفتوى تبين صحيح الأقوال من سقيمها وتفصل بين ليلى وغريمها ولولا محل النازلة من
الدين ما رفعت إليكم فلذلك وجب الجواب عنها عليكم مع مسألة أخرى وهي أنهم طلبوا أن
تترك لهم بقعة يوارون فيها جيف موتاهم لأن مسافة ما بينهم وبين أفران التي هي
مقبرة قديمة لهم بعيدة هل يساعفون أم لا والله يبقيكم ومجدكم محروس وظل من استزلكم
مكنوس والسلام عليكم
الجواب
الحمد لله وعلى فقهاء بلادنا السوسية حرسها الله وأكرمهم باتباع سنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم السلام ورحمة الله وبركاته أما بعد فقد وقف كاتبه عفا الله عنه على
نازلة أهل الذمة النازلين بإيليغ مختط أولاد السيد البركة قطب بلادنا سيدي أحمد بن
موسى نفعنا الله ببركاته وبارك في ذريته وسددهم لما فيه رضاه آمين ولما وقفت عليها
وتأملتها فرأيت أن الصواب فيها الفتوى بمنع
____________________
إحداث أهل الذمة الكنائس فيها
وبهدم ما بنى فيها بعد إحداثه لأن إيليغ من بلاد الإسلام ولا فيه شبهة لأهل الذمة
الطارين عليه لا باعتبار الفتح العنوي ولا باعتبار الصلحي على الخلاف في المغرب
باعتبار فتحه وحاصل أمرها خفاء الحال فيها وإذا كان الأمر هكذا فالحكم أنها ملك
لمدعيها الحائز لها والأراضي أقسام أرض إسلام لا يجوز إحداث الكنائس بها باتفاق ثم
إن وقع شيء من ذلك هدم وأرض إيليغ من هذا القسم فإن ملكوا الأرض التي بنوا فيها
الكنيسة بوجه من وجوه التملك كالعطية وجب هدمها ونقضها ويكون لهم ما يسوغ من
المنافع وإن كان بناء الكنيسة شرطا ردت العطية وفسخ البيع إن كان به لأنه في معنى
التحبيس على الكنيسة والحاصل أن وجه دخول اليهود إيليغ معلوم وأن بلده ملك للإسلام
فبناء اليهود فيها الكنائس معصية وتمكينهم منه إعانة عليها وهذا لا يخفى وأما
الجواز والإفتاء به في النازلة فبمعزل عن الصواب والاستدلال على الجواز بحواضر
المغرب وسكوت علمائها وموافقة أمرائها لا يتم لأن أصل تمكينهم من الكنائس مجهول إذ
يحتمل أمورا منها أنه يحتمل أن يكون بعهد كان لهم في غير تلك البلاد من إقرارهم
على بلد يسكنونه مع بقائهم على متعبداتهم ثم نقلوا لمصلحة اقتضت ذلك أو أرجح ولأن
البلاد تقدم فيها اليهود وغيرهم من أهل الصلح والحاصل أن وجه دخولهم مجهول في هذه
البلاد بخلاف إيليغ ونازلة إيليغ معلومة الدخول فبينهما بون فقياس إحداهما على
الأخرى لا يصح وبالله التوفيق وكتب عيسى بن عبد الرحمن وفقه الله آمين
ولما علم المرابط بالحكم أمر بهدمها ومنع اليهود مما أرادوه
____________________
بقية أخبار السلطان الوليد ابن
زيدان ووفاته رحمه الله
قال في شرح الزهرة كان الوليد بن زيدان متظاهرا بالديانة لين الجانب حتى رضيته
الخاصة والعامة وكان مولعا بالسماع لا ينفك عنه ليلا ولا نهارا إلا أنه كان يقتل
الأشراف من إخوته وبني عمه حتى أفنى أكثرهم وكان مع ذلك محبا في العلماء مائلا
إليهم بكليته متواضعا لهم وله ألف القائد أبو الحسن علي بن الطيب منظومته المشهورة
في الفواكه الصيفية والخريفية وألف القاضي أبو مهدي السكتاني شرح صغرى الصغرى
للسنوسي برسمه والقصبة المعروفة بالوليدية على ساحل البحر المحيط فيما بين آسفي
وتيط هي منسوبة إليه وأظنها من بنائه والله أعلم
وأما وفاته فسببها أن جنده من العلوج طالبوه بمرتبهم وأعطياتهم على العادة وقالوا
له أعطنا ما نأكل فقال لهم على طريق التهكم كلوا قشر النارنج بالمسرة فغضبوا لذلك
وكمن له أربعة منهم فقتلوه غدرا يوم الخميس الرابع عشر من رمضان المعظم سنة خمس
وأربعين وألف
وقال منويل لما ولي الوليد قتل أخاه إسماعيل واثنين من أولاد أخيه عبد الملك وسبعة
من بني عمه ولم يترك إلا أخاه الشيخ بن زيدان استصغارا له إذ كان سنه يومئذ إحدى
عشرة سنة وكانت أمه تخاف عليه من الوليد فكانت تحرسه منه حراسة شديدة وألقى الله
محبته في قلب سائر نساء القصر لما رأين من هلاك الأعياص وعرضه الملك للزوال وكن
حازمات يقمن مقام الرجال حتى إن بعضهن كانت لها طبنجات في حزامها دائما تحرس الشيخ
من أخيه الوليد
ثم إن رؤساء الدولة سئموا ملكته فاتفقوا مع نساء القصر على قتله
____________________
وكان الوليد عازما على قتل
أخيه الشيخ أيضا فاحتال بأن صنع ذات ليلة صنيعا عظيما وطعاما كثيرا دعا إليه وجوه
الدولة وأعيان مراكش وكان أخوه الشيخ عنده في الدار لا يتركه يخرج بحال وعزم أنه
إذا اشتغل نساء القصر بأمر الطعام ونحوه خالف إليه وقتله فكان من قدر الله أن
العلوج قد عزموا في تلك الليلة على اغتيال الوليد فكمنوا له في الحجرة التي كان
الشيخ محبوسا فيها ثم لما جاء الوقت واجتمع الناس في القبة التي أعدها لهم الوليد
قام ودخل إلى الحجرة التي فيها الشيخ للفتك به فوجد الأعلاج كامنين له هناك فلما
رآهم فزع وقال ما لكم فرموه بالرصاص ثم تناولوه بالخناجر حتى فاظ انتهى الخبر عن
دولة السلطان أبي عبد الله محمد الشيخ بن زيدان رحمه الله
لما قتل السلطان الوليد في التاريخ المتقدم اختلف الناس فيمن يقدمونه للولاية
عليهم ثم أجمع رأيهم على مبايعة أخيه محمد الشيخ وإلقاء القيادة إليه فأخرجوه من
السجن وكان أخوه الوليد قد سجنه إذ كان يتخوف منه الخروج عليه فبويع بمراكش يوم
الجمعة الخامس عشر من رمضان سنة خمس وأربعين وألف ولما بويع سار في الناس سيرة
حميدة وألان الجانب للكافة وكان متواضع في نفسه صفوحا عن الهفوات متوقفا عن سفك
الدماء مائلا إلى الراحة والدعاء متظاهرا بالخير ومحبة الصالحين وهو الذي بنا على
قبر الشيخ أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الدلائي بزاويته قبة حافلة البناء رائقة
الصنعة إلا أنه كان مكنوس الراية مهزوم الجيش وبسبب ذلك لم يصف له مما كان بيد
أبيه وإخوته إلا مراكش وبعض أعمالها
____________________
وقد ثار عليه رجل من هشتوكة خارج باب الخميس من مراكش وقاسى في محاربته تعبا شديدا
ولم يزل يناوشه القتال إلى أن كانت له عليه الكرة ففرق جمعه ثم خرجت عليه أيضا
قبيلة الشياظمة فقصدهم وكانت الملاقاة بينه وبينهم عند جبل الحديد فانهزم هزيمة
شنعاء ثم حدث بينه وبين أهل زاوية الدلائي ما نذكره بعد إن شاء الله
ومما ذكره منويل من أخباره أنه كان محسنا لسائر رعيته وكان حاله على الضد من جور
أخيه الوليد وعسفه قال وسرح الفرايلية الذين كانوا في سجن مراكش وأعطاهم الكنيسة
التي بالسجينة منها وخالفت عليه سلا وأعمالها انتهى بقية أخبار أبي عبد الله
العياشي بسلا والثغور وما يتبع ذلك
كان أمر أبي عبد الله العياشي بسلا وسائر بلاد المغرب على ما وصفناه قبل من جهاد
العدو والتضييق عليه والمصابرة له والإبلاغ في نكايته فانتعش به الإسلام وازدهرت
الأيام ودخلت في طاعته القبائل والأمصار من تامسنا إلى تازا كما قلنا لا سيما فاس
وأعلامها فإنهم قد شايعوه وتابعوه على ما كان بصدده من الجهاد والرباط وحصل لهم
بصحبته وولايته أتم اغتباط ولم يزل في نحر العدو إلى أن أمن سرب المسلمين وحق
القول على الكافرين
____________________
وفادة أعلام فاس وأشرافها على
أبي عبد الله العياشي بسلا
هذه الوفادة قد ذكرها الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن أحمد ميارة الفاسي في
فاتحة شرحه الصغير على المرشد المعين
قال في نشر المثاني وسببها ما وقع من الحرب بين أهل فاس وبين الحياينة وشراقة على
قنطرة وادي سبو وقتل فيها من أهل فاس خمسة وأربعون رجلا فخرج شرفاء فاس وفقهاؤها
إلى سلا مستغيثين بأبي عبد الله العياشي قال وكان الذي أغرى الحياينة بفاس هو أحمد
بن زيدان التفوا عليه وقاموا بدعوته ووصلوا أيديهم بشراقة وفعلوا بفاس وأهلها
الأفاعيل حتى اختطفوا في بعض الأيام نساءهم من الجنات وباعوهن في القبائل وفعلوا
بهن ما لا يجوز قال الشيخ ميارة قد من علي ذو العظمة والجلال الكريم المتفضل
المتعال بزيارة الولي الصالح العالم العامل السائح قطب الزمان وكهف الأمان المجاهد
في سبيل رب العالمين المرابط في الثغور مدة عمره لحياطة المسلمين ذي الكرامات
الشهيرة العديدة والفتوحات العظيمة الحميدة من لا شبيه له في عصره وما قرب منه ولا
نظير ولا معين له على نصرة الإسلام ولا نصير إلا الله الذي تفضل به علينا وأقره
بمنه وجوده بين أظهرنا فهو كما قيل
( حلف الزمان ليأتين بمثله ** حنثت يمينك يا زمان فكفر )
البركة القدوة المجاب الدعوة أبي عبد الله سيدي محمد بن أحمد العياشي أبقى الله
بركته وعظم حرمته وبلغه من خير الدارين أمنيته وأطال للمسلمين عمره وقواه وجعل
الجنة نزله ومأواه مع جماعة من أعيان السادة من الشرفاء والفقهاء القادة وذلك
أواسط ذي الحجة الحرام متم سبعة وأربعين وألف عام وهو رزقنا الله رضاه بثغر سلا
أمنها الله من كل مكروه وبلا فاجتمعت إذ ذاك بنجله السعيد الموفق الرشيد العالم
الهمام
____________________
حجة الله في الإسلام ذي العقل
الراجح والهدي الواضح عهود من الآباء توارثتها الأبناء المتواضع الخاشع صاحب القلم
البارع سيدي وسندي أبي محمد عبد الله سلمه الله من كل مكروه ووقاه فحضني حفظه الله
على اختصار الشرح المذكور يعني شرحه الكبير على المرشد المعين بعد أن طالع جله وسر
به كل السرور وحث علي في تقديم ذلك على جميع الأمور فلما قفلت من وجهتي شرعت في
ذلك تاركا للتسويف طالبا من المولى سبحانه السلامة من الخطأ والتحريف انتهى
المقصود منه
قال في نشر المثاني إن أبا عبد الله العياشي قدم فاسا ونظر في أمرها وغزا عرب
الحياينة مرارا وأثخن فيهم حتى خضعوا للطاعة إيقاع أبي عبد الله العياشي بنصارى
الجديدة
سبب هذه الغزوة كما ذكره الفقيه العلامة قاضي تامسنا أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد
الغنامي الشاوي المعروف بسيدي رحو الغنامي أن نصارى الجديدة عقدوا المهادنة مع أهل
آزمور مدة فكان من عزة النصارى وذلة المسلمين في تلك المدة ما تنفطر منه الأكباد
وتخر له الأطواد فمن ذلك أن زوجة قبطانهم خرجت ذات يوم في محفتها ومعها صواحباتها
إلى أن وصلت حلة العرب فتلقاها أهل الحلة بالزغاريت والفرح وصنعوا لها من الأطعمة
وحملوا لها من هدايا الدجاج والحليب والبيض شيئا كثيرا فظلت عندهم في فرح عظيم
ولما كان الليل رجعت ووقع لها أيضا أنها أمرت القبطان زوجها أن يخرج بجيشه ويبعث
إلى قائد آزمور أن يخرج بجيش المسلمين فيلعبوا فيما بينهم وهي تنظر إليهم بقصد
الفرجة والنزهة فكان كذلك فجعلوا يلعبون وهي تتفرج فيهم فما كان بأسرع من أن حمل
نصراني على مسلم فقتله فكلم قائد المسلمين القبطان وأخبره بما وقع فقال له القبطان
فما يضركم إن مات شهيدا يهزأ بالمسلمين ويسخر منهم قال
____________________
وكان الولي الصالح العابد
الناسك الزاهد المجاهد رافع لواء الإسلام ومحيي منهاج النبي صلى الله عليه وسلم
سيدي محمد العياشي كلما سمع شيئا من ذلك تغير وبات لا يلتذ بطعام ولا منام وهو
يفكر كيف تكون الحيلة في زوال المعرة عن المسلمين بتلك الجهة وغسل أعراضهم من وسخ
الإهانة وهو مع ذلك يخاف من العيون الذين يرصدونه من صاحب مراكش وقائد آزمور ومن
قبطان الجديدة إذ كان ما خلف وادي أم الربيع إلى مراكش باقيا في دعوة السلطان لم
يدخل في دعوة أبي عبد الله المذكور فمكث كذلك ثلاث سنين ولما رأى أن الأمر لا يزيد
إلا شدة أوعز إلى بعض أولاد ذؤيب من أولاد أبي عزيز أن يجلبوا إلى النصارى شيئا من
القمح خفية وأن يكون ذلك شيئا فشيئا حتى تطمئن نفوسهم ويذوقوا حلاوته ويوهمهم
النصح والمحبة فلما حصل ذلك جاءه جماعة منهم وأخبروه الخبر وأطلعوه على غرة
النصارى خذلهم الله فعزم على قصد الجديدة ثم بدا له في تقديم غزو العرائش ثم يأتي
الجديدة بغتة ففعل رحمه الله وكان ذلك أوائل صفر سنة تسع وأربعين وألف
ثم عزم على قصد الجديدة فذكروا له أن وادي أم الربيع في نهاية المد والامتلاء فلم
ينته عن ذلك وسار حتى بلغ الوادي المذكور على مشرع أبي الأعوان فوجده ممتلئا جدا
لا يكاد يدخله أحد إلا غرق فقال لأصحابه وسائر من معه توكلوا على الله واجتهدوا في
الدعاء ثم اقتحم الوادي بفرسه وتبعه الناس فعبروا جميعا ولم يتأذ منهم أحد وكان
الماء يصل إلى قريب من ركب خيلهم مع أن مد ذلك الوادي حين امتلائه لا يدرك له قعر
عند الناس كما هو شهير وهذه كرامة عظيمة وقعت له رضي الله عنه وكان القاضي أبو زيد
الغنامي حاضرا لها وشاهدها ولم يقع مثل هذا فيما علمناه إلا للصحابة رضي الله عنهم
مثل ما وقع لسعد بن أبي وقاص في عبوره دجلة لفتح المدائن ومثل ما وقع للعلاء بن
الحضرمي في فتح بعض بلاد فارس وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
____________________
ولما وصل أبو عبد الله إلى الجديدة وجد طائفة من أولاد أبي عزيز قد نذروا به
ولجؤوا إلى القبطان خوفا منه أن يوقع بهم لأجل مهادنتهم للكفار واتصالهم بهم فخرج
القبطان في خيله وكان سيدي محمد كامنا بإزاء الجديدة بالغابة التي كانت هناك وقد
زالت اليوم فلما انفصل القبطان بجيشه عن الجديدة حمل عليهم أبو عبد الله فقطعهم
عنها ففروا إلى جهة البحر فأوقع بهم فهلكوا ولم ينج منهم إلا سبعة وعشرون رجلا
فتغير صاحب مراكش من ذلك وأنكر ما صنع أبو عبد الله وكذا أنكره قاضيه الفقيه أبو
مهدي السكتاني
وقد ذكر لويز مارية خبر هذه الوقعة فقال إن طائفة من المسلمين قدموا على قائد
البرتغال بالجديدة وقالوا له إنا قد جئناك من عند المولى محمد بن الشريف يطلب منك
تعينه بجماعة من عسكرك على بعض عدوه فأسعفهم بذلك وكان شابا غرا لم يجرب الأمور
فنهاه بعض كبار عسكره وحذره عاقبة الغدر فأبى وعزم على الخروج مع أولئك المسلمين
وتقاعد عنه عسكره فقال لهم إني أخرج وحدي وذهب ليخرج وحده فتبعوه حينئذ وكانوا
مائة وأربعين فارسا فلما انفصلوا عن الجديدة بمسافة وجدوا خيلا كثيرة كامنة لهم
فلم يشعروا حتى أحاطت بهم نصف دائرة منهم فما كلموهم حتى كملت الدائرة عليهم
وصاروا مركزها فحينئذ التفت قائد العسكر إلى ذلك الرجل الذي نهاه عن الخروج وقال
له ما الحيلة فأجابه بأن الحيلة القتال حتى نموت ثم أنشد له شعرا مضمنه إني أشرت
عليك وأنت أعظم جاها مني فلم تسمع والآن نقتل معا وتختلط دماؤنا حتى لا يتميزان
ولا يعرف دم الشريف من الوضيع والحاصل أن المسلمين أوقعوا بهم حتى لم يرجع منهم
إلى الجديدة إلا ثلاثة وأسر منهم خمسة عشر أحياء والباقي أتى عليه القتل وقامت
بالجديدة مناحة عظيمة لم يتقدم مثلها وسجن الأسارى بسلا سنين في بعض دهاليزها حتى
افتداهم سلطانهم خوان الذي جمع مملكتهم من يد الإصبنيول انتهى
____________________
ولما قدم سيدي محمد العياشي من هذه الغزوة سار إلى فاس للنظر في أمرها لما هاج من
الحرب بين أهلها وذلك أن رجلا منهم يقال له ابن الزين عدا على رجل آخر يقال له
أحمد عميرة فرماه برصاصة من علية مسجد فوق سويقة ابن صافي فقتله وهاجت الحرب بفاس
بين أهل عدوة الأندلس وكان المقتول رئيسهم وبين اللمطيين فقدم سيدي محمد العياشي
فاسا في آخر جمادى سنة خمسين وألف فأصلح بينهم وأقاد من قاتل عميرة كبير
الأندلسيين وبالجملة فغزوات سيدي محمد العياشي رحمه الله كثيرة وذبه عن الإسلام
وحمايته للدين مما هو شهير عند الخاص والعام
وفي هذه الغزوة يقول الكاتب الأديب أبو عبد الله محمد بن أحمد الكلاني مادحا لسيدي
محمد العياشي ومشيرا إلى الكرامة التي وقعت له في عبور النهر
( حديث العلا عنكم يسير به الركب ** وينقله في صحفه الشرق والغرب )
( وحبكم فرض على كل مسلم ** تنال به الزلفى من الله والقرب )
( فأنت رفيع من أصول رفيعة ** نجوم الدياجي في الأنام لها سرب )
( سمي رسول الله ناصر دينه ** تجلى بكم عن أفقه الشك والريب )
( ولم أر بحرا جاوز البحر قبلكم ** تجود لمستجد أنامله السحب )
( وما يستوي البحران عندي فإن ذا ** أجاج لعمري في المذاق وذا عذب )
وكان رحمه الله عازما على أخذ العرائش فحال بينه وبينها انصرام الأجل وكذلك كان
ملحا على أخذ طنجة فلم تساعده الأقدار
____________________
مقتل أبي عبد الله العياشي
رحمه الله والسبب فيه
قدمنا أن أهل الأندلس بسلا تحزبوا على أبي عبد الله العياشي ورموه عن قوس واحدة
وأنه كان قد اطلع على خبثهم ونصحهم للكفر وأهله وأنه استفتى العلماء فيهم فأفتوه
بإباحة قتال من هذه صفته فأطلق فيهم السبيل أياما فقتل من وجد منهم وهرب أكثرهم
فهربت طائفة منهم إلى مراكش وهربت طائفة إلى الجزائر وأخرى إلى النصارى وفرقة إلى
زاوية الدلاء فجاء أهل الدلاء يشفعون في أهل الأندلس فأبى أبو عبد الله أن يقبل
فيهم الشفاعة وقال إن الرأي في استئصال شأفتهم فلما رأى أهل الدلاء امتناعه ورد
شفاعتهم غضبوا لذلك وأجمعوا على حربه ومن قبل ما كانت القوارص تسري منهم إليه يدل
على ذلك الرسالة التي كتب بها الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الدلائي إلى أبي
عبد الله العياشي ونصها الحمد لله الحليم العفو الرؤوف المنزه عن صفات من وصف بها
مؤف و صلى الله عليه وسلم مدينة العلم المسورة بسور السماحة والحلم وعلى ساداتنا
آله وصحبه وكل من انتظم في سلك أتباعهم من أهل حزبه هذا وإن المجلى بنور طلعته ظلم
الظلم والفساد المحلي خزائن المعالي بموجبات النفاق على حين الكساد المستوطن حبه
بسويداء الفؤاد من ألقت إليه المكارم أزمة الانقياد وصلحت به بحمد الله العباد
والبلاد حوطة الإسلام وحمايته وخديم الدين المحمدي وكفايته سيدي محمد بن أحمد
العياشي المحمود الأوصاف بشهادة من يعد من أهل الإنصاف زاده الله من المكارم
أعلاها ومن نفائس درر المجد أغلاها وتوجه بتاج الكرامة والرضى وأمده بدائم مدده
السرمدي حتى يرضى وسلم جنابه القدسي العلمي العملي المرابطي المجاهدي من جميع
البلايا وأتحفه من تحفه الفاضلة الوهبية بأعلى المزايا وأهدى إليه من طيب بركاته
ورحماته ما يرضاه دينه العلمي لحماته قد شهدنا على أنفسنا بالإقرار بفضله علينا وأن
ما يسره يسرنا وما
____________________
يضره يضرنا علم ذلك منا يقينا
من له معنا أدنى مخالطة بحيث لا يمكنه أن يدفع ذلك بنوع من المغالطة وإن الضار
بالعين ضار بإنسانها لكن النفوس الإنسانية محل لخطاها ونسيانها ومن أقمناه لديكم
مقام الخادم والولد قد ساءنا منه ما ساءكم مما عنه ورد وطلبنا من جميل أوصافكم
معاملته بالصفح والجميل فلن يزال الإنسان إلا من عصمه الله يستمال أو يميل ولولا
الحرارة ما عرف الظل ولولا الوابل لقيل النهاية في الطل وما عرف العفو لولا
الإساءة ولا يقال صبر المرء إلا فيما ساءه وما عرفنا صاحبه إلا محبا لجانب كل من
للدين ينتسب فإن خرج عن نظركم فقد أتاه الغلط من لا يحتسب انتهى
وكان الشيخ ابن أبي بكر رحمه الله يطيل الثناء على أبي عبد الله العياشي ويذيع
محاسنه وكان يقول في دعائه اللهم أجز عنا سيدي محمد العياشي أفضل المجازاة وكافه
أحسن المكافأة واجعل مكافأتك له كشف الحجب عن قلبه حتى تكون أقرب إليه منه اللهم
لا تحرمه توجهه إليك وانقطاعه لخدمتك اللهم نفس كربته وكمل رغبته وأجب دعوته وسدد
رميته واردد له الكرة على من عداه في الحق إنك على كل شيء قدير انتهى
فهذا حال الشيخ ابن أبي بكر رحمه الله مع أبي عبد الله العياشي ثم قدر الله أن حدث
بين أولاده وبين العياشي من النفرة ما أفضى إلى المقاتلة وذلك بسبب رده شفاعتهم في
أهل الأندلس وأمور أخر فأجمعوا على حربه كما قلنا فخرج إليهم أبو عبد الله العياشي
فأوقع بهم وهزم جموعهم وفتك بالعرب الذين كانوا مع التاغي فتفرقت الجموع وتبرأ
التابع من المتبوع
ثم ذهب أبو عبد الله العياشي إلى طنجة بقصد الجهاد فلما قفل من غزوه وجد البربر من
أهل الدلاء قد وصلوا إلى أطراف أزغار ومعهم التاغي والدخيسي وأهل حزبهم من
الكدادرة وغيرهم وعزموا على مصادمة أبي عبد الله فأراد أن يغض الطرف عنهم ويصرف عنانه
عن جهتهم فلم يزل أصحابه
____________________
به إلى أن برز لمقاتلتهم فلما
التقى الجمعان كانت الدبرة على أبي عبد الله العياشي وقتل فرسه تحته فرجع إلى بلاد
الخلط وكان رؤساء الخلط أكثرهم في حزب التاغي وعلى رأي الكدادرة فرجعت البربر إلى
أوطانهم وبقي أبو عبد الله العياشي عند الخلط أياما ثم غدروا به فقتلوه بموضع يسمى
عين القصب واحتزوا رأسه وحمله بعضهم إلى سلا وكأنه حمله إلى أهل الأندلس إذ هم
أعداؤه بها قال في شرح المثاني ودفنت جثته بإزاء روضة أبي الشتاء رضي الله عنه
ومن كراماته المتواترة أنهم لما حملوا الرأس سمعوه ليلا وهو يقرأ القرآن جهارا حتى
علمه جميع من حضر فردوه إلى مكانه وتاب بسببه جماعة من الناس وأما القبة المنسوبة
إليه بقبيلة أولاد أبي عزيز من بلاد دكالة فالظاهر أنها متخذة على بعض معاهده التي
كان يأوي إليها أيام كونه بالقبيلة المذكورة في ابتداء أمره كما مر وليس هناك قبر
له على الصحيح
ولما قتل أبو عبد الله العياشي فرح النصارى بمقتله غاية الفرح وأعطوا البشارة على
ذلك وعملوا المفرحات ثلاثة أيام وكان مقتله رحمه الله تاسع عشر المحرم سنة إحدى
وخمسين وألف وقد رمزوا لتاريخ وفاته بقولهم مات زرب الإسلام بإسقاط ألف الوصل وحدث
رجل أنه كان بالإسكندرية فرأى النصارى يومئذ يفرحون ويخرجون أنفاضهم فسألهم فقالوا
له قتل سانطو بالمغرب وفي الرحلة لأبي سالم العياشي قال أخبرني الشيخ محمد الفزاري
بمكة قال كان بالمدينة المشرفة رجل مغربي من أهل القصر في السنة التي قتل فيها الولي
الصالح المجاهد سيدي محمد بن أحمد العياشي قال فجاءني ذات يوم وقال لي إني رأيت في
النوم أختي ورأيت رجلا جالسا مقطوع اليد تسيل دما فقلت له من أنت قال الإسلام قطعت
يدي بسلا قال فلما أخبرني قلت له الذي يظهر لي من رؤياك أن الرجل الصالح المجاهد
الذي كان بسلا قد قتل قال وبعد ذلك في آخر السنة قدم حجاج المغرب فأخبرونا بموته
____________________
وقد رثي رحمه الله بقصائد كثيرة منها قصيدة الأديب البليغ أبي العباس أحمد الدغوغي
التي ذكرها في النزهة ويحكى أنه وجد مقيدا بخط أبي عبد الله العياشي المذكور أن
جملة ما قتله من الكفار في غزواته سبعة آلاف وستمائة وسبعون ونيف ومما مدحه به
العلامة الإمام الشهير أبو محمد عبد الواحد بن عاشر قوله
( يا حادي الأظعان في الرياشي ** أبلغ سلامي فخرنا العياشي )
( من نوره بدا وفضله غدا ** تحدو به الركبان والمواشي )
( طود الهدى عين الندى فرد الورى ** فريد وقته الإمام الخاشي )
( لله سيف صارم وقاصم ** ظهر العدا كبيرهم والناشي )
( يتركهم عند اللقا رهن الشقا ** صرعى على الأرض كما الكباشي )
( يا مسلمين تهنيكم حياتكم ** ما عاش فيكم سيدي العياشي )
( أنام لا شك الأنام الكل في ** ظل الأمان لين الفراش )
( يا عاذلي في حبه عذلك دع ** ولا تحدثني حديث الواشي )
( إني امرء بالحسن مفتون وعن ** جميع لوم لائمي عاشي )
( هديتي إلى الكرام أبرزت ** سلامها للسامعين فاشي )
وثناء الناس عليه كثير فقد أثنى عليه الشيخ ميارة كما مر وأبو عبد الله محمد
العربي الفاسي وابن أبي بكر الدلائي وغيرهم
وكان رحمه الله مجاب الدعوة ما دعا الله في شيء إلا استجيب له شوهد ذلك منه مرارا
ومن أدعيته المحفوظة عنه اللهم إني أسألك باسمك السريع المجيب الذي خزنت فيه فواتح
رحمتك وخواتم إرادتك وسرعة إجابتك يا سريع لمن قصده يا قريب ممن سأله يا مجيب من
دعاه أسرع لي بقضاء حاجتي وبلوغ إرادتي يا سميع يا مجيب يا سريع يا قريب آمين آمين
آمين يا رب العالمين
وكان فقيها مشاركا في الفنون وله أتباع ظهرت عليهم بركاته ولاح عليهم سره ومن
أتباعه الشيخ أبو الوفاء إسماعيل بن سعيد الدكالي
____________________
القاسمي صاحب الزاوية المشهورة
ببلاد دكالة ومن أتباعه أيضا المقدم المجاهد أبو العباس الخضر غيلان الجرفطي وقد
ذكر ذلك الشيخ أبو عبد الله محمد بن ناصر الدرعي في رسالة كتب بها إلى المجاهد
المذكور يقول فيها ما نصه من عبيد الله تعالى محمد بن ناصر كان الله له إلى الفارس
القائم بنصر دين الله البائع نفسه في إعلاء كلمة الله الخضر غيلان سلام عليك ورحمة
الله وبركاته وإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإني احبك في الله
وإن لساني لهج بالتضرع إلى الله تعالى في نصرك على الكافرين منذ خرج النجليز
والباعث على إعلامك بهذا أمران أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم ( إذا أحب أحدكم
أخاه فليعلمه ) والثاني استنهاض همتك للجد فيما أنت بصدده من الجهاد وعدم الالتفات
إلى ما تورط فيه غيرك من الاغترار بالفاني فأنت ما دمت في هذا على طريق صالحة
وعباد الله الصالحون كلهم معك ورحم الله صاحبك الذي أسس لك هذه الطريق الصالحة
ورباك عليها أعني أمير المؤمنين نور البلاد المغربية سيدي محمد العياشي جزاه الله
عنا وإياك عن المسلمين خيرا فهو سيدنا وسيد غيرنا الذي ندين الله بمحبته ويجب
علينا وعلى المسلمين تعظيمه وتعظيم من هو منه بسبيل ثم قال الشيخ ابن ناصر رحمه
الله بعد كلام ما نصه وتستوصي بآل سيدنا وسيد المسلمين في زمانه كافة خيرا سيدي
محمد العياشي فهو عزك وبتعظيمهم قوام أمرك وهذا من نصيحتي إليك التي هي من نتيجة
محبتنا لك فعاملهم بالوفاء ولا تؤاخذهم بالجفاء انتهى المقصود منه
ولولد سيدي محمد العياشي وهو الفقيه العلامة سيدي عبد الله أرجوزة نظم فيها أهل
بدر وتوسل بهم إلى الله تعالى في هلاك الذين تمالؤوا على قتل أبيه فلم تمض إلا مدة
يسيرة حتى دارت عليهم دائرة السوء ولم ينج منهم أحد
وفي البستان إن أبا عبد الله محمد الحاج الدلائي دخل بلاد الغرب وذلك بعد مقتل أبي
عبد الله العياشي فلقيه ولده سيدي عبد الله
____________________
المذكور بجموع الغرب بوادي
الطين فوقعت الحرب في قبائل وانتهبت حللهم ومواشيهم انتهى وكان ذلك في أوائل ربيع
الأول سنة ثلاث وخمسين وألف
ولسيدي عبد الله ابن سيدي محمد العياشي في بعض زياراته لأبيه قوله
( أتينا إليك وأنفسنا ** تكاد من الخوف منك تذوب )
( ولم ندر أين هواك الذي ** تحب فتنحو إليه القلوب )
( أقمنا فخفنا وجئنا فخفنا ** فمن خوفنا قد دهتنا خطوب )
( فها نحن من خوفنا منك حيرى ** وها نحن من خوفنا منك شيب )
قال اليرفني في الصفوة وأخبرني حافده العلامة قاضي القضاة أبو عبد الله محمد بن
أحمد بن عبد الله بن محمد العياشي أن جده سيدي عبد الله المذكور كان قد أصابه مرض
أعيى الأطباء علاجه فلما طال عليه أمره رغب منهم أن يحملوه إلى ضريح الشيخ سيدي
الحاج أحمد بن عاشر بسلا فلما وقف على الضريح أنشد ارتجالا
( أقول لدائي إذ تفاقم أمره ** وعز الدوا من كل من هو ناصري )
( إلا فانصرف بالله عني إنني ** أنا اليوم جار للولي ابن عاشر )
قال فكأنما نشط من عقال وانقشع عنه سحاب ذلك الضرر في الحال وكانت وفاة سيدي عبد
الله المذكور ليلة عرفة سنة ثلاث وسبعين وألف ودفن بجوار الولي الأشهر الشيخ أبي
سلهام من بلاد الغرب وبنيت عليه قبة صغيرة وأخبار العياشيين ومحاسنهم كثيرة وبيتهم
بيت خير وصلاح رحمهم الله ونفعنا بهم آمين
____________________
ظهور أهل زاوية الدلاء
وأوليتهم بجبال تادلا وما يتبع ذلك
أما نسبتهم فهم من برابرة مجاط بطن من صنهاجة حسبما ذكره ابن خلدون وغيره وكان
مبدأ أمر أهل زاوية الدلاء أن جدهم الولي الأشهر سيدي أبا بكر بن محمد وهوا لمعروف
بحمي بن سعيد بن أحمد بن عمر بن يسري المجاطي كان ممن أخذ عن الشيخ الصالح أبي
عمرو القسطلي دفين مراكش وسكن الدلاء واتخذ هنالك زاوية فجاء ولده الولي الأظهر
أبو عبد الله محمد بن أبي بكر فكمل من الفضائل ما بقي وأبدى من الأسرار ما خفي
فتناقل الركبان حديث هذه الزاوية وقصدها الناس من كل ناحية إلى أن كان من أولاد
الرجلين ما نذكره
وأخذ الشيخ محمد فتحا بن أبي بكر عن الشيخ أبي عبد الله محمد الشرقي فحصل له من
الحظوة والوجاهة فوق ما كان لسائر من عاصره وكان أعلام الوقت كالحافظ أبي العباس
المقري والحافظ أبي العباس بن يوسف الفاسي والإمام أبي محمد بن عاشر والفقيه
العلامة أبي عبد الله محمد ميارة وغيرهم يقصدون زيارته والتبرك به ويراجعونه في
عويص المسائل العلمية وكان رحمه الله عالما حافظا دراكا متوسعا في علمي التفسير
والحديث وعلم الكلام حسن المشاركة فيها وفي غيرها وكانت وفاته سنة ست وأربعين وألف
قال اليفرني وحدثني غير واحد من أشياخنا أنه لما دنت وفاته جمع أولاده وعشيرته
وقال لهم { إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا
من اغترف غرفة بيده } البقرة 249 وأنا أقول لكم ولا ومن اغترف غرفة بيده يشير بذلك
إلى ما تجاذبوه من أمر الرياسة بعده وذلك من مكاشفاته رضي الله عنه وقد اعترض عليه
بعض الطلبة في قوله وأنا أقول بأنه سوء أدب لمقابلة كلام الله بكلامه وأجاب عنه
____________________
حافده وهو الفقيه العلامة
الشهير أبو عبد الله محمد بن أحمد بن المسناوي بن محمد بن أبي بكر برسالة مستقلة
ولما توفي خلف من الأولاد عدة فكان أكبرهم أبو عبد الله محمد الملقب بالحاج لأنه
حج مع أبيه ووحده مرارا ويقال إنه خطب الناس يوم عرفة على ظهر الجبل لأمر اقتضاه
الحال ولم يكن ذلك لأحد من أهل المغرب قبله وفي أيامه تكامل أمر أهل الدلاء وشاع
ذكرهم
وكان للزاوية في أيامه وأيام أبيه صيت عظيم وكان بها من معاطاة العلوم والدؤوب على
درسها وإقرائها وقراءتها ليلا ونهارا ما تخرج به جماعة من صدور العلماء وأعيانهم
كالشيخ اليوسي وأضرابه حتى كانت إليها الرحلة في المغرب لا يعدوها الطالب ولا يأمل
سواها الراغب
وتمهد الأمر بها لأبي عبد الله محمد الحاج وأولاده وإخوانه وبني عمه إلى أن تملك
مدينة فاس ومدينة مكناسة وأحوازهما وكافة القطر التادلي
قال في نشر المثاني وفي سنة ست وأربعين وألف كان قيام محمد الحاج الدلائي على
الشيخ ابن زيدان قلت ولعل المكاتبة الآتي بيانها بعد إنما كانت في هذا التاريخ
وقال في البستان وفي سنة خمسين وألف زحف محمد الحاج الدلائي بعساكر البربر إلى
مكناسة فاستولى عليها ثم زاد إلى فاس فاعترضه أبو عبد الله العياشي بجموع أهل
الغرب ووقعت الحرب بينهما فانهزم العياشي وسار محمد الحاج لحصار فاس فرجع العياشي
وأعاد حربا ثانية فانهزم محمد الحاج وعاد إلى بلاده وفي سنة إحدى وخمسين وألف بعد
موت العياشي نزل محمد الحاج على فاس وحاصرها ستة أشهر وقطع عنها المواد وجميع
المرافق إلى أن لحقهم الجهد وارتفعت الأسعار فدخلوا تحت
____________________
حكمه ولما قام اجتمعت عليه
برابرة ملوية وأذعنوا له واعصوصبوا عليه وقد كانت بينه وبين السلطان محمد الشيخ بن
زيدان وقعة أبي عقبة فانهزم فيها السلطان المذكور وانتشر جمعه وذلك في سنة ثمان
وأربعين وألف ومن ثم قطع النظر عما وراء وادي العبيد ذكر ما وقع بين السلطان محمد
الشيخ بن زيدان وبين أهل زاوية الدلاء من المراسلات والمعاتبات
قال في النزهة وفي أيام السلطان محمد الشيخ بن زيدان قويت شوكة أهل الدلاء وانتشرت
كلمتهم في بلاد الغرب وضعف الشيخ عن مقاومتهم وعجز عن مقارعتهم وبعث إليهم قاضيه
العلامة الفقيه أبا عبد الله محمد المزوار المراكشي يطلب منهم ترك الشنآن والرجوع
إلى اجتماع الكلمة ويحتج عليهم بأن أباهم الولي الصالح سيدي محمد بن أبي بكر كان
قد بايع أخاه الوليد بن زيدان والتزم طاعته وأنهم أولى الناس باقتفاء طريقته
واتباع منهاجه فلما بلغهم القاضي المذكور وأدى الرسالة ونثل ما في العيبة وبين
قصده اعتذروا إليه بمسائل وتعللوا بوجوه
قال اليفرني وقد وقفت على رسالة كتب بها السلطان محمد الشيخ المذكور إليهم بعد
رجوع القاضي من السفارة وهذا نص القدر المحتاج إليه منها بعد الخطبة ولنصرف عنان
الغرض لمن عيناه لمسنون العتاب
____________________
والمفترض من هم لدقائق المجاز
ضابطون وفي حقائق الجواز خابطون أهل وطن الدلاء لمن هو لورود الشراب محتاج السيد
أبو القاسم بن إبراهيم والسيد أبو عمرو والسيد محمد الحاج ومن لنشر صحف الإنصاف
منهم مطابق كالسيد المسناوي والسيد عبد الخالق ولا زائد إلا قصد إيقاظكم من الغفوة
التي طال كطلوع الشمس من المغرب ليلها وامتد كأرض المحشر فرسخها وميلها هل هذا
منكم استخفاف بحضرة الخلائف أو تعام وتصام عما يجب على الرعايا من لازم الوظائف
هذا من العار الماحي لصحف المناقب ولا يلوي بمن توخاه إلا للمهيع الذي لا تحمد
لمنتجعه العواقب وخصوصا مثلكم الذي شق عصا الشقاق وشرع يمد أيدي الأطماع في
استخلاص قبائل الآفاق وكنتم لا تدرون لباس القمصان ولا الشواشي إلى أن جسركم على وطء
الغرب فأخذكم معه المعتر محمد العياشي فنبذتم موائد الضيوف وتقلدتم بلا حياء
السيوف وأعانكم اضطراب القبائل مع وقوع الجوع ومن مضى إلى أي قطر تعذر عليه الرجوع
إلى أن أمكنتم من أزمتها الرعايا وكل عنيد من رباط تازا إلى وادي العبيد فاستحليتم
سكر الجبايات من الأبريز والفضة إلى أن جمعتم منه ما لا ينحصر في عد بواسطة
القرافي والمنتصر من غير أن تنفقوه على إقامة جند ولا انتفع به إلا أشياع المومسات
وشياطين الفساد والشر ولم ترقبوا مكر من رفعكم من غمار عموم البرابر وأقعدكم في
القباب على الأسرة وفي بيوت الله على الكراسي والمنابر عويتم علينا معشر الثوار
كالذئاب من كل عراء وشعبة لتكون عزيمة نهوضنا إليكم معطلة صعبة وأن لا ندري أين
تميل النفوس ألتلك الصحارى أم إلى إيليغ السوس وهذا المغرب لا يخلو ملآن من نواميس
كل كاهن ومدع قرقار تمسي فيه البومة خاملة وتصبح بالمخلب والمنقار ومعادين الهمز
واللمز والمجون هم أهل الزوايا والديارات والفنادق والأسواق والسجون لكن من صفعته
يمينه لا يبكي ومن ألقى
____________________
بيده إلى التهلكة لا يشكي
أهملناكم وأمهلناكم لعوائدكم من العبادة والطعام فطلعتم لنا في الحلوق عظاما ورعام
لم تعلم الفقراء إلا بحرمة جاه الدخيل على صلح أو زواج أو لسماح البخيل وحتى الآن
دعوناكم لعقد البيعة الواجبة لنا على كل من أطاع أو عصى من وجدة إلى حدود السوس
الأقصى فنزهد لكم فيما يقوم بحق تلك الزاوية وأهلها بشرط أن تفيقوا من سنة الغفلة
وجهلها وإن أمسكتم أقدام الانقياد عن سلوك سبيل السداد وقبول سوله فأذنوا بحرب من
الله ورسوله فقد شيعنا لكم فقيهنا وقاضينا أبا عبد الله محمد المزوار فصددتموه
أرهب صد وانقلب من المحاورة مردودا أقبح رد لو لم نبال بكم بالفكر والذكر ما صرفنا
فيما سلف وصيفنا الأمين مباركا السوسي فشيد ضريح السيد محمد بن أبي بكر فدنستم
خالص عرضه فإنه كان لكم علينا بريدا وبصيرة بما انطوت عليه منكم غرة السريرة فقص
علينا دون أن نفحصه إن عين الجحش فراره ولا يسعنا أن تدعكم مع أشراف سجلماسة وبني
موسى تلعبون بنا كهر الغالية في القفص لا يعطي غناء غلته إلا بوخز المسال التي تكلفه
الرقص وحاصل الغرض تأدية البيعة كما عقدها أبوكم الأبر الجواد المرحوم الفاضل
المجيد لأخينا الأرضى مولاي الوليد لتنتظم كلمة الإسلام في الأقطار إذ لو فعلتم
لاقتفى أثركم جموع المنتجعين والأمصار وإن عظمت عليكم مفارقة تقبيل الرأس واليد
والركبة فانتظروا صبيحة طلوعي عليكم طلوع الفجر على غسق الليل بخضرم خضرم من
الرماة والخيل ونؤم بعدكم دولة الأشراف الصحراوية ونلوي على زاوية الساحل إلى أن
تعود الإيالة الشيخية علوية عالية بالصيت والذكر أو تهوي إلى حضيض بني سعد بن بكر
انتهى
وكان جواب أهل زاوية الدلاء عن هذه الرسالة ما حاصله باختصار ولا زائد بعد حمد
الله إلا أن مسطوركم الأحرش لما ورد ساحتنا سلب الأذهان والعقول فلا جارحة إلا
ولها حصة من الطين فكادت الحبالى
____________________
تسقط المشايم فضلا عن الجنين
فياله من صوت زجر لا ينسى علينا طول السنين أسمعتنا غرائب لم تمر مرارتها على أهل
الدهر الآتي والغابر لو صدح بها على جبانة لنهض أهل المقابر حتى سمتنا بالخسف في
أسواق المذلة والهوان وما نحن الأعز وركن لكل من طرقته وصمة أو عمه وأنت تعمل
بتدبير وإشارة الأعلاج المجبولين على طبائع الخداع والغش وتبني على قواعد ما لكم
بها من عرين ولا عش ومن الدليل الشاهد والبرهان فتكهم بأخيك مع مشاورة النسوان على
غيب من الجند والديوان فلا تدعهم يخدعونك وهم سلبوا روح جدك السمي من غمد الجسد
وحملوا هامته في مخلاة من مسد وايم الله لئن داموا لك في الغرب بطانة لطلقوا عليك
ثلاثا أوطانه وأما نحن فبيعة والدنا رحمه الله لم تزل لنا في الأعناق ولا ينبغي أن
تعاد فتكرر كالظهير لمن تحرر وأيضا منعنا من تجديدها انسلال البربر عن ساحتنا
فتكون أقوى سبب لفضيحتنا وأجلها هذا الأجدل الذي لا تؤده سموم الليالي ولا حرارة
قيظ المصيف مولانا محمد بن مولانا الشريف عقاب أشهب على قنة كل عقبة لم يقنعه عد
المال دون حسم الرقبة وربما غرتنا غفلة فيشن الغارة على شعوب شعاب ملوية أو ينشر
جيوشه على رباط تازا بالرايات والألوية سيما وجناحاه ذوو النفوس النفيسة وبربر
صنهاجة وعرب دخيسة بزاة النزوات بالحلة والمحال والغزوات والعياشي كما تعلمون كانت
همه هجرته أولا لملة أهل الشرك ثم مد خطا العزم إلى درجة الملك وأما وصيفكم الأمين
مبارك السوسي فحيث أناخ علينا ككل الإقامة لاختطاط ضريح الوالدين رحمهما الله قمنا
بوظيف حقه الظاهر والباطن حيث اختبر بعين الحقيقة أرجاء أغوار المواطن ولا شك أن
حال مطالعته هي التي أرخصت لنا في سوق خواطركم الأسعار إلى أن نصبتم لنا بعد الرضا
حبائل الأذعار الجالية للعار وجد قبائلنا متبددة على ضم حبوب الصيف وأعيانهم
مغتدين على الخيول بدون رمح ولا مدفع ولا سيف فخالهم على غرة غنيمة باردة وما علم
أنهم أغوال الغيل صادرة وواردة فإن كانت معاينته
____________________
هي التي أطمعتك أن يعودوا بعد
العز نوائب فما درى أن منه كان الخاوي الخائب من ركب الخيل لنفسه دون راتب المخزن
لا ترضى همته أن يهان فيحزن وقاضيك السيد محمد المزوار حيث عاين وفود الأقاليم
منتشرة كالجراد على الأزقة والأدراب دون من لازم خدمة الأبواب تحقق عيانا أن
انتظام شمل المالك والمملوك لا يكون إلا على عظماء الملوك فقص عليكم وعلى من حضر
ما اعتقد وسمع ونظر وحتى الآن إن قصدتم الغرب أو حصن فاس لا تنالكم من جانبنا
مساءة ولا بأس فبعد أن يكون لكم في المدينة البيضاء الجديدة والقديمة قرار يكون
لنا بعد ذلك حكم الاختيار بين أن نؤمن لك أو نترك لك الديار أو نستصرخ بمن هو مثلك
شريف حقيقي وسلطان له شغف أكثر منك في ضبط الأوطان فنقابل إذ ذاك القصورة بالساط
ونلقي بطانة من شاط لأسنان الأمشاط أيهما للغرب غلب نؤدي له على الرغم ما طلب وإن
قنعت بحوز الحمراء من مراش ورفضت عنك معاناة الهراش والتناوش فدعنا ومراعاة من
تجارته الرئاسة وهمته اشتراء نفيس السياسة ضرغام غاب سجلماسة وأما صاحب إيليغ
السوس فما مراده ومراد ذويه إلا غنيمة سلامة الأعراض وتجارة سلب النفوس وفيما
تلوناه عليك من القصص كفاية فلئن غادرتنا مستترين في حرمة الاحترام والوقار فنعم
وإن زاحمتنا بمنكب الهوان يدافعك عنا من ادعى أنه زعم وإن طرقنا مناخ عزمك على
عبور وادي العبيد أو أم الربيع فهناك يجمع الله بين من يشتري ويبيع والسلام وكتب
عن إذن جمهور إخوته عبد الله المسناوي بن محمد بن أبي بكر الدلائي في يوم الأحد
الثاني والعشرين من رجب انتهى
ولما رأى السلطان محمد الشيخ بن زيدان تعاصي أهل زاوية الدلاء عليه واستحكام أمر
الغرب لهم وتقويهم بالعدد والعدد صرف عنانه عن مقارعتهم ومال إلى مسالمتهم وقطع
النظر عما في أيديهم والأمر كله لله
____________________
ذكر ما دار بين السلطان محمد
الشيخ ابن زيدان وبين الأمير المولى محمد بن الشريف رحمهما الله تعالى
كانت المكاتبات والمرسلات تقع بين السلطان محمد الشيخ بن زيدان السعدي وبين الأمير
المولى محمد بن الشريف السلجماسي فمن ذلك رسالة بعث بها السلطان المذكور إلى
الأمير المذكور فكان من فصولها أن قال له وبلغني أنك تعلن في النوادي من الحواضر
والبوادي إن جرثومة انتمائنا لبني سعد بن بكر بن هوازن مع أنها في بني نزار بن معد
وافية المكاييل ثقيلة الموازن وأننا من تيدسي أحد القصور بوادي درعة ومنها أنبت
الله أصلنا فأزهر غصنه وأثمر فرعه فلئن كان غرضك حط منطقة قدرنا من اللبب فهذا من
العلى عليك عار وأن تحاول محونا من صحيفة النسب فتلك دعوى لا تغلي أو ترخص أسواق
الأسعار وقد صرفنا إليك نسخة من مناهج الصفاء في أخبار الشرفاء ليطلع عليها أنظارك
من الملوك فيزول ما بالخاطر من إشراك الشكوك
فأجابه المولى محمد بن الشريف عن هذا الفصل بأن قال له وعتابكم أننا عزوناكم لبني
سعد بن بكر بن هوازن بن منصور وناشرون لذلك في الحلل والمدن والقصور تالله ما فهنا
بذلك عن معايرة لكم ولا جهل ولا بأن نضيفكم لمن لا عشيرة له ولا أهل بل اعتمدنا في
ذلك بحمد الله على ما نقله الثقات المؤرخون لأخبار الناس من علماء مراكش وتلمسان
وفاس ولقد أمعن الكل التأمل بالذكر والفكر فما وجدكم إلا من بني سعد بن بكر ولا
معول على كتاب المنصور من الفشاتلة ولا ابن القاضي المكناسي ولا ابن عسكر الشريف
الشفشاوني وسواهم إذ الكل أهل بساطكم ومحل مزاحكم وانبساطكم ولقد بلغتنا نسخة
مناهل الصفا فلم نجد فيها موردا عذب وصفا وكفى دليلا بالباطن والظاهر قول الثقة
مولانا عبد الله بن
____________________
طاهر ومع هذا فلم نعتمد دفعكم
عن شرف النسب ولا رفعكم على ما وسمكم الله به من زينة الحسب انتهى الغرض من هذه
الرسالة وأشار بقوله قول الثقة مولانا عبد الله بن طاهر إلى ما اتفق له مع المنصور
حين جالسه على المائدة وقال له المنصور أين اجتمعنا فقال له ابن طاهر على هذا
الخوان والحكاية قد مرت في صدر هذه الدولة السعدية
ومما كتب به السلطان محمد الشيخ بن زيدان للأمير المذكور أيضا وذلك حين غلب المولى
محمد على فاس وملكها فكتب إليه السلطان المذكور يحذره من عائلة أهل الغرب وغدرهم
برسالة من إنشاء وزيره القائد أبي عبد الله محمد بن يحيى آجانا وفي آخرها قصيدة من
إنشاء القائد المذكور وهي
( يا شبل مولانا الشريف محمدا ** شمس السعادة والهلال الأكمل )
( ملأت مهابتك الكبيرة مغربا ** فزهت بمشرقة أصبهان وموصل )
( صقر الصياصي على الأعادي صائل ** طورا يغير وفي الملاحم سيتل )
( أنيابه البيض الحداد صوارم ** وبكل ظفر منه أبتر مقصل )
( فجناحك الجرد العتاق وإن نظرت ** إلى تلمسان يطيش الشمال )
( هابتك ثوار الأقالم عنوة ** والوحش فهي يغص منها المنهل )
( قد طبت إن عرقت عروقك في الوغا ** خلت العنابر ديف فيها المندل )
( يا مالكا سعدت به أوطانه ** فيما مضى وزها به المستقبل )
( نادى بك النصر العزيز لمغرب ** ولكم على فاس الجديد الكلكل )
( فاحذر كما حذر الغراب ولا تكن ** كالبط يطفو عن مطاه القوقل )
( واعدل تفوز ولا تواخي طامعا ** ترد العداة وتعم عنك العذل )
( لا تصد من جبل البرابر واصطبر ** حتى يهون على الجواسيس مدخل )
( لا تأمن الأعراب في أقوالها ** واقمع فضاضة من يجور ويختل )
( وعليك بالغارات في أوطانها ** بكتائب تسبي الأناث وتقتل )
( واغضض ولا تردي تجار مدائن ** يبقى عليك الستر دأبا يسبل )
____________________
( لا تتخذ من حصن فاس صاحبا ** أو حاكما يصل الأمور ويفصل )
( كالبغل عادته الفرار وإن غدا ** في مربط فمتى استغرك يركل )
( لا تنقلن إلى الصحارى ذخائرا ** فيقول أهل الغرب حتما يرحل )
( واضرب لبيت الملك أوتاد الدها ** تزداد صيتا في القلوب وتقبل )
( ألف وفود الغرب واعرف قدرها ** وقروم كل قبيلة لا تجهل )
( وابسط يديك على العيال هنيئة ** وإذا غرست عروق عدل تنقل )
( هذي وصايا قد أضعنا حقوقها ** في آخر مما نحاه الأول )
( فمتى نشد إلى المعالي رحالنا ** يأباه نصر والمقادير تخذل )
( فرضينا متبعين أحكام القضا ** والله يحكم ما يريد ويعدل )
فأجابه المولى محمد بن الشريف في سنة تسع وخمسين وألف بقصيدة ختم بها جوابه من
إنشاء الفقيه أبي عبد الله محمد بن سودة الفاسي ونصها
( أمحمد الشيخ بن زيدان الرضا ** فخر الخلائف والهمام الأكمل )
( فلقد أجبتك عما قد كاتبتني ** نظما ونثرا كي ترى ما يمثل )
( إني أبث لكم وصايا جمة ** إن أنت للنصح المصرح تقبل )
( فإلى متى طول الرقاد أما ترى ** أضعان ملكك كل يوم ترحل )
( والدهر ينتف في رياش جناحكم ** ويدنسن من الصفا ما تغسل )
( ما من مليك ذاق لذة راحة ** إلا تجلى له الهوان فيسفل )
( أحرى الذي كثرت شقا ثواره ** يعوي عليه لكل عاد معقل )
( تحتال تخدعه بكل حباله ** حتى يصاد كما يصاد النعثل )
( فاستيقظن من الخمار ومن رعى ** في أرض آساد الشرى لا يغفل )
( وانفض غبار الذل واخلع ثوبه ** يزداد وجهك بهجة ويهلل )
( ضيعت ملكك في الرخا وتركته ** للخزي في دار الهوان يذلل )
( وركنت للظل الوريف وغادة ** يزهو البديع بها إذا ما ترفل )
( وإذا أردت دوام هيبة همة ** وتدوم في ستر عليكم يسبل )
( دع عنك في الحمرا مروق سفرجل ** ومدربلا بالزعفران يفلفل )
( واركب مطايا الصافنات إلى الوغا ** أما تحوز مزية أو تقتل )
____________________
( واقرع طبولا للرعاة وفي الوغا ** يجبي إلى الحرب العوان الجحفل )
( وخض القفار وهز رمحا وادرع ** واثن العنان وفي يمينك منصل )
( خاطر بنفسك في الفيافي جائلا ** تردي العدو وكل ليل منزل )
( واصطد نهارك بالسلاق وبعدها ** عقبانها وكذاك صقر اجدل )
( وقد الجيوش كما الوحوش ولا تدع ** من يعص أمرك وازجرنه فيفعل )
( جنب آجانا الجبن في تدبيره ** واصحب شجاعا للذخائر يبذل )
( لا تجمعن من العلوج بطانة ** فطباعها الغدر البليغ الأعجل )
( أما الشبانة فاحذرن من غيها ** لا بد تغدر بالأخير وتخذل )
( ترجو عواقب دولة لنفوسها ** وتود من وافى جنابك يجفل )
( يعطف عليك الدهر بعد نفوره ** فتعود أيام السعود وتقبل )
( ما ذاق زيدان أبوك حلاوة ** من ملكه حتى غذاه الحنظل )
( فإذا امتثلت صواب صدق وصيتي ** يصغي الزمان لكم ويصفو المنهل )
واعلم أن هذه الرسائل والأشعار التي أثبتناها هنا نازلة كما ترى عن درجة البلاغة
وعادمة لما تستحقه من فن الوزن ونقد الصناعة ولكن لما كان الكتاب كتاب تاريخ وأخبار
لا كتاب أدب وأشعار لم نبال بذلك إذ كان المقصود منها ما تضمنته من بيان الأحوال
والإفصاح عنها على أصح منوال فإن هذه الرسائل هي عماد التاريخ وملاكه ونازلة منه
بالمحل الذي نزلت من الدار أسلاكه فلذا أكثرنا منها في هذا الكتاب والله تعالى
الملهم للصواب
____________________
وفاة السلطان محمد الشيخ بن
زيدان رحمه الله
كانت وفاة السلطان محمد الشيخ بن زيدان رحمه الله سنة أربع وستين وألف وفي نشر
المثاني أنه توفي قتيلا سنة ثلاث وستين وألف ودفن بقبور الأشراف من قصبة مراكش في
روضة أبيه وعشيرته ومما نقش على رخامة قبره قول القائل
( لبدر سموات المعالي أفول ** وفي ذا الضريح كان منه نزول )
( محمد الشيخ بن زيدان غاله ** حمام فحزن العالمين طويل )
( إمام الأنام ذو المآثر فعله ** له غرة في الصالحات جميل )
( حباه إله العرش رحمى تخصه ** بما هو في الفردوس منه كفيل )
وزراؤه يحيى آجانا وولده محمد وغيرهما وقضاته أبو مهدي عيسى بن عبد الرحمن
السكتاني وأبو عبد الله محمد المزوار رحم الله الجميع الخبر عن دولة السلطان أبي
العباس أحمد بن محمد الشيخ بن زيدان رحمه الله
لما توفي السلطان محمد الشيخ في التاريخ المتقدم بويع ابنه أبو العباس أحمد
والعامة يقولون مولاي العباس بدون لفظ الكنية وقام مقام أبيه في جميع ما كان بيده
إلا أن حي الشبانات وهم أخواله قويت شوكتهم في أيامه وغلظ أمرهم عليه ووثبوا على
الملك وراموا الاستبداد به فضايقوه وحاصروه بمراكش أشهرا
ولما رأت أمه أن الأمر لا يزيد إلا شدة كلمته في أن يذهب إلى أخواله ويأخذ بقلوبهم
ويزيل ما في نفوسهم عليه فذهب إليهم فلما تمكنوا منه قتلوه غيلة وأقبلوا إلى مراكش
مسرعين وبايعوا فيها لأميرهم عبد الكريم بن
____________________
أبي بكر الشباني ثم الحريزي
كما سيأتي
وكان مقتل السلطان أبي العباس رحمه الله سنة تسع وستين وألف كذا في النزهة والذي
في نشر المثاني أنه قتل سنة خمس وستين وألف والله أعلم بغيبه
قال اليفرني رحمه الله وقد أذكرتني هذه الفعلة قول المولى محمد بن الشريف في
قصيدته السابقة
( أما الشبانة فاحذرن من غيها ** لا بد تغدر بالأخير وتخذل )
فإن الأمر وقع كما قال مع أن المولى محمد بن الشريف كتب بالقصيدة المذكورة للسلطان
محمد الشيخ في سنة تسع وخمسين وألف وغدر الشبانات للسلطان أبي العباس كان سنة تسع
وستين وألف ولعل المولى محمد بن الشريف تلقى ذلك من بعض أهل الكشف أو نحوهم فإن
كلامه كثيرا ما يقع فيه مثل هذا وبمهلك السلطان أبي العباس رحمه الله انقرضت دولة
السعديين من آل زيدان وانهار جرفها وانطوى بساطها وسبحان من لا يبيد ملكه ولا يزول
سلطانه لا إله إلا هو العزيز الحكيم الخبر عن دولة الشبانات بمراكش وأعمالها وما
آل إليه أمرها من دثورها واضمحلالها
لما قتل السلطان أبو العباس أحمد بن محمد الشيخ بن زيدان في التاريخ المتقدم ثار
كبير حي الشبانات بمراكش من عرب معقل وهو الرئيس عبد الكريم بن القائد أبي بكر
الشباني ثم الحريزي وحريز فخذ منها هي النبعة والصميم فيها وعبد الكريم هذا يعرف
عند العامة بكروم الحاج فدخل مراكش ودعا الناس إلى بيعته فبايعوه بها سنة تسع
وستين وألف وانتظمت له مملكة مراكش ونواحيها وسار في الناس سيرة حميدة وكان
____________________
في أيامه الغلاء المؤرخ بعام
سبعين وألف وهو غلاء مفرط بلغ الناس فيه غاية الضرر حتى أكلوا الجيف ولم يزل
مستقيم الرأي بمراكش إلى أن توفي بها سنة تسع وسبعين وألف قبل أن يدخلها المولى
الرشيد بن الشريف بأربعين يوما
وقال منويل لما بايع أهل مراكش عبد الكريم الشباني خالفت عليه آسفي وأعمالها
فغزاهم ثم رجع مفلولا إلى مراكش وكانت المجاعة المشهورة عقب ذلك ثم قتله بعض
أجناده دخل عليه فطعنه برمح فأتلفه ثم قبض على القاتل وقتل أيضا في الحين ولما
توفي بايع الناس ولده أبا بكر ابن عبد الكريم فبقي إلى أن قدم المولى الرشيد وتقبض
عليه وعلى عشيرته فقتلهم ثم تتبع الشبانات فأفناهم قتلا وأخرج عبد الكريم من قبره
فأحرقه بالنار وانقرضت دولة الشبانات والبقاء لله وحده
ولنذكر ما كان في هذه المدة من الأحداث فنقول
في سنة ثلاث عشرة وألف في ثاني عشر محرم منها توفي الولي الكبير أبو محمد عبد الله
بن أحمد بن الحسن الخالدي السلاسي المعروف بابن حسون نسبة إلى جده الحسن المذكور
وهذا الشيخ هو دفين سلا الشهير بها أصله من سلاس مدشر على مرحلة من فاس ثم انتقل
إلى سلا وسبب انتقاله إليها أنه كان بين أهل سلاس حروب ومقاتلات فكان الشيخ أبو
محمد عبد الله إذا غلب أهل مدشره فرح وإذا انهزموا حزن ففكر في نفسه وقال محبة
الغلبة تستدعي محبة الشر للمسلمين وعلي عهد الله لا جلست في موضع أفرق فيه بين
المسلمين وأبغي الشر لهم فارتحل إلى سلا ولما استقر بها أتاه جماعة من عشيرته
يراودونه على الرجوع إلى بلادهم وحثوا عليه في ذلك فأخذ قدحا وملأه من ماء البحر
ووضعه ثم قال لهم ما بال ماء البحر يضرب بعضه بعضا وتتلاطم أمواجه وما لهذا الماء
الذي منه في القدح ساكن فقالوا له لأنه لم يبق في البحر فقال لهم الغربة تصفي
____________________
وتسكن فعلموا مراده وانصرفوا
آيسين قلت وفي انتقاله من سلاس إلى سلا إشارة لطيفة وهي أن لفظ سلاس باعتبار
تفكيكه سلو موصول بحرف السين وهو حرف ذو قرون ثلاثة متشعبة فيؤخذ منه بطريق
الإشارة أنه سلو موصول بكدر بخلاف لفظ سلا فإنه سلو محض وقد قدمنا في أخبار ابن
الخطيب رحمه الله أن مدينة سلا كانت مقصدا للعبادة وأهل الخلوة والانفراد من لدن
قديم أخذ الشيخ ابن حسون عن أبي محمد الهبطي عن أبي محمد الغزواني عن التباع عن
الجزولي رضي الله عنهم وكان صاحب أحوال تهدى إليه الثياب الرفيعة فيأمر بها فتلقى
في بيت مسدود فتبقى فبه حتى يأكلها السوس وتضيع وكان كل يوم يصبح على بابه أرباب
الآلات بالطبول والأبواق يضربون عليه النوبة وغير ذلك وقد تكلم عليه الشيخ اليوسي
في المحاضرات وحمله محملا جميلا وكرامات ابن حسون كثيرة شهيرة نفعنا الله به
وبأمثاله
وفي السنة المذكورة في ربيع الأول منها توفي الشيخ العارف بالله تعالى العلام
الرباني أبو المحاسن يوسف بن محمد الفاسي جد السادة الفاسيين وأخباره ومناقبه
شهيرة قد تكفل ببسطها كتاب مرآة المحاسن لابنه العلامة أبي عبد الله محمد العربي
الفاسي الموضوع لهذا القصد بالخصوص
وفي سنة أربع عشرة وألف كان الغلاء العظيم بفاس قال صاحب الممتع في ترجمة الشيخ
أبي عبد الله محمد بن حكيم بالأندلسي أنه اعتراه ذات يوم حال فجاء إلى بعض أفران
فاس وجعل يقول لصاحب الفرن أغلق فرنك أغلق فرنك ويصيح به فإذا بالغلاء العظيم حدث
عقب ذلك وهو غلاء سنة أربع عشرة وألف فتعطل ذلك الفرن وغيره من أفران المدينة وكان
يمر بالطرقات فيقول الناس يأكلون عن أولادهم ويكرر ذلك على جهة الإنكار فجاء
الغلاء المذكور فكان الناس يأكلون في الأسواق عن أولادهم ولم يكن يعهد الأكل
بالأسواق قبل ذلك
____________________
وفي سنة خمس عشرة وألف في ثاني جمادى منها جاء بفاس سيل عظيم حتى غمر دور عمل
الفخارين وذهب ببعض أنادر الزرع وحمل أمة من باب الفتوح فماتت
وفي سنة اثنتين وعشرين وألف حدث الشر بفاس ووقع الغلاء حتى بيع القمح بأوقيتين
وربع للمد وكثرت الموتى حتى أن صاحب المارستان أحصى من الموتى من عيد الأضحى من
سنة اثنتين وعشرين وألف إلى ربيع النبوي من السنة بعدها أربعة آلاف وستمائة وخربت
أطراف فاس وخلت المداشر ولم يبق بلمطة سوى الوحوش
وفي سنة ثلاث وثلاثين وألف وذلك عند فجر يوم السبت الثاني والعشرين من رجب منها
حدثت زلزلة عظيمة بفاس ذكر صاحب الممتع في ترجمة أبي عبد الله بن حكيم المذكور
آنفا أنه كان قبل الزلزلة المذكورة يصيح المردومات المردومات فإذا بالزلزلة حدثت
قال فما بقيت دار من دور فاس غالبا إلا دخلتها الفؤس
وفي خامس شعبان من السنة المذكورة نزل برد عظيم قدر بيض الدجاج وأكبر وأصغر ورئي
حجر عظيم منها نزل على خيمة فخرقها وفر أهلها عنها وبقي لم يذب نحو ثلاثة أيام
وفي سنة ست وثلاثين وألف توفي الإمام العارف بالله تعالى أبو زيد عبد الرحمن بن
محمد الفاسي المعروف بالعارف بالله وهو أخو أبي المحاسن المذكور آنفا ومناقبه
شهيرة أيضا
وفي السنة المذكورة كان الغلاء بفاس والمغرب
وفي سنة أربعين وألف عشية يوم الخميس ثالث ذي الحجة منها توفي الشيخ الإمام
العلامة الهمام أبو محمد عبد الواحد بن أحمد بن علي بن عاشر الأنصاري نسبا
الأندلسي أصلا الفاسي منشأ ودارا الفقيه المشهور كان رحمه الله له الباع الطويل في
المشاركة في العلوم مع غاية التحرير والتحقيق وله التأليف الحسان التي أغنى فيها
عن الخبر والعيان وكان ورعا سنيا وكان لا
____________________
يتخذ القراء على جنائز أقاربه
ويقول يمنعني من ذلك أنهم يفسدون قراءة القرآن وقراءتهم تلك عذر في التخلف عن
الجنائز
وفي سنة اثنتين وخمسين وألف توفي الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد العربي بن أبي
المحاسن يوسف الفاسي وكان رحمه الله متفننا عالما له عناية كبيرة بتحصيل المسائل
وتفييدها والاطلاع على غريبها وشريدها وهو صاحب مرآة المحاسن وكان جوالا في بوادي
المغرب وحواضره حتى أدته خاتمة المطاف إلى مدينة تطاوين فألقى بها عصا التسيار إلى
أن توفي في السنة المذكورة ثم نقل إلى فاس بعد سنتين فوجد طريا رحمه الله
وفي سنة ستين وألف كان بالمغرب رخاء مفرط وبلغ صاع البر بمدينة سلا مثقالا وكاد
ينعدم بالكلية وهو غلاء لم يعهد مثله وانتشر الفساد في البلاد وحل بالمغرب وباء
كبير حتى كان الناس يموتون في كل طريق رجالا ونساء نسأل الله العافية
وفي سنة سبعين وألف كان الغلاء المفرط بالمغرب لا سيما بمراكش وهذه السنة هي
المعروفة عند العامة بسنة كروم الحاج لا زالوا يضربون المثل بغلائها إلى اليوم
والله تعالى يحفظ المسلمين ويحلهم من كنفه في حصن حصين آمين
تم الجزء السادس ويليه الجزء السابع
وأوله الخبر عن دولة الإشراف السجلماسيين من آل علي الشريف وذكر نسبهم وأوليتهم
____________________
كتاب الاستقصا ج (1)
____________________
1- إدخال مكتبة الزهرا
3
____________________
بسم الله الرحمن الرحيم الدولة
العلوية الخبر عن دولة الأشراف السجلماسيين من ال علي الشريف وذكر نسبهم وأوليتهم
اعلم أن نسب هذه الدولة الشريفة العلوية من أصرح الأنساب وسببها المتصل برسول الله
صلى الله عليه وسلم من أمتن الأسباب وأول ملوكها كما سيأتي هو المولى محمد بن
الشريف بن علي الشريف المراكشي بن محمد بن علي بن يوسف بن علي الشريف السجلماسي
ابن الحسن بن محمد بن حسن الداخل ابن قاسم بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن الحسن
بن عبد الله بن أبي محمد بن عرفة بن الحسن بن أبي بكر بن علي بن الحسن بن أحمد بن
إسماعيل بن قاسم بن محمد النفس الزكية ابن عبد الله الكامل ابن الحسن المثنى ابن
الحسن السبط ابن علي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا ذكر هذا النسب
الذي هو حقيق بأن يسمى سلسلة الذهب جماعة من العلماء كالشيخ أبي العباس أحمد بن
أبي القاسم الصومعي والشيخ أبي عبد الله محمد العربي بن يوسف الفاسي والعلامة
الشريف أبي محمد عبد السلام القادري في كتابه الدر السني فيما بفاس من النسب
الحسني وغيرهم
وقد تقدم في أخبار السعديين أن الصواب أن يزاد في عمود هذا النسب الشريف بعد قاسم
الآخر ما نصه ابن الحسن بن محمد بن عبد الله الأشتر بن محمد النفس الزكية إلى اخر
ما مر
قال أبو عبد الله الفاسي في المراة إن الشرفاء الذين لا يشك في
____________________
شرفهم بالمغرب كثيرون
كالجوطيين من الحسينيين الإدريسيين وكشرفاء تافيلالت من الحسينيين أيضا المحمديين
وكالصقليين والعراقيين وكلاهما من الحسينيين بالياء الساكنة بين السين والنون فإن
شرف جميعهم لا يختلف فيه اثنان من أهل بلادهم ومن يعرفهم من غيرهم ا هـ
وعن شيخ الجماعة الإمام أبي محمد عبد القادر الفاسي رحمه الله أنه قسم شرفاء المغرب
بحسب القوة والضعف إلى خمسة أقسام ومثل للقسم الأول المتفق على صحته بأصناف منهم
هؤلاء السادة السجلماسيون وقال الشيخ أبو علي اليوسي رحمه الله شرف السادة
السجلماسيين مقطوع بصحته كالشمس الضاحية في رابعة النهار وعن الشيخ أبي العباس
أحمد بن عبد الله بن معن الأندلسي أنه كان يقول ما ولي المغرب بعد الأدارسة أصح
نسبا من شرفاء تافيلالت
وبالجملة فإن شرف هؤلاء السادة السجلماسيين مما لا نزاع في صراحته ولا خلاف في
صحته عند أهل المغرب قاطبة بحيث جاوز حد التواتر بمرات رضي الله عنهم ونفعنا بهم
وبأسلافهم امين دخول المولى حسن بن قاسم إلى المغرب واستيطانه بسجلماسة والسبب في
ذلك
قالوا إن أصل سلف هؤلاء السادة رضي الله عنهم من ينبع النخل من أرض الحجاز قالوا
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقطع جدهم علي بن أبي طالب أرض ينبع فاستقرت
ذريته به وتناسلت إلى هذا العهد وكان أول من دخل منهم المغرب المولى حسن بن قاسم
فحكي عن الفقيه العالم أبي عبد الله محمد بن سعيد المرغيثي صاحب الرجز المسمى
بالمقنع قال أخبرني الشيخ الإمام المولى أبو محمد عبد الله بن علي بن طاهر الحسني
أن جده الداخل إلى المغرب هو المولى حسن بن قاسم قال وكان دخوله
____________________
إليه في أواخر المائة السابعة وكان يومئذ من أبناء الستين ونحو ذلك وتوفي رحمه
الله قبل انقضاء المائة المذكورة ا هـ
وخبر ابن طاهر هذا هو أصح ما ينقل في كيفية الدخول ووقته وذكر بعضهم عنه أن دخوله
كان سنة أربع وستين وستمائة وقال الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن هلال أن دخوله كان في
أوائل الدولة المرينية ذكر ذلك في منسكه فعلى هذا يكون دخوله في دولة السلطان
يعقوب بن عبد الحق المريني وقد أشرنا إلى ذلك في محله فيما سلف وقال العلامة أبو
سالم العياشي في رحلته إن المولى حسن بن قاسم دخل المغرب في المائة السابعة وكان
سكناه من ينبع النخل بمدشر يعرف بمدشر بني إبراهيم فهؤلاء كلهم اتفقوا على أن
الدخول كان في المائة السابعة وهو الصحيح الصواب إن شاء الله وزعم بعضهم أن ذلك
كان في المائة السادسة وهو بعيد
واختلفوا في السبب الداعي إلى دخول هذا السيد إلى المغرب فذكر صاحب كتاب الأنوار
السنية فيما بسجلماسة من النسبة الحسنية أن سبب دخوله أن ركب الحاج المغربي كان
يتوارد على الأشراف هنالك وكان شيخ الركب في بعض القدمات رجلا من أهل سجلماسة يظن
أنه السيد أبو إبراهيم فلما حج اجتمع بالموسم بالسيد حسن المذكور وكانت سجلماسة وأعمالها
يومئذ شاغرة من سكنى الأشراف فلم يزل أبو إبراهيم يحسن للمولى حسن موطن المغرب
والسكنى بسجلماسة حتى استماله فأجمع السير مع الركب وقدم به أبو إبراهيم فاستوطن
ببلدهم سجلماسة وقال حافده المولى أبو محمد عبد الله بن علي بن طاهر فيما قيد عنه
وكان الذين أتوا به من أهل سجلماسة أولاد البشير وأولاد المنزاري وأولاد المعتصم
وأولاد ابن عاقلة وصاهره منهم أولاد المنزاري ا هـ
وذكر صاحب الأرجوزة أن الشيخ أبا إبراهيم الذي جاء به من ذرية عمر بن الخطاب رضي
الله عنه وقال بعضهم إن أهل سجلماسة لم تكن
____________________
تصلح الثمار ببلدهم فذهبوا إلى الحجاز بقصد أن يأتوا برجل من أهل البيت تبركا به
فأتوا بالمولى حسن المذكور فحقق الله رجاءهم وأصلح ثمارهم حتى عادت بلادهم هي هجر
المغرب وقال غيره إن سبب إتيانهم به أن الأشراف من آل إدريس رضي الله عنه كانوا قد
تفرقوا ببلاد المغرب وانتشر نظامهم واستولى عليهم القتل والصغار من أمراء مكناسة
وغيرهم فقل الشرف بالمغرب وأنكره كثير من أهله حقنا لدمائهم فلما طلع نجم الدولة
المرينية بالمغرب أكبروا الأشراف ورفعوا أقدارهم واحترموهم ولم يكن ببلد سجلماسة
أحد من آل البيت الكريم فأجمع رأي كبرائهم وأعيانهم أن يأتوا بمن يتبركون به من
أهل ذلك النسب الشريف فقيل إن الذهب يطلب من معدنه والياقوت يجلب من موطنه إن بلاد
الحجاز هي مقر الأشراف ولذلك الجوهر النفيس من أجل الأصداف فذهبوا إلى الحجاز
وجاؤوا بالمولى حسن على ما ذكرنا فأشرقت شمس البيت النبوي على سجلماسة وأضاءت
أرجاؤها وظللتها من الشجرة الطيبة ظلالها وأفياؤها حتى قيل إن مقبرة أهل سجلماسة
هي بقيع المغرب وكفاها هذا شرفا وفخرا ومزية وذخرا وذكر بعضهم أن أهل سجلماسة لما
طلبوا من المولى قاسم بن محمد أن يبعث معهم أحد أولاده وكان يومئذ أكبر شرفاء
الحجاز ديانة ووجاهة اختبر من أولاده من يصلح لذلك وكان له على ما قيل ثمانية من
الولد فكان يسأل الواحد منهم بعد الواحد ويقول له من فعل معك الخير فما تفعل معه
أنت فيقول الخير ومن فعل معك الشر فيقول الشر فيقول اجلس إلى أن انتهى إلى المولى
حسن الداخل فقال له كما قال لإخوته فقال من فعل معي الشر أفعل معه الخير قال فيعود
ذلك بالشر قال فأعود له بالخير إلى أن يغلب خيري على شره فاستنار وجه المولى قاسم
وداخلته أريحية هاشمية ودعا له بالبركة فيه وفي عقبه فأجاب الله دعوته
وكان المولى حسن الداخل رجلا صالحا ناسكا له مشاركة في العلوم خصوصا علم البيان
فإنه كانت له فيه اليد الطولى ولما استقر بسجلماسة
____________________
واطمأنت به الدار زوجه الشيخ أبو إبراهيم ابنته وسكن على ما قيل بموضع يقال له
المصلح ولما توفي تنازع أهل سجلماسة في موضع دفنه حتى كادت نار الحرب تشب بينهم
فأجمع رأيهم أن يدفنوه بمحل وسط هم فيه سواء فمسحوا أرض سجلماسة بالحبال وقسموها
أرباعا ودفنوه بمكان سوي يتوسط جميع النواحي ولم يحفظ تاريخ وفاته وما استنبطه
اليفرني في ذلك فمبني على غير أساس والله تعالى أعلم ذكر ذرية المولى حسن بن قاسم
وتناسلها بالمغرب والإلمام بشيء من مناقب المولى علي الشريف
لما توفي المولى حسن بن قاسم رحمه الله لم يخلف إلا ولدا واحدا وهو المولى محمد ثم
خلف المولى محمد هذا ولدا واحدا ايضا وهو المولى الحسن يسمى باسم جده وهو المدفون
حول المدينة الكبرى بإزاء الشيخ أبي عبد الله الخراز من أرض سجلماسة وخلف المولى
الحسن المذكور ولدين أحدهما المولى عبد الرحمن المكنى بأبي البركات وهو أكبرهما
ومن ذريته أولاد أبي حميد بالتصغير القاطنون بوادي الرتب بالقصر الجديد على مرحلة
من سجلماسة ومنهم أيضا الشرفاء النازلون ببني زروال وثانيهما المولى علي المعروف
بالشريف ومنه تفرعت فروع المحمديين وتكاثرت وكان رحمه الله رجلا صالحا مجاب الدعوة
كثير الأوقاف والصدقات حاجا مجاهدا ذا همة سنية وأحوال مرضية
رحل في بعض الأوقات إلى فاس واستوطنها مدة طويلة وكان سكناه منها بالحومة المعروفة
بجزاء ابن عامر من عدوة القرويين وترك هنالك دارا ثم أقام مدة بقرية صفر وخلف بها
عقارا وآثارا هي بها إلى الآن وأقام مدة أخرى ببلد جرس التي على مرحلتين ونصف من
سجلماسة وترك بها مثل ذلك ودخل عدوة الأندلس برسم الجهاد مرارا وأقام بها مدة
طويلة ثم عاد إلى سجلماسة فكاتبه أهل الأندلس يطلبون منه العود إليهم ويحضونه على
____________________
الاعتناء بأمور الجهاد ويشكون إليه ضعف أهل الأندلس عن مقاومة العدو وأنها شاغرة
ممن تجتمع عليه القلوب وقد كانوا راودوه وهو مقيم عندهم على أن يبايعوه ويملكوه
عليهم والتزموا له الطاعة والنصرة فرغب عن ذلك ورعا وزهدا وعزوفا عن الدنيا
وزهراتها قال اليفرني رحمه الله وقد وقفت على رسائل عديدة بعث بها إليه علماء
غرناطة يحضونه على الجواز إليهم واستنفار المجاهدين إلى حماية بيضتهم ويذكرون له
أن كافة أهل غرناطة من علمائها وصلحائها ورؤسائها قد وظفوا على أنفسهم من خالص
أموالهم دون توظيف سلطان عليهم أموالا كثيرة برسم الغزاة الذين يردون معه من
المغرب وحلوه في بعض تلك الرسائل بما نصه إلى الهمام الضرغام قطب دائرة فرسان
الإسلام الشجاع المقدام الهصور الفاتك الوقور الناسك طليعة جيش الجهاد وعين أعيان
الأنجاد المؤيد بالفتح في هذه البلاد المسارع إلى مرضاة رب العباد مولانا أبي
الحسن علي الشريف اه نص التحلية وكتبوا مع ذلك إلى علماء فاس يلتمسون منهم أن
يحضوا المولى عليا على العبور إلى العدوة فكتب إليه أعلام فاس بمثل ذلك وحثوه على
المسارعة إلى إغاثتهم وذكروا له فضل الجهاد وأنه من أفضل أعمال البر وكان من
موجبات تخلفه عن إغاثة أهل غرناطة أنه كان قد عزم على الذهاب إلى الحج فقالوا له
في بعض تلك الرسائل وعوضوا هذه الوجهة الحجية التي أجمع رأيكم عليها وتوفر عزمكم
لديها بالعبور إلى الجهاد فإن الجهاد أصلحكم الله في حق أهل المغرب أفضل من الحج
كما أفتى به الإمام ابن رشد رحمه الله حين سئل عن ذلك وقد بسط الكلام عليه في
أجوبته ووجه ما ذهب إليه من ذلك اه وكان ممن كتب إليه من علماء غرناطة جماعة منهم
الفقيه أبو عبد الله محمد بن سراج شيخ المواق وقاضي الجماعة بها ومن شيوخ فاس
الذين كتبوا إليه الفقيه أبو عبد الله العكرمي شيخ شيوخ الإمام ابن غازي وأبو
العباس أحمد بن محمد بن ماواس وأبو زيد عبد الرحمن الرقعي صاحب الرجز المشهور
وغيرهم
____________________
ومما ضمنه أهل الأندلس في رسائلهم القصيدة الآتية في مدح المولى علي وصاحبه الفاضل
أبي عبد الله محمد بن إبراهيم العمري وحثهما على إجابتهم وهي من إنشاء الفقيه أبي
فارس بن الربيع الغرناطي يقول فيها
( أيا راكبا يطوي المفاوز والقفرا ** رشدت ولقيت السلامة والخيرا )
( ترحل وجد السير يوما وليلة ** وسافر تجدها في مطالعها زهرا )
( تحمل رعاك الله مني إلى الحما ** تحية مشتاق تهيجه الذكرا )
( وأم ديار الحي من سجلماسة ** فتلك ديار تجمع العز والفخرا )
( وسلم على تلك الديار وأهلها ** سلام محب لم يطق عنهم صبرا )
( فعندي لهم حب جرى في مفاصلي ** ومازج مني العظم والدم والشعرا )
( فتلك بقاع الدين والخير والهدى ** فكم من تقي في سماها سما بدرا )
( هم القوم لا يشقى بهم جلساؤهم ** يضوع عبير الزهر من بينهم نشرا )
( وقل يا أهيل القبلة السادة الأولى ** إذا ما دعوا في حادث أسرعوا النفرا )
( وخص سليل الهاشمي ابن صهره ** علي الذي يعلو على زحل قدرا )
( أبا الحسن المولى الشريف الذي به ** على الغرب شمس النصر طبقت الصحرا )
( ولاحت بآفاق القلوب عجائب ** بها سلب الألباب تحسبها سحرا )
( هو الصقر مهما اهتز كل مجلجل ** هزبر إذا ما انشب الناب والظفرا )
( هو الغوث إن دارت رحى الحرب للقا ** وغيث إذ ما المزن ما أرسلت قطرا )
( أغار على الأعلاج فاجتاح جمعهم ** وجد لهم قتلا وشددهم أسرا )
( بطنجة قد طاب الممات لزمرة ** بنصرتها ترجو من الملك الأجرا )
( دعاها بأقصى السوس قوم فأسرجوا ** من الصافنات الجرد لم يأخذوا الحذرا )
( فهبت ركاب القوم والشمس أشرقت ** وأرهق جيش الله أعداءه خسرا )
( ولا عجب أن الألى هو منهم ** ليوث الشرى قد أوسعوا مرحبا شرا )
( أجر جارك اللهفان من غمراته ** أبا حسن وانصر جزيرتك الخضرا )
( وناد أبا عبد الإله خليلكم ** به تجلب السراء في حادث الضرا )
( سليل أبي إسحاق أكرم به أبا ** لقد خلف الفرع الزكي الرضي البرا )
( أليس الذي لبى نداء أهل طنجة ** وجمع أهل الغرب من حينه طرا )
____________________
( وأوقع بالكفار أي وقيعة ** فمن لم يمت بالسيف ما له ذعرا )
( وأصبح ثغر الدين أشنب باسما ** وأرهق وجه الكفر من حزن قترا )
( ونال من الله السعادة والرضى ** وجنات عدن في المعاد له ذخرا )
( وقل أيها العدل الذي اتخذ التقى ** شعارا وسامى في منازلها الشعرا )
( أرى كل ما في الغرب أصبح قانطا ** لأندلس يرجو بطلعتكم نصرا )
( وغرناطة الغراء نادتكما أقبلا ** وبالراية البيضاء كي تنصر الحمرا )
( فساكنها وقف عليكم رجاؤه ** كبيرهم والطفل والكاعب العذرا )
( فجئنا بمن في أرضكم حاميا لهم ** رجالا وفرسانا غطارفة غرا )
( حماة أباة الضيم من كل ماجد ** كريم يباري الغيث والسيل والبحرا )
( فدونكما الكفار تعني طغاتها ** وتشبع من قتلاهم الوحش والطيرا )
( لقد طمع الكفار ملك رقابنا ** وإهلاكهم في أرضنا الحرث والثمرا )
( منازلنا من كل حصن وقرية ** تناديكما غوثا لخطب أتى أمرا )
( فكم من ضعيف لا حراك بجسمه ** وشيخ بها أربى على مائة عشرا )
( وبيض وسمر من أوانس كالدمى ** وصبية مهد لا تع النفع والضرا )
( ومنبر جمع للخطابة والدعا ** ومسجد دين للصلاة وللإقرا )
( وكرسي علم مقعد لمهذب ** تصدر يملي ما يضيء لنا الصدرا )
( وأجداث أبناء الصحابة فوقها ** وكل ولي أشعث لابس طمرا )
( تناديكما غوثا من الله سرعة ** فقد كاد أن يستأصل الكفر ذا البرا )
( فحثوا لنا بالسير بعدا وقربة ** أجيراننا من كيد من أضمر الجؤرا )
( وعزما بأخرى مثل تلك التي مضت ** ليبصر هذا الفنش مثلكم كبرا )
( وأنتم بحمد الله تدرون ما أتى ** عن المصطفى في الغزو من خبر خبرا )
( فلله ما أسنى وددت لو أننى ** قتلت فأحيى ثم أقتل مذ مرا )
( وما في كتاب الله من آية أتت ** كشمس الضحى في الصحو سافرة غرا )
( خذاها بحمد الله عذرا جبينها ** يضوع شذى تهدي لمغناكما عطرا )
( وتبلغ عني للكرام تحية ** من أندلس للغرب قد عبروا البحرا )
( فعونا رجال الله عونا لعدوة ** أحاطت بها البأساء واشتدت الضرا )
____________________
( فأنتم لنا الجند القوي ونحوكم ** تشوفنا فاستجلوا نحونا السيرا )
( ونثني على خير البرية ذي الهدى ** محمد المبعوث بالملة اليسرا )
( وآل وصحب ثم تال لنهجهم ** ومن لذوي الإسلام قد قصد النصرا )
وبهذه الرسائل العذبة الألفاظ المستوقفة الألحاظ يعلم أن المولى عليا الشريف رحمه
الله كان مشهورا في عصره متقدما على كافة أهل مصره وأنه كان ملحوظا بالإجلال عندهم
والإكبار وأن هذه الدار العالية البناء والأسوار معظمة من لدن قديم مشهود لها
بالخير والتقديم وأظن أن وقعة طنجة المشار إليها في هذه القصيدة هي وقعة سنة إحدى
وأربعين وثمانمائة وقد تقدمت الإشارة إليها في محلها
وقد كان للمولى علي المذكور جهاد في ناحية أكدج من بلاد السودان ورزق الظفر والفتح
كما ذكره مبسوطا في النزهة فلينظر هناك
وذكر صاحب كتاب الأنوار السنية أن المولى عليا مكث أربع عشرة سنة لا يولد له ثم
ولد له بعد ذلك ولدان أحدهما المولى محمد بفتح الميم والثاني أبو المحاسن يوسف وهو
أصغرهما أما المولى محمد فخلف أربعة أولاد وهم السيد الحسن والسيد عبد الله والسيد
علي والسيد قاسم وهم على هذا الترتيب في السن ويقال لسائرهم أولاد محمد نسبة إلى
هذا الجد وفروعهم كثيرة يطول تتبعها وأما المولى يوسف فإنه ولي زاوية أبيه واجمع
الناس على أنه المتأهل لها دون غيره لرزانته ووفور عقله فتولاها بعد نزاع ورسم
توليته لها لم يزل موجودا عند بعض حفدته وكان ذلك كله في دولة بني مرين
وقال صاحب كتاب الأنوار وقد قيل إنه لم يكن له ولد حتى بلغ ثمانين سنة فولد له
تسعة من الولد خمسة منهم أشقاء وأمهم حليمة من ذرية بعض المرابطين بسجلماسة وهم
السيد علي وهو جد الملوك أبقى الله فضلهم والسيد أحمد والسيد عبد الواحد والسيد
الطيب والسيد عبد
____________________
الواحد المكنى بأبي الغيث جد الأشراف البلغيثيين وإنما كني بذلك لكثرة ما نزل من
الغيث عند ولادته وكان الناس قبله في جدب شديد وهم على هذا الترتيب في السن وأربعة
أشقاء أمهم طاهرة من ذرية بعض المرابطين أيضا وهم السيد الحسن بالتكبير والسيد
الحسين بالتصغير والسيد عبد الرحمن والسيد محمد ومن منازل هؤلاء الأشقاء اليوم
الموضع المعروف بأخنوس
وتفصيل أنساب هؤلاء الأولاد الثمانية يطول فلنقتصر على ذكر المولى علي المثنى لأنه
الغرض المقصود فنقول ولد للمولى علي المذكور ثلاثة من الولد وهم السيد محمد والسيد
محرز والسيد هاشم جد الأشراف المرانيين أهل زاوية اللمراني وكلهم قد عقبوا فأما
المولى محمد فولد له المولى علي الشريف المراكشي وهو المثلث مع عدة أولاد سواه والمولى
علي هو جد الملوك أيضا وتوفي بمراكش وبنى عليه حافده أمير المؤمنين المولى الرشيد
قبة بديعة تلقاء ضريح القاضي عياض رحمه الله وولد للمولى علي الشريف المذكور تسعة
من الولد المولى الشريف اسما وكانت ولادته سنة سبع وتسعين وتسعمائة وهو جد الملوك
والمولى الحفيد والمولى حجاج والمولى محرز والمولى حرون والمولى فضيل والمولى أبو
زكرياء والمولى مبارك والمولى سعيد فهؤلاء هو أولاد المولى علي الشريف وكان المولى
الشريف أفضلهم وأشرفهم وله رحمه الله عدة أولاد كلهم نجوم زاهرة ذوو همم باهرة
منهم المولى محمد بفتح الميم وهو أكبرهم والمولى الرشيد والمولى إسماعيل وهؤلاء
الثلاثة ولوا الأمر بالمغرب على هذا الترتيب ومنهم المولى الحران وسيأتي والمولى
محرز والمولى يوسف والمولى أحمد والمولى الكبير والمولى حمادة والمولى عباس
والمولى سعيد والمولى هاشم والمولى علي والمولى مهدي وهو شقيق إسماعيل من بينهم
هذا ما تيسر ذكره من نسب هذه الدولة الشريفة ذات الظلال الوريفة وبالله التوفيق
____________________
الخبر عن رياسة المولى الشريف
بن علي وما دار بينه وبين أبي حسون السملالي المعروف بأبي دميعة
قد قدمنا أن ظهور أبي حسون السملالي كان في أيام السلطان زيدان بن المنصور السعدي
وأنه استولى على القطر السوسي أولا ثم تناول درعة وسجلماسة ثانيا قالوا وكان
استيلاؤه على سجلماسة سنة إحدى وأربعين وألف باستدعاء المولى الشريف بن علي له
واستصراخه إياه على بني الزبير أهل حصن تابوعصامت أعدائه كذا في البستان فقدمها أبو
حسون واستولى عليها وولى عليها عاملا من قبله ورجع إلى مقره من أرض السوس
وقال اليفرني في النزهة كان أبو الأملاك المولى الشريف بن علي وجيها عند أهل
سجلماسة وسائر المغرب يقصدونه في المهمات ويستشفعون به في الأزمات ويهرعون إليه
فيما جل وقل قال وكان قد مر ذات يوم وهو صبي على الإمام المولى أبي محمد عبد الله
بن علي بن طاهر الحسني فسأل عنه إذ لم يكن يعرفه قبل ذلك فقيل له هو ابن المولى
علي الشريف ففرح به أبو محمد ومسح على ظهره وقال ماذا يخرج من هذا الظهر من الملوك
والسلاطين فعلم الناس أن ذلك كائن لا محالة لما يعلمون من صحة كشف أبي محمد وصدق
فراسته فكان المولى الشريف بعد أن كبر وولد له الأولاد يشيع أن هذا الأمر لا بد أن
يصير إلى بيته ويكون لهم شأن عظيم اعتمادا على فراسة أبي محمد بن طاهر رحمه الله
ثم كان بين المولى الشريف المذكور وبين أهل تابوعصامت وهي حصن منيع من حصون
سجلماسة عداوة تامة فاستصرخ عليهم أبا حسون السملالي صاحب السوس لصداقة كانت
بينهما واستصرخ أهل تابوعصامت أهل زاوية الدلاء فأغاث كل منهما من استصرخه والتقى
العسكران معا بسجلماسة لكنهما انفصلا على غير قتال حقنا لدماء المسلمين وكان ذلك
سنة ثلاث وأربعين وألف ولما رأى أهل تابوعصامت ما بين المولى
____________________
الشريف وأبي حسون من الصداقة والوصلة مالوا بكليتهم إلى أبي حسون وخدموه بأنفسهم
وأولادهم وأظهروا له النصح وصدق المحبة طمعا في استفساده على المولى الشريف إذ كان
ظاهرا عليهم به فلم يزالوا يسعون في ذلك إلى أن أظلم الجو بينهما واستحكمت العداوة
وتوفرت دواعيها ولما رأى ابنه المولى محمد بن الشريف ذلك اهتبل الغرة في أهل
تابوعصامت وخرج ليلا في نحو مائتين من الخيل مظهرا أنه قاصد لبعض النواحي ثم كبسهم
على حين غفلة وتسور عليهم حصنهم فما راع أهل تابوعصامت إلا المولى محمد في جماعة
قد وضعوا السيف فيهم وحكموه في رقابهم فلم يكن عندهم دفاع واستمكن منهم واستولى
على ذخائرهم وشفى صدر أبيه مما كان يجده عليهم ولما انتهى الخبر بذلك إلى أبي حسون
حمى أنفه واشتد غضبه وكتب إلى عامله بسجلماسة واسمه أبو بكر يأمره أن يحتال على
المولى الشريف حتى يقبض عليه ويبعث إليه به حبيسا فامتثل أمره وتقبض على المولى
الشريف غدرا بأن تمارض ثم استدعاه لعيادته والتبرك به ثم قبض عليه وبعث به إلى
السوس فاعتقله أبو حسون في قلعة هنالك مدة إلى أن افتكه ولده المولى محمد بمال
جزيل وعاد المولى الشريف إلى سجلماسة في خبر طويل وكان ذلك كله في حدود سنة سبع
وأربعين وألف
قال في البستان وأعطى أبو حسون المولى الشريف وهو معتقل عنده جارية مولدة من سبي
المغافرة كانت تخدمه قال وهي أم المولى إسماعيل وأخيه المولى مهدي اه
ولست أدري ما مراده بهذا فإن كانت الجارية نسيبة في المغافرة فهي حرة فيكون المولى
الشريف قد وطئها بعقد النكاح وهذا هو الذي يغلب على الظن بدليل أن السلطان الأعظم
المولى إسماعيل رحمه الله لما عزم على جمع جيش الودايا قال لهم أنتم أخوالي إشارة
إلى هذا الصهر كما سيأتي وإن كانت مملوكة لهم ثم صارت إلى أبي حسون فالوط ء حينئذ
كان
____________________
بملك اليمين والله تعالى أعلم وصاحب البستان كثيرا ما يجازف في النقل ويتساهل فيه
فلا ينبغي أن يعتمد على ما ينفرد به من ذلك وبالله التوفيق الخبر عن إمارة المولى
محمد بن الشريف وبيعته بسجلماسة والسبب في ذلك
لما قبض أبو حسون على المولى الشريف وسجنه عنده كان ولده المولى محمد بفتح الميم
مجمعا على إهلاك من بقي من أهل تابوعصامت واستئصال شأفتهم وكان قد تقوى عضده بعض
الشيء بما أخذ من أموالهم في الوقعة السالفة فاتخذ بعد تغريب أبيه إلى السوس جيشا
لا بأس به وانضم إليه جمع من أهل سجلماسة وأعمالها وذلك سنة خمس وأربعين وألف وكان
أصحاب أبي حسون قد أساؤوا السيرة بسجلماسة ونصبوا حبالة الطمع في الناس حتى ملتهم
القلوب وزرعوا بغض الملكة السوسية في قلوب الخاصة والعامة ومن عسفهم أنهم كانوا قد
ضربوا الخراج بسجلماسة وأعمالها على كل شيء حتى على من يجدونه في الشمس زمن الشتاء
وفي الظل زمن الصيف وضيقوا على الناس حتى ازدرتهم العيون وملتهم النفوس فلما قام
المولى محمد واجتمع عليه من ذكرناه آنفا دعاهم إلى الإيقاع بأهل السوس فأجابوه
ووجد فيهم داعية لذلك فاعصوصبوا عليه وصرفوا عزمهم إلى محو دعوة أبي حسون من بلادهم
فثاروا بعماله للحين وأخرجوهم عنها صاغرين بعد قتال شديد ثم أجمع رأيهم على بيعة
المولى محمد فبايعوه سنة خمسين وألف في حياة أبيه ووافق على بيعته أهل الحل والعقد
بسجلماسة فاستتب أمره واستحكمت بيعته ووافقه المقدر وساعده السعد وافتتح من ملك
المغرب بابه وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه
____________________
استيلاء المولى محمد بن الشريف
على درعه وطرده أبا حسون السملالي عنها
لما تمت البيعة للمولى محمد بن الشريف وجمع الله سبحانه شمله بأبيه كما مر شمر
لمضايقة أبي حسون السملالي وأهل السوس ببلاد درعه إذ كانت تحت ولايته كما قلنا
فنهض إليه في جمع كثيف ووقعت بينهما حروب فظيعة يشيب لها الوليد ثم انقشع سحاب تلك
الفتنة عن انتصار المولى محمد وانهزام أبي حسون وفراره إلى مسقط رأسه من أرض السوس
فاستولى المولى محمد على درعه وأعمالها واتسعت إيالته وتوفرت جموعه وعظمت جبايته
وطار في بلاد المغرب صيته وكان من أمره ما نذكره وقعة القاعة بين المولى محمد بن
الشريف وأهل زاوية الدلاء وما نشأ عنها
لما صفا للمولى محمد بن الشريف قطر سجلماسة ودرعه حدثته نفسه بالاستيلاء على الغرب
إذ هو يومئذ مقر الرياسة ومتبوأ الخلافة فما دام لم يحصل عليه استيلاء فالملك عرضة
للزوال وصاحبه ناسج على غير منوال وكان الرئيس أبو عبد الله محمد الحاج الدلائي
يومئذ مستوليا على فاس ومكناسة وأعمالهما وامتدت ولايته بعد مهلك أبي عبد الله
العياشي إلى سلا وأعمالها فلما ظهر المولى محمد بالصحراء واستفحل أمره وقويت شوكته
خاف محمد الحاج منه الوثوب على فاس فعاجله بالحرب وعبر إلية نهر ملوية وكان
الدلائي أشد قوة من الشريف وأكثر جمعا فضايقه بإقليم الصحراء وقصد سجلماسة مرارا
وكانت بينهما أثناء ذلك وقعة القاعة ضحى يوم السبت الثاني عشر من ربيع النبوي سنة
ست وخمسين وألف فكانت الهزيمة فيها على الشريف وتقدم الدلائي إلى سجلماسة فافتتحها
واستولى عليها وفعلت البربر فيها الأفاعيل العظيمة
____________________
ثم انبرم الصلح بينهما على أن ما حازت الصحراء إلى جبل بني عياش فهو للمولى محمد
وما دون ذلك إلى ناحية الغرب فهو لأهل الدلاء ثم استثنى أهل الدلاء خمسة مواضع أخر
كانت في إيالة المولى محمد فجعلوها لهم وهي الشيخ مغفر في أولاد عيسى والسيد الطيب
في قصر السوق وأحمد بن علي في قصر بني عثمان وقصر حليمة في وطن غريس وآسرير في
فركلة فهذه الأماكن الخمسة شرطوا على المولى محمد أن لا يحرك لهم منها ساكنا
وانبرم الصلح على ذلك ورجع أهل الدلاء في جموعهم فما كان غير بعيد حتى أطلع المولى
محمد على ما أوجب الفتك بالشيخ مغفر وبعض من شرطوا عليه بقاءه ففتك بهم واصطلم
نعمتهم فبلغ ذلك أهل الدلاء فجمعوا جموعهم ونهضوا إلى سجلماسة عازمين على استئصال
المولى محمد وشيعته وأن لا يدعوا له قليلا ولا كثيرا وكتبوا إليه كتابا يتهددونه
فيه ورموه بالغدر وأنه ناكث ومقسم حانث وأغلظوا له في الكلام وأفحشوا عليه في
الملام
فأجابهم المولى محمد برسالة يقول فيها إلى السيد محمد الملقب بالحاج ابن السيد
محمد بن أبي بكر بن سيري الوجاري الزموري ومن شمله رداء الديوان من الأبناء
والإخوان سلام على جلهم سلام استحباب وسنة فقد كتبناه إليكم من سجلماسة كتب الله
لها من شركم أنفع التمائم وألبسها من الظفر بكم أرفع العمائم وبعد السلام فإن
نيران هذه الفتن التي أضرمتموها بعد خمودها لستم لها بأهل إذ لم يعرفكم أهل المغرب
إلا بإطعام قصاع العصائد وهجو بعضكم لبعض بما لا يسمع من بشيع القصائد أما العلوم
فقد أقررنا لكم فيها إنصافا بالتسليم لو قصدتم بها العمل وأجر التعليم وايم الله
لئن نظم فينا الديان يوما من الدهر شمل الديوان لتعاينن أنت أو بنوك ما يحبه لنا
البنون والإخوان ولقد حدث
____________________
السادة أهل البصيرة أن ستدور عليكم منا الدائرة المبيرة أتطمعون في النجاة بعد
ترويعكم الشرفاء والشريفات والعابدين والعابدات فشمروا إن شئتم عن ساعد الجد للصلح
واغتنموا السلم ما دام يساعدكم وقت النجح فإن الحرب نار والتخلف عنها بعد إيقادها
شنار والله يعلم أن هذه المراودة ليست بجزع ولا وجل منكم وما نشبهكم عند الهراش
إلا بما يطيش حول المصابيح من الفراش بل المراد الأكيد نشر رداء التبري ليلا
تجأرون متى أنشبنا فيكم مخالب التجري وما قذفتم به أعراضنا من خسة القدر وأننا
قساة لا نصغي لقبول العذر فأنتم تنهون عن الفحشاء وقد ملأتم منها الأجشاء وإن
زجرتم عنها قلتم كلا وحاشا لكن من نتج نسلا نسب إليه ومن خاف من شيء يسلط عليه
وأما ما احتوى عليه بساط الغرب ما بين بربر وعرب فقد طمعنا من الله كونه في القبضة
عندما تمكن إليه النهضة إن لم أكنه بالذات والديوان فبالأبناء والإخوان كعوائد
الدول يشيد الأخير منها ما أسسه الأول وانظر ما يكون لخاطركم به اطمئنان فنساعدكم
عليه الآن فلله دره من دغوغي أشاع عارك بأبيات أنشدناها مولاي محمد بن مبارك
( واعلم بأنك من دجاجل مغرب ** فبعيسى صولة نصره ستموت )
( أنتم عكاكز خلفتكم عاهر ** وأبو يسير جدكم جالوت )
( شبانكم مرد وكل كهولكم ** قرنان صنعة شيخكم ديوث )
( ضجرت لدولتكم سموات العلى ** واستثقلتها الأرض والبهموت )
وما أنت في الحقيقة إلا قرد من القرود والقراد اللاصق في كل كلب مجرود وما حرصتم
به من الصلح بين الملوك مكيدة فقد سبقكم بها السلطان أبو حمو رحمه الله وحتى الآن
رغبتم في الخير فهو مطلبي ومغناطيس طبي وإن عشقتم الغير فجوابي لكم قول المتنبي
( ولا كتب إلا المشرفية والقنا ** ولا رسل إلا الخميس العرمرم )
____________________
استيلاء المولى محمد بن الشريف
على فاس ثم رجوعه عنها
كان محمد الحاج الدلائي مستوليا على فاس بعد سيدي محمد العياشي كما قلنا وكان أهل
فاس يمرضون في طاعته تارة ويستقيمون أخرى فولى عليهم قائده أبا بكر الثاملي وأنزله
بدار الإمارة من فاس الجديد فاتفق أن وقعت بينه وبين أهل فاس القديم حرب فحاصرهم
وقطع عنهم الماء فكتب أهل فاس إلى المولى محمد بن الشريف يستصرخونه ويضمنون له
الطاعة والنصرة بما شاء من عدد وعدة متى قدم عليهم واحتل بين أظهرهم ووافقهم على
ذلك عرب الغرب من الخلط وغيرهم فاغتنمها المولى محمد منهم وأقبل مسرعا حتى اقتحم
دار الإمارة بفاس الجديد منسلخ جمادي الثانية سنة ستين وألف وقبض على أبي بكر
الثاملي فسجنه وبايعه أهل البلدين فاس القديم وفاس الجديد معا واتفقوا على نصرته
والقيام بأمره وكتبت له البيعة بفاس سابع رجب فأقام عندهم نحو أربعين يوما
واتصل الخبر بمحمد الحاج فجهز إليه جيشا كثيفا فبرز إليهم المولى محمد ودافعهم
يوما أو بعض يوم فضعف عنهم وانهزم بظهرالرمكة خارج فاس يوم الثلاثاء عاشر شعبان
سنة تسع وخمسين وألف فأسلم فاسا وانكفأ راجعا إلى سجلماسة ودخل أهل فاس الذين
كانوا معه مدينتهم فأغلقوها عليهم
وحاصرهم الثاملي وأصحابه وقطع عنهم الماء وجرت خطوب هلك فيها جماعة من أعيان فاس
منهم عبد الكريم اللايريني الأندلسي ومحمد بن سليمان وغيرهما وكان ذلك أواخر صفر
سنة إحدى وستين وألف ثم راجعوا طاعة أهل الدلاء فولى عليهم الحاج ولده أحمد ولما
استقر بفاس طالب أهلها بإخراج الجناة ورؤوس الفتنة من ضريح المولى إدريس رضي الله
عنه فتعصب لهم الشريف أبو الحسن علي بن إدريس الجوطي وقام دونهم ثم عجز واختفى حتى
أخرج بالأمان إلى زاوية أهل المخفية
____________________
ومنها خرج عن فاس بالكلية وسكنت الفتنة وكان ذلك في رمضان سنة إحدى وستين وألف
واستمر أحمد الدلائي أميرا على فاس إلى أن توفي في عشرين من ربيع الأول سنة أربع
وستين وألف وخلفه أخوه محمد ومات سنة سبعين وألف رحم الله الجميع ثم وثب على فاس
الجديد أبو عبد الله الدريدي فاستولى عليه استيلاء المولى محمد الشريف على وجدة
وشنه الغارات على تلمسان وأعمالها وما نشأ عن ذلك
لما أيس المولى محمد بن الشريف من فاس والمغرب صرف عزمه لتمهيد عمائر الصحراء
وبلاد الشرق فسار يتقرى الحلل والمداشر والقرى إلى أن بلغ بسيط آنكاد فبايعته
الأحلاف وهو العمارنة والمنبات من عرب معقل وبايعته سقونة منهم أيضا فسار بهم إلى
بني يزناسن وكانوا يومئذ في ولاية الترك فأغار عليهم وانتهب أموالهم وامتلأت أيد
العرب من مواشيهم ثم انثنى إلى وجدة وكان أهلها يومئذ حزبين بعضهم قائم بدعوة
الترك وبعضهم خارج عنها فانحاز الخارجون إلى المولى محمد فأغزاهم بشيعة الترك
فانتهبوهم وشردوهم عن البلد وصفت وجدة له فاستولى عليها وكان ذلك أعوام الستين
وألف ثم دلته العرب على أولاد زكرى وأولاد علي وبني سنوس المجاورين لهم فشن عليهم
الغارات وانتهبهم فدخلوا في طاعته ثم سار إلى ناحية ندرومة فشن الغارة على مضغرة
وقديمة وطرارة وولهاصة ورجع إلى وجدة فأقام بها مدة ثم توجه إلى تلمسان فأغار على
سرحها وسرح القرى المجاورة لها واكتسح بسائطها فبرز إليه أهلها ومعهم عسكر الترك
الذي كان بالقصبة فأوقع بهم وقتل منهم عددا كثيرا ورجع عوده على بدئه إلى وجدة
فشتى بها
____________________
ولما انصرم فصل الشتاء خرج على طريق الصحراء فأغار على الجعافرة وانتهب أموالهم
وقدم عليه هنالك محمود شيخ حميان من بني يزيد بن زغبة وهم اليوم في عداد بني عامر
بن زغبة فقدم عليه محمود المذكور في قبيلته مبايعا له ومتمسكا بطاعته وقدمت عليه
أيضا دخيسة ففرح بهم وأكرمهم ودلوه على الأغواط وعين ماضي والغاسول فنهب تلك القرى
وأستولى على أموالها وفرت أمامه عرب الحارث وسويد وحصين من بني مالك بن زغبة
فنزلوا بجبل راشد متحصنين به فرجع عنهم
واضطربت أحوال المغرب الأوسط واشرأبت رعاياه إلى الانتفاض على الترك وأخذ باي
معسكر يخندق على نفسه وبعث إلى صاحب الجزائر المسمى عندهم بالدولة يخبره بما لحق
الرعايا من عيث صاحب سجلماسة فأخرج صاحب الجزائر عساكره وهيأ مدافعه واستعد لحرب
المولى محمد وقدم نائبه بالعساكر إلى تلمسان فلما سمع به المولى محمد استمر راجعا
إلى وجدة وفرق العرب الذين كانوا مجتمعين عليه ووعدهم لفصل الربيع القابل
ثم قفل إلى سجلماسة بعد ما شب نيران الحرب في الإيالة التركية ونسفها نسفا وضرب
أولها بأخرها
ولما وصل عسكر الترك إلى تلمسان وأخبروا برجوع المولى محمد إلى تافيلالت سقط في
أيديهم ووجدوا البلاد خالية وكل الرعايا قد أجفلت عن أوطانها وتحصنوا بالجبال ولم
يأتهم أحد بمؤنة ولا خراج وانحرف عنهم أهل تلمسان أيضا وكانوا قد ركنوا إلى المولى
محمد وخاطبوه فرأى الترك أنهم قد شوركوا في بلادهم وزوحموا في سلطانهم فرجعوا إلى
الجزائر
وكان من أمرهم ما نذكره الآن
____________________
مراسلة عثمان باشا صاحب
الجزائر للمولى محمد بن الشريف وما دار بينهما في ذلك
لما رجع عسكر الترك إلى الجزائر وأخبروا صاحبها عثمان باشا الدولة بحال الرعايا
وما نالها من صاحب سجلماسة جمع أهل ديوانه وأرباب مشورته وتفاوضوا في أمر المولى
محمد وكيف التخلص من سطوته فلم يروا أجدى لهم من أن يبعثوا إليه برسالة مع اثنين
من أعيان الجزائر وعلمائها واثنين من كبار الترك ورؤسائها لأنهم كانوا لا يتمكنون
من حربه لو أرادوا ذلك لأنه يغير ويظفر وينتهب ثم يصحر فلا يمكنهم التعلق بأذياله
ولا قطع فراسخه وأمياله فبعثوا إليه برسالة من إملاء الكاتب أبي الصون المحجوب
الحضري مع الوفد المشار إليه يقول فيها
الحمد لله الذي وصى ولا رخص في مدافعه اللص والصائل شريفا أو مشروفا ونص وهو
الصادق سبحانه على فصم عرى أصله المتأصل مجهولا أو معروفا وصلى الله على سيدنا
ومولانا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم وعلى آله تيجان العز وبراقع
الجباه والخياشم وصحابته صوارم الصولة الحاسمة من الكفر الطلي والغلاصم بالرماح
العاملة والسيوف القواصم ولا زائد بعد حمد الله إلا مقصد خطاب الشريف الجليل القدر
الصادق اللهجة والصدر من رتق الله به فتوق وطنه وحمى به من أحزاب الأباطيل أنجاد
أرضه وأغوار عطنه حافد مولانا علي وسيدتنا البتول وولد مولانا الشريف بن مولانا علي
السيتل الصؤل سلام عليكم ما رصعت الجفان سموت البحور ولمعت الجواهر الحسان على
بياض النحور ورحمة الله تعالى وبركاته ما أساغت محض الحلال ذكاته وبعد فقد
كاتبناكم من مغني غنيمة المقيم والظاعن والزائر رباط الجريد مدينة ثغر الجزائر صان
الله من البر والبحر عرضها وأمن من زعازع العواصف والقواصف أرضها إلماعا لكم معادن
الرياسة وفرسان القيافة والعيافة
____________________
والفراسة فضلا عن سماء صحا من الغيم والقتام جوه وضحى نشرت عليه الوديقة وشيا ففشا
ضوءه بأن شؤون المملكة لم يتوان عن مكنون علمكم أمرها ولا أعوز عزائمكم زيدها
وعمرها وذلك أن الوهاب سبحانه منحكم هيبة وهمة في الجود والحلم والحماسة واختار
لكم عنوان عنايتها في غاب الصون سجلماسة لكن فاتكم سر رأي التدبير وأركبتم حزمكم
جموع الجهل والتبذير مع أن ذلك في الحقيقة دأب كل مؤسس لدولة لا يجمعها إلا
بجنايات الجولة والصولة فخرقت على الإيالة العثمانية جلباب صونها الجديد من وجدة
الأبلق إلى حدود الجريد فشوشت علينا أخلاق أخلاط الأعراب إلى أن تعوقوا علينا في
أرفق الآراب وشننت الغارة الشعواء على بني يعقوب فحسمت رسمهم على العقيب والعرقوب
وغادرت جماهرهم تسعى على عيالهم الزياني والموزونة في أسواق مستغانم وديار مازونه
وجررت ذيل المذلة على أطراف الغاسول والأغواط فالتقطتهم بطانتك التقاط سباع الطير
الوطواط وقادك الجاهل الجهم محمود حيمان لعين ماضي و الصوانع وبني يطفيان فراحت
رياح وسويد ينفض كل بطل منهم غباره وطينه على طود راشد وبليد قسطينة ولا كادنا إلا
ما هتكتم من ستر السر على مرسى أبي الربيع السيد سليمان مع أنكم أولى من يراعي
حرمته وتوقيره ويدافع عنه وعمن سواه ويرفد فقيره وتنسبون العجم للجهل وأنهم جفاة
وأجلاف ثم صرتم بدلا وأخلاف خرج جيش قصبتنا بتلمسان بما لديهم من الرماة والفرسان
فهزمتموهم بقرار وقتلتموهم قتل مذلة واحتقار فقلنا هذا أقل جزاء كل كلب حقير عقور
يعرض عرضه لصولة الأسد الهصور ولا وافت الآفته في الغالب إلا الحضر مع شيع في
الأجنة تجني الجنى والخضر كان أولاد طلحة وهداج وخراج يؤدون لهذه المثابة ما ثقل
وخف من الخراج ولا يفوتنا من ملازمها وبر ولا شعر ولا صوف ولا سقب ولا جدي ولا
خروف إلى أن طلعت علينا غرة شمسك السعيدة
____________________
فعادت كل شيعة قريبة عنا بعيدة وأعانك افتراق الجفاة من أهل وجدة وأن نصيبك الأوفر
منهم أهل جدة ونجدة ولولاك ما ثار علينا أهل تلمسان وأنكروا ما لنا عليهم من قديم
الحنانة والإحسان وردوا عليك الساحة والبساط ومرغوبهم أن تزفر علينا بسطوة الثعبان
والساط مع علمنا اليقيني أن شجرتنا لا تضعضع بزعازع حيان ولا تندرس ولو انهارت
عليها جبال جيان وأن الحجر لا يدق بالطوب والخاطف لا يطأ أوطية الخطوب كذلك في
المثل جندك خلال الصدر والورود لا يصبرون لصواعق البارود ولا تنجح حجة الدروع
والذوابل إلا في سوق شن الغارات على حلل القبائل وأما أسوار الجحافل وأدوار
الكتائب فلا يصدمها فيهدمها إلا سيول الخيول والرماة الرواتب وزنت صولتك لبني عامر
لذاذة النفار لكنف الكافر وداخل الوسواس والسوس جبال طرارة ومضغرة وبني سنوس
والرعايا تود أن يحتفل لبنها في ضروعها لتختزن في تبن الخداع سنبل زروعها وإن قبلت
منهم الأقوال والأفعال تعل طباعها على الدولة فتصير كالأغوال وإياك إياك والغرر
لما عثرت عليه في كتاب البوني وأوراق السيوطي وعلى بادي وابن الحاج ورسالة أهل
سبتة لعبد الحق بن أبي سعيد المريني بأنك المخصوص بصعود تلك الأدراج ذلك منك بعيد
الوصول لا تدركه بالمسرة ولا بقبائع النصول وإن أوتاد الروم والترك تتقوض من أرض
الغرب ولا يبقى من ينازعكم فيها بحرب ولا ضرب ليس لك في غنيمة إدراكه طمع ولا سبيل
لتبديد ما نظمه حازمنا وجمع وقد غرتك أضغاث الأحلام وأغواك ضباب الغيب فأصبح ظنك
منه في غياهب الأظلام فإن حرمت به فأنت لا شك حانث وإن كان منكم يقينا فرابع أو
ثالث أولكم ثائر والثاني مقتف له سائر والثالث لكما أمير نائر إما عادل أو جائر
ولا تمدن باع المخاطرة إلى أوطاننا فتخشى مخالب سطوة سلطاننا أما الشجاعة الغريزة
فقد علمنا أن لك منها بالمهيمن أوفر نصيب وممن ضرب فيها فأصاب
____________________
الغرض بسهم مصيب لكن غاية كفاية الشجاع إذا حمي الوطيس الدفاع سيما في هذا الحين
التي أبخستها عند الخلاص صناعة البارود والرصاص وجسرك علينا كونك عقابا على فرع
شجر أو يعسوب نحل احتل صدع حجر لو رأيت ملوك آحاد أمصار البر والبحر لعلمت أنك
محجوب ومحجور في حق ذلك الحجر وتحققت أن بين الأمراء مداراة ومراعاة وأن أحوال
الدول أيام وساعات كل أحد يخاف على صدع فخاره ويطلق بخوره تحت نتن بخاره وما مرادنا
إلا أمان العرب في المواضع ليطيب لها جولان الانتقال في المشتاة والمرابع ويجلب
إليهم الغني والعديم ما يحصل له فيه ربح من الكساء والحناء والأديم فإن تعلقت همتك
بالإمارة فعليك بالمدن التي حجرها عليك همج البرابر فصار يدعى لها بها على المنابر
فشد لها حيازيمك لتذوق حلاوة الملك المعجونة بمرهم النجاة أو الهلك دع عنك وطن
الرمال والعجاج ومخاطرة النفس في الفدافد والفجاج فناشدناك جدك من الأب والأم وما
لك فيه من أخ وخال وعم إلا ما تجنبت ساحات تلمسان ولا زاحمتها بجموع رماة ولا
فرسان وإن اشتهت الأعراب غارات بعضها على بعض فموعدها ما نأى عنا من مطلق الأرض
وخمسنا أبدا على الغالب لتعلموا أن رأيهم عن معاني الصواب غائب إذ كلهم ذوو جفاء
ونفار ويعمهم عند الدول ما يعم الكفار ليبقى بيننا وبينكم الستر المديد على الدوام
ونلغي كلام الوشاة من الأقوام وقد شيعنا نحوكم أربعة صحاب تسر بمجالستهم الخواطر
والرحاب الفقيه الوجيه السيد عبدالله النفزي والفقيه الأبر السيد الحاج محمد بن
علي الحضري المزغنائي واثنين من أركان ديواننا وقواعد إيواننا أتراك سيوط وغاية
غرضنا جميل الجواب بما هو أصفى وأصدق خطاب والله تعالى يوفقنا لأحمد طريق ويحشرنا
مع جدك في خير فريق آمين والسلام وكتب في منتصف رجب الفرد الحرام عام أربعة وستين
وألف اه
____________________
ولما وصلت الرسل إلى المولى محمد وقرأ الكتاب اغتاظ مما تضمنه من العتاب فأحضر
الرسل وعاتبهم على قول مرسلهم وتحامله عليه فقالوا له نحن أتيناك سفراء برسالة باشا
الجزائر فاكتب لنا الجواب ولا تقابلنا بعتاب فقال صدقتم فكتب إليهم بكتاب يقول في
أوله وبعد فقد كتبناه إليكم من غرة جبين الصحارى وصرة أمصار المغارب والبراري مغني
سجلماسة التي هي قاعدة العرب والبربر المسماة في القديم كنز البركة حالتي السكون
والحركة ومضى في كتابه إلى أن ختمه ولم يجبهم إلى ما أرادوا
ولما رجعوا برسالته إلى صاحب الجزائر قرأها بمحضر أرباب الديوان ثم ردهم في الحين
دون كتاب ولما قدموا على المولى محمد ثانية قالوا له إنه لم يكن لنا علم بما في
الكتاب ولو اكتفينا به ما رجعنا إليك نحن جئناك لتعمل معنا شريعة جدك وتقف عند حدك
فما كان جدك يحارب المسلمين ولا يأمر بنهب المستضعفين فإن كان غرضك في الجهاد
فرابط على الكفار الذين هم معك في وسط البلاد وإن كان غرضك في الاستيلاء على دولة
آل عثمان فابرز إليها واستعن بالرحيم الرحمن فلا يكن عليك في ذلك ملام فهذا ما جئنا
له والسلام وأما إيقاد نار الفتنة بين العباد فليس من شيم أهل البيت الأمجاد ولا
يخفى عليك أن ما تفعله حرام لا يجوز في مذهب من مذاهب المسلمين ولا قانون من
قوانين الأعجام وهذان فقيهان من علماء الجزائر قد جاءا إليك حتى يسمعا منك ما
تقوله ويحكم الله بيننا وبينك ورسوله فقد تعطلت تجارتنا وأجفلت عن وطننا رعيتنا
فما جوابك عند الله في هذا الذي تفعله في بلادنا وأنت ابن رسول الله صلى الله عليه
وسلم مع أنه لم يعجزنا أن نفعله نحن في بلادكم ورعيتكم على أننا محمولون على الظلم
والجور عندكم لكن تأبى ذلك همة سلطاننا
فلما سمع المولى محمد كلامهم أثر فيه وعظهم وداخلته القشعريرة
____________________
وعلاه سلطان الحق فأذعن له وقال والله ما أوقعنا في هذا المحذور إلا شياطين العرب
انتصروا بنا على أعدائهم وأوقعونا في معصية الله وأبلغناهم غرضهم فلا حول ولا قوة
إلا بالله وإني أعاهد الله تعالى لا أعرض بعد هذا اليوم لبلادكم ولا لرعيتكم بسوء
وإني أعطيكم ذمة الله وذمة رسوله لا قطعت وادي تافنا إلى ناحيتكم إلا فيما يرضي
الله ورسوله وكتب لهم بذلك عهدا إلى صاحب الجزائر وقنع بما فتح الله عليه من
سجلماسة ودرعة وأعمالهما ولم يعد يغزو الشرق ولا توجه إليه بعد ذلك إلى أن خرج
عليه أخوه المولى الرشيد فكان من أمره معه ما نذكر بعد إن شاء الله ثورة المقدم
أبي العباس الخضر غيلان الجرفطي ببلاد الهبط
كان أبو العباس الخضر غيلان الجرفطي من أصحاب أبي عبد الله العياشي وكان مقدما على
الغزاة ببلاد الهبط ولما قتل العياشي في التاريخ المتقدم استقل هو برياسة تلك
الجهة واستمرت حاله إلى ثلاث وستين وألف فثار بالفحص وزحف إلى قصر كتامة فبرز إليه
أهله فاقتتلوا مليا ثم انهزموا واتبعهم الخضر فاقتحم القصر عنوة وقتل جماعة وافرة
من أعيانه وفر الكثير منهم إلى فاس منهم أولاد الفقيه عبد الله القنطري من أعيان
القصر وبقي الخضر متغلبا على تلك الناحية
وفي ذي الحجة سنة تسع وستين وألف خرج من فاس المرابط الرئيس أبو سلهام بن كدار
واتصل بالخضر غيلان وصار في جملته وكان أبو سلهام المذكور ممن ظاهر الدلائيين على
سيدي محمد العياشي فبقي ذلك في قلب الخضر غيلان حتى قبض على أبي سلهام المذكور
واعتقله بآصيلا ثم سرحه بعد حين قاله في نشر المثاني
____________________
وفاة المولى الشريف بن علي
رحمه الله
كان المولى الشريف بن علي بسجلماسة وأعمالها على ما وصفناه قبل من الوجاهة
والرئاسة والسيادة ممتثل الأمر متبوع العقب منذ نشأ ثم بايعه أهل سجلماسة سنة إحدى
وأربعين وألف ونازعه بنو الزبير أصحاب تابوعصامت وبذلك استصرخ عليهم أبا حسون
السملالي حتى ملك سجلماسة كما مر ولما تخلص من نكبة السوس وعاد إلى سجلماسة وجد
ابنه المولى محمدا قد قام بالأمر بعده فتخلى له عنه وقطع بقية عمره فيما يرضي الله
تعالى إلى أن أتاه اليقين ثالث عشر رمضان سنة تسع وستين وألف بسجلماسة مسقط رأسه
ومقر عزه ومنبت أشباله ومدرج ملوكه وأقياله وجددت البيعة للمولى محمد ففارقه أخوه
المولى الرشيد فخرج إلى الجبال فبقي متنقلا في أحيائها إلى أن كان من أمره ما
نذكره إغارة المولى محمد بن الشريف على عرب الحياينة من أعمال فاس وما يتبع ذلك
لما كان آخر سنة ثلاث وسبعين وألف أغار المولى محمد بن الشريف على زرع الحياينة
بأحواز فاس فانتسفه وأفسده ووقعت عقب ذلك مجاعة عظيمة أكل الناس فيها الجيف
والدواب والآدمي وخلت الدور وعطلت المساجد وخرج أهل فاس يستغيثون بأهل الدلاء وكان
الشريف أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن علي بن طاهر الحسني قد قدم فاسا بقصد أن
يبايعه أهلها فلم يجيبوه وقيل بل نصره بعضهم وخرج إلى عرب الحياينة فذهب بهم إلى
قتال المولى محمد بن الشريف فلم يلقه
وفي أوائل سنة أربع وسبعين وألف حاز طاغية النجليز طنجة من يد البرتغال قال في
البستان لضعفهم عن مقاومة المسلمين يومئذ بسبب أن
____________________
المسلمين غزوهم في هذه الأيام فقتلوا منهم ستمائة مقاتل ثم غزوهم فقتلوا منهم
أربعمائة أخرى وقال منويل القشتيلي في كتابه الموضوع في أخبار المغرب الأقصى سبب
ذلك أن طاغية البرتغال وهو إخوان السادس يقال بالخاء والجيم أراد تأكيد المحبة
بينه وبين طاغية النجليز وهو كارلوس الثاني فزوجه أخته وجهزها إليه بمفاتيح طنجة
فبقيت بيده اثنين وعشرين سنة ثم تخلى عنها للمسلمين ا هـ قيام المولى الرشيد بن
الشريف على أخيه المولى محمد ومقتل الأخ المذكور رحمه الله
قد قدمنا ما كان من فرار المولى الرشيد عن أخيه المولى محمد يوم وفاة أبيهما رحمه
الله فذهب المولى الرشيد يومئذ إلى تدغة فأقام بها مدة ثم سار إلى دمنات فأقام بها
مدة أيضا ثم أتى زاوية أهل الدلاء فأقام عندهم ما شاء الله فيقال إن بعض أهل
الزاوية أشار عليه بالخروج منها خوفا عليه من الفتك به لأن الدلائيين كانوا يزعمون
فيما عندهم من العلم أن خلاء زاويتهم يكون على يده فقبل المولى الرشيد إشارته ثم
خرج إلى جبل آصرو فأقام به برهة من الدهر ثم توجه إلى فاس ومعه نفر قليل فبات
بظاهر فاس الجديد فأكرم رئيسها أبو عبد الله الدريدي ضيافته ومن الغد ارتحل عنها
إلى تازا ثم إلى عرب الأحلاف
قال في النزهة إلى أن أدته خاتمة المطاف إلى قصبة اليهودي ابن مشعل وكان لهذا
اليهودي أموال طائلة وذخائر نفسية ولع على المسلمين صولة وكان لهذا اليهودي أموال
طائلة وذخائر نفيسة وله على المسلمين صولة واستهانة بالدين وأهله فلم يزل المولى
الرشيد يفكر في كيفية اغتيال اليهودي المذكور إلى أن أمكنه الله منه في خبر طويل
فقتله واستولى على أمواله وذخائره وفرقها فيمن تبعه وانضاف إليه من عرب آنكاد
وغيرهم فقوي عضده وكثر جمعه ا ه
____________________
وقال صاحب نشر المثاني إن المولى الرشيد لما رحل عن فاس قدم على الشيخ أبي عبد
الله اللواتي بأحواز تازا وكان الشيخ المذكور ينتحل طريقة الفقر ويعظم أهل البيت
فبالغ في إكرامه فبينما هو مقيم عنده إذ رأى ذات يوم رجلا ذا هيئة من مماليك
وأتباع وخيل وهو يصطاد كهيئة الملوك فسأل عنه فقيل له هذا ابن مشعل من يهود تازا
فانصرف المولى الرشيد وجعل مدية في فمه وجاء إلى الشيخ اللواتي فلما رآه الشيخ على
تلك الحال أعظم ذلك وقال له المال والرقبة لك يا سيدي فما الذي دهاك قال تأمر
جماعة من عشيرتك يسيرون معي حتى أفتك بهذا اليهودي غيرة على الدين فقال قد فعلت لا
يتخلف عنك منهم أحد فاختار المولى الرشيد منهم جماعة وواعدهم على تبييت اليهودي
واقتحام داره عليه وكان اليهودي قد اتخذ دارا بالبيداء على نحو مرحلة من تازا في
جهة الشرق فلما كانت ليلة الموعد تقدم المولى الرشيد إلى دار ابن مشعل في صورة ضيف
فأضافه ابن مشعل ولما انتصف الليل أحاط أصحابه بالدار وكبس المولى الرشيد اليهودي
في بعض خلواته فقتله وأدخل الرجال فاستولى على دار ابن مشعل بعد الفتك بأصحابه
وحراسه وعثر فيها على أموال كثيرة وذخائر نفيسة وقيل وهو الشائع عند بني يزناسن أن
ابن مشعل المذكور كان مقيما بين أظهرهم قد اتخذ حصنا ببعض جبالهم وهم محدقون به
فجاءهم المولى الرشيد ولم يزل يلاطفهم في شأن اليهودي حتى أثر كلامه فيهم ونما إلى
اليهودي بعض ذلك وأنهم مسلموه فنزل إلى المولى الرشيد بهدية نفيسة يسترضيه بها فلم
يكن بأسرع من أن قبض عليه وقتله وتقدم إلى الدار فاستولى عليها واستخرج ما فيها من
الأموال فالله أعلم أي ذلك كان
ثم إن المولى الرشيد دعا لنفسه أعراب الشرق وجمع كلمتهم ونزل وجدة واتصل ذلك كله
بأخيه المولى محمد صاحب سجلماسة فتخوف منه
____________________
لما يعلم من صرامته وشهامته فنهض لقتاله والقبض عليه فلما التقى الجمعان ببسيط
آنكاد كانت أول رصاصة في نحر المولى محمد فكان فيها حتفه وذلك يوم الجمعة التاسع
من المحرم سنة خمس وسبعين وألف ودفن بدار ابن مشعل فأسف المولى الرشيد لقتله وأظهر
الحزن عليه وتولى تجهيزه بنفسه فحمله إلى بني يزناسن ووراه هنالك في رمسه رحمه
الله وغفر له
وكان المولى محمد شجاعا مقداما لا يبالي بالعظائم ولا يخطر بباله خوف الرجال ولا
يدري ما هي النكبات والأوجال وتقدم وصف أهل الدلاء له بقولهم الأجدل الذي لا تؤده
هموم الليالي ولا حرارة قيظ المصيف عقاب أشهب على قنة كل عقبة لا يقنعه المال دون
حسم الرقبة وشجاعته شهيرة وكان مع ذلك قويا في بدنه أيدا في أعضائه وجسمه لا يقاوم
في الصراع ولا يزاول في الدفاع
حكي أنه في بعض أيام حصاره لتابوعصامت جعل يده في بعض ثقب الحصن وصعد عليها ما لا
يحصى من الناس حتى كأنها خشبة منصوبة ولبنة مضروبة وكان سخيا جدا حتى أنه أعطى
الأديب الشهير المتقدم في صناعة الشعر المعرب والملحون أبا عثمان سعيدا التلمساني
صاحب القصيدة العقيقية وغيرها نحوا من خمسة وعشرين رطلا من خالص الذهب جائزة له
على بعض أمداحه فيه وحكاياته في هذا المعنى شهيرة
ولما قتل رحمه الله قام بسجلماسة ولده المولى محمد الصغير مقامه لكن لم يتم له أمر
وسيأتي بعض خبره إن شاء الله
____________________
الخبر عن دولة أمير المؤمنين
المولى الرشيد بن الشريف رحمه الله
لما قتل المولى محمد بن الشريف رحمه الله في التاريخ المتقدم وانحشرت جموعه كلها
إلى أخيه المولى الرشيد فبايعوه البيعة العامة ودخل في طاعته الأحلاف وبنو يزناسن
وغيرهم وبعث إلى أهل تلك النواحي كلها من العرب والبربر يدعوهم إلى الطاعة واجتماع
الكلمة فقدمت عليه وفودهم بالهدايا وكتب من كان مع اخيه في ديوان جيشه وكساهم
وأعطاهم الخيل والسلاح وعظم أمره وعلا كعبه ثم احتاج إلى المال وكان قد أخذ ولد
اليهودي ابن مشعل يوم قتل أباه فجاءت أمه تطلب فداءه فتفرس فيها وماطلها به ثم قال
لا أسرحه حتى تدليني على مال زوجك أو أقتله فأنعمت له بذلك وركب معها إلى القصبة فدلته
على خزانة في بيت فنقب عنها فلقي فيها خوابي مملوءة ذهبا وفضة فاستخرجها وارتاش
بتلك الأموال وفرق منها على من معه من العرب والبربر وسائر الأجناد فحسنت حاله
وحالهم وعد ذلك من سعادته ولما قضى إربه ورتب جنده بعث رسله إلى الآفاق بالأعذار
والإنذار والوعود والوعيد لأهل الطاعة والعصيان ثم سار على أثرهم قاصدا فتح المغرب
الذي كان قد تعذر على أخيه من قبله فنزل على وادي ملوية وأقام به أياما للاستراحة
وانتظار من يأتيه من أهل تلك النواحي مثل جاوت والريف وغيرهما فلم يأته أحد والله
غالب على أمره
____________________
فتح مدينة تازا ثم سجلماسة وما
تخلل ذلك
لما أقام المولى الرشيد رحمه الله على ملوية ولم يأته من أهل المغرب أحد تقدم إلى
تازا فاقتحمها بعد محاربة طويلة وبايعه أهلها والقبائل التي حولها ولما اتصل خبر
ذلك بأهل فاس اجتمعوا مع جيرانهم من عرب الحياينة والبهاليل وأهل صفر وغيرهم
وتحالفوا على حرب المولى الرشيد وعدم بيعته بحال ظنا منهم أنه يفعل بهم ما فعله
أخوه المولى محمد بالحياينة من النهب والقتل وأمر رؤساء فاس عامتها بشراء الخيل
والعدة والإكثار منها ووظفوا على كل دار مكحلة ومن لم توجد عنده مكحلة منهم يعاقب
فاشتروا من ذلك فوق الكفاية وخرجوا إلى باب الفتوح لعرض الخيل والسلاح وعملوا
اللعب المسمى بالميز واجتمعوا أيضا مع الحياينة وأكدوا الحلف على حرب المولى
الرشيد ولما بلغه خبرهم وما هم عليه أعرض عنهم وعدل إلى سجلماسة وكان ذلك منه
صوابا في الرأي إذ قدم الأسهل فالأسهل وتناول الأخف فالأخف
ولما أناخ على سجلماسة حاصرها نحو تسعة أشهر إلى أن فر عنها ابن أخيه المولى محمد
الصغير المنتزى بعد أبيه كما مر فخرج منها ليلا ودخلها المولى الرشيد واستولى
عليها وسد فرجها ورتب حاميتها ومهد أطرافها ورجع إلى تازا فاحتل بها ولكل أجل كتاب
____________________
حصار مدينة فاس ثم فتحها
والإيقاع بثوارها
لما قفل المولى الرشيد رحمه الله من سجلماسة إلى تازا أقام بها أياما فاتفق أهل
فاس مع أحلافهم من الحياينة أن يغيروا عليه بمستقره منها ويبدأوه بالحرب قبل أن
يبدأهم ليكون ذلك كاسرا من شوكته وفاتا في عضده فتأهبوا للحرب وخرجوا في شوال سنة
خمس وسبعين وألف ولما قابلوا محلته افترقت كلمتهم ورجعوا منهزمين من غير قتال
فتبعهم المولى الرشيد إلى قنطرة نهر سبو خارج فاس ثم رجع عنهم فبعثوا إليه في
الصلح فلم يتم بينه وبينهم صلح إلى أن ملك أطراف المغرب كله وكان ذلك من حسن تدبيره
وترتيبه الأمور
ثم دخلت سنة ست وسبعين وألف ففي صفر منها زحف إلى فاس وحاصرها وقاتلها ثلاثة أيام
فأصابته رصاصة في طرف أذنه ورجع سالما ثم عاد إلى حصارها مرة أخرى في ربيع الأول
من السنة المذكورة فقتل ونهب ورجع إلى تازا لأنه لم يأت بقصد فتحها ثم توجه إلى الريف
بقصد الرئيس أبي محمد عبد الله آعراس الثائر به فكانت بينهما وقعات وحاصره في بعض
حصونه إلى أن قبض عليه في رمضان من السنة فعفا عنه واستبقاه وكر راجعا إلى فاس
فنزل عليها في أواخر ذي القعدة من السنة وقاتلها قتالا شديدا إلى ثالث ذي الحجة
فاقتحم فاسا الجديد من أعلى السور من ناحية الملاح وفر أميرها يومئذ أبو عبد الله
الدريدي وهذا الدريدي كان في جملة من إخوانه بني دريد بن أثبج الهلاليين وكانوا في
ديوان السعديين ولما بايع أهل فاس الرئيس أبا عبد الله محمد الحاج الدلائي كان
الدريدي هذا في عسكره فلما فشلت ريح أهل الدلاء بالمغرب نزع عنهم واستبد بفاس
الجديد وحالف أهل فاس القديم على حرب الدلائيين ثالث جمادى الثانية سنة أربع
وسبعين وألف وقد كان أحمد بن صالح الليريني رئيس أهل عدوة الأندلس قد خطب ابنة
الدريدي لولده صالح بن أحمد فزوجه إياها والتحم
____________________
ما بينهما فكان الدريدي يشن الغارات على قبائل البربر الذين بأحواز مكناسة وغيرها
ويأتي بالنهب والطبل يقرع عليه إلى أن يدخل دار الإمارة واستمر على ذلك إلى أن
اقتحم عليه المولى الرشيد فاسا كما قلنا ففر إلى منجاته وقال في النزهة بل قتله
المولى الرشيد وسكن هيعة فاس الجديد ومن الغد زحف إلى فاس القديمة فحاصرها وقاتلها
فضعفوا عن مقاومته وفر رئيس اللمطيين ابن الصغير وولده ليلا إلى بستيون باب الجيسة
ولما طلع الفجر فر أيضا رئيس عدوة الأندلس أحمد بن صالح فرأى أهل فاس أن أمرهم قد
ضعف وكلمتهم قد افترقت فخرجوا إلى المولى الرشيد وبايعوه واجتمعت كلمتهم عليه فبعث
في طلب ابن صالح فوجد بحوز المدينة فجيء به وسجن بباب دار ابن شقراء لفاس الجديد
ثم قتل وقتل معه عدة من أصحابه ثم قبض على ابن الصغير وولده وبعد سبعة أيام أمر
السلطان بقتلهما فقتلا واستقام أمر فاس وصلحت أحوالها قال في النزهة افتتح أمير
المؤمنين المولى الرشيد فاسا القديمة فحكم السيف في رؤسائها وأفناهم قتلا فتمهدت
البلاد واجتمعت الكلمة وكان دخوله حضرة فاس القديمة صبيحة يوم الاثنين أوائل ذي
الحجة سنة ست وسبعين وألف وبويع بها يومه ذلك ولما تمت له البيعة أفاض المال على
علمائها وغمرهم بجزيل العطاء وبسط على أهلها جناح الشفقة والرحمة وأظهر إحياء
السنة ونصر الشريعة فحل من قلوبهم بالمكان الأرفع وتمكنت محبته من قلوب الخاصة
والعامة ا هـ
وولي قضاء فاس السيد حمدون المزوار ثم خرج إلى بلاد الغرب فقصد الخضر غيلان الثائر
ببلاد الهبط وكان بقصر كتامة فزحف إليه المولى الرشيد فانهزم الخضر إلى آصيلا ورجع
المولى الرشيد عنه إلى فاس أوائل ربيع الأول سنة سبع وسبعين وألف فكتبت له البيعة
بفاس وقرئت بين يديه قبل زوال يوم السبت الثامن عشر من ربيع الأول المذكور ثم في
شهر ربيع
____________________
الثاني من السنة غزا المولى الرشيد أحواز مكناسة وقصد آيت واللال من البربر شيعة
محمد الحاج الدلائي فأوقع بهم ورجع عوده على بدئه وبعد رجوعه نزل محمد الحاج بجموع
البربر قرب وادي فاس بأبي مزورة من أحواز فاس فقاتله المولى الرشيد ثلاثا ورجع كل
إلى وطنه ثم خرج المولى الرشيد إلى تازا وأعمالها حادي عشر رجب ففقدها ورجع إلى
فاس في شوال من السنة المذكورة ثم عزل العقيد قائد مكناسة ثم خرج ثاني يوم النحر
من السنة إلى بني زروال فأوقع بالشريف النابغ فيهم وبعث به محبوسا إلى فاس فدخلها
ثاني محرم سنة ثمان وسبعين وألف ثم مال المولى الرشيد إلى تطاوين فقبض على رئيسها
أبي العباس النقسيس في جماعة من حزبه وقدم بهم إلى فاس فسحبهم بها أوائل ربيع
الأول سنة ثمان وسبعين وألف إلى أن كان من أمرهم ما نذكره فتح زاوية الدلائي
وتغريب أهلها إلى فاس وتلمسان وما يتبع ذلك
لما كانت ضحوة يوم الخميس الثاني عشر من ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وألف خرج أمير
المؤمنين المولى الرشيد رحمه الله غازيا زاوية أهل الدلاء وكان قد أسند الفتوى إلى
الفقيه أبي عبد الله محمد بن أحمد الفاسي فلقي جموع الدلائيين وعليهما ولد محمد
الحاج ببطن الرمان من فازاز فانتشبت الحرب بين الفريقين مليا ثم انهزم الدلائيون
ورجعوا يقفون أثرهم إلى الزاوية قال الشيخ اليوسي رحمه الله في محاضراته كان
الرئيس أبو عبد الله محمد الحاج الدلائي قد ملك الغرب بسنين عديدة واتسع هو
وأولاده وإخوته وبنو عمه في الدنيا فلما قام السلطان المولى الرشيد بن الشريف ولقي
جموعهم ببطن الرمان ففضها دخلنا على الرئيس أبي عبد الله المذكور وكان لم يحضر
المعركة لعجزه وكبر سنه يومئذ فدخل عليه أولاده وإخوته وأظهروا له عجزا شديدا
وضيقا عظيما فلما رأى منهم ذلك
____________________
قال لهم ما هذا إن قال لكم حسبكم فحسبكم يريد الله تعالى قال اليوسي وهذا كلام
عجيب وإليه يساق الحديث والمعنى إن قال الله تعالى لكم حسبكم من الدنيا فكفوا
راضين مسلمين اه وكان استيلاء المولى الرشيد على الزاوية في ثامن المحرم سنة تسع
وسبعين وألف ولما خرج إليه أهلها عفا عنهم ولم يرق منهم دما ولا كشف لهم سترا حلما
وكرما منه رحمه الله قال في النزهة لما وقعت الهزيمة على أهل الدلاء دخل المولى
الرشيد الزاوية وأمر بمحمد الحاج وأولاده وأقاربه أن يحملوا إلى فاس ويسكنوا بها
فحملوا إليها واستوطنوها مدة ثم أمر أن يذهب بهم إلى تلمسان فغربوا إليها وسكنوها
مدة
وحدثوا أن محمدا الحاج رحمه الله لما دخل تلمسان قال كنت وجدت في بعض كتب الحدثان
أني أدخل تلمسان فظننت أني أدخلها دخول الملوك فدخلتها كما ترون ولم يزل بها إلى
أن توفي فاتح سنة اثنتين وثمانين وألف ودفن عند ضريح الإمام السنوسي رضي الله عنه
ولما توفي المولى الرشيد رجع أولاده وأقاربه إلى فاس فاستوطنوها بإذن من السلطان
المظفر المولى إسماعيل ولما دخل المولى الرشيد الزاوية غير محاسنها وفرق جموعها
وطمس معالمها وصارت حصيدا كأن لم تغن بالأمس بعد أن كانت مشرقة إشراق الشمس فمحت
الحوادث ضياءها وقلصت ظلالها وأفياءها وطالما أشرقت بأبي بكر وبنيه وابتهجت وفاحت
من شذاهم وتأرجت ارتحل عنها فرسان الأقلام الذين ينجاب بوجوههم الظلام وبانت عنها
ربات الخدور وأقامت بها أتافي القدور ولقد كان أهلها يعفون آثار الرياح فعفت
آثارهم وذهبت الليالي بأشخاصهم وأبقت أخبارهم فثل ذلك العرش وعدا الدهر حين أمن من
الأرش ولم يدفع الرمح ولا الحسام ولم تنفع تلك المنن الجسام فسحقا لدنيا ما رعت
لهم حقوقا ولا أبقت لهم شروقا وهي الأيام لا تقي من تجنيها ولا تبقي على مواليها
ومدانيها
____________________
أذهبت آثار جلق وأخمدت نار المحلق وذللت عزة ابن شداد وهدت القصر ذي الشرفات من
سنداد وكل يلقى معجله ومؤجله ويبلغ الكتاب يوما أجله ولقد أحسن ربي نعمتهم المقر
بإحسانهم ومنتهم شيخ مشايخ المغرب على الإطلاق الإمام الذي وقع على علمه وعمله
الاتفاق أبو علي الحسن بن مسعود اليوسي رحمه الله في رائيته التي رثى بها الزاوية
المذكورة وبكى أيامها يقول في مطلعها
( أكلف جفن العين أن ينثر الدرا ** فيأبى ويعتاض العقيق بها خمرا )
وهي طويلة شهيرة قلت ولم يصرح فيها بأسمائهم مراعاة لجانب السلطان وذلك هو الواجب
والمناسب فرحم الله الشيخ اليوسي ما كان أعرفه بمقتضيات الأحوال فتح مراكش ومقتل
الأمير أبي بكر الشباني وشيعته
لما فرغ المولى الرشيد رحمه الله من أمر الزاوية توجه إلى مراكش في الثاني
والعشرين من صفر من السنة أعني سنة تسع وسبعين وألف فاستولى عليها وقتل رئيسها أبا
بكر بن عبد الكريم الشباني وجماعة من أهل بيته
وقال في النزهة لما بلغ أبا بكر الشباني وقومه مسير المولى الرشيد إليهم خرجوا
فارين بأنفسهم من مراكش إلى شواهق الجبال لما خامر قلوبهم من رعبه فدخل المولى
الرشيد مراكش وأفنى من وجد بها من الشبانات وقبض على أبي بكر وبني عمه فعرضهم على
السيف واستنزل تلك الفئة الشريدة من الصياصي وأخذ منهم بالأقدام والنواصي وأخرج
عبد الكريم من قبره فأحرقه بالنار
ولما فتح مراكش قام بها نحو شهر ثم رجع إلى فاس فدخلها يوم الجمعة السابع والعشرين
من ربيع الثاني من السنة المذكورة وفي هذه السنة خرج المولى محمد الصغير من
تافيلالت في شيعته وخلى سبيل البلد وفيها
____________________
أيضا ركب الخضر غيلان البحر إلى الجزائر وخلى سبيل آصيلا ولما رجع المولى الرشيد
إلى فاس عزل أبا عبد الله الفاسي عن الفتوى وعزل الفقيه المزوار عن قضائها منسلخ
جمادى الثانية من السنة وولى القضاء الفقيه أبا عبد الله محمد بن الحسن المجاصي
والخطابة بجامع القرويين الفقيه أبا عبد الله محمدا البوعناني وفي منتصف رجب من
السنة المذكورة غزا المولى الرشيد بلاد الشاوية ورجع إلى فاس في سابع رمضان العام
فعفا عن بعض أهل الدلاء وبقي الآخرون بضريح الشيخ أبي الحسن علي بن حرزهم إلى تمام
السنة فعفا عن الجميع وردهم إلى بلادهم إلا ما كان من محمد الحاج وبنيه فإنهم
غربوا إلى تلمسان ومات هو هنالك ولما ولي الأمر المولى إسماعيل وقعت الشفاعة في
الأولاد فرجعوا إلى فاس كما مر
وفي يوم السبت سابع عشر ذي الحجة من السنة غزا المولى الرشيد آيت عياش من برابر
صنهاجة وفيها أمر بضرب السكة الرشيدية وأقرض تجار فاس وغيرها اثنين وخمسين ألف
مثقال بقصد التجارة إلى أن ردوها بعد سنة
وفي هذه السنة أيضا حاز طاغية الإصبنيول مدينة سبته من يد البرتغال في سبيل مشارطة
وقعت بينهم في مدينة أشبونة واستمرت في يد الإصبنيول إلى الآن بناء قنطرة وادي سبو
خارج فاس
وفي يوم السبت الرابع عشر من ذي القعدة سنة تسع وسبعين وألف أمر المولى الرشيد
ببناء قنطرة نهر سبو الأقواس الأربعة خارج فاس فأخذوا في تهيئة الأسباب وحفر
الأساس وفي منتصف جمادى الثانية سنة ثمانين وألف شرعوا في البناء بالآجر والجير
فكملت على أحسن حال
ولما تكلم الشيخ اليوسي في المحاضرات على الحديث الصحيح إن
____________________
أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى بملك الأملاك قال ما نصه ومن البشيع الواقع في
زماننا في الأوصاف أنه لما بنى السلطان المولى الرشيد بن الشريف جسر نهر سبو صنع
بعضهم يعني القاضي أبا عبد الله المجاصي أبياتا كتبت فيه برسم الأعلام أولها
( صاغ الخليفة ذا المجاز ** ملك الحقيقة لا المجاز )
قال فحمله اقتناص هذه السجعة والتغالي في المدح والاهتبال بالاسترضاء على أن جعل
ممدوحه ملكا حقيقيا لا مجازيا وإنما ذلك هو الله وحده وكل ملك دونه مجاز الممدوح
وغيره اه
وفي هذه السنة وذلك يوم الاثنين الثاني والعشرين من رجب خرج المولى الرشيد غازيا
الأبيض فقبض على أولاد أخي الأبيض ولما وصل إلى تازا أمر بقتلهم فقتلوا ثم مرض
مرضا شديدا أشرف منه على الموت فأمر بتسريح المساجين وإخراج الصدقات فعافاه الله
وفي منتصف ذي القعدة من السنة أمر بإعمال وليمة العرس لأخيه المولى إسماعيل بدار
ابن شقراء من حضرة فاس الجديد قال اليفرني احتفل المولى الرشيد في ذلك العرس بما
لم يعهد مثله اه وكانت العروس من بنات الملوك السعديين وفي شوال من السنة جدد
قنطرة الرصيف بفاس والله أعلم فتح تارودانت وإيليغ وسائر السوس
قد قدمنا أن أبا حسون السملالي كان مستوليا على بلاد السوس فاستمر حاله على ذلك
إلى أن توفي سنة سبعين وألف وكان رحمه الله لين الجانب محمود السيرة موصوفا بالعفة
متوقفا في الدماء ولما هلك خلفه ولده أبو عبد الله محمد بن أبي حسون فلما كانت سنة
إحدى وثمانين وألف غزا المولى الرشيد رحمه الله بلاد السوس فاستولى على
____________________
تارودانت رابع صفر من السنة وأوقع بهستوكة فقتل منهم أكثر من ألف وخمسمائة وأوقع
بأهل الساحل فقتل منهم أكثر من أربعة آلاف وأوقع بأهل قلعة إيليغ دار ملك أبي حسون
فاستولى عليها في مهل ربيع الأول من السنة وقتل منهم بسفح الجبل أكثر من ألفين
وصفا أمر السوس للمولى الرشيد
وفي هذه السنة أيضا في سابع ربيع الأول منها قتل المولى إسماعيل وكان نائبا عن
أخيه بفاس ستين رجلا من أولاد جامع وكانوا يقطعون الطريق فقتلهم وصلبهم على سور
البرج الجديد وفيها في جمادى الأخيرة منها أمر المولى الرشيد بضرب فلوس النحاس
المستديرة وكانت قبل مربعة وهي الأشقوبية وجعل أربعة وعشرين في الموزونة وكانت قبل
ثمانية وأربعين ورجع إلى فاس في ثالث رجب من السنة وفي أول شعبان منها شرع في بناء
مدرسة الشراطين بدار الباشا عزوز من فاس وكان قد أمر ببناء مدرسة عظيمة بإزاء مسجد
أبي عبد الله محمد بن صالح من حضرة مراكش والله لا يضيع أجر من أحسن عملا تأليف
جيش شراقة وأوليتهم وشرح لقبهم
قد قدمنا في أخبار السعديين أن لفظ شراقة في الأصل لقب لعرب بادية تلمسان ومن
انضاف إليهم وسموا بذلك لأنهم في جهة الشرق عن المغرب الأقصى فأهل تلمسان مثلا
يسمون أهل المغرب الأقصى مغاربة وأهل المغرب الأقصى يسمون أهل تلمسان مشارقة إلا
أن العامة يلحنون في هذه النسبة فيقولون شراقة بتخفيف الراء وإيقاف المعقودة وقد
كان للسعديين جند من هؤلاء العرب كما مر
ولما جاء الله بدولة أمير المؤمنين المولى الرشيد رحمه الله واجتمع عليه من عرب
آنكاد وغيرهم ما قدمنا ذكره نزع إليه من أهل تلك البلاد عدة قبائل
____________________
بعضها من العرب وبعضها من البربر أنفا من ولاية الترك فقبلهم فمن العرب أشجع وبنو
عامر ومن البربر مديونة وهوارة وبنو سنوس فأمر رحمه الله ببناء القصبة الجديدة
بفاس بديار لمتون وعرصة ابن صالح وبذل لأصحابه وقواده ألف مثقال لبناء سورها
وأمرهم ببناء الدور فيها وأعطى شراقة هؤلاء ألف دينار لبناء قصبة الخميس بعد أن
كان أنزلهم أولا بأحواز فاس فحصل منهم الضرر لأهل المدينة وشكوهم فأمرهم بالانتقال
بحلتهم إلى بلاد صدينة وفشتالة بين النهرين سبو وورغه وأقطعهم تلك الأرض وعزل
عزابهم وأمرهم ببناء بيوتهم على حدة ثم أعطاهم ألف دينار لبناء سور القصبة كما
قلنا وجعلهم قبيلة واحدة فلم تتميز الآن عربهم من بربرهم ثم خرج المولى الرشيد رابع
رمضان من السنة لزيارة الشيخ أبي يعزى رضي الله عنه ومنه ذهب إلى سلا فزار صلحاءها
وعاد إلى فاس فدخلها منسلخ رمضان المذكور
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وألف في صفر منها بعث خيلا للجهاد على طنجة وفي منتصف
جمادى الأولى بعث خيلا أخرى إلى السوس وعليهم أبو محمد عبد الله آعراس ثم خرج إلى
الصيد بتافرطاست فبلغه هنالك خبر ثورة ابن أخيه المولى محمد بن محمد بمراكش فرجع
إلى فاس فدخلها يوم السبت حادي عشر رمضان ثم خرج منها عصر يومه ذلك فلقيه ابن أخيه
بفزارة مقبوضا عليه بيد أصحابه فبعث به إلى تافيلالت وسار هو إلى مراكش وبعث قائده
زيدان العامري إلى فاس في ذي القعدة ليأتيه بالجيش لغزو السوس فأتاه أهل السوس
طائعين ولم يبق للحركة محل بعد أن كانت الأخبية قد أخرجت إلى وادي فاس وضربت به
فاستقرت قواعد الملك للمولى الرشيد وتمهدت أمور الدولة والله غالب على أمره
____________________
وفاة أمير المؤمنين المولى
الرشيد رحمه الله
كان أمير المؤمنين المولى الرشيد رحمه الله في هذه المدة مقيما بمراكش كما قلنا
إلى أن كان عيد الأضحى من سنة اثنتين وثمانين وألف فلما كان ثاني يوم النحر وهو
يوم الخميس ركب فرسا له وأجراه فجمح به في بستان المسرة ولم يملك عنانه فأصابه فرع
شجرة نارنج فهشم رأسه وقيل دخل في أذنه وكانت فيه منيته رحمه الله ودفن بمراكش
بالقصبة منها ثم نقل إلى ضريح الشيخ أبي الحسن علي بن حرزهم بفاس لوصية منه بذلك
ومات رحمه الله وسنه اثنتان وأربعون سنة لأنه ولد سنة أربعين وألف ورثاه بعضهم
بقوله
( وما شج ذات الغصن رأس إمامنا ** لسوء له خدن المحبة جاحد )
( ولكنه قد غار من لين قده ** وإن من الأشجار ما هو حاسد )
قلت لا يخفى أن مثل هذا الشعر لا يحسن أن تمدح به الملوك فإنه بالغزل أشبه منه
بالرثاء وكان قد وقع بين المولى الرشيد رحمه الله وبين شيخ الوقت الإمام أبي عبد
الله محمد بن ناصر الدرعي رضي الله عنه مكاتبات توعده أمير المؤمنين في بعضها فمات
عقب ذلك وكفى الشيخ المذكور أمره
ومن مآثره رحمه الله أنه لما مر في بعض حركاته بالموضع المعروف بالشط من بلاد
الظهراء أمر بحفر آبار شتى فهي الآن تدعى بآبار السلطان إضافة له يستقي منها ركب
الحجيج في ذهابه وإيابه فهي إن شاء الله في ميزان حسناته وكان رحمه الله محبا في
جانب العلماء مؤثرا لأغراضهم مولعا بمجالستهم محسنا إليهم حيث ما كانوا
ومن نوادره معهم ما حكي أن العلامة أبا عبد الله محمد المرابط بن محمد بن أبي بكر
الدلائي حضر يوما بمجلس السلطان المذكور وذلك بعد
____________________
الإيقاع بزاويتهم وتغريبهم إلى فاس فأنشد السلطان معرضا بالفقيه المذكور قول أبي
الطيب المتنبي
( ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ** عدوا له ما من صداقته بد )
ففهم أبو عبد الله المرابط إشارته فقال أيد الله أمير المؤمنين إن من سعادة المرء
أن يكون خصمه عاقلا فاستحسن الحاضرون حسن بديهته ولطف منزعه
ومن تواضع المولى الرشيد رحمه الله مع أهل العلم ما حكاه صاحب الجيش من أنه بعث
إلى بعض علماء عصره ليقرأ معه بعض الكتب فامتنع ذلك العالم وقال كما قال الإمام
مالك رضي الله عنه العلم يؤتى ولا يأتي قال فكان المولى الرشيد رحمه الله يتردد
لمنزل ذلك العالم للقراءة عليه وقد ذكر صاحب نشر المثاني أنه كان يحضر مجلس الشيخ
اليوسي بالقرويين ا هـ وهذه لعمري منقبة فخيمة ومأثره جسيمة فرحم الله تلك الهمم
التي كانت تعرف للعلم حقه وتقدر قدره قالوا وكان رحمه الله جوادا سخيا رحل الناس
إليه من المشرق فما دونه وقصده بعض طلبة ثغر الجزائر فامتدحه ببيتين وهما
( فاض بحر الفرات في كل قطر ** من ندى راحتيك عذبا فراتا )
( غرق الناس فيه والتمس الفقر ** خلاصا فلم يجده فماتا )
فوصله بألفين وخمسين دينارا
قال اليفرني وشأوه رحمه الله في السخاء لا يلحق والحكايات عنه بذلك شهيرة وفي
أيامه كثر العلم واعتز أهله وظهرت عليهم أبهته وكانت أيامه أيام سكون ودعة ورخاء
عظيم حتى قيل إنه في اليوم الذي بويع فيه بفاس كان القمح في أول النهار بخمس أواق
للمد وصار في آخره بنصف أوقية فتيمن الناس بولايته وأغتبطوا بها والله تعالى أعلم
____________________
الخبر عن دولة أمير المؤمنين
المظفر بالله أبي النصر المولى إسماعيل بن الشريف رحمه الله
لما توفي المولى الرشيد رحمه الله في التاريخ المقدم وكان أخوه المولى إسماعيل بمكناسة
الزيتون خليفة على بلاد الغرب فبلغه خبر موته فاجتمع الناس عليه وبايعوه واتفقت
كلمتهم عليه ثم قدم عليه أعيان فاس وأعلامها وأشرافها ببيعتهم وقدم عليه أهل بلاد
الغرب من الحواضر والبوادي كذلك بهداياهم وبيعاتهم إلا مراكش وأعمالها فإنه لم يأت
منها أحد فجلس رحمه الله للوفود إلى أن فرغ من شأنهم ورتب أموره بمكناسة وعزم على
السكنى بها إذ كان لا يبغي بها بدلا حيث أعجبه ماؤها وهواؤها هكذا في البستان
وقال أبو عبد الله اليفرني في النزهة ونحوه في نشر المثاني لما توفي المولى الرشيد
رحمه الله اتصل خبر وفاته بالمولى إسماعيل وهو يومئذ خليفته بفاس الجديد ليلة
الأربعاء السادس عشر من ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين وألف فبويع رحمه الله وحضر
بيعته أعيان المغرب وصلحاؤه بحيث لم ينازع في أنه أحق بها وأهلها أحد ممن يشار
إليه زاد في الظل الظليل ووافق على بيعته أهل الحل والعقد من العلماء والأشراف
كالشيخ أبي محمد عبد القادر بن علي الفاسي والشيخ أبي علي اليوسي وأبي عبد الله
محمد بن علي الفيلالي وأبي العباس أحمد بن سعيد المكيلدي وأبي عبد الله محمد بن
عبد القادر الفاسي وأخيه أبي زيد صاحب نظم العمل والقاضي أبي مدين وغيرهم من بقية
الأعيان وكانت بيعته في السنة الثانية من يوم الأربعاء السادس عشر من ذي الحجة
المذكور آنفا ووافق ذلك اليوم الثالث من شهر إبريل العجمي
وكان سنه يوم بويع ستا وعشرين سنة لأن ولادته كانت عام وقعة
____________________
القاعة وهي مؤرخة بخط من يوثق به سنة ست وخمسين وألف ولما تمت بيعته نهض بأعباء
الخلافة وضبط الأمور وأحسن السيرة ثورة المولى أبي العباس أحمد بن محرز بن الشريف
وما كان من أمره
لما توفي المولى الرشيد رحمه الله واتصل خبر وفاته بأهل سجلماسة وغيرها أقبل ابن
أخيه المولى أبو العباس أحمد بمن محرز مبادرا إلى مراكش طالبا للأمر وداعيا إلى
نفسه والتفت عليه طوائف من عرب السوس وغيرهم وغلب على تلك النواحي ونشبت أهل مراكش
بلامع برقه وبذلك تقاعدوا عن الوفادة على أمير المؤمنين المولى إسماعيل رحمه الله
ولما صح عنده خبر ابن محرز وذلك في آخر ذي الحجة من السنة نهض إلى مراكش فوصل إليها
وبرز إليه أهلها فيمن انضم إليهم من قبائل أحوازها وقاتلوه فانتصر عليهم وهزمهم
ودخل مراكش عنوة يوم الجمعة سابع صفر سنة ثلاث وثمانين وألف فعفا عن أهلها وأجفل
ابن محرز وشيعته الى حيث نجوا
ولما احتل المولى إسماعيل بمراكش أمر بنقل شلو أخيه المولى الرشيد في تابوته إلى
فاس ليدفن بضريح الشيخ ابن حرزهم كما مر ثم قفل السلطان إلى مكناسة منسلخ ربيع
الأول سنة ثلاث وثمانين وألف
____________________
انتقاض أهل فاس وقتلهم القائد
زيدان وإعلانهم بدعوة ابن محرز وما نشأ عن ذلك من محاصرة السلطان لهم
لما قفل أمير المؤمنين المولى إسماعيل إلى مكناسة أخذ في ترتيب أمور دولته وفرق
الراتب على الجند وكان عازما على غزو بلاد الصحراء فلم يرعه إلا الخبر بأن أهل فاس
قد انتقضوا وقتلوا قائد الجيش زيدان بن عبيد العامري وكان مقتله ليلة الجمعة ثاني
جمادى الأولى من السنة فزحف السلطان إليهم وحاصرهم واستمر القتال بينه وبينهم
أياما ثم بعثوا إلى المولى أحمد بن محرز ليأتيهم فيجتمعوا عليه فقدم دبدو وأنزل
على ملوية وبعث إليهم رسوله يعلمهم بمجيئه فأعلنوا بنصره وذلك يوم الخميس العشرين
من جمادى الثانية من السنة وفي منسلخ الشهر المذكور بعثوا عشرة من الخيل للقائه
بتازا ثم أصبح عليهم رسول الخضر غيلان يعلمهم بأنه قد قدم من ثغر الجزائر في البحر
وأنه نزل بتطاوين مع رؤسائها أولاد النقسيس فتشعبت الآراء وتعددت أسباب الهراش
وتكاثرت الظباء على خداش وهاجت فتنة بفاس قتل فيها نفر من أولاد الثائر المتقدم
أبي الربيع سليمان الزرهوني على يد مولاي أحمد بن إدريس من شرفاء دار القيطون ثم
قتل بعض شيعة الزرهوني مولاي حفيد بن إدريس أخا الشريف المذكور وكان ما كان مما
لست أذكره
ولما اتصل خبر ابن محرز بالمولى إسماعيل نهض إليه في جنوده قاصدا تازا فحاصرهم بها
أشهرا ففر عنها ابن محرز ودخل الصحراء ولما علم السلطان بفراره عدل إلى ناحية
الهبط بقصد الخضر غيلان فحاربه إلى أن ظفر به وقتله يوم الأحد العشرين من جمادى
الأولى سنة أربع وثمانين وألف وعاد إلى فاس الجديد أواسط جمادى الثانية من السنة
وحاصر أهل فاس وطاولهم ولم يحدث معهم حربا إلى أن أذعنوا إلى الطاعة وراجعوا
بصائرهم ففتحوا البلد وخرجوا إلى السلطان تائبين فعفا عنهم وذلك في سابع عشر
____________________
رجب سنة أربع وثمانين وألف
فكانت مدة انتقاضهم أربعة عشر شهرا وثمانية عشر يوما ذاقوا فيها وبال أمرهم ثم ولى
عليهم القائد أبا العباس أحمد التلمساني وعلى فاس الجديد الوزير أبا زيد عبد
الرحمن المنزاري وسار إلى مكناسة ثم عاد بالقرب إلا أن هذين الواليين قد جارا في
الحكومة وعاثا في البلدين بضرب الأبشار ونهب الأموال وغير ذلك والله لايظلم مثقال
ذرة وعزل أيضا عن خطابة القرويين الفقيه أبا عبد الله البوعناني وولاها القاضي أبا
عبد الله المجاصي وذلك في أخر رجب من السنة والله أعلم تجديد أمير المؤمنين المولى
إسماعيل بناء مكناسة الزيتون واتخاذه إياها دار ملكه
كانت مدينة مكناسة الزيتون من الأمصار القديمة بأرض المغرب بناها البربر قبل
الإسلام ولما جاءت دولة الموحدين حاصروا مكناسة سبع سنين ثم افتتحوها عنوة أواسط
المائه السادسة وخربوها ثم بنوا مكناسة الجديدة المسماة بتاكرارت ومعناها المحلة
واعتنى بها بنو مرين من بعدهم فبنوا قصبتها وشيدوا بها المساجد والمدارس والزوايا
والربط وكانت يومئذ هي كرسي الوزارة كما أن حضرة فاس الجديد هي كرسي الإمارة
واختصت مكناسة بطيب التربة وعذوبة الماء وصحة الهواء وسلامة المختزن من التعفين
وغير ذلك وقد وصفها ابن الخطيب في مواضع من كتبه مثل النفاضة والمقامات وغيرهما
واثنى عليها نظما ونثرا وأنشد قول ابن عبدون من أهلها فيها
( إن تفتخر فاس بما في طيها ** وبأنها في زيها حسناء )
( يكفيك من مكناسة أرجاؤها ** والأطيبان هواؤها والماء )
فلما كانت بهذه المثابة كان أمير المؤمنين المولى إسماعيل رحمه الله لا
____________________
يبغي بها بدلا فلما فرغ من أمر فاس رجع إليها وشرع في بناء قصور بها بعد أن هدم ما
يلي القصبة من الدور وأمر أربابها بحمل أنقاضها وبنى لهم سورا على الجانب الغربي
وأمر ببناء دورهم به وهدم الجانب الشرقي كله من المدينة وزاده في القصبة القديمة
ولم يبق أمامه إلا الفضاء فجعل ذلك كله قصبة وبنى سور المدينة وأفردها عن القصبة
وأطلق أيدي الصناع في البناء ومداومة العمل وجلبهم من جميع حواضر المغرب ولما لم
يقنعه ذلك فرض العملة على القبائل مناوبة فصارت كل قبيلة من قبائل المغرب تبعث
عددا معلوما من الرجال والبهائم في كل شهر وفرض الصناع وأهل الحرف على الحواضر
فصار أهل كل مصر يبعثون من البنائين والنجارين وغيرهم عددا معلوما كذلك وأسس
المسجد الأعظم بداخل القصبة مجاورا لقصر النصر الذي كان أسسه في دولة أخيه المولى
الرشيد رحمه الله ثم أسس الدار الكبرى التي بجوار الشيخ المجذوب واستمر البناء
والغرس بمكناسة سنين كما سيأتي التنبيه على ذلك في مجلسه إن شاء الله مجيء المولى
أحمد بن محرز إلى مراكش واستيلاؤه عليها ونهوض السلطان إلى محاصرته بها
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وألف فيها ورد الخبر على السلطان المولى إسماعيل وهو
بمكناسة بدخول ابن أخيه المولى أحمد بن محرز مراكش واستيلائه عليها وكان السلطان
يومئذ متوجها إلى آنكاد لما بلغه من عيث العرب الذين به وقطعهم الطريق فلم يثنه
ذلك عنهم بل سار إليهم وأوقع بسقونة منهم وقتل خلقا كثيرا ونهب ورجع مؤيدا منصورا
ثم استعد لحرب ابن محرز وخرج في العساكر على طريق تادلا فكان اللقاء بينهما على
أبي عقبة من وادي العبيد فاقتتلوا وانهزم ابن محرز وقتل كبير جيشه
____________________
حيدة الطويري ورجع أدراجه إلى مراكش فتبعه السلطان المولى إسماعيل وألقى بكلكله
على مراكش أوائل سنة ست وثمانين وألف ونما إليه أن بعض أهل محلته قد أضمروا الغدر
منهم الشيخ عمر البطوئي وولده وعبد الله آعراس وإخوته هؤلاء كانوا أمراء عسكره
فحنقهم وأتلف نفوسهم وبعث إلى من بقي منهم بفاس فقبض عليهم وقتلوا وحيزت دورهم
وأموالهم
واستمر السلطان محاصرا لمراكش إلى ربيع الثاني من سنة سبع وثمانين وألف فشدد في
الحصار وازدلف إليها في جنوده فوقع قتال عظيم مات فيه من الفريقين ما لا يحصى
وانحجر ابن محرز داخل البلد وبقي يقاتل من أعلى الأسوار ثم تمادى الحصار إلى ثاني
ربيع الثاني من سنة ثمان وثمانين وألف فاشتد الأمر على ابن محرز وضاق ذرعا فخرج
فارا عن مراكش ناجيا فيما أبقته الحرب من جموعه ودخل السلطان المولى إسماعيل
المدينة عنوة فاستباحها وقتل سبعة من رؤسائها وكحل ثلاثين منهم وهدأت الفتنة وذهبت
أيام المحنة والله غالب على أمره تأليف جيش الودايا وبيان فرقهم وأوليتهم
هذا الجيش من أمثل جيوش هذه الدولة الشريفة أبقى الله فضلها وبسط على البلاد
والعباد يمنها وعدلها وهو ينقسم إلى ثلاثة أرحاء رحى أهل السنوس ورحى المغافرة
ورحى الودايا ويطلق على الجميع ودايا تغليبا فأما أهل السوس فمنهم أولاد جرار
وأولاد مطاع وزرارة والشبانات وكلهم من عرب معقل وكانوا في القديم جندا للدولة
السعدية وكان ملوكها يستنفرونهم للغزو بحللهم لاعتيادهم ذلك أيام كونهم بالصحراء
ثم أنزلوهم ببسيط ازغار مراغمة لعرب جشم من الخلط وسفيان وغيرهم إذ كانت
____________________
الخلط شيعة بني مرين وأصهارهم كما مر فلما جاءت الدولة السعدية بقوا منحرفين عنها
وكلما طرقها خلل ثاروا عليها وخرجوا عن طاعتها فقيض لهم السلطان محمد الشيخ السعدي
هؤلاء القبائل من معقل وزاحمهم بهم في بلادهم وشغلهم بهم فكانت تكون بينهم الحروب
فتارة تنتصف معقل من جشم وتارة العكس حتى أوقع المنصور السعدي بالخلط وقيعته
الشهيرة وأسقطهم من الجندية فنقل أولاد مطاع إلى زبيدة قرب تادلا
ولما أشرفت الدولة السعدية على الهرم استطالت الشبانات عليها بما كان لهم من
الخؤلة على أولاد السلطان زيدان فاستبدت فرقة منهم بمراكش كما مر وثارت أخرى بفاس
الجديد مع أبي عبد الله الدريدي المتغلب بها حسبما سلف إلى أن نقل أمير المؤمنين
المولى إسماعيل رحمه الله جميعهم إلى وجدة كما سيأتي ثم خلطهم بعد بإخوانهم من
المغافرة والودايا وصير الجميع جيشا واحدا فهذه أولية أهل السوس
وأما المغافرة فسيأتي بيان كيفية اتصالهم بالمولى إسماعيل ومصاهرتهم له
وأما الودايا فكان السبب في جمعهم واستعمالهم في الجندية أنه لما فتح المولى
إسماعيل رحمه الله مدينة مراكش الفتح الثاني وأجفل ابن محرز عنها أقام بها أياما
ثم خرج إلى الصيد بالبسيط المعروف بالبحيرة من أحواز مراكش فرأى أعرابيا يرعى غنما
له وبيده شفرة يقطع بها السدر ويضعه لغنمه لتأكل ورقة فقال للوزعة علي بأبي الشفرة
فأسرعوا إليه وجاؤوا به إلى أن أوقفوه بين يديه فسأله فانتسب له إلى ودي كغني
قبيلة من عرب معقل بالصحراء وأخبره بأنهم دخلوا من بلاد القبلة بسبب جدب أصابهم
قال دخلنا السوس بنجع كبير فافترقنا وذهبت كل طائفة منا إلى قبيلة فنزلت عليها
ونحن نزول مع الشبانات فقال له المولى إسماعيل رحمه الله أنتم أخوالي وسمعتم بخبري
ولم تأتوني والآن أنت صاحبي وإذا رجعت بغنمك
____________________
إلى خيمتك فاقدم علي إلى مراكش وأوصى به من يوصله إليه ثم بعد أيام قدم أبو الشفرة
على السلطان فكساه وحمله وبعث معه خيلا يجمع بها إخوانه من قبائل الحوز فجمع من
وجد منهم وجاء بهم إلى السلطان فأثبتهم في الديوان وكساهم وحملهم ثم نقلهم بحلتهم
إلى مكناسة الزيتون دار الملك ومقر الخلافة
ثم دخل نجع آخر بعدهم فأثبتهم في الديوان أيضا وبالغ في إكرامهم والإحسان إليهم
وعين لسكناهم من مكناسة المحل المعروف بالرياض بجوار قصبتها وأمرهم ببناء الدور
وأعطى أعيانهم ورؤساءهم النوائب وهي الزوايا التي لا تغرم مع القبائل ثم قدم نجع
ثالث جاؤوا من جهة القبلة فأثبتهم كإخوانهم الذين قدموا قبلهم وسلك بهم مسلكهم
ولما نقل رحمه الله زرارة والشبانات الذين كانوا بفاس الجديد مع الدريدي بعث بهم
إليها أيضا ليجتمعوا مع إخوانهم ثم قسم الودايا الذين بالرياض قسمين فبعث نصفهم
إلى فاس الجديد وعمره بهم وولى عليهم القائد أبا عبد الله محمد بن عطية منهم وأبقى
النصف الآخر بالرياض من مكناسة وولى عليهم القائد أبا الحسن عليا المدعو بأبي
الشفرة فكانا يتداولان القسمين مرة هذا ومرة هذا ثم استقر الأمر على أن صار أبو
الشفرة بفاس وابن عطية بالرياض
وأما خبر الخلط فإنه لما أوقع بهم المنصور السعدي تفرقوا في القبائل شذر مذر
وصاروا عيالا على غيرهم ولما أشرفت الدولة السعدية على الهرم اجتمعوا ورجعوا إلى
أزغاز فغلبوا عليه وعفوا وكثروا وتمولوا وأكثروا من الخيل والسلاح إلى أن جاء الله
بالمولى إسماعيل رحمه الله فانتزع منهم خيلهم وسلاحهم كغيرهم من قبائل المغرب وضرب
عليهم المغارم واستمروا على ذلك إلى أيام السلطان المرحوم المولى محمد بن عبد الله
فظهروا في دولته وكانوا يعكسون معه في حروب ويغرمون ما وجب عليهم
____________________
من الزكوات والأعشار وكذلك مع ابنه المولى سليمان وابن ابنه المولى عبد الرحمن بن
هشام رحم الله الجميع بمنه وهم اليوم في عداد القبائل الغارمة وكذا قبائل الحوز
الذين هم من عرب معقل كلهم غارمة والله تعالى المتولي لأمور العباد لا معقب لحكمه
ولا راد لقضائه انتقاض البربر شيعة الدلائيين والتفافهم على أحمد بن عبد الله منهم
وإيقاع السلطان بهم
لما كان أمير المؤمنين المولى إسماعيل رحمه الله مقيما بمراكش بعد فرار المولى
أحمد بن محرز عنها بلغه اجتماع البربر الصنهاجيين على أحمد بن عبد الله الدلائي
وعيثهم فيمن جاورهم من قبائل العرب من تادلا إلى سايس فبعث رحمه الله عسكرا إلى
تادلا إعانة لأهلها على البربر فهزمتهم البربر وقتلوا يخلف وانتهبوا واستولوا على
تادلا ثم بعث إليهم عسكرا آخر فيه ثلاثة آلاف من الخيل وعقد عليه ليخلف فهزمهم
البربر وقتلوا يخلف وانتهبوا معسكره ثم أعقبهما بعسكر ثالث فوقع به ما وقع
بالأولين هذا كله والسلطان مقيم بمراكش يرصد ابن محرز الذي بالسوس ثم بلغه قيام
أخيه المولى حمادة بالصحراء وحربه لأخيه المولى محرز الثائر بها أيضا وهو والد
المولى أحمد صاحب السوس فقدم السلطان رحمه الله الأهم ورجع إلى حرب البربر بتادلا خوفا
من اتساع خرقهم على الدولة وهناك لقيه أخوه المولى الحران جاء مستصرخا له على أخيه
المولى حمادة ثم تقدم السلطان رحمه الله إلى البربر فأوقع بهم وقعة شنعاء
واستلحمهم وقطع منهم سبعمائة رأس بعث بها إلى فاس مع عبد الله بن حمدون الروسي وفي
نشر المثاني أنه قتل من البربر يومئذ ثلاثة آلاف فزينت المدينة وأخرجت المدافع
وكان يوما مشهودا ولما انقضت الوقعة فر المولى الحران من
____________________
المحلة إلى الصحراء ورجع السلطان إلى مكناسة فدخلها في أواسط شوال سنة ثمان
وثمانين وألف
وفي هذه الأيام ولي قضاء فاس الفقيه الورع أبا عبد الله محمد العربي بردلة بعد عزل
القاضي أبي عبد الله المجاصي وولي مظالمها وجبايتها عبد الله الروسي وولي مواريثها
أباه حمدون وأمر بقتل أهل تطاوين الذين كانوا بسجن فاس وهم عشرون فضربت أعناقهم
ورفعت على الأسوار ثم جيء بالمولى الحران من الصحراء مقيدا مغلولا فلما قابله من
عليه وأطلقه وأعطاه خيلا وأقطعه مداشر بالصحراء يتعيش بها وسرحه إلى حال سبيله عود
الكلام إلى بناء حضرة مكناسة الزيتون
واستمر السلطان المولى إسماعيل رحمه الله بمكناسة قائما على بناء حضرتها بنفسه
وكلما أكمل قصرا أسس غيره ولما ضاق مسجد القصبة بالناس أسس الجامع الأخضر أعظم منه
وجعل له بابين بابا إلى القصبة وبابا إلى المدينة وجعل رحمه الله لهذه القصبة
عشرين بابا عادية في غاية السعة والارتفاع مقبوة من أعلاها وفوق كل باب منها برج
عظيم عليه من المدافع النحاسية العظيمة الأجرام والمهاريس الحربية الهائلة الأشكال
ما يقضي منه العجب وجعل في هذه القصبة بركة عظيمة تسير فيها الفلك والزوارق
المتخذة للنزهة والأنبساط وجعل بها هريا عظيما لاختزان الطعام من قمح وغيره مقبو
القنانيط يسع زرع أهل المغرب وجعل بجواره سواقي للماء في غاية المعمق مقبوا عليها
وجعل في أعلاها برجا عظيما مستدير الشكل لوضع المدافع الموجهة إلى كل جهة وجعل بها
إصطبلا عظيما لربط خيله وبغاله مسيرة فرسخ في مثله مسقف الجوانب بالبرشلة على
أساطين وأقواس عظيمة في كل قوس مربط فرس وبين الفرس والفرس عشرون شبرا يقال إنه
كان مربوطا بهذا الإصطبل اثني عشر ألف فرس مع كل فرس سائس من
____________________
المسلمين وخادم من أسرى
النصارى يتولى خدمته وفي هذا الإصطبل سانية من الماء دائرة عليه مقبوة الظهر وأمام
كل فرس منها ثقب كالمعدة لشربه وفي وسط هذا الإصطبل قباب معدة لوضع سروج الخيل على
أشكال مختلفة وفيه أيضا هري عظيم مربع الشكل مقبو الأعلى على أساطين عظيمة وأقواس
هائلة لوضع سلاح الفرسان أصحاب الخيل وينفذ إليه الضوء من شبابيك في جوانبه
الأربعة كل شباك ينيف وزنه على قنطار من حديد وفوق هذا الهري من أعلاه قصر يقال له
المنصور ولا يقصر ارتفاعه من مائة ذراع خمسون في الأسفل وخمسون في الأعلى وفيه
عشرون قبة في كل قبة طاق عليه شباك من حديد يشرف منه أهل القبة على بسيط مكناسة من
الجبل إلى الجبل وكل قبة مسقفة بالبرشلة والقرمود وغير ذلك ثم أربع قباب منها
متقابلة سعة كل واحدة منها سبعون شبرا في مثلها وباقي العشرين أربعون ويجاور هذا
الإصطبل بستان على قدر طوله فيه من شجر الزيتون وأنواع الفواكه كل غريب طوله فرسخ
وعرضه ميلان ويتخلل هذه القصور التي في داخل القلعة بشوارع مستطيلة متسعة وأبواب
عظيمة فاصلة بين كل ناحية وبين الأخرى ورحاب عظيمة مربعة معدة لعمارة المشور في كل
جانب إلى غير ذلك مما لا يحيط به الوصف
قال صاحب البستان وقد شاهدنا آثار الأقدمين بالمشرق والمغرب وبلاد الترك والروم
فما رأينا مثل ذلك في دولهم ولا شاهدناه في آثارهم بل لو اجتمعت آثار دول ملوك
الإسلام لرجح بها ما بناه السلطان الأعظم المولى إسماعيل رحمه الله في قلعة مكناسة
دار ملكه ولم تزل تلك البناءات على طول الدهر قائمة كالجبال لم تخلفها عواصف
الرياح ولا كثرة الأمطار والثلوج ولا آفات الزلازل التي تخرب المباني العظام
والهياكل الجسام قال ومن يوم مات المولى إسماعيل والملوك من بنيه وحفدته يخربون
تلك القصور على قدر وسعهم وبحسب طاقتهم ويبنون بأنقاضها من خشب وزليج
____________________
ورخام ولبن وقرمود ومعدن وغير ذلك إلى وقتنا هذا وبنيت من أنقاضها مساجد ومدارس
ورباطات بكل بلد من بلدان المغرب وما أتوا على نصفها هذه مدة من مائة سنة وأما
الجدرات فلا زالت ماثلة كالجبال الشوامخ وكل من شاهد تلك الآثار من سفراء الترك
والروم يعجب من عظمته ويقول ليس هذا من عمل بني آدم ولا يقوم به مال ا هـ تأليف
جيش عبيد البخاري وذكر أوليتهم وشرح تسميتهم
هذا الجيش من أعظم جيوش هذه الدولة السعيدة كما تقف عليه وكان السبب في جمعه ما
وجد مفصلا في كناش كاتب الدولة الإسماعيلية ووزيرها الأعظم الفقيه الأديب أبي
العباس أحمد اليحمدي رحمه الله قال لما استولى السلطان المولى إسماعيل بن الشريف
على مراكش ودخلها أول مرة كان يكتب عسكره من القبائل الأحرار حسبما مر حتى أتاه
الكاتب أبو حفص عمر بن قاسم المراكشي المدعو عليليش وبيتهم بيت رياسة من قديم وكان
والده كاتبا مع المنصور السعدي ومع أولاده من بعده فتعلق أبو حفص هذا بخدمة
السلطان المولى إسماعيل وأطلعه على دفتر فيه أسماء العبيد الذين كانوا في عسكر
المنصور فسأله السلطان رحمه الله هل بقي منهم أحد قال نعم كثير منهم ومن أولادهم وهم
متفرقون بمراكش وأحوازها وبقبائل الدير ولو أمرني مولانا بجمعهم لجمعتهم فولاه
أمرهم وكتب له إلى قواد القبائل يأمرهم بشد عضده وإعانته على ما هو بصدده فأخذ
عليليش يبحث عنهم بمراكش وينقر عن أنسابهم إلى أن جمع من بها منهم ثم خرج إلى
الدير فجمع من وجد به ثم سار إلى قبائل الحوز فاستقصى من فيها حتى لم يترك بتلك
القبائل كلها أسود سواء كان مملوكا أو حرطانيا أو حرا أسود واتسع الخرق وعسر الرتق
فجمع في سنة واحدة ثلاثة آلاف
____________________
رأس منهم المتزوج والعزب ثم كتبهم في دفتر وبعث به إلى السلطان بمكناسة فتصفحه السلطان
وأعجبه ذلك فكتب إليه يأمره بشراء الإماء للأعزاب منهم ويدفع أثمان المماليك منهم
إلى ملاكهم ويكسوهم من أعشار مراكش ويأتيه بهم إلى مكناسة فاجتهد عليليش في ذلك
واشترى من الإماء ماقدر عليه وجمع من الحرطانيات عددا إلى أن استوفى الغرض وكساهم
وألزم القبائل بحملهم إلى الحضرة فحملوا من قبيلة إلى أخرى إلى أن وصلوا مكناسة
فأعطاهم السلطان السلاح وولى عليهم قوادهم وبعث إليهم إلى الموضع المعروف بالمحلة
من مشرع الرملة من أعمال سلا
ثم بعث السلطان كاتبه أبا عبد الله محمد بن العياشي المكناسي إلى قبائل الغرب وبني
حسن وأمره بجمع العبيد الذين بها فمن لا ملك لأحد عليه يأخذه مجانا ومن كان مملوكا
لأحد فليعط صاحبه ثمنه ويحوزه منه فخرج ابن العياشي وطاف في تلك القبائل واستقصى
كل أسود بها وكان السلطان قد كتب أيضا إلى عماله بالأمصار بأن يشتروا له العبيد
والإماء من فاس ومكناسة وغيرهما من حواضر المغرب عشرة مثاقيل للعبد وعشرة مثاقيل
للأمة فاستوعبوا ما وجدوا حتى لم يبق عند أحد عبد ولا أمة فاجتمع مما اشتراه
العمال ثلاثة آلاف أخرى فكساهم السلطان وسلحهم وبعث بهم إلى المحلة بعد أن عين لهم
قوادهم ثم أن ابن العياشي قدم بدفتر فيه ألفان من العبيد فيهم المتزوج والعزب فكتب
السلطان إلى القائد أبي الحسن علي بن عبد الله الريفي صاحب بلاد الهبط أن يشتري
للأعزاب منهم الإماء ويكسوهم ويعطيهم السلاح من تطاوين ويعين لهم قوادهم ويبعث بهم
إلى المحلة فصار المجموع ثمانية آلاف وهذا العدد هو الذي نزل أولا بها
ثم ألزم السلطان قبائل تامسنا ودكالة أن يأتوا بعبيد المخزن الذين عندهم فلم يسعهم
إلا الامتثال فجمعوا كل عبد في بلادهم وزادوا بالشراء من عندهم وأعطوهم الخيل
والسلاح وكسوهم وبعثوا بهم إليه فمن تامسنا
____________________
ألفان ومن دكالة ألفان فأنزلهم السلطان بوجه عروس من أحواز مكناسة إلى أن بنى قصبة
آدخسان فأنزل عبيد دكالة بها وأنزل عبيد تامسنا بزاوية أهل الدلاء
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وألف فيها غزا السلطان المولى إسماعيل صحراء السوس فبلغ
آقاوطاطا وتيشيت وشنكيط وتخوم السودان فقدمت عليه وفود العرب هنالك من أهل الساحل
والقبلة ومن دليم وبربوش والمغافرة وودي ومطاع وجرار وغيرهم من قبائل معقل وأدوا
طاعتهم وكان في ذلك الوفد الشيخ بكار المغفري والد الحرة خناثى أم السلطان المولى
عبد الله بن إسماعيل فأهدى الشيخ المذكور إلى السلطان ابنته خناثى المذكورة وكانت
ذات جمال وفقه وأدب فتزوجها السلطان رحمه الله وبنى بها وجلب في هذه الغزوة من تلك
الأقاليم ألفين من الحراطين بأولادهم فكساهم بمراكش وسلحهم وولى عليهم وبعث بهم
إلى المحلة وقفل هو إلى حضرته من مكناسة فكان عدد ما جمع من العسكر البخاري أربعة
عشر ألفا عشرة آلاف منها بمشرع الرملة وأربعة آلاف بآدخسان وما والاها من بلاد
البربر ثم عفوا وتناسلوا وكثروا حتى ما مات المولى إسماعيل إلا وقد بلغ عددهم مائة
وخمسين ألفا كما سيأتي إن شاء الله
واعلم أنه قد وقع في هذه الأخبار لفظ الحرطاني ومعناه في عرف أهل المغرب العتيق
وأصله الحر الثاني كأن الحر الأصلي حر أول وهذا العتيق حر ثان ثم كثر استعماله على
الألسنة فقيل الحرطاني على ضرب من التخفيف
وأما سبب تسمية هذا الجيش بعبيد البخاري فإن المولى إسماعيل رحمه الله لما جمعهم
وظفر بمراده بعصبيتهم واستغنى بهم عن الانتصار بالقبائل بعضهم على بعض حمد الله
تعالى وأثنى عليه وجمع أعيانهم وأحضر نسخة من صحيح البخاري وقال لهم أنا وانتم
عبيد لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه المجموع في هذا الكتاب فكل ما أمر
به نفعله وكل
____________________
ما نهى عنه نتركه وعليه نقاتل فعاهدوه على ذلك وأمر بالاحتفاظ بتلك النسخة وأمرهم
أن يحملوها حال ركوبهم ويقدموها أمام حروبهم كتابوت بني إسرائيل وما زال الأمر على
ذلك إلى هذا العهد فلهذا قيل لهم عبيد البخاري
قال في البستان كان مآل هذا العسكر البخاري مع أولاد أمير المؤمنين المولى إسماعيل
رحمه الله مثل مآل الترك مع أولاد المعتصم بن الرشيد العباسي في كونهم استبدوا
عليهم وصاروا يولون ويعزلون ويقتلون ويستحيون إلى ان تم أمر الله فيهم وتلاشى
جمعهم وتفرقوا في البلاد شذر مذر وما أحياهم إلا السلطان المرحوم المولى محمد بن
عبد الله ولما عفوا وكثروا خرجوا عليه بابنه المولى يزيد وفعلوا فعلتهم التي
فعلوها من قبل حسبما تسمعه بعد إن شاء الله غزو أمير المؤمنين المولى إسماعيل بلاد
الشرق وانعقاد الصلح بينه وبين دولة الترك أهل الجزائر
ثم غزا أمير المؤمنين المولى إسماعيل رحمه الله بلاد الشرق فترك تلمسان عن يساره
وأصحر في ناحية القبلة فقدمت عليه هنالك وفود العرب من ذوي منيع ودخيسه وحميان
والمهاية والعمور وأولاد جرير وسقونه وبني عامر والحشم فسار بهم إلى أن نزل
القويعة على رأس وادي شلف المسمى اليوم بوادي صا وكان رائده إليها والدال له عليها
هم بنو عامر بن زغبة فخرج جيش الترك مع ثغر الجزائر بقضهم وقضيضهم ومدافعهم
ومهاريسهم ونزلوا على وادي شلف قبالة السلطان رحمه الله ولما كان وقت العشاء
أرعدوا مدافعهم ليدهشوا العرب الذين مع السلطان فكان الأمر كذلك فإنه لما انتصف
اليل انسل بنو عامر من محلة السلطان وأصبحت الأرض منهم بلاقع ولما أصبح بقية العرب
وعلموا بفرار بني عامر انهزموا دون قتال ولم يبق مع السلطان إلا عسكره الذي جاء به
من المغرب فكان ذلك سبب تأخره عن حرب الترك وقفو له إلى حضرته وكاتبه الترك في أن
يتخلى لهم
____________________
عن بلادهم ويقف عند حد أسلافه ومن كان قبلهم من ملوك الدولة السعدية فإنهم ما زاحموهم
قط في بلادهم وبعثوا إليه بكتاب أخيه المولى محمد بن الشريف الذي كان بعث به إليهم
مع رسلهم حسبما تقدم وبكتاب أخيه المولى الرشيد الذي فيه الحد بينه وبينهم فوقع
الصلح على ذلك الحد الذي هو وادي تافنا
ولما قفل السلطان رحمه الله ومن في طريقه بمدينة وجدة أمر ببنائها وتجديد ما تثلم
منها ثم قفل إلى فاس ثم منها إلى الحضرة بمكناسة الزيتون وكان ذلك كله سنة تسع
وثمانين وألف خروج الإخوة الثلاثة من أولاد المولى الشريف ابن علي بالصحراء وما
كان من أمرهم
وفي أواخر رمضان سنة تسع وثمانين وألف بلغ السلطان رحمه الله وهو بمكناسة خروج
إخوته الثلاثة المولى الحران والمولى هاشم والمولى أحمد بني الشريف بن علي مع
ثلاثة آخرين من بني عمهم وأنهم تدرجوا إلى آيت عطاء من قبائل البربر فنهض إليهم
السلطان رحمه الله بالعساكر وسلك طريق سجلماسة فكان اللقاء بجبل ساغرو في عشرين من
ذي الحجة من السنة فالتقى جيش السلطان وجيش الخارجين وجلهم آيت عطاء فاقتتلوا وكان
الظفر للسلطان بعد أن هلك من جيشه ثم من رماه فاس بالخصوص نحو أربعمائة دون من
عداهم وهلك قائد العسكر موسى بن يوسف وانهزم الإخوة وأبعدوا المفر إلى الصحراء
وكان في تلك السنة وباء عظيم قد انتشر في بلاد المغرب فرجع السلطان على طريق
الفايجة فأصابه ثلج عظيم بثنية الكلاوي من جبل درن أهلك الناس وأتلف متاعهم
وأخبيتهم وما تخلصوا منه إلا بمشقة فادحة
ولما نزلت العساكر بزاوية الشيخ أبي العزم سيدي رحال الكوش مدوا
____________________
أيديهم إلى أموال الناس وزروعهم بالنهب لما مسهم من ضرر الجوع فشكا الناس ذلك إلى
السلطان فأمر بقتل كل من وجد خارج المحلة فقتل في ذلك اليوم من الجيش نحو
الثلاثمائة ثم أمر بجر الوزير أبي زيد عبد الرحمن المنزري لأمر نقمه عليه وقتل
أصحابه بالرصاص فجر الوزير المذكور إلى فاس ومكناسة ولم يصل إليهما إلا بعض شلوه
فطرح على المزبلة ووصل السلطان إلى مكناسة فاحتل بدار ملكه واقتعد أريكة عزه
ثم دخلت سنة تسعين وألف ففي المحرم منها وقع الوباء بفاس وأعمالها فأمر السلطان
العبيد أن يردوا الناس عن مكناسة فكانوا يتعرضون لهم في الطرقات بناحية سبو وسايس
يردونهم عن مكناسة وكل من يأتي من ناحية القصر وفاس يقتلونه فانقطعت السبل وتعذرت
المرافق
وفي أواخر المحرم من هذه السنة أوقع جيش المسلمين بنصارى طنجة فقتلوا منهم نحو
ثلاثمائة وخمسين وانتزعوا منهم قصبة بأربعة أبراج واستشهد من المسلمين نحو الخمسين
رحمهم الله نقل زرارة والشبانات إلى وجدة وبناء القلاع بالتخوم وما تخلل ذلك
وفي هذه السنة التي هي سنة تسعين وألف أمر أمير المؤمنين المولى إسماعيل رحمه الله
بنقل عرب زرارة والشبانات قوم كروم الحاج من الحوز إلى وجدة لما كانوا عليه من
الظلم والفساد في تلك البلاد فأنزلهم بوجدة ثغر المغرب وكتبهم في الديوان وولى
عليهم أبا البقاء العياشي بن الزويعر الزراري وتقدم إليه في التضييق على بني
يزناسن إذ كانوا يومئذ منحرفين عن الدولة ومتمسكين بدعوة الترك فكان زرارة
والشبانات يغيرون عليهم ويمنعونهم من الحرث ببسيط آنكاد وأمر السلطان رحمه الله أن
تبنى عليهم قلعة من ناحية الساحل قرينة وجدة بالموضع المعروف برفادة وأمر القائد
____________________
العياشي أن ينزل بها خمسمائة فارس من إخوانه يمنعونهم النزول ببسيط تريفة
والارتفاق به من حرث وغيره ثم أمر رحمه الله أن تبنى قلعة أخرى بطرف بلادهم
بالعيون وينزل بها القائد المذكور خمسمائة أخرى من إخوانه أيضا وأمر أن تبنى قلعة
ثالثة بطرف بلادهم على ملوية وينزل بها خمسمائة فارس كذلك وجعل للقائد العياشي
المذكور النظر في القلاع الثلاث وهو بوجدة في ألف فارس فكانوا في الدفتر ألفين
وخمسمائة
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وألف ففي جمادى الثانية منها خرج السلطان من الحضرة في
الجنود قاصدا بني يزناسن الذين تمادوا على العصيان فاقتحم عليهم جبلهم واعتسف
بروعهم وانتسف زروعهم وضروعهم وحرق قراهم وقتل رجالهم وسبى ذراريهم فطلبوا الأمان
فأمن بقيتهم على أن يدفعوا الخيل والسلاح التي عندهم فدفعوها من غير توقف وقاموا
بدعوته جبرا عليهم ثم نزل بسيط آنكاد وحضر عنده قبائل الأحلاف وسقونه فأرجلهم من
خيولهم وجردهم من سلاحهم وانتزعها منهم وألزم أشياخهم أن يجمعوا له ما بقي بحلتهم
منها ففعلوا ثم فعل بالمهاية وحميان كذلك وانكفأ راجعا إلى المغرب
ولما نزل وادي صا أمر ببناء قلعة تاوريرت التي بناها السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد
الحق المريني فجددها وأنزل فيها مائة فارس من عبيده بعيالهم وأولادهم ولما نزل
بوادي مسون أمر أن تبنى به قلعة أخرى بجوار القديمة وأنزل فيها مائة فارس من
العبيد كذلك ثم أنزل بتازا ألفين وخمسمائة من خيل العبيد بعيالهم وولى عليهم منصور
بن الرامي وجعل نظر القلاع التي بتازا ووادي صا للقائد منصور المذكور وعين لكل
قبيلة من قبائل تلك البلاد قلعتها التي تدفع بها زكواتها وأعشارها لمؤنة العبيد
وعلف خيولهم وهم حراس الطريق فمن وقع في أرضه شيء عوقب عليه قائد تلك القلعة ولما
وصل السلطان إلى الكور أمر أن تبنى به قلعة أيضا وأنزل بها
____________________
مائة فارس من عبيده بعيالهم
ولما انتهى إلى فاس أنزل بقصبة الخميس التي بنى سورها المولى الرشيد خمسمائة من
الخيل بعيالهم من شراقة العرب والبربر الذين قدموا مع المولى الرشيد رحمه الله
حسبما تقدمت الإشارة إليه
ثم أمر رحمه الله ببناء قلعة بالمهدومة وأخرى بالجديدة من أعمال مكناسة وأنزل بكل
واحدة مائة من خيل العبيد بعيالهم لحراسة الطرقات وبكل قلعة فندق لمبيت القوافل
وأبناء السبيل ثم دخل السلطان رحمه الله حضرته مؤيدا منصورا وذلك في خامس شعبان
سنة إحدى وتسعين وألف فتح المهدية ومحاربة ابن محرز بالسوس وما تخلل ذلك
قد تقدم لنا ما كان من استيلاء جنس الإصبنيول على المعمورة المسماة بالمهدية في
حدود العشرين بعد الألف وما كان بينهم وبين أبي عبد الله العياشي وأهل سلا من
الحروب واستمروا بها إلى أن كانت سنة اثنتين وتسعين وألف فافتتحها جيش السلطان
المولى إسماعيل رحمه الله
قال في النزهة ومن محاسن الدولة الإسماعيلية تنقية المغرب من نجاسة الكفر ورد كيد
العدو عنه قال وقد فتح السلطان المولى إسماعيل عدة مدن من يد النصارى كانت من
مفاسد المغرب ولم يهنأ للمسلمين معهم قرار من ذلك المعمورة فإنه رحمه الله قد
افتتحها عنوة بعد أن حاصرها مدة وكان فتحها يوم الخميس رابع عشر ربيع الثاني سنة
اثنتين وتسعين وألف وأسر بها نحو الثلاثمائة من الكفار ا هـ وقال في نشر المثاني
كان فتح المهدية عنوة عند صلاة الجمعة خامس عشر ربيع الثاني من السنة قيل بقتال
وقيل بدون قتال وإنما أخذت بقطع الماء عنها وجيء بالنصارى الذين كانوا بها أسارى
ولم يصب أحد من المسلمين
وقال في البستان وفي سنة اثنتين وتسعين وألف ورد الخبر على
____________________
السلطان إسماعيل بأن ابن أخيه المولى أحمد بن محرز الذي بالسوس قد استولى على بلاد
آيت زينب وقويت شوكته فأمر السلطان رحمه الله بتفريق الراتب وتجهيز العساكر إليه
من فاس وتوجهت في ثامن ربيع الأول من السنة ثم بلغه أن العسكر المحاصر للمهدية قد
أشرف على فتحها وتوقفوا على حضوره فنهض رحمه الله إليهم حتى حضر الفتح وأخرج رئيس
النصارى فأمنه وأمن أصحابه وكانوا ثلاثمائة وستة أنفس وأما الغنيمة فقد أحرزها
المجاهدون من أهل الفحص والريف الذين كانوا مرابطين عليها مع القائد عمر بن حدو
البطوئي ورجع السلطان إلى مكناسة بعد أن أنزل بالمهدية طائفة من عبيد السوس
لعمارتها وسد فرجتها وحضر هذا الفتح جماعة من متطوعة أهل سلا منهم الولي الصالح
أبو العباس سيدي أحمد حجي من صلحائها المشهورين بها واعلم أن السور العادي الذي
اليوم بالمهدية هو من بناء البرتغال أيام استيلائهم عليها في دولة الوطاسيين كما
مر
ولما فرغ المجاهدون من أمر المهدية ارتحلوا مع أميرهم عمر بن حدو فأصابه الوباء
فمات في الطريق وتولى رئاسة المجاهدين أخوه القائد أحمد بن حدو تقسمها هو والقائد
أبو الحسن علي بن عبد الله الريفي وكان أولاد الريفي هؤلاء من الشهرة في الجهاد
والمكانة في الشجاعة ومكائد الحرب بمنزلة أولاد النقسيس وأولاد أبي الليف وأضرابهم
رحم الله الجميع
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وألف فيها غزا السلطان بلاد الشرق فنهب بني عامر ورجع إلى
مكناسة وأمر بإخراج أهل الذمة من المدينة وبنى لهم حارة خارجها بالموضع المعروف
ببريمة وكلف أهل تافيلالت الذين بفاس بالرحيل إلى مكناسة والسكنى بحارة اليهود
القديمة التي أخليت فلم يزل أهل تافيلالت يذهبون أرسالا ويسكنونها بالكراء حتى
ضاقت بهم
ثم بلغه أن الترك قد خرجوا بعسكرهم واستولوا على بني يزناسن وعلى
____________________
دار ابن مشعل وأنهم قد مدوا يد الوفاق إلى ابن محرز وراسلوه وراسلهم وانبرم كلامهم
معه على حرب السلطان وبلغه مثل ذلك من نائبه بمراكش فكتب إليه أن يحتاط في حراسة
مراكش ويأخذ بالحزم في ذلك ويقيم في نحر ابن محرز إلى أن يرجع السلطان من غزو
تلمسان ثم خرج رحمه الله بالعساكر لمصادمة الترك فوجدهم قد رجعوا إلى بلادهم لما
بلغهم من خروج النصارى بشرشال فساروا إليهم وفتكوا فيهم فتكة بكرا وردوهم على
أعقابهم صاغرين ورجع السلطان رحمه الله من وجهته وقد دخلت سنة أربع وتسعين وألف
فسار على تفئته إلى مراكش فأراح بها ثم نهض منها إلى السوس فالتقى بابن أخيه
المولى أحمد بن محرز في أواخر ربيع الثاني من السنة وقامت الحرب بينهما على ساق
واستمر القتال نحوا من خمسة وعشرين يوما هلك فيها من الفريقين ما لا يحصى ودخل ابن
محرز تارودانت فتحصن بها وكان الوقت وقت غلاء فضاق الأمر على أهل الحركة فجعلوا
يهربون وكثر فيهم السجن والضرب والرد إليها في الحين ثم كان بينهما حرب أخرى هلك
فيها خلق كثير نحو ألفين وجرح السلطان وجرح ابن محرز أيضا وذلك في أواسط جمادى
الآخرة من السنة واستمر الحال على ذلك إلى رمضان من السنة
قال أبو عبد الله أكنسوس حدثني بعض الثقات أن السلطان المولى إسماعيل رحمه الله لما
أعياه أمر ابن أخيه المذكور أصبح ذات يوم دهشا كئيبا فقال لوزيره الفقيه أبي
العباس اليحمدي إني رأيت في هذه الليلة رؤيا أحزنتني إلى الغاية فقال وما هي يا
مولانا وعسى أن تكون خيرا قال رأيت كأن هذه الجنود التي معنا ما بقي منها أحد ولم
يبق إلا أنا وأنت مختفيين في غار مظلم فسجد الوزير اليحمدي شكرا لله تعالى وأطال
السجود ثم رفع رأسه وقال أبشر يا مولانا فقد نصرنا الله على هذا الرجل فقال له
السلطان ومن أين لك ذلك فقال له من قوله تعالى { ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ
يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } التوبة 40
____________________
قال عليه الصلاة والسلام فما ظنك باثنين الله ثالثهما فسر السلطان بذلك غاية
السرور وانسرى عنه ما كان يجده من الغم وعلم أن رؤياه بشارة من الله تعالى له وعلى
أثر ذلك وقع الصلح بينهما في رمضان ورجع السلطان إلى حضرته فدخلها في أواخر ذي
القعدة من السنة المذكورة امتحان القضاة والسبب فيه
قال العلامة القادري في الأزهار الندية وفي هذه السنة أعني سنة أربع وتسعين وألف
أمر السلطان بالقبض على جميع القضاة وامتحنوا ووصفوا بالجهل وسجنوا في مشور فاس
الجديد حتى يتعلموا ما لابد منه من أحكام ما هم مدفوعون إليه ثم أخرجوا أيام
المولد الكريم إلى مكناسة فهددوا بها أيضا حتى أمر بحبس بعضهم أو قبله ثم أطلقوا
معزولين اه قال أكنسوس ولعل المراد بهم قضاة البوادي ومن في معناهم قلت ولم أر في
الأزهار شيئا من هذا ولعله في نسخة الأصل لأنهم ذكروا أنهما نسختان إحداهما مختصرة
من الأخرى والله أعلم غزو البربر وبناء القلاع بإزاء معاقلهم
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وألف فيها خرج السلطان في العساكر إلى جبال فزاز لحرب
صنهاجة من البربر الذين هنالك فلما سمعوا بخروج السلطان انهزموا إلى ملوية فدخل
السلطان بلادهم واختط قلعة بعين اللوح بسفح جبلهم ثم نزل بعين آصرو فأمر ببناء
قلعة هنالك بسفح الجبل أيضا ثم تبع آثارهم إلى أن دخلوا جبل العياشي وتربص رحمه
الله بملوية إلى أن دخل فصل الشتاء وكان قصده بذلك التربص إتمام سور القلعتين ولما
عزم على الرجوع أنزل بقلعة آصرو ألف فارس وبقلعة عين اللوح خمسمائة فارس فأخذوا
بمخنقهم واستراح الناس من عيثهم ببسيط سائس ولما منعوا
____________________
من السهل وانقطعت عنهم الميرة وقلت الأقوات خشعوا ونزل وفدهم فقدموا مكناسة على
السلطان تائبين فأمنهم على شرط دفع الخيل والسلاح والاشتغال بالحرث والنتاج
فدفعوها عن يد وهم صاغرون وهؤلاء هم آيت ادراسن فأعطاهم السلطان رحمه الله عشرين
ألفا من الغنم ألزمهم برعايتها وحفظها وأسقط عنهم الوظائف فصلحت أحوالهم وصاروا في
كل عام يدفعون صوفها وسمنها ويزيدهم الغنم إلى أن بلغ عددها ستين ألفا وقلت شوكتهم
وذهب بأسهم فتح طنجة
قد تقدم لنا أن طنجة صارت إلى جنس النجليز من يد البرتغال واستمرت بيده إلى سنة
خمس وتسعين وألف فعقد السلطان المولى إسماعيل رحمه الله للقائد أبي الحسن علي بن
عبد الله الريفي على جيش المجاهدين ووجهه لحصار طنجة فضيقوا على من بها من النصارى
وطاولوهم إلى أن ركبوا سفنهم وهربوا في البحر وتركوها خاوية على عروشها وذلك في
ربيع الأول سنة خمس وتسعين وألف قاله في النزهة وقال في البستان لما ضاق الأمر على
النصارى الذين بطنجة وطال عليهم الحصار خربوها وهدموا أسوارها وأبراجها وركبوا
سفنهم وتركوها فدخلها المسلمون من غير طعن ولا ضرب وشرع قائد المجاهدين علي بن عبد
الله الريفي في بناء ما تهدم من أسوارها ومساجدها في فاتح جمادى الأولى من السنة
قلت وأعقاب هذا القائد لا زالوا اليوم بطنجة وكثيرا ما تكون فيهم الرياسة هنالك
ثم اتفق أن نشب بقرب ساحلها مركب قرصاني جاء مددا لأهل سبتة فيه أموال وبضائع
فحارب المسلمون أهله عليه واحتووا على ما فيه وألزم السلطان قبيلة غمارة بجر
مدافعه النحاسية إلى مكناسة وأرسل الرماة من أهل فاس لجرها أيضا فأتوا بها لأربعين
يوما والله غالب على أمره
____________________
غزو البربر ثانيا وبناء القلاع
في نحورهم
ثم دخلت سنة ست وتسعين وألف فيها خرج السلطان غازيا بلاد ملوية وجعل طريقه على
مدينة صفرو ففرت قبائل البربر إلى رؤوس الجبال وهم آيت يوسي وشغروسن وأيوب وعلاهم
وقادم وحيون ومديونة فأمر السلطان ببناء قلعة بآعليل وأخرى على وادي كيكو من أسفله
وأخرى على وادي سكورة وأخرى على وادي تاشواكت ثم خرج السلطان بملوية ففرت القبائل
المذكورة إلى جبل العياشي وتفرقوا في شعابه فأمر ببناء قلعة بدار الطمع وقلعة
بتاببوست وقلعة بقصر بني مطير وقلعة بوطواط وقلعة بالقصابي وأقام على نهر ملوية
يبث السرايا ويشن الغارات على البربر قريبا من سنة والعمل مستمر في بناء القلاع
إلى أن أكملت أسوارها وأنزل رحمه الله بكل قلعة أربعمائة من خيل العبيد بعيالهم
وجاءته وفود البربر تائبين طائعين فأمنهم على شرط دفع الخيل والسلاح فدفعوها وصفا
له رحمه الله هذا الربع الشرقي من جبل درن والله ولي التوفيق بمنه مقتل المولى
أحمد بن محرز وفتح تارودانت وما يتصل بذلك
وفي هذه السنة أعني سنة ست وتسعين وألف بلغ السلطان المولى إسماعيل رحمه الله وهو
بمكناسة أن أخاه المولى الحران وابن أخيه المولى أحمد بن محرز قد دخلا قصبة
تارودانت واستحوذا على تلك الجهات فنهض إليهما ووالى السيرحتى أناخ بكلكله على تارودانت
وحاصرهما بها أياما فاتفق أن ابن محرز خرج ذات يوم في جماعة من عبيده لزيارة بعض
الأولياء فلقيه جماعة من زرارة أصحاب السلطان فلم يعرفوه وظنوا أنه بعض قواد ابن
محرز فشدوا عليه فماصعهم هنيئة ثم قتلوه فإذا هو ابن محرز
____________________
ولما اتصل الخبر بالسلطان خرج حتى وقف عليه فعرفه وأمر بتجهيزه ودفنه فدفن مع
الغرناطي أحد قواد الجيش وكان قد قتل ذلك اليوم وكان مقتل المولى أحمد رحمه الله
في أواسط ذي القعدة سنة ست وتسعين وألف بعد تشغيبه على السلطان أربع عشرة سنة ثم
بعد أيام خرج أهل تارودانت ليلا إلى قبر المولى أحمد فنبشوه ونبشوا قبر الغرناطي
لأنه كان قد التبس عليهم به فاستخرجوهما معا حتى عرفوا المولى أحمد فحملوه في
تابوته وتركوا الغرناطي على شفير قبره واستمر المولى الحران محصورا بتارودانت
والحرب قائمة على ساق إلى أن دخلت سنة سبع وتسعين وألف فكانت حرب هلك فيها نحو
الستمائة نفس من الجند منهم القائد زيتون والباشا حمدان وغيرهما ثم كانت حرب أخرى
أعظم من الأولى ثم ثالثة كذلك هلك فيها القائد أبو زيد عبد الرحمن الروسي وتولى
مكانه ابن الغرناطي واستمر الحال بها إلى جمادى الأولى من سنة ثمان وتسعين وألف
فاقتحم السلطان تارودانت عنوة بالسيف واستباحها واستولى عليها وفر المولى الحران
إلى حيث أمن على نفسه
ولما اتصل خبر الفتح بأهل فاس عينوا وفدا من كبرائهم وأشرافهم وغلمائهم فقدموا على
السلطان بقصد التهنئة يقدمهم ولده المولى محمد بن إسماعيل فأكرم وفادتهم وخرج
أولاد النقسيس من سبتة وكانوا قد لجؤوا إليها بعد مقتل الخضر غيلان فقدموا على
السلطان بعسكره من تارودانت فأمر بردهم إلى تطاوين وقتلهم بها وأمر بقتل من كان
منهم مسجونا بفاس فقتلوا أجمعون رحمهم الله ثم دخلت سنة تسع وتسعين وألف فيها قفل
السلطان من السوس فدخل دار ملكه مكناسة واستقر بها وبعث إلى عامل فاس أن يخرج من
بها من أهل الريف إلى تارودانت بقصد عمارتها والسكنى بها وفي خامس جمادى الأولى من
السنة استدعى السلطان فقهاء فاس لحضور ختم التفسير عند قاضيه أبي عبد الله المجاصي
فحضروا وأكرمهم ووصلهم
____________________
غزو برابرة فازاز وبناء قلعة
آدخسان
لما تهيأ السلطان رحمه الله لغزو أهل جبل فازاز نهض إليهم وصعد الجبل من الناحية
الغربية فأول من قدم عليه من برابرته بالطاعة زمور وبنو حكم فولى عليهم رئيسهم
بايشي القبلي فاستصفى منهم الخيل والسلاح ثم تجاوزهما إلى المال فاستصفاه أيضا
وجمع ذلك كله وقدم به على السلطان وهو ببسيط آدخسان فقدمه إليه فأنكر السلطان عليه
ذلك وقال له ما حملك على ما فعلت ولم آمرك به فقال له يا مولانا إن كان غرضك في
صلاحهم وفلاحهم فهو الذي فعلت لك ولهم وإن سرت معهم بغير هذا أتعبوك وأتعبوا
أنفسهم وإنما طهرتهم من الحرام ليشتغلوا باكتساب الحلال فإنه ينمو ويزكو فاستحسن
السلطان قوله وأمضى فعله وأقام رحمه الله بآدخسان يحارب آيت ومالو سنة كاملة حتى
بنى قلعة آدخسان الجديدة بمحل القديمة التي كان بناها أمير المسلمين يوسف بن
تاشفين رحمه الله وخربت ولما دخل فصل الشتاء أنزل بالقصبة ألفا وخمسمائة فارس من
عبيد أهل دكالة الذين كانوا بوجه عروس نقلهم إليها بأولادهم وأنزل بزاوية أهل
الدلاء ألفا وخمسمائة فارس من عبيد الشاوية الذين كانوا بوجه عروس أيضا نقلهم
بعيالهم وأمرهم بحصار البربر ومنعهم من النزول للمرعى والحرث ونحوهما ثم قفل إلى
مكناسة قال صاحب البستان وهو أبو القاسم الصياني وفي هذه المرة نقل معه جدنا
الفقيه الأستاذ ابا الحسن علي بن إبراهيم بأولاده إلى مكناسة وسبب ذلك أنه لما نزل
بآدخسان واجتمع عليه الأشراف الذين باركوا قال لهم دلوني على رجل صاحب فقه ودين
يؤمني في الصلوات فقالوا له ليس بهذا الجبل أتقى من سيدي علي بن إبراهيم فأتوا به
فكان إمامه في المحلة ولما قفل أخذه معه قال فهذا سبب انتقال جدنا من آركو إلى
الحضر اه
____________________
بيان تربية أولاد عبيد الديوان
وكيفية تأديبهم
قد قدمنا أن جمهور عبيد البخاري كانوا بالمحلة من مشرع الرملة وأنهم تناسلوا بها
وكثروا إلى الغاية فلما كانت سنة مائة وألف أمر السلطان رحمه الله أولئك العبيد أن
يأتوه بأبنائهم وبناتهم من عشر سنين فما فوق فلما قدموا عليه فرق البنات على
عريفات داره كل طائفة في قصر للتربية والتأديب وفرق الأولاد على البنائين والنجارين
وسائر أهل الحرف للعمل والخدمة وسوق الحمير والتدرب على ركوبها حتى إذا أكملوا سنة
نقلهم إلى سوق البغال الحاملة للآجر والزليج والقرمود والخشب ونحو ذلك حتى إذا
أكملوا سنة نقلهم إلى خدمة المركز وضرب ألواح الطابية حتى إذا أكملوا سنة نقلهم
إلى المرتبة الأولى في الجندية فكساهم ودفع إليهم السلاح يتدربون به على الجندية
وطرقها حتى إذا أكملوا سنة دفع إليهم الخيل يركبونها أعراء بلا سروج ويجرونها في
الميدان للتمرس بها والتدرب على ركوبها حتى إذا أكملوا سنة وملكوا رؤوسها دفع
إليهم السروج فيركبونها بها ويتعلمون الكر والفر والثقافة في المطاعنة والمراماة
على صهواتها حتى إذا أكملوا سنة بعد ذلك صاروا في عداد الجند المقاتلة فيخرج لهم
السلطان البنات اللاتي قدمن معهم ويزوج كل واحد من الأولاد واحدة من البنات ويعطي
الرجل عشرة مثاقيل مهر زوجته ويعطي المرأة خمسة مثاقيل شورتها ويولي عليهم واحدا
من آبائهم الكبار ويعطي ذلك القائد ما يبني به داره وما يبني به أخصاص أصحابه وهي
المعروفة عندنا بالنواويل ويبعث بهم إلى المحلة بعد أن يكتبوا في ديوان العسكر
واستمر الحال هكذا ففي كل سنة يأتي من المحلة عدد صغير ويتوجه إليها من عند
السلطان عدد كبير من سنة مائة وألف إلى أن توفي السلطان رحمه الله في التاريخ
الآتي فبلغ عدد هذا العسكر البخاري مائة ألف وخمسين ألفا منها ثمانون ألفا مفرقة
في قلاع المغرب لعمارتها وحراسة طرقها وسبعون ألفا بالمحلة وعدد القلاع التي بناها
المولى إسماعيل رحمه الله بالمغرب ست وسبعون قلعة لا زالت
____________________
قائمة العين والأثر بآفاق المغرب يعرفها الخاص والعام إلى الآن هكذا وجد في كناش
كاتب الدولتين الرشيدية والإسماعيلية الفقيه أبي الربيع سليمان بن عبد القادر
الزرهوني المتوفى بتارودانت سنة ثمان وثلاثين ومائة وألف وكان عنده دفتر العسكر
كله سواء السواد الأعظم والمتفرق في قلاع المغرب
قال صاحب البستان وأين هذا مما نقله المؤرخون على وجه الغرابة من أن الخليفة
المعتصم بن رشيد رحمهما الله بلغ عدد مماليكه الذين اشتراهم والذين جلبهم من بلاد
الترك ثمانية عشر ألفا قال وهذا العدد الذي جمعه أمير المؤمنين المولى إسماعيل
رحمه الله من العبيد لو خاض به البحر إلى الأندلس وكانت تلك القلاع سفنا ومراكب
جهادية لاستولى عليها والتوفيق من الله اه قلت وهو لعمري كلام مقبول لكن الإنسان
مجبور في قالب مختار وتصاريف الأمور جارية بيد الله لا بيد غيره وما ترك من الجهل
شيئا من أراد أن يظهر في الوقت غير ما أظهره الله فيه
وقال الشاعر
( لا يعرف الشوق إلا من يكابده ** ولا الصبابة إلا من يعانيها )
وقال الآخر
( لا تعذل المشتاق في أشواقه ** حتى يكون حشاك في أحشائه )
وقال
( واذا ما خلا الجبان بأرض ** طلب الطعن وحده والنزالا )
ومن أمثال العامة القاعد على الجرف محسن للسباحة هذا كله بالنظر إلى الحقيقة فأما
الشريعة فقد قال تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } الأنفال
60 الآية وعلى كل حال فلا يسوغ للإنسان أن يهمل الاستعداد المأمور به شرعا ويكل
الأمر إلى القدر وإلا فيكون مخطئا مخالفا للشرع والطبع قال صلى الله عليه وسلم
للأعرابي الذي ترك ناقته مرسلة أعقلها وتوكل وقال الشاعر
____________________
( على المرء أن يسعى لما فيه نفعه ** وليس عليه أن يساعده الدهر )
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والتوفيق واللطف فيما جرت به المقادير يانعم
المولى ونعم النصير فتح العرائش
وفي هذه السنة أعني سنة مائة وألف في آخر شوال منها سار القائد أبو العباس أحمد بن
حدو البطوئي في جماعة من المجاهدين لحصار العرائش وكان الإصبنيول خذله الله قد
استولى عليها على يد الشيخ بن المنصور السعدي كما مر فنزل القائد أبو العباس
المذكور عليها وضيق على الكفار الذين بها وحاصرهم نحوا من ثلاثة أشهر ونصف كذا في
النزهة وقال المؤرخ منويل إن مدة الحصار كانت خمسة أشهر قال وكان طاغية الفرنسيس
وهو لويز الرابع عشر قد أعان المولى إسماعيل على فتح العرائش وحاصرها بحرا بخمس
فراقط وقطع عنها المادة مدة ثم أقلع عنها ثم بعد ذلك كان الفتح قال في النزهة
فتحها المسلمون بعد معاناة شديدة وذلك أنهم حفروا المينات تحت خندق سورها الموالي
للمرسى وملؤوها بارودا ثم أوقدوها بالنار فنفطت وسقط جانب من السور فاقتحم
المسلمون منه وتسلقوا إلى ما كان من النصارى على الأسوار فوقعت ملحمة عظيمة وفر
باقيهم إلى حصن القبيبات الذي بناه المنصور السعدي واعتصموا به يوما وليلة فخامر
قلوبهم الجزع وطلبوا الأمان فأمنهم القائد أبو العباس المذكور على حكم السلطان
فنزلوا عليه فأخذوا أسارى بأجمعهم ولم يعتق منهم إلا أميرهم وحده وتم الفتح وذلك
يوم الأربعاء الثامن عشر من المحرم سنة إحدى ومائة وألف وما في البستان وقلده صاحب
الجيش أن نصارى العرائش اعتصموا بحصن القبيبات سنة كاملة خطأ لا يعول عليه
وكان عدد نصارى العرائش قبل الاستيلاء عليهم ثلاثة آلاف ومائتين
____________________
ولما ظفر بهم المسلمون أسروا منهم نحو ألفين وقتلوا منهم اثنتي عشرة مائة ووجد بها
من البارود والعدة ما لا يحصى كثرة فمن المدافع نحو مائة وثمانين منها اثنان
وعشرون من النحاس والباقي من الحديد ومنها مدفع يسمى الغصاب طوله خمسة وثلاثون
قدما بالحساب ووزن كرته خمسة وثلاثون رطلا بحيث حلق عليه بقرب خزانته أربعة رجال
كذا سمع من المشاهدين لذلك بعد السؤال كذا في النزهة قال منويل في كتابه إن
النصارى ما أسلموا أنفسهم حتى شرطوا شروطا معتبرة لكن السلطان نكث اه قلت حكى أبو
القاسم العميري في فهرسته ما حاصله أن نصارى العرائش ادعوا أن الفتح المذكور إنما
كان صلحا وتأمينا لا عنوة ثم لما طال النزاع في ذلك أمر السلطان قاضي حضرته
المكناسية أبا عبد الله محمد المعروف بأبي مدين ببيان الحكم في ذلك فأجاب جوابا
طويلا حرر فيه حكم الشريعة المحمدية بما لاغاية فوقه وحكم على أولئك النصارى
بالأسر وقد ذكر ذلك بتمامه في الفهرسة المذكورة فلينظر هنالك وأمر السلطان رحمه
الله بإشخاص أولئك النصارى إلى مكناسة الزيتون وكانوا ألفا وثمانمائة على ما في
البستان فكان يستخدمهم مع غيرهم من المساجين والأسرى في بناء قصوره بالنهار
ويبيتون ليلا في الدهليز وهو في عرف المغاربة هري تحت الأرض وأسكن السلطان رحمه
الله أهل الريف العرائش وأمر قائدهم أن يبني بها مسجدين وحماما ويبني داره بقلعتها
وفي فتح العرائش أنشد الخطيب البليغ أديب فاس ومفتيها أبو محمد عبد الواحد بن محمد
الشريف البوعناني فقال
( ألا أبشر فهذا الفتح نور ** قد انتظمت بعزكم الأمور )
( وطير السعد نادى حيث غنى ** قد انشرحت بفتحكم الصدور )
( وضوء النصر ساعده التهاني ** ونور الفخر نحوكم يدور )
( وقد وافتكم الخيرات طرا ** وطاب العيش واتصل السرور )
( حميتم بيضة الإسلام لما ** بعين الحق قد حرس الثغور )
____________________
( وجاهدتم وقاتلتم فأنتم ** لدين الله أقمار تنير )
( وأطلعتم صوارمكم نجوما ** لدى هيجاء صاحبها كفور )
( فأنت البدر يوم السلم حسنا ** في يوم الوغا الأسد الهصور )
( وفي ثغر العرائش قد تبدى ** لقد ركم على الشعرى الظهور )
( لقد كان الملوك فساوموها ** وراموها وبان لها نفور )
( فلما جاءها انقادت وقالت ** إليك بحق مولانا المصير )
( ملكت قياد عزتها بذل ** فما أغنى الحصار ولا العبور )
( قهرتم بأبطال ضخام ** على الهيجاء كلهم جسور )
( فكم رأس من الكفار أمسى ** قطيع الرأس مجرورا يخور )
( وكم نحر قلادته رماح ** وسن الرمح مركزه النحور )
( وكم أسرى وكم قتلى بأرض ** وكم جرحى دماؤهم تفور )
( تمر بها الطيور فتنتقيها ** وبات الذئب وهو لها شكور )
( وأضحى الناس كلهم نشاوى ** على طرب وما شربت خمور )
( فبشراكم بهذا الفتح نور ** وبشراكم بما من الغفور )
( به زادت مآثركم علوا ** وقد عظمت به لكم الأجور )
( ألا يا معشر الكفار هذا ** يبددكم وليس له فتور )
( ألا يا أهل سبتة قد أتاكم ** بسيف الله سلطان وقور )
( إذا ما جاء سبتة في عشي ** تناديه إذا كان البكور )
( ووهران تنادي كل يوم ** متى يأتي الإمام متى يزور )
( متى يأتي ويفتحها سريعا ** ويلحق أهلها منه ثبور )
( فيهزمهم ويقتلهم ويسبي ** وسيف الحق في يده ينور )
( أيا مولاي قم وانهض وشمر ** لأندلس فأنت لها الأمير )
( وجاهدهم وحاربهم وفرق ** جموعهم فربكم النصير )
( ولا يمنع بفضل الله منها ** كما قد قيل بر أو بحور )
( لسان الحال ينشد كل يوم ** ومعنى الحال تفهمه الصدور )
( بقرطبة تنال المجد طرا ** ويأتي العز والملك الكبير )
____________________
( وذلكم بعون الله سهل ** ومن بركاتكم أمر يسير )
( أيا مولاي إسماعيل هذا ** عبيدكم الضعيف المستجير )
( يناديكم بناديكم ويدعو ** دعاء لا تعييه الدهور )
( فيارب البرية ياإلهي ** ويا رحمن يا نعم المجير )
( أثب هذا الأمير بكل خير ** ولا تجعل تجارته تبور )
( وأبق الملك فيه وفي بنيه ** ولو كرهت زيود أو عمور )
( ونحن رعية نرجو هناء ** وبالسلطان تنتظم الأمور )
( عليكم من عبيدكم سلام ** مدى الدنيا يضمخه العبير )
( يعم جنابكم ما قال صب ** ألا أبشر فهذا الفتح نور )
وقال في ذلك الفقيه العالم الورع الشيهر أبو محمد عبد السلام بن حمدون جسوس رحمه
الله
( رفعت منازل سبتة أقوالها ** تشكو إليكم بالذي قد هالها )
( مع بادس وبريجة فتعطفوا ** وتنبهوا كي تسمعوا تساءلها )
( يابن النبي الهاشمي محمد ** قل يا أمير المؤمنين أنا لها )
( فلقد قضيتم للعرائش حاجة ** مع طنجة فاقضوا لذي آمالها )
( عار عليكم أن تكون أسيرة ** بجواركم وجنودكم تغزى لها )
( إن لم تكونوا آخذين بثأرها ** من ذا يفك من الوثاق حبالها )
( لا تسمعن من جاهل ومثبط ** ومصعب من جهله أحوالها )
( إن الذين تقدموا قد جاهدوا ** بنفوسهم وبمالهم أمثالها )
( فتملكوا أملاكها وديارها ** وتقسموا أموالها ورجالها )
( فابعث لها أهل الشجاعة عاجلا ** حتى تراهم نازلين جبالها )
( وأمدهم بمؤونة ومعونة ** كيفما تقطع بالعدا أوصالها )
( وارفع لهذا الغرب رأسا إنه ** في الضعف ما دام العدا أنزالها )
( أبقاك ربي للخلافة عدة ** تقفو الشريعة مؤثرا أفعالها )
( واقبل هدية من أتى بنصيحة ** يبغي الثواب ولا تقل من قالها )
وقال في ذلك الشريف الأديب أبو محمد عبد السلام بن الطيب القادري
____________________
( علا عرش دين الله من كل العرائش ** وهد بنصر الله قصر العرائش )
وهي طويلة انظرها في نشر المثاني إن شئت ثم في الثاني والعشرين من ربيع الأول من
هذه السنة نهى السلطان عن لبس النعال السود ونادى في سائر أمصار المغرب وأمر بلبس
النعال الصفر مكانها لما قيل من أن الناس اتخذوا النعال السود منذ استولى النصارى
على العرائش على يد المأمون السعدي كما تقدم وفي أوائل ذي الحجة من هذه السنة قتل
السلطان ثلاثة وستين رجلا من الطائفة المسمون بالعكاكزة فتح آصيلا
ولما فرغ المجاهدون من أمر العرائش عمدوا إلى مدينة آصيلا فنزلوا عليها وحاصروا
النصارى الذين بها سنة كاملة وأظنهم الإصبنيول إلى أن بلغ بهم الحصار كل مبلغ
فطلبوا الأمان فأمنوهم على حكم السلطان ولما لم يطمئنوا لذلك ركبوا من الليل سفنهم
ونجوا إلى بلادهم ودخل المسلمون المدينة فملكوها وذلك سنة اثنتين ومائة وألف
وعمرها أهل الريف أيضا وبنى بها قائدهم مسجدين ومدرسة وحماما وبنى داره بقلعتها
والله أعلم حصار سبتة
ثم سار المجاهدون بعد الفراغ من آصيلا إلى سبتة فنزلوا عليها وحاصروها واستأنفوا
الجد في مقاتلتها وامدهم السلطان بعسكر من عبيده وأمر قبائل الجبل أن تعين كل
قبيلة حصتها للمرابطة على سبتة وكذلك أمر أهل فاس أن يبعثوا بحصتهم إليها فكان عدد
المرابطين عليها خمسة وعشرين ألفا وتقدم السلطان إليهم في الجد والاجتهاد فكان
القتال لا ينقطع عنها صباحا ومساء وطال الأمد حتى أن السلطان رحمه الله اتهم
القواد
____________________
الذين كانوا على حصارها بعدم النصح في افتتاحها لئلا يبعث بهم بعدها إلى حصار
البريجة فيبعدوا عن بلادهم مع أنهم قد سئموا كثرة الأسفار ومشقات الحروب واستمر
الحال إلى أن مات القائد أبو الحسن علي بن عبد الله الريفي وولى بعده ابنه القائد
أبو العباس أحمد بن علي والقتال لا زال والحال ما حال وفي كل سنة يتعاقب الغزاة
عليها والسلطان مشتغل بتمهيد المغرب ومقاتلة برابرة جبل فازاز وغيرهم ولم يهيىء
الله فتحها على يديه ودار القائد أحمد بن علي ومسجده اللذان بناهما بإزاء سبتة
أيام الحصار لا زالا قائمي العين والأثر إلى اليوم وحكى الغزال في رحلته أنه رأى
بأحد أبواب سبتة خرقا قديما لم يصلح فسأل أهلها عنه فقالوا إنه من أثر الرمي الذي
كان يرميه الجيش الإسماعيلي وهو أثر كرة خرقت الباب ونفذت إلى داخل البلد وتركناه
على حاله ليعتبر به من يأتي بعدنا ويزداد احتياطا وحزما أو كلاما هذا معناه والله
تعالى أعلم غزو السلطان المولى إسماعيل برابرة فازاز وإيقاعه بهم
كان السلطان المولى إسماعيل رحمه الله في هذه المدة مشتغلا بتمهيد المغرب واستنزال
أممه من معاقلهم إلى أن فتح أقطاره كلها وبنى قلاعها ورتب حاميتها ولم يبق له
بالمغرب كله إلا قنة جبل فازاز الذي فيه آيت ومالو وآيت يف المال وآيت يسرى فعزم
على النهوض إليه وافتضاض عذرته
ولما أراد الخروج إليهم استخلف على فاس الجديد كبير أولاده المولى أبا العلاء
محرزا وبعث إلى مراكش ابنه المولى أبا اليمن المأمون وترك بمكناسة ابنه المولى
محمد المدعو زيدان وكان فارس أولاده الموجودين يومئذ
ولما ولي المأمون على مراكش أمر برئيس الحضرة وإمام الكتاب الفقيه أبا العباس أحمد
اليحمدي أن يعطيه التقليد ويوصيه بما تنبغي الوصاية به
____________________
وكان المولى المأمون منحرفا عن الوزير المذكور فمشى إليه على كره منه وحاز منه
التقليد واستمع لوصيته امتثالا لأمر والده ثم عاد إليه وقال يا مولانا إن اليحمدي
ينقصك ويزعم أنه الذي علمك دينك في كلام آخر فقال له السلطان رحمه الله والله إن
كان قد قال ذلك إنه لصادق فإنه الذي علمني ديني وعرفني بربي نقل هذه الحكاية صاحب
البستان وصاحب الجيش وكلاهما قال إنه سمعها من السلطان المرحوم المولى سليمان بن
محمد رحمه الله وهي منقبة فخيمة للمولى إسماعيل في الخضوع للحق والاعتراف به رحم
الله الجميع
ثم دخلت سنة ثلاث ومائة وألف والسلطان عازم على النهوض إلى فازاز وبعث مع ذلك
بالراتب والعدة إلى أهل فاس وأمرهم بالنهوض إلى الترك مع ولده المولى زيدان فخرجوا
في رمضان من السنة وبعد العيد أخذ السلطان في الاستعداد للنهوض إلى فازاز ثم بدا
له فخرج في أثر المولى زيدان فلحق بأطراف المغرب الأوسط وأبرم الصلح مع الترك ورجع
إلى الحضرة هكذا ساق صاحب البستان هذا الخبر والذي رأيته في نشر المثاني هو ما نصه
قد اختار السلطان المولى إسماعيل الفقيه أبا عبد الله محمد الطيب الفاسي لعقد
المهادنة مع الترك في حدود سنة ثلاث ومائة وألف بعد وقعة المشارع معهم لعلمه
وفصاحته وبيته فذهب نحو الجزائر صحبة ولد السلطان وهو مولاي عبد الملك ومعهم
الكاتب أبو عبد الله المدعو الوزير وغيرهم من وجوه الدولة الإسماعيلية فلما قاربوا
الجزائر خرج صاحبها في جنده وقتل ونهب حتى انتهى الخبر إلى فاس بأنهم قتلوا أجمع
وصادف ذلك يوم عاشوراء فحزن الناس لذلك وأمسكوا عن الإنفاق حتى بقي ما عهد أن
يشتري في ذلك اليوم ملقى لما عرا الناس من الغم ثم جاء الخبر بأنهم قادمون بعافية
وأنهم وصلوا إلى تازا ففرح الناس واستأنفوا الإنفاق كيوم عاشوراء ومات بايشي
القبلي فولى السلطان علي زمور وبني حكم ولده أبا الحسن علي بن يشي
ثم دخلت سنة أربع ومائة وألف وفيها تهيأ السلطان للنهوض إلى البربر
____________________
أهل فازاز فاستنفر القبائل وحشد الجيوش واستعد الاستعداد التام بالمدافع والمهاريس
والمجانيق وسائر آلات الحصار فنزل رحمه الله في جند العبيد ببسيط آدخسان ورتب على
البرابر العساكر من كل جهة فبعث الباشا مساهلا في خمسة وعشرين ألفا من الرماة طلع
بها من تادلا على وادي العبيد حتى نزل خلف آيت يسري وبعث علي بن بركات مع آيت يمو
وآيت أدراسن فنزلوا بتغالين وبعث علي بن يشي مع زمور وبني حكم وأمره أن ينزل بعين
شوعة وبعث إلى أهل تدغة وفركلة وغريس والصباح أن يقدموا بجموعهم على علي بن يشي
وبعث إليه مع ذلك بعسكر الطبجية بالمدافع والمهاريس وسائر آلات الحرب وبعث نصارى
العرائش يجرونها على طريق آعليل ثم على قصر بني مطير إلى أن اجتمعوا بعلي بن يشي
على عين شوعة
وضرب السلطان لأمراء الجنود لإنشاب الحرب موعدا معلوما وقال لهم إذا كان وقت
العشاء من ليلة كذا فليأخذ الطبجية في إخراج المدافع والمهاريس بالكور والبنب طول
ليلتهم ليحصل للبربر الدهش فإذا أصبحتم فليقدم كل قائد من ناحيته ولينشب الحرب
ليكون القتال في ساعة واحدة من جميع الجهات ففعلوا ما أشار به عليهم
ولما كانت الليلة المعينة لم يرع البربر إلا رعود المدافع والمهاريس تصعق في الجو
ونيرانها تنقدح في ظلمات الليل وأصداء الجبال تتجاوب من كل ناحية فقامت عليهم
القيامة وظنوا أن الأرض قد زالت بهم فقوضوا أبنيتهم وحملوا عيالاتهم للفرار وصاروا
لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ولما أصبحوا زحف إليهم السلطان من ناحيته وزحفت
إليهم العساكر من باقي الجهات واشتد القتال فانهزموا وتفرقوا في الشعاب والأودية
شذر مدر وصار كل من قصد منهم ثنية أو منفذا وجد العساكر مقبلة منها والمدافع مصوبة
نحوها فحل بهم القضاء وتصرف فيهم البلاء كيف شاء فقتلت رجالهم وسبيت نساؤهم
وأولادهم ونهب أثاثهم وحيزت مواشيهم وأنعامهم واستلبت خيلهم وسلاحهم واستحر القتل
والنهب فيهم
____________________
ثلاثة أيام والعساكر تلتقطهم من الأودية والشعاب وتستخرجهم من الكهوف والغيران
وأمر السلطان قواده مساهلا وعلي بن يشي وعلي بن بركات بجمع رؤوس القتلى وجمع الخيل
والسلاح ويوافوه به لآدخسان فجمعوا ما عثروا عليه من ذلك فكان عدد الرؤوس ينيف على
اثني عشر ألفا وعدد الخيل الفحول ينيف على عشرة آلاف وعدد المكاحل ينيف على ثلاثين
ألفا وبالاستيلاء على هؤلاء البربر كمل للسلطان المولى إسماعيل رحمه الله فتح
المغرب واستولى عليه كله ولم يبق به عرق ينبض وكتب في الديوان من آيت يمور ألف
فارس أنزلهم مع علي بن بركات بقلعة تغالين وأنزل محلتهم على رأس منزل آيت ومالو
ولم يترك لقبيلة من قبائل المغرب خيلا ولا سلاحا وإنما كانت الخيل والسلاح عند
العبيد والودايا وآيت يمور وأهل الريف المجاهدين بسبتة
قال أبو عبد الله أكنسوس رحمه الله وكان المولى إسماعيل رحمه الله ارتكب أخف
الضررين وأدنى المفسدتين في إضعاف قبائل المسلمين بسلب الخيل والسلاح مع أن
المطلوب هو تقويتهم بذلك لمقابلة العدو الكافر قال تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم
من قوة ومن رباط الخيل } الانفال 60 الآية ورأى المولى إسماعيل أنه لما أعد ذلك
العسكر القوي الشديد قام عن المسلمين بواجب وكفاهم كل مؤنة وأراحهم من كلفة القيام
بالخيل والسلاح مع أن الفساد الذي يظهر منهم عند ملك الخيل والسلاح أعظم وذلك بقطع
الطرقات ونهب الأموال وخلع اليد من الطاعة قال وهذا القدر الذي اعتذرنا به عن
السلطان ظاهر غاية الظهور ولعله خفي على الشيخ اليوسي حتى كتب إليه برسالته
المشهورة ا هـ
قلت ما فعله السلطان المولى إسماعيل رحمه الله من ذلك ظاهر المصلحة لا يخفى على
أحد وجد استحسانه ولا يتوهم عاقل أن أهل فازاز ومن في معناهم يتخذون الخيل والسلاح
للجهاد يوما ما فلا يحتاج السلطان رحمه الله في مثل ذلك إلى الاعتذار وقوله أن ذلك
الاعتذار خفي على اليوسي ليس على ما ينبغي لأن الشيخ اليوسي رحمه الله ما تكلم مع
____________________
السلطان في أمر أولئك القبائل ومن في معناهم وإنما كلامه معه في أمور ثلاثة الأول
في جباية المال من وجهه وصرفه في وجهه الثاني في إقامة رسم الجهاد وشحن الثغور
كلها بالمقاتلة والسلاح الثالث في الأنتصاف من الظالم للمظلوم وكف اليد العادية عن
الرعية
ونص هذه الرسالة الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين قطب
المجد ومركزه ومحاز الفخر ومأرزه وأساس الشرف الباذخ ومنبعه ومناط الفضل الشامخ
ومجمعه السلطان الأعظم الأجل الآفخم مولانا إسماعيل ابن مولانا الشريف لا زالت
أعلامه منصورة وأيامه على العز واليمن مقصورة سلام على سيدنا ورحمة الله وبركاته
هذا ولا زائد عندنا سوى المحبة لسيدنا وغاية التعظيم والإجلال والدعاء لسيدنا
بصالح الأحوال وذلك بعض ما أوجبته يده المبسوطة علينا بالبر والإحسان والفضل
والامتنان والتوقير والاحترام والإنعام والإكرام مع ما له علينا وعلى غيرنا من الحقوق
التي أوجبتها منزلته السلطانية ومثابته الطوقية الفاطمية فكتبنا هذه البطاقة وهي
في الوقت منتهى الطاقة وكنا كثيرا ما نرى من سيدنا التشوق إلى الموعظة والنصح
والرغبة في استفتاح أبواب الربح والنجح فأردنا أن نرسل إلى سيدنا ما أن وفق إلى
النهوض إليه رجونا له ربح الدنيا والآخرة والارتقاء إلى الدرجات الفاخرة ورجونا
وإن لم نكن أهلا لأن نعظ أن يكون سيدنا أهلا لأن يتعظ وأن يحتمي من جميع المذام
ويحتفظ فليعلم سيدنا أن الأرض وما فيها ملك لله تعالى لا شريك له والناس عبيد الله
سبحانه وإماء له وسيدنا واحد من العبيد وقد ملكه الله عبيده ابتلاء وامتحانا فإن
قام عليهم بالعدل والرحمة والإنصاف والإصلاح فهو خليفة الله في أرضه وظل الله على
عبيده وله الدرجة العالية عند الله تعالى وإن قام بالجور والعنف والكبرياء
والطغيان والإفساد فهو متجاسر على مولاه في ملكته ومتسلط ومتكبر في الأرض بغير
الحق ومتعرض لعقوبة مولاه الشديدة وسخطه ولا يخفى على سيدنا حال من تسلط على رعيته
يروم تملكهم بغير إذنه كيف يفعل به يوم يتمكن منه ثم
____________________
نقول إن على السلطان حقوقا كثيرة لا تفي بها البطاقة ولنقتصر منها على ثلاثة هي
أمهاتها الأول جمع المال من حق وتفريقه في حق الثاني إقامة الجهاد لإعلاء كلمة
الله وفي معناه تعمير الثغور بما تحتاج إليه من عدد وعدة الثالث الانتصاف من
الظالم للمظلوم وفي معناه كف اليد العادية عليهم منهم ومن غيرهم وهذه الثلاثة كلها
قد اختلت في دولة سيدنا فوجب علينا تنبيهه لئلا يعتذر بعدم الاطلاع والغفلة فإن
تنبه وفعل فقد فاز وذلك صلاح الوقت وصلاح أهله وسبوغ النعمة وشمول الرحمة وإلا فقد
أدينا الذي علينا أما الأمر الأول فليعلم سيدنا أن المال الذي يجبى من الرعية قد
أعد للمصالح التي ينتظم بها الدين وتصلح الدنيا من أهل البيت والعلماء والقضاة
والأئمة والمجاهدين والأجناد والمساجد والقناطر وغير ذلك من المصالح ومثال هؤلاء
كأيتام لهم ديون قد عجزوا عن قبضها إلا بوكيل ومثال الرعية مثل المديان والسلطان
هو الوكيل فإن استوفى الوكيل الدين بلا زيادة ولا نقصان وأداه إلى اليتامى يحسب ما
يجب لكل فقد برىء من اللوم ولم تبق عليه تباعة للمديان ولا لليتيم وحصل له أجران
أجر القبض وأجر الدفع وإن هو زاد على الدين الواجب بغير رضى المديان فهو ظالم له
أو نقص اليتيم من حقه الواجب له فهو ظالم له وكذا إن استوفى الديون وأمسكها ولم
يدفعها لأربابها فهو ظالم فلينظر سيدنا فإن جباة مملكته قد جروا ذيول الظلم على
الرعية فأكلوا اللحم وشربوا الدم وامتشوا العظم وامتصوا المخ ولم يتركوا للناس
دينا ولا دنيا أما الدنيا فقد أخذوها وأما الدين فقد فتنوهم عنه وهذا شيء شهدناه
لاشيء ظنناه ثم إن أرباب الحقوق قد ضاعوا ولم تصل إليهم حقوقهم فعلى السلطان أن
يتفقد الجباة ويكف أيديهم عن الظلم ولا يغتر بكل من يزين له الوقت فإن كثيرا من
الدائرين به طلاب الدنيا لا يتقون الله تعالى ولا يتحفظون من المداهنة والنفاق
والكذب وفي أفضل منهم قال جده أمير المؤمنين مولانا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
المغرور من غررتموه اه وأن يتفقد المصالح ويبسط يد الفضل على خواص الناس من أهل
الفضل والدين والخير ليكتسب محبتهم وثناءهم ونصرهم كما قيل
____________________
( أفاتكم النعماء مني ثلاثة ** يدي ولساني والضمير المحجبا )
وقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ولا يهملهم فيتمنوا غيره ويتطلبوا دولة أخرى
كما قيل
( إذا لم يكن للمرء في دولة امرىء ** نصيب ولا حظ تمنى زوالها )
( وما ذاك من بغض لها غير أنه ** يريد سواها فهو يهوى انتقالها )
وليعلم سيدنا أن السلطان إذا أخذ أموال العامة ونثرها في الخاصة وشيد بها المصالح
فالعامة يذعنون ويعلمون أنه سلطان وتطيب قلوبهم بما يرون من إنفاق أموالهم في
مصالحهم وإلا فالعكس وأيضا السلطان متعرض للسهام الراشقة من دعوة المظلومين من
الرعية فإذا أحسن إلى الخاصة دعوا له بالخير والسلامة والبقاء فيقابل دعاء بدعاء
والله الموفق وأما الأمر الثاني فقد ضاع أيضا وذلك أنه لم يتأت في الوقت إلا عمارة
الثغور وسيدنا قد غفل عنها فقد ضعفت اليوم غاية وقد حضرت بمدينة تطاوين أيام
مولانا الرشيد رحمه الله فكانوا إذا سمعوا الصريخ تهتز الأرض خيلا ورماة وقد بلغني
اليوم أنهم سمعوا صريخا من جانب البحر ذات يوم فخرجوا يسعون على أرجلهم بأيديهم
العصي والمقاليع وهذا وهن في الدين وغرر على المسلمين وإنما جاءهم الضعف من
المغارم الثقيلة وتكليفهم الحركات وإعطاء العدة كسائر الناس فعلى سيدنا أن يتفقد
السواحل كلها من قلعية إلى ماسة ويحرضهم على الجهاد والحراسة بعد أن يحسن إليهم
ويعفيهم مما يكلف به غيرهم ويترك لهم خيلهم وعدتهم ويزيدهم ما يحتاجون إليه فهم
حماة بيضة الإسلام ويتحرى فيمن يوليه تلك النواحي أن يكون أشد الناس رغبة في
الجهاد ونجدة في المضايق وغيرة على الإسلام ولا يولي فيها من همته ملء بطنه
والاتكاء على أريكته والله الموفق
وأما الأمر الثالث فقد اختل أيضا لأن المشعبين للانتصاف بين الناس في البلدان وهم
العمال وخدامهم هم المشتغلون بظلم الناس فكيف يزيل
____________________
الظلم من يفعله ومن ذهب يشتكي سبقوه إلى الباب فزادوا عليه فلا يقدر أحد أن يشتكي
فليتق الله سيدنا وليتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب وليجهد في العدل
فإنه قوام الملك وصلاح الدين والدنيا قال تعالى { إن الله يأمر بالعدل والإحسان
وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي } الآية وقال تعالى { ولينصرن الله
من ينصره إن الله لقوي عزيز } الحج 40 ثم ذكر تعالى المنصورين وشروط النصر فقال {
الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن
المنكر } الحج 41 فضمن تعالى للملوك النصر وشرط عليهم هذه الأمور الأربعة فمتى
اختل عليهم أمر الرعية وتسلط عليهم من يفسد عليهم الدولة فليعلموا أن ذلك من
إخلالهم بهذه الأمور فكان عليهم الرجوع إلى الله تعالى وتفقد ما أمرهم به ورعاية
ما استرعاهم إياه وقد اتفقت حكماء العرب والعجم على أن الجور لا يثبت معه الملك
ولا يستقيم وأن العدل يستقيم معه الملك ولو مع الكفر وقد عاش الملوك من الكفرة
المئين من السنين في الملك المنتظم والكلمة المسموعة والراحة من كل منغص لما كانوا
عليه من العدل في الرعية استصلاحا لدنياهم فكيف بمن يرجو صلاح الدنيا والدين قال
بعض الحكماء الملك بناء والجند أساسه وإذا ضعف الأساس سقط البناء فلا سلطان إلا
بجند ولا جند إلا بمال ولا مال إلا بجباية ولا جباية إلا بعمارة ولا عمارة إلا
بالعدل فالعدل أساس الجميع وقد صنع أرسطوطاليس الحكيم للملك الإسكندر الشكل
المستند عنه وكتب عليه العالم بستان سياجه الدولة الدولة سلطان تعضده السنة السنة
سياسة يسوسها الملك راع يعضده الجيش الجيش أعوان يكفلهم المال المال رزق يجمعه
الرعية الرعية عبيد يقودهم العدل العدل مألوف وبه صلاح العالم العالم بستان إلى
آخره وقال صلى الله عليه وسلم كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته وقال
____________________
صلى الله عليه وسلم إن رجالا يخوضون في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة أو
كما قال وقال صلى الله عليه وسلم ما من وال يلي ولاية إلا جاء يوم القيامة ويداه
مغلولتان فأما عدل يفكه وأما جور يوبقه وعن مولانا علي بن أبي طالب رضي الله عنه
قال رأيت عمر على قتب يعدو به بعيره بالأبطح فقلت يا أمير المؤمنين أين تسير فقال
بعيره من إبل الصدقة شرد أطلبه فقلت أذللت الخلفاء من بعدك فقال لا تلمني فوالذي
بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق لو أن عناقا ضلت بشاطىء الفرات لأخذ بها عمر
يوم القيامة إنه لا حرمة لوال ضيع المسلمين ولا لفاسق روع المؤمنين وقد رأى رضي الله
عنه شيخا يهوديا يسأل على الأبواب فقال ما أنصفناك أخذنا منك الجزية ما دمت شابا
ثم ضيعناك اليوم وأمر أن يجري عليه قوته من بيت المال وليعلم سيدنا أن أول العدل
أن يعدل في نفسه فلا يأخذ لنفسه من المال إلا بحق وليسأل العلماء عما يأخذ وما
يعطي وما يأتي وما يذر وقد كان بنو إسرائيل يكون فيهم الأمير على يد نبي فالنبي
يأمر والأمير ينفذ لا غير ولما كانت هذه الأمة المرحومة انقطعت منها النبوة بنبيها
خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم فلم يبق إلا العلماء يقتدى بهم قال صلى الله عليه
وسلم علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل فكان حقا على هذه الأمة أن يتبعوا العلماء
ويتصرفوا على أيديهم أخذا وعطاء وقد توفي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر رضي
الله عنه وكان قبل ذلك يبيع ويشتري في السوق على عياله فلما بويع أخذ ماله الذي
للتجارة وذهب للسوق على عادته حتى رده علماء الصحابة وقالوا إنك في شغل بأمر
الخلافة عن السوق وفرضوا له ما يكفيه مع عياله وجعلوا المال على يد أمين فكان هو
وغيره فيه سواء يأخذ منه بما اقتضته الشريعة لنفسه ولغيره وهكذا سيرة الخلفاء
الراشدين من بعده فعلى سيدنا أن يقتدي بهؤلاء الفضلاء ولا يقتدي بأهل الأهواء
وليسأل من معه من الفقهاء الثقات كسيدي محمد بن الحسن وسيدي أحمد ابن سعيد وغيرهما
من العلماء العاملين الذين يتقون الله ولا يخافون في الله
____________________
لومة لائم فما أمروه به مما ذكرناه ومما لم نذكره فعله وما نهوه عنه انتهى هذه
طريقة النجاة إن شاء الله تعالى نسأل الله تعالى أن يرزق سيدنا توفيقا وتسديدا
وإرشادا وتأييدا وأن يصلح بوجوده البلاد والعباد وأن يحسم بسيفه أهل الزيغ والعناد
آمين والحمد لله رب العالمين
ولما فرغ السلطان رحمه الله من وقعة فازاز وآيت ومالو دعا علي بن يشي وعقد له على
عشرة آلاف من الخيل وقال له لا أرى وجهك إلا إذا أغرت على كروان وأتيتني منهم بعدد
هذه الرؤوس التي هنا لأنهم كانوا بوادي زيز يعيثون في طريق سجلماسة وينهبون الرفاق
فسار علي بن يشي حتى صبحهم وهم عارون فنهب حللهم ومواشيهم وقتل منهم العدد الكثير
ثم نادى في تلك القبائل كلها من أتى برأس كرواني فله عشرة مثاقيل فصار كل من انحاز
إليه أحد منهم يقطع رأسه ويأتي به إليه واستمر البحث عنهم في المدر والوبر إلى أن
قضى من جماجمهم الوطر ولما اجتمعت عنده أعطى كل من أتى برأس مثقالا واحدا وجاء إلى
السلطان باثني عشر ألف رأس كما اقترح عليه وفق ما اجتمع منها بآدخسان فشكر له فعله
وولاه على قبائل العرب والبربر
ودخلت سنة خمس ومائة وألف فلم يكن فيها شيء يذكر
ثم دخلت سنة ست ومائة وألف ففي ربيع منه خرج المولى زيدان ابن السلطان بالعساكر
قاصدا ناحية تلمسان بعد أن قتل النائب بفاس أبا العباس أحمد السلاوي فقاتل الترك
ونهب ورجع
ثم دخل سنة سبع ومائة وألف فلم يكن فيها شيء يذكر
ثم دخلت سنة ثمان ومائة وألف ففي يوم عرفة منها قدم عشرة رجال من إصطنبول ومعهم
كتاب من السلطان مصطفى بن محمد العثماني صاحب القسطنطينية العظمى إلى السلطان
المولى إسماعيل يندبه إلى الصلح مع أهل الجزائر فانتدب رحمه الله وامتثل
____________________
أمر السلطان المولى إسماعيل
علماء فاس بالكتابة على ديوان العبيد وامتناعهم منها وما نشأ عن ذلك
وفي ذي القعدة من هذه السنة أعني سنة ثمان ومائة وألف ورد كتاب من حضرة السلطان
على القاضي والعلماء بفاس يعاتبهم ويوبخهم على عدم موافقتهم على تمليك العبيد
المثبتين في الديوان ثم ورد كتاب آخر من السلطان يمدح العامة ويذم العلماء ويأمر
بعزل القاضي والشهود كذا في البستان
قال أبو عبد الله أكنسوس هذا الكلام الذي نقله صاحب البستان عن السلطان المولى
إسماعيل رحمه الله فيه نظر فإنه كلام مجمل وقضية جمع العبيد مذكورة مفصلة في
الكناش الكبير الإسماعيلي وفيه تمييز المماليك الأرقاء الذين اشتروا بالثمن على
الوجه الشرعي بخطوط العدول وهؤلاء لا كلام فيهم وأما غيرهم من أهل الديوان
المجلوبون من القبائل العديدة فإن السلطان لم يدع فيهم الملكية وإنما الكلام في
جبرهم على الجندية ووجه السلطان إلى علماء المشرق والمغرب السؤالات عن ذلك فكتبوا
إليه الأجوبة المتضمنة للجواز بخطوطهم وكل ذلك في الكناش المذكور مبسوطا وهو شيء
كثير وحاشى الله مقام السلطان المولى إسماعيل رحمه الله أن يدعى تملك الأحرار وقد
تقدم كلام الشيخ اليوسي وبيان ما أنكر على السلطان ولو كان ما ذكر الصياني متصفا
به السلطان المذكور لكان ذلك أول ما ينكره اليوسي ولا يسعه السكوت عليه مع أنه
أنكر ما هو أقل من ذلك وأخف بمراتب نعم في الكناش طوائف معروفة متميزة ثبت عند
السلطان المذكور أنهم كانوا أرقاء للمنصور السعدي فلما انقرضت الدولة السعدية
تفرقوا في الأقطار وهم الذين تقدم الكلام عليهم في دفتر عليليش وقد وقع البحث عن
رقيتهم وسئل أهل الأسنان من كل قبيلة فعينوا الرقيق من غيره فثبت ذلك كله عند
السلطان ومع ذلك لم يدخلهم في الأرقاء الخلص الذين اشتروا بالثمن بل ميزهم على حدة
فكان ذلك الجند عنده على
____________________
ثلاث مراتب المرتبة الأولى خالص الرقية المرتبة الثانية خالص الحرية المرتبة
الثالثة واسطة بينهما اه والله تعالى أعلم تفريق المولى إسماعيل رحمه الله أعمال
المغرب على أولاده وما نشأ عن ذلك
لما كانت سنة إحدى عشرة ومائة وألف فرق السلطان المولى إسماعيل رحمه الله أعمال
المغرب على أولاده فعقد لابنه المولى أحمد على تادلا وأنزله بقصبتها ورتب معه
ثلاثة آلاف من العبيد حامية بها وأمره أن يزيد في تلك القصبة فبنى قصبة جديدة وبنى
بها قصره وبنى مسجدا أعظم من مسجد أبيه بالقصبة الأولى واستقر بها
وعقد لابنه المولى عبد الملك على درعة وأعمالها وانزله بقصبتها ورتب معه ثلاثة
آلاف من الخيل
وعقد لابنه المولى محمد المدعو بالعالم على إقليم السوس ورتب معه ألف فارس
وعقد لابنه المأمون الكبير الذي كان بمراكش على سجلماسة وأعمالها نقله من مراكش
إليها وأنزله بقصبته التي بناها له بتيزيمي ورتب معه خمسمائة من الخيل وبعد سنتين
توفي الملك المأمون فولى السلطان مكانه ابنه المولى يوسف
وعقد لابنه المولى زيدان على بلاد الشرق فكان يغير على رعايا الترك إلى أن شردهم
عن نواحي تلمسان وانتهى في بعض أيام غاراته إلى مدينة معسكر فاقتحمها وانتهب دار
أميرها عثمان باي وأخذ ما فيها من الفرش والخرثى والأدام وغير ذلك لمغيب عثمان
عنها في بعض غزواته فانتهز المولى زيدان فيها الفرصة فكان ذلك سبب عزله عن الشرى
وتوليه أخيه المولى حفيد مكانه لأن السلطان رحمه الله لم يرض فعله ونهبه لدار
الباي
____________________
للصلح الذي كان انعقد بينه وبين السلطان مصطفى العثماني كما مر
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائة وألف فيها غزا السلطان بلاد الشرق وحارب الترك بها
لانتقاض الصلح الذي كان بينه وبينهم بسبب غارات المولى زيدان المتقدمة ولما قفل
السلطان من وجهه هذه هلك من جنده أثناء الطريق عدد كبير من العطش فمن أهل فاس
بالخصوص أربعون نفسا سوى من هلك من غيرهم وفي هذه السنة قتل القائد عبد الخالق بن
عبد الله الروسي صاحب فاس عبدا من عبيد دار السلطان دخل عليه بغير إذنه فقتله فبعث
السلطان ولده المولى حفيدا من مكناسة إلى فاس ليأتيه به فاستشفع إليه عبد الخالق
بالعلماء والأشراف فلم يقيده المولى حفيد وذهب به مسرحا فلما دخل على السلطان
بمكناسة عفا عنه ورجع إلى فاس سالما
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائة وألف فيها استدعى السلطان عبد الخالق الروسي من فاس
فلما قدم عليه قتله وبعث ابنه المولى زيدان إلى فاس وبعث معه حمدون بن عبد الله
الروسي واليا عليها بدلا من أخيه المقتول والله أعلم تنازع أولاد السلطان وثورة
المولى محمد العالم منهم بالسوس ومقتله
لما دخلت سنة أربع عشرة ومائة وألف وصل المولى عبد الملك بن السلطان صاحب درعة إلى
ضريح المولى إدريس الأكبر بزرهون مهزوما لاستيلاء أخيه المولى أبي النصر على درعة
وتغلبه على تلك النواحي فبعث السلطان ولده المولى الشريف إلى درعة واليا عليها
فثار المولى محمد العالم ببلاد السوس ودعا لنفسه وزحف إلى مراكش فحاصرها في رمضان من
السنة المذكورة وفي العشرين من شوال اقتحمها عنوة بالسيف فقتل
____________________
ونهب ولما اتصل خبره بالسلطان بعث ولده المولى زيدان في العساكر لقتاله فقدم مراكش
فصادف المولى محمدا قد خرج عنها وعاد إلى تارودانت ولما احتل المولى زيدان بمراكش
عاثت عساكره فيها ثم تبع أخاه المولى محمدا العالم إلى السوس فنزل على تارودانت
واتصلت الحرب بينهما إلى أن دخلت سنة خمس عشرة ومائة وألف وفيها قدم المولى حفيد
حضرة فاس الجديد ووظف على أهل فاس مغرما ثقيلا وجاء الزعيم واليا عليها ثم عزل
وولى مكانه أبو علي الروسي فقتل أناسا وصلبهم وفي متم شوال من السنة المذكورة مات
المولى حفيد بفاس الجديد هذا كله والحرب قائمة بين المولى زيدان والمولى محمد
العالم
ثم دخلت سنة ست عشرة ومائة وألف ففي ثالث صفر منها ورد أمر السلطان على فاس بأن
تعطى كل عتبة عظم سرج ولا يحرر من ذلك أحد كائنا من كان
وفي الحادي والعشرين من صفر المذكور ورد الخبر باستيلاء المولى زيدان على تارودانت
وقبضه على أخيه المولى محمد العالم بعد محاربته له ثلاث سنين هلك فيها أمم وقواد
ورؤساء وأعيان يطول ذكرهم ولما دخلها المولى زيدان عنوة قتل جميع من بها حتى
النساء والصبيان هكذا في البستان وفي رابع ربيع الأول من السنة وصل المولى محمد
العالم مقبوضا عليه إلى وادي بهت فبعث السلطان من قطع يده ورجله من خلاف بعقبة بهت
ولما وصل إلى مكناسة خامس عشر الشهر المذكور هلك رحمه الله
قال أبو عبد الله أكنسوس لما توفي المولى محمد العالم صلى عليه القاضي أبو عبد
الله محمد العربي بردلة فنقم عليه ذلك بعض الحسدة وأوغر قلب السلطان عليه وقال له
إنه يبغضك ولولا شدة بغضه لك ما نازع إلى الصلاة على عدوك الذي ثار عليك ورام نزع
الملك من يدك فكتب السلطان إلى القاضي بردلة يتهدده ويوبخه فأجابه القاضي بأن
صلاته نظيرة صلاة الحسن البصري على الحجاج بن يوسف فلما ليم على ذلك قال استحييت
من الله تعالى أن أستعظم ذنب الحجاج في جنب كرم الله الغفور الرحيم
____________________
على أنني ما صليت عليه بغير إذن بل خرج الإذن من الدار المولوية وبلغ ذلك مبلغ
الشهرة التي لم يبق معها شك وذلك على لسان مترجم ينسب الأمر إلى الجانب المولوي
فلا افتيات بعد ذلك بل الواجب هو القيام بذلك ولو بغير إذن إجلالا وتعظيما لجانب
مولانا نصره الله ولما قال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في
قضية الحديبيه امح لفظة رسول الله قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه والله لا
أمحوه أبدا فتعارض وجوب امتثال أمر الرسول بالمحو ووجوب الإجلال لمقامه الأرفع
فرجح رضي الله عنه وجوب الإجلال ثم الصحيح أن الحدود كفارات ففي الصحيح عن عبادة
بن الصامت رضي الله عنه ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له اه
باختصار
قال أكنسوس وكانت هذه القضية من الفتن العظيمة بالمغرب عمت أهل القطر السوسي وخصت
أعيان غيرهم من العلماء الذين كانوا يخالطون المولى محمد العالم لولا لطف الله
تعالى فإن الشيخ أبا عبد الله المسناوي الدلائي كان من أخص الناس بالمولى محمد
فوشى به إلى السلطان وقيل له إنه من شدة اتصاله به لا يغيب عنه عزمه على القيام
عليك فهو إذا موافق له على ذلك فبادر بعض أصحاب السلطان ممن كان يجنح للمسناوي
بالاعتذار عنه بأنه كان ينهاه عن القيام وأنشد للمسناوي في ذلك
( مهلا فإن لكل شيء غاية ** والدهر يعكس حيلة المحتال )
( فالبدر ليس يلوح ساطع نوره ** والشمس فاهرة السنا في الحال )
( فإذا توارت بالحجاب فعند ذا ** يبدو بدو تعزز وجمال )
فوقع ذلك من السلطان وتحقق براءة الشيخ رحم الله الجميع قال أكنسوس وقولنا عمت أهل
القطر السوسي لأن ظهوره التام إنما كان هنالك ولأن جل من ينتسب إلى العلم والصلاح
منهم كانوا معه موافقين له ومؤيدين فعله اه قال في نشر المثاني كان المولى محمد
العالم ماهرا في فنون شتى كالنحو والبيان والمنطق والكلام والأصول وكان ينفعل
للشعر وتأخذه
____________________
أريحية الأدب وكتب له أخوه مولاي الشريف في صدر كتاب بعث به إليه ما خاطب به سيف
الدولة بن حمدان أخاه ناصر الدولة
( رضيت لك العليا وإن كنت أهلها ** وقلت لهم بيني وبين أخي فرق )
( أما كنت ترضى أن أكون مصليا ** إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق )
فاقترح المولى محمد على الشيخ أبي عبد الله المسناوي أن ينوب عنه في الجواب لأنه
كان في جملة الوافدين عليه حينئذ فقال رحمه الله
( بلى قد رضيت أن تكون مجليا ** ويتلو نداكم في العلا من له السبق )
( ومالي لا أرضى لك المجد كله ** وأنت شقيق النفس إن عرف الحق )
( ولكن ذوو الضغن انتحوا ذات بيننا ** فغادرنا إفسادهم وبها رفق )
وفي هذا التاريخ أعني سنة سبع عشرة ومائة وألف انتزع النجليز جبل طارق من يد
الإصبنيول حاصره ثلاثة أيام برا وبحرا في جند يسير فملكه لاشتغال الإصبنيول يومئذ
عنه بأمر الفتنة التي حدثت في ملكه ولما ملكه النجليز عظم ذلك على أجناس الفرنج
خصوصا الإصبنيول والفرنسيس ورأوا أن النجليز قد ملك عليهم باب أوروبا ولذا حاصروه
مرارا فلم يحصلوا منه على طائل واستمر في يده إلى الآن
ولما دخلت سنة تسع عشرة ومائة وألف ورد الخبر بموت المولى زيدان ابن السلطان
بتارودانت وحمل في تابوت إلى مكناسة فدفن ليلا إلى جانب أخيه المولى محمد العالم
وفي هذه السنة أمر السلطان بهدم قصر البديع الذي بناه المنصور السعدي بقصبة مراكش
وقد تقدم الكلام عليه قال اليفرني في النزهة ومن العجائب أنه لم يبق بلد من بلاد
المغرب إلا ودخله شيء من أنقاض البديع اه
ثم دخلت سنة عشرين ومائة وألف فيها افتتح الترك مدينة وهران وكانت بيد الإصبنيول
مدة فردها الله على المسلمين يومئذ وفيها أمر السلطان بقراءة حديث الإنصات يوم
الجمعة عند خروج الخطيب وجلوسه على المنبر
____________________
محنة الفقيه أبي محمد عبد
السلام ابن حمدون بسوس رحمه الله
قد تقدم لنا ما كان من أمر السلطان المولى إسماعيل رحمه الله لعلماء عصره بالكتابة
على ديوان العبيد وامتناعهم من ذلك ولما كانت سنة عشرين ومائة وألف تجددت المحنة
وألزم الرئيس أبو محمد عبد الله الروسي فقهاء فاس أن يكتبوا على الديوان المذكور
فمن كتب نجا ومن أبى قبض عليه ثم قبض على أولاد جسوس واستلب أموالهم وأجلس فقيههم
الشيخ أبا محمد عبد السلام بن حمدون جسوس بالسوق مقيدا يتطلب الفداء ثم حمل مسجونا
إلى مكناسة
ودخلت سنة إحدى وعشرين ومائة وألف فعفا السلطان عن الفقيه المذكور وسرحه وبعث به
إلى فاس ليزعج الحراطين الذين بها إلى مكناسة فقدم وأزعجهم في ربيع الأول من السنة
المذكورة ثم كان عاقبة الفقيه المذكور أن قتله القائد أبو علي الحسن بن عبد الخالق
الروسي فمن الناس من يقول إن ذلك كان بأمر السلطان ومنهم من يقول بغير أمره اه وقد
وقفت على تقييد بخط شيخنا الفقيه أبي عبد الله محمد بن عبد العزيز محبوبة السلاوي رحمه
الله وكان واعية يقول فيه إن امتحان الفقيه أبي محمد جسوس كان من أجل امتناعه من
الموافقة على ديوان الحراطين الذي اخترعه عليليش المراكشي للسلطان الجليل المولى
إسماعيل رحمه الله حسبما هو مشهور فهجاه بعض السفهاء وهجا فاسا من أجله وحقد عليه
السلطان فاستصفى عامة أمواله وأجرى عليه أنواع العذاب وبيعت دوره وأصوله وكتبه
وجميع ما يملك هو وأولاده ونساؤه ثم صار يطاف به في الأسواق وينادى عليه من يفدي
هذا الأسير والناس ترمي عليه بالدراهم والحلى وغير ذلك من النفائس أياما كثيرة
فيذهب الموكلون به بما يرمى عليه حيث ذهبوا بأمواله وبقي على ذلك قريبا من سنة
فكان في ذلك محنة عظيمة له ولعامة المسلمين وخاصتهم ولما دنا وقت شهادته رحمه الله
وقد أيس من
____________________
نفسه كتب بخطه رقعة وأذاعها في
الناس يقول فيها ما نصه الحمد لله يشهد الواضع اسمه عقبه على نفسه ويشهد الله
تعالى وملائكته وجميع خلقه أني ما امتنعت من الموافقة على تمليك من ملك من العبيد
إلا لأني لم أجد له وجها ولا مسلكا ولا رخصة في الشرع وأني إن وافقت عليه طوعا أو
كرها فقد خنت الله ورسوله والشرع وخفت من الخلود في النار بسببه وأيضا فإني نظرت
في أخبار الأئمة المتقدمين حين أكرهوا على ما لم يظهر لهم وجهه في الشرع فرأيتهم
ما آثروا أموالهم ولا أبدانهم على دينهم خوفا منهم على تغيير الشرع واغترار الخلق
بهم ومن ظن بي غير ذلك وافترى على ما لم أقله وما لم أفعله فالله الموعد بيني
وبينه وحسبنا الله ونعم الوكيل والسلام وكتب عبد السلام بن حمدون جسوس غفر الله
ذنبه وستر في الدارين عيبه صبيحة يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الثاني سنة
إحدى وعشرين ومائة وألف اه
ثم بعد ذلك بيومين أمر أبو علي الروسي بقتله فقتل رحمه الله خنقا بعد أن توضأ وصلى
ما شاء الله ودعا قرب السحر من ليلة الخميس الخامس والعشرين من ربيع الثاني من
السنة المذكورة ودفن ليلا على يد القائد أبي علي الروسي انتهى ما وجدناه مقيدا
واعلم أن قضية الفقيه أبي محمد رحمه الله من القضايا الفظيعة في الإسلام والأسباب
التي أثارتها أولا وأكدتها ثانيا حتى نفذ أمر الله فيما قضاه وقدره في أزله بعضها
ظاهر وبعضها خفي الله أعلم بحقيقته غير أن المعروف من حال الفقيه المذكور هو
الصلابة في الدين والورع التام وناهيك بشهادته هذه دليلا على ذلك وقضيته قد تعارضت
فيها الأنقال ودخلها التعصب فلا يوقف منها على تحقيق وغفران الله وراء الجميع فإنه
تعالى أهل التقوى وأهل المغفرة قال أبو عبد الله أكنسوس وقد جرى ذكر قضية الفقيه
أبو محمد عبد السلام هذا بمجلس السلطان المرحوم المولى سليمان ابن محمد فقال ما
قتله مولانا إسماعيل وإنما قتله أهل فاس قال ولم يمكنا أن نسأله عن حقيقة ذلك اه
وفي شعبان من السنة المذكورة عزل
____________________
السلطان أبا علي الروسي عن فاس وولي مكانه حمدون الروسي ثم بعد مدة يسيرة أخر
حمدون وأعيد أبو علي وفيها قدم عبد الله الروسي ومعه أمر السلطان ببيع أصول
المجاورين بالمشرق يعني بالحرمين الشريفين ثورة المولى أبي النصر ابن السلطان
بالسوس ومقتله رحمه الله
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف فيها ثار أبو النصر ابن السلطان المولى
إسماعيل ببلاد السوس وخب في الفتنة ووضع
وفي سنة أربع وعشرين ومائة وألف سرح السلطان كاتبه الخياط بن منصور من السجن وولاه
درعة
وفي سنة خمس وعشرين بعدها قتل السلطان الخياط المذكور وأخاه عبد الرحمن وفيها ورد
الخبر على السلطان بأن أولاد دليم من عرب السوس قد قتلوا ولده المولى أبا النصر
الثائر بها
وفي سنة ست وعشرين ومائة وألف قتل السلطان القائد أبا الدشيش وثلاثة من القواد معه
وسبعة عشر من العبيد بمشرع الرملة وفي جمادى الأولى من سنة سبع وعشرين ومائة وألف
توفيت الحرة عائشة مباركة زوج السلطان وهي أم ولده المولى أبي الحسن علي الآتي
ذكره
وفي سنة تسع وعشرين ومائة وألف سافر ولد السلطان وهو المولى أبو مروان بن إسماعيل
إلى الحجاز بقصد الحج وفي رمضان منها بعث والي وجدة إلى الحضرة مائة رأس من رؤوس
بني يزناسن
وفي سنة ثلاثين ومائة وألف ورد كتاب من السلطان إلى فاس يتضمن تحرير أهل فاس من
الكلف كلها ثم ورد عقبه كتاب آخر يوبخهم فيه ويخيرهم بين أن يكونوا جيشا أو نائبه
فقال رجل منهم يدعى ولد الصحراوي إنما يكون الكلام أمام السلطان فقتل وأصبح مصلوبا
فبلغ ذلك السلطان فقبض على أبي علي الروسي وأصحابه وولي على فاس
____________________
حمدون الروسي ثم بعد ذلك عمد حمدون الروسي إلى عبد الخالق بن يوسف فقتله فقبض
السلطان عليه وعلى أخيه مسعود وولي على فاس حمو قصارة ثم بعد أيام قدم أبو علي
الروسي واليا على فاس وفي هذه السنة ورد الخبر بموت المولى أبي مروان بالمشرق
وفيها عزل السلطان أولاده عن الأعمال كلها ولم يترك إلا ولي العهد المولى أحمد
بتادلا ثم بعث ولده المولى عبد الملك إلى مراكش وولاه قطر السوس واستقامت الأمور
وسكنت الرعية وهدأت البلاد واشتغل السلطان ببناء قصوره وغرس بساتينه والبلاد في
أمن وعافية تخرج المرأة والذمي من وجدة إلى وادي نول فلا يجدان من يسألهما من أين
ولا إلى أين مع الرجاء المفرط فلا قيمة للقمح ولا للماشية والعمال تجبي الأموال
والرعايا تدفع بلا كلفة وصار أهل المغرب كفلاحي مصر يعملون ويدفعون في كل جمعة أو
شهر أو سنة ومن نتج فرسا رباه حتى إذا بلغ أن يركب دفعه إلى العامل وعشرة مثاقيل
معه ثمن سرجه هذا إذا كان المنتوج ذكرا فإذا كان أنثى ترك له ويدفع للعامل مثقالا
واحدا ولم يبق في هذه المدة بأرض المغرب سارق ولا قاطع طريق ومن ظهر عليه شيء من
ذلك وفر في القبائل قبض عليه بكل قبيلة مر عليها أو قرية ظهر بها فلا تقله أرض حتى
يؤتى به أينما كان وكلما بات مجهول حال بحلة أو قرية ثقف بها إلى أن يعرف حاله ومن
تركه ولم يحتط في أمره أخذ بما اجترحه وأدى ما سرقه أو اقترفه من قتل أو غيره
وكانت أيامه رحمه الله غزيرة الأمطار كثيرة البركة في الحراثة والتجارة وغيرهما من
أنواع المعاش مع الأمن والخصب والرخاء المحتد بحيث لم يقع غلاء طول أيامه إلا مرة
واحدة فبلغ القمح في أيامه ست أواق للمد والشعير ثلاث أواق للمد ورأس الضأن ثلاث
أواق ورأس البقر من المثقال إلى المثقالين سائر أيام الرخاء والسمن والعسل رطلان
بالموزونة والزيت أربعة أرطال بالموزونة هكذا نقله صاحب البستان وهو مخالف لما
سيأتي في الحوادث من أن الجدب والغلاء قد بلغا مبلغهما أعوام التسعين وألف ولعل ما
ذكره صاحب البستان كان في آخر دولة السلطان المذكور
____________________
حسبما هي عادة الله تعالى في
مثل ذلك غالبا والله تعالى أعلم بناء ضريحي الإمامين إدريس الأكبر والأصغر رضي
الله عنهما
لما كانت سنة اثنتين وثلاثين ومائة وألف أمر السلطان رحمه الله بهدم قبة ضريح
المولى إدريس الأكبر رضي الله عنه بزاوية زرهون وشراء الأصول المجاورة له من جهاته
الأربع وهدمها وزيادتها فيه فهدمت القبة وجميع ما حولها وأعيدت على هيئة بديعة
واستمر البناء والعمل في المشهد الشريف إلى أن تم سنة أربع وثلاثين ومائة وألف
هكذا في البستان وغيره وقال في نشر المثاني وفي سنة اثنتين وثلاثين ومائة وألف أمر
السلطان المظفر المولى إسماعيل بتجديد بناء مقام مولانا إدريس الأصغر باني فاس حيث
ضريحه بها وأمر ببناء قبته التي هي عليه الآن بما اشتملت عليه من المحاسن التي يعز
وجودها وأمر بتوسعة صحن المسجد على ما هو عليه اليوم من الهيئة التي لا نظير لها
بفاس وتم تسقيف القبة في آخر ذي الحجة من العام المذكور ثم أمر رحمه الله بإقامة
الجمعة فيه فهي تقام فيه من يومئذ جعل الله ذلك في ميزان الآمر به والمتولي له
آمين
وفي سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف مات القائد عبد الله الروسي بمكناسة وفيها غضب
السلطان على أهل فاس وبعث إليهم حمدون الروسي وأخاه أبا علي وأمرهم بمصادرتهم وقبض
المال منهم فبعثوا علماءهم وأشرافهم للشفاعة فلم يقبل وشرعوا في دفع المال حتى لم
يعرف له عدد ولم يسلم من الغرامة أحد وتغيب الناس في تلك المدة وخلت المدينة من
ذوي اليسار
وفي هذه السنة أيضا في المحرم منها خرج عسكر الإصبنيول من سبتة على حين غفلة من
المسلمين فضربوا في محلتهم واستولوا عليها وعلى خباء القائد أبي الحسن علي بن عبد
الله الريفي ونهبوا وقتلوا وسلبوا
____________________
وحازوا شبارات المسلمين وعساتهم وحازوا قصبة آفراك واستشهد من المسلمين نحو ألف
ورجعوا عودهم على بدئهم إلى سبته ومنها ركبوا البحر إلى جزيرتهم ولم يبق بسبتة إلا
سكانها ثم كانت الكرة للمسلمين عليهم بعدها فبقي بأيدي المسلمين منهم نحو ثلاثة
آلاف
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة وألف ففي المحرم منها مات الباشا غازي بن شقراء
صاحب مراكش بوجدة وفي صفر منها مات باعزيز بن صدوف صاحب تارودانت وفيها انتقل
المولى عبد الملك بن السلطان إلى تارودانت فاستقر بها إلى أن كان من أمره ما نذكره
عند التعرض لدولته إن شاء الله وفاة أمير المؤمنين المولى إسماعيل رحمه الله
كانت أيام أمير المؤمنين المولى إسماعيل رحمه الله على ما ذكرنا من الأمن والعافية
وتمام الضبط حتى لم يبق لأهل الذعارة والفساد محل يأوون إليه ويعتصمون به ولم
تقلهم أرض ولا أظلتهم سماء سائر أيامه فقد كان خليفة ونائبا عن أخيه المولى الرشيد
سبع سنين وسلطانا وملكا مستقلا سبعا وخمسين سنة حتى كان جهلة الأعراب يعتقدون أنه
لا يموت ويقال إن البعض من أولاده كانوا يستبطئون موته ويعبرون عنه بالحي الدائم
وهذه المدة التي استوفاها المولى إسماعيل في الملك والسلطان لم يستوفها أحد من
خلفاء الإسلام وملوكه سوى المستنصر العبيدي صاحب مصر فإنه أقام في الخلافة ستين
سنة لكن لا سواء فإن المولى إسماعيل رحمه الله استوفى مدة الخلافة بثمرتها وتملاها
بكمال لذتها لأنه وليها في إبان اقتداره عليها واضطلاعه بها بعد سن العشرين كما مر
لا في مدة النيابة ولا في مدة الاستقلال ولم يكن عليه استبداد لأحد ولا نغص عليه
دولته منغص سوى ما كان من ثورة ابن محرز وابنه المولى محمد العالم ومن سلك سننهم
من القرابة وكلهم كان يشغب في الأطراف لم يحصل منهم
____________________
كبير ضرر للدولة بخلاف المستنصر العبيدي فإنه ولي وهو ابن سبع سنين فكان في صدر
دولته تحت الاستبداد وحدث في أيامه الغلاء العظيم
قال ابن خلكان وهو غلاء لم يعهد مثله بمصر منذ زمان يوسف عليه الصلاة والسلام
واستمر سبع سنين أكل الناس فيها بعضهم بعضا وبيع رغيف واحد بخمسين دينارا وكان
المستنصر في هذه الشدة يركب وحده وكل من معه من الخواص مترجلون ليس لهم دواب
يركبونها وكانوا إذا مشوا يتساقطون في الطرقات من الجوع إلى غير ذلك فلذا قلنا لا
يستوي حال ملك المولى إسماعيل وملك المستنصر رحمهما الله
ولما كانت سنة تسع وثلاثين ومائة وألف مرض أمير المؤمنين المولى إسماعيل مرض موته
قال في نشر المثاني كان ابتداء مرضه في ثاني يوم من جمادى الأولى من السنة
المذكورة ولما أحس بالضعف بعث إلى ولده المولى أحمد صاحب تادلا يستقدمه فقدم عليه
وأقام ثلاثا ثم اخترمته المنية رحمه الله يوم السبت الثامن والعشرين من رجب سنة
تسع وثلاثين ومائة وألف وتولى غسله الفقيه أبو العباس أحمد بن أبي القاسم العميري
وصلى عليه الفقيه العلامة أبو علي الحسن بن رحال المعداني ودفن بضريح الشيخ
المجذوب رضي الله عنه من حضرة مكناسة
قال في البستان كان السلطان المولى إسماعيل قد عهد بالأمر إلى ولده المولى أحمد
المذكور وكان يعبر عنه بولي العهد وأنكر أكنسوس أن يكون السلطان المذكور قد عهد
لأحد من أولاده قال كما أخبرنا بذلك السلطان العالم المولى سليمان بن محمد رحمه
الله مرارا وكان يحكى في ذلك خبرا وهو أن المولى إسماعيل لما أيقن بالموت دعا
وزيره وعالم حضرته الكاتب أبا العباس اليحمدي وقال له إني في آخر يوم من أيام
الدنيا فأحببت أن تشير علي بمن أقلده هذا الأمر من ولدي لأنك أعرف بأحوالهم مني
فقال له يا مولانا لقد كلفتني أمرا عظيما وأنا أقول الحق أنه لا ولد لك تقلده أمر
المسلمين كان لك ثلاثة المولى محرز والمولى المأمون والمولى محمد فقبضهم الله إليه
فقال له السلطان جزاك الله خيرا وودعه
____________________
وانصرف ولم يعهد لأحد وإنما
العبيد كانوا يقدمون من شاؤوا ويؤخرون من شاؤوا وكان المولى سليمان رحمه الله يحكي
ذلك عندما يعرض له ذكر أولاده هو والله أعلم بقية أخبار المولى إسماعيل رحمه الله
ومآثره وسيرته
قال اليفرني في النزهة لم يزل أمير المؤمنين إسماعيل رحمه الله في مقارعة أعدائه
إلى أن دوخ بلاد المغرب كلها واستولى على سهلها ووعرها واستولى على تخوم السودان
وانتهى منها إلى ما وراء النيل وانتشرت دولته في عمائرها وبلغ من ذلك ما لم يبلغه
المنصور السعدي وامتدت مملكته في جهة الشرق إلى بسكرة من بلاد الجريد ونواحي
تلمسان والله أعلم حيث يجعل رسالاته اه وقال في البستان كان للمولى إسماعيل من
الولد على ما تواتر به الخبر خمسمائة ولد ذكر ومن البنات مثل ذلك أو قريب منه قال
والذي عقب من أولاده على ما رأيناه عيانا في دفتر السلطان المولى محمد بن عبد الله
إذ كان يصلهم في كل سنة وكان يبعثني لتفرقة الصلة عليهم بسجلماسة مائة دار وخمس
دور كلها لأولاده لصلبه وأما الذين لم يعقبوا أو عقبوا وأنقطع نسلهم فليسوا في
الدفتر وأما الحفدة والأسباط فكان عددهم في أيام السلطان المولى محمد بن عبد الله
ألفا وخمسمائة وستين وقد زادوا اليوم في دولة السلطان المولى سليمان بن محمد ولم يزل
يصلهم إلى الآن على ما في دفتر والده ومن زاد يزاد له قال وأما ما أدركناه من
أولاد المولى إسماعيل لصلبه في دولة السلطان المولى محمد فثمانية وعشرون رجلا
نعرفهم بالاسم والعين ومن بناته لصلبه مثل ذلك قد أنزلهن السلطان بقصر حمو بن بكة
ورتب لهن المؤنة والكسوة والصلة في كل سنة وأنزل معهن الحوافد اللاتي لا أزواج لهن
وكل واحدة من هذه الدور المائة
____________________
والخمس التي بسجلماسة لواحد من
أولاد صلبه لأنه كان رحمه الله إذا رأى أحدا من أولاده الذين لم يرد إقامتهم معه
بالمغرب قد بلغ أرسله إلى سجلماسة وبني له بها قصرا أو دارا وأعطاه نخلا وأرضا
للحراسة والفلاحة ومماليك يقومون له بخدمة أصله وحراثة أرضه في الشتاء والصيف
ويعطي كل واحد من ذلك على قدر مرتبته عنده ومنزلة أمه منه فتناسلت أولادهم ونمت
فروعهم ووفر الله جمعهم وحفظ نظامهم وكان رحمه الله سديد النظر في نقل أولاده
بأمهاتهم من مكناسة إلى تافيلالت مع بني عمهم من الأشراف ليتدربوا على معيشتها
التي تدوم لهم فكان ذلك صونا لهم من نكبات الدهر وفضيحة الخصاصة بعد موته وزوال
النعمة وانزواء رداء الملك الساتر لهم بين العامة فنجحوا وأفلحوا بخلاف إخوانهم
الذين ربوا بمكناسة واستمروا بها إلى أن توفي والدهم وألفوا عوائدهم ومرنوا على
شهواتهم فإنهم لم ينم لهم نسل كإخوانهم الذين بالصحراء هذا ما يتعلق بنسل السلطان
المولى إسماعيل
وأما مبانيه بقلعة مكناسة وقصوره ومساجده ومدارسه وبساتينه فشيء فوق المعهود بحيث
تعجز عنه الدول القديمة والحادثة من الفرس واليونان والروم والعرب والترك فلا يلحق
ضخامة مصانعه ما شيده الأكاسرة بالمدائن ولا الفراعنة بمصر ولا ملوك الروم برومة
والقسطنطينية ولا اليونان بأنطاكية والإسكندرية ولا ملوك الإسلام ودولة العظام
كبني أمية بدمشق وبني العباس ببغداد والعبيديين بإفريقيا ومصر والمرابطين
والموحدين وبني مرين والسعديين بالمغرب وما بديع المنصور بقصر من قصوره ولا بستان
المسرة بأحد بساتينه فقد كان عنده بجنان حمرية مائة ألف قعدة من شجر الزيتون وحبسه
كله على الحرمين الشريفين ومرت عليه بعد وفاته العصور وأيام الفترة والفتن والناس
يحتطبونه فلم يظهر فيه أثر من ذلك ولما بويع السلطان المولى محمد بن عبد الله
أحياه وأجرى الماء إليه وأمر بإحصاء ما بقي من شجرة فوجدوه ستين ألفا فكان رحمه
الله يبعث بثمن غلته إلى الحرمين تنفيذا لمراد جده وكذا ابنه المولى سليمان رحمه
الله
____________________
قال صاحب البستان ولقد شاهدت الكثير من آثار الدول فما رأيت أثرا أعظم من آثاره
ولا بناء أضخم من بنائه ولا أكثر عددا من قصوره لأن هؤلاء الدول كان من اعتنى منهم
بأمر البناء غاية أمره أن يبني قصرا ويتأنق في تشييده وتنجيده وهذا السلطان لم
يقتصر على قصر ولا على عشرة ولا عشرين بل جعل مباني العالم كلها في بطن تلك القلعة
المكناسية كما قيل كل الصيد في جوف الفرأ هذا كلام صاحب البستان رحمه الله ثم قال
وكان في سجونه من الأسارى خمسة وعشرون ألفا ونيفا كانوا يعملون في بناء قصوره منهم
الرخامون والنقاشون والنجارون والحدادون والمنجمون والمهندسون والأطباء ولم تسمح
نفسه قط بفداء أسير
وكان في سجونه من أهل الجرائم كالقاتل والمحارب والسارق نحو الثلاثين ألفا تظل في
العمل مع أسرى الكفار ويبيتون في السجون والأهراء تحت الأرض ومن مات منهم دفن في
البناء حتى لم يبق بالمغرب من أهل الفساد عرق ينبض ومما مدح به المولى إسماعيل
رحمه الله قول الفقيه الأديب أبي عبد الله محمد بن عبد الله الجزولي من قصيدة له
( مولاي إسماعيل يا شمس الورى ** يا من جميع الكائنات فدى له )
( ما أنت إلا سيف حق منتضى ** الله من دون البرية سله )
( من لا يرى لك طاعة فالله قد ** أعماه عن طرق الهدى وأضله )
ولنذكر ما سلف في هذه المدة من الأحداث
ففي سنة إحدى وسبعين وألف توفي الشيخ أبو عبد الله سيدي محمد المفضل بن الشيخ أبي
العباس أحمد المرسي ابن الشيخ الأكبر أبي عبد الله سيدي محمد الشرقي كان رحمه الله
صالحا خيرا من فضلاء عصره حافظا للقرآن بالسبع قد اشتهر قدره في الناس كثيرا وكان
يفر من ذلك وإذا سأله أحد أن يتخذه شيخا يقول نحن إخوة في الله والدرهم الكامل
ينفق منه أخذ القراءات عن الفقيه الأستاذ أبي عبد الرحمن بن القاضي وكتب له
الإجازة بذلك وكان له نصيب من العلوم سوى القراءات وانتسب في
____________________
الطريق للولي الصالح أبي عبد الله محمد الحفيان الرتبي السجلماسي من أصحاب الشيخ
أبي عبيد الشرقي وتخرج عليه نجباء من طلبة القراءات وكان رحمه الله كثير الطعام
بزاوية جده أبي عبيد الشرقي ثم انتقل الى ناحية سلا فسكن بأحوازها وبقي هنالك إلى
أن مات في التاريخ المذكور فحمل إلى المدينة المذكورة ودفن بطالعتها قرب المسجد
الأعظم وقبره اليوم مزارة عظيمة وكان له كلام كثير على طريق العروبي الملحون خاطب
به الرئيس محمد الحاج الدلائي حين مشت الوشاة بينهما فوقعت من أجل ذلك بينهما
مكاتبات ومعاتبات رحمهما الله
وفي سنة اثنتين وسبعين وألف توفي الشيخ الرباني أبو إسحاق إبراهيم ابن احمد بن عبد
الله بن حسين المصلوحي دفين تامصلوحت من أعمال مراكش وقد تقدم التنبيه على وفاة
جده أبي محمد عبد الله بن حسين المذكور وكانت له شهرة عظيمة وكان ابتداء أمره أنه تلمذ
له طائفة من الفقراء بمراكش واجتمع عليه ناس فأنكر ذلك السلطان زيدان بن المنصور
وأمر بالقبض عليه فخرج إلى قبيلة سكتانة حيث ضريحه اليوم فاستقر بها إلى أن توفي
وكان يقول لا يأتينا إلا من أمنه الله لأن مقامنا هذا مقام إبراهيم ومن دخله كان
آمنا وكان يقول دارنا دار سر لا دار علم وكان إذا دخل شهر المحرم ترك حلق الشعر
والزينة فإذا ليم على ذلك قال ما فعلنا هذا الا امتعاضا لقتل الحسين رضي الله عنه
وأسفا على ما وقع به وكان يعمل السماع ويجتمع أصحابه على الحضرة على الكيفية
المعهودة وربما تواجد فدخل معهم وكانت له مشاركة في العلوم أخذ عن الشيخ المنجور
وأبي محمد بن طاهر الحسني وأبي مهدي السكتاني وغيرهم وتوفي في التاريخ المتقدم عن
سن عالية يقال أناف على المائة وبنيت عليه قبة حافلة وقبره اليوم مزارة عظيمة
وفي أواخر سنة ثلاث وسبعين وألف مع السنة التي بعدها حدثت مجاعة عظيمة بالمغرب لا
سيما فاس وأعمالها أكل الناس فيها الجيف والدواب والآدمي وخلت الدور وعطلت المساجد
ثم تدارك الله عباده بلطفه
____________________
وفي سنة خمس وسبعين وألف في عاشر رمضان منها وقعت زلزلة عظيمة بفاس وغيرها من بلاد
المغرب قال الفقيه أبو العباس أحمد بن عبد الهادي الشريف السجلماسي وقعت الزلزلة
في التاريخ المذكور ونحن بمجلس البخاري عند شيخ الجماعة الإمام أبي محمد عبد
القادر الفاسي رحمه الله فقام كل من بالمجلس حتى الشيخ ظنا منا أن السقف يسقط
علينا لأن خشبه صوتت وخرج سرعان الناس يلتمسون الخبر فأخبر بها كل من كان راقدا أو
جالسا حتى النائم انتبه ومن كان ماشيا لم يشعر بها فسئل الشيخ عن ذلك وهل هو كما
تزعم العامة من أن الثور الذي عليه الدنيا أو الحوت يتحرك فأجاب بأن ذلك باطل لا
أصل له وتلا قوله تعالى { وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } الاسراء 59 وقال أيضا ذكر
بعض الحكماء أن ذلك يقع في اختناق الريح في جوف الأرض
وفي يوم الأثنين الثامن والعشرين من رجب سنة سبع وسبعين وألف توفي البهلول المتبرك
به سيدي قاسم بن أحمد بوعسرية المعروف بابن اللوشة دفين ضفة وادي أرضم من بلاد
آزغار ولم يتزوج قط فلم يكن له عقب هكذا في نشر المثاني ولعله تصحيف والصواب ما
يأتي من أنه توفي سنة سبع وتسعين بمثناة بمهملتين والله أعلم
وفي سنة خمس وثمانين وألف توفي شيخ السنة وإمام الطريقة أبو عبد الله سيدي محمد بن
محمد بن أحمد بن محمد بن الحسين بن ناصر بن عمرو الدرعي ثم الأغلاني الشهير بابن
ناصر نسبة إلى جده المذكور في النسب قال تلميذه الشيخ أبو علي اليوسي في فهرسته
كان الشيخ رضي الله عنه مشاركا في فنون من العلم كالفقه والعربية والكلام والتفسير
والحديث والتصوف عابدا ناسكا ورعا زاهدا عارفا قائما بالطريقة شاربا من عين
الحقيقة وكان رضي الله عنه مع إكبابه على علوم القوم وانتهاجه منهج الطريقة لا يخل
بعلم الظاهر تدريسا وتأليفا وتقييدا وضبطا فنفع الله به الفريقين وصحبه الناس شرقا
وغربا فانتفع به الخلق قائما بالتعليم والتربية للمريدين بقوله وفعله والترقية
بهمته عن همة عالية وحالة مرضية وعلم
____________________
صحيح وبصيرة ونورانية مع التمكن والرسوخ فكان إذا تكلم انتقش كلامه في القلب وإذا
وعظ وضع الهناء مواضع النقب ثم أطال الشيخ اليوسي في ترجمته وذكر له كرامات عديدة
وقد أفصح عن حاله ووصفه في قصيدته الدالية المشهورة الموضوعة في مدحه وأتى فيها من
الإجلال لهذا الشيخ والتعظيم بما كان سبب ربحه ولهذا الشيخ شيوخ وأتباع معروفون في
كتب الأئمة الذين تعرضوا لبيان ذلك وطريقته المتصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم
معروفة أيضا وكان والده سيدي محمد بن أحمد من أكابر الأولياء كثير الأوراد لا يفتر
لسانه عن الأذكار حسبما نقله غير واحد والله تعالى أعلم
قال مؤلفه عفى الله عنه وهذا الشيخ هو جدنا وإليه ننتسب فأنا أحمد بن خالد بن حماد
بن محمد الكبير بن أحمد بن محمد الصغير بفتح الميم ابن محمد بن ناصر الشيخ المذكور
نفعنا الله به وأفاض علينا من مدده ومدد أمثاله وأسلافنا ينتسبون بعد الشيخ المذكور
إلى سيدنا جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنه ولست الآن من ذلك على تحقيق ولعلنا
نحققه في موضع آخر إن شاء الله
وفي حدود التسعين وألف كان انحباس المطر والغلاء قال الشريف أبو عبد الله محمد
الطيب القادري في الأزهار الندية أن القمح قد بلغ في هذه المدة إلى أربعين أوقية
للمد بسبب تأخر المطر والمد صاع ونصف وصلى الناس صلاة الاستسقاء فأول إمام خطب
فيها القاضي أبو عبد الله محمد العربي بردلة وكررها ثلاث مرات فنزل مطر يسير لم
يكف ثم أعيدت الصلاة رابعة فكان الخطيب فيها الفقيه أبو عبد الله محمد البوعناني
ثم أعيدت خامسة والخطيب القاضي بردلة ثم أعيدت سادسة والخطيب أبو عبد الله محمد
المرابط الدلائي وفيها بلغ القمح ستين أوقية وهو غلاء لم يسمع بمثله ثم أعيدت
الصلاة سابعة والخطيب أبو عبد الله البوعناني ثم أعيدت ثامنة والخطيب الشيخ الولي
الزاهد أبو عبد الله محمد العربي الفشتالي وفي عشية غده نزل المطر مع رعد وبرق
ففرح المسلمون وأكثروا من حمد الله
____________________
تعالى ثم أعيدت الصلاة تاسعة والخطيب القاضي بردلة وخرج يومئذ في جملة الناس شيخ
الإسلام وبركة الأمة الإمام أبو محمد سيدي عبد القادر الفاسي راكبا على حمار جاعلا
الأشراف من أهل البيت الطاهر أمامه مستشفعا بهم إلى الله تعالى فنزل عند الرجوع
مطر قليل ومن الغد نزل المطر الغزير الكافي النافع فانحطت الأسعار ونزل القمح إلى
خمس وثلاثين أوقية بعدما كررت الصلاة تسع مرات وكانت الصلاة التاسعة يوم الاثنين
خامس المحرم فاتح سنة إحدى وتسعين وألف
وفي سنة تسع وثمانين وألف في ليلة الجمعة الثاني عشر من شعبان منها توفي الشيخ
المولى أبو محمد عبد الله الشريف الوزاني الشهير وكان عمره يوم توفي خمسا وثمانين
سنة وتوفي ولده الشيخ المولى أبو عبد الله محمد وقت العشاء ليلة الجمعة الثامن
والعشرين من المحرم سنة عشرين ومائة وألف وعمره يومئذ ثمانون سنة وتوفي ابنه الشيخ
القطب المولى التهامي ابن محمد طلوع شمس يوم الاثنين فاتح المحرم من سنة سبع
وعشرين ومائة وألف وعمره ست وستون سنة وتوفي الشيخ مولاي الطيب ابن محمد يوم الأحد
وقت طلوع الفجر ثامن عشر ربيع الثاني سنة إحدى وثمانين ومائة وألف وعمره نيف
وثمانون سنة وتوفي ابنه الشيخ مولاي أحمد ضحوة يوم السبت الثامن عشر من صفر سنة ست
وتسعين ومائة وألف وتوفي ابنه الشيخ مولاي علي بن أحمد يوم الثلاثاء آخر يوم من
ربيع الأول سنة ست وعشرين ومائتين وألف وتوفي ابنه الشيخ سيدي الحاج العربي بن علي
يوم الأربعاء فاتح سنة سبع وستين ومائتين وألف وقد أتينا بوفاة هؤلاء السادة
الوازانيين مجموعة هنا لما في ذلك من المناسبة والتقريب ويتصل نسبهم بالمولى يملح
بن مشيش أخي المولى عبد السلام بن مشيش ثم بالمولى إدريس بن إدريس رضي الله عنهم
وأماتنا على محبتهم وحشرنا في زمرتهم
وفي سنة تسعين وألف وقع الوباء العظيم بالمغرب فكان عبيد السلطان يردون الواردين
من الآفاق على مكناسة الزيتون كما مر
____________________
وفي سنة إحدى وتسعين وألف بعد ظهر الأربعاء الثامن من رمضان منها توفي شيخ الجماعة
بفاس والمغرب الإمام الكبير العالم الشهير الشيخ أبو محمد عبد القادر بن علي بن
يوسف الفاسي ولا يحتاج مثله رضي الله عنه إلى تعريف فإن مآثره أشهر من قفا نبك
قالوا ومع غزارة علمه وانتفاع أهل المغارب الثلاثة به لم ينضد لجمع كتاب مخصوص ولا
شرح متن من المتون وإنما كانت تصدر عنه أجوبة يسأل عنها فيجيب ويجيد وجمعها بعض
أصحابه فجاءت في مجلد
وفي سنة خمس وتسعين وألف توفي الولي الصالح أبو محمد عبد الله العوني دفين سلا من
أصحاب الشيخ سيدي محمد المفضل
وفي سنة ست وتسعين وألف توفي الشيخ العلامة المشارك أبو زيد عبد الرحمن بن عبد
القادر الفاسي صاحب نظم عمل فاس و الأفنوم في مبادىء العلوم وغيرهما من التآليف
الحسان
وفي سنة سبع وتسعين وألف توفي الشيخ العارف بالله تعالى ذو الأحوال الربانية
والمواهب العرفانية أبو القاسم بن أحمد الوشة السفياني المعروف بأبي عسرية لأنه
كان يعمل بشماله أكثر من يمينه كان من المولهين في ذات الله تعالى ومن أهل الأحوال
والشطحات يقال إنه حمل وهو صبي إلى الشيخ أبي عبيد الشرقي فبرك عليه ودعا بقرب من
ماء فصبت عليه وقال لولا أنا بردنا هذا الصبي لأحرقته الأنوار ولذا كان يهتف بأبي
عبيد كثيرا وينادي باسمه وينسب جميع ما يظهر على يده له
وفي سنة إحدى مائة وألف أمر السلطان الناس بأن لا يلبسوا النعال السود ولا يلبسها
إلا اليهود وتقدم التنبيه على ذلك عقب فتح العرائش
وفي سنة اثنتين ومائة وألف توفي الشيخ الإمام على الأعلام أخر علماء المغرب على
الإطلاق الذي وقع على علمه وصلاحه الاتفاق أبو علي الحسن بن مسعود اليوسي نسبة إلى
آيت يوسي قبيلة من برابر ملوية وأصله اليوسي كان رضي الله عنه غزالي وقته علما
وتحقيقا وزهدا وورعا قال في
____________________
فهرسته كانت قراءتي كلها أو جلها فتحا ربانيا ورزقت ولله الحمد قريحة وقادة فكنت
بأدنى سماع ينفعني الله فقد أسمع بعض الكتاب فيفتح الله علي في جميعه فتحا ظاهرا
وأبلغ فيه ما لم يبلغه من سمعته منه ورب كتاب لم أسمعه أصلا غير أن سماع البعض في
كل فن صار مبدأ للفتح وتتميما لحكمة الله في سنة الأخذ عن المشايخ ولا تستوحش مما
ذكرناه ظنا منك أن الربح أبدا يكون على قدر رأس المال كلا فقد يبلغ الدرهم الواحد
ألف مثقال وما ذلك على الله بعزيز
وكان معظم قراءته بالزاوية الدلائية لم يزل مقيما بها عاكفا على بث العلم ونشره
إلى أن استولى عليها المولى الرشيد بن الشريف فنقله إلى فاس فأقام بها مدة ثم خرج
إلى البادية فاستوطن بقبيلته إلى أن مات رحمه الله وكان رضي الله عنه متضلعا من
العلوم العقلية والنقلية حتى قال في تأليفه المسمى بالقول الفصل في الفرق بين
الخاصة والفصل أنه بلغ درجة الشيخ سعد الدين التفتازاني والسيد الجرجاني وأضرابهما
وسأله يوما سائل بمجلس درسه فقال له اسمع ما لا تسمعه من إنسان ولا تجده محررا في
ديوان ولا تراه مسطرا ببنان وإنما هو من مواهب الرحمن ولما دخل مراكش تصدر بها
لإقراء علم التفسير بجامع الأشراف فمكث في تفسير الفاتحة قريبا من ثلاثة أشهر وهو
يبدي كل يوم أسلوبا غريبا وتحقيقا عجيبا فعجب الناس من غزارة مادته مع أنه ربما
بات في ضريح بعض الأولياء والناس معه فلا يطالع كتابا ولا يراجع مؤلفا فإذا أصبح
وجلس على الكرسي أطلق لسانه بما يبهر العقول وكان الشعر عنده أسهل من النفس وشعره
كله حكم وأمثال كشعر العرب القدماء وقصيدته الدالية في شيخه ابن ناصر دالة على
امتداد باعه ورسوخ قدمه في المعارف الفنون ولله در الإمام أبي سالم العياشي إذ قال
( من فاته الحسن البصري يصحبه ** فليصحب الحسن اليوسي يكفيه )
وبالجملة فهو آخر العلماء الراسخين بل خاتمة الفحول من الرجال المحققين حتى كان
بعض الشيوخ يقول هو المجدد على رأس هذه المائة
____________________
لما اجتمع فيه من العلم والعمل بحيث صار إمام وقته وعابد زمانه رحمه الله ورضي عنه
وفي سنة ثلاث ومائة وألف في ليلة الأربعاء السابع من شهر ربيع الأول منها توفي
الولي الصالح أبو العباس سيدي أحمد حجي قال الشيخ أبو العباس سيدي أحمد بن عبد القادر
التستاوتي في حقه ما نصه رجل خير صالح ولقد اجتمعت به بمكناسة سنة ست وتسعين وألف
فما رأيت منه إلا خيرا اه ولما توفي خلفه ولده ووارث سره وضجيعه في قبره الولي
الصالح سيدي أبو محمد عبد الله حجي المعروف بالجزار وضريحهما مزارة شهيرة بسلا
وفي سنة تسع أو عشر ومائة وألف توفي الفقيه العدل النوازلي الفارض الحاسب أبو
الحسن علي بن محمد المعروف بأبي شعرة السلاوي ودفن قريب ضريح الشيخ ابن عاشر رضي
الله عنه
وفي سنة خمس عشرة ومائة وألف توفي الإمام الفقيه الأديب الناظم الناثر أبو القاسم
بن الحسين الغريسي ثم السلاوي المعروف بأبي زائدة وذلك في جمادى الأولى من السنة
ودفن قرب ضريح الشيخ ابن عاشر رضي الله عنه
وفي سنة ثمان عشرة ومائة وألف في ضحى يوم الأربعاء الثامن والعشرين من المحرم منها
كسفت الشمس كسوفا كليا وسمي ذلك العام عام الظليماء
وفي سنة تسع عشرة ومائة وألف توفي الشيخ الإمام العلامة الهمام ذو التصانيف
المفيدة في كل فن الحجة المتبرك به حيا وميتا أبو سرحان سيدي مسعود جموع الفاسي ثم
السلاوي وذلك يوم الثلاثاء سابع جمادى الأولى من السنة ودفن بزاوية الشيخ سيدي
أحمد حجي داخل مدينة سلا
وفي سنة عشرين ومائة وألف توفي الولي الصالح العابد الناصح أبو العباس أحمد بن عبد
الله معن الأندلسي نزيل المخفية من فاس حرسها الله
____________________
وفي هذه السنة أيضا كان إحداث قراءة المسمع الحديث المتضمن لأمر الناس بالإنصاف
وقوله أنصتوا رحمكم الله ثلاثا عند خروج الإمام يوم الجمعة من المقصورة وجلوسه على
المنبر
وفي سنة أثنتين وعشرين ومائة وألف وذلك وقت عصر الثلاثاء الثاني والعشرين من صفر
منها توفي الولي الصالح سيدي أبو محمد عبد الله بن سيدي أحمد حجي المعروف بالجزار
ودفن بإزاء قبر أبيه كما مر
وفي يوم الأربعاء العشرين من ربيع الثاني من السنة المذكورة توفي الفقيه العلامة
أبو عبد الله محمد بن الأمين الحاج محمد الصبيحي السلاوي ورثاه الشيخ أبو العباس
سيدي أحمد بن عبد القادر التستاوتي بقوله
( جزعنا وإن كنا على العلم أنه ** إذا ما أراد الله أمرا تعجلا )
( لفقد الإمام المجتبى العالم الرضي ** الصبيح ومن في وقته قد تنبلا )
( وإلا فمختار الإله اختيارنا ** ونرجو له خيرا عميما مكملا )
ورثاه أيضا صديقه الملاطف الشيخ أبو العباس أحمد بن عاشر الحافي السلاوي رحم الله
الجميع
وفي سنة سبع وعشرين ومائة وألف ليلة الأربعاء فاتح رجب منها توفي الولي الصالح
العالم العامل العارف الشهير الشيخ أبو العباس أحمد بن عبد القادر التستاوتي من
كبار أصحاب الشيخ ابن ناصر ومن حفدة الشيخ أبي عبد الله محمد بن مبارك الزعري
المتقدم الذكر ومآثر هذا الشيخ أشهر من أن تذكر وزواياه عميمة النفع والبركة
بالمغرب وكانت وفاته بمكناسة الزيتون وضريحه بها شهير عند روضة الشيخ سيدي عبد
الله بن حامد رضي الله عنهم ونفعنا بهم
وفي سنة تسع وعشرين ومائة وألف في الثامن عشر من ربيع الأول منها توفي الشيخ
القدوة الإمام السني أبو العباس سيدي أحمد بن محمد بن ناصر الدرعي وهو ولد الشيخ
ابن ناصر المتقدم وخليفته ووارث سره وفضله رضي الله عنه أشهر من أن ينبه عليه ومن
ذلك ما حكاه الشيخ أبو علي الحسن بن
____________________
محمد المعداني في كتابه الروض
اليانع الفائح في مناقب الشيخ أبي عبد الله الصالح قال حدث بعض العلماء الأجلة أنه
لما دخل الشيخ أبو العباس أحمد بن ناصر الدرعي المدينة المشرفة في حجته الأخيرة
جلس تجاه الحجرة النبوية والناس يزدحمون عليه لأخذ العهد وتلقين الأوراد وهو منبسط
لذلك فقلت في نفسي إن هذا الرجل مغرور راض عن نفسه كيف يتصدى في هذا المكان الذي
تخضع فيه الملوك وجميع الإنس والجن والملائكة وإذا طلعت الشمس اختفى السراج قال
فكاشفني بما في نفسي والتفت إلي وقال والله ما جلست لما ترون حتى أمرني النبي صلى
الله عليه وسلم وما أذعنت له حتى هددت بالسلب قال فسقطت على يديه أقبلها وقلت له
يا سيدي أنا تائب إلى الله تعالى فدعا لي وانصرفت ومما حكاه صاحب الكتاب المذكور
قال حدث الرجل الصالح البركة الفقيه الناصح سيدي محمد بن إبراهيم المجاصي قال كان
السلطان المولى إسماعيل بن الشريف رحمه الله قد استدعى الشيخ سيدي أحمد بن ناصر
وكان به حنق عظيم عليه وعزم إذا وصل إليه أن يفعل به مكروها لا تدرى حقيقته غير أن
الأمر شديد فجاء إلى الشيخ جماعة من العلماء الأعلام واصحابه الملازمين له وقد
تخوفوا عليه وعلى أنفسهم غاية فكلموا الشيخ في ذلك واستفهموه ليعلموا ما عنده من
عادة الله تعالى مع أوليائه من النصرة لهم والذب عنهم فلم يسمعوا منه كلمة ثم
راجعوه في ذلك حتى هابوه وسكتوا عنه وقدم الشيخ المذكور على السلطان فلما انتهى
إلى قصبة آكراي قرب مكناسة الزيتون إذا برجل مجاطي يقال له الحاج عمرو لقيه هنالك
فلما رآه الشيخ نزل عن فرسه ليسلم عليه فقال الشيخ ما الخبر يا ولدي فقال الرجل ما
الخبر يا سيدي والله لوددت أن سيدي لم يصل إلى هنا ولم يخرج من داره يعني أن الأمر
عظيم فقال له الشيخ رضي الله عنه بلسان العناية الربانية ولا ما يشوش إذا كان في
رقبتك شبر وأشار بيده فاعمل فيها ذراعا ومد ذراعه ففرح العلماء الذين معه وكل من
حضر بتلك المقالة وتيقنوا الأمن على الشيخ وعلى أنفسهم لما يعلمون من عادة الله
الكريمة معه فكان الأمر كما قال فإن السلطان جاء إليه
____________________
بنفسه وهو في روضة الشيخ أبي عثمان سعيد بن أبي بكر وتلقاه بالقبول والتعظيم
والتبجيل والتكريم وصافحه بيده وجلس معه في داخل القبة ساعة ولما خرج السلطان رحمه
الله من عنده جعل ينادي بلسانه في أصحابه ويقول زوروا سيدي أحمد بن ناصر يا الناس
زوروا سيدي أحمد بن ناصر يا الناس ويكررها من صميم قلبه قال سيدي محمد بن إبراهيم
فلما انصرف السلطان من عند الشيخ رضي الله عنه جئت إليه وقلت له يا سيدي إنا نخاف
أن ينزلنا السلطان بضريح الشيخ سيدي عبد الرحمن المجذوب ويطول بنا المقام فقال لي
لا نبقى إلا هنا وبعد غد ننصرف إلى بلادنا إن شاء الله فكان الأمر كما قال بعد أن
جاء الأمور من السلطان يأمره بالنزول بضريح الشيخ المجذوب فقال لا أنزل إلا هنا
فبقي في موضعه ثم بعث إليه السلطان يأمره بالتوجه إلى بلاده معظما مكرما اه
وفي سنة تسع وعشرين ومائة وألف في ليلة عيد الفطر منها توفي الفقيه العالم القاضي
أبو العباس أحمد ابن العلامة أبي الحسن علي المراكشي وصلي عليه من الغد ودفن
بالموضع المسمى بالعلو من رباط الفتح
وفي سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف في ليلة الأحد ثامن عشر المحرم منها توفي الشيخ
الصالح أبو علي الحسن بن عبد الله العايدي السجيري ودفن بزاوية من حومة السويقة من
سلا وفرغ من بناء قبته في رجب من السنة بعدها
وفي سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف يوم الاثنين خامس عشر رجب منها توفي الفقيه
العلامة خاتمة المحققين وآخر قضاة العدل بفاس الشيخ أبو عبد الله محمد العربي بن
أحمد بردلة الفاسي وفي التاريخ المذكور توفي الشيخ العلامة المتبرك به أبو العباس
أحمد بن سليمان ذو التآليف العديدة في الحساب وغيره بحضرة مراكش رحمه الله
وفي سنة ثمان وثلاثين ومائة وألف كانت جائحة الجراد بالعدوتين سلا ورباط الفتح وأعمالهما
وخلفه قمله السمي في لسان المغاربة بآمرد فكان
____________________
كالسيل العام لم يترك ورقة خضراء إلا أكلها وكان ذلك في شوال من السنة المذكورة
وفي سنة تسع وثلاثين ومائة ألف يوم الاربعاء ثاني عشر صفر منها توفي الشيخ العارف
بالله تعالى سيدي محمد الصالح ابن الشيخ العارف بالله تعالى سيدي محمد المعطي ابن
سيدي عبد الخالق ابن سيدي عبد القادر ابن الشيخ الأكبر سيدي محمد الشرقي ومناقبه
قد تكفل بها كتاب الروض الفائح في مناقب الشيخ أبي عبد الله الصالح لأبي علي
المعداني وفي هذه السنة ضحى يوم السبت ثامن ذي القعدة منها توفي الفقيه العلامة
المحقق سيدي أبو بكر ابن علي الفرجي المراكشي ثم السلاوي واحتفل الناس لجنازته
وازدحموا على نعشه حتى كادوا يقتتلون عليه ودفن قرب داره بزاوية سيدي مغيث من
طالعة سلا حرسها الله الخبر عن الدولة الأولى لأمير المؤمنين المولى أبي العباس أحمد
بن إسماعيل المعروف بالذهبي رحمه الله
لما توفي أمير المؤمنين المولى إسماعيل رحمه الله في التاريخ المتقدم اجتمع قواد
العسكر البخاري وقواد الودايا وأعيان الدولة وكتابها وقضاتها وبايعوا المولى أبا
العباس أحمد بن إسماعيل المعروف بالذهبي لبسط يده بالعطاء قال أكنسوس بايعوه
بإشارة العبيد الشبيهة بالجبر ولم يكن ذلك عن عهد من أبيه وكتبوا بيعته إلى الآفاق
ولما اتصل بأهل فاس خبر موت السلطان كان أول من بدؤوا به أن قتلوا قائدهم أبا علي
الروسي ثم بايعوا السلطان المولى أحمد وكتبوا بيعتهم وتوجه بها أعيانهم إلى مكناسة
فدخلوا على السلطان المولى أحمد وأدوا البيعة والطاعة فقبلهم ولم يظهر لهم سوء بما
ارتكبوه من قتل قائدهم بل أعطى العلماء والأشراف جائزة البيعة وولى القائد المحجوب
العلج وردهم مكرمين
ثم قدم عليه قواد القبائل والأمصار وأعيانها من أهل الحواضر والبوادي
____________________
مبايعين ومؤدين الطاعة فجلس للوفود وأجاز كلا على قدر مرتبته وردهم إلى بلادهم
وتفرغ لشأنه فأفتح عمله بقتل عمال أبيه وأركان دولته فقتل علي بن يشي القبلي أمير
البربر وثنى بأحمد بن علي أمير الأعمال الفاسية وما أتصل بها من بلاد الهبط
والصحيح أن أحمد بن علي المذكور كان عند بيعة المولى أحمد في السجن فدس إليه علي
بن يشي من ذبحه فيه فسلط الله عليه السلطان فقتله وكان جزاؤه من جنس عمله وقتل
السلطان أيضا الباشا ابن الأشقر ومرجان الكبير قائد عبيد الدار وصاحب بيوت الأموال
وكان لنظره ألفان ومائتان من المفاتي كلها موزعة على أبواب القصور وكل واحد من
هؤلاء الخصيان له عبدان وثلاثة وأكثر يخدمونه
واعلم أن المولى أحمد رحمه الله كان مستبدا عليه في كثير من الأحوال يشير العبيد
عليه فيفعل وما قتل من قتل من رؤساء الدولة إلا بإشارتهم وقتل جماعة من القواد
والكتاب سوى من تقدم وطاف على بيوت الأموال ومخازن السلاح والكسى فأمر بإخراج ذلك
وتفرقته على العبيد وقواد الجيش وأعطى من ذلك فوق الكفاية وعم العلماء والأشراف
والطلبة بالنوال وخص أفرادا من العسكر بألوف فاغتبط الناس به وحمدوه رحمه الله إغارة
القائد أبي العباس أحمد بن علي الريفي على تطاوين وما دار بينه وبين الفقيه أبي
حفص عمر الوقاش
كان القائد المجاهد أبو العباس أحمد بن علي الريفي يلي رئاسة المجاهدين هم وأبوه
من قبله بالثغور الهبطية أيام السلطان المولى إسماعيل رحمه الله وكانت له ولأبيه
اليد البيضاء في فتح طنجة والعرائش وغيرهما حسبما سلف بعضه فكانت له بذلك وجاهة
كبيرة في الدولة خصوصا ببلاد الهبط وكان بتطاوين يومئذ الفقيه الأديب أبو حفص عمر
الوقاش من بيوتاتها وأهل الرياسة بها كان أولا كاتبا مع السلطان المولى إسماعيل
رحمه الله وكانت له المنزلة العالية عنده ثم لما ضعف عن الخدمة السلطانية بكبر سنه
____________________
ولاه على تطاوين وأعمالها فحدثت بينه وبين القائد أبي العباس الريفي منافسة
أوجبتها المجاورة والمعاصرة فكان يبلغ كل واحد منهما عن صاحبه ما يحفظه واستمر
الحال على ذلك إلى أن توفي السلطان المولى إسماعيل رحمه الله وأفضى الأمر إلى ابنه
المولى أحمد فضيع الحزم وأهمل أمر الجند حتى سقطت هيبة السلطان من قلوب الولاة في
النواحي فانتهز أبو العباس الريفي الفرصة في أهل تطاوين وزحف إليها في جيش كثيف
ودخلها على حين غفلة من أهلها وحاول الفتك فيهم فبرز إليه الفقيه أبو حفص الوقاش
في أهل تطاوين وحاربه فانتصر عليه وأوقع به وقعة أعظم مما كان أضمر له وقتل من
إخوانه عددا كثيرا ونجا القائد أبو العباس بجريعة الذقن
ولما اتفق للفقيه أبي حفص هذا الفتح الذي لم يكن له في حساب استخفه النشاط وغلبت
عليه حلاوة الظفر حتى طمع في الملك وفاه من ذلك بما كان ينبغي له ولكل عاقل كتمانه
فقال قصيدته المشهورة ينعي فيها على أهل الريف فعلتهم وينتقص دولتهم ويفتخر على
أهل فاس فمن دونهم ويخبر عن نفسه بما يؤول إليه أمره فأزرى بأدبه على كبر سنه مع
أنه كان من أهل الأدب البارع والعلم والرياسة والقصيدة المشار إليها هي قوله
( بلغت من العليا ما كنت أرتجي ** وأيامنا طابت وغنى بها الطير )
( ونادى البشير مفصحا ومصرحا ** هلم أباحفص فأنت لها الصدر )
( نهضت مجيبا للندا راقصا به ** وما راعني إذ ذاك زيد ولا عمرو )
( شرعت بحمد الله للملك طالبا ** وقلت وللمولى المحامد والشكر )
( أنا عمر المعروف إن كنت جاهلي ** فسل تجد التقديم عندي ولا فخر )
( أنا عمر الموصوف بالبأس والندى ** أنا عمر المذكور في ورد الجفر )
( ظهرت لأحيي الدين بعد اندراسه ** فطوبى لمن أمسى يساق له الأمر )
( ولم يبق ملك يستتب بغربنا ** فعندي انتهى العلم المبرح والسر )
( أنا عمر المشهور في كل غارة ** أنا البطل المقدام والعالم الحبر )
( ضبطت بلادي وانتدبت لغيرها ** وعما قليل يعظم الجاه والقدر )
( وجئت بعدل للإمامين تابعا ** أنا الثالث المذكور بعدهما وتر )
____________________
يعني أنه ثالث العمرين وقد كان يصرح بذلك ثم قال
( ففرطوط والرحمون والكوط عصبتي ** وراغون كنزي والصغير به القهر )
( أولئك أنصاري وأرباب دولتي ** وأهلي وأصهاري هم الأنجم الزهر )
( وقد دام بالديمان مجدي وسؤددي ** وفخري في الأقطار باد كما الفجر )
( هلالي بدا لما هلالي أجابني ** وغيلان إذ لبى به عظم الوفر )
( ودولة أهل الريف حتما تمزقت ** فلم يبق بالتحقيق عندي لها جبر )
( أذقناهم لما أتوا شر بأسنا ** فأبوا سراعا والصوارم والسمر )
( تطير الأكف والسواعد منهم ** هنيئا فحق للأنام بنا البشر )
( بخفي حنين آب عنا كبيرهم ** وما فاته منا نكال ولا خسر )
( فمن ذا يضاهيني ومالي وافر ** وذكري مغمور به البر والبحر )
إلى غير هذا مما لا غرض لنا في جلبه وقد أجابه الفقيه أبو عبد الله محمد بن بجة
الريفي ثم العرائشي بقصيدة يقول فيها
( في صفحة الدهر قد خطت لنا عبر ** منها ادعاء الحمار أنه بشر )
( من مر عنه الصبا وما رأى عجبا ** خبره بعجاب دهره الكبر )
وهي طويلة إلا أن قائلها لم يحكم صناعة الشعر فلذا تركناها
ولما اتصل خبر هذه الوقعة بأمير المؤمنين المولى أحمد رحمه الله أغضى عن الفريقين
ودخل داره وعكف على ملذاته وترك الناس وشأنهم وثار ببلاد الغرب والقصر وأعماله
فساد كبير بين القبائل وأصحاب المخزن وهلك في ذلك بشر كثير وسقطت هيبة الخلافة
وانحل نظام الدولة بالمرة لا سيما مع ما دهاها من قتل رجالها القائمين بأمورها
وكان ذلك منتهى مراد العبيد فقد كان علي بن يشي أمير الأمراء ورئيس البربر وغيرهم
وكان أحمد بن علي أمير جبال مرموشة وبني وراين وعرب الحياينة وبرابرة غياثة
والجبال فكان رديف علي بن يشي ومباريه في نصح الدولة وجباية الأموال وكان ابن
الأشقر أمير الزراهنة وعلى يديه أعشار القبائل كلها من أهل الغرب وبني حسن وغيرهم
رديفا للأولين وكان القائد مرجان صاحب بيوت
____________________
الأموال وبيده دفتر الدخل والخرج عارفا بقدر مما يدفعه العمال كل سنة فلما أتى
عليهم القتل رحمهم الله خف على الرعية ما كانوا يحملونه من ثقل وطأتهم واستراحوا
ممن كان يحول بينهم وبين الفساد وبزجرهم عن القبيح خصوصا البربر فإنهم كانوا في
أقماع النحاس فخرجوا منها بمهلك علي بن يشي وأخذوا في اشتراء الخيل واقتناء السلاح
وعادت هيف إلى أديانها وتبعهم على ذلك غيرهم من قبائل العرب فكأنما كانوا على
ميعاد وامتدت أيدي النهب في الطرقات وكثرت الشكايات بباب السلطان فما وجدت الناس
من يشكيهم هذا حال مكناسة وأعمالها فأما فاس فقد كفى الودايا أمرها ونابوا عن
البربر في العيث بأطرافها وعظم الخطب واشتد الأمر
ثم دخلت سنة أربعين ومائة وألف ففي المحرم منها أغار الودايا على سوق الخميس من
فاس فنهبوا وقتلوا وقبضوا على طائفة من أهل فاس فأودعوهم السجن بفاس الجديد فبعث
أهل فاس جماعة من أشرافهم إلى السلطان بمكناسة يشكون إليه ما نالهم من جور الودايا
فلما وصلوا إليها وثب عليهم محمد بن علي بن يشي قبل أن يجتمعوا بالسلطان فسجنهم
أيضا فلما اتصل بأهل فاس ما جرى على إخوانهم بمكناسة أخذهم ما قدم وما حدث فأغلقوا
عليهم أبواب مدينتهم وشمروا لحرب الودايا فكتب الودايا إلى السلطان يعلمونه بأن
أهل فاس قد شقوا العصا وخرجوا عن الطاعة فسرب السلطان إليهم العساكر بكل صارم
وذابل وتفاقم الأمر واختلط الحابل بالنابل وركبت المدافع والمهاريس والمجانيق
لحصار فاس واستمر القتال إلى أن بعث السلطان أخاه المولى المستضيء في جماعة من
أشراف مكناسة ومعهم أشراف فاس الذين سجنهم محمد بن علي بن يشي لتلافي الأمر وعقد
الصلح بين الودايا وأهل فاس فانعقد الصلح ونهض عسكر السلطان إلى مكناسة فما ساروا
يوما أو يومين حتى انتقض ذلك الصلح وغدا الودايا على حصار فاس ورميها بالكور
والبنب واستمر الحال على ذلك إلى أن قدم من
____________________
جانب السلطان القائد أبو عمران موسى الجراري ساعيا في الصلح فاجتمع أهل فاس
وفاوضهم في ذلك فأذعنوا وبعثوا معه جماعة من الأعيان والعلماء والأشراف يفدون على
السلطان ليتم لهم ذلك بعد أن أخذوا جماعة من أصحاب أبي عمران توثقا بإخوانهم ولما
قدم أولئك الوفد مكناسة منعوا من الدخول على السلطان ورجعوا إلى فاس مخفقين واستمر
الأمر على حاله إلى أن كاتبهم عبيد الديوان يطلبون منهم موافقتهم على عزل السلطان
المولى أحمد وتولية أخيه المولى عبد الملك صاحب السوس فأجابوهم إلى ذلك وطاروا به كل
مطير وأكرموا وفدهم وحالفوهم على الوفاء ورجع العبيد إلى مكناسة شاكرين ففاوضوا من
بها من قواد الجند وتذاكروا فيما وقع فيه الناس من الفساد وانقطاع السبل وتعذر
الأسباب وتحققوا بما أتوه من سوء التدبير في تقديم المولى أحمد لكونه كان ضعيف
المنة غير مطلع بأعباء الخلافة فأجمعوا على عزله واستبدال غيره به ولما تم أمرهم
على ذلك بعثوا إلى أخيه المولى عبد الملك جريدة من الخيل وكتبوا إليه كتابا
يستحثونه للقدوم وأعلموه بما أجمع عليه رأيهم فأجاب وأقبل مسرعا نحو مكناسة ولما
انتهى إلى وادي بهت واتصل خبره بالعبيد دخلوا على السلطان المولى أحمد وقبضوا عليه
وأخرجوه من دار الملك مخلوعا وسجنوه بداره التي كان يسكن بها قبل البيعة خارج
القصبة وكان ذلك في شعبان سنة أربعين ومائة وألف الخبر عن دولة أمير المؤمنين
المولى أبي مروان عبد الملك بن إسماعيل رحمه الله
لما خلع السلطان المولى أحمد رحمه الله وسجن خارج القصبة كما مر اجتمع من الغد
الجيش كله وركبوا لملاقاة المولى أبي مروان عبد الملك بن إسماعيل فأجتمعوا به خارج
مكناسة وأدوا واجب الطاعة والتفوا عليه ودخلوا به الحصرة في زي الملك وأهبة
السلطان ثم حضر أعيان الدولة وأمراؤها
____________________
وقضاتها وعلماؤها وأشرافها فبايعوه وكتب بيعته إلى الآفاق ومن الغد قدم عليه أعيان
فاس من العلماء والأشراف وغيرهم ببيعتهم فدخلوا عليه وبايعوه ثم قدمت عليه الوفود
للتهنئة من حواضر المغرب وبواديه فجلس لملاقاتهم وقابلهم بما يجب من البشر إلى أن
قرع من شأنهم وتفقد أخاه المولى أحمد المخلوع فأمر به إلى فاس كي يسجن بها ثم بدا
له فأمر بتوجيهه إلى سجلماسة
قال في الأزهار الندية لما بعث السلطان المولى أبو مروان بأخيه المولى أحمد
المخلوع إلى تافيلالت كتب إلى عامله بها أن يسمل عينيه بفور بلوغه فنما ذلك إلى
المولى أحمد ففر إلى زاوية الشيخ أبي عثمان سيدي سعيد آحنصال وكان مقدم الزاوية
يومئذ السيد يوسف ابن الشيخ سعيد المذكور وكان يتكلم في الحدثان فقال للمولى أحمد
إنك سترجع إلى الملك فكان كما قال ورجا الناس أن يكون السلطان المولى أبو مروان
كأبيه وأن يسير فيهم بسيرته ويسد مسده فخاب الظن وأخفق المسعى
( وابن اللبون إذا ما لز في قرن ** لم يستطع صولة البزل القناعيس )
وأمسك الله يده عن العطاء فلم يسمح للعسكر ولا للوفود بدرهم فكان ذلك من أكبر
الأسباب في اختلاف أمره وتفسخ دولته فطلب العسكر البخاري منه جائزة البيعة على
العادة فبعث اليهم بأربعة آلاف مثقال وكان راتبهم على عهد السلطان المولى إسماعيل
رحمه الله مائة ألف مثقال ولما بويع السلطان المولى أحمد زادهم في الراتب خمسين
ألفا فلما وصلت إليهم جائزة المولى أبي مروان سقط في أيديهم وعلموا أنهم لم يصنعوا
شيئا في بيعته وتناجوا بعزله وأضمروا ذلك وتحينوا وقت الفرصة فيه فنما إليه ذلك
عنهم فأخذ حذره وصار يكاتب قبائل العرب ويعدهم ويمنيهم ويحضهم على اجتماع كلمتهم
كي ينفعوه يوما ما ظنا منه أنهم يقاومون
____________________
العبيد ثم كتب إلى البربر أيضا يغريهم بالعبيد وأغرى العبيد بالبربر وقال لهم في
جملة من ذلك إنه لا يستقيم لنا أمر إلا بعد الإيقاع بهؤلاء البربر وشغلهم
بالاستعداد لغزوهم وكتب إلى أهل فاس يأمرهم أن يبعثوا رماتهم إلى حضرته لغزو
البربر وأخذ في التضريب بين العسكر والبربر واطلع العبيد على خسئته فحاصوا عنه
حيصة حمر الوحش وأصفقوا على عزله ورد أخيه المولى أحمد لملكه لسخائه وبسط يده
وكذبوا فإن المولى أبا مروان رحمه الله كان أنسب حالا بالخلافة من أخيه المولى
أحمد لنجدته وحزمه وكان قد عزم على تطهير الحضرة وبساط الدولة من افتيات العبيد
وتحكمهم على أعياصها إلا أنه لم يحكم التدبير في ذلك فعاجلوه قبل أن يعاجلهم
ولما تحقق المولى أبو مروان بما عزم عليه العبيد من خلعه بعث إليهم الشيخ البركة
مولاي الطيب بن محمد الوزاني واعظا ومذكرا فأتاهم ووعظهم ووعدهم الخير إن أقلعوا
ونهاهم عن الخروج على السلطان واتباع سبيل السلطان وخوفهم في ذلك من سخط الله فما
زادهم إلا نفورا ثم بعثوا بجريدة من الخيل إلى سجلماسة ليأتوا بالمولى أحمد وفي
أثناء ذلك ركب العبيد من الديوان وأغاروا على مكناسة فاكتسحوا سرحها ثم اقتحموا
المدينة فنهبوها واستباحوا حرماتها وقتلوا من ظفروا به من أعيانها ثم دخلوا دار
الملك للقبض على السلطان المولى أبي مروان فلم يجدوه لأنه لما سمع بما فعله العبيد
بمكناسة ركب في جماعة من أصحابه وفر إلى فاس فدخل حرم المولى إدريس رضي الله عنه
واستجار به وبعث إلى أهل فاس فاستجار بهم فوعدوه الدفاع عنه والقيام بأمره
ولما علم العبيد بموضع المولى أبي مروان من فاس وما وعده به أهلها حبسوا رماتهم
الذين كانوا قد قدموا مكناسة بقصد غزو البربر كما تقدمت الإشارة إليه وثقفوهم حتى
يقدم السلطان المولى أحمد من سجلماسة ويرى فيهم وفي أخيه رأيه وكان ذلك في ذي
الحجة سنة أربعين ومائة وألف
____________________
الخبر عن الدولة الثانية لأمير
المؤمنين المولى أبي العباس أحمد الذهبي رحمه الله
لما راسل العبيد المولى أحمد بنا إسماعيل بسجلماسة وأعلموه بما عزموا عليه من عزل
أخيه ورد الملك إليه بادر بالقدوم إلى مكناسة فدخلها في التاريخ المتقدم وحضر
أعيان الدولة من القواد والقضاة والكتاب وبايعوه البيعة الثانية وكتبوا بذلك إلى
الآفاق ثم دخل دار الملك وفرق الأموال والكسى في العسكر والعلماء الأشراف وبالغ في
ذلك تفصيا مما نقمه العبيد على أخيه وكان فعل أخيه أقرب إلى الصواب لو سلك الوسط
وأحكم أمره ورتبه ترتيب ذو الحزم ولكن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن حصار
أمير المؤمنين المولى أحمد لفاس والسبب في ذلك
لما بويع المولى أحمد البيعة الثانية قدم عليه الوفود من القبائل والأمصار فأكرم
وفادتهم وتخلف عنه أهل فاس فلم يقدم عليه أحد منهم لأنه لما قدم من سجلماسة وأعلم
بمكان أخيه منهم وبمكان رماتهم المثقفين بمكناسة أمر بسجنهم والتضييق عليهم
فأوجسوا منه شرا وحذروه ولأنهم كانوا قد ارتكبوا العظيمة أولا في قتل أبي علي
الروسي ونهب داره وماله ومال المخزن الذي كان تحت يده فكانوا يتوقعون سطوة السلطان
المولى أحمد بهم أول ما بويع ثم لم يلتفت إليهم لشغله بنفسه فلما عادت الدولة إليه
ارتابوا به وحادوا عن طاعته وتقدموا إلى المولى عبد الملك وجددوا له البيعة
وأعلنوا بنصره والقيام بأمره ثم ورد عليهم كتاب السلطان المولى أحمد يأمرهم أن
يسلموا إليه أخاه ويدخلوا فيما دخل فيه الناس أو يأذنوا بحربه فجهروا بالخلاف
وأغلقوا الأبواب ووطنوا أنفسهم على الحصار ثم بعث إليهم
____________________
السلطان القائد اليديني قائد الرماة المسجونين بمكناسة وأمره أن يعرض عليهم الدخول
في الطاعة ويسرح لهم إخوانهم المسجونين وحمله كتابا إليهم يتضمن ذلك وغيره فلما
فرغ القائد المذكور من قراءة كتاب السلطان عليهم وثبوا عليه فقتلوه ثم جروه برجله
وصلبوه على التوته التي بحومة الصفارين ثم وثبوا على الحاج الخياط عديل فقتلوه على
باب داره وخرج الشريف أبو محمد عبد الله بن إدريس الإدريسي في كتيبة من الخيل
والرماة إلى زواغة فأغار على سرح الودايا واستاق من البقر والغنم شيئا كثيرا فدخل
به فاسا وبيع بأبخس ثمن وتوزعته الأيدي فبيعت البقرة بست موزونات والشاة بموزونة
على ما قيل وهاجت الحرب بين أهل فاس والودايا ثم نهض السلطان المولى أحمد فاتح
محرم من سنة إحدى وأربعين ومائة وألف في عسكر العبيد وودايا مكناسة فزحف إلى فاس
ونزل عليها ثاني يومه ونصب عليها المدافع والمهاريس وآلات الحصار وانشلى العسكر
على بساتينها وبحائرها فانتسفوا ثمارها واجتاحوا غللها وأمر الطبجية بموالاة الكور
والبنب والحجارة عليها ليلا ونهارا ففعلوا ودام ذلك إلى أن عمها الخراب وتهدم
الكثير من دورها وهلك عدد وافر من رجالها بعضهم في القتال وبعضهم بالهدم والحجارة
واستمر الحصار نحو خمسة أشهر فضاق بهم الحال وضعفوا عن القتال وقلت الأقوات
وارتفعت الأسعار فأذعنوا للطاعة وصالحوا المولى أحمد على إسلام أخيه المولى عبد
الملك إليه وتمكينه منه على الأمان فبعث السلطان المولى أحمد إلى أخيه المولى عبد
الملك يخيره بين التغريب إلى سجلماسة والمقام بالحرم الإدريسي فاختار المقام
بالحرم
ثم إن السلطان تقدم إلى أهل فاس في أن لا يجتمع أحد منهم بأخيه ولا يجالسه ولا
يكلمه ولا يبيع من أحد من أصحابه شيئا ولا يشتري منه ومن فعل شيئا من ذلك فإنه
يعاقب فلما رأى المولى عبد الملك ما عامله به أخوه من التضييق بعث ولده إلى العبيد
يطلب منهم أن يؤمنوه ويخرج معهم إلى
____________________
حيث شاؤوا فقدم عليه الباشا سالم الدكالي في خمسين من القواد وعاهدوه بالحرم
الإدريسي أن لا يصيبه مكروه فخرجوا به حتى قدموا به على أخيه فلما مثل بين يديه
أمر به أن يحمل إلى مكناسة مقبوضا عليه فوصل إلى مكناسة وسجن بدار الباشا مساهل ثم
رحل السلطان المولى أحمد عن فاس قافلا إلى مكناسة وعند حلوله بها مرض مرض موته
ولما أحس من نفسه بالموت أمر بخنق أخيه المولى عبد الملك فخنق ليلة الثلاثاء أول يوم
من شعبان ثم توفي السلطان المولى أحمد يوم السبت رابع شعبان المذكور سنة إحدى
وأربعين ومائة وألف فكان بين وفاتهما ثلاثة أيام رحمهما الله
واعلم أن ما ذكرناه من هذه الأخبار هو الذي عند صاحب البستان وقلده أبو عبد الله
أكنسوس حذو النعل بالنعل ورأيت بخط جدنا من قبل الأم وهو الفقيه الأستاذ أبو عبد
الله محمد بن قاسم الإدريسي اليحيوي الجباري عرف بابن زروق وكان حيا في هذه المدة
ما نصه
بويع المولى أحمد بن إسماعيل المعروف بالذهبي يوم وفاة والده رحمه الله بعد أن ثار
بالمغرب والقصر وحوزه فساد كبير بين القبائل وأصحاب المخزن وهلك في ذلك بشر كثير
وبعد مكثه في الملك سنة واحدة وثمانية أشهر خلع وبويع أخوه المولى عبد الملك في
الآخر من رجب سنة إحدى وأربعين ومائة وألف وهو بالسوس الأقصى بمدينة تارودانت ثم
ورد على دار المملكة بالحضرة المكناسية ليلة السابع والعشرين من رمضان المعظم من
السنة المذكورة ثم ثار عليه أخوه المولى أحمد المخلوع في عاشر المحرم فاتح سنة
اثنتين وأربعين ومائة وألف واقتحم عليه دار الملك من مكناسة عنوة ووقع فساد كبير
بالمدينة المذكورة وهلك بشر كثير في الحرب ومنهم من قتل صبرا وفر المولى عبد الملك
ناجيا بنفسه إلى فاس ثم حاصره بها المولى أحمد نحوا من أربعة أشهر حتى خرج إليه
على الأمان فأمر بسجنه بمكناسة ثم قتل المولى عبد الملك صبرا مخنوقا في أواخر رجب
المذكور أيضا اه كلامه والله تعالى أعلم بحقيقة الأمر
____________________
قالوا وكان المولى أحمد رحمه الله أشبه الناس بالأمين بن الرشيد العباسي في زيه
ولهوه وإكبابه على شهواته وتضييع الحزم والجد حتى فسدت الأحوال وتراكمت الأهوال
وذكر معاصروه أنه لم يكن شهد حربا قط قبل خلافته وكان مع ذلك جوادا متلافا فآلت به
الأمور إلى ما ذكرنا ولله الأمر من قبل ومن بعد الخبر عن دولة أمير المؤمنين
المولى عبد الله بن إسماعيل رحمه الله
كان المولى عبد الله بن إسماعيل وهو ولده الحرة خناثي بنت بكر المغفري أيام خلافة
أخيه المولى أحمد منحاشا إلى أخيه المولى عبد الملك ومقيما معه ببلاد السوس فلما
خلع المولى أحمد وبويع المولى عبد الملك وقدم مكناسة قدم المولى عبد الله في ركابه
واستمر مقيما بها إلى أن ثار العبيد بالمولى عبد الملك وفر إلى الحرم الإدريسي
فخرج المولى عبد الله من مكناسة إلى سجلماسة وأقام بداره بها إلى أن توفي السلطان
المولى أحمد في التاريخ المتقدم فاجتمع أعيان الدولة من العبيد والودايا وسائر
القواد والرؤساء واتفقوا على بيعة المولى عبد الله بن إسماعيل وهو يومئذ بسجلماسة
فنادوا باسمه وأعلنوا بنصره في المحلة ومكناسة وبعثوا جريدة من الخيل لتأتي به
وكتبوا مع ذلك إلى أهل فاس يعزونهم عمن هلك من إخوانهم أيام الحصار ويحضونهم على
الموافقة على بيعة المولى عبد الله بن إسماعيل
ولما وصل الكتاب إلى فاس قرىء على منبر جامع القرويين فأجابوا بالموافقة إن حضر
ولما وصلت الخيل إلى المولى عبد الله وأعلموه بما اتفق عليه الناس في شأنه أقبل
مسرعا حتى نزل بظاهر فاس بالموضع المسمى بالمهراس فخرج أعيان فاس من العلماء والأشراف
وغيرهم لملاقاته فسلموا عليه واستبشروا بقدومه فسر بهم والآن لهم القول ووعدهم
بالجميل
____________________
وأعلمهم بأنه من الغد دخل لحضرتهم لزيارة المولى إدريس رضي الله عنه فرجعوا
مسرورين مغتبطين ومن الغد أخذوا زينتهم ولبسوا أسلحتهم ونشروا ألويتهم وخرجوا
لميعاده فركب السلطان فرسه وركب معه خاصته وأهل موكبه وفي جملتهم حمدون الروسي عدو
أهل فاس وتقدم السلطان فدخل على باب الفتوح وتوسط المدينة فرأى بعض سماسرة الفتن
من أولاد ابن يوسف حمدون الروسي وكان قد قتل أباهم حسبما مر فصمدوا إليه فلما رآهم
تنحى عنهم قليلا فتبعوه فعلم أنهم عزموا على اغتياله فركض فرسه إلى السلطان وهو
على قنطرة الرصيف وأخبره خبر أولاد ابن يوسف وخص وعم بالإرجاف في حق أهل فاس فعدل
السلطان عن قصده ورجع على طريق جامع الحوت ثم على جزاء ابن عامر وخرج على باب
الحديد إلى فاس الجديد ولم يزر ولم يعلم الناس موجب الرجوع عن الزيارة إلى أن شاع
الخبر بذلك فمشى علماء فاس وأشرافها إلى السلطان ورفعوا إليه بيعتهم واعتذر إليه
بعض الفقهاء بأن ما وقع في جانب حمدون إنما هو من بعض السفهاء فأعرض السلطان عن
ذلك وصم عن سماعه
وكانت البيعة التي رفعها أهل فاس من إنشاء الفقيه العالم الوجيه أبي العلاء إدريس
بن المهدي المشاط المنافي نسبة إلى عبد مناف بن قصي وهذا الفقيه هو الذي كان
السلطان المولى إسماعيل رحمه الله بعثه قاضيا على تادلا مع ابنه المولى أحمد
الذهبي حين ولاه عليها كما مر ونصها
الحمد لله الذي جعل العدل صلاحا للملك والرعية والعباد كما جعل الجور هلاكا للحرث
والماشية والبلاد وسدد العادل بعنايته وأعد للجائر ما هو معلوم له يوم المعاد وجعل
المقسطين على منابر من نور يوم القيامة كما جعل القاسطين في العذاب والحسرات
والأنكاد فأسعد الملوك يوم القيامة من سلك مع الرعية سبيل السداد وأصلح ما أظهره
الجائر في الأرض من الفساد نحمده أن تفضل علينا بإمام عادل ونشكره إن حكم فينا من
لا يصغي في الحق لقول عاذل فولى علينا الخليفة من نسل الشفيع يوم التناد
____________________
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا يسأل عما يفعل يؤتى الملك من يشاء
وينزع الملك ممن يشاء في أي وقت شاء وأراد ونشهد أن سيدنا ونبينا ومولانا محمدا
عبده ورسوله الشفيع في أمته يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولا يقبل من القاسطين
فداء بطريف ولا تلاد صلى الله عليه وسلم الذين أظهروا الشريعة ومحوا الظلم محمو
المداد أما بعد حمد الله الذي أمر بطاعة أولي الأمر ووعد من نصر دينه بالظفر
والنصر فقال عليه السلام ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية وفي صحيح مسلم
عنه صلى الله عليه وسلم قال من أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهو جميع فاضربوا عنقه
بالسيف كائنا من كان وفي صحيح مسلم أيضا عنه صلى الله عليه وسلم قال من أتاكم
وأمركم جميع على رجل واحد وأراد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه وفي صحيح البخاري عن ابن
عباس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كره من أميره شيئا
فليصبر فإن من خرج عن السلطان شبرا مات ميتة جاهلية وفيه أيضا عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني
فقد عصى الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني وقال أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابن عقبة لعلك لا تلقاني بعد اليوم فعليك
بتقوى الله تعالى والسمع والطاعة للأمير وإن عبدا حبشيا
واتفق أئمة الدين على أن نصب الإمام واجب على المسلمين وإن كان من فروض الكفاية
كما أن القيام بذلك من الواجبات كما دلت عليه نصوص الأحاديث والآيات وقال الشاعر
( لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ** ولا سراة إذا جهالهم سادوا )
ولما كان من أمر الله سبحانه ما أراده وقدره فقبض إليه خليفته وأقبره دهش المسلمون
وخافوا من توالي الشرور والفتن فتوجهوا إليه سبحانه في أن يغمد عنهم السيوف وطلبوا
من فضله المعهود أن يصرف عنهم ضروب المحن والحتوف فأجاب الكريم الدعوات ونفس
الهموم والكربات ونشر
____________________
رحمته وأزاح نقمته فصارت القلوب ناعمة بعد بؤسها والوجوه ضاحكة بعد عبوسها والشرور
والفتن قد أدبرت وأعلام الأمن والعافية قد أقبلت فوفق الله جيوش المسلمين للأعمال
المرضية والهمم لما فيه صلاح الدنيا والدين والراعي والرعية فاقتضى نظرهم السديد
ورأيهم الموفق الرشيد بيعة من في أفق السعادة قد طلع وظهر في سماء المعالي بدره
وارتفع الإمام الهمام العلوي الهاشمي العدل في الأحكام الموصوف بالكرم والشجاعة
والشهامة والحزم والنجدة والزعامة المتواضع لله المتوكل في جميع أموره على الله
أمير المؤمنين مولانا عبد الله بن الشريف الجليل الماجد الأصيل أمير المؤمنين
مولانا إسماعيل ابن مولانا الشريف فبايعوه أعزه الله على كتاب الله وسنة الرسول
وإقامة العدل الذي هو غاية المأمول بيعة التزمتها القلوب والألسنة وسعت إليها
الأقدام والرؤوس خاضعة مذعنة لا يخرجون له من طاعة ولاينحرفون عن مهيع الجماعة
أشهدوا على أنفسهم عالم الطويات المطلع على جميع الخفيات قائلين إننا بايعناك
وقلدناك لتسير فينا بالعدل والرفق والوفاء والصدق وتحكم بيننا بالحق كما قال تعالى
لنبيه في محكم وحيه { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق }
ص 26 وقال تعالى وقوله الحق { ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما }
الفتح 10 وقال تعالى { ولا تكن للخائنين خصيما } النساء 105 وهذه الرعية تطلب من
ربها أن يعين مالكها ويساعده ويقذف الرعب في قلب من يريد أن يعانده وأن يفتح عليه
ما عسر على غيره ويمده بعزيز نصره إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير وبيده
القوة والحول نعم المولى ونعم النصير شهد بذلك على نفسه ومن معه العبد الفقير
المذنب الحقير ممليها وكاتبها إدريس بن المهدي المشاط بمحضر فلان وفلان وجمهور
الفقهاء والأعيان في يوم الاثنين سابع رمضان سنة إحدى وأربعين ومائة وألف
ثم سافر السلطان في الحين إلى مكناسة كما نذكره
____________________
حدوث النفرة بين أمير المؤمنين
المولى عبد الله وأهل فاس والسبب في ذلك
قد قدمنا ما كان من وسوسة حمدون الروسي للسلطان المولى عبد الله في جانب أهل فاس
واعتذار بعض الفقهاء لدى السلطان عن ذلك ثم إن السلطان أمر أهل فاس ببعث طائفة
منهم تكون معه على العادة فعينوا الخمسمائة التي كانت تغزو مع الملوك قبله فذهبت
معه إلى مكناسة
ولما استقر بالحضرة قدم عليه أعيان الديوان وعمال القبائل ووفود الحواضر والبوادي
ففرق المال ولم يحرم أحدا سوى أهل فاس فإنه لم يعطهم شيئا ثم حضر عيد الفطر فقدمت
وفود الأمصار ليشهدوا العيد مع السلطان على العادة وقدم وفد فاس لهذا الغرض وحضروا
صلاة العيد مع السلطان بالمصلى ولما قدم الناس هداياهم بعد رجوع السلطان إلى منزله
قدم أهل فاس هديتهم على العادة فأعطى الناس وحرمهم ثانيا
قلت ولست أشك في أن شيطانا من شياطين الإنس كان موكلا بهذا السلطان يغريه بأهل فاس
ويوغر صدره عليهم ويفسد ما بينه وبينهم وإلا فكيف تقتضي السياسة أن يعمد ملك كبير
إلى أخص رعيته ولبها وصميمها فيفسد ضمائرها عليه ويزرع بغضه في قلوبها وهب أنهم
أساؤوا الأدب أليس التغافل مطلوبا في مثل هذا ما أمكن لا سيما في حق السلطان وقد
كان المنافقون يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيحلم عنهم وقال له بعض
أصحابه ألا نقتلهم فقال له صلى الله عليه وسلم كيف يتحدث الناس أن محمدا يقتل
أصحابه ومن الحكم المأثورة قولهم التعامي يدفع شرا كثيرا وقال الشاعر
( ليس الغني بسيد في قومه ** لكن سيد قومه المتغابي )
____________________
ومن الغد أمر السلطان بإحضار أهل فاس بالمشور ثم خرج عليهم فقاموا إليه وأدوا واجب
التحية فقال لهم يا أهل فاس كاتبوا إخوانكم يسلموا إلينا البساتين والقصبات فإنها
للمخزن ومن وظائفه فإن أبوا فإني آتيهم وأهدم عليهم تلك القرية فأجابوا بالسمع
والطاعة وعادوا إلى رحالهم
ولما كان المساء اتخذوا الليل جملا وأسروا ليلتهم كلها ولم يصبحوا إلا بباب فاس
فاجتمعوا بإخوانهم وقرروا لهم مقالة السلطان وما عزم عليه في حقهم فاجتمع أعيانهم
وتفاوضوا في شأنهم وشأن السلطان وأحضروا نسخة البيعة وتصفحوا شروطها وقالوا إنا لم
نبايعه على هذا الذي يعاملنا به ثم أعلنوا بخلعه والأمر لله وحده حصار المولى عبد
الله مدينة فاس
لما أعلن أهل فاس بخلع السلطان المولى عبد الله عزموا على الحرب ووطنوا أنفسهم على
الحصار ونادوا في المدينة من أراد الخروج إلى بلده ومأمنه من غير أهل البلد
فليتهيأ في ثلاث ثم أغلقوا أبواب المدينة واستعدوا للقتال
ولما سمع السلطان بخبرهم تهيأ لغزوهم فأخذ أهبته وخرج من مكناسة في الخامس
والعشرين من شوال سنة إحدى وأربعين ومائة وألف فنزل على فاس ووزع الجنود عليها من
كل ناحية وأطلق يد الجيش بالعيث في أطرافها من تخريب المصانع وقطع الأشجار وإفساد
المزارع وأمر بطم الوادي فانحبس عنهم ماؤه وزحفت العساكر فكان القتال على كل باب
سائر النهار فإذا كان المساء أمر الطبجية والأعلاج بإرسال الكور والبنب وحجارة
المنجنيق فكان الناس لا يستريحون بالنهار ولا ينامون بالليل واشتد الكرب وريع
السرب واستمر الحال إلى أن دخلت سنة اثنتين
____________________
واربعين ومائة وألف فازداد الأمر شدة وارتفعت الأسعار وانعدمت الأقوات وكثر الهرج
فبعثوا إلى السلطان في الصلح فقال على تسليم البساتين والقصاب فأبوا وتجلدوا ثم
بعد ذلك وقع الصلح على يد القائد أبي عبد الله محمد السلاوي بضريح المولى إدريس
رضي الله عنه واستصحب معه جماعة من أشراف فاس وعلمائها إلى السلطان وهو بفاس
الجديد فأكرم مقدمهم ووصلهم بألف دينار وكساهم وولى عليهم الحاج أبا الحسن عليا
السلاوي فدخل الوالي المذكور القصبة ثاني ربيع النبوي سنة اثنتين وأربعين ومائة
وألف وشحن البساتين والقصاب بالمقاتلة من أصحابه وافتتح عمله بقتل الشيخ دحمان
المنجاد من رؤساء فاس ولما اتصل خبره بالسلطان عزله وولى على فاس أحد أولاد حمدون
الروسي المعروف بالبادسي ثم بعد مدة يسيرة عزله وولى عبد النبي بن عبد الله الروسي
ثم لما عزم على النهوض إلى مكناسة عزله أيضا وولى عليهم عدوهم حمدون الروسي وارتحل
في العشرين من ربيع الأول من السنة
وفي هذه السنة بعث السلطان ولده المولى محمدا مع أمه السيدة خناثى إلى الحجاز بقصد
حج البيت والمولى محمد يومئذ دون بلوغ وفي نشر المثاني إن هذه الحجة كانت سنة ثلاث
بعدها قال إن أم السلطان المولى عبد الله وهي السيدة خناثى بنت بكار المغفرية
التمست من ولدها المذكور السفر إلى المشرق بقصد حج بيت الله الحرام فأجابها إلى
ذلك وهيأ لها جميع ما تحتاج إليه ووجه معها ولده الذي أيد الله به الدنيا والدين
بعده سيدي محمد بن عبد الله فحج معها في هذه السنة يعني سنة ثلاث واربعين ومائة
وألف
____________________
نهوض السلطان المولى عبد الله
إلى قتال البربر وإيقاعه بهم
لما استقر السلطان المولى عبد الله بمكناسة وتفقد حال البربر وجدها قد عادت إلى
حالها الأول من ركوب الخيل واقتناء السلاح والعيث في الطرقات فأمر العبيد
بالاستعداد لغزوهم وتمهيد البلاد والتقصير من بأوهم فخرج إلى تادلا وصمد إلى آيت
يمور الذين كانوا قد نزلوا بها وأضروا بأهلها حين نفتهم آيت ومالو عن رأس ملوية
وغلبوهم عليه فنزلوا تادلا وأوقدوها نارا فكثر شاكيهم بباب السلطان فنهض إليهم على
ما سبق ولما أحسوا بدنوه منهم فروا أمامه ودخلوا بلاد آيت يسري فتبعهم إلى أن أوقع
بهم على وادي العبيد وقتل منهم آلافا وانتهبهم وعاد إلى تادلا ظافرا والله غالب
على أمره ذكر ما صدر من السلطان المولى عبد الله من العسف المخل بالسياسة والتناقض
المغير في وجه الرياسة
لما عاد السلطان المولى عبد الله إلى تادلا قتل عشرين رجلا من أعيان رماة أهل فاس
وكتب إلى إخوانهم يعتذر عن قتل من قتل منهم ويأمرهم بتجديد بعث آخر وتوجيهه إليه
فعينو طائفة من رماتهم وجهوها بعد أن عرضها القائد حمدون الروسي برأس الماء ثم من
الغد قتل القائد حمدون المذكور عبد الواحد تيبر ومحمد بن الأشهب من أهل فاس بباب
السجن وأمر بجرهما في سكك المدينة ثم أصبح غاديا على أبواب فاس فتتبعها بالهدم
فهدم باب المحروق وباب الفتوح وباب الجيسة وباب بني مسافر وباب الحديد وحمل
مصاريعها كلها إلى فاس الجديد وفي أول يوم من المحرم من سنة ثلاث واربعين ومائة
وألف شرع حمدون الروسي في هدم سور مدينة فاس وجر الأنقاض التي بها إلى فاس الجديد
وفي أثناء ذلك
____________________
ورد كتاب من السلطان يتضمن العفو عن أهل فاس والرضا عنهم فارتاب حمدون الروسي وفر
إلى زرهون ثم قفل السلطان من تادلا فأقام بمكناسة مدة يسيرة وخرج غازيا بلاد السوس
فقدمها ومهدها وعاد مؤيدا منصورا وفي هذه السنة أمر ببناء باب منصور العلج بمكناسة
فجاء في غاية الضخامة والفراهة وأكمل سوق القصبة فجاء على ما ينبغي والله أعلم هدم
السلطان المولى عبد الله مدينة الرياض من حضرة مكناسة وما اتصل بذلك
كانت مدينة الرياض زينة مكناسة وبهجتها إذ كان بها آثار أكابر دولة أمير المؤمنين
المولى إسماعيل رحمه الله وبها دور العمال والقواد والكتاب وسائر أعيان الحضرة
الإسماعيلية بل كل من كان له وظيف في خدمتها السلطانية بنى داره بها وتنافس
الأكابر والرؤساء في تشييد الدور وتنجيد القصور وتناهوا في ذلك حتى كان بدار علي
بن يشي القبلي أربع وعشرون حلقة يجمعها باب واحد وكانت دار القائد عبد الله الروسي
وأولاده على ذلك المنوال بل أعظم ضخامة وأكمل حضارة حتى كأنها حومة مستقلة وكان
لأمثالهما من القواد مثل ذلك أو قريب منه فخلدوا بها الآثار العظيمة والمعالم
الفخيمة وبنى كل عامل مسجدا في حومته وكان بوسطها المسجد الأعظم الإسماعيلي
ومدرسته وحمامه وفنادقه وأسواقه الموقوفه عليه وكانت تنفق بها البضائع التي لا
تنفق في غيرها فأتى عليها من أيام النحوس يوم ركب السلطان المولى عبد الله عند
فجره ووقف على تل عال يشرف منه عليها وأمر النصارى والشعابنية بهدمها فتسارعوا
إليها وشرعوا في هدمها من كل ناحية والناس نيام فلم يرعهم إلا بيوتهم تتساقط عليهم
فمن أسرع وخف بحمل متاعه وآثاثه نجا ومن لا معين له أو تراخى في حمل متاعه ضاع تحت
التراب وكان بها طائفة كبيرة من أخواله الودايا وغيرهم فارتحل
____________________
الودايا إلى فاس الجديد وانضموا إلى إخوانهم الذين بها وتفرق غيرهم بمدينة مكناسة
ولم تمض عشرة أيام حتى صارت مدينة الرياض كدية من التراب ولم يبق بها إلا الأسوار
قائمة الإشخاص والجدران مائلة للعيان والأمر لله وحده
قالوا وفي هذه السنة بعث السلطان المولى عبد الله بعثا مع القائد أبي عمران موسى
الجراري إلى بعض الجهات وكانوا نحو ثلاثمائة فلما قدموا عليه قتله وقتل أصحابه معه
وقدم عليه أيضا وفد من عند الباشا أحمد بن علي الريفي في مثل هذا العدد من طنجة
ومعهم هدية الباشا المذكور فقتلهم فكان قتلهم سبب نفرة أحمد بن علي عنه وسعيه في
إفساد دولته وقتل أيضا من قبيلة حجاوة مائتي رجل على دعوى قطع الطريق ببلادهم ولما
أمر بقتلهم وأخرجوا إلى المحل المعد لذلك خرج النظارة والبطالون من أهل البلد
للفرجة عليهم بباب البطيوي فبينما هم كذلك إذا بالسلطان قد برز من الباب ولما رأى
اجتماع الناس قصد نحوهم فلما رأوه فروا إلى كهف هناك قريب فاختفوا فيه فأتى
السلطان حتى وقف على باب الكهف وكان من قربه أكوام من حجر أعدت للبناء بها فأمر
الأعوان من المسخرين بوضع أسلحتهم وردم باب الكهف بذلك الحجر مع التراب ففعلوا
وهلك ذلك الجمع الكثير غما ولم يوقف لهم بعد على خبر ولا عرف لهم عدد ولما صدرت
منه هذه الأفعال الشنيعة عفا الله عنه كتب إليه أهل الديوان من مشروع الرملة
ينكرون عليه قتله للمسلمين دون موجب فبعث إليهم بالراتب وأمرهم بالتهيؤ لغزو أهل
فازاز فشغلهم بذلك
وفي هذه السنة بعث محمد بن علي بن يشي الزموري القبلي واليا على فاس وقال له خذ
منهم المال واطرحه في وادي أبي الخراريب ولا تتركه لهم فما أطغاهم إلا المال حتى
استخفوا بأمر الملك فقدم محمد بن علي المذكور فاسا ونزل بدار أبي علي الروسي
بالمعادي وعين من كل حومة نقيبا
____________________
عارفا بأهل اليسار فجمعوه لهم حتى كانوا بين يديه فأمر بسجنهم ثم وظف عليهم أولا خمسمائة
ألف مثقال وزعها على التجار وأهل اليسار دون غيرهم من العشرة آلاف إلى الألف ثم
شرع في قبض المال الموزع ومن تراخى منهم في الدفع ضرب وسجن ومن تغيب من أهل اليسار
حبس ولده أو أخوه أو زوجته إلى أن استوفى العدد المذكور ثم عطف على أهل الصنائع
والحرف وأرباب الأصول من الفلاحين وغيرهم فوزع عليهم قدرا وافرا من الألف إلى
المائة وما دون ذلك حتى لم يبق في المدينة أحد إلا وقد غرم ففر الناس إلى البوادي
والقرى والجبال ومنهم من وصل إلى السودان وتونس ومصر والشام حتى لم يبق بفاس إلا
النساء والذرية ومن لا عبرة به من الرجال حتى أن الذين كانوا بالسجن فينفس خروجهم
منه فروا بأنفسهم ولم يعرجوا على أهل ولا ولد وأقام محمد بن علي على هذا العمل
بفاس ثلاثة عشر شهرا وكلما اجتنى مالا بعث به إلى السلطان بمكناسة وكانت هذه
الخطوب كلها فيما بين سنة ثلاث وأربعين إلى سنة خمس وأربعين ومائة وألف بعث
السلطان المولى عبد الله جيش العبيد إلى فازاز وإيقاع أهله بهم
وفي سنة ست واربعين ومائة وألف جهز السلطان المولى عبد الله جيشا من العبيد يشتمل
على خمسة عشر ألفا من الخيل وعقد عليهم للباشا قاسم ابن ويسون وأضاف إليهم ثلاثة
آلاف من جيش الودايا وعقد عليهم للقائد عبد الملك بن أبي شفرة ووجههم إلى جبال آيت
ومالو فلما عبر الجيش وادي أم الربيع على قنطرة البروج ونزلوا بسيط آدخسان كادهم
البربر بأن أظهروا الفرار أمامهم وتوغلوا في الجبال فتبعهم العبيد إلى أن توغلوا
في تلك الجبال ونشبوا في أوعارها والبربر تفر منهم في كل وجه وهم يتبعونهم إلى
____________________
أن حان وقت المساء فبعث البربر ليلا طائفة منهم لسد الثنايا والأنقاب التي دخل
منها جيش السلطان فأحكموا سدها بشجر الأرز والحجارة ولما أصبحوا هجموا على الجيش
من كل ناحية وصدقوهم القتال إلى أن ردوهم على أعقابهم فلما انتهى العبيد إلى
الثنايا التي دخلوا منها وألفوها مسدودة دهشوا وخشعت نفوسهم وازدحموا عليها بعد أن
ترجلوا وتركوا الخيل والسلاح والأبنية فيها من الأثاث فنهب البربر جميع ذلك ثم
جردوا باقي العسكر من الثياب ولم يقتلوا أحدا ورجع العبيد إلى مكناسة راجلين متجردين
من المخيط والمحيط فكان ذلك من أقوى الأسباب التي بغضت السلطان المولى عبد الله
للعبيد لأن ذلك كان بإشارته بزعمهم مع إسرافه في قتل رؤسائهم كما سيأتي ومع ذلك
فقد أنعم عليهم بالمال والكسى ووعدهم بإخلاف جميع ما ضاع لهم ورجعوا إلى مشرع
الرملة ممتعضين لتلك الفعلة ثورة العبيد على السلطان المولى عبد الله وفراره إلى
وادي نول وما نشأ عن ذلك
لما كانت سنة سبع وأربعين ومائة وألف فسد ما بين السلطان المولى عبد الله رحمه
الله وبين العبيد لإسرافه في قتلهم حتى كاد يأتي على عظمائهم وكان ذلك منه جزاء
لهم على قتلهم لأخيه المولى عبد الملك حسبما سبق إذ كان ما بينه وبينه صالحا كما
مر فقتل منهم كل من سعى في قتله أو شارك فيه أو وافق عليه حتى بلغ عدد من قتل منهم
أزيد من عشرة آلاف فأجمعوا على خلعه وقتله ودس إليه بعضهم بما عزموا عليه في شأنه
ففر ليلا من مكناسة ولم يصبح إلا بحلة آيت أدراسن فأجلوا مقدمه وتباروا في إكرامه
ولما عزم على النهوض عنهم ركبوا معه وصحبوه إلى تادلا ثم ودعوه
____________________
وعادوا إلى بلادهم ومضى هو إلى مراكش ومنها ذهب إلى السوس فنزل بوادي نول على
أخواله المغافرة وكان معه يومئذ ولداه المولى أحمد في سن البلوغ والمولى محمد
السلطان بعده صغيرا وأقام عند المغافرة نحو ثلاث سنين وأما والي فاس محمد بن علي
بن يشي فإنه لما اتصل به فرار السلطان من مكناسة فر هو أيضا عن فاس ليلا ولم يصبح
إلا بزرهون فاطمأن بها جنبه وكان ما نذكره الخبر عن دولة أمير المؤمنين أبي الحسن
علي بن إسماعيل المعروف بالأعرج رحمه الله
لما فر أمير المؤمنين المولى عبد الله بن إسماعيل من مكناسة إلى وادي نول اجتمع
عبيد الديوان واتفقوا على بيعة المولى أبي الحسن علي بن إسماعيل المعروف بالأعرج
وكان يومئذ بسجلماسة فكتبوا إليه بذلك وبعثوا بالكتاب مع جريدة من الخيل لتأتي به
فأقبل مسرعا ولما وصل إلى مدينة صفرو لقيه بها أعيان فاس وأشرافها وعلماؤها
فبايعوه ففرح بهم وأكرمهم وعادوا في صحبته إلى فاس الجديد فولى عليهم مسعودا
الروسي وذلك في ربيع الثاني سنة سبع وأربعين ومائة وألف وأمره أن لايقبض منهم إلا
الزكوات والأعشار الشرعية وما جرت به العادة من الهدايا الخفيفة
وكان رحمه الله موصوفا بالحلم والعقل متوقفا في الدماء فستره الله في آخر أمره
وأجمل خلاصه ثم نهض إلى مكناسة ولما قدمها بايعه الجيش بها البيعة العامة هكذا في
البستان
ورأيت بخط جدنا الإمام الفقيه الأستاذ أبي عبد الله محمد بن قاسم بن زروق الحسني
الإدريسي ما نصه وفي اليوم الأول من جمادى الأولى من
____________________
سنة سبع وأربعين ومائة وألف ثار عبيد الرملة على أمير المؤمنين المولى عبد الله بن
إسماعيل ونقضوا بيعته وأعلنوا بنصر أخيه المولى علي ولد عائشة مباركة وخرج لهم
المولى عبد الله عن دار الملك بمكناسة بعد أن أخذ ما كان بها مما أعجبه من خيل
وعدة ومال من غير قتال ولا محاربة ودخل أخوه المولى علي دار الملك بمكناسة يوم
الجمعة فاتح جمادى الثانية من السنة المذكورة وكتبه في الثاني عشر من الشهر
المذكور محمد بن زروق كان الله له بمنه اه كلامه بحروفه
ولما استقر السلطان المولى أبو الحسن بمكناسة قدمت عليه الوفود ببيعاتهم وهداياهم
من جميع البلدان فأجازهم وفرق المال على الجيش إلى أن نفذ ما عنده واحتاج فقبض على
الحرة خناثى بنت بكار أم السلطان المولى عبد الله فاستصفى ما عندها ثم امتحنها
لتقر بما عسى أن تكون قد أخفته فلم يحصل على طائل وكانت هذه الفعلة معدودة من
هناته عفا الله عنه
قال أبو عبد الله أكنسوس وخناثى هذه هي أم السلاطين أعزهم الله وكانت صالحة عابدة
عالمة حصلت العلوم في كفالة والدها الشيخ بكار وقال رأيت خطها على هامش نسخة من
الإصابة لابن حجر وعرف به بعضهم فقال هذا خط السيدة خناثى أم السلطان المولى عبد
الله بلا شك اه ثورة أهل فاس بعاملهم مسعود الروسي وانتقاضهم على السلطان أبي
الحسن رحمه الله
ثم إن مسعودا الروسي عامل فاس عدا على الحاج أحمد بودي رئيس اللمطيين فقتله وأمر
بجره إلى باب الفتوح إذ كان هو الذي سعى في قتل أخيه أبي علي الروسي عقب وفاة
السلطان المولى إسماعيل كما مر
____________________
فلما ارتكب مسعود هذه الفعلة اجتمع أهل فاس وأخذوا أسلحتهم وتقدموا إلى القائد
مسعود ليقتلوه بصاحبهم ففر مسعود ولم يدركوه فعطفوا على السجن فكسروه وقتلوا الحرس
والأعوان الذين به وسرحوا المساجين إلى حال سبيلهم ولما اتصل خبرهم بالسلطان
المولى أبي الحسن غض الطرف عنهم وبعث إليهم أخاه المولى المهتدي ومعه القائد غانم
الحاجي وكتب إليهم يقول إني قد عزلت عنكم مسعودا الروسي ووليت عليكم غانما الحاجي فلم
يقبلوه ورجع من الغد إلى مكناسة ثم رجعوا بصائرهم بإشارة أهل المروءة منهم وبعثوا
جماعة من العلماء والأشراف بهدية كبيرة مع المولى المهتدي إلى السلطان تلافيا لما
فرط منهم ولما دخلوا على السلطان قبض هديتهم وعدد عليهم ذنوبهم ثم أمر بهم إلى
السجن ولما انتهى الخبر إلى أهل فاس قامت قيامتهم وأغلقوا أبواب المدينة وأعلنوا
بالخلاف ثم عطفوا على أصحاب مسعود الروسي وكل من كان له به اتصال فقتلوهم في كل
وجه وأنشبوا الحرب مع الودايا في كل ناحية
وفي رمضان من السنة المذكورة قدم من عند السلطان القائد أبو محمد عبد الله الحمري من
قواد العبيد فاجتمع بأهل فاس واعتذر إليهم عن السلطان وطلب منهم أن يبعثوا معه
جماعة منهم إلى السلطان لرتق هذا الفتق فأسعفوه وبعثوا طائفة من علمائهم وأشرافهم
وأصحبوهم هدية نفيسة إلى السلطان وكتب عبد الله الحمري إلى السلطان يعتذر إليه
عنهم ويشفع لهم عنده فدخلوا على السلطان وعاتبهم ثم عفا عنهم وسرح لهم إخوانهم
الذين كانوا في السجن وولى عليهم عبد الله الحمري ثم لما دخلت سنة ثمان واربعين
ومائة وألف عزله وولى عليهم عبد الله بن الأشقر وسكنت الهيعة واستقام الأمر بعض
الشيء
____________________
غزو السلطان أبي الحسن أهل جبل
فازاز في جيش العبيد وهزيمتهم إياه
لما كانت أواخر سنة ثمان وأربعين ومائة وألف أخذ السلطان أبو الحسن في الاستعداد
وتجهيز العساكر لآيت ومالو وكان ذلك منه إسعافا للعبيد ليأخذوا بثأرهم من البربر
في الوقعة السابقة أيام السلطان المولى عبد الله فخرج إليهم في المحرم فاتح سنة
تسع وأربعين ومائة وألف في جيش كثيف من العبيد فلما نذروا بإقباله إليهم ودنوه
منهم أظهروا الفرار أمامهم مثل الفعلة الأولى فصاروا يتأخرون ويتبع آثارهم فينزل
منازلهم إلى أن عبروا وادي أم الربيع ودخلوا في الجبال فعبر السلطان خلفهم وتقدم العبيد
إلى الجبال والأوعار فاقتحموها عليهم فلما توسطوها كرت البربر عليهم وانقضوا عليهم
من الثنايا انقضاض العقبان وأحاطوا بهم من كل وجه فولوا منهزمين وازدحموا على
الثنايا وسلكوا سبيلهم في المرة الأولى من ترك الخيل والسلاح والأبنية والأثاث
والنجاة بمجرد أعناقهم وسلبهم البربر حتى من الثياب ولم يتعرضوا للسلطان في موكبه
وخاصته إلى أن عبر وادي أم الربيع فرجعوا عنه ولما دخل مكناسة طالبه العبيد
بالكسوة والسلاح والراتب فلم يكن عنده ما يعطيهم فشغبوا عليه ومرضوا في طاعته
وقد أجمل صاحب نشر المثاني هذه الأخبار فقال وفي هذه السنة يعني سنة تسع وأربعين
ومائة وألف أهلك الله كل من خرج على السلطان مولاي عبد الله وقويت الفتن وارتفعت
الأسعار وانحبست الأمطار وقاسى الناس الشدائد من الغلاء وقل الإدام وانقطع اللحم
وهلكت رقاب كثيرة ولم يزل الأمر في شدة وفر الناس كل فرار
____________________
تحرك السلطان المولى عبد الله
من السوس وفرار السلطان أبي الحسن إلى الأحلاف وما كان من أمره إلى وفاته
لما كان شهر ذي الحجة من سنة تسع واربعين ومائة وألف ورد الخبر بأن السلطان المولى
عبد الله قد أقبل من وادي نول ووصل إلى تادلا فاهتز العبيد له وتحدثت فرقة منهم
برده إلى الملك وخالفهم سالم الدكالي في جماعة من شيعته وقالوا لا نخلع طاعة
مولانا علي إذ كان سالم هذا وأصحابه هم الذين تسببوا في خلع المولى عبد الله
وتولية أخيه المولى علي
ثم إن شيعة المولى عبد الله قويت وكثروا أصحاب سالم وأعلنوا بيعته ففر سالم فيمن
معه من القواد إلى زاوية زرهون مستجيرا بها
ولما سمع بذلك السلطان المولى أبو الحسن فر من مكناسة إلى فاس الجديد فصده الودايا
عن الدخول إليها فعدل إلى قنطرة وادي سبو فنزل هنالك يوما أو بعض يوم إلى أن قضى
بعض إربه ثم أصبح غاديا إلى تازا فاحتلها ثم انتقل عنها إلى عرب الأحلاف فأناخ
بديارهم ففرحوا به وأكرموه وصاهروه وأقام بين أظهرهم عدة سنين معرضا عن الملك
وأسبابه إلى أن رجع إلى مكناسة فاستوطنها بإشارة أخيه السلطان المولى عبد الله حين
وفد عليه بدار الدبيبغ من فاس سنة تسع وستين ومائة وألف فأعطاه مالا وجنات ومزارع
مما كان لجانب المخزن بمكناسة وبعثه إلى داره بها فأقام يسيرا ثم وثب عليه العبيد
فقبضوا عليه وبعثوا به إلى أخيه السلطان المولى عبد الله وقالوا إن هذا قد أفسد
علينا بلادنا فأخذه وسرحه إلى تافيلالت فاستقر بها إلى أن مات رحمه الله كما سيأتي
____________________
الخبر عن الدولة الثانية لأمير
المؤمنين المولى عبد الله بن إسماعيل رحمه الله
لما فر السلطان المولى أبو الحسن من مكناسة إلى الأحلاف اجتمعت كلمة العبيد
والودايا على بيعة السلطان المولى عبد الله فبايعوه وهو بتادلا وتبعهم على ذلك أهل
فاس وسائر القبائل ثم إن سالما الدكالي الذي بزرهون كتب إلى أهل فاس يقول لهم إن
الديوان قد اتفق على خلع المولى عبد الله وبيعة سيدي محمد بن إسماعيل المعروف بابن
عريبة والمشورة لعلمائكم فأجابوه بأن قالوا نحن تبع لكم فلما سمع أهل الديوان بما
فعله سالم الدكالي وما تقوله عليهم خرجوا من المحلة إلى زرهون وقبضوا على سالم
الدكالي ومن معه من القواد وبعثوا بهم إلى السلطان المولى عبد الله بتادلا فاستفتى
فيهم القاضي أبا عنان وكان يومئذ معه فأفتاه بقتلهم فقتلهم ثم نميت مقالة سالم
الدكالي إلى المولى محمد ابن عريبة وهو بتافيلالت فظن أن الأمر صحيح فأقبل مسرعا
إلى أن وصل إلى مدينة صفرو فوجد الناس قد بايعوا السلطان المولى عبد الله وراجعوا
طاعته فسقط في يده ثم دخل فاسا مستخفيا وأقام بدار الشيخ أبي زيد عبد الرحمن
الشامي وكان صديقه معتقدا له وكان أبو زيد يعده بالملك
ولما أقبل السلطان المولى عبد الله من تادلا خرج للقائه أهل فاس وفيهم الأشراف
والعلماء وكذلك أهل مكناسة فوافوه بقصبة أبي فكران ولما مثلوا بين يديه عاتبهم
وعدد ما سلف منهم ثم أمر بأعيانهم فقتلوا وفعل مثل ذلك بأعيان مكناسة واستباحهم
وعزل قاضيهم أبا القاسم العميري ورجع أشراف فاس وعلماؤها مذعورين مما نابهم بعد أن
ولى السلطان عليهم محمدا بن علي بن يشي واستمر هو مقيما بقصبة أبي فكران ولم يتقدم
إلى فاس لعدم ثقته بهم
____________________
الخبر عن دولة أمير المؤمنين
المولى محمد بن إسماعيل المعروف بابن عريبة والسبب فيها
لما فعل المولى عبد الله بأعيان فاس ومكناسة ما فعل من القتل والاستباحة وأقام
منكمشا بقصبة أبي فكران نبغت رؤوس الفتنة من الودايا بفاس الجديد وأخذوا في نهب
الطرقات ثم أغاروا في يوم خميس على سرح فاس وأجلاب سوقها فاستاقوها حتى لم يتركوا
لهم بقرة ولا شاة ولا بهيمة غيرهما
ولما رأى أهل فاس ما نزل بهم اجتمعوا وتحالفوا على خلع السلطان المولى عبد الله
وبيعة أخيه المولى محمد بن عريبة فمشوا إليه وهو بدار الشيخ أبي زيد الشامي
فأخرجوه وأخذوا عليه العهود ثم بايعوه في عاشر جمادى الأولى سنة خمسين ومائة وألف
وهيؤوا له كل ما يحتاج إليه من خيل وسلاح وآلة حرب وتباروا في طاعته وخدمته وكتبت
بيعته في خامس عشر الشهر المذكور وكتب عليها الفقهاء خطوطهم وامتنع بعضهم من ذلك
وقالوا بيعة السلطان المولى عبد الله في أعناقنا فلا نخلعها فعزلوا عن الخطط
وامتحنوا ثم كتب أهل فاس إلى عبيد الديوان يعرفونهم ما صنعوا ويطلبون منهم موافقتهم
فأجابوهم إلى ذلك وبايعوا السلطان المولى محمد بن عريبة وتم أمره
ولما رأى السلطان المولى عبد الله أن أمر أخيه قد تم فر إلى جبال البربر وأقام
هنالك ثم فتحت أبواب فاس وانتقل السلطان المولى محمد إلى فاس الجديد ومن الغد نهض
إلى مكناسة فاحتل بها وبايعه العبيد البيعة العامة وقدمت عليه الوفود من سائر
الأقطار بهداياهم فأجازهم وفرق ما كان عنده من المال على العبيد وكان ما نذكره
____________________
بدء اختلال أمر السلطان المولى
محمد بن عريبة وما تسبب عن ذلك
لما فرق السلطان المولى محمد بن عريبة على العبيد ما عنده من المال لم يقنعهم ذلك
واستزادوه فأطلق عفا الله عنه أيدي النهب في أموال المسلمين وأخذ هو في استخراج
الحبوب والأقوات من دور أهل مكناسة غصبا وبحث عنها في الأهراء والمطامير وكل من
ذكر له أن عنده قمحا أو شعيرا قبض عليه وصادره إلى أن يظهر ما عنده وكل من جلب من
أهل البادية حبا اخذ منه كرها فكثر الهرج وعمت الفتنة وفر الناس من مدينتهم وعم
النهب خارجها وانقطعت السبل ووقع الناس في حيص بيص والأمر لله وحده إغارة السلطان
المولى عبد الله على الإصطبل من مكناسة وما نشأ عن ذلك
ثم إن السلطان المولى عبد الله الذي كان مقيما عند البربر قدم ذات ليلة في جماعة
من أصحابه حتى دخل الإصطبل وقتل من وجد به من العبيد وحرق أخصاصهم ورجع عوده على
بدئه ولما نذر به السلطان المولى محمد بن عريبة نادى في الناس بالنفير وركب في
خيله ورجله وقصد السلطان المولى عبد الله وهو بالموضع المعروف بالحاجب ولما رأى
العساكر مقبلة إليه والخيل تتعادى خلفه فر بنفسه وترك ابنيته بما فيها فانتهبها
العبيد وتبعوه إلى أن بلغوا وادي ملوية فتوغل في الجبال ولم يقفوا له على أثر ولما
قفلوا راجعين اعترضهم البربر وتسايلوا عليهم من المخارم والشعاب فصدقوهم القتال
وهزموهم واستلبوا ما معهم من الأثقال ورجعوا بخفي حنين
قال في البستان ولما انتهوا إلى أحواز صفرو بعث المولى محمد ابن
____________________
عريبة جماعة من جيشه إلى من
هنالك من المستضعفين من أهل المزادغ وغيرها من القرى وأمر بقطع رؤوسهم وبعثها إلى
فاس موهما أنها رؤوس البربر اه والله أعلم بقية أخبار السلطان المولى محمد بن
عريبة وما تخللها من الهرج والشدة
لما قفل السلطان المولى محمد بن عريبة من خرجته في أثر أخيه المولى عبد الله وكان
حيث ذكرنا بعث أخاه المولى الوليد بن إسماعيل إلى فاس وأمره بضرب البعث عليهم
توصلا إلى ما في أيديهم من المال بحيث أن من أعطى المال منهم يقيم بداره ومن أبى
يخرج في البعث فتحير الناس وقدم المولى الوليد حضرة فاس وقبض على الحاج أبي جيدة
برادة وكان مثريا فقتله وأخذ أمواله وباع أصوله وقبض على الحاج عبد الخالق عديل
فأخذ أمواله ثم تسلط على أهل الزوايا وكل من ذكر له أنه من أهل اليسار إلى أن
استوفى غرضه ثم سار إلى مكناسة ففعل بأهلها مثل ذلك حتى لم يسلم منهم إلا القليل
هذا والناس في محنة عظيمة من المجاعة والفتنة ونهب الدور بالليل بحيث كان أهل
اليسار لا ينامون وصار جل الناس لصوصا والودايا يعيشون في الجنات خارج المدينة
ويغيرون على القصارين بوادي فاس وبعد أن صار الناس يقصرون كتانهم بمصمودة انتهبوه
منهم بها بل تناولوا القفل من الفنادق والسلطان معرض عن جميع ذلك لا يلتفت إليه
ولقد هلك في هذه المدة من الجوع جم غفير أخبر صاحب المارستان أنه كفن في رجب
وشعبان ورمضان ثمانين ألفا وزيادة سوى الذين كفنهم أهلهم وعشيرتهم وبالجملة فقد
كانت أيام المولى محمد بن عريبة هذا أيام نحس ووبال على المسلمين وكذا أيام أخيه
المولى المستضيء الذي إليه يساق الحديث وكل ذلك والله تعالى أعلم من استيلاء
العبيد على الدولة وشؤم افتياتهم عليها وتحكمهم في أعياصها طوع أهوائهم وحسب
أغراضهم إذ
____________________
معلوم أنه لا ينشأ عن كثرة الخلع والتولية إلا هذا وشبهه نسأل الله تعالى اللطف
والحفظ في الأهل والدين والمال في الحال والمآل
وقد تكلم صاحب نشر المثاني على هذه السنة أعني سنة خمسين ومائة وألف فقال وفي هذه
السنة هزم جيش الثائرين على مولاي عبد الله يعني العبيد هزيمة عظيمة بعد أن صدر
منهم فساد كبير وذلك على يد البربر وارتفعت الأسعار جدا وجعل اللصوص يهجمون على
الناس في دورهم ليلا ويقتلونهم وهم يستغيثون فلا يغاثون وبلغ الخوف إلى أبواب
الدور المتطرفة بفاس نهارا فلا يستطيع أحد أن يخرج عن باب مصمودة في العدوة ولا عن
باب القصبة القديمة في الطالعة ولا عن حومة الحفارين باب عجيسة وكثر الهدم في
الدور لأخذ خشبها وكثر الخراب وخلت الحارات فتجد الدرب مشتملا على عشرين دارا
وأكثر وكلها خالية وفي هذه المدة قتل الفقيه العلامة أبو البقاء يعيش الشاوي بداره
بالدوح وقتله كان سبب خلاء الدوح وافتضح أهل المروءة من الناس ومن يظن به الدين
وكل من قدر على الفرار فر من فاس وقل من سلم منهم بعد خروجه عن البلد وخرج جماعة
وافرة من أهل فاس إلى تطاوين وما والاها لجلب الميرة إذ كان الله تعالى قد سخر
العدو الكافر بحمل الطعام إلى بلاد المسلمين فاشترى أهل فاس منه شيئا كثيرا لكن
امتنع الجمالون من حمله لهم وماطلوهم فشكوهم لوالي تلك البلاد ورئيسها حينئذ أحمد
بن علي الريفي فأظهر لهم النصح وأبطن الغش لانحرافه عن السلطان ومن يتعلق به فثبط
الجمالين وهم قبيلة بداوة فازدادوا امتناعا وتعاصيا حتى بقي أهل فاس معطلين
بميرتهم نحو ستة أشهر فهلك بسبب ذلك خلائق لا يحصون جوعا وكلهم في عهدة أحمد بن
علي الريفي وما أغنى مال ولا متاع في طلب القوت ولولا أن الله سخر العدو الكافر
بجلب الميرة للمغرب لهلك أهله جميعا فيما أظن وذلك كله من شؤم الفتن والخروج على
الملوك
____________________
وأما الأصول والسلع فلم يكن شيء منها يبلغ عشر ثمنه المعتاد ولم يقيض الله لهذا
المغرب راحة حتى من برجوع السلطان مولاي عبد الله هذا كلام صاحب نشر المثاني وهو
الفقيه المؤرخ سيدي محمد بن الطيب بن عبد السلام القادري وقد حكى هذه الأخبار عن
معاينة لأنه كان يومئذ حاضرها وشاهدها
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائة وألف والناس في شدة وفي الرابع والعشرين من صفر
منها ثار العبيد على السلطان المولى محمد بن عريبة فقبضوا عليه وعلى قائده على فاس
الشريف أبي محمد عبد المجيد المشامري ووضعوا في رجلي كل واحد منهما قيدا وأخرجوا
ابن عريبة وعياله من دار الملك إلى داره التي على وادي ويسلن بجنان حمرية ووكلوا
به جماعة من العبيد يحرسونه وكتبوا إلى أخيه المولى المستضيء بن إسماعيل بتافيلالت
يستدعونه للقدوم عليهم ليملكوه الخبر عن دولة أمير المؤمنين المولى المستضيء بن
إسماعيل رحمه الله
لما قبض العبيد على السلطان المولى محمد بن عريبة أعلنوا بيعة أخيه المولى
المستضيء بن إسماعيل وكتبوا بذلك إلى الآفاق فساعدهم الناس عليه وبعثوا جريدة من
الخيل على عادتهم لتأتي به فأقبل مسرعا ولما انتهى إلى مدينة صفرو لقيه أهل فاس
بها في أشرافهم وعلمائهم وأدوا بيعتهم ورجعوا معه إلى فاس الجديد فأراح به وولى
عليهم القائد أبا العباس أحمد الكعيدي فاستناب الكعيدي عليهم من قبله شعشوع
اليازغي والحال ما حال والظلم ما زال ثم ارتحل السلطان المولى المستضيء إلى مكناسة
فاحتل بها وبايعه العبيد البيعة العامة وقدمت عليه الوفود والقبائل والأمصار
بهداياهم فقابلهم بما يجب واستتب أمره
____________________
ذكر ما صدر من السلطان المولى
المستضيء من العسف والاضطراب
لما استقر السلطان المولى المستضيء بمكناسة كان أول ما بدأ به أن بعث بأخيه المولى
محمد بن عريبة مقيدا إلى فاس ومنها إلى سجلماسة فسجن بها وبعث بقائده السيد عبد
المجيد المشامري والشيخ أبي زيد عبد الرحمن الشامي يسجنان بفاس الجديد ونهبت دار
المشامري وصودر إلى أن مات تحت العذاب ومثل به ثم بعث السلطان كتابه إلى أهل فاس
ولكن رسم أن يقرأ بفاس الجديد ويحضر أعيان أهل فاس لاستماعه فارتابوا وتغيبوا ولم
يحضر منهم الا نحو العشرين فقبض عليهم وسجنوا هنالك ثم وظف عليهم مال ثقيل لم
يقوموا به
وافتقرت الدولة في أيام هذا السلطان واحتاج إلى المال ليقطع عنه لسان العبيد فأخذ
في البحث عما في المخازن الإسماعيلية التي لم يلتفت إليها الملوك قبله فوقع على
خزين من الحديد فاستخرجه وباعه ووقع على الخزين الكبير وفيه آلاف من قناطير
الكبريت فباعها أيضا ووجد شيئا كثيرا من ملح البارود والشب والبقام وغير ذلك مما
كان يجلب إلى الحضرة من غنائم أجناس الفرنج فباع ذلك كله ثم اقتلع شراجب القبة
الشطرنجية وكانت من نحاس مذهب واقتلع الدرابيز التي عن يمينها وشمالها من الحديد
المنتخب من باب الرخام إلى قصر المولى يوسف ودفعها لأهل الذمة وألزمهم أداء ثمنها
فأجحف بهم ثم أنزل المدافع النحاسية التي كانت بأبراج الحضرة فكسرها وضربها فلوسا
فما أغنى ذلك شيئا وقتل في هذه المدة نيفا وثمانين رجلا من عرب بني حسن وسلط
العذاب على مساجين أهل فاس ليغرموا المال فغرموا ما قدروا عليه ثم أمر بالقبض على
تجار أهل فاس ليشتروا أصول مساجينهم فعذبوا إلى أن أدوا بعض المال وعجزوا وأفتى
العلماء أن هذا البيع الواقع في هذه الأصول صحيح تقديما لخلاص الأنفس على الأموال
____________________
ثم قبض هذا السلطان على شريف من الأشراف العراقيين من أهل حومة كرنيز اتهمه بأن
الحرة خناثى بنت بكار استودعته مالا فضرب وامتحن ثم ولى على فاس المولى أبا حفص
عمر المدني وكان رفيقه وجليسه فاستناب المولى أبو حفص على فاس رجلا يقال له ابن
زيان الأعور وتقدم إليه في مصادرة أشراف فاس واستصفاء أموالهم فامتثل ابن زيان
أمره وما قصر وكان الحامل لأبي حفص على هذا أن داره بفاس كانت قد نهبت أيام المولى
محمد بن عريبة ولم ينكر ذلك أحد من أهل فاس فحقدها أبو حفص عليهم إلى أن أدالته
الأيام منهم في هذه المرة ففعل ابن زيان ما فعل فأمر السلطان المولى المستضيء
بالقبض على ابن زيان وأن يطاف به على حمار والسياط في ظهره وهو يقول هذا جزاء من
يؤذي الأشراف فطيف به ثم أزيل رأسه وعلق على باب المحروق هذا والأشراف لا زالوا في
العذاب ثم أمر بمساجين أهل فاس فحملوا إليه في السلاسل والأغلال ثم قتلوا بباب
القصبة عن آخرهم وأمر بإخراج ولد مامي من الحرم الإدريسي فلما وصل إليه قتله وأسرف
المولى المستضيء في القتل والعسف وأراد أن يتشبه بأخيه المولى عبد الله الذي جرد
السيف وبسط الكف فغطى سخاؤه عيبه وهيهات فقد كان المولى المستضيء مسيكا مهزوم
الراية على ما قيل تغمدنا الله وإياه والمسلمين بالرحمة والعفو والغفران ثم قتل
القائد غانما الحاجي ووالي مكناسة القائد سعدون وستة من أولاد الزياتي أصحاب السجن
ثم إن السلطان المولى عبد الله أغرى البربر الذين كان مقيما فيهم بشن الغارات على
الودايا والعيث في طرقاتهم ففعلوا وانقطعت السبل وتعذر المعاش وكان المولى زين
العابدين بن إسماعيل محبوسا عند أخيه السلطان المولى المستضيء فأمر بإخراجه
وإحضاره بين يديه فأحضر وضرب ضرب التلف وبعث به مقيدا إلى تافيلالت ليسجن مع بعض
أشرافها فبعث العبيد جماعة منهم فانتزعوه من يد حامليه وبعثوا به إلى القائد أبي
العباس أحمد الكعيدي ببني يازغة وتقدموا إليه في الاحتفاظ به والاعتناء بشأنه
____________________
إيقاع الباشا أبي العباس أحمد
بن علي الريفي بأهل تطاوين
قد قدمنا ما كان من إغارة الباشا أبي العباس أحمد بن علي الريفي صاحب طنجة على أهل
تطاوين وهزيمة أبي حفص الوقاش له وفتكه بأصحابه فاستحكمت العداوة بين الريفي
والوقاش من يومئذ وبقي الريفي يتربص به الدوائر ويترصد له الغوائل إلى أن بويع
السلطان المولى المستضيء في هذه المدة فلم يقدم عليه أحد من أهل تطاوين ولا دخلوا
في بيعته فوجد أبو العباس الريفي السبيل بذلك إليهم وأغرى بهم السلطان المذكور ودس
إليهم أنهم شقوا العصا وخالفوا الأمر مع ما كان قد نقل عن الفقيه أبي حفص في تلك
القصيدة من التصريح بطلب الملك فنجع ذلك في المولى المستضيء وكتب إليه يأمره
يالإيقاع بأهل تطاوين فاغتنمها أبو العباس الريفي واقتحم تطاوين في جموعه على حين
غفلة من أهلها وانتهبها وقتل من أعيانها نحو الثمانمائة ووظف على من بقي منهم مالا
ثقيلا وهدم أسوارها ونظمها في سلك ما كان مستوليا عليه وبنى بها دار الإمارة الموجودة
الآن شغب العبيد على السلطان المولى المستضيء وفراره إلى مراكش
لما كان منتصف ذي القعدة من سنة اثنتين وخمسين ومائة وألف شغب العبيد بمكناسة على
السلطان المولى المستضيء وتآمروا في عزله ومراجعة طاعة أخيه المولى عبد الله ولما
أحس المولى المستضيء بما أجمعوا عليه خرج من مكناسة في شيعته وأنصاره قاصدا ضريح
الشيخ أبي محمد عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه فتبعه المولى عبد الله في جمع من
العبيد فأدركوه ببعض الطريق فكر عليهم وقاتلهم حتى رجعوا عنه ومضى لوجهه إلى أن
وصل إلى طنجة فأقام بها نحو الشهرين عند أحمد بن علي الريفي
____________________
ومنها توجه إلى مراكش فإنهم كانوا قد بايعوه وكان أخوه المولى الناصر نائبا عنه
بها ولما استقر بمراكش كاتب قبائل الحوز يستصرخهم على أخيه المولى عبد الله
ويستنفرهم للخروج معه إليه فتقاعدوا عنه لأن عبدة والرحامنة وأهل السوس كانوا شيعة
للمولى عبد الله ولم يبق في حزب المولى المستضيء إلا أهل دكالة أخواله وبنو حسن
عرب الغرب ولما رأى المولى المستضيء تقاعد قبائل الحوز عنه أقام بمراكش يزجي
الأيام إلى سنة خمس وخمسين ومائة وألف والباشا أبو العباس الريفي صاحب طنجة يفتل
للعبيد في الذروة والغارب إلى أن بايعوه ثانية بعد أخيه المولى زين العابدين وبعد
خلع السلطان المولى عبد الله حسبما نذكره بعد إن شاء الله مراجعة العبيد طاعة
السلطان المولى عبد الله ودخولهم في دعوته
قد قدمنا أن السلطان المولى عبد الله كان مقيما في هذه المدة عند البربر وأنه تبع
المولى المستضيء عند خروجه من مكناسة ثم رجع عنه ولما بلغه خبر مسيره إلى مراكش
سار في اعتراضه إلى أن بلغ قصبة وادي آلزم فلم يقف له على خبر فأقام يتجسس أخباره
إلى أن اتفق العبيد على بيعته وهو بآلزم فبايعوه أوائل سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف
وكتبوا بيعتهم وبعثوا بها إليه مع بعض خاصتهم وكتبوا مع ذلك إلى أهل فاس والودايا
في الموافقة فوافقوهم وبايعوا السلطان المولى عبد الله وخطبوا به على منابرهم
وزينت فاس ولما انتهى الحال إلى هذا الحد فر الوزير أبو الحسن علي العميري من
مكناسة إذ كان وزير المولى المستضيء واحترم أخوه القاضي أبو القاسم العميري بضريح
بعض صلحاء مكناسة وبعث أهل فاس جماعة من أشرافهم وعلمائهم ببيعتهم إلى السلطان
المولى عبد الله ومعهم جماعة من التجار وحجاج الركب الحجازي بهداياهم هذا كله
والسلطان لا زال
____________________
مقيما بقصبة آلزم وتولى العبيد
بمكناسة النقض والإبرام لتأخر مجيء السلطان وظهر منهم الإدلال والاستبداد على
الدولة وبعثوا من قبلهم القائد أبا محمد عبد الله الحمري واليا على فاس وقالوا عن
أمر الديوان وكثر القطاع بالطرقات واللصوص بالمدينة وعادت هيف إلى أديانها مجيء
السلطان المولى عبد الله إلى مكناسة وما ارتكبه من أهلها
وفي خامس عشر رجب سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف تحرك السلطان المولى عبد الله من
آلزم وقدم مكناسة فقبض على قاضيها الفقيه أبي القاسم العميري والسيد أبي العباس
أحمد الشدادي والعباس بن رحال والفقيه المليتي وأزال عمائمهم وفضحهم وقال لهم كيف
تزوجون حرمي من أخي وأنا حي ونكل بهم النكال الشديد ثم أمر بسحبهم إلى السجن وأعطى
دار القاضي العميري أحد العبيد وقال لهم من أراد منكم دارا بمكناسة فليأخذها
فامتدت أيدي العبيد في الناس حتى صاروا يقفون بالأبواب ويقول العبد لصاحب الدار إن
سيدي قد أعطاني دارك أو أعطاني ابنتك فيفتدي منه بالمال ولحقهم من العبيد فوق ما
يوصف ومن شكى منهم عوقب وسجن والسلطان مقيم بباب الريح لم يدخل القصبة التي كان
بها المولى المستضيء
وولى في هذه المدة على فاس شيخ الركب الحاج عبد الخالق عديل وولى على قضائها
الفقيه أبا يعقوب يوسف بن أبي عنان وتقدم إليه في أن يعزل القضاة والخطباء الذين
خطبوا بالمولى المستضيء في سائر البلدان
وأما الودايا فإنه لم يقدم على المولى عبد الله منهم أحد ولا بايعوه وكذا الباشا
أحمد بن علي الريفي وأهل الريف والفحص وقبائل الجبل فاغتم المولى عبد الله لذلك ثم
شفعت الحرة خناثى أم السلطان في قومها الودايا وبعثت إليه جماعة منهم فقبلهم وعفا
عنهم
____________________
مجيء السلطان المولى سليمان من
مراكش إلى القصر ثم مسيره إلى فاس وحصاره إياها
كان السلطان المولى سليمان رحمه الله في هذه المدة مقيما بمراكش وكان العبيد قد
ندموا على ما فرط منهم برباط الفتح من التخلف عن السلطان ونهب أثاثه حسبما مر
فجعلوا يتسللون إليه من مكناسة مثنى وفرادى حتى اجتمع عنده جلهم لا سيما من كان
منهم معروفا بعينه مثل القواد وأرباب الوظائف ولما بلغه ما كان من بيعة المولى
إبراهيم بن يزيد تربص قليلا حتى إذا بلغه خروجه إلى المراسي قلق وخرج من مراكش في
جيش العبيد وبعض قبائل الحوز يبادره إليها ولما وصل إلى رباط الفتح عبر إلى سلا
ونزل برأس الماء ولما حضرت الجمعة دخل المدينة فصلى بالجامع الأعظم منها ودخل دار
الحاج محمد بن عبد الله معنينو من أعيان أهل سلا واستصحب معه الفقيه المؤقت أبا
العباس أحمد بن المكي الزواوي من أهل سلا أيضا بقصد القيام بوظيفة التوقيت ولما
وصل السلطان إلى قصر كتامة أتاه الخبر بدخول المولى إبراهيم إلى تطاوين فأقام
هنالك وكتب إلى الودايا وإلى من بقي بمكناسة يحضهم على التمسك بالطاعة وكتب إلى
ولده المولى الطيب بفاس الجديد يأمره أن يبعث إليه بالفقيه الأديب أبي عبد الله
محمد أكنسوس وهو صاحب كتاب الجيش
قال أكنسوس فقدمنا على السلطان بريصانة على مرحلتين من القصر قاصدا تطاوين ومحاصرة
المولى إبراهيم بن يزيد بها قال فورد عليه كتاب من عند القائد أبي عبد الله العربي
السعيدي صاحب طنجة بوفاة المولى إبراهيم وبيعة أخيه المولى السعيد وأنهم قد عادوا
به إلى فاس ولما تحقق بذلك رجع على طريق القصر يؤم فاسا ويسابق السعيد إليها
فوافياها في يوم واحد فنزل السعيد بجموعه بقنطرة سبو ودخل السلطان دار الإمارة
بفاس الجديد مع الودايا ولما كان فجر الغد في تلك الليلة أغارت خيل الودايا
____________________
شغب العبيد على السلطان المولى
عبد الله وفراره ثانية إلى البربر
لما كان شهر ربيع الأول من سنة أربع وخمسين ومائة وألف شغب العبيد على السلطان
المولى عبد الله وهموا بخلعه والإيقاع به فنذرت بذلك أمه الحرة خناثى بنت بكار
ففرت من مكناسة إلى فاس الجديد ومن الغد تبعها ابنها السلطان المولى عبد الله ونزل
برأس الماء فخرج إليه الودايا وأهل فاس وأجلوا مقدمه واهتزوا له فاستعطفهم السلطان
وقال لهم أنتم جيشي وعدتي ويميني وشمالي وأريد منكم أن تكونوا معي على كلمة واحدة
وعاهدهم وعاهدوه ورجعوا وفي أثناء ذلك بلغه أن أحمد بن علي الريفي قد كاتب عبيد
مشرع الرملة وكاتبوه واتفق معهم على خلع السلطان المولى عبد الله وبيعة أخيه
المولى زين العابدين وكان يومئذ عنده بطنجة وأنهم وافقوه فوجم لها السلطان المولى
عبد الله ثم استعجل أمر المولى زين العابدين ففر المولى عبد الله إلى بلاد البربر
كما سيأتي إن شاء الله الخبر عن دولة أمير المؤمنين زين العابدين بن إسماعيل رحمه
الله
كان ابتداء أمر السلطان المولى زين العابدين أنه قدم مكناسة في أيام أخيه المولى
المستضيء فلما سمع به أمر بسجنه قبل أن يجتمع به فسجن مدة ثم أمر يوما بإخراجه
وضربه فضرب وهو في قيده ضربا وجيعا أشرف منه على الموت كما مر ومع ذلك فلم ينطق
بكلمة ثم رده إلى السجن ثم أمر ببعثه مقيدا إلى سجلماسة كي يسجن بها مع بعض
الأشراف المسجونين هنالك فلما سمع بذلك قواد رؤوسهم من العبيد بعثوا من رده من
صفرو إلى فاس ومن هنالك بعثوا به إلى القائد أبي العباس أحمد الكعيدي ببني يازغة
وأمروه أن يحتفظ به مكرما مبجلا
____________________
ثم لما فر المولى المستضيء عن مكناسة وراجع العبيد طاعة السلطان المولى عبد الله
دخل المولى زين العابدين مدينة فاس فاطمأن بها وسر بولاية المولى عبد الله وخلع
المولى المستضيء ثم ذهب إلى مكناسة وأقام بها مدة ثم سار إلى طنجة فقدم على صاحبها
الباشا أحمد بن علي الريفي فأكرم وفادته وأحسن مثواه واستمر مقيما عنده إلى أن
كاتب عبيد الديوان في شأنه ووافقوه في بيعته فبايعه الباشا أحمد وبايعه أهل طنجة
وتطاوين والفحص والجبال وخطبوا به على منابرهم ثم هيأ له الباشا أحمد كتيبة من
الخيل من عبيد الديوان وغيرهم وبعثهم معه إلى مكناسة فدخلها في ربيع سنة أربع
وخمسين ومائة وألف وبويع بها البيعة العامة وقدمت عليه وفود القبائل والأمصار فقابلهم
بما يجب وتم أمره
وفر السلطان المولى عبد الله من رأس الماء ودخل بلاد البربر ولم يقدم على المولى
زين العابدين أحد من الودايا ولا من أهل فاس وكان فيه أناة وحلم لم يظهر منه عسف
ولا امتدت يده إلى مال أحد إلا أنه لقلة ذات يده نقص العبيد من راتبهم فكان ذلك
سبب انحرافهم عنه كما سيأتي بقية أخبار المولى زين العابدين وانقراض أمره
لما استقر السلطان المولى زين العابدين بحضرة مكناسة وتم أمره أقام بها نحو
الشهرين ثم تهيأ لغزو الودايا وأهل فاس الذين تخلفوا عن بيعته فنهض إليهم في جيش
العبيد منتصف جمادى الأولى سنة أربع وخمسين ومائة وألف ولما بات جيشهم بسيدي عميرة
بقصد حصار فاس اختلفت كلمة العبيد ومن الغد قوضوا أبنيتهم وارتحلوا إلى مكناسة
وكفى الله الودايا وأهل فاس شرهم إلا أنهم حرقوا بيادر الزرع التي كانت للودايا
بالخميس ولما وصلوا إلى مكناسة نهبوا ثمار جناتها وأفسدوا ما قدروا عليه منها
____________________
وانصرف جمهورهم إلى مشرع الرملة والذين دخلوا مكناسة مع السلطان طالبوه في الراتب
وشددوا في اقتضائه فلم يكن عنده ما يرضيهم به فشغبوا عليه ومرضوا في طاعته
هذا والسلطان المولى عبد الله مقيم بجبال البربر مطل على الحضرة ومتحفز للوثبة
فلما علم بما المولى زين العابدين فيه من الاضطراب نزل من الجبل وتقدم حتى دخل
فاسا الجديد وذلك في سادس عشر جمادى الآخرة من السنة فلقيه الودايا وأهل فاس
واهتزوا لمقدمه وطاروا به سرورا ثم خرج من يومه إلى دار الدبيبغ فاحتل بها
ولما اتصل خبره بأخيه المولى زين العابدين ضاق ذرعه وخشعت نفسه وأصبح غاديا من
مكناسة إلى حيث يأمن على نفسه معرضا عن الملك وأسبابه فكان ذلك آخر العهد به إلى
أن توفي رحمه الله الخبر عن الدولة الثانية لأمير المؤمنين المولى عبد الله رحمه
الله
لما فر السلطان المولى زين العابدين عن مكناسة اجتمع العبيد واتفقوا على أن
يراجعوا طاعة السلطان المولى عبد الله فبعثوا طائفة من قوادهم ووجهوها إليه فقدموا
عليه منتصف رمضان من السنة المذكورة وهو بدار الدبيبغ فحيوه وأخبروه بأن إخوانهم
قد خلعوا المولى زين العابدين وبايعوه فسر المولى عبد الله بقدومهم وخرج الودايا
إلى العبيد فاختلطوا بهم وسروا بمقدمهم وأجروا الخيل في ميدان المسابقة واللعب
بالبارود وزينت مدينة فاس وجددت البيعة العامة من الودايا وأهل فاس وقبائل العرب
والبربر واستمر الحال على ذلك إلى آخر ذي القعدة من السنة فكان ما نذكره
____________________
مجيء المولى المستضيء من مراكش
ومحاربته لأخيه المولى عبد الله وما يتبع ذلك
لما اجتمعت كلمة العبيد والودايا وسائر أهل بلاد الغرب على طاعة السلطان المولى
عبد الله أقام رحمه الله بدار الدبيبغ واستمر الحال على ذلك إلى آخر ذي القعدة من
سنة أربع وخمسين ومائة وألف فارتاب العبيد بمقامه هنالك ورفضه المقام بين أظهرهم
بمكناسة التي هي دار الملك يومئذ فقلبوا له ظهر المجن على عادتهم واستدعوا المولى
المستضيء من مراكش ليبايعوه
واتصل خبرهم بالمولى عبد الله وأنهم قد بعثوا الخيل إلى المولى المستضيء لتأتي به
فأخذ السلطان من ذلك المقعد المقيم وشمر عن ساعد الجد وأخذ في تأليف قبائل العرب
والبربر ووصل يد بعضهم ببعض ثم ألف بينهم وبين الودايا وأهل فاس وآخى بين الجميع
فأعطوه صفقة أيمانهم بأنهم يموتون دونه فتم له منهم ما أراده وفي أثناء ذلك قدم
الحاج أحمد السوسي من مراكش ودخل فاسا فتحدث عنه بأنه قد دس إلى أهل فاس في مراجعة
طاعة المولى المستضيء والتمسك بدعوته ونمى ذلك إلى السلطان المولى عبد الله فأمر
بقتله فقتل
ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة وألف ففي المحرم منها زحف المولى المستضيء من مراكش
إلى بلاد الغرب ودخل مكناسة في جيش العبيد وبني حسن وغيرهم وقدم في ركابه الوزير
أبو الحسن العميري وأخوه القاضي أبو القاسم وفي آخر المحرم المذكور ورد كتاب من
عند القائد أبي العباس أحمد الريفي إلى أهل فاس يدعوهم إلى بيعة مخدومه المولى
المستضيء والدخول في طاعته فصموا عن ذلك ونبذوه
____________________
وفي ربيع الأول من السنة المذكورة زحف المولى المستضيء في جيش العبيد إلى فاس
وعسكر بظهر الزاوية خارجها ففر السلطان المولى عبد الله من دار الدبيبغ إلى آيت
دارسن ومن الغد هاجت الحرب بين العبيد وبين الودايا وأهل فاس والحياينة وشراقة
وأولاد جامع وهلك فيها من الفريقين عدد كثير وفي رابع ربيع الثاني قدم السلطان
المولى عبد الله يجر أمم البربر خلفه من زمور وبني حكم وجروان وآيت آدراسن وآيت
ومالو في عدد لا يحصيهم إلا خالقهم وفي شارة من اللباس وشكة من السلاح تسر الصديق
وتسوء العدو
ولما عاين المولى المستضيء وعبيده تلك الجموع وعلموا أنهم لا طاقة لهم بحربهم
اتخذوا الليل جملا وأسروا إلى مأمنهم ونجوا بأنفسهم واصبحت الديار منهم بلاقع فسر
الناس بذلك وشكروا الله على انفضاض تلك الجموع بلا قتال
وفي سادس جمادى الأولى من السنة توفيت أم السلطان الحرة خناثى بنت بكار المغفرية
رحمها الله وكانت فقيهة أديبة ودفنت بقبور الأشراف من فاس الجديد
وفي جمادى الثانية منها حدثت فتنة بفاس بين الحاج عبد الخالق عديل والشريف المولى
أبي عبد الله محمد الغالي الإدريسي فشكاه عديل إلى السلطان فأمر بالقبض عليه فعاذ
الشريف بضريح جده رضي الله عنه فألزم السلطان أهل فاس إخراجه فضيقوا عليه إلى أن
طلب الأمان فأمنوه وساقوه إلى السلطان فوبخه ثم ضربه وسجنه ثم أمر أهل فاس بقتل
أصحابه فقتلوهم
____________________
هدية السلطان المولى عبد الله
رحمه الله إلى الحرم النبوي على مشرفه أفضل الصلاة والسلام
وفي هذه السنة أعني سنة خمس وخمسين ومائة وألف سافر الركب المغربي إلى الحرمين
الشريفين فبعث معه أمير المؤمنين المولى عبد الله رحمه الله هدية نفيسة فيها ثلاثة
وعشرون مصحفا بين كبير وصغير محلاة بالذهب مرصعة بالدر والياقوت ومن جملتها المصحف
الكبير العقباني الذي كان الملوك يتوارثونه بعد المصحف العثماني الذي كان عند بني
أمية بالأندلس وانتقل إلى هذه العدوة المغربية على يد عبد المؤمن بن علي حسبما مر
الكلام عليه مستوفى وأما هذا المصحف العقباني فهو مصحف عقبة بن نافع الفهري
الصحابي المشهور فاتح المغرب كان نسخه بالقيروان من المصحف العثماني على ما قيل
وبقي متداولا بين أهل المغرب إلى أن وقع بيد الأشراف السعديين وأخذ فيه المنصور
منهم العهد لولده الشيخ على إخوته كما مر
ولما وصل إلى هذا السلطان رحمه الله غربه من المغرب إلى الحرم الشريف فعاد به الدر
إلى وطنه والإبريز إلى معدنه قال الشيخ أبو عبد الله المسناوي رحمه الله قد وقفت
على هذا المصحف حين أمر السلطان المولى عبد الله رحمه الله بإخراجه وبعثه إلى
الحجرة الشريفة فظهر لي أن تاريخ كتبه بالقيروان فيه نظر لبعد ما بينهما اه وبعث
السلطان رحمه الله معه ألفين وسبعمائة حصاة من الياقوت المختلف الألوان للحجرة
النبوية على الحال بها أفضل الصلاة وأزكى التحية وتقبل الله من السلطان عمله وأجزل
ثوابه آمين
____________________
مشايعة الباشا أبي العباس
الريفي للمولى المستضيء على المولى عبد الله وزحفه إلى فاس وما يتصل بذلك
لما دخلت سنة ست وخمسين ومائة وألف أقبل الباشا أبو العباس أحمد ابن علي الريفي في
جموع الفحص والجبل والريف قاصدا فاسا وأعمالها حتى نزل بالعسال من مزارع فاس وذلك
في الثاني والعشرين من المحرم منها وراود أهل فاس على الانحراف عن طاعة مولاي عبد
الله فأبوا
وأقبل المولى المستضيء في جموع العبيد وعليهم القائد فاتح بن النويني حتى نزل
قريبا منه في الثاني والعشرين من صفر ولما زحف هذان الجيشان إلى فاس اضطربت
نواحيها ودهش الناس من هول هذا الريفي لأنه جاء في استعداد لم يعهد مثله وأرز
الحياينة وشراقة وأولاد جامع إلى أسوار فاس ونزلت حللهم داخلها وخارجها وبعثروا مزارعها
وجناتها وانتهبوا مواشيها وهلك الكثير منها جوعا وهزالا وماجت الفتنة موج البحر
وارتفعت الأسعار ولقي الناس كل شدة وفي كل صباح ومساء ترعد المدافع وتقرع الطبول
بمحلتي المولى المستضيء والريفي فاستعد الناس للحرب وركب السلطان المولى عبد الله
من دار الدبيبغ في نحو عشرة من الخيل وأسرع إلى آيت أدراسن وهم بسهب عشار فدخل حلة
عبد الله بن يشي منهم وقلب سرجه وسط جموعهم فالتف عليه من حضر منهم وقالوا ما الذي
ناب مولانا فقال جئتكم لتنصروني على هذا الجبلي الذي كان خديمنا وعبدنا وأطغاه ما
جمع من المال في خدمتنا ثم أراد أن يفضحنا وجرأه علينا أخوانا المستضيء وأراد
الاستيلاء على بلادنا وهي في الحقيقة بلادكم وما قصد إلا إهانتكم وأنتم أحق من
ينصر أهل البيت ولا يتحمل العار وعليكم السلام ثم ركب فرسه ورجع عوده على بدئه فلم
يبت إلا بدار الدبيبغ ومن الغد زحف أحمد الريفي إلا بلاد الحياينة ظنا منه أنهم لا
زالوا مقيمين بها فلما لم يجد بها أحدا رجع إلى محله الذي كان به ومن الغد
____________________
كانت حرب خفيفة بينه وبين
الودايا ومن لافهم من الحياينة وشراقة وأولاد جامع ثم من الغد ركب أحمد الريفي في
رماته وتقدم حتى وقف على كدينة تامزيزت فوق القنطرة وعبرت جموعه لارورات ثم عبر
المولى المستضيء في جموع العبيد وخلفوا رماتهم ومدافعهم وأثقالهم بالمحلة وكتب
المولى المستضيء كتائبه وصف جنوده بذلك البسيط وزحف الودايا وأهل فاس والحياينة
وشراقة وأولاد جامع وجاءت البربر بجموعها فأشرفوا عليهم بالعين المقبوة إلى دار
ابن عمرو ولما وقعت عينهم على جموع المولى المستضيء ووزيره الريفي بذلك البسيط
صاحوا بهم وشدوا عليهم شدة رجل واحد فكانت الهزيمة واستحر فيهم القتل والسلب
وازدحموا في القنطرة وتساقطوا في الوادي فهلك الكثير منهم والبربر في أثرهم يقتلون
ويسلبون وأما الريفي فإنه لما رأى الهزيمة عليه لم يزد على أن ركب فرسه ونجا برأس
طمرة ولجام على الحالة التي وصفها أبو الطيب إذ قال
( لا يأمن النفس الأقصى فيدركه ** فيسرق النفس الأدنى ويغتنم )
ولم يعرج هؤلاء ولا أحد من المنهزمة على المحلة حتى انتهى إليها البربر فتركوا اتباع
المنهزمة واشتغلوا بنهبها فأتوا على ما فيها من الأخبية والكراع والأثاث الفاخر
ولم يتركوا بها إلا المدافع والمهاريس وآلتها من كور وبنب وبارود فإن القائد أبا
عزة صاحب الشربيل وقف على ذلك حتى حازه وعاد الناس وقد امتلأت أيديهم من الغنائم
فلقيهم طوائف من البربر لم يكونوا قد شهدوا الوقعة فاستلبوا ما بأيديهم
قال صاحب البستان حدثني السلطان المرحوم سيدي محمد بن عبد الله عن هذه الوقعة وكان
قد شهدها وهو في سن البلوغ قال بعثني والدي مع أخوالنا الودايا فلما هبت رياح
النصر وانهزم العدو في ساعة واحدة وكنت يومئذ في خمسين فارسا بين ودايا وأصحاب
تقدمنا إلى المحلة فوقفنا على قبة الباشا أحمد وأحرزناها ثم أمرت الحمارة فحملوا
لنا من صناديق
____________________
الريال على عشرين بغلة ومن
الملف والكتان على ثلاثين جملا لعرب بداوة أصحاب الإبل وحملوا لنا قبتين إحداهما
لأحمد الريفي والأخرى أظنها للمولى المستضيء وأما العرب والبربر والودايا وأهل فاس
فقد أخذت كل طائفة بناحية تحمل ما قدرت عليه ثم لما انفصلنا عن المحلة قافلين
لقيتنا كتائب من البربر الذين لم يحضروا الوقعة وبنفس ما خالطونا طاروا بما في
أيدينا حتى لم ندر أين البغال ولا الإبل وانفرد بكل بغلة وجمل جماعة من الخيل
خمسون أوستون أو أكثر ولم يجتمع منا اثنان وعدنا كما جئنا وهكذا وقع لكل من انتهب
شيئا من حزبنا إلا من دخل مع البربر في حصتهم ولما فرغ الناس من النهب اشتغل عبيد
السلطان بجمع الرؤوس فكان عددها ما بين أبيض وأسود نحو التسعمائة فيها رأس الباشا
فاتح بن النويني ثم بعث السلطان المولى عبد الله البغال لجر تلك المدافع والمهاريس
وحمل الكور والبنب فسيق ذلك كله إلى دار الدبيبغ ثم بعث بغالا أخرى لحمل البارود
وكان ثلاثمائة برميل في كل واحد قنطار من البارود الجيد فأدخل ذلك كله لخزين فاس قال
السلطان المرحوم سيدي محمد بن عبد الله في حديثه وكان هذا أول بعث بعثني فيه والدي
وأول حرب شهدتها وأنا يومئذ في سن البلوغ وكان لي ولوع باللعب بالرمح والمطاعنة به
إلى أن مهرت فيه اه كلامه
ولما اجتاز المنهزمة بجبل الزبيب اعترضهم أهله وقاتلوهم فقتلوا في جملتهم سيدي
محمد بن المستضيء يظنونه من أهل الريف ثم خلص الريفي وأصحابه إلى طنجة بعد غصب
الريق وكان أمر هذه الوقعة فتحا عظيما على أمير المؤمنين المولى عبد الله وشيعته
قال في نشر المثاني فراجع طائفة من العبيد طاعة مولاي عبد الله وجاءته قبائل
المغرب بالهدايا من كل ناحية فتألفهم وألان لهم القول وأمر العبيد بالمسير إلى
طنجة لحرب الريفي فساروا ثم رجعوا ولم يلقوا كيدا
____________________
معاودة أحمد الريفي غزو فاس
وما كان من أمره مع السلطان المولى عبد الله إلى حين مقتله
لما وصل أحمد الريفي إلى طنجة أخذ في إخلاف ما ضاع له ولقومه من خيل وسلاح وأخبية
ونحوها وجدد لجيش العبيد من ذلك ما جدده لأهل الريف وأخذ في الاستعداد لمعاودة غزو
فاس وأقسم أن لا يأكل لحما ولا يشرب لبنا حتى يدخل فاسا وينهبها كما انتهبوا محلته
وبعث إلى سلطانه المولى المستضيء بمائتي فرس ومائتي خباء وألف مكحلة وخمسين ألف
مثقال يفرقها على العبيد يتقوون بها وضرب له موعدا يجتمعون فيه على حرب السلطان
المولى عبد الله وشيعته من الودايا وأهل فاس فكان أمر الريفي فيما أنفقه كما قال
تعالى { فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون } الأنفال 36
ولما كان شهر جمادى الأولى من سنة ست وخمسين ومائة وألف خرج أحمد الريفي من طنجة
قاصدا حضرة فاس في أكمل شكة وأحسن استعداد ولما انتهى خبره إلى السلطان المولى عبد
الله لم يسعه التخلف عن لقائه فكتب إلى عرب الحياينة وشراقة وأولاد جامع وكتب إلى
عرب الغرب من سفيان وبني مالك وسائر شيعته يستنفرهم ويحضهم على نصرته وفرق الراتب
على العبيد والودايا وزرارة وأخرج أهل فاس بعثهم الذي عينوه على العادة وكتب
السلطان إلى آيت أدراسن وجروان يخبرهم بعزمه على مصادمة الريفي وجمعه ويقول لهم إن
أردتم المال والغنيمة فتأهبوا للنهوض إلى طنجة فخف ناس منهم وقدم عليهم منهم ألفان
من الخيل وأكثر منها رماة
ثم خرج السلطان من فاس أواخر جمادى الأولى ونزل على وادي سبو وأقام به إلى أن عرض
عساكره ورتبها فجعل رماة عبيده ورماة أهل فاس رحى واحدة وعقد عليهم للقائد أبي عزة
صاحب الشربيل وجعل الودايا
____________________
وزرارة وأهل السوس خيلهم
ورماتهم رحى واحدة وعقد عليهم لحاجبه القائد عبد الوهاب اليموري وسار على هذه
التعبية فلقيه شراقة وأولاد جامع وأولاد عيسى فجعلهم رحى واحدة وعقد عليهم للشيخ
أبي العباس أحمد بن موسى الشرقي ولما عبر وادي ورغة لقيه أهل الغرب في جموعهم
ينتظرونه هنالك فباتوا معه تلك الليلة بعين قرواش ومن الغد جعل بني مالك في رحى
وعقدهم عليهم لقائدهم أبي سلهام الجمادي وجعل سفيان في رحى وعقد عليهم لقائدهم عبد
الله السفياني وسار على هذه التعبية في ظل النصر والسعادة
وأما المولى المستضيء في العبيد وبني حسن فإنه لما بلغه نهوض السلطان المولى عبد
الله من فاس خالفه إلى مكناسة دار الملك فدخلها على حين غفلة من أهلها وعاث وانتهب
وفعل فيها بنو حسن الأفاعيل من سبي النساء والذرية وغير ذلك ثم تدارك أهل مكناسة
أمرهم وتجمعوا لحرب عدوهم فقاتلوا بني حسن في وسط المدينة وردوهم على أعقابهم
وقتلوا منهم ما لا يحصى ورجعوا منهزمين وأما أحمد الريفي فإنه زحف إلى القصر في
جموع لا تحصى من أهل الريف والفحص والجبل وأهل العرائش والقصر والخلط وطليق وبداوة
وغيرهم وأقام ينتظر سلطانه المولى المستضيء وجمعه
ولما أبطأ عليه واتصل به خبر زحف السلطان المولى عبد الله إليه ارتحل من القصر
عامدا نحوه فالتقى الجمعان عشية ذلك اليوم بدار العباس على وادي لكس وقال في نشر
المثاني كان اللقاء بالموضع المسمى بالمنزه من أحواز القصر في رابع جمادى الآخرة
سنة ست وخمسين ومائة وألف
ولما تراءى الجمعان هم جيش السلطان المولى عبد الله بالنزول فقال السلطان رحمه
الله لا نزول إلا على الغنيمة أو الهزيمة ثم عبر إليهم في جنوده وأعجلهم على
النزول وصمد إليهم في كتيبة من أخواله وعبيده فخالط
____________________
مقدمتهم ففضها وكان فيها أهل الفحص وبداوة وطليق والخلط ثم ظهرت كتيبة أهل الريف
التي فيها قلب العسكر وحده وفيها الباشا أحمد بن علي فحمل عليها السلطان حملة
ثانية ألحقها بالمقدمة وتقوضت جموع الريفي من كل جانب وانهزموا للحين ومروا على
وجوههم لا يلوي حميم على حميم ومضى جيش السلطان في أثرهم يقتلون ويسلبون إلى أن
جنهم الليل وقتل الريفي في المعركة وبقيت الأبنية والأثقال بيد السلطان كما هي
فنزل بها بدار العباس وعادت العساكر مساء بالغنائم وبرأس الباشا أحمد بن علي
الريفي عرفه بعضهم بين القتلى فأزال رأسه وأتى به السلطان فسر به وبعث به إلى فاس
فعلق بباب المحروق وانقضى أمل أحمد الريفي وذهبت أيامه و { كل من عليها فان ويبقى
وجه ربك ذو الجلال والإكرام } الرحمن 26 وقد خلف هذا الريفي آثارا كثيرة بطنجة
وتطاوين وأعمالها من أبنية وغيرها تشهد بعلو همته رحمه الله زحف السلطان المولى
عبد الله إلى طنجة واستيلاؤه عليها
لما فرغ السلطان المولى عبد الله رحمه الله من أمر الريفي أصبح غاديا يؤم طنجة
ولما شارفها خرج إليه رجالها يحملون المصاحف على رؤوسهم والصبيان يحملون الألواح
بين أيديهم مستشفعين تائبين فعفا عنهم إلا من كان من بطانة أحمد الريفي ودخل
السلطان طنجة واستولى عليها وأمر بالاحتياط على دار الريفي ومتاعه ثم أمر الخواجا
عديلا في جماعة من تجار فاس بإحصاء ما بدار الريفي فدخلوها وتطوفوا خزائنها
واستخرجوا ما فيها من مال وسلاح وسروج وكسى وملف وكتان وفرش وخرثي وأثاث يفوق
الحصر فأحصى ذلك كله وأحصى العبيد والإماء والخيل والبغال وجميع الماشية من إبل
وبقر وغنم فجيء من ذلك بشيء كثير فأعطى الماشية كلها للبربر ثم
____________________
أطلق يد الجيش على الأمراس فانتشلوا ما فيها من قمح وشعير فأتوا عليه ثم تتبع
حاشية الريفي من عمال وكتاب وغيرهم ممن كان له به اتصال فاستصفى ما عندهم من المال
والذخيرة إلى أن استوفى غرضه
وكان هذا الريفي قد رسخ مجده بطنجة وأعمالها وعظمت ثروته لامتداد الدولة له ولأبيه
بها منذ الفتح فكان ظفر السلطان المولى عبد الله بخزائنه من باب الظفر بالكنوز
القارونية وقدمت عليه في أثناء ذلك وفود القبائل التي هنالك فعفا عنهم وأمنهم
وأقام رحمه الله بطنجة أربعين يوما وانقلب راجعا إلى فاس مؤيدا منصورا وبالله
التوفيق اعتراض المولى المستضيء للسلطان المولى عبد الله وعود الكرة عليه ومقتل
بني حسن
لما انهزم المولى المستضيء من مكناسة بعد إيقاعه بأهلها خرج إلى حلة بني حسن وأقام
بين أظهرهم فاتصل به خبر مقتل ناصره ووزيره على أمره أحمد الريفي ففت ذلك في عضده
وهد أركانه ثم لما بلغه فتح طنجة واستيلاء السلطان عليها استأنف جده وأرهف حده
وأخذ في تحريض العبيد وبني حسن على تجديد البعث والنهوض لاعتراض أخيه السلطان
المولى عبد الله مرجعه من طنجة فخرج كبير بني حسن يومئذ وهو قاسم أبو عريف يطوف في
أحيائها ويستنفر جموعها وخرج المولى المستضيء في لمة من وجوه العبيد إلى مشرع
الرملة فجهز بها عشرة آلاف فارس من عبيده ووافاه قاسم أبو عريف بمثلها من بني حسن
فكان مجموع الجيشين عشرين ألفا سوى من انضاف إليهم ثم ساروا لاعتراض السلطان ولا
علم له بهم
وقدم المولى المستضيء أمامه الطلائع والعيون فعادوا إليه بخبر السلطان وأنه بائت
تلك الليلة بدار العباس فصبحه المولى المستضيء في جموعه على حين غفلة منه فلم يرع
السلطان المولى عبد الله إلا نواصي الخيل مقبلة
____________________
إليه فعبأ جيشه على عجل وأقام
الرماة حوالي المحلة ثم صمد إليهم في الخيل وأنشب القتال فلم تكن إلا ساعة حتى
انهزم بنو حسن وولوا الأدبار وكانوا ميمنة الجيش وثبت المولى المستضيء والعبيد في
الميسرة فصمد إليه السلطان وصدقه القتال فهبت ريح النصر وتمت الهزيمة على المولى
المستضيء وعبيده ومروا على وجوههم لا يلوون على شيء فجرد السلطان مع القائد أبي
عزة صاحب الشربيل كتيبة من الخيل في أثرهم وتقدم إليهم أن لا يقتلوا أحدا من
العبيد وإنما يجردونهم لا غير فلم يقتل أحدا من العبيد في هذه الوقعة واستحر القتل
في بني حسن فهلك منهم ما ينيف على الألف وانتهب منهم أكثر من خمسة آلاف فرس ومن
السلاح مثل ذلك وهذه الوقعة هي التي خضدت شوكة بني حسن وفلت من غربهم ونجى المولى
المستضيء في فلهم وأقام بحلتهم ينتظر أن تدول له دولة لأنهم كانوا شيعته كأهل
دكالة وأهل مراكش وكان أخوه المولى الناصر خليفته على مراكش كما مر
وقفل السلطان المولى عبد الله إلى فاس الجديد فاحتل بها وفرق المال على أخواله
وعبيده وأسهم لأهل فاس وأقام بدار الدبيبغ إلى أن دخلت سنة سبع وخمسين ومائة وألف
فقدم عليه في شهر ربيع الثاني منها جماعة من قواد العبيد تائبين خاضعين متنصلين
مما فرط منهم فعاتبهم وقال لهم لا كلام اليوم بيني وبينكم حتى أقطع دابر بني حسن
ومن معهم من شيعة المستضيء ثم عفا عنهم وأعطاهم الراتب وأمرهم بالقدوم عليه إلى
مكناسة بقصد غزو بني حسن فعادوا إلى مشرع الرملة عازمين على ذلك وأخذ هو في
الاستعداد أيضا ونهض من فاس في جيش العبيد والودايا وأهل فاس والحياينة وشراقة
وأولاد جامع وعرب الغرب ولما انتهى إلى مكناسة وافاه بها عبيد مشرع الرملة في
وجوههم وأهل الحل والعقد منهم فجددوا التوبة واستأنفوا البيعة بمحضر القضاة
والعلماء وأعطوا صفقة الطاعة من عند آخرهم والله غالب على أمره
____________________
نهوض السلطان المولى عبد الله
إلى بلاد الحوز وتدويخه إياها وإجفال المولى المستضيء عنها
كان المولى المستضيء في هذه المدة مقيما عند بني حسن كما قلنا ولما بايع العبيد
السلطان المولى عبد الله واجتمعت كلمتهم عليه خرج في طلبه وطلب شيعته من بني حسن
فسلك طريق الفج ليحول بين بني حسن والشعاب فصبحهم بسيط زبيدة وهم غارون والمولى
المستضيء بين أظهرهم فلم يرعهم إلا الخيل تجوس خلال بيوتهم وتسوق أنعامهم وشاءهم
وتنتهب أثاثهم ومتاعهم فانفضوا في كل وجه وتفرقوا شذر مذر وأفلت المولى المستضيء
رحمه الله بجريعة الذقن وتوزعت العساكر السبي
وجاء بنو حسن يهرعون إلى السلطان طالبين عفوه فأمر بالكف عنهم ورد عليهم سبيهم
وترك لهم خيلهم ومضى إلى قبائل دكالة إذ اتصل به أن المولى المستضيء قد فر إليها
فلما نزل قصبة أبي الأعوان ونزلت عساكره أمامه بذلك البسيط من دكالة فر أهلها مع
المولى المستضيء إلى التلول ونزلوا قرب دمنات وشرعت عساكر السلطان في انتشال
الحبوب من الأمراس واستخراج الدفائن من الهميل وتخريب القرى وتقطيع الأشجار وكلما
فرغت من ناحية انتقلت إلى غيرها متقلبة في ذلك البسيط نحو السنة والسلطان مقيم
بالقصبة إلى أن اكتسح أرض دكالة وتركها أنقى من الراحة ليس بها ما يأكله الطائر أو
يتظلل الحائر ثم انتقل إلى بلاد السراغنة ولما توسطها قدمت عليه وفودها ووفود سائر
قبائل تلك الجبال بمؤناتهم وهداياهم فقبلهم وعفا عنهم ثم انتقل إلى ناحية دمنات
ففر أهل دكالة والمولى المستضيء أمامه إلى جبال مسفيوة فتحصنوا بها وكانت مسفيوة
قد
____________________
بايعته ودخلت في دعوته فتقدم
السلطان المولى عبد الله حتى نزل بوادي الزات فقدمت عليه هنالك عرب الرحامنة
وزمران وسائر أهل الحوز وكانوا متمسكين بطاعته فنزلوا معه بالوادي المذكور وعاثت
العساكر في بلاد مسفيوة وأوسعوها نهبا وتخريبا والحرب في ذلك كله قائمة مع المولى
المستضيء على ساق إلى أن صار وادي الزات أخرب من جوف حمار ثم انتقل السلطان إلى
وادي كجي فعاثت فيه العساكر على عادتها وعجز أهل الدفاع فهدمت حصونهم وحرقت قراهم
وقطعت أشجارهم وصار وادي كجي أوحش من وادي الزات فطلبوا الأمان وأعلنوا بالطاعة وجاؤوا
مستشفعين بصبيانهم فقال لهم السلطان على شرط أن تأتوا بالمستضيء فقالوا إنه قد فر
بالأمس ولو كان عندنا لأتيناك به فقبلهم وعفا عنهم ثم جاء أهل دكالة بنسائهم
وذراريهم وقالوا هذه نساؤنا وأولادنا لك وأما المال فقد ذهب وما عندنا ما نقتاته
فافعل بنا ما بدا لك فعفا عنهم وأذن لهم في الرجوع إلى بلادهم وكان ذلك أواخر سنة
سبع وخمسين ومائة وألف
ولما دخلت سنة ثمان وخمسين بعدها ارتحل عن بلاد مسفيوة ونزل بقصبة آلصم بإشمام
الصاد زايا وبها قدم عليه وفد من مراكش كما يأتي
وأما المولى المستضيء فإنه لما فر من مسفيوة قدم مراكش وحاول الدخول إليها فصده
أهلها عنها ورفضوا دعوته وأعلنوا بنصر السلطان المولى عبد الله بمرأى منه ومسمع
فلم يبق له حينئذ بمراكش مطمع وكان أخوه المولى الناصر قد مات يومئذ فأخرجوا إليه
أثاثه فتسلمه منهم وكر راجعا إلى بلاد الفحص فلم يزل تلفظه أرض إلى أرض إلى أن
احتل بطنجة قانعا من الغيبة بسلامة المهجة وسيأتي تمام خبره بعد إن شاء الله
____________________
وفادة أهل مراكش على السلطان
المولى عبد الله بآلصم واستخلافه ولده سيدي محمدا عليهم
لما طرد أهل مراكش المولى المستضيء عن بلادهم تآمروا فيما بينهم وأجمعوا الدخول في
طاعة السلطان المولى عبد الله وعينوا جماعة من وجوههم وأوفدوها عليه وهو بقصبة
آلصم فانتهوا إليه وقدموا بيعتهم وأخبروه بما كان من المولى المستضيء وما عاملوه
به من الصد والإبعاد فقبلهم وعفا عنهم بعد العتاب ثم طلبوا منه هم وقبائل الحوز
أجمع أن يطأ بلادهم ويدخل مصرهم فوعدهم بذلك ولم يبرح من مكانه إلى أن وفدت عليه
قبائل الدير كله فلما تفقد الجيش الذي خرج به من مكناسة وجد أكثره قد فر ولم يبق
معه من العسكر المخزني إلا النصف وأما القبائل فلم يبق معهم منه إلا أعيانهم في
الأخبية لطول الغيبة وكثرة الحروب وقلة الزاد فلم يمكنه التقدم إلى مراكش على تلك
الحال وإنما تألفهم بأن دفع لهم ولده المولى محمدا رحمه الله وقال لهم إني
استخلفته عليكم فرضوا به وقرت أعينهم فكان ذلك أول ما انغرست شجرة الدولة العلوية
بمراكش حتى صارت حضرتها ودار ملكها بعد أن كانوا لا يبغون بمكناسة بدلا
ثم بعث السلطان ولده المولى أحمد وكان أسن من المولى محمد خليفة عنه برباط الفتح
وأضاف إليه قبائل الشاوية وبني حسن ثم أذن السلطان لعامل فاس عبد الخالق عديل في
الرجوع إلى فاس فمرض بالطريق ومات بعد أن دخل فاسا ودفن بزاوية سيدي عبد القادر
الفاسي
ثم رجع السلطان إلى مكناسة على طريق تادلا بعد أن أقام ببلاد الحوز سنة كاملة
فقدمها في شهر ربيع الثاني سنة ثمان وخمسين ومائة وألف ولما شارف مكناسة لم يدخلها
ونزل بقصبة أبي فكران فقدم عليه بها جماعة من المجاهدين أهل الريف من طنجة فوق
المائة ومعهم زوجة الباشا أحمد الريفي وولداها منه فقدمت هدية عظيمة فقبض السلطان
الهدية وقتل الولدين ومن
____________________
معها من أهل الريف ثم قتل معهم ثلاثمائة من بني حسن كانوا قدموا عليه للتهنئة فكان
ذلك سبب نفرة الناس عنه فساءت عنه الأحدوثة وكثرت القالة من الجيش والرعايا حتى في
الأسواق وانقبض الناس عنه حتى أهل فاس فضلا عن غيرهم مكر السلطان المولى عبد الله
بأعيان البربر وإخفار ذمة محمد واعزيز فيهم ثم إطلاقهم بعد ذلك
لما صدر من السلطان المولى عبد الله ما صدر من قتل أهل الريف وبني حسن وانقباض
الناس عنه انقبض في جملتهم البربر فلم يأته منهم أحد وكانوا قد حرثوا بأحواز
مكناسة فلما أدرك زرعهم أمر السلطان العبيد بانتهابه فعمدوا إليه وحصدوه ودرسوه
وأكلوه فازدادت نية البربر فيه فسادا
ولما رأى انقباضهم عنه كاتب كبيرهم محمدا واعزيز وكانت بينهما خلة ومصافاة حتى كان
يقول له أنت أبي إذ كان محمد واعزيز هذا هو الذي حشد له جموع البربر وشايعه على
عدوه أحمد الريفي حتى قتله فكتب إليه يلومه على انقباضه عنه وتخلف قبيله عن الحضور
ببابه مع أنهم شيعته ومواليه فلما ورد عليه كتاب السلطان لم يسعه التخلف عن إجابته
واستشار في ذلك قومه فلم يوافقوه فراجعهم فقالوا ألا ترى إلى ما وقع بمن وفد عليه
من غيرنا فقال لا ترون إلا الخير ولم يزل بهم حتى غلبهم على رأيهم وتفرقوا عنه
لجمع الهدية وتعيين الوفد فجمعوا من ذلك ما قدروا عليه ثم أتوه فأعادوا عليه القول
وحذروه الغدر فقال هذا لا يكون ولستم مثل أولئك فما وسعهم إلا إجابته وأقبلوا معه حتى
انتهوا إلى قصبة أبي فكران حيث هو السلطان فاجتمعوا بالحاجب أبي محمد عبد الوهاب
اليموري فلما رآهم بهت وتحركت منه الرحم البربرية لكنه لم
____________________
يمكنه ردهم بعد بلوغهم إلى ذلك المحل وكانوا نحو المائة كلهم أعيان فترجلوا عن
خيولهم ووضعوا أسلحتهم ثم دخلوا على السلطان المولى عبد الله فوجدوه جالسا على
كرسيه بوسط القلعة فأدوا واجب التحية فأجابهم وأمرهم بالجلوس فجلسوا بين يديه ثم
دخل الحرس والزبانية فوقفوا على رؤوسهم وأحاطوا بهم وأخذ السلطان في معاتبتهم على
ما يرتكبونه في الطرقات والغارات على المستضعفين من الأعراب وغيرهم وانتهاب بضائع
التجار وما كانوا يعاملون به عساكر الملوك من النهب والسلب وعدد عليهم الحسائف
القديمة والأفعال الذميمة ثم أمر الحرس بالقبض عليهم فانقضوا عليهم انقضاض العقبان
ولم يكن بأسرع من أن ألقوا بين يديه مقرنين في الحبال ولم يقبض على محمد واعزيز من
بينهم فقال له يا مولانا أغدرا بعد أمان ولست من أهله فقال له إن هؤلاء القوم قد
حادوا عن الدين وحل مالهم ودمهم لخروجهم عن الطاعة وشقهم عصا الجماعة وقد أعياني
أمرهم وما عدت إلى هذا الأمر بعد خروجي منه إلا من أجلهم أردت أن أقابل هذا التيس
الأسود يعني العبيد بهذا الكبش الأبيض يعني البربر وأستريح من غصة من هلك منها
وأتمسك بالآخر ولولا أنك بمنزلة والدي ما أطلعتك على ما في ضميري فقم في حفظ الله
ولا بأس عليك فقال محمد واعزيز والله لا أقوم ولا أكون إلا مع إخواني حيثما كانوا
فإن هلكوا هلكت معهم ويكون لك غدرك وإن سلموا سلمت معهم ولا يتحدث الناس أني سقتهم
إلى الذبح ورجعت أنا سالما فبأي وجه أسير إلى أولادهم وأي أرض تحميني من عشيرتهم
وإلى أين أقصد فإن كان لا بد من القتل فقتلك لي معهم أجمل بي ولا إثم عليك في ذلك
ولا عار لأني أنا الذي سقتهم إليك وأرحتهم عليك بعد أن عرضوا علي هذا كله فلم أقبل
منهم فلما سمع السلطان هذا الكلام العالي وتمكنت منه صولته الحقة جعل يتدبره ثم
التفت إلى الحاجب عبد
____________________
الوهاب وقال يا عبد الوهاب لا
خير في الرجل يقول للرجل أبة ثم لا يشفعه في جماعة من قبيلة خلوا عنهم فسرحوهم
وخرجوا كأنما نشروا من القبور فركبوا خيلهم وساروا إلى حلتهم ولسان حالهم ينشد ما
قاله الأعرابي الذي بال بواسط فضربه الحجاج وسجنه ثم أطلقه
( إذا نحن جاوزنا مدينة واسط ** خرئنا وبلنا لا نخاف عقابا ) زحف البربر إلى
السلطان المولى عبد الله بأبي فكران وفراره إلى مكناسة
لما خلص جماعة البربر إلى حلتهم أقبلوا على محمد واعزيز وعاتبوه على ما حملهم عليه
من الوفادة على السلطان والقرب منه حتى جرى عليهم ما جرى مع أنهم كانوا في غنى عن
ذلك كله وقالوا له نحن متنا وبعثنا ولا بد لنا من الأخذ بالثأر فقال شأنكم وما
تريدون فخلصوا نجيا وتفاوضوا في شأنهم إلى أن أجمع رأيهم على غزو السلطان لمضي
ثلاث ومن تخلف عنها أحرقت خيمته فقال لهم محمد واعزيز إياكم والطرقات ثم افعلوا ما
بدا لكم فتفرقوا لحللهم واستعدوا للحرب وأقبلوا في اليوم الرابع يجرون الشوك
والمدر فلم يرع السلطان وهو بأبي فكران إلا الرايات قد أطلت عليه من الحاجب والخيل
تسيل بها الأودية والشعاب فلم يسعه إلا أن حمل أثقاله وأركب عياله وجعلهم أمامه مع
رحى من رماة المسخرين وأردفهم رحى أخرى من الخيل ثم تلاهم هو في موكبه وردفته رحى
ثالثة من خيل العبيد جاءت من خلفه وانحدر في بطن الوادي وتفرق الجند عن يمين
الوادي ويساره وسار السلطان على هذه التعبية وكلما دفعت خيل البربر على المسخرين
من الجند أطلقوا عليهم شؤبوبا من الرصاص فيسقط منهم الأربعون والخمسون وإذا دفعت
خيلهم على رحى الخيل فكذلك وعلى موكب السلطان فكذلك وهكذا إلى أن دخل باب القزدير فاحتل
بمكناسة
____________________
وهلك من العبيد في هذه الوقعة نحو الثلاثمائة ومن البربر على ما قيل نحو الخمسمائة
وجمعوا قتلاهم فكفنوهم في أخبية العبيد إذ كانت بأيديهم ولم يرجعوا بسوى ذلك وكانت
هذه الوقعة أواسط سنة تسع وخمسين ومائة وألف
واعلم أنه قد وقع هنا لفظ الرحى ولفظ المسخرين وغير ذلك وهي ألقاب لطوائف من جيش
هذه الدولة السعيدة فلا بد من بيان الاصطلاح في ذلك تتميما للفائدة فنقول إن الجيش
السلطاني اليوم بهذه الدولة الشريفة ينقسم أولا إلى ثلاثة أقسام أصحاب ومسخرين
وجيش فأما الأصحاب فهم طائفة من الجند تلازم السلطان حضرا وسفرا لا يفارقونه بحال
وهم أرباب الوظائف المخزنية منهم الكتاب الذين هم إلى نظر الوزير الأعظم ومنهم
أرباب الفراش ومنهم القهارمة القائمون على طعام السلطان وشرابه ومنهم أرباب الوضوء
وغير هؤلاء ممن يطول ذكرهم وكل طائفة برئيسها وأما المسخرون فهم ملازمون للسلطان
حضرا وسفرا أيضا وشأنهم أن يكونوا فرسانا في الغالب وقد يكون فيهم الرماة وهم أهل
الشوكة والغناء وهم الموجهون في المهمات لأن عليهم المدار في الأمور المخزنية كما
يقتضيه تسميتهم بالمسخرين وإذا ركب السلطان في سفر أو نحوه انقسموا قسمين فالعبيد منهم
يكونون خلفه لأنهم الموالي والودايا وشراقة يكونون أمامه وأما الجيش فهو أصل
الجميع كما يقتضيه لفظه ومنه تنتخب الطوائف السابقة وهو عسكر السلطان الذي يحويه
ديوانه إلا أن معظمه يكون متفرقا في حلله وبلاده إلا إذا أراد السلطان غزوا فيوجه
على ما يحتاج إليه منه أما الجميع أو البعض ويكون ذلك مناوبة على ما هو معروف
عندهم وأما الرحى فهي عبارة عن ألف من الجيش خيلا أو رماة وربما زادت أو نقصت بحسب
ما يتفق والله أعلم
____________________
شغب العبيد على السلطان المولى
عبد الله وانتقاله إلى فاس وانتقال عبيد الديوان من مشروع الرملة إلى مكناسة
لما وصل العبيد الذين كانوا مع السلطان المولى عبد الله بأبي فكران إلى مكناسة
واجتمعوا بإخوانهم الذين كانوا هنالك تكلموا بما في أنفسهم على السلطان من الغيظ
ونفثوا بما في صدورهم عليه من الإحنة وقالوا إنه قد قال لمحمد واعزيز أردت أن أصدم
هذا التيس الأسود بهذا الكبش الأبيض ودارت بينهم هذه الكلمة وأخذت منهم كل مأخذ
وقالوا لم يبق لنا شك في أن هذا الرجل لا غرض له إلا في هلاكنا فانظروا لأنفسكم أو
دعوا ثم كتبوا إلى عبيد الديوان يخبرونهم بما صدر من السلطان في جانبهم
ويستشيرونهم في أمره فجاء بعض عيون السلطان من عبيد مكناسة إليه وأخبروه بما دار
بين العبيد وبما كتبوا به إلى أهل الديوان فطير السلطان بالكتابة إلى ودايا فاس
الجديد يقول لهم إن كانت لكم حاجة بابن أختكم عبد الله فاقدموا عليه الساعة ثم أخذ
في جمع أثاثه وتنضيده وحمل ماله وشده وإسراج خيله وإنهاض رجله وقال لخاصته غدا إن
شاء الله نرجع إلى أبي فكران فلما كان وقت العشاء وصل إلى باب القزدير من جيش
الودايا أربعمائة فارس فأخرج إليهم السلطان أثاثه وماله وعياله ثم ركب في خاصته
وأسروا ليلتهم ولم يصبحوا إلا بفاس الجديد فدخل السلطان داره وأمن على نفسه وأما
عبيد الديوان فإنه لما بلغهم كتاب إخوانهم الذين بمكناسة وقرؤوه قالوا إنه لا يجمل
بنا المقام في وسط بني حسن لا ننفع إخواننا ولا ينفعوننا فأجمعوا الرحيل والانتقال
إلى مكناسة وبعد ثلاث انتقلوا إليها وأعروا مشروع الرملة واستراحت تلك البلاد من
عيثهم لا سيما سلا وأحوازها فإنهم كانوا قد أشجوا أهلها ولاقوا منهم عرق القربة
____________________
ولما وصلوا إلى مكناسة نزلوا بالمدينة وبالقصبة وبالإصطبل وبريمة وبهدراش وبالرحاب
التسعة فملؤوها واجتمعوا بإخوانهم واطمأن جنبهم
ولما كان عيد الفطر من سنة تسع وخمسين ومائة وألف قدم على السلطان بفاس جماعة من
قوادهم مع القاضي والفقهاء والأشراف من أهل مكناسة فحضروا معه العيد على العادة
وطلبوا منه أن يرجع إلى مكناسة وتنصلوا مما بلغه عنهم واعتذروا اليه فوعدهم الرجوع
وأعطاهم مالا وانصرفوا إلى منازلهم ولما كانوا بالجديدة قرب مكناسة اعترضهم البربر
وجردوهم وأخذوا ما معهم ولم يتركوا إلا القاضي أبا القاسم العميري على بغلته وأصبح
الوفد على باب مكناسة عراة ينظر بعضهم إلى بعض إجلاب محمد واعزيز على السلطان
المولى عبد الله وانتقاض أهل فاس والقبائل عليه
لما رجع البربر إلى بلادهم من وقعة أبي فكران كتب كبيرهم محمد واعزيز إلى أهل فاس
يتظلم من السلطان المولى عبد الله ويخبرهم بما اتفق له معه من إخفار ذمته وعزمه
على الفتك يإخوانه ويدعوهم مع ذلك إلى أن يكونوا معه يدا واحدة فأجابوه إلى ذلك
ودخلوا في حزب البربر ثم كتب واعزيز بمثل ذلك إلى عرب الغرب من سفيان وبني مالك
وكبيرهم يومئذ حبيب المالكي فقالوا نحن لكم تبع وحربنا حربكم وسلمنا سلمكم وانتقضت
الفتوق على السلطان من كل جهة وهاجت الحرب بين الودايا وأهل فاس وبعد أيام ورد
الخبر بأن ركب الحاج قد وصل إلى تازا وهو محصور بها فاستغاث أهل فاس بالبربر
ليأتوهم بإخوانهم فجردوا منهم خمسمائة من الخيل إلى تازا فمروا في طريقهم بغرب
الحياينة فانضموا إليهم ودخلوا في حزبهم وصاروا بأجمعهم إلى تازا فخلصوا الركب
الذي بها وقدموا بهم إلى فاس فدخلوا على باب الفتوح ونزل البربر والحياينة
بالزيتون ودخل
____________________
جماعة منهم المدينة لقضاء
أغراضهم
وفي أثناء ذلك أغار عليهم الودايا ففضوهم وقتلوا منهم كثيرا فأمرهم السلطان أن
يعلقوا رؤوسهم على سور قصبة شرافة ففعلوا ثم بدا لأهل فاس في مراجعة طاعة السلطان
فبعثوا إليه في ذلك فأجابهم بأن يقدموا عليه فخرج إليه العلماء والأشراف والأعيان
فلما مثلوا بين يديه عدد عليهم أفعالهم ووبخهم وشرط عليهم شروطا منها أن يعطوه زرع
أهل الغرب المخزون عندهم وأن يهدموا دورهم ويبنوا بأنقاضها دار الدبيبغ ويختاروا
إحدى خصلتين إما أن يكونوا جيشا وإما أن يكونوا نائبة فقالوا نجتمع على هذا الأمر
مع إخواننا ويكون الجواب ولما رجعوا من عنده أغلقوا أبواب مدينتهم وقالوا لا نقبل
شيئا من ذلك كله وعادت الحرب جذعة وارتفعت الأسعار وعظمت الأخطار وفي سابع ذي
الحجة من سنة تسع وخمسين ومائة وألف نهب عامة فاس قفاطين المخزن التي كانت بفندق
النجارين على يد الأمين الحاج الخياط عديل وأرادوا مصادرته على مال المخزن الذي
عنده فافتدى منهم بثلاثة آلاف مثقال فأطلقوه بعد القبض عليه وكانت القفاطين ثلاثة
آلاف قفطان فرقوها على رماتهم يعيدوا بها عيد الأضحى واستمرت الحرب بينهم وبين
الودايا وسائر شيعة السلطان إلى أن دخلت سنة ستين ومائة وألف
وفي أوائل جمادى الأولى منها قدمت قبائل البربر وقبائل الغرب لمشايعة أهل فاس على
حرب السلطان فنزل محمد واعزيز في بربره بجبل أطغات ونزل حبيب المالكي في أهل الغرب
وطليق والخلط بدار الأضياف وانجحر الودايا بفاس الجديد والعبيد بقصبة شراقة
والسلطان بدار الدبيبغ وضاق الخناق على السلطان وشيعته ومن الغد ركب حبيب فى عربه
وزحف إلى السلطان بدار الدبيبغ والبربر على أثره ولما وصل إلى حزيمها بلغه أن
البربر قد نهبوا محلته فرجع منهزما وعبر الوادي وتوجه إلى بلاده وأما البربر فإنهم
____________________
لما فرغوا من محلة أهل الغرب أجلوا
إلى سايس ويقال إن السلطان دس بالليل إلى محمد واعزيز بمال على أن يخذل عنه هذه
الجموع ويفرقها ففرقها بنهب محلة أهل الغرب وبجبهة العير يفدي حافر الفرس ولما
انقضت هذه الجموع إلى بلادها بقي أهل فاس في القتال والحصار سنتين وزيادة كما
سيأتي وبعثوا أثناء ذلك إلى المولى المستضيء المقيم بأحواز طنجة ليقدم عليهم
فيبايعوه وتجتمع كلمتهم عليه فرد رسلهم بمخ العرقوب ووعد عرقوب ذكر السبب الذي هاج
بعث السلطان المولى عبد الله الجيوش إلى أهل الغرب ومراجعتهم طاعته
وفي سنة ستين ومائة وألف أثناء حرب الودايا لأهل فاس قدم جماعة من عرب بني حسن على
السلطان المولى عبد الله شاكين إليه عرب الغرب وأنهم لما انقلبوا راجعين بجموعهم
إلى بلادهم مروا بحلة بني حسن فأغاروا عليها وانتهبوها فحركوا من السلطان ما كان
كامنا في صدره عليهم وبعث إليهم جيشا كثيفا من العبيد والودايا وأمرهم بالفتك بأهل
الغرب ونهب أموالهم وأن لايبقوا لم على سيد ولا لبد فخرج الجيش يؤم بلاد الغرب
فنذروا به وانجفلوا أمامه عن بلادهم وتبعهم طليق والخلط فأرزوا إلى مدينة العرائش
وتحصنوا بسورها فتبع الجيش آثارهم حتى نزل عليهم بها وحاصرهم ثلاثة أشهر هلكت فيها
ماشيتهم جوعا وبعقب ذلك وردت عليهم جماعة من الودايا بأمان السلطان ومصحفه وسبحته
فعاهدوهم على ذلك وأفرج الجيش عنهم وخرجوا مع الودايا فقدموا على السلطان بهديتهم
فعفا عنهم وولى عليهم كبيرهم حبيبا المالكي وأضاف إليه قبائل الجبل كلها وأما
الجيش الذي كان على العرائش فإنهم لما قفلوا باتوا بقصر كتامة فضيفهم أهله بما
قدروا عليه من الطعام والعلف ومن الغد دخلوا القصر فاستباحوه ونهبوا وسبوا وقتلوا
وفعلوا الأفاعيل العظيمة واستمروا على ذلك
____________________
ستة أيام وكان الحادث عظيما
وعز ذلك على الناس كلهم وتأسفوا له وكان ذلك في محرم سنة إحدى وستين ومائة وألف زحف
البربر إلى الودايا ومظاهرة أهل فاس لهم عليهم
لما كان جمادى الثانية من سنة إحدى وستين ومائة وألف عزم السلطان المولى عبد الله
على غزو البربر فخرج من فاس الجديد حتى أتى أبا فكران فعسكر به ظنا منه أن العساكر
ستقدم عليه هنالك كما هي العادة فلم يأته أحد فبعث إلى العبيد يستنفرهم لغزو
البربر فقالوا حتى يأتي الودايا والقبائل ونأتي نحن أيضا ولما رأى تثاقل الناس عنه
عاد إلى منزله وأعرض عما كان هم به ولما سمع البربر برجوعه عنهم طمعوا فيه وأجمعوا
غزوهم فقال لهم محمد واعزيز الرأي أن ننزل بسايس ونحول بينه وبين العبيد حتى لا
يصل إليهم ولا يصلوا إليه فأقبلوا حتى نزلوا ببسيط سايس ثم تقدمت جموعهم حتى
شارفوا مزارع فاس الجديد فأغاروا على الودايا ونهبوا ماشيتهم وزروعهم وضيقوا عليهم
ثم وصلوا أيديهم بأهل فاس فدخلوا مدينتهم وتسوقوا بها فباعوا واشتروا عشرة أيام
وانقلبوا إلى أهلهم فاكهين
وفي أول رجب من السنة المذكورة ورد الخبر بأن أهل الريف قبضوا على المولى المستضيء
المقيم ببلادهم ونهبوا خيله وأثاثه وماله وثقفوه حتى يدفعوه لأخيه المولى عبد الله
لأنه كان قد اشتغل بظلم الناس بالفحص وطنجة وقبض على القائد عبد الكريم بن علي
الريفي وهو أخو أحمد بن علي المتقدم الذكر فأخذ ماله وسمل عينيه وأما أهل تطاوين
فلم يبايعوه ولا عرجوا عليه وفي شعبان أحرق الودايا باب المحروق ليلا ففطن لهم
الحرس ودافعوهم عن الباب ومن الغد ركبوا به أبوابا جددا
____________________
مراجعة أهل فاس طاعة السلطان
المولى عبد الله وانعقاد الصلح بينهم وبين الودايا
لما طال الحصار على أهل فاس وأضرت بهم معاداة جيرانهم من الودايا وسئموا الحرب
راجعوا بصائرهم وجنحوا للسلم وطاعة السلطان فاتفق أن كان عندهم رجل من أشراف
تافيلالت فأرسلوه إلى السلطان واسطة بينهم وبينه وبعثوا معه كتابا بالاعتذار
والتوبة فقبل السلطان ذلك وسر به ووقع منه الموقع وكتب إليهم ينفي ظنونهم ويسل
سخائمهم ويقسم لهم أنه لم يأمر بحربهم ولا إضرارهم قط وإنما فعل ذلك الودايا من
قبل أنفسهم فلما وصل إليهم كتاب السلطان بذلك طابت نفوسهم وفرحوا وعينوا جماعة من
فقهائهم وأشرافهم وأهل الخير منهم فأوفدوها على السلطان بمكناسة في شوال من السنة
المذكورة ففرح بهم وأكرمهم وصرح لهم بالعفو والرضا عنهم فاغتبطوا بذلك وانقلبوا
إلى أهلهم فرحين مستبشرين ثم كان الصلح بينهم وبين الودايا بضريح المولى إدريس رضي
الله عنه وفتحت أبواب المدينة بعد الحصار سنتين وثلاثة أشهر وكان ذلك في ذي القعدة
من سنة إحدى وستين ومائة وألف ولما حضر العيد قدموا على السلطان وهو بمكناسة
بالخبر وعادوا به خوفا من البربر
____________________
خروج العبيد على السلطان
المولى عبد الله وبيعتهم لولده سيدي محمد والسبب في ذلك
لما راجع أهل فاس طاعة السلطان المولى عبد الله واصطلحوا مع الودايا وهدأت الفتنة
ساء البربر ذلك وكرهوه وبلغهم مع ذلك أن السلطان قد استنفر العبيد لغزوهم فاحتالوا
في تفريق الكلمة على السلطان بأن أخذوا في شن الغارات على العبيد بمكناسة والتضييق
عليهم واختطاف أولادهم من البحائر والجنات فراسل العبيد البربر في المسألة والصلح
فقالوا لهم إن السلطان أمرنا بهذا فلما سمع العبيد ذلك منهم لم يشكوا في صدقهم
بسبب ما كانوا أسلفوه من التقاعد عن السلطان والتثاقل عن النهوض معه لغزو البربر
حتى عاد إلى منزله بعد المعسكرة بأبي فكران كما مر ثم اتفق رأي العبيد على الفتك
بالسلطان واغتياله ونما إليه ذلك منهم فخرج فارا من مكناسة إلى دار الدبيبغ فاستقر
بها وكان ذلك في صفر سنة اثنتين وستين ومائة وألف
ولما ضاق العبيد ذرعا بفعل البربر كاتبوهم في الصلح فأجابوهم إليه على شرط أن
يبايعوا سيدي محمد بن عبد الله فبايعوه بمكناسة وبعثوا إليه ببيعتهم وهو بمراكش مع
جماعة من أعيانهم وخطبوا به بمكناسة وزرهون والسلطان بدار الدبيبغ لا يملك من أمره
شيئا ولما قدم وفد العبيد على سيدي محمد بن عبد الله رد بيعتهم وعاتبهم على ما
ارتكبوه في حق والده وتألفهم بشيء من المال وأعرض عن الخوض في أمر البيعة إذ كان
رحمه الله بارا بوالده ساعيا في مرضاته وبعث إليه في صفر من هذه السنة بهدية قدرها
على ماقيل ثلاثون ألف مثقال فرجع وفد العبيد من عند سيدي محمد وقد أيسوا من إجابته
إياهم ومع ذلك استمروا على الخطبة بمكناسة وزرهون
____________________
ثم إن السلطان المولى عبد الله رحمه الله لما رأى أن القلوب قد نفرت عنه وأن
العبيد والبربر قد امتدت عيونهم إلى ولده سيدي محمد وتعلقت آمالهم به بتلافى أمره
وأخذ في استصلاح الرعية وتألفها فأمر في شعبان من السنة المذكورة بأن ينادى بأسواق
فاس على العبيد الذين بها من لم يحضر إلى دار الدبيبغ لوقت كذا فلا يلومن إلا نفسه
فحضر العبيد الذين بفاس كلهم فأعطاهم خمسة دنانير لكل واحد وقال لهم ابعثوا إلى
إخوانكم الذين بمكناسة فمن أتى منهم إلي قبض مثل ما قبضتم فكتبوا إليهم فلم يزدهم
ذلك إلا نفورا وبعثوا إلى البربر الذين بسايس يقولون لهم كل من صادفتموه منا
متوجها إلى فاس فاقتلوه وأعلنوا بخلع السلطان
ثم استدعى السلطان بعد ذلك محمد واعزيز كبير البربر ووعده ومناه فقدم عليه في
إخوانه في رمضان فأعطاهم عشرة آلاف دينار وحضر العيد فقدموا عليه أيضا فأعطاهم
عشرة آلاف أخرى وأعطى الودايا عشر آلاف أيضا وأعطى أهل فاس مثل ذلك ولج العبيد في
نفورهم وركبوا رأسهم في جماحهم عن السلطان والقرب منه مجيء سيدي محمد بن عبد الله
من مراكش إلى مكناسة وتوسطه للعبيد في الصلح مع والده رحمهما الله
ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائة وألف ففي أواخر جمادى الأولى منها قدم المولى محمد
بن السلطان المولى عبد الله من مراكش إلى مكناسة فوجد العبيد لا زالوا يخطبون به
فعاتبهم على ذلك وقال لهم إني بريء منكم ومن فعلكم هذا وإنما أنا خديم والدي
فتركوا الخطبة وراجعوا بصائرهم وجددوا البيعة للسلطان وتلافوا أمرهم في طاعته
وكانت هذه هي البيعة السابعة للعبيد مع السلطان المولى عبد الله لأنهم خلعوه قبلها
ست مرات
____________________
حسبما مر الخبر عن ذلك مستوفى
ولما تم لسيدي محمد مع العبيد ما أراد من مراجعتهم طاعة والده ارتحل من مكناسة في
جيشه الذي قدم به من الحوز وكان نحو أربعة آلاف واستصحب معه جماعة من أعيان العبيد
وقدم على والده بدار الدبيبغ فخرج الودايا وأهل فاس لملاقاته وفرحوا بمقدمه ولما
دخل على والده أدى التحية وأهدى إليه هدية نفيسة وشفع للعبيد عنده فشفعه فيهم وقال
له لا تبت هنا فقال نعم يا سيدي ولم يبت إلا برأس الماء وأصبح غاديا إلى مراكش ثم
حضر العبيد فقدم على السلطان جماعة من جروان وبني مطير فأعطاهم عشرين ألف مثقال
وقدم عليه قواد العبيد من مكناسة فلم يعطهم شيئا
وفي هذه السنة توفي المولى أحمد ابن السلطان المولى عبد الله بفاس ودفن بقبور
الأشراف رحمه الله انحراف العبيد ثانية عن السلطان المولى عبد الله والتجاؤهم إلى
ابنه سيدي محمد بمراكش والسبب في ذلك
لما أعطى السلطان المولى عبد الله بني مطير وجروان عشرين ألف مثقال وحرم العبيد
قامت قيامتهم وقلبوا للسلطان ظهر المجن واتفقوا على الذهاب إلى ابنه سيدي محمد
بمراكش فقدموا عليه في ذي القعدة سنة أربع وستين ومائة وألف وقالوا له إما أن تكون
سلطاننا وإما أن نبايع عمك المولى المستضيء وشكوا إليه إهمال والده جانبهم وقالوا
له إنه أعطى البربر أعداء الدولة وحرمنا فرضخ لهم بشيء من المال طيب به نفوسهم
وكتب لهم كتابا إلى والده يستعطفه لهم وانقلبوا من عنده مسرورين
____________________
وأما السلطان المولى عبد الله فإنه لما سمع بذهاب عبيد مكناسة إلى مراكش أعطى
الودايا عشرة آلاف ريال وأعطى العبيد الذين معه ثلاثة آلاف ريال ولما قدم عبيد
مكناسة على السلطان بكتاب ابنه سامحهم وأعطاهم عشرين ألف ريال وتم الصلح بينهم
وبينه وعادوا إلى مكناسة مغتبطين
وفي هذه السنة بعث سيدي محمد من مراكش بهدية إلى والده مع جماعة من أصحابه فأثنى
عليه خيرا ودعا له به وفيها ورد الخبر بأن أهل تطاوين قتلوا عاملهم أبا عبد الله
الحاج محمدا تميم ثم قدم جماعة منهم على السلطان معتذرين من قتله فقال لهم أنتم
وليتموه عليكم وأنتم قتلتموه فاختاروا لأنفسكم فوقع اختيارهم على أبي عبد الله
الحاج محمد بن عمر الوقاش فولاه عليهم وانصرفوا إلى بلدهم
ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة وألف فيها قدم أهل تطاوين على السلطان المولى عبد الله
لحضور عيد المولد الكريم وبيدهم هدية مقدارها ثلاثون ألف مثقال وقدم بصحبتهم
باشدور الإصبنيول ومعه مائة ألف ريال وما يناسبها من الحرير والملف والكتان وغير
ذلك بقصد فكاك أسرى جنسه فقبض السلطان المال وقال للباشدور حتى تأتوا بأسرى
المسلمين وأعطى العبيد من ذلك المال ريالين لكل واحد وأعطى نساءهم مثل ذلك وكانوا
ألفين ومائتين
ثم دخلت سنة ست وستين ومائة وألف فيها قدم عبيد مكناسة على السلطان لحضور العيد
فأعطاهم عشرة آلاف ريال وفيها نهض أهل فاس لشراء الخيل والعدة والإكثار منها
وفيها انعقدت الشروط بين السلطان وبين جنس الإصطادوس وهم سبع قبائل من الفلامنك
وهي اثنان وعشرون شرطا مرجعها إلى عقد الأمان والصلح بين الإيالتين وأن يجعل جنس
الإصطادوس قنصلا أو أكثر بالبلد الذي يختاره من بلادنا ويكون يعطي خط يده المسمى
بالباصبورط لمن
____________________
يسافر من مراكبنا إلى جهة
بلادهم وكذلك هم أيضا إلى غير ذلك
وفي هذه السنة أو ما يقرب منها أغار نصارى الجديدة على آزمور واقتحموا ضريح الشيخ
أبي شعيب ليلا وقتلوا به عددا كثيرا من أهل آزمور نحو الخمسين وكانت الليلة ليلة
جمعة وعادة أهل آزمور أن يبيتوا ليلة الجمعة بضريح الشيخ المذكور فنما ذلك إلى
النصارى الذين بالجديدة فجاؤوا مستعدين حتى اقتحموا عليهم على حين غفلة وأطفؤوا
المصابيح ووقع القتل حتى كان المسلمون يقتل بعضهم بعضا ورجع النصارى عودهم على
بدئهم
وذكره لويز مارية مؤرخ الجديدة فقال ما ملخصه وفي ليلة الثاني عشر من نوفمبر سنة
اثنتين وخمسين وسبع عشرة مائة مسيحية خرج عشرة من برتغال الجديدة وقصدوا آزمور حتى
دخلوا ضريح الشيخ أبي شعيب ليلا وقتلوا هنالك أربعين من المسلمين وقامت الهيعة
بالبلد وتسابقوا إليهم على الصعب والذلول فرجع النصارى من حينهم وأدركهم المسلمون
بالطريق فجرحوا بعضهم ونجوا بعد مشقة فادحة هكذا زعم لويز وأن النصارى كانوا عشرة
فقط وأهل آزمور يزعمون أنهم كانوا أكثر من ذلك بكثير والله أعلم
ثم دخلت سنة سبع وستين ومائة وألف فلم يكن فيها حدث في الدولة
ثم دخلت سنة ثمان وستين بعدها فيها توفي محمد واعزيز كبير آيت أدراسن ووازعها الذي
كانت تقف عند إشارته وتجري أمورها على مقتضى إدارته
____________________
فتنة آيت أدراسن وكروان مع
الودايا والسبب في ذلك
لما مات محمد واعزيز لم يبق بآيت أدراسن من يقوم فيها مقامه فهاجت الفتنة بينهم
وبين جروان فزحفوا إلى كروان وأوقعوا بهم فانهزمت كروان أمامهم ولجؤوا إلى دار
الدبيبغ معتصمين بها ومستجيرين بالسلطان الذي بها وضاق بهم رحب الفضاء وعدموا
المرعى فشرعوا في بيع مواشيهم فبلغت البقرة بسوق فاس خمس أواق والشاة أوقية فأمر
السلطان المولى عبد الله الودايا بنصرتهم وآخى بينهم وبينهم وعقد لهم حلفا مؤكدا
معهم فقاموا لحمايتهم والدفاع عنهم وأنشبوا القتال فكانت الهزيمة على آيت آدراسن
ففرت خيلهم ومقاتلتهم وانكسرت حلتهم وقتلوا في كل وجه ومن سلم منهم لجأ إلى بلاد
شراقة فاستجار بها فكان عدد من قتل منهم بتلك الوقعة نحو الخمسمائة وهذا سبب حلف
الودايا مع جروان
ثم دخلت سنة تسع وستين ومائة وألف فيها قدم على السلطان المولى عبد الله عبيد
مكناسة ورغبوا إليه في الذهاب معهم إليها إذ هي دار ملكه وملك أبيه من قبله فقال
لهم كيف أذهب معكم وفي وسطكم فلان وفلان لجماعة سماهم منهم كانوا منحرفين عنه فرجع
العبيد إلى منزلهم ولما جن الليل طرقوا أولئك المسلمين وأمثالهم في رحالهم فقتلوهم
إرضاء للسلطان وتطييبا لنفسه وكان منهم القائد محمد السلاوي والقائد سليمان بن
العسري والقائد زعبول وغيرهم
ولما بلغ السلطان ذلك بعث إليهم بأربعين ألف مثقال راتبا وصرفهم إلى مكناسة وقال
لهم إذا فرغت من عملي أتيتكم
وفي هذه السنة أيضا قدم عليه القائد أبو عبد الله محمد الوقاش في أهل تطاوين بهدية
فيها ألف ريال وبأسارى وسلع من سلع النصارى غنمتها قراصينهم فأكرمه السلطان وأعطاه
جاريتين وانقلب إلى أهله مسرورا
وفيها قدم على السلطان أخوه المولى أبو الحسن المخلوع بدار الدبيبغ
____________________
فأعطاه مالا وأثاثا قيمته عشرة آلاف مثقال وخيره بين تافيلالت ومكناسة فأختار
مكناسة فأعطاه مستفاد مكسها وجنات المخزن التي بها وأرضا للحراثة فقدم المولى أبو
الحسن مكناسة واستوطن واغتبط بها ولما جاء وقت إبان الحرث وحرث وثب عليه العبيد فقبضوا
عليه وقيدوه وبعثوا به إلى السلطان مقيدا وقالوا له إن هذا قد أفسد علينا بلادنا
فحل بيننا وبينه فسرحه وبعث به إلى سجلماسة
وفي هذه السنة أيضا نهب البربر جميع ماشية الودايا وأفسدوا زروعهم وبحائرهم
ثم دخلت سنة سبعين ومائة وألف فيها كانت بين آيت أدراسن وكروان حرب فظيعة أعان
فيها الودايا كروان فهزموا آيت أدراسن ببسيط النخيلة من سايس والله أعلم وفاة أمير
المؤمنين المولى عبد الله بن إسماعيل رحمه الله
كانت وفاة أمير المؤمنين المولى عبد الله بن إسماعيل رحمه الله بدار الدبيبغ يوم
الخميس في السابع والعشرين من صفر الخير سنة إحدى وسبعين ومائة وألف ودفن بقبور
الأشراف من فاس الجديد حيث دفن ولده المولى أحمد رحمهما الله
قال صاحب البستان كان أمير المؤمنين المولى عبد الله فيه شدة وبطش وبسببهما نفرت
قلوب الجند والرعية عنه وبقي مهملا بدار الدبيبغ سنين لا يأتيه أحد وبيعته في
أعناق الناس وهم فارون منه لكثرة ما سفك من الدماء بغير سبب ظاهر واستمرت حالته
على ذلك مدة اثنتي عشرة سنة من سنة تسع وخمسين إلى سنة إحدى وسبعين ومائة وألف
رحمه الله وغفر لنا وله ولسائر المسلمين ومما مدح به هذا السلطان قول بعضهم
____________________
( عليك سلام يا ضياء العوالم ** ويا بهجة الأشراف من آل هاشم )
( ويا من سما غضبا على كل جاهل ** وأصبح مسرورا به كل عالم )
( وأصبح ظل الله في الأرض ناظرا ** إلى كل مسكين بمقلة راحم )
( ويا من كساه الله منه مهابة ** تذل لها رغما أنوف الأعاجم )
( ويا من له حزم وعزم وسطوة ** تفتت إرهابا قلوب الضراغم )
( كفاك افتخارا أن عزك ظاهر ** وجودك منسي به جود حاتم )
( وكون سجاياك التي فاح عرفها ** سجايا الملوك الشم أهل المكارم )
( لعمري لقد ألقت إليك زمامها ** ضروب العلا إذ كنت أحزم حازم )
( فقمت على الملك المشيد ركنه ** تذود لديه بالقنا والصوارم )
( وأغناك رب الناس عن جمع عسكر ** برأي مصيب للعساكر هازم )
( ونفس علت فوق السماكين همة ** وعقل غني عن هداية عالم )
( فجئت وسيل الغرب قد بلغ الزبى ** وأسواقه معمورة بالجرائم )
( ونار الشرور في الفجاج تأججت ** فطاب لأهل البغي هتك المحارم )
( فدوخته من بعدما استنسرت به ** بغاث وقد طالت رعاة البهائم )
( فأمنتنا من كل طار وطارق ** وحصنتنا من كل داه وداهم ) انعطاف إلى سياقة الخبر
عن آخر أمر المولى المستضيء رحمه الله
قد تقدم لنا أن السلطان المولى عبد الله خرج سنة سبع وخمسين ومائة وألف في طلب
أخيه المولى المستضيء وأنه دوخ بلاد الحوز لأجله وشرده عن جبال مسفيوة ولجأ إلى
مراكش فطرده أهلها ولما لم يجد بالحوز مستقرا رجع أدراجه يقتري البلاد والقرى ويصل
حرارة التهجير ببرك السرى فاجتاز ببلاد دكالة ثم بتامسنا ثم ببني حسن فزهدوا فيه
فتقدم إلى طنجة وأعمالها فاستقر بالفحص منها وطاب له المقام به وعسف أناسا في تلك
المدة إلى أن عدا على القائد عبد الكريم الريفي فسجنه وسلمه وأخذ ماله كما
____________________
مر فوثب عليه أهل الريف وقبضوا
عليه ونهبوا خيله ومضاربه وأثاثه وسلبوا أصحابه وامتحنوه وأوثقوه حتى يبعثوا به
إلى أخيه المولى عبد الله ثم بدا لهم فسرحوه ولما خلص من المحنة كتب إلى أخيه
المولى عبد الله وهو بفاس يعتذر إليه عما سلف منه ويطلب منه محلا يستقر به فأجابه
السلطان المولى عبد الله بأنك لم تأت إلي ذنبا ولم ترتكب في حقي عيبا إنما كنت
تطلب ملك أبيك كما كنت أطلب ملك أبي والآن فإن أردت الخمول مثلي فأقم بآصيلا واسكن
بها فهي أحسن من دار الدبيبغ التي أنا بها وأرح نفسك كما أرحتها وإن كنت إنما تطلب
الملك فشأنك وإياه فإني لا أنازعك فيه والسلام فلما وصل إليه كتاب السلطان انتقل
إلى آصيلا واستوطنها واعتنى بها وأصلح ما يحتاج إلى الإصلاح منها وأصلح دار الخضر
غيلان التي بقصبتها وسكنها سنة أربع وستين ومائة وألف واجتمع عليه بعض أهل الطمع
والشره ممن كان هنالك فدلوه على وسق الزرع للكفار وتوسطوا له في الكلام مع بعض
تجار النصارى الذين بطنجة وتعاقدوا معه على وسقه فانتقل ذلك التاجر إلى آصيلا ولما
قدم عليه مركبه وسق الزرع وأدى صاكته أي واجبه فظهر للمولى المستضيء الربح في ذلك
فشرهت نفسه ورغب في شراء الزرع وبيعه ممن يأتيه من التجار وتسامع النصارى بأن
الزرع يوسق من مرسى آصيلا فلم تمض إلا أيام قلائل حتى قدمت مراكبهم من كل وجه
وعمرت المرسى وقصد الأعراب البلد بالقمح والشعير من كل فج والمولى المستضيء يشتري
منهم ويبيع للنصارى والمراكب تسق ما قدرت عليه فكان يحصل له الربح في ذلك مضاعفا
ربح الثمن وربح الصاكة فحسنت حاله وأثرى وكثر تابعوه وأخذ في شراء العدة من تطاوين
وتسليح أصحابه وتقويمهم واتصل خبره بالسلطان المولى عبد الله فندم على إذنه له في
المقام هنالك وكتب إلى القائد أبي محمد عبد الله السفياني يأمره بالزحف إلى
____________________
المولى المستضيء وحصاره بآصيلا
حتى ينفيه عنها وكتب إلى ولده سيدي محمد بمراكش يأمره أن يبعث إليه من يخرجه منها
ويكون معه القائد عبد الله السفياني في خمسمائة من الخيل فبعث إليه سيدي محمد
رفيقه وابن عمه المولى إدريس بن المنتصر في مائة فارس وأمره أن يستصحب معه في
طريقه عبد الله السفياني في خمسمائة من الخيل كما رسم له والده ويضيقوا على المولى
المستضيء بآصيلا حتى يخرجوه منها فمضى المولى إدريس والسفياني حتى نزلا عليه
وحاصراه فخرج إليهما وراود ابن أخيه المولى إدريس على الإفراج عنه وتركه وشأنه
واعتذر إليه بأن السلطان أذن له في سكنى آصيلا وأعطاه مستفاد مرساها ينتفع به فلم
يقبل المولى إدريس منه ولم يزل به حتى أخرجه واستولى على ما وجد بداره من مال
وأثاث وسلاح وبارود وغير ذلك فساقه إلى عمه السلطان المولى عبد الله
وأما المولى المستضيء فإنه لما خرج من آصيلا سار إلى فاس فنزل بضريح الشيخ أبي بكر
بن العربي رضي الله عنه وقدم ولده إلى السلطان المولى عبد الله يشكو له ما فعل به
ولده سيدي محمد من تجهيز العساكر إليه ونفيه عن آصيلا فكان من جواب السلطان أن قال
له قل لأبيك ذاك لا سبيل لي عليه هو أعظم شوكة مني ومنك فسر إلى بلاد أبيك وجدك
وأرح نفسك من التعب والموت قريب مني ومنك فلما بلغه كلام السلطان لم يسعه إلا
التوجه إلى مدينة صفرو بعد أن ترك عياله بدار الشريف المولى التهامي بالجوطيين من
فاس ونزل هو بدار الإمارة من صفرو ولما قدم المولى إدريس بن المنتصر على السلطان
بمال المولى المستضيء وأثاثه قبض السلطان البارود والسلاح ورد الباقي وأرسل إلى
عامل فاس يأمره أن يكتب إلى المولى المستضيء ليبعث وكيلا يحوز إليه متاعه فكتب
إليه فبعث من حاز ماله وأثاثه ودفعه إلى عياله بدار المولى التهامي وكان المولى
المستضيء لما اطمأنت به الدار بصفرو بعث إلى أعيان آيت يوسي على ما
____________________
قيل فقدموا عليه فندبهم إلى
نصرته والقيام بدعوته فتخاذلوا عنه وقالوا له سر إلى آيت أدراسن وكروان فإن أجابوك
فنحن معهم ولما لم يتم له أمر بصفرو بعث من حمل إليه عياله وأثاثه من فاس وذهب إلى
سجلماسة فاستوطنها وذلك سنة ست وستين ومائة وألف وأعرض عن الملك وأسبابه واستمر
مقيما بها إلى أن توفي سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف رحمه الله وغفرله انعطاف إلى
سياقة الخبر عن هؤلاء العبيد الذين جمعهم السلطان المولى إسماعيل من لدن وفاته إلى
دولة السلطان سيدي محمد بن عبد الله
قد تقدم لنا أن السلطان المولى إسماعيل كان قد اعتنى بجمع العبيد وترتيبهم
وتهذيبهم إلى أن بلغ عددهم مائة وخمسين ألفا وبلغوا في أيامه من العز والرفاهية
وتشييد الدور والقصور وارتباط الجياد وانتخاب السلاح واقتناء الأموال وحسن الشارة
والزي ما لم يبلغه غيرهم وكان بالمحلة من مشرع الرملة منهم سبعون ألفا ما بين خيل
ورماة وكان عدد اليكشارية منهم وهم أصحاب الباشا مساهل خمسة وعشرين ألفا كلهم رماة
إلا القواد منهم فإنهم كانوا أصحاب خيل وكان بتانوت ووجه عروس منهم خمسة آلاف
يدعون قواد رؤوسهم كلهم أصحاب خيل وباقي العدد وهو خمسون ألفا كانوا متفرقين في
قلاع المغرب لعمارتها وحراسة الطريق وحماية الثغور وكانوا في غاية من الكفاية
والسعة لأن كل قبيلة من قبائل المغرب كانت تدفع أعشارها في قلعتها المبنية بها
لمؤنة جيشها وعلف خيلها واستمر ذلك إلى أن توفي السلطان المولى إسماعيل رحمه الله
فانقطع بوفاته عن جيش القلاع المدد الذي كان به قوامهم
ولما ولي بنوه من بعده واتصلت الفتن بينهم أهملوا أمر هؤلاء العبيد ولم يلتفتوا
إليهم فضعفت مادتهم وتلاشى أمرهم وانتشروا في القبائل التي كانوا
____________________
مجاورين لها للتكسب على أنفسهم
وأولادهم ولما أعروا تلك القلاع التي كانوا مقيمين بها امتدت إليها أيدي القبائل
من العرب والبربر بالنهب والتخريب واقتلعوا أبوابها وخشبها وماراق منها وتركوها
خاوية على عروشها لم يبق بها إلا الجدرات قائمة وهكذا كان مآل محلة مشرع الرملة
فإنه لما ارتحل العبيد عنها إلى مكناسة أيام السلطان المولى عبد الله خلفهم بنو
حسن فيها بالنهب والتخريب وكل من عثروا عليه متأخرا بها نهبوه واستلبوا ما معه
وأخذوا كل ما تركوه مما ثقل عليهم حتى يرجعوا إليه إذ كان العبيد يظنون أنهم
سيرجعون إلى مشرع الرملة ثم تجاوزت بنو حسن ذلك إلى تخريب الدور والقصور وحمل
أبوابها وخشبها إلى سلا فكانت تباع بها بالبخس فقد كان بهذه المحلة دور وقصور ليست
بالحواضر وكان كل قائد منهم يفتخر على نظيره ببناء أعظم من بنائه وتشييد فوق
تشييده وتنميق أحسن من تنميقه وتزويق أبدع من تزويقه فأتى بنو حسن على ذلك كله
وانتسفوه وطمسوا أعلامه في أسرع من لحس الكلب أنفه ولم يتركوا إلا الجدرات قائمة
إلا أن خربوها بعد ذلك شيئا فشيئا بل صاروا يبعثرون الأرض على الدفائن التي بها
فعثروا من ذلك على شيء كثير
ثم إن العبيد الذين رحلوا إلى مكناسة لم يصل منهم إليها إلا دون النصف إذ تفرقوا
في القبائل وقت رحيلهم فكل من كان أصله من قبيلة قصدها وكل من كان له مدشر عاد
إليه ثم الذين وصلوا إلى مكناسة لم يستقر بهم قرار لقلة ذات اليد وغلاء الأسعار
وكان الوقت وقت مجاعات وفتن فلم يبق بها إلا القواد أهل اليسار وأهل الحرف الذي
يتعيشون بحرفهم ومع ذلك فقد ضاقت بهم السكنى بها من أجل غلبة البربر الذين كانوا
يغيرون عليهم ويتخطفون أولادهم من البحائر والجنات المرة بعد المرة فتسلل جلهم
للمعاش بالقرى والقبائل ونسوا أمر الجندية والتمرس بالقنا والقنابل وتفرق منهم ذلك
الجمهور ولله عاقبة الأمور
ولما وقعت الزلزلة بمكناسة سنة تسع وستين ومائة وألف حسبما نذكره في الأحداث هلك
من العبيد فحسب نحو خمسة آلاف وهكذا لم يزالوا في
____________________
تلاش واضمحلال وتناثر واختلال
إلى أن كانت دولة السلطان الأعظم المولى محمد بن عبد الله رحمه الله فأدرك منهم
صبابة يسيرة وعصابة حقيرة فاعتنى بهم وجمعهم من القبائل بعد الانتشار وأحيا رسمهم
بعد الاندثار وأظهرهم بعد الخمول وأركبهم المسومة من الخيول ورفع لهم الأعلام
والبنود وصيرهم من أعز الجنود وهو الذي جدد هذه الدولة الإسماعيلية بعد تلاشيها
وأحياها بعد خمود جمرتها وتمزيق حواشيها بحسن سيرته ويمن نقيبته رحمه الله تعالى
ورضي عنه
وهنا انتهى بنا الكلام على السادة الأشراف أولاد المولى إسماعيل رحم الله الجميع
بمنه قال أكنسوس والحق الذي لا شك فيه أن كل من قام منهم بعد بيعة السلطان المولى
عبد الله فإنما هو ثائر عليه لا إمامه له وإنما يكون خبره مسوقا من جملة أخبار
دولة المولى عبد الله
قلت ومثله يقال في السلطان المولى أحمد بن إسماعيل فهو الإمام المعتبر والمولى عبد
الملك خارج عليه وقد علم من مذهب الأشعرية أن طرو الفسق لا يعزل الإمام والله
تعالى أعلم وأحكم انعطاف إلى سياقة الخبر عن خلافة سيدي محمد ابن عبد الله بمراكش
من مبتدئها إلى منتهاها
قد تقدم لنا أن السلطان المولى عبد الله كان قد خرج سنة سبع وخمسين وألف في طلب
أخيه المولى المستضيء إلى أن شرده عن بلاد مسفيوة وأنه قدم عليه هنالك أهل مراكش
ورغبوا إليه أن يدخل حضرتهم ولم يساعده الوقت فلما عزم على القفول إلى بلاد الغرب
بعث ولده الأكبر المولى أحمد إلى رباط الفتح نائبا عنه بها وأضاف إليه قبائل
الشاوية وبني حسن وما بينهما وبعث ولده الأصغر سيدي محمدا مع أهل مراكش نائبا عنه
فيها فكان ذلك أول انغراس شجرة الملك العلوي بمراكش واتخاذها كرسيا لهم ولما وصل
سيدي محمد رحمه الله إلى مراكش نزل بقصبتها وهي يومئذ خراب
____________________
ليس بها إلا آثار السعديين
والموحدين قبلهم قد أخنى عليها الدهر وعشش بها الصدا والبوم فضرب بها مضاربه ثم
شرع رحمه الله في حفر أساس داره بالفضاء البعيد عن القصور الخربة بها من داخل
السور ولما رأى عرب الرحامنة ذلك اتفقوا على منعه لأنهم كانوا قد ألفوا العيث في
أطراف مراكش فأحبوا أن لا تكون بها دولة تكبحهم عن ذلك فاجتمع طائفة من غوغائهم
وتقدموا إلى الخليفة سيدي محمد وجبهوه بالمنع وأخرجوه عن القصبة بعد أن شرع في
العمل فانتقل سيدي محمد رحمه الله عن مراكش إلى آسفي
وأما المولى أحمد صاحب العدوتين فإنه قدم رباط الفتح ونزل بالقصبة منها وانضاف
إليه عبيد القصبة واستمر خليفة بها إلى أن سمع أهل العدوتين ما عامل به الرحامنة
خليفة مراكش فجرى هؤلاء على سننهم واتفقوا على طرد المولى أحمد بن عبد الله عن
بلادهم فتقدموا إليه بالحرب وحاصروه بالقصبة ومعه عبيد فلان الذين كانوا فيها
إدالة من عهد السلطان المولى إسماعيل وقطعوا الميرة والماء إلى أن مسهم الجهد
وعضهم الحصار فطلبوا الأمان أن يخرجوا بأنفسهم فأمنوهم وخرج المولى أحمد فسار إلى
أخيه سيدي محمد بآسفي فنزل عليه ثم كان آخر أمره أن توفي بفاس كما مر سنة أربع
وستين ومائة وألف
ولما خرج المولى أحمد إلى آسفي عمد أهل رباط الفتح إلى عبيد القصبة فأنزلوهم منها
وفرقوهم بالمدينة حتى لا تبقى لهم شوكة ولا عصبية هذا ما كان من خلافة المولى أحمد
وأما خلافة سيدي محمد فإنه لما خرج من مراكش قاصدا إلى آسفي اعترضته قبائل عبدة
وأحمر وضيفوه ببلادهم وأهدوا إليه وتسابقوا على الخيل ولعبوا بالبارود سرورا
بمقدمه وتنويها بشأنه وصحبوه إلى آسفي فدخلها ونزل بقصبتها ففرح أهل آسفي بمقدمه
واغتبطوا به وكان مبارك الناصية أينما توجه ولما اطمأنت به الدار رفع إليه أهل
آسفي هداياهم وتبعهم على ذلك تجار النصارى واليهود وتباروا في ذلك وتنافسوا فيه
وعمر سوقه عرب عبده برجالاتهم وأعيانهم وبذلوا له أولادهم لخدمته وأوصلوه
____________________
بكل ما قدروا عليه وسرح للتجار
وسق السلع بالمرسى فأهرعت إليه المراكب من بر النصارى بأنواع سلعها وقصدها التجار
بالبضائع من كل جهة يبيعون بها ويشترون وكثرت الخيرات ونمت البركات فاستركب
واستلحق وعلا أمره وطار صيته في البلاد الحوزية ودخل الشياظمة وحاحة في طاعته
وتباروا في خدمته فلم تمض عليه ستة أشهر حتى كان يركب في نحو الألف فلما سمع
الرحامنة ما صار إليه أمر عبدة وأحمر اقتالهم من تشرفهم بولائه وتقدمهم في خدمته
نفسوا ذلك عليهم وراجعوا بصائرهم فاجتمع طائفة من أعيانهم وقدموا عليه آسفي وقدموا
بين يديهم هدية استرضوه بها ولما دخلوا عليه اعتذروا إليه مما فرط منهم ونسبوا ذلك
إلى السفهاء وأنهم لم يأمروا بشيء من ذلك ولا رضوه وأقسموا له أن لا يبرحوا من
بابه حتى يسير معهم إلى مراكش ولو أقاموا هنالك سنة وأسعفهم وسار معهم وصحبه من
أعيان عبدة نحو ألف فارس وكان في موكبه من أصحابه وحاشيته نحو الخمسمائة كلهم
بالخيول المسومة والشارة الحسنة والشكة التامة
ولما انتهى إلى مراكش نزل بالقصبة وجاءه أهل مراكش بهداياهم وكذا قبائل الحوز ثم
تلاهم قبائل الدير كله بهداياهم أيضا وجاء الرحامنة بأولادهم للخدمة السلطانية
منافسة لعبدة وأحمر في ذلك وقفاهم في ذلك سائر أهل الحوز وقدم عليه عبيد دكالة
الذين كانوا بسلا فاجتمعوا إليه وحسنت منزلتهم عنده ولما سمع بذلك عبيد مكناسة
تسللوا إليه فرادى وأزواجا فاستعملهم في خدمة البناء فبنوا بيوتهم وأصلحوا شؤونهم
واجتهد هذا الخليفة في بناء داره الكبرى بقصبة مراكش إلى أن أكملها وسكنها ثم شرع
في بناء ماتلاشى من أسوار القصبة وركب أبوابها وأفردها عن المدينة ثم غرس بستانا
عظيما متصلا بداره الكبرى على جهة الغرب سماه النيل وأسس قصرا آخرا متصلا بغربي
هذا البستان سماه القصر الأخضر ويسمى أيضا المنصور وجعل لهذا البستان أربعة أبواب
في زواياه الأربع كذا قيل والموجود اليوم ثلاثة أبواب فقط وجعل له بابين آخرين
أحدهما للدار الكبرى شرقا والآخر للقصر الأخضر غربا وجعل في وسط هذا البستان قبة
منتخبة
____________________
يتصل بها من جهاتها الأربع
مماشي تمضي إلى قباب أخر منتخبة أيضا وطول هذا البستان ينيف على مائتي خطوة تقريبا
وعرضه قريب من ذلك وهذا القدر هو مساحة ما بين القصرين أعني الدار الكبرى والقصر
الأخضر ثم أصلح هذا الخليفة جامع المنصور الذي بالقصبة إذ كان متهدما يومئذ ثم أسس
مسجدا آخر للخطبة بجوار قصره وهو المعروف اليوم بمسجد بريمة وهو مسجد حافل بديع
وبنى مدرستين لطلبة العلم بالقصبة المذكورة وبنى حماما ببريمة وعمر مساجد غير ذلك
للأحرار والعبيد وفرق الأموال على من انحاش إليه منهم لعمارة مساكنهم وبناء دورهم
بعد أن كانت من الطين والقصب وكتب الكتائب وجند الأجناد فاجتمع لديه من العبيد ألف
وخمسمائة كلهم فارس شاكي السلاح ومن عبدة وأحمر مثل ذلك ومن الرحامنة وأهل الحوز
ألف فارس كذلك
ولما خرج العبيد بمكناسة على والده وقدموا عليه بمراكش مبايعين له عاتبهم وقدم
مكناسة وأصلح بينهم وبين والده كما مر
ولما كانت سنة تسع وستين ومائة وألف غزا بلاد السوس ودوخها ومهد أقطارها وجبى
أموالها وقرر الحامية بتارودانت منها ثم سار إلى آكادير فقبض على الطالب صالح
الثائر به والمستبد بمال مرساه فسجنه واستصفى أمواله التي استفادها من المرسى ورتب
الحامية في آكادير أيضا ثم إن الطالب صالحا المذكور ذبح نفسه في السجن وأفضى إلى
ما قدم بعد أن ترك في القطر السوسي صيتا وذكرا وهو الذي يوجد طابعه على السلاح
السوسي من مكحلة وسكين وخنجر إلى الآن وهو سلاح منتخب عندهم
وقفل الخليفة سيدي محمد رحمه الله إلى مراكش مؤيدا منصورا فمكث فيها أياما يسيرة
ثم خرج غازيا بلاد الشاوية في السنة نفسها لما ظهر منهم من الفساد وقطع الطرقات
ونهب المارة فقتل من أعيانهم عددا وبعث الباقي في السلاسل إلى مراكش
ثم تقدم إلى أرض سلا فبات برباط الفتح وخرج إليه أهلها بالمؤن
____________________
والهدايا واستبشروا بمقدمه
وأما أهل سلا فلم يخرج إليه منهم أحد بل أغلق صاحبها عبد الحق بن عبد العزيز فنيش
أبوابها في وجهه فأعرض عنه سيدي محمد رحمه الله وتنكب المرور بسلا وعبر مشرع
المجاز أسفل من العدوتين وسار إلى قصر كتامة من بلاد الهبط فقدم عليه به عبيد
مكناسة مع كبيرهم الباشا الزياني وفي ذلك اليوم قتل العبيد باشاهم المذكور وقتلوا
معه القائد يوسف السلاح لأنهما كانا يمنعانهم من القدوم عليه إلى مراكش فولى عليهم
القائد سعيد بن العياشي ومن الغد ارتحل إلى تطاوين فتلقاه أهلها مع قائدهم محمد بن
عمر الوقاش فقبض عليه وتهدده ثم أطلقه ثم مضى إلى جهة سبتة حتى أشرف عليها ثم سار
منها إلى طنجة ثم كر راجعا فمر بالعرائش ثم بسلا فلم يحفل به عبد الحق أيضا فطوى
له سيدي محمد رحمه الله على البت ثم سار إلى مراكش فاستقر بها مؤيدا منصورا إلى أن
وافته الخلافة الكبرى بها بعد وفاة والده رحمه الله
تم الجزء السابع ويليه الجزء الثامن وأوله الخبر عن دولة أمير المؤمنين سيدي محمد
بن عبد الله رحمه الله
____________________
بسم الله الرحمن الرحيم الدولة
العلوية القسم الثاني الخبر عن دولة أمير المؤمنين سيدي محمد بن عبد الله رحمه
الله
لما توفي أمير المؤمنين المولى عبد الله بن إسماعيل في التاريخ المتقدم أعني
السابع والعشرين من صفر الخير سنة إحدى وسبعين ومائة وألف كان الناس قد سئموا
الهرج والفتن وأعياهم التفاقم والاضطراب وملوا الحرب وملتهم إذ كانت أيامه لا سيما
أخرياتها كأيام الفترة التي ليس فيها سلطان وكانت حال الرعية معه مثل الفوضى الذين
لا وازع لهم فكان ذلك من أقوى الأسباب التي صرفت وجوه أهل المغرب كله إلى بيعة
السلطان سيدي محمد رحمه الله وجمعت كلمتهم عليه لا سيما مع ما كان قد ظهر منه أيام
خلافته من حسن السياسة وكمال النجدة وجودة الرأي وتمام المعرفة بإدارة الأمور على
وجهها وإجرائها على مقتضى صوابها حتى أحبته القلوب وعلقت به الآمال وعرفت له من
بين بني أبية تلك الشنشنة وتضافرت على ولائه ونصره القلوب والألسنة فلما قضى الله
بوفاة والده بادر أهل فاس إلى عقد البيعة له من غير توقف ولا تريث
قال ولده الفقيه أبو محمد المولى عبد السلام بن محمد بن عبد الله في كتابه المسمى
بدرة السلوك بويع لمولانا الوالد السلطان الأعظم سيدي محمد بن عبد الله البيعة
العامة الصحيحة التامة وحضرها جماعة من أعيان
____________________
العلماء مثل قاضي الجماعة بمكناسة السيد سعيد العميري وقاضي الجماعة بفاس السيد
عبد القادر أبي خريص وشيخ الجماعة بها السيد محمد بن قاسم جسوس والإمام المحقق
حامل لواء المعقول والمنقول الشيخ أبي حفص عمر الفاسي وابن عمه السيد أبي مدين
الفاسي وهو الذي تولى كتابة البيعة بيده وإمام جامع الشرفاء بفاس الأستاذ المولى
عبد الرحمن المنجرة والشيخ العلامة السيد التاودي ابن سودة المري وإمام المسجد
الكبير بفاس الجديد السيد عبد الله السوسي والإمام الحافظ السيد أبي العلاء إدريس
العراقي وغيرهم ممن لا يحصى كثرة
وقوله في قاضي مكناسة السيد سعيد العميري صوابه ابنه أبو القاسم العميري
ووصل الخبر بموت السلطان المولى عبد الله إلى ابنه سيدي محمد وهو بمراكش فأقام
مأتمه وازدحم على بيعته أهل مراكش وقبائل الحوز والدير وقدمت عليه وفود السوس
وحاحة بهداياهم ثم قدم عليه العبيد والودايا وأهل فاس من العلماء والأشراف وسائر
الأعيان وقبائل العرب والبربر والجبال وأهل الثغور كل ببيعته وهديته لم يتخلف عنه
أحد من أهل المغرب فجلس للوفود إلى أن فرغ من شأنهم وأجازهم وزاد العبيد بأن
أعطاهم خيلا كثيرة وسلاحا كثيرا عرفوا بها محلهم من الدولة وانقلبوا مسرورين
مغتبطين مجيء السلطان سيدي محمد بن عبد الله عقب البيعة من مراكش إلى فاس وما اتفق
له في ذلك
لما فرغ أمير المؤمنين المولى محمد رحمه الله من أمر الوفود أخذ في الاستعداد
للنهوض إلى الغرب فخرج من مراكش في عسكر الحوز ووجوهة حتى انتهى إلى مكناسة فدخل
دار الملك بها وفرق على العبيد الخيل والسلاح والمال وكانوا على غاية من سوء الحال
والاستكانة لغلبة البربر إذ كانوا يتخطفون أولادهم من البحائر والجنات ويبيعونهم
في
____________________
قبائلهم كما قلنا فجبر الله صدعهم بولاية هذا السلطان الجليل
ثم لما قضى إربه من مكناسة ارتحل إلى فاس ولما نزل في عساكره بالصفصافة خرج
لملاقاته الودايا وأهل فاس فهش للناس وألان جانبه لهم واختلط بهم فكانوا يطوفون به
ويقبلون أطرافه ولا يمنعهم أحد وفرق المال والكسوة والسلاح في الودايا وعبيد
السلوقية وأعطى الفقهاء والأشراف وطلبة العلم وأهل المدارس والمكتبيين والأئمة
والمؤذنين والفقراء والمساكين وأزاح علل الجميع ولم يحرم أحدا ولما حضرت الجمعة
جاء من المحلة في ترتيب حسن وزي عجيب فخرج أهل البلدين لرؤيته وامتلأت الأرض من
العساكر والنظارة ودخل فاسا الجديد فصلى به الجمعة ثم جلس لفقهاء الوقت وسأل عنهم
واحدا واحدا حتى عرفهم ثم خرج إلى تربة والده فزارها وأمر بتفريق الصدقات عندها
وترتيب القراء بها ثم دخل إلى دار الحرم فوقف على من بها من أخواته وعزاهن في مصاب
والدهن وطيب نفوسهن ثم رجع عشية النهار إلى المحلة فبات بها ومن الغد جاء إلى دار
الدبيبغ فدخلها ووقف على متخلف والده من مال وأثاث وسلاح وخيل إلى أن عاينه وأحصاه
وأبقى ذلك بيد من كان بيده من أصحاب والده وأوصاهم بالاحتفاظ به بعد أن جعل الجميع
إلى نظر الحاجب أبي محمد عبد الوهاب اليموري وعامل أصحاب أبيه بالجميل وخفض لهم
الجناح وألان لهم القول ووصلهم بمال اقتسموه فيما بينهم ثم بعد ذلك حاز منهم ما
كان بأيديهم من مال والده فكان أكثره ذهبا من ذلك ألف خرج وتسمية المغاربة السماط
من الجلد الفيلالي بأقفالها في كل واحد ألفا دينار بالتثنية من ضربه وكانت تكون
على سروج خيله في السفر فإذا نزل الجيش وضربت الأخبية رفعها الموكلون بها كل واحد
اسمه وعينه إلى القبة السلطانية وعند الرحيل كذلك تدفع لهم بالإحصاء والتقييد ومن
ذلك مائة رحى من الذهب الخالص كقرص الشمع في كل رحى وزن أربعة آلاف ريال وكانت
تكون محمولة على البغال في أعدالها مغطاة بالقطائف المسماة عند المغاربة بالحنابل
مشدودا عليها بالحبال أربع أرحاء في كل
____________________
عدلين فالمجموع خمس وعشرون بغلة تسير أمامه فإذا نزل الجيش رفعت إلى القبة
السلطانية كالذي قبلها
وكان السلطان المولى عبد الله رحمه الله يرى ذلك من الحزم حيث يحمل ماله معه أينما
سار لا يفارقه ومما وجده سيدي محمد من مال والده أيضا ثلاثمائة ألف ريال إلا خمسة
عشر ألفا ووجد نحو العشرين ألفا من الموزونات الدقيقة من ضرب سكته هذا ما خلفه
رحمه الله من المال الصامت وكان يكون على يد القائد علال بن مسعود من وصفانه فحاز
ذلك كله أمير المؤمنين سيدي محمد ونقله إلى محلته ووكل به وزعته وتقدم إلى أصحابه
بأن يعاملوا أصحاب أبيه بالتوقير والاحترام ونظمهم في سلك خدمته فمن ظهرت نجابته
أدناه ومن لا عبرة به أقصاه
ثم وفد عليه بفاس عامة قبائل الغرب وازدلفوا اليه بالهدايا والتحف فأكرم كلا بما
يناسبه وكان في ابتداء أمره سهل الحجاب رفيقا لم يعزل أحدا من قواد القبائل وعمال
الحواضر الذين كانوا في دولة أبيه في حكم الاستبداد بل أبقى ما كان ولم ينكب أحدا
إلا بعد الاستبراء والاختبار غير أن أهل تطاوين كان قائدهم أبو عبد الله محمد بن
عمر الوقاش منحرفا عنه أيام خلافته بمراكش فكان إذا كتب اليه بأمر نبذه وراء ظهره
وربما قال للرسول المرأة لا تتزوج برجلين أو كلاما يشبه هذا يعني أنه مجبور لطاعة
السلطان المولى عبد الله
فلما بويع السلطان سيدي محمد وقدم حضرة فاس انقبض عنه الوقاش المذكور وعاذ بضريح
الشيخ عبد السلام بن مشيش بماله وولده خوفا على نفسه من السلطان لسوء ما قدم ثم
قدم عليه أهل تطاوين طائعين متنصلين من فعل عاملهم المذكور ومخبرين بشأنه فولى
السلطان عليهم الفقيه أبا محمد عبد الكريم بن زاكور أحد كتابه كان بعثه من مراكش
إلى العرائش واليا عليها فلما وفد عليه أهل تطاوين ولاه عليهم لكونه حضريا مثلهم
وأقام السلطان سيدي محمد رحمه الله بفاس شهرين وعاد إلى مكناسة والله أعلم
____________________
إحداث المكس بفاس وبسائر أمصار
المغرب وما قيل في ذلك
لما بويع السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله وقدم حضرة فاس رفع إليه أهلها
ما كانوا يؤدونه إلى والده المولى عبد الله مما كان موظفا على الموازين كميزان
سيدي فرج وميزان قاعة السمن وميزان قاعة الزيت وغير ذلك وقدره ثلاثمائة مثقال في
كل شهر يجب فيها لكل سنة ثلاثة آلاف مثقال وستمائة مثقال
فلما حضر فقهاء فاس عند السلطان سيدي محمد كلمهم في شأنها حتى يكون الأمر فيها
مسندا إلى فتوى الفقهاء فقالوا إذا لم يكن للسلطان مال جاز له أن يقبض من الرعية
ما يستخدم به الجند فأمرهم أن يكتبوا له في ذلك فكتبوا له تأليفا اعتمده السلطان
ووظف على الأبواب والغلات والسلع وكان ممن كتب له في ذلك العلامة الشيخ التاودي
ابن سودة والعلامة الشيخ أبو عبد الله محمد بن قاسم جسوس والإمام أبو حفص عمر
الفاسي والفقيه الشريف أبو زيد عبد الرحمن المنجرة والفقيه أبو عبد الله محمد بن
عبد الصادق الطرابلسي والفقيه القاضي أبو محمد عبد القادر أبو خريص وغيرهم فاعتمد
السلطان على فتواهم ووظف ما ذكرناه آنفا
واعلم أن أمر المكس مما عمت به البلوى في سائر الأقطار والدول منذ الأعصار المتطاولة
والسنين الأول فلا بأس أن نذكر ما حرره العلماء في ذلك فنقول قد تكلم على ذلك
الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه في كتابه شفاء الغليل بما نصه
فإن قال قائل توظيف الخراج على الأرض ووجوب الارتفاقات مصلحة ظاهرة لا تنتظم أمور
الولاة في رعاية الجند والاستظهار بكثرتهم وتحصيل شوكة الإسلام إلا به ولذلك لم
يلف عصر خاليا عنه والملوك على تفاوت سيرهم واختلاف أخلاقهم تطابقوا عليه ولم
يستغنوا عنه فلا تنتظم مصلحة الدين والدنيا إلا بإمام مطاع ووال
____________________
متبع يجمع شتات الإيمان ويحمي حوزة الدين وبيضة الإسلام ويرعى مصلحة المسلمين
وغبطة الأنام ولا يستتب ذلك إلا بنجدته وشوكته وجنوده وعدته فيهم مجاهدة الكفار
وحماية الثغور وكف أيدي الطغاة المارقين ومنعهم من مد الأيدي إلى الأموال والحرم
والأزواج فهم الحراس للدين عن أن تنحل دعائمه وتتخاذل قواه بتوغل الكفار في بلاد
المسلمين وهم الحماة للدنيا عن أن يختل نظامها بالتغالب والتسالب والتواثب من طغام
الناس بفضل العرامة والباس ولا يخفى عليكم كثرة مؤنهم واستيعاب حاجاتهم في نفوسهم
وعيالهم والمرصد لهم خمس الخمس من الغنائم والفيء وذلك مما يضيق في غالب الأمر عن
الوفاء بخراجاتهم والكفاية لحاجاتهم وليس يعم ذلك الا بتوظيف الخراج على الأغنياء
فإن كنتم تتبعون المصالح فلا بد من الترخيص في ذلك مع ظهور المصلحة
قلنا الذي نراه جواز ذلك عند ظهور المصلحة وإنما النظر في بيان وجه المصلحة فنقول
أولا التوظيف في عصرنا هذا مزاجه ومنهاجه ظلم محض لا رخصة فيه فإن آحاد الجند لو
استوفيت جراياتهم ووزعت على الكافة لكفتهم برهة من الدهر وقدرا صالحا من الوقت وقد
شمخوا بتنعمهم وترفههم في العيش وإسرافهم في إفاضة الأموال على العيارة ووجوه
التجمل على سائر الأكاسرة فكيف يقدر احتياجهم إلى توظيف خراج لإمدادهم وإرفاقهم
وكافة أغنياء الدهر فقراء بالإضافة إليهم فأما لو قدرنا إماما مطاعا مفتقرا إلى
تكثير الجند لسد الثغور وحماية الملك بعد اتساع رقعته وانبساط خطته وقد خلا بيت
المال عن المال وأرهقت حاجة الجند إلى ما يكفيهم وخلت عن مقدار كفايتهم أيديهم
فللإمام أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيا لهم في الحال إلى أن يظهر مال في بيت
المال ثم إليه النظر في توظيف ذلك على وجوه الغلات والارتفاقات بحيث لا يؤدي تخصيص
بعض الناس به إلى إيغار الصدور وإيحاش القلوب ويقع ذلك
____________________
قليلا من كثير ولا يجحف بهم ويحصل به الغرض ثم استدل الشيخ أبو حامد رضي الله عنه
لذلك من النقل والعقل بما يطول جلبه
وقال في كتابه المستصفى ما نصه إن قيل توظيف الخراج من المصالح فهل إليه من سبيل
قلنا لا سبيل إليه مع كثرة الأموال في أيدي الأجناد أما إذا خلت الأيدي ولم يكن في
بيت المال ما يفي بخراجات العسكر ولو تفرقوا واشتغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار
بلاد الإسلام فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند ثم إن رأى في
طريق التوزيع التخصيص بالأراضي فلا حرج لأنا نعلم أنه إذا تعارض شران وضرران وجب
دفع أشد الضررين وأعظم الشرين وما يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما يخاطر
به من نفسه وماله ولو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة يحفظ نظام الأمور ويقطع مادة
الشرور لفسدت الأرض ومن عليها وقوله على الأغنياء يريد من له قدرة وطاقة على دفع
شيء لا يجحف به ووقع في جواب للقاضي أبي عمر بن منظور رحمه الله إن لضرب الخراج
وتوظيفه على المرافق شروطا الأول منها أن يعجز بيت المال وتتعين حاجة الجند فلو
كان في بيت المال ما يقوم به لم يجز أن يفرض على الرعية شيء قال صلى الله عليه
وسلم لا يدخل الجنة صاحب مكس وهو إغرام المال ظلما ثانيهما إن الإمام يتصرف فيه
بالعدل فلا يجوز له أن يستأثر به دون المسلمين ولا أن ينفقه في سرف ولا أن يعطي من
لا يستحق ولا أن يعطي أحدا أكثر مما يستحق ثالثها أن يصرفه في مصروفه بحسب المصلحة
والحاجة لا بحسب الشهوة والغرض وهذا يرجع إلى الثاني رابعها أن يكون الغرم على من
يكون قادرا عليه من غير ضرر ولا إجحاف ومن لا شيء له أو له شيء قليل فلا يغرم شيئا
خامسها أن الإمام يتفقد هذا في كل وقت فربما جاء وقت لا يفتقر فيه إلى زيادة على
ما في بيت المال وكذلك إذا تعينت المصلحة في
____________________
المعونة بالأبدان ولم يكف المال فإن الناس يجبرون على التعاون بأبدانهم على الأمر
الداعي للمعونة بشرط القدرة وتعين المصلحة والافتقار إلى ذلك انتهى المقصود منه
والله تعالى أعلم مقتل أبي الصخور الخمسي وما كان من أمره
لما رجع السلطان محمد بن عبد الله من فاس إلى مكناسة أقام بها يسيرا ثم خرج إلى
جبال غمارة بسبب ما بلغه عن المرابط أبي عبد الله محمد العربي الخمسي المعروف بأبي
الصخور وكان له صيت وشهرة بقبائل الجبل وكان يظهر التنسك والعبادة ويزعم أنه
يستخدم الجن فكان للعامة فيها اعتقاد كبير ثم صار يقول للناس هذا السلطان لا تطول
مدته فأخذه السلطان وقتله وبعث برأسه إلى فاس وولى على قبائل غمارة والأخماس وتلك
النواحي الباشا العياشي وأنزله بمدينة شفشاون وقفل إلى مكناسة فدخلها مريضا فاتح
محرم سنة اثنتين وسبعين ومائة وألف فقال المرجفون ما أصابه المرض إلا من قتله لأبي
الصخور وقالوا إنه قد صدق في قوله لا تطول مدته فعافى الله السلطان وأكذب ظن
الشيطان وأقام السلطان بمكناسة إلى أن انسلخ المحرم ودخل صفر فعاد إلى مراكش بعد
أن أمر بنقل عبيد السلوقية إلى مكناسة وضمهم إلى إخوانهم واستصحب معه إلى مراكش من
رجالتهم ألفا فلما دخلها أعطاهم الخيل والسلاح والكسي وعادوا إلى مكناسة ثم قدم
عليه منهم ألف آخر فأركبهم وكساهم واستمر حاله معهم على هذا إلى أن استوفوا خيلهم
وسلاحهم وكساهم ولم يسألهم عما كان في أيديهم أيام الفترة
____________________
خروج السلطان سيدي محمد بن عبد
الله إلى الثغور وتفقده أحوالها
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف فيها خرج أمير المؤمنين المولى محمد بن عبد
الله من مراكش فقدم مكناسة وفرق الراتب على العبيد بها وبعث إلى الودايا راتبهم
وأمرهم بالنهوض معه للتطواف على الثغور البحرية من بلاد المغرب
فخرج من مكناسة حتى أتى مدينة تطاوين فنزل بها وأمر ببناء برج مرتيل الذي بها وفرق
المال على العبيد المقيمين به منذ أيام السلطان إسماعيل وهم بقية عبيد سبتة أعني
الذين كانوا يرابطون عليها فإنه لما انحل نظام الملك بموت المولى إسماعيل وتفرق
العبيد المرابطون على سبتة فلحقت كل طائفة منهم بقبيلتها التي جلبت منها بقي هذا
الألف الذي لا قبيلة له هنالك فنقلهم أبو حفص الوقاش إلى مرتيل وأحسن إليهم وصار
يدفع بهم في نحر من يريده بمكورة من القبائل المجاورة له
ثم رحل السلطان من تطاوين إلى طنجة وجعل طريقه على سبتة فمر بها ووقف عليها ونظر
إلى حصانتها ومناعتها وتحقق أن لا مطمع فيها إلا بالجد وأمر العسكر الذين حوله
بإخراج دفعة من البارود وتسميها العامة حاضرونا ففعلوا وأجابهم النصارى بمثل ذلك
بالمدافع والكور حتى تزلزلت الجبال فعجب السلطان من ذلك وما كان قصده بهذه السفرة
إلا الوقوف على سبتة واختبار حالها لأنه لم ينظر إليها بعين التأمل والاختبار في
المرة الأولى فلما تبين له حالها أرجأ أمرها إلى يوم ما وأوصى أهل آنجرة بتعيين
حصته من الرماة لحراسة نواحيها والوقوف على حدودها وبذل لهم مالا يستعينون به على
ذلك ثم سار إلى طنجة فنزل قريبا منها وخرج إليه أعيانها ورؤساؤها من أهل الريف
بقضهم وقضيضهم يتقدمهم باشاهم عبد الصادق بن أحمد بن علي الريفي كان قد قدم عليه
بمراكش أيام خلافته
____________________
بها فلما مثلوا بين يدي السلطان في هذه المرة أكرمهم وفرق المال والكسي فيهم وأمر
الباشا عبد الصادق أن يبعث أخاه عبد الهادي للوقوف على إنشاء الغلائط بتطاوين
ثم سار السلطان رحمه الله إلى العرائش فألفاها خالية ليس بها إلا نحو المائتين من
أهل الريف تحت كنف أهل الغرب فولى عليها عبد السلام بن علي وعدي ثم أنزل بها مائة
من عبيد مكناسة
ثم سار إلى سلا فعبر الوادي ونزل برباط الفتح وأقام به أياما وأمر قائده أبا الحسن
عليا مارسيل أن يبني صقالة أي برجا كبيرا على البحر وأمر قائد سلا عبد الحق فنيش
أن يبني مثلها بسلا على البحر مقابلتها ثم أمر بإنشاء سفينتين إحداهما لأهل سلا
والأخرى لأهل رباط الفتح وكانت عندهم سفينة واحدة مشتركة بينهم أنشؤوها أيام
الفترة وفيها كانوا قد خرجوا إلى حصن آكادير ومنه بعثوا وفدهم إلى سيدي محمد بن
عبد الله وهو يومئذ خليفة بمراكش فأكرم الرسل وبعث معهم مالا كثيرا إلى المجاهدين
بالعدوتين وفي مدة مقامه برباط الفتح هذه المرة صرف جيش العبيد والودايا إلى
بلادهم وسار هو إلى مراكش ولما احتل بها كتب إلى تجار النصارى بآسفي يأمرهم أن
يشتروا له إقامة المراكب القرصانية من صواري ونطاقات وقمن ومخاطيف وحبال وقلوع
وبتاتي وغير ذلك فتنافسوا في شراء ذلك وازدلفوا إلى السلطان بجلبه وانتخابه ثم
استقدم جراطين الصحراء الذين بالرتب وتافيلالت وهم الجبابرة والمعاركة وأولاد أبي
أحمد لما بلغه عنهم من أنهم يعينون عمه المولى الحسن على محاربة الأشراف الذين
هنالك فنقلهم إلى مكناسة وأعطاهم الكسوة والسلاح وكتبهم في ديوان الجيش
وفي هذه السنة وصل الخبر بموت المولى المستضيء بن إسماعيل بتافيلالت كما مر
____________________
إيقاع السلطان سيدي محمد بن
عبد الله بالودايا والسبب في ذلك
كان هؤلاء الودايا أحد أركان العسكر الإسماعيلي حسبما تقدم وكان المولى إسماعيل
رحمه الله قد اعتنى بشأنهم وأخذ بضبعهم وجمعهم بعد الفرقة وأغناهم بعد العيلة
وأسكنهم فاسا الجديدة وأعماله فاستوطنوه وألفوه وصاروا هم أهله بين سائر الجند
فكان لهم في الدولة الغناء الكبير واتخذوا الدور والقصور وتوالت عليهم بالعز
وإباية الضيم السنون والشهور
ولما توفي رحمه الله كانوا بفاس الجديد على غاية من تمام الشوكة وكمال العصبية وقد
ملكوا أمر أنفسهم على الدولة وغلظت قناتهم على من يريد غمزها من أهلها فكانت أحكام
الملوك من أولاد المولى إسماعيل لا تمضي عليهم سيما مع ما حازوه من شرف الخؤلة
للسلطان المولى عبد الله الذي هو أكبرهم قدرا وأعظمهم صيتا وكان شأنه معهم أن
يستكثر بهم تارة وعليهم أخرى والفتن فيما بين ذلك قائمة حسبما مر شرح ذلك مستوفى
فلما كانت أواخر دولة السلطان المولى عبد الله وهلك محمد واعزيز كبير البربر
افترقت آيت أدراسن وجروان ووقعت الحرب بينهم مرتين أعان فيها الودايا جروان وألحوا
على آيت أدراسن بالنهب والقتل حتى أجلوهم من تلك البلاد
ثم لما بويع السلطان سيدي محمد انحاز إليه آيت أدراسن إذ هم شيعة أبيه أيام محمد
واعزيز فولى عليهم ولد محمد واعزيز وأنزلهم بأحواز مكناسة إذ كان عالما بما ناله
من جروان والودايا وتظاهرهم عليهم واشتغالهم مع ذلك بإفساد السابلة وقبض الخفارات
عليها وكان رئيسهم لذلك العهد رجلا يقال له جبور لصا مبيرا فآخى السلطان سيدي محمد
بين آيت أدراسن وآيت يمور وحالف بينهم وأوصى عامله على مكناسة
____________________
بهم وتقدم إلى جروان بالكف عن إذابتهم فلم يرجعوا ولم يقلعوا بل تمادوا على حرب
آيت أدراسن وظاهرهم الودايا على عادتهم وأرادوا أن يسيروا فيهم بالسيرة التي كانوا
عليها أيام السلطان المولى عبد الله ظنا منهم أن ذلك يتم لهم مع ابنه سيدي محمد
وهيهات
( إذا رأيت نيوب الليث بارزة ** فلا تظنن أن الليث مبتسم )
ولما اتصل الخبر بالسلطان أمر قائد العبيد وقائد آيت يمور أن يشدوا عضد آيت أدراسن
وينهضوا لنصرتهم على أعدائهم جروان حيث انتصرت لهم الودايا فهاجت الحرب وكشرت عن
أنيابها وشمرت عن ساقها فبرز الودايا بجموعهم ونزلوا بوادي فاس في أول يوم من
رمضان وأقاموا هنالك مفطرين منتهكين لحرمة الصيام بسفرهم الحرام ثم اجتمعوا هم
وجروان وساروا إلى جهة مكناسة وأقبل آيت أدراسن نحوهم بمن لافهم من العبيد وآيت
يمور فكان اللقاء على وادي ويسلن فوقعت الحرب فانتصر آيت أدراسن عليهم وهزموهم
وانتهبوا محلة جروان ومحلة الودايا وقتلوا منهم نحو الخمسمائة وحزوا رؤوس أعيانهم
فعلقوها على الباب الجديد من مكناسة ورجع الودايا إلى فاس مفلولين لم يتقدم لهم
مثلها
ولما اتصل خبر ذلك بالسلطان اغتاظ على الودايا بسبب افتياتهم عليه وانتهاكهم حرمة
جواره فعزم على المكر بهم وأسرها في نفسه ولم يبدها لهم واستمر مقيما بمراكش إلى
أن دخلت سنة أربع وسبعين ومائة وألف
فخرج من مراكش قاصدا مكناسة ومضمرا الإيقاع بالودايا وأحس الودايا بذلك منه فلما
وصل إلى مكناسة بعثوا إليه عجائزهم متشفعات ومعتذرات عما فرط منهم فاجتمعن به
أثناء الطريق وتوسلن إليه بالرحم والقرابة فرق لهن وأعطاهن كسى ودراهم وعدن صحبته
إلى فاس فنزل بالصفصافة وخيمت بها عساكره وخرج أهل فاس والودايا لملاقاته فألان
لهم القول وأظهر البشر ومن الغد أمر بعمارة المشور بدار الدبيبغ وقدم
____________________
أهل فاس طعام الضيافة على العادة فأمر السلطان بإدخاله إلى دار الدبيبغ ولما صلى
العصر خرج على الناس بالمشور فوقف لهم وقدم الوفود هداياهم على العادة ولما فرغ من
ذلك كله أمر العبيد والودايا بالدخول إلى دار الدبيبغ لأكل طعام الضيافة وكان قد
أعد بها ألفا من المسخرين للقبض على أعيان الودايا أفردهم في ناحية فلما دخلوا
وغلقت الأبواب وثبوا عليهم وجردوهم من السلاح وكتفوهم وألقوهم على الأرض
ولما طعم الجيش وسائر الناس أمر السلطان الخيل بالركوب وشن الغارات على حلة
الودايا والمغافرة بلمطة فركبت الخيول وتقدمت إليهم وسار السلطان في موكبه خلفهم
ولما شرق شارق فاسا الجديد رماه الودايا من أبراجه بالكور فلم تغن شيئا وتقدم
السلطان حتى وقف بالموضع المعروف بدار الرخاء فلم يكن إلا هنيئة حتى أقبلت العساكر
بالسبي والأثاث والخيام وانتسفوا الحلة نسفا ولما جن الليل خرج من كان بقي من
أعيانهم بفاس الجديد وتفرقوا شذر مذر فذهب بعضهم إلى ضريح الشيخ أبي العباس أحمد
الشاوي وبعضهم إلى زاوية الشيخ اليوسي وبعضهم إلى ضريح سيدي أبي سرغين بصفرو وغير
ذلك وبقي الضعفاء على الأسوار يطلبون الأمان فعطفته عليهم الرحم ورق لهم فأمنهم
وأخرجهم إلى فاس القديم وأدال منهم بفاس الجديد بألف كانون من العبيد فنزلوه
وعمروه واقفر من الودايا بعد أن كانوا أهله مدة طويلة كما علمت
ثم أمر السلطان رحمه الله بأربعة من مساجين الودايا فسرحوا أحدهم القائد قدور بن
الخضر الشهير الذكر وأمرهم أن يقفوا على إخوانهم المسجونين حتى يعينوا أهل الفساد
من غيرهم ويأتوه بزمامهم ويتحروا الصدق في ذلك فعينوا له خمسين من عتاتهم أهل زيغ
وفساد فأمر بأن تضرب على أرجلهم الكبول ويقرن كل اثنين منهم في سلسلة ثم بعث منهم
إلى مراكش اثنان على الجمل فسجنوا بها وطهرت الأرض من شيطنتهم ثم
____________________
أمر السلطان رحمه الله القائد قدور بن الخضر أن يسرح الباقين من إخوانه ويضم إليهم
من الودايا والمغافرة تكملة ألف ويشرد من عداهم إلى قبائلهم وحللهم ثم عين السلطان
رحمه الله لأولئك الألف إصطبل مكناسة ينزلون به ويكون قصبة لهم فحملوا أولادهم إلى
مكناسة واستوطنوها مع العبيد غير أنهم قد انفردوا بالإصطبل كما قلنا وولى عليهم
السلطان القائد قدور بن الخضر وكان أصغرهم سنا وأكملهم عقلا وأصدقهم خدمة وأمره
بتأديبهم وإجراء الأحكام عليهم حتى رئموا ملكة الدولة وسكنوا تحت تصريفها وخضعوا
لأمرها ونهبها وأخذ السلطان في دفع الخيل والسلاح والكسى لهم شيئا فشيئا إلى أن
أركبهم كلهم فصلحت أحوالهم ونمت فروعهم واستمروا بمكناسة إلى أن ردهم إلى فاس
الجديد المولى يزيد بن محمد لأول ولايته كما سيأتي إن شاء الله تعالى
وفي هذه السنة أعني سنة أربع وسبعين ومائة وألف باع السلطان أمكاس فاس لعاملها
الحاج محمد الصفار باثني عشر ألف مثقال في السنة ثم ارتحل إلى مراكش فاحتل بها إلى
أن كان من أمره ما نذكره مجيء السلطان سيدي محمد بن عبد الله من مراكش إلى الغرب
مرة أخرى وما اتفق له في ذلك
ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائة وألف فيها خرج السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه
الله من مراكش يريد بلاد الغرب وعرج في طريقه على جملة من القبائل الذين كانوا
مشتغلين بالفساد فأوقع بهم وشرد بهم من خلفهم وذلك أنه وصل إلى بلاد الشاوية
فنهبهم وانتسف أموالهم وقتلهم وقبض على عدد كثير منهم بعثهم في السلاسل إلى مراكش
ثم عدل إلى جهة تادلا فمر على برابرة شقيرين من آيت ومالو فنهب أموالهم وقتل من
ظفر به منهم ثم سار إلى بلاد الغرب عازما على الإيقاع بعرب الحياينة لإفسادهم
____________________
وتمردهم فابتدأ أولا بنهب آيت سكاتو وثنى ببني سادان وثلث بالحياينة ففروا إلى
جبال غياثة وتحصنوا بها فترك الجيوش ببلادهم تأكل زروعهم وتقدم هو إلى تازا ثم
اقتحم على الحياينة جبال غياثة فأبادهم قتلا وتشريدا والعساكر ببلادهم تنتسف
الزروع وتحرق العمائر وتستخرج الدفائن إلى أن تركتها أنقى من الراحة وعاد إلى
مكناسة
وفي مقامه بها قبض على الشيخ محمود الشنكيطي المتصوف النابغ بفاس كان قد قدم من
بلاده ونزل بمستودع القرويين وأظهر التنسك فصار يجتمع عليه الأعيان والتجار من أهل
فاس ويعتقدونه قال في البستان فلم يقتصر على ما هو شأنه من إقبال الخلق عليه بل
صار يتكلم في الدولة ويكاتب البربر ويزعم أن سلطان الوقت جائر ولم يوافق عليه من
الأولياء أحد فنما ذلك إلى السلطان فأمر بالقبض عليه وبعث به إلى مراكش فسجن بها
ثم امتحن إلى أن مات ولم تبكه أرض ولا سماء
وقال أكنسوس إنه كان يقول إن السلطان يموت إلى شهر ففشا ذلك في العامة وتسابقوا
إلى شراء الفحم والحطب وادخار الأقوات وحصلت فتنة بفاس فأنهى ذلك إلى السلطان فكتب
إلى عامل فاس بالقبض عليه وتوجيهه إلى مراكش ثم أمر السلطان أيضا وهو بمكناسة
بالقبض على الأمين الحاج الخياط عديل وإخوته فسجنوا في مال كان عليهم بعضه له
وبعضه لوالده من قبله وفي تمام السنة أمر بتسريحهم وبعث الحاج الخياط منهم والسيد
الطاهر بناني الرباطي سفيرين عنه إلى السلطان مصطفى بن أحمد العثماني صاحب
القسطنطينية العظمى وفيها أيضا استخلف السلطان رحمه الله ابن عمه المولى إدريس بن
المنتصر بفاس وولاه على قبائل الجبل كلها وفيها أمر بتحبيس الكتب الإسماعيلية التي
كانت بدويرة الكتب بمكناسة وعددها اثنا عشر ألف مجلد وزيادة فحبسها على مساجد
المغرب كله ولا زالت خزائنها مشحونة بها إلى الآن مكتوبا عليها رسم التحبيس باسم
السلطان
____________________
المذكور ثم ارتحل إلى مراكش وفيها أيضا تولى الحاج محمد الصفار مكس فاس باثنين
وعشرين ألف مثقال في السنة إيقاع السلطان سيدي محمد بن عبد الله بقبيلة مسفيوة
والسبب في ذلك
كان هؤلاء مسفيوة شيعة للمولى المستضيء حسبما تقدم ولما زحف السلطان المولى عبد
الله إلى بلاد الحوز وشرد أخاه المولى المستضيء عن مسفيوة وأوقع بهم الوقعة التي
تقدم الخبر عنها أذعنوا إلى طاعته في الظاهر وبقيت الحسائف كامنة في صدورهم فكانت
تلك الطاعة التي أظهروها له هدنة على دخن واستمر حالهم على ذلك إلى أيام السلطان
سيدي محمد رحمه الله فشرى فسادهم وقال في البستان كان هؤلاء مسفيوة من الطغيان
والاستخفاف من الدولة على غاية لم تكن لأحد من يوم استخلف سيدي محمد بمراكش وهو
يعالج داءهم فما نفع فيه ترياق إلى أن قدم مراكش قدمته هذه فوفد عليه بها مائة
وخمسون من أعيانهم فانتهز فيهم الفرصة وقتلهم كلهم سوى القاضي ثم سرب الخيول
للغارة على حلتهم فانتسفوها وأبلغوا في النكاية فانخضدت بذلك شوكتهم واستقامت
طاعتهم وصلحت أحوالهم فيما بعد ذلك
ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائة وألف فيها جاء السلطان من مراكش إلى الغرب ونهب في
طريقه آيت سيبر من زمور الثلج وبددهم ولما وصل إلى مكناسة أمر القبائل بدفع
الزكوات والأعشار فكانت الحياينة وشراقة وسائر الحوزية يدفعون واجبهم بهري فاس
وكان أهل الغرب وبنو حسن والبربر يدفعون بهري مكناسة ثم نهض السلطان إلى غزو
مرموشة فهزمهم ونهب أموالهم واستولى على معاقلهم وقتل منهم عددا وافرا وذلك بعد أن
انتصروا على عسكر السلطان أولا وظهروا عليه فتقدم إليهم رحمه الله بنفسه وعبيده
____________________
المسخرين فأوقع بهم وشرهم ثم صار إلى تازا فأصلح شؤونها وثقف أطرافها وعاد سالما
مظفرا
وفي هذه السنة توفي قائد القواد الذي كان من السلطان بمنزلة الوزير أبو عبد الله
محمد بن حدو الدكالي الذي كان ولاه على دكالة لأول ولايته ثم أضاف إليه تامسنا
وتادلا مكان اليوزراري الجابري عمود الدولة المحمدية رحمه الله ولما توفي ولى
السلطان مكانه ابن عمه القائد أبا عبد الله محمد بن أحمد
ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائة وألف فيها أمر السلطان ببناء قبة الشيخ أبي الحسن
علي بن حرزهم بفاس وفيها ثار رجل اسمه أحمد الخضر بصحراء فجيج فكان يزعم أنه
المولى عبد الملك ثم صار يزعم أنه داعيته وفتن الناس بتلك الجهات وجرت على يديه
حروب وخطوب فبعث السلطان إلى عرب تلك البلاد فقتلوه وبعثوا برأسه إليه وهو بمكناسة
وكان السلطان يومئذ مريضا فعافاه الله وسافر إلى مراكش
ولما اجتاز برباط الفتح بعث منه الرئيس الحاج التهامي مدور الرباطي باشدورا إلى
بلاد السويد ليأتيه بإقامة المراكب والبارود وبعث أيضا الرئيس أبا عبد الله محمد
العربي المستيري الرباطي باشدورا إلى بلاد النجليز ليصلح بها قرصانه ويجعل له
إقامة جديدة فقدمها وجدد قرصانه واستصحب معه إقامة مركبين ومدافع نحاسية وغير ذلك
وعاد لتمام السنة
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة وألف فيها كانت وليمة عرس ولد السلطان المولى على
بن محمد بمراكش على ابنة عمه المولى أحمد بن عبد الله وعرس ابن أخيه سيدي محمد بن
أحمد على ابنة السلطان وكانت وليمة عظيمة حضرها عامة أهل المغرب بهداياهم وأبهاتم
وشاراتهم واستقامت الأمور للسلطان رحمه الله
____________________
بناء مدينة الصويرة حرسها الله
لما فرغ السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله من وليمة عرس أولاده سار إلى
ناحية الصويرة بقصد بنائها وعمارتها فوقف على اختطاطها وتأسيسها وترك البنائين
والعملة بها وأمر عماله وقواده ببناء دورهم بها وعاد إلى مراكش
وقال الكاتب أبو العباس أحمد بن المهدي الغزال في رحلته ما ملخصه إن السبب في بناء
مدينة الصويرة هو أن السلطان سيدي محمد بن عبد الله كان له ولوع بالجهاد في البحر
واتخذ لذلك قراصين حربية تكون في غالب الأوقات بمرسى العدوتين ومرسى العرائش وكان
سفرها في البحر مقصورا على شهرين في السنة زمان الشتاء لأن المراسي متصلة بالأودية
وفي غير إبان الشتاء يقل الماء ويعلو الرمل بأفواه المراسي فيمنع من اجتياز
القراصين بها ويتعذر السفر ففكر السلطان رحمه الله في حيلة يتأتى بها سفر قراصينه
في سائر أيام السنة فبنى ثغر الصويرة واعتنى به لسلامة مرساه من الآفة المذكور ة
وذكر غير الغزال أن الباعث للسلطان المذكور على بناء الصويرة هو أن حصن آكادير
كانت تتداولة الثوار من أهل السوس مثل الطالب صالح وغيره ويسرحون وسق السلع منه
افتياتا ويستبدون بأرباحها فرأى أن حسم تلك المادة لا يتأتى إلا بإحداث مرسى آخر
أقرب إلى تلك الناحية وأدخل في وسط المملكة من آكادير حتى تتعطل على أولئك الثوار
منفعته فلا يتشوف أحد إليه فاختط مدينة الصويرة وأتقن وضعها وتأنق في بنائها وشحن
الجزيرتين الدائرتين بمرساها كبرى وصغرى بالمدافع وشيد برجا على صخرة داخل البحر
وشحنه كذلك فصار القاصد للمرسى لا يدخلها إلا تحت رمي المدافع من البرج والجزيرة
معا
ولما تم أمرها جلب إليها تجار النصارى بقصد التجارة بها وأسقط عنهم
____________________
وظيف الأعشار ترغيبا لهم فيها فأهرعوا إليها من كل أوب وانحدروا إلى مرساها من كل
صوب فعمرت في الحين واستمر الترخيص لهم فيها مدة من السنين ثم رد أمرها إلى ما
عليه حال المراسي من أداء الصاكة وغيرها من اللوازم وهي الآن بهذا الحال والله
تعالى أعلم هجوم الفرنسيس على ثغر سلا والعرائش ورجوعه عنهما بالخيبة
قد قدمنا ما كان للسلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله من الولوع بأمر البحر
والجهاد فيه فلم تزل قراصينه تتردد في أكناف البحر وتجوس خلال ثغور الكفر فتقتل
وتأسر وتغنم وتسبي إلى أن ضاق بهم رحب الفضاء وكاد يستأصل جمهورهم حكم القضاء
فمنهم من فزع إلى طلب المهادنة وحسن الجوار ومنهم من كذبته نفسه فتطاول إلى الأخذ
بالثأر
ومن هذا القسم الثاني جنس الفرنسيس فإن قراصين السلطان رحمه الله كانت قد غنمت منه
مركبا ساقته إلى مرسى العرائش وغنمت منه غير ذلك في مرات متعددة فدعاه ذلك إلى أن
هجم على ثغر سلا أواخر سنة ثمان وسبعين ومائة وألف قال الغزال في رحلته رمى
الفرنسيس بمرسى سلا من الأنفاض والبنب ما ظن أنه يحصل به على طائل فأجيب منها بضعف
ذلك فلم يلبث إلاوأجفانه هاربة تقفو أواخرها الأوائل وفر هاربا مهزوما ساقط
الألوية مذموما اه ورأيت بخط الفقيه العلامة أبي العباس أحمد بن المكي السدراتي
السلاوي رحمه الله ما صورته هجم الفرنسيس على مدينة سلا يوم الجمعة الحادي عشر من
ذي الحجة متم سنة ثمان وسبعين ومائة وألف فأقاموا يوم الجمعة ويوم السبت بظاهر
البحر لم يفعلوا شيئا وفي يوم الأحد تقدمت سفنهم فرموا من البنب مائة وسبعا وسبعين
وهدمت الدور وفر النساء والصبيان خارج البلد ولم يبق بها إلا القليل وكان يوما
مشهودا وفي
____________________
صبيحة يوم الاثنين أرسل الله عليهم الريح ففرقت مراكبهم ونفس الله عن المسلمين وفي
يوم السبت الآتي بعده رجعوا فرموا مائة وعشرين وفي يوم الثلاثاء الثالث والعشرين
من الشهر المذكور رموا مائة ونيفا وثلاثين ولم يستشهد من المسلمين في تلك المدة
سوى رجل واحد اه قال الغزال ثم إن الفرنسيس عالج ما انصدع من أجفانه في حرب سار ثم
هجم على ثغر العرائش قال السدراتي فرمى عليها فيما ذكروا أربعة آلاف نفض ونيفا
وثلاثين نفضا وخربوها وهدموا دورها ومسجدها قال وذلك مفتتح سنة تسع وسبعين ومائة
وألف وفي يوم الخميس الثاني من المحرم وقيل التاسع منه ليلة عاشوراء اقتحموا
المرسى في خمسة عشر قاربا مشحونة من العسكر بنحو الألف وفيها من الشلظاظ والفسيان عدد
كثير وتصاعدوا مع مجرى الوادي إلى مراكب السلطان التي كانت هنالك فحرقوا سفينة
منها وهي التي غنمها المسلمون منهم وعمدوا إلى أخرى فكسروها بالمعاول والفؤوس ثم
تكاثر عليهم المسلمون وقاتلهم بنو جرفط وأهل الساحل حتى ردوهم عل أعقابهم
ولما انقلبوا راجعين إلى مراكبهم وجدوا عرب الغرب مع قائدهم حبيب المالكي قد أخذوا
بمخنقهم على فم المرسى وانبثوا لهم على الحجر الذي هنالك وبعث الله ريحا من جهة
البحر عظمت بها أمواجه ومنعتهم من الخروج فكانوا إذا توسطوا الوادي ليخرجوا ردتهم
الريح وإذا انحازوا إلى أحد الشطين رماهم المسلمون بالرصاص حتى استأصلوا جمهورهم
ثم سبحوا إليهم حتى خالطوهم في قواربهم فاستاقوا أحد عشر قاربا ونجا أربعة وتقسمهم
المسلمون بين قتيل وأسير وتفرقوا في الأعراب والبادية أيدي سبا ثم أمر السلطان
بجمعهم وأعطى كل من أتى بأسير منهم مالا وكسوة فاجتمع منهم نحو الخمسين فبقوا في
الأسر إلى أن توسط في فدائهم طاغية الإصبنيول ففدوا بمال له بال
____________________
وأما رؤوس القتلى فقد أمر السلطان رحمه الله بتوجيه نحو الثمانين منها إلى سلا
فعلقت بالصقالة القريبة من ضريح الشيخ ابن عاشر رضي الله عنه وبعد هذا وقع الصلح
مع جنس الفرنسيس وانعقدت الشروط معه كما سيأتي
ثم إن السلطان رحمه الله قدم العرائش عقب الوقعة وأقام بها شهرا واعتنى بشأنها
فبنى بها الصقائل والأبراج حتى صارت من أعمر الثغور وبيد الله تصاريف الأمور مراسلة
السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله لطاغية الإصبنيول وما اتفق في ذلك
كان السبب الذي أوجب مراسلة السلطان سيدي محمد بن عبد الله لطاغية الإصبنيول أن
جماعة من أسرى المسلمين الذين كانوا بأصبانيا كتبوا مكاتيب عديدة إلى السلطان رحمه
الله يعلمونه بما هم فيه من ضيق الأسر وثقل الإصر وما نالهم من الكفار من الامتهان
والصغار وكان فيهم من ينتمي للعلم ومن يقرأ القرآن وغير ذلك فلما وصلت كتبهم إلى
السلطان وقرئت عليه تأثر لذلك ووقعت منه موقعا كبيرا وأمر في الحسن بالكتب إلى
طاغية الإصبنيول يقول له إنه لا يسعنا في ديننا إهمال الأسارى وتركهم في قيد الأسر
ولا حجة في التغافل عنهم لمن ولاه الله الأمر وفيما نظن أنه لا يسعكم ذلك في دينكم
أيضا وأوصاه أن يعتني بخواص المسلمين الذين هنالك من أهل العلم وحملة القرآن وأن
لا يسلك بهم مسلك غيرهم من عامة الأسارى قال مثل ما نفعل نحن بأساركم من الفرايلية
فإنا لا نكلفهم بخدمة ولا نخفر لهم ذمة
فلما وصل هذا الكتاب إلى الطاغية أعظمه وكاد يطير سرورا به وللحين أمر بإطلاق
الأسارى الذين بحضرته وبعث بهم إلى السلطان ووعده أن يلحق بهم غيرهم من الذين بقوا
بسائر إيالته فوقع ذلك من السلطان رحمه
____________________
الله الموقع وعظم في عينيه وكان كريم الطبع يحب الفخر ويعنى به فأطلق لطاغية
الإصبنيول جميع من كان تحت يده من أسارى جنسه وعززهم بأسرى غير جنسه أيضا لتكون
للطاغية بذلك مزية على سائر الأجناس وبعث معهم بهدية فيها عدد من الأسود على يد
قائد سبتة فاتصل ذلك كله بالطاغية فطارت نفسه شعاعا من شدة الفرح وشمر عن ساعد الجد
وهيأ هدية استوفى فيها غاية مقدوره وبعثها مع كبراء القسيسين والفسيان وأصحبهم
كتابا أفصح به عما بين جنبيه للسلطان من المحبة والاعتراف بالفضل والمنة وطلب منه
مع ذلك أن يتفضل عليه ببعث أحد أرباب دولته وكبرائها لتتشرف أرضه بمقدمه وتشتهر
هذه المواصلة والملاحظة عند أجناس الفرنج فيعظم بذلك قدره ويكمل فخره فأسعفه
السلطان رحمه الله بذلك وبعث إليه خاليه الرئيسين أبا يعلى عمارة بن موسى وأبا عبد
الله محمد بن ناصر وكلاهما من الودايا ومعهما كاتبه أبو العباس أحمد الغزال بعثه
كاتبا لهما لا غير فلما وصلوا إلى جبل طارق كتب الغزال إلى بعض وزراء السلطان يقول
له إني أريد منك أن تعرف أمير المؤمنين أن هذين الرجلين لا معرفة لهما بقوانين
النصارى وإني قد خفت عاقبة الأمر فيما ينشأ عن رأيهما فلا يؤاخذني أمير المؤمنين
بشيء من ذلك إن كان فأخبر الوزير السلطان فقال صدق وقد ندمت على تقديمهما عليه وما
راعيت إلا منزلتهما والآن فاكتب إلى الطاغية وقل له إني قد بعثت إليك بكاتبي أحمد
الغزالي باشدورا وابعث بالكتاب إلى الغزال فإذا بلغه فليستمسك به وليحز الكتاب
الأول الذي عندهما ويلي الأمر دونهما فلما بلغه كتاب السلطان امتثل وقضى الغرض على
الوجه المطلوب وأبقى ذكرا جميلا رحمه الله
وفي هذه السنة أعني سنة تسع وسبعين ومائة وألف ألزم السلطان أهل فاس ببعث الإدالة
منهم إلى الصويرة وهي خمسون راميا بقائدها وفقيه مدرس ومؤقت ومؤذن وشاهدان وأسقط
عنهم البعث الذي كانوا يفرضونه للمملوك
____________________
قبله وهي خمسمائة رام فعينوا الإدالة المذكورة بعد التي واللتيا وبعثوهم إليه
بمراكش فبعثهم السلطان إلى الصويرة ورتب لهم المؤن والمرافق فكانوا يقومون على
المرسى وينتفعون بمستفادها فحسنت حالهم واغتبطوا بها واستمر الحال على ذلك
وفي هذه السنة بعث أيضا السلطان الرئيس أبا الحسن عليا مارسيل الرباطي إلى بلاد
الفرنسيس لتقرير الصلح معهم وقبض مال أسارى العرائش وشراء الإقامة منه فبذلوا
المال والإقامة معا طائعين وفيها بعث السلطان الفقيهين السيد الطاهر بن عبد السلام
السلاوي والسيد الطاهر بناني الرباطي باشدورين إلى صاحب الاسطنبول السلطان مصطفى
العثماني وأصحبهما هدية نفيسة فيها خيل عتاق بسروج مثقلة بالذهب مرصعة بالجوهر
والياقوت ونفيس الأحجار وفيها أسياف محلاة بالذهب ومرصعة بالياقوت المختلف الألوان
وفيها حلى من عمل المغرب فقبل ذلك السلطان العثماني وابتهج به ثم كافأ عليه بمركب موسوق
من آلة الحرب مدافع ومهاريس وبارود وإقامة كثيرة للمراكب القرصانية من كل ما تحتاج
إليه
وفي هذه السنة خرج السلطان إلى بلاد الريف فجعل طريقه على تطاوين ثم على بلاد
غمارة وانتهى إلى جارت وبلاد الريف فمهد تلك النواحي كلها ورجع على طريق تازا
وفيها قدم المولى علي ابن السلطان خليفة عن أبيه فنزل فاسا الجديد وأضاف إليه
قبائل الجبل والريف وفيها قدمت ربة الدار العالية المولاة فاطمة بنت سليمان من
مراكش إلى فاس بقصد الزيارة فركبت ذات ليلة إلى ضريح المولى إدريس رضي الله عنه
وضريح الشيخ أبي الحسن علي بن حرزهم وضريح الشيخ أبي عبد الله التاودي فطافت عليهم
وتبركت بتربهم وذبحت أكثر من مائة ثور وأخرجت صدقات كثيرة ثم خرجت بعد ذلك إلى
مدينة صفرو فزارت ضريح سيدي أبي سرغين وضريح سيدي أبي علي وذبحت وتصدقت
____________________
وعادت إلى فاس ثم ذهبت إلى زيارة الشيخ عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه فصحبها في
ركابها أعيان فاس وأشرافها وعلماؤها ولما كانت بأثناء الطريق اعترضها قواد الغرب
بهداياهم وبشاراتهم وزيهم ووافاها قواد الثغور بضريح الشيخ عبد السلام في مواكبهم
وخيلهم ورجلهم وذلك عن أمر من السلطان رحمه الله
قال صاحب البستان وكنت يومئذ واليا على العرائش فحضرت في جملتهم ولما قضت أرب
الزيارة فرقت الأموال على الأشراف من أهل جبل العلم وغمرت الناس بالعطايا ثم عادت
إلى القصر ومنه سارت إلى العرائش فأقامت بها ثلاثة أيام وانفض قواد الثغور كل إلى
محله وسافرت المولاة المذكورة إلى مراكش في ألف فارس من العبيد كانوا قد قدموا
معها من مراكش عليهم القائد مصباح وكان فعلها هذا من الآثار العظيمة والمناقب
الفخيمة رحمها الله اعتناء السلطان سيدي محمد بن عبد الله بثغر العرائش وشحنه بآلة
الجهاد
قد تقدم لنا أن السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله قدم العرائش عقب وقعة
الفرنسيس فوقف عليها واعتنى بأمرها وبنى بها الصقائل والأبراج وصونها ثم كان قدوم
ابنه المولى يزيد في هذا التاريخ إلى فاس وفي ركابه جماعة من رؤساء البحر والطبجية
أهل الإجادة في الرمي وكان قدومه بأمر السلطان لجر المدافع والمهاريس النحاسية
التي كانت بفاس الجديد ومكناسة ونقلها إلى ثغر العرائش ففعلوا وألزم السلطان
القبائل الذين بالطريق أن يتولوا جرها فكانت كل قبيلة تجرها إلى التي تليها إلى أن
وصلوا إلى مشرع مسيعيدة من نهر سبو
قال صاحب البستان فورد علينا أمر السلطان بالعرائش أن نخرج إلى لقائهم في الجند
وقبائل الحوز يعني حوز العرائش قال فوافيناهم على
____________________
وادي سبو فتولى أهل الغرب جر تلك المدافع والمهاريس إلى أن أوصلوها إلى وادي
الدردار قرب تاجناوت ثم جرها أهل العرائش وقبائل حوزها إلى المدينة وكان يوم
دخولها مهرجانا عظيما أخرجت فيه المدافع والمهاريس والبارود وتسابقت القبائل على
الخيول ولعبوا بالبارود إلى المساء ثم رجع المولى يزيد ومن معه من الرؤساء
والبحرية والطبجية إلى حضرة السلطان بمكناسة وقد تم الغرض المقصود إيقاع السلطان
سيدي محمد بن عبد الله بآيت يمور أهل تادلا ونقلهم إلى سلفات والسبب في ذلك
لما انقضى أمر العرائش تفرغ السلطان لقضاء ما كان قد بقي عليه من أمر الرعية فخرج
من مكناسة إلى تادلا مضمرا الإيقاع بآيت يمور لما كان يبلغه عنهم من الفساد في
الأرض فلم بلغها مكر بهم بأن أرسل إليهم يستنفرهم خيلا ورجلا وأراهم أنه يريد أن
يذهب بهم في سرية هيأها لآيت ومالو فلما قدموا عليه أمر بعرض العساكر كلها ووقف
رحمه الله بإزاء القصبة ثم عرضت عليه عساكر الجند ثم القبائل بعضها إثر بعض وكلما
مرت عليه قبيلة أوقفها في ناحية عينها لها وكلما مر به جيش أوقفه كذلك حتى غصت
الأرض بالخيل والرجل واستدارت من كل الجهات ولم يبق إلا آيت يمور فجاؤوا في آخر
العرض ولما مثلوا بين يديه أمر أهل رحاه أن يرموهم بالرصاص على زناد واحد فأطلقوا
عليهم شؤبوبا منه تساقط له عدد كثير وكان قد تقدم إلى العساكر المستديرة بهم أن
ينفحوهم بالرصاص كلما قصدوا جهة من جهاتهم فكانوا كلما قصدوا ناحية طالبين الخلاص
منها رماهم أهلها فتتساقط منهم العصبة الكبيرة إلى أن خلصوا من ناحية أهل دكالة
بعد أن هلك منهم ما ينيف على الثمانمائة فأمر السلطان برؤوسهم فجزت وبعث بها إلى
فاس فعلقت على الأسوار وأمر العساكر بنهب حللهم فانتسفوها وسيقت مواشيهم وخيامهم
وأثاثهم وفر من أفلت منهم إلى جبل
____________________
آيت يسري ثم رحل السلطان عنهم إلى مراكش فوفدوا عليه بعد أيام خاضعين تائبين فعفى
عنهم ونقلهم إلى جبل سلفات من أحواز فاس فأوطنوه حينا من الدهر إغراء السلطان سيدي
محمد بن عبد الله بآيت أدراسن والسبب في ذلك
لما كان من السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله لآيت أدراسن من الإحسان ما
كان حتى أوقع بالودايا لأجلهم مع أنهم صميم الجند وركن الدولة وأطال لهم الرسن في
ذلك بما أطغاهم وحملهم على الدالة عليه صدرت منهم هنات اعتدها السلطان عليهم
فانتدب لتأديبهم بأن كتب وهو بمراكش إلى الودايا لقتالهم وإلى العبيد وجروان
يأمرهم أن يجتمعوا على حربهم والإيقاع بهم فكان ذلك عند الودايا من أكبر متمناهم
فاجتمعوا مع من ذكر ونهدوا إليهم فكبسوهم في ديارهم وجرت بينهم حرب فظيعة انهزم في
آخرها آيت أدراسن ونهبت حللهم وقتل منهم عدد كثير وأسر مثل ذلك ووجهوا في السلاسل
إلى السلطان بمراكش
وفي هذه السنة أعني سنة تسع وسبعين ومائة وألف أمر السلطان بجمع جند اليكشارية من
قبائل الحوز ووكل بجمعهم القائد عبد النبي المنبهي وأن يثبتهم في ديوان العسكر وأن
كل من كان عزبا وأراد الدخول في الجندية فليكتبه فاجتمع له من ذلك أربعة آلاف
وخمسمائة فأعطاهم السلطان الكسي والسلاح واستخدمهم مدة ثم كان مآلهم أن رجعوا إلى
إخوانهم وقبائلهم وضرب عليهم المغرم في جملتهم وفيها مات عامل فاس الحاج محمد
الصفار فولى السلطان على فاس ابنه العربي بن محمد الصفار
ثم دخلت سنة ثمانين ومائة وألف فيها قدم السلطان إلى مكناسة وقبض على القائد عبد
الصادق بن أحمد الريفي صاحب طنجة وعلى مائة من
____________________
قرابته وأهل بيته فأودعهم السجن ثم سار إلى طنجة فدخلها ونهب دار عبد الصادق
المذكور ونقل إخوانه بأولادهم إلى المهدية وولى عليهم محمد بن عبد الملك من بيتهم
ولم يترك بطنجة من أهل الريف إلا أهل المروءة والصلاح وأنزل معهم ألفا وخمسمائة من
عبيد المهدية بعددهم بحيث لا يطمعون في قيام ولا يحدثون أنفسهم بثورة ووقع بخط
الفقيه أبو العباس أحمد السدراتي أن انتقال أهل الريف إلى المهدية كان بعد هذا بنحو
أربع سنين والله أعلم مقتل عبد الحق فنيش السلاوي ونكبة أهل بيته والسبب في ذلك
قد قدمنا في آخر دولة السلطان المولى عبد الله ما كان بحواضر المغرب وبواديه من
الاضطراب فسما بعض القواد والعمال بالأمصار إلى مرتبه الاستقلال وطرحوا طاعة
السلطان في زاوية الإهمال فمنهم صاحب سلا عبد الحق بن عبد العزيز فنيش كان قد
استحوذ على مدينة سلا وأعمالها واستبد بأمرها بما كان له من العشيرة والعصبية بها
ولما اجتاز سيدي محمد بن عبد الله من مراكش إلى القصر أيام والده أغلق عبد الحق
هذا أبواب سلا في وجهه ولم يحفل به ذهابا وايابا حسبما مر
ثم لما ولى الله السلطان أمر المسلمين أعرض عما أسلفه عبد الحق من جريرته وأبقاه
في مدينته على رياسته فاستمر على ذلك برهة من الدهر وكان فظا غليظا فقتل رجل من
أعيان سلا قيل كان هذا الرجل من قرابته وقيل كان من أولاد زنيبير فرفع أولياؤه
أمرهم إلى السلطان بمكناسة وحضر عبد الحق معهم وثبت أن قتله للرجل كان على وجه
الظلم فحرك ذلك من السلطان ما كان كامنا في صدره عليه فقبض عليه ودفعه إلى أولياء
المقتول ليتولوا قتله بأيديهم فجبنوا عنه لما كان له في قلوبهم من الهيبة فأمر
____________________
السلطان الوزعة بقتله بمرأى منهم فقتلوه فيما قيل بأيدي الفؤوس ثم بعث السلطان من
احتاط على أموال عبد الحق والفنانشة أجمع وأمر ببيع أصولهم بعد إعمال الموجبات بأن
الفنانشة مستغرقوا الذمة وأن جميع ما بأيديهم اكتسبوه من الغصوبات وغيرها من وجوه
الظلم وضرب الأتاوات على الضعفاء والمساكين حتى عند نكاحهم فبيعت أصول عبد الحق
وعشيرته لبني حسن وكانت تنيف على مائة أصل من بين ربع وعقار وكان ذلك سنة ثمانين
ومائة وألف ثم غربهم السلطان إلى العرائش فسجنوا بها مدة وغرب بعضهم إلى الصويرة
ثم عفا عنهم وقربهم وولاهم رياسة الرماية بالمهراس والمدفع المعروفة برياسة
الطبجية وفرقهم على الثغور فكان بعضهم بالعرائش وبعضهم بطنجة وبعضهم برباط الفتح
وبعضهم بالصويرة وأعطاهم الدور المعتبرة والرباع المغلة ورتب لهم الجرايات العظيمة
حتى بلغوا من الثروة والعز والجاه ما لم يبلغه أحد في دولته رحمه الله كذا في
البستان
ومن القواد الذين كانوا في حكم الاستبداد أيام السلطان المولى عبد الله ثم نكبهم
ابنه السلطان سيدي محمد بعد حين القائد أبو الحسن الحاج علي بن العروسي الدكالي
البوزراري كان قائد المولى المستضيء بعد أيام ولايته ولما أفضى الأمر إلى السلطان
سيدي محمد قبض عليه وأودعه المطبق عدة أعوام ثم سرحه وولاه مدينة شفشاون وتوارث
الرياسة بنوه من بعده ولهم آثار بثغر الجديدة منها مسجدها مكتوبا عليه اسم بانيه
إلى الآن ومن القواد المستبدين قائد تامسنا المدعو ولد المجاطية وقائد تادلا الرضي
الورديغي فعزلهم السلطان سيدي محمد وولى على تامسنا وتادلا القائد محمد بن حدو
الدكالي المتقدم الذكر ومنهم أبو عريف قائد بني حسن فعزله السلطان وولى مكانه أبا
عبد الله محمد القسطالي ومنهم الباشا حبيب المالكي قائد الغرب كان رأس الأمراء
أيام أبيه فقبض عليه وأودعه
____________________
المطبق وأمر بهدم قصره وحمل أنقاضه إلى العرائش ونهب ماله وماشيته ولما طرح الباشا
حبيب بالمطبق منع نفسه من الطعام والشراب إلى أن مات ميتة جاهلية عياذا بالله
فهؤلاء أنياب القبائل وأهل العصبية منهم تتبعهم السلطان واحدا بعد واحد إلى أن
أراح الدولة من ضررهم والله أعلم
وفي هذه السنة أعني سنة ثمانين ومائة وألف انعقدت الشروط بين السلطان سيدي محمد بن
عبد الله وبين جنس الفرنسيس وهي عشرون شرطا مضمنها ومرجعها إلى المهادنة والصلح
والمخالطة بالبيع والشراء مع التوقير والاحترام من الجانبين وإذا سافرت مراكبهم من
مراسيهم إلى إيالتنا فتصحب معها الورقة المسماة بالباصبورط من عند أمير البحر
المرتب بكل مرسى من مراسيهم فيها اسم المركب ورئيسه وبيان ما اشتمل عليه من الوسق
ومن أين جاء وإلى أين يذهب وعليه طابع أمير البحر وهو طابع الجنس وإذا سافرت
مراكبنا من مراسينا إلى إيالتهم فتصحب كذلك خط يد القنصل المرتب بمرسانا من ذلك
الجنس باسم المركب ورئيسه وما اشتمل عليه مختوما عليه بطابع الجنس أيضا وكان
القياس أن مراكبهم تحمل طابعنا وخطنا ليحصل لها التوقير كما نحمل نحن طابعهم وخطهم
ليحصل لنا التوقير منهم ولكن لما لم تجر العادة بترتب متأصلنا بمراسيهم اكتفي
بطابعهم من الجانبين إذ المقصود حاصل بذلك ولا يلتبس على رؤساء البحر طابع جنس
بآخر فإذا التقى مركب بمركب وأخرج كل ورقته عرف من أي جنس هو وعومل على مقتضى ذلك ورود
هدية السلطان مصطفى العثماني على السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمهما الله
وفي هذه السنة أعني سنة ثمانين ومائة وألف بعث السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه
الله خديمه الرئيس عبد الكريم راغون التطاوني
____________________
باشدورا إلى السلطان مصطفى العثماني وأصحبه هدية نفيسة مكافأة له على هديته التي
كان أرسلها مع السيد الطاهر بن عبد السلام السلاوي والسيد الطاهر بناني الرباطي
حسبما مر
ثم لما دخلت سنة إحدى وثمانين ومائة وألف قدم الحاج عبد الكريم المذكور من عند
السلطان المذكور ومعه هدية عظيمة أعظم من الأولى وهي مركب موسوق بالمدافع
والمهاريس النحاسية وإقامتها وإقامة المراكب القرصانية من صوار ومخاطيف وقلوع وقمن
وحبال وبراميل وغير ذلك من آلات البحر وفيها ثلاثون من مهرة المعلمين الذين لهم
المعرفة بأفراع المدافع والمهاريس والكور والبنب وبصناعة المراكب القرصاينة وفيهم
معلم مجيد في الرمي بالمهراس إلى الغاية فنزلوا بمرسى العرائش
قال صاحب البستان وكنت يومئذ واليا بها فورد أمر السلطان بتوجيه المعلمين إلى فاس
يقيمون بها حتى يقدم السلطان من مراكش إلى مكناسة فيجتمعون به هنالك ولما وصل
السلطان إلى مكناسة وحضروا عنده فاوضهم في الخدمة وأراد أن يحيي آثار دار الصنعة
التي كانت بسلا تصنع بها المراكب الجهادية على عهد الموحدين وبني مرين فقالوا
نحتاج أن تبني لنا دارا على هيئة كذا ومن نعتها كذا وكذا ورسموا له شكلها في قرطاس
فرأى أن أمرها لا يتم في عشر سنين ولا أكثر ولا يكفي في بنائها مال فأعرض عن ذلك
وبعث معلمي البنب إلى تطاوين فكان أحدهم يفرغ البنبة من قنطارين وبعث معلمي
المراكب إلى سلا فأنشؤوا فيها ثلاث شكظريات وبعث معلم الرمي إلى رباط الفتح فكان
يعلم بها الطبجية من أهل سلا والرباط وتخرج على يديه نجباء ومن ثم توارث أهل
العدوتين هذه الصناعة مدة إلى أن لم يبق بها اليوم إلا الاسم ورد أصحاب المدافع
والمهاريس إلى فاس فأقاموا بها إلى أن توفوا هنالك رحمهم الله
____________________
وفي هذه السنة انعقدت الشروط بين السلطان سيدي محمد بن عبد الله وبين جنس الدينمرك
وهي عشرون شرطا ترجع إلى تمام الصلح والأمن من الجانبين أيضا والأول منها مضمنة
خروج أمر المراسي المغربية من يد تجار الدينمرك فلا يتصرفون فيها بشيء لكون
الكمبانية التي كانت تدفع من المراسي قد تفرقت بعد التزام قنصلهم بأداء اثني عشر
ألف ريال وخمسمائة ريال التي بقيت بذمة تجارهم من ذلك ولا تعود المراسي لأيديهم
بحال والآخر منها مضمنة أن يدفع طاغية الدينمرك للسلطان كل سنة خمسة وعشرين مدفعا
من مدافع المعدن وزر كورتها من ثمانية عشر رطلا إلى أربعة وعشرين ويدفع معها
ثلاثين قمنة ومن اللوح الروبلي ألفي لوحة مختلطة ومن الريال ستة آلاف وخمسمائة
والكل واصل إلى المحل الذي يريده السلطان وإن أراد الطاغية أن يدفع بدلا عن جميع
ذلك خمسة وعشرين ألف ريال فله ذلك ومثل هذا انعقد مع جنس السويد أيضا إلا أن قدر
المدفوع من جانبه عشرون ألف ريال فقط في كل سنة ومع أجناس أخر وظائف أخر واستمرت
هذه السنة إلى أن انقطعت سنة إحدى وستين ومائتين وألف في دولة السلطان المولى عبد
الرحمن بن هشام رحمه الله حسبما نذكر ذلك في محله
وفي هذه السنة أعني سنة إحدى وثمانين ومائة وألف كانت فتنة الدعي كلخ بمراكش وهو
رجل صعلوك اسمه عمر كان ينتسب إلى الشيخ أبي العزم سيدي رحال وكان يظهر للعامة
الكرامات الكاذبة وتبعه السواد الأعظم من جهلة البادية لأنه وعدهم أن يفتح لهم بيت
المال ويهيلون منه الذهب والفضة هيلا من غير ممانع فأهرع الناس إليه وتقدم إلى
مراكش فدخلها في عالم من الأوباش شعارهم هاتان الكلمتان كلخ شلخ رافعين بها
أصواتهم وهم كالسيل المنحدر من عل فوقع الهرج بالمدينة وغلقت الأسواق واتصل الخبر
بالسلطان وهو بداره فأمر الوزعة والعبيد
____________________
فاعترضوهم دون القصبة وقبضوا عليه ولما صار في أيديهم فر من كان معه من الطغام
وساقوه إلى السلطان فقتله وسكنت جعجعته للحين انعقاد الصهر بين السلطان سيدي محمد
بن عبد الله وبين سلطان مكة الشريف سرور رحمه الله
كان السلطان سيدي محمد بن عبد الله يحب الفخر ويعنى به وله رغبة في الخير وأهله
ولما كان سلطان مكة الشريف سرور رحمه الله بالمحل الذي أكرمه الله به بلدا ومحتدا
رغب السلطان سيدي محمد رحمه الله في مصاهرته وسمحت نفسه الشريفة ببذل كريمته
فما دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف وعزم ركب الحاج المغربي على السفر إلى الحجاز
بعث معهم السلطان المذكور ابنته وزفها على بعلها المذكور وبعث ولده الأكبر وخليفته
الأشهر المولى علي بن محمد لإقامة فريضة الحج ومعه شقيقه المولى عبد السلام صغيرا
دون بلوغ ليكون مع أخته وكلاهما في صحبة الركب المغربي كما قلنا وأصحبهما هدية
لأمير طرابلس وهدية لأمير مصر والشام وهدية عظيمة لأهل الحرمين الشريفين ومالا
كثيرا يفرق على أشراف الحجاز واليمن وجوائز سنية للعلماء والنقباء وأرباب الوظائف
بمكة والمدينة وبعث معهما من وجوه أهل المغرب وأولاد أمراء القبائل وأشياخهم ومن
أكابر خدامه وأصحاب أشغاله بالخيول المسومة والسلاح الشاكي والشارة الحسنة وما
تحدث به أهل المشرق دهرا وكان في جهاز ابنة السلطان ما يزيد على مائة ألف دينار من
الحلى والياقوت والجوهر وكان يوم دخولها إلى مكة يوما مشهودا حضره عامة أهل الموسم
الأعظم من الآفاق وتناقلت حديثه الركبان والرفاق
____________________
اعتناء السلطان سيدي محمد بن
عبد الله بعبيد السوس والقبلة وجلبهم إلى أجدال رباط الفتح
وفي هذه السنة أعني سنة اثنتين ومائة وألف بعث السلطان سيدي محمد بن عبد الله ابن
عمه المولى علي بن الفضيل وكاتبه أبا عثمان سعيد الشليح الجزولي إلى بلاد السوس
لجمع عبيد المخزن الذين بها وبعث وصيفه المحجوب ابن قائد رأسه لإقليم طاطا
وآقاوتيشيت من بلاد القبلة لجمع العبيد الذين هنالك فجاؤوا بألفين من عبيد السوس
بأولادهم وألفين من عبيد القبلة بأولادهم كذلك فأنزلهم السلطان بظاهر مراكش إلى أن
أعطاهم السلاح والكسي وولى عليهم القائد المحجوب المذكور
ثم لما سار إلى رباط الفتح أمر بقطع جنات أجدال الذي بظاهر البلد وأنزل العبيد به
وبنى لهم الدور والمسجد والمدرسة والحمام والسوق وزاد عليهم ألفين وخمسمائة من
الودايا جلبها من القبائل وكتب الجميع في الديوان وجعلهم في مقابلة عبيد مكناسة
والودايا الذين بها وأفاض فيهم العطاء الكثير لسكناهم بثغر من ثغور الإسلام فتح
الجديدة
قد ذكر لويز مارية خبر هذا الفتح ونحن نلخص ما ذكره من ذلك قال لما ولي السلطان
سيد محمد بن عبد الله سلطنة المغرب كان لا يقر له قرار من أجل مشاركة البرتغال له
في قطعة من أرضه وكان شهما ذا أنفة وإباية فاستشار أهل الرأي من دولته في غزو
الجديدة وفتحها فقالوا له لا يظن سيدنا أن أخذها يكون بأن تحمل المسلمون عليها
دفعة واحدة حتى يقتحموها مثلا فإن ذلك لا يجدي شيئا ولا يحصلون إلا على القتل كما
وقع في أيام السلطان الغالب بالله السعدي وإنما يتوصل إلى فتحها بالحصار
____________________
والمطاولة برا وبحرا فعمل على ذلك بعد أن كرهه أولا ولما عزم على النهوض إليها جمع
جيشا كثيفا من قبائل مراكش والحوز والسوس وغير ذلك
زعم لويز أنه اجتمع له من المقاتلة نحو سبعين ألفا ويظن أن هذا من مبالغته على
عادته في ذلك وكان نزوله على الجديدة في رابع مارس العجمي سنة ثمان وستين وسبعمائة
وألف مسيحية وفي تواريخ الإسلام أن نزوله عليها كان في فاتح رمضان من سنة اثنتين
وثمانين ومائة وألف عربية ولما نزل عليها أمر بحفر الأساس لاتخاذ أشبار من جميع
جهاتها ونصب عليها خمسة وثلاثين مدفعا بين كبير وصغير ورمى عليها كورا وبنبا كثيرا
في أيام متعددة سقط منه داخلها أكثر من ألفين وهدمت كثيرا من أبنيتها وقتلت عددا
وافرا من أهلها وكان من جملة أهلها رجل عسكري قد أناف على السبعين سنة وعجز عن
حضور القتال وله زوجة وأولاد فلما رأى تساقط البنب مثل المطر طلب النجاة لنفسه
وعياله ففر إلى هري هنالك كان فوقه خزائن قمح فاختفى تحته واختفى معه أناس آخرون
وظنوا أن البنبة لا تنفذ في خزين القمح وتخرق السقف الذي تحته وتصل إلى الهري الذي
هم به فقضى الله تعالى بأن سقطت به بنبة تجاوزت القمح والسقف وسقطت على الشيخ
فقتلته ومن معه وكانوا تسعة أنفس وانجرح آخرون
ولما طال الحصار على أهل الجديدة كتبوا إلى طاغيتهم فأشار عليهم بالخروج إن عجزوا
عن المدافعة وكانت هذه المكاتبة من غير علم من العامة وبينما هم كذلك إذ ورد عليهم
مركب من أشبونة ظنوه مددا لهم فإذا به قد أتى بكتاب الطاغية يأمرهم بالخروج
ويتحملوا بأولادهم وعيالهم في مراكبه ويدفعوا البلد للمسلمين ولما علم العامة بذلك
امتنعوا وحاصوا حيصة حمر الوحش وسبوا الكتاب ومن أرسله وقالوا لا نخرج منها حتى
نهلك عن أخرنا إذ هي مأثرة أجدادنا عجنت طينتها بدمائهم وفنيت عليها
____________________
نفوس أكابرهم وأشرافهم ثم توسط بين عامتهم وكبيرهم القسيسون وسهلوا عليهم الأمر
حتى انقادوا وبعث كبيرهم إلى السلطان سيدي محمد بن عبد الله يطلب منه أن يكف عن
القتال ويؤجله ثلاثة أيام ليدفع له البلد فأجابه السلطان إلى ذلك واشترط عليه أن لا
يخرجوا إلا في ثيابهم التي على ظهورهم ولا يحملوا معهم شيئا غيرها فامتثلوا
قال لويز حتى أن عسكريا منهم حمل معه كسوة أخرى لم تسمح بها نفسه فرآها كبيرهم وهو
يريد أن يصعد إلى المركب فانتزعها منه وألقاها في البحر ولما أيسوا من حمل شيء
معهم أحرقوا الأثاث والفراش وعرقبوا الخيل وقتلوا الماشية وكسروا الأواني والعدة
وفلسوا أكثر من مائة مدفع وآخر الأمر أنهم دفنوا مينات البارود في حوماتها كل مينا
فيها أكثر من أربعين برميلا وتركوا رجلا حدادا اسمه بطروس فيقال إنه الذي أوقد
المينا عند دخول المسلمين إليها فهلك فيها نحو خمسة آلاف وتهدم السور الجنوبي منها
ولما وصلوا إلى أشبونة أسكنهم طاغيتهم ببلدة يقال لها بلين فأصابهم الوخم وهلك
منهم أكثر من ثلاثمائة نفس ثم انتقلوا إلى بلاد البرازيل فبنوا هنالك مدينة سموها
مازكان الثانية باسم الجديدة هذا ملخص ما ذكره لويز ومن خط الفقيه العلامة أبي
العباس أحمد السدراتي أن فتح الجديدة كان صبيحة يوم السبت الثاني من ذي القعدة سنة
اثنتين وثمانين ومائة وألف ووافق ذلك اليوم الثامن والعشرين من فبراير العجمي وهو
ثالث أيام الحسوم اه وكان ممن شهد هذا الفتح المعلم الحاج سليمان التركي المجيد في
صناعة الرمي بالمهراس فأبدأ وأعاد وحضرها أيضا جماعة من فنانشة سلا فأبلوا بلاء
حسنا وعمرها السلطان بأهل دكالة إذ هي في وسط أرضهم وأضاف إليهم حصة من عسكر
اليكشارية وأعقابهم بها لهذا العهد والله أعلم
____________________
سعي السلطان سيدي محمد بن عبد
الله في فكاك أسرى المسلمين وما يسر الله على يديه من ذلك
قد تقدم أن السلطان سيدي محمد بن عبد الله كان قد بعث خاليه عمارة بن موسى ومحمد
بن ناصر الوديين وكاتبه أبا العباس الغزال إلى طاغية الإصبنيول وأن الغزال قد أحكم
الصلح وقضى الغرض على ما ينبغي وفي تلك السفرة وقع التفادي بين السلطان والطاغية
في الأسرى التي كانت بينهما حسبما مر
فلما كانت هذه السنة التي هي سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف كتب طاغية الإصبنيول
إلى السلطان يقول إنه لم يبق ببلادي أحد من أسرى إيالتكم ولم يبق عندي إلا أسرى
أهل الجزائر الذين عندهم أسرانا وطلب منه مع ذلك أن يتوسط له عند صاحب الجزائر في
المفاداة بينه وبينه وكانت أسرى الإصبنيول تزيد على أسرى الجزائر بكثير وطلب أن
تكون هذه المفاداة على يديه أعني على يد السلطان رحمه الله الرئيس بالرئيس والبلوط
بالبلوط واليكانجي باليكانجي والبحري بالبحري والجندي بالجندي ومن فضلت عنده فضلة
فالبحيري بخمسمائة ريال والرئيس بألف فأسعفه السلطان في طلبه وانتدب للسعي في
إنقاذ المسلمين من أيدي الكفار ابتغاء مرضاة الله ورجاء ثوابه وكان السلطان قد كتب
إليه مع الغزال وصاحبيه فيمن تحت أيديهم من سائر أسرى المسلمين فبعثوا إليه بأهل
المغرب فقط واعتذروا بأنهم حبسوا أسرى الجزائر ليفكوا بهم أسراهم
ولما كاتب السلطان أهل الجزائر وعرض عليهم ما طلبه طاغية الإصبنيول امتنعوا من
الفداء فكتب السلطان إلى باي الجزائر ثانيا فامتنع ثم
____________________
أعاد إليهم الكتابة ثالثا وحضهم على فكاك أسرى المسلمين ووعظهم وخوفهم عقاب الله
ورغبهم في ثوابه فأذعنوا وامتثلوا وطلبوا منه أن يبعث إليهم رجلا من خاصته يقف على
المفاداة بنفسه ويدفعون إليه أسراهم في يده ويتسلم مثل عددهم من إخوانهم فلما ورد
على السلطان كتاب أهل الجزائر بالامتثال كتب إلى الطاغية يأمره أن يبعث بما عنده
من أسرى المسلمين في مركب إلى الجزائر وينتظر هنالك الباشدور الذي يوجهه من قبله
حتى تكون المفاداة على يده وبعث السلطان لهذا الغرض كاتبه أبا العباس الغزال
وصاحبيه وعند وصولهم إلى الجزائر أرسى مركب الإصبنيول بظاهر مرساها وأنزل من أسرى
المسلمين ألفا وستمائة ونيفا فأخرج أهل الجزائر من أسرى النصارى مثلهم ألفا
وستمائة ونيفا أيضا وبقيت عندهم من أسرى النصارى فضله ففداها الإصبنيول بالمال
وانفصلوا ورجع الباشدور ومن معه إلى حضرة السلطان وكتب الله أجر ذلك في صحيفته
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف فيها غزا السلطان قبائل تادلا لإفسادهم
ومحاربة بعضهم بعضا فنهب أموالهم وشردهم في كل وجه وولى عليهم القائد صالح بن
الرضي الورديغي فاستصفى أموالهم وأفقرهم حتى لم يقدروا على الانتقال من محل إلى
آخر من قلة الظهر
ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائة وألف فيها غزا السلطان برابرة جروان لما ظهر منهم
من الفساد وإغرائهم ابنه المولى يزيد بالانتزاء على الملك واجتماعهم على محمد
وناصر المعروف بمهاوش رأس الفتنة وتباريهم في خدمته فقدم من مراكش وطرقهم وادي
كريكرة فأوقع بهم ونهب أموالهم وقتل منهم نحو الخمسمائة وتركهم عالة يتكففون الناس
بمكناسة وفاس ثم نقلهم إلى بسيط آزغار وأنزلهم وسط العرب فانحسمت مادة فسادهم
____________________
حصار السلطان سيدي محمد بن عبد
الله مدينة مليلية من ثغور الإصبنيول
لما كانت أواخر سنة أربع وثمانين ومائة وألف غزا السلطان سيدي محمد بن عبد الله
مدينة مليلية وفيها نصارى الإصبنيول فأحاطت عساكره بها ونصب عليها المدافع
والمهاريس وشرع في رميها أول يوم من المحرم سنة خمس وثمانين ومائة وألف واستمر على
ذلك أياما فكتب إليه طاغية الإصبنيول يعاتبه على حصارها ويذكره المهادنة والصلح
الذي انعقد بينه وبينه ويقول له هذا خط كاتبك الغزال الذي كان واسطة بيني وبينك في
عقد الصلح لا زال تحت يدي فأجابه السلطان رحمه الله بأن قال إنما عقدت معك
المهادنة في البحر فأما المدن التي في إيالتنا فلا مهادنة فيها ولو كانت فيها
مهادنة لخرجتم إلينا ودخلنا إليكم فكيف ادعاء المهادنة مع هذه المداهنة فبعث إليه
الطاغية عقد الصلح بعينه فإذا هو عام في البر والبحر فكف عن حربها وأفرج عنها وترك
هنالك جميع آلات الحرب من مدافع ومهاريس وكراريص وبنب وكور وبارود وشرط على
الطاغية حملها في البحر وردها إلى الثغور التي جلبت منها لما في جرها في البر من
المشقة على المسلمين فأنعم بذلك وبعث مراكبه فحملت بعضها إلى تطاوين وبعضها إلى
الصويرة وذلك محلها الذي سيقت منه وكان ذلك سبب تأخيره الغزال عن كتابته وبقي
عاطلا إلى أن كف بصره ومات رحمه الله
وسمعت من بعض فقهاء العصر وقد جرت المذاكرة في كيفية هذا الصلح فقال إن الغزال
رحمه الله لما أعطى خط يده بالصلح والمهادنة كتب في الصك ما صورته وإن المهادنة
بيننا وبينكم بحرا لا برا فلما حاز النصارى خط يده كشطوا لام الألف وجعلوا مكنانها
واوا فصار الكلام هكذا بحرا وبرا وأن السلطان رحمه الله إنما أخره لاختصاره الكلام
وإجحافه به حتى سهل على النصارى تحريفه وكان من حقه أن يأتي بعبارة مطولة مفصلة
____________________
حتى لا يمكن تحريفها فيقول مثلا والمهادنة بيننا وبينكم إنما هي في البحر وأما
البر فلا مهادنة بيننا وبينكم فيه أو نحو هذا من الكلام فيصعب تحريفه وقد نص أهل
علم التوثيق على هذا وأن الموثق يجب عليه أن يبسط الكلام ما استطاع ويجتنب
الاختصار المجحف وما يؤدي إليه بوجه من الوجوه والله أعلم نهوض السلطان سيدي محمد
بن عبد الله إلى برابرة آيت ومالو والسبب في ذلك
ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائة وألف فيها خرج السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه
الله إلى جبال آيت ومالو وكان ذلك في غرض قائده بلقاسم الزموري فإنه كان قد ولاه
عليهم فلم يقبلوه فطلب من السلطان الإعانة عليهم فأمده بثلاثة آلاف فارس مضافة إلى
من معه من إخوانه زمور وبني حكم وسار اليهم فلما نزل على وادي أم الربيع من ناحية
تادلا زحفوا إليه فولى عنهم مدبرا ولم يعقب واتصل خبر هزيمته بالسلطان فاغتاظ على
آيت ومالوا وأخذ في الاستعداد لغزوهم وبرزت العساكر بظاهر مكناسة وبعث السلطان إلى
أمراء القبائل من العرب والبربر يستنفرهم فوافاه بمكناسة على الصعب والذلول ولما
تكاملت الجنود نهض إليهم
قال صاحب البستان وهو الكاتب أبو القاسم الصياني بالصاد المشممة زايا كلفظ صراط في
قراءة حمزة وكنت معه في هذه السفرة وساق الحديث عنها بأن قال كنت مع السلطان وأنا
يومئذ في حيز الإهمال أتوقع الموت في كل وقت بسبب ما كتب إليه في شأني القائد
بلقاسم الزموري المذكور آنفا وأني أنا الذي أفسدت عليه قومه ولما وصل السلطان إلى
محلة بلقاسم ونزلت عساكرة في بسيط كريكرة أشار على السلطان بأن يقسم تلك الجيوش
على ثلاثة أقسام ثلث منها ينزل بتاسماكت من وراء العدو وثلث
____________________
ينزل بزاوية أهل الدلاء على طريق بلادهم وثلث يذهب معه على طريق تيقيط ويتقدم
السلطان في عساكره حتى ينزل بآدخسان وتقصدهم العساكر من كل وجه وقرب على السلطان
الأمد البعيد باللسان والرأي الذي لا يفيد وكان هو لا يعرف البلاد ومن الغد افترقت
العساكر فتوجه كل إلى ناحيته التي عينت له وتقدم السلطان إلى آدخسان ولما عبر وادي
أم الربيع قدم كروان أمامه للغارة عليهم فساروا إلى أن بلغوا قصبة آدخسان فلم
يجدوا بها نافخ نار فأقاموا هنالك إلى أن لحق بهم السلطان فقال أين هؤلاء قالوا ما
رأينا أحدا وهذه قصبة آدخسان فأمر بنزل الجيوش وبقي هو على فرسه متحيرا فاستدعى
أبا القاسم الصياني قال فأسرعت نحوه فقال لي أتعرف هذه البلاد قلت نعم أتم المعرفة
قال وأين أهلها قلت في جبلهم قال أوليس هذا جبلهم وهذا آدخسان قلت لا هذه قصبة
المخزن والجبل من تلك الثنايا السود فما خلفها وأريته الثنايا فقال وأين الزاوية
التي سار إليها الجيش مع قدور بن الخضر ومسرور قلت هي عن يمين الثنايا في البسيط
قال وأين تاسماكت التي سارت إليها أمم البربر مع ولد محمد واعزيز قلت بيننا وبينها
مرحلتان من وراء الثنايا قال ومن أين يأتي القائد بلقاسم فأريته الثنية التي يطلع
منها وقلت له إنه لا يصل إلينا إلا غدا إن سلم وما صنعنا نحن قلت ضربنا في حديد
بارد فإن الذي بالزاوية لا يجدي والذي بتاسماكت لا يجدي وآيت ومالو متحصنون بالجبل
وبلقاسم رجل مشؤوم عافى الله مولانا من شؤمه قال فظهر للسلطان خلاف ما سمع من
بلقاسم وتحقق فساد رأيه وعلم أنه قد أخطأ فيما ارتكبه من التغرير بالمسلمين قال ثم
بينت له السبب الذي نفر به آيت ومالو عن بلقاسم حتى عرفه قال اكتب إلى قومك صيان
يقدموا علينا فإني قد سامحتهم فكتب إليهم وبعث بالكتاب من آدخسان مع بعض الأشراف
واثنين من أصحاب السلطان فخاضوا إليهم الليل واجتمعوا بهم
____________________
ومن الغد أصبح عندنا أربعة منهم بهديتهم فدخلت بهم على السلطان فأكرمهم وقبل
هديتهم وقال إني سامحتكم لوجه كاتبي فلان وردهم مبشرين إلى إخوانهم وباتت العساكر
تلك الليلة بلا علف ولا تبن ومن الغد ظهرت محلة بلقاسم ومعه مختار والعبيد وكانوا
قد باتوا على القتال طول ليلتهم ولما وصلوا إلى السلطان أمر أن ينزل العبيد بجواره
وينزل بلقاسم مع قومه زمور وبني حكم وأعرض عنه ثم أمره بتسريح إخوانه إلى بلادهم
وسرح القبائل كلها إلى بلادها وفرق ذلك الجمع وأرتحل راجعا إلى تادلا
وأما الذين نزلوا بتاسماكت مع ولد محمد واعزيز فبيتهم آيت ومالو بغارة شعواء
شردوهم بها في كل وجه ونهبوا محلتهم وقتلوا منهم عددا كثيرا ورجعوا إلى مكناسة
مفلولين ولما بات السلطان بالزرهونية ورد عليه أصحاب قدور بن الخضر بكتابه يقول
فيه إن البربر قد تألبوا علينا من كل أوب فإن لم يدركنا سيدنا هلكنا قال الصياني
فأمرني السلطان بالمسير إليهم والاحتيال في خلاصهم بكل ما يمكن وبعث معي مائة فارس
فوافيت الزاوية الدلائية فوجدت قبائل البربر محيطة بهم فاجتمعت بآيت يسري ووعدتهم
من السلطان بالعطاء الجزيل إن هم فسحوا لجيشة حتى يسلك في بلادهم فأنعموا بذلك
ورحل الجيش مع الفجر وعدلنا به من آيت ومالو وعبرنا الوادي إلى بلاد آيت يسري وسار
معنا نحو المائة من أعيانهم إلى أن أخرجونا إلى وادي تاقبالت من تادلا ورجعوا قال
وتقدمت إلى السلطان فأخبرته بخلاص الجيش ووصوله إلى وادي تاقبالت فسره ذلك ودعا لي
بخير وقال لا بد أن ترجع إليهم الساعة وأعطاني مالا أفرقه عليهم وأرسم لهم المنازل
التي ينزلونها في مسيرهم إلى مكناسة وبها ينتظرون السلطان فرجعت إليهم في الحين
وأخبرتهم برأي السلطان في المسير إلى مكناسة ورسمت لهم المنازل على نحو ما أمر
ولما أصبحنا فرقت عليهم المال
____________________
وارتحلوا إلى مكناسة وانقلبت إلى السلطان فوجدته قد أصابته حمى أقام لها بقصبة
تادلا وكان الطبيب أبو العباس أحمد آدراق يعالجه ولا يدخل عليه إلا أنا وهو وصاحب
طعامه الحاج عبد الله إلى أن عوفي فوصل الطبيب بألف دينار ثم سافر إلى مكناسة
وبوصوله إليها قبض على بلقاسم الزموري ونكبه واستصفى أمواله وولي على زمور وبني
حكم ولد محمد واعزيز قال الصياني ومن ذلك الوقت رفع السلطان منزلتي على أقراني
وصار يقدمني في المهمات
ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائة وألف فيها انعقدت الشروط بين السلطان وبين البرتغال
وهي اثنان وعشرون شرطا مضمنها الصلح والأمان كالشروط المتقدمة ذكر ما آل إليه أمر
اليكشارية الذين استخدمهم السلطان من قبائل الحوز
لما جمع السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله هذا الصنف من رماة الجند وسماهم
اليكشارية كالذين من قبلهم وكان جمعهم على يد القائد عبد النبي المنبهي حسبما سبق
حصل منهم ضرر كبير للرعية في المال والحريم وصاروا يعيثون في غلل جناتهم مما يمرون
به أيام أسفارهم حتى صار ذلك الفساد عندهم عادة وما من منزل يبيتون به إلا ويكلفون
أهله ما لا يطيقون فإذا كلمهم أعيان الرعية في الرفق بالناس قالوا هذه عادة لا
نتركها وهي من قوانين الدولة ولما علم السلطان بما يرتكبونه من العسف أسقطهم من
الجندية ونزع منهم السلاح وردهم إلى المغرم مع إخوانهم وأراح الناس من شرهم
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة وألف فيها عزل السلطان القائد محمد بن أحمد
البوزراري عن قبائل تامسنا وتادلا وما اتصل بهما ولم يترك
____________________
له إلا إخوانه من أهل دكالة وولى على السراغنة أبا عبد الله محمد المعروف بالصغير
وعلى أهل تادلا صالح بن الرضي الورديغي وعلى أولاد أبي رزك المزابي القائد صاحب
الطابع وعلى أولاد أبي عطية عمر بن أبي سلهام المزابي وأمر محمد بن أحمد أن يقبض
من إخوانه الذين كانوا عمالا على هذه القبائل ما احتجبوه من الأموال أيام ولايتهم
واستصفى منهم مائة وخمسين ألفا خروج العبيد على السلطان سيدي محمد بن عبد الله
ومبايعتهم لابنه المولى يزيد وما نشأ عن ذلك
ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائة وألف فيها كانت الفتنة العظمى التي هي خروج العبيد
على السلطان سيدي محمد بن عبد الله وبيعتهم لابنه المولى يزيد وكان السبب في ذلك
أن السلطان كتب إليهم وهو بمراكش يأمرهم أن يعينوا منهم ألف كانون ينتقلون
بأولادهم إلى طنجة يكونون بها وبعث إليهم بالكتاب مع القائد الشاهد رأس الفتنة
وولاه على ذلك الألف فلما أتاهم بكتاب السلطان قال لهم لا يذهب معي إلا الأعيان
ومن له دار وأرض وضيعة ولا يذهب معي إلا أمثالي فلما سمع اقتراحه أولئك الأجلاف
ركبوا رأسهم في سبيل الخلاف واستفزهم الشيطان حتى صرحوا بخلع السلطان جريا في ذلك
على مذهبهم القديم والتفاتا إلى فعل سلفهم الذميم فلما أنهى خبرهم إلى السلطان بعث
إليهم ابنه المولى يزيد وكان عنده بمراكش كي يستصلحهم به فازداد فسادهم وعظم
عنادهم
قال صاحب البستان وكنت يومئذ برباط الفتح فلما ذهبت إلى مراكش لقيت المولى يزيد
بالسانية موضع على نحو نصف يوم منها قال فسألني عن خبر العبيد فقصصته عليه فسره
ذلك وجد في السير ففهمت قصده وعرفت ما يؤول إليه أمره فيهم وزعم أنه لما قدم على
السلطان لامه في
____________________
بعثه المولى يزيد فاعترف بالخطأ في ذلك ولما وصل المولى يزيد إلى مكناسة واجتمع
بالعبيد لم يقدموا شيئا على بيعته والخطبة به ففتح بيوت الأموال وأعطاهم حتى رضوا
ثم فتح مخازن السلاح والبارود ففرقه فيهم ثم دخل في بيعته من كان قريبا من قبائل
العرب والبربر غير الودايا وآيت أدراسن وجروان الذين هم شيعة السلطان فإنهم تعصبوا
له
قال صاحب البستان وبعد ثلاث بعثني السلطان إلى الودايا وأحلافهم بمكاتيب فقدمت
عليهم بها وأقمت عندهم إلى أن زحف إليهم المولى يزيد في جيش العبيد وهم بالأروى
وكانت آيت أدراسن وجروان قد دخلوا مع الودايا وظاهروهم على العبيد فوقعت الحرب
بالمشتهى داخل القصبة فانهزم العبيد وسلطانهم وقتل منهم نحو الخمسمائة وأما الجرحى
فبلا عدد وانقلبوا مفلولين
واتصل الخبر بالسلطان فخرج من مراكش في الجند وقبائل الحوز يريد مكناسة ولما وصل
إلا سلا وسمع المولى يزيد بقدومه فر إلى ضريح الشيخ أبي الحسن علي بن حمدوش ثم إلى
ضريح المولى إدريس الأكبر رضي الله عنه بزرهون فتقدم السلطان إلى زرهون ولما دخل
الضريح الشريف أتاه أشراف زرهون بابنه المولى يزيد فعفا عنه وسامحه واستصحبه معه
إلى مكناسة ولما وجه إليها خرج إليه نحو المائة من العبيد من ذوي أسنانهم ومعهم
الأشراف والمرابطون والنساء والصبيان فعفا عنهم وسامحهم على شرط الخروج من مكناسة
فأذعنوا وأقام السلطان بمكناسة يدبر أمرهم إلى أن فرقهم على الثغور فبعث منهم
رحيين إلى طنجة ورحيين إلى العرائش ورحى إلى رباط الفتح وقصد بتفرقتهم دفع غائلتهم
وتوهين عصبيتهم ثم عمد إلى الذين كانوا برباط الفتح ففرقهم أيضا فبعث ألفين منهم
إلى السوس وألفا إلى مراكش وأبقى ألفين برباط الفتح مع عبيد مكناسة المغربين إليها
واستراحت الدولة من شرهم استراحة ما
____________________
ثم إن العبيد الذين بطنجة وثبوا على قائدهم القائد الشيخ وعلى قائد أهل الريف محمد
بن عبد الملك وأرادوا قتلهما فهربا لآصيلا والسلطان يومئذ لا زال بمكناسة ولما
أنهى إليه خبرهم كتب إلى أعيانهم يتوعدهم فقبضوا على أصحاب الفعلة وبعثوا بهم إليه
وتبرؤوا منهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف فاستكانوا بعض الشيء ورجع القائدان إلى
طنجة ثم لما سافر السلطان إلى مراكش أخذ معه عبيد مكناسة فأنزل أهل القصبة منهم
بالمنصورية قرب وادي النفيفيخ لأنهم كانوا رأس العصاة واستصحب الباقين إلى مراكش
فأنزلهم بها بعد أن عزل عنهم قوادهم الذين حضروا فعلة المولى يزيد وأبقاهم عاطلين
مهملين وولى عليهم أناسا من غيرهم ذكر ما سلكه السلطان سيدي محمد بن عبد الله في
حق العبيد من التأديب الغريب
ثم إن العبيد الذين بالثغور عاثوا بها وأضروا بأهلها في جناتهم وأموالهم وأعراضهم
فأنهى خبرهم إلى السلطان أيضا ولما أعياه أمرهم ورأى أن تأديبهم بالتفرقة لم يفد
فيهم انتقل رحمه الله معهم إلى مرتبة أخرى من التأديب لم يسبق إليها كانت ترياقا
لقطع دائهم ونارا لحسم عرق بلائهم وذلك أنه لما بلغه ما هم عليه من الجور والطغيان
نهض من مراكش عازما على الإيقاع بهم فلما وصل إلى رباط الفتح كتب إلى أهل طنجة
والعرائش منهم يقول إني قد رضيت عنكم وبررت قسمي في نقلكم من مكناسة إلى الثغور
والآن إذا وصلتكم الإبل والبغال التي أبعثها إليكم فلتحمل أهل طنجة بأولادهم
ومتاعهم وليقدموا إلى دار عربي من بلاد سفيان فلينزلوا بها ثم يبعثوا الإبل
والبغال إلى أهل العرائش ليتحملوا بأولادهم ومتاعهم إلى دار عربي كذلك فإذا
اجتمعتم أنتم وهم بها فإني أبعث إليكم بغالي تتحملون عليها إلى مكناسة كلكم فلما
وصل إليهم كتاب السلطان بذلك طاروا فرحا وأحبوا الرجوع إلى مكناسة
ولما وردت عليهم الإبل والبغال ارتحلوا من طنجة وفي أثناء ذلك
____________________
بعث إليهم السلطان قائدهم سعيد بن العياشي الذي خلعوه أيام الفتنة وأوصاه أن يقيم
بدار عربي حتى يقدم عليه عبيد طنجة والعرائش فانتهى إليها ووافاه بها عبيد طنجة
فنزلوا عليه بقضهم وقضيضهم ووصلت الإبل والبغال إلى أهل العرائش فجاؤوا حتى نزلوا
مع إخوانهم كما رسم السلطان
ثم إن السلطان رحمه الله نهض من رباط الفتح حتى وافى مشرع مسيعيدة من وادي سبو ثم
انتقل منه إلى سوق الأربعاء من بلاد سفيان ثم تقدم إلى قبائل الغرب وبني حسن أن
يسيروا إلى العبيد ويعسكروا عليهم من جميع الجهات فامتثلوا ولما استداروا حولهم
وأحاطوا بهم إحاطة بياض العين بسوادها قدم السلطان ودعا رؤساء القبائل فحضروا عنده
فقال لهم إني قد أعطيتكم هؤلاء العبيد بأولادهم وخيلهم وسلاحهم وكل مالهم
فاقتسموهم الآن وكل واحد منكم يأخذ عبدا وأمة وأولادهما فالعبد يحرث والأمة تطحن
والولد يرعى الماشية فحذوهم وتقلدوا سلاحهم واركبوا خيولهم والبسوا كساهم بارك
الله لكم فيهم فأنتم عسكري وجندي دونهم فلما سمعت قبائل الغرب وبني حسن هذا الكلام
من السلطان وثبوا على العبيد من غير أن تكون منهم وقفة واقتسموهم في أسرع من لحس
الكلب أنفه وتوزعوهم شذر مذر وصيروهم عبرة لمن اعتبر
وقفل السلطان راجعا إلى رباط الفتح ولما دخله نفى العبيد الذين بها إلى مراكش
فأنزلهم بها بعد أن عزل عنهم قوادهم وولى مكانهم غيرهم واستمر عبيد طنجة والعرائش
موزعين في القبائل أربع سنين ثم عفا عنهم واستردهم من القبائل إلى الجندية وأركبهم
وكساهم وسلحهم لكنه ميزهم وجعلهم قبائل في الخلط وطليق منهم أنزلهم بقصر كتامة
وسفيان وبنو مالك أنزلهم بمسيعيدة وبنو حسن أنزلهم بسيدي قاسم والحياينة وأهل
الجبل أنزلهم بتامدرت من أعمال فاس وأقاموا هنالك عدة سنين يوجهون حصتهم في البعوث
ويعسكرون مع السلطان متى احتاج إليهم ثم جمعهم رحمه الله بعد ذلك ونقلهم إلى مراكش
وأقبل عليهم بالعطاء إلى أن عادوا أحسن مما
____________________
كانوا حالا ثم بدا له فيهم فبعث عبيد السوس إلى تارودانت وعبيد حاحة والشبانات إلى
الصويرة وعبيد السراغنة وتادلا ودمنات إلى تيط الفطر وعبيد دكالة إلى آزمور وعبيد
الشاوية إلى آنفي وعبيد زعير والدغماء إلى المنصورية وعبيد بني حسن إلى المهدية
وأبقى معه بمراكش عبيد سفيان وبني مالك والخلط وطليق والمسخرين من أصحاب العباس
وكان قيام هؤلاء العبيد سببا لافتراق الكلمة وانحلال نظام الملك بالمغرب وسرى
فسادهم في القبائل كلها عربا وبربرا وكثر الهرج وانحبس المطر ووقع القحط وعظمت
المجاعة واستمر الحال على ذلك نحوا من سبع سنين من سنة تسعين إلى سنة ست وتسعين
ومائة وألف فكانت هذه المدة كلها مجاعة أكل الناس فيها الميتة والخنزير والآدمي
وفنى أكثرهم جوعا والسلطان في ذلك كله يكابد المشاق العظام ويصير على الجنود
الأموال الثقال راتبا بعد راتب وعطاء بعد عطاء إلى أن خلصوا من المجاعة وصلحت
أحوال الجماعة وكان رحمه الله قد رتب الخبز في كل مصر يفرق على ضعفائه في كل حومة
وأسلف القبائل الأموال الطائلة يقتسمونها على ضعفائهم إلى أن يؤدوها زمان الخصب
والرخاء
ولما عاش الناس وهموا بأدائها سامحهم بها وقال ما أعطيتها بنية الاسترجاع وإنما
ذكرت السلف لئلا يستبد بها الأشياخ والأعيان إذا سمعوا أنها هبة فرحم الله تلك
الهمة الشريفة ما كان أعلاها وأعظمها وأرأفها وأرحمها وأسقط رحمه الله في تلك
المدة جميع الوظائف والمغارم عن قبائل المغرب إلى أن عاشوا وتمولوا وكان يعطي
التجار الأموال ليجلبوا بها الأقوات من بر النصارى فإذا وصلت أمرهم أن يبيعوها
بثمنها الذي اشتريت به رفقا بالمسلمين وشفقة على الضعفاء والمساكين
ولما دخلت سنة سبع وتسعين ومائة وألف مطر الغرب وعاش الناس وحرثوا وأدرك الزرع
ورخصت الأسعار وازدهت الدنيا ودرت الجبايات وأخذ أمير المؤمنين رحمه الله في تمهيد
المغرب ثانية واستئناف العمل والجد والله غالب على أمره
____________________
إيقاع السلطان سيدي محمد بن
عبد الله بأولاد أبي السباع وتشريدهم إلى الصحراء وما يتبع ذلك
لما كان بالمغرب ما تقدم من الفتنة وشغل السلطان بإنعاش الضعفاء عن ضبط الأطراف
وقمع البغاة بها نبغت نوابغ الفتن ببعض القبائل منها وعادت هيف إلى أديانها فمن
ذلك قبيلة أولاد أبي السباع بأحواز مراكش فلطالما ارتكبوا العظائم واجترحوا وغدوا
في الفتنة وراحوا واستطالوا على من بجوارهم وغزوهم في أرضهم وديارهم
فلما كانت هذه السنة التي هي سنة سبع وتسعين ومائة وألف جهز إليهم السلطان العساكر
فقاتلوهم وقتلوهم وانتهبوا أموالهم وشردوهم إلى السوس وقبض السلطان على كثير من
أعيانهم فأودعهم سجن مكناسة إلى أن هلكوا به وأوعز إلى قبائل السوس أن يطردوا
بقيتهم وينفوهم إلى بلاد القبلة مسقط رأسهم ومنبت شوكتهم وبأسهم ففعلوا ثم نقل
قبيلة زمران بعد الإيقاع بهم إلى بلاد أولاد أبي السباع فعمروها ثم نقل تكنة ومجاط
وذوي بلال من شوشاوة الحوز إلى الغرب فنزلوا بفاس الجديد وأعماله ثم أعاد آيت يمور
من جبل سلفات إلى تادلا ثم نقل كطاية وسمكت ومجاط من تادلا إلى الغرب ثم أعاد
جروان من آزغار إلى الجبل
وفي هذه السنة أيضا كانت فتنة الدعي محمد والحاج اليموري كان يزعم أنه من الأولياء
ويتكلم في المغيبات ويشيع أنه ينتظر صاحب الوقت فسرى فساده في قبيلته وتجاوزها إلى
غيرها فقصده جهلة البربر من كل قبيل وأغرى آيت يمور بمن جاورهم من قبائل العرب
وكانوا يومئذ لا زالوا بسلفات فتصدى لهم قائد سفيان أبو عبد الله محمد الهاشمي
السفياني وجمع له الجموع من قبائل الغرب وصمد إليه وهو في قبيلة آيت يمور فعبر نهر
سبو وأنشب الحرب معهم فكانت الدبرة عليه وانهزمت جموع الغرب وقتل القائد
____________________
الهاشمي المذكور وعدد كبير من وجوه قومه وتركوا محلتهم بما فيها للبربر وعظم أمر
هذا الدعي وشمخت أنوف قبيلته به وشرى ضلالهم ولما قدم السلطان إلى مكناسة بعث من
قبض عليه وساقه إليه فقتله وأراح الناس من وساوسه وفي هذه السنة بعث السلطان ولده
المولى عبد السلام لأداء فريضة الحج لأنه لم يكن أدرك الحلم عام حج مع أخيه المولى
علي
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة وألف فيها غزا السلطان برابرة زمور وبني حكم فلما
أظلهم قدومه انشمروا إلى شعاب تافودايت وتحصنوا بها فاحتال عليهم بأن قام عنهم
وأوعز إلى آيت أدراسن وكروان أن يرصدوهم متى برزوا إلى الفضاء فلينهبوهم فلما توجه
السلطان قافلا إلى مراكش خرجت زمور من شعابها فلم يرعهم إلا آيت أدراسن وكروان قد
أحاطوا بهم فانتهبوا حللهم وتوزعوا أموالهم وتركوهم عالة يتكففون الناس ذهاب
السلطان سيدي محمد بن عبد الله إلى تافيلالت وتمهيده إياها والسبب في ذلك
كان الشريف المولى حسن بن إسماعيل عم السلطان مقيما بتافيلالت وكان آيت عطة وآيت
يفلمان من برابرة الصحراء شيعة له فكان إذا حدث بينه وبين أشراف سجلماسة حادث
استكثر بهم عليهم وحاربهم وربما قتل منهم وكان السلطان يبلغه بعض ذلك عنه فيسوءه
إلا أنه كان يثقل عليه أن ينال عمه منه مكروه ولأنه كان مشغولا بما هو أهم فاستمر
الحال إلى أن ترددت أشراف سجلماسة بالشكاية منه فلم يسع السلطان إلا زجره وقطع
عادية بربره عن الأشراف فعزم على المسير بنفسه إلى سجلماسة وكان ابنه المولى يزيد
يومئذ بالمغرب فلم يرد السلطان أن يتركه خلفه لئلا ينشأ عنه ناشيء فتنة فاحتال في
إبعاده بأن وجهه إلى الحجاز لقضاء فريضة الحج
____________________
في غير ركب بل أفرده عنه وأصحبه أمينا يصير عليه وأناسا قليلين يكونون في خدمته
دفعا لغائلته ثم سافر السلطان إلى سجلماسة برسم زيارة تربة جده المولى علي الشريف
رضي الله عنه وحسم داء عمه المولى حسن وشيعته ولما شارف السلطان تافيلالت قدم
أمامه أبا القاسم الصياني لإخراج البربر من قصورهم في الأمان وإن كان عندهم ما
يثقلهم من زرع أو تمر يعطيهم ثمنه لينقطع بذلك عذرهم وإن أقاموا حتى أدركهم
السلطان بها فإنما إثمهم على أنفسهم فامتثل البربر الأمر وخرجوا إلى الصحراء ولم
يأت السلطان حتى لم يبق منهم أحد بتلك القصور وأفرد المولى حسن وانكسرت شوكته ثم
بعث إليه أبا القاسم الصياني أيضا يعرض عليه السكنى بمكناسة وينفذ له ما يكفيه من
الظهر لحمل عياله وأثقاله قال الصياني فذهبت إليه وباشرت أمره إلى أن أجاب ومن
الغد سرت به إلى مكناسة وأمرني السلطان أن أعطيه دارا يسكنها ورتب له ثلاثمائة
مثقال لكل شهر ينفقها على نفسه وعياله وأمرني مع ذلك إذا فرغت من شأن عمه المذكور
أن أصحب معي أولاده الثلاثة المولى سليمان والمولى حسن والمولى حسين وأن أصحب معهم
قدرا من المال وعددا من المدافع والمهاريس والبنب وطائفة من الطبجية من علوج
اللمان وألفا من عسكر الثغور رجاله لجر تلك المدافع والمهاريس قال فقضيت الغرض على
ما ينبغي وعدت إليه وهو بسجلماسة بجميع ما أمرني به فبلغنا ونحن أثناء الطريق وفاة
ولد السلطان وخليفته بفاس المولى علي بن محمد وكان من سادة العلويين ونجبائهم ومن
أهل المروءة والأوصاف المحمودة عقلا وعلما وأدبا وكرما وعلو همة
زاد في البستان وكان مجلسه مجمع الفضلاء والأدباء والنبلاء يتشبه بأخلاق المولى
محمد العالم ابن المولى إسماعيل في كرمه وأدبه وكان له اعتناء كبير بنسخ كتب العلم
الغريبة وكتب الأدب وكان كثيرا ما يبعث بأشعاره
____________________
ومخاطباته لأهل عصره وأدباء وقته من الفاسيين والبكريين والقادريين كما كان المولى
محمد العالم مشغوفا بأشعار أولاد السلطان صلاح الدين بن أيوب الكردي رحم الله
الجميع
ولما بلغ أولاد السلطان إلى أطراف سجلماسة قدموا الأعلام إلى السلطان واستأذنوا في
التقدم فخرج رحمه الله لملاقاتهم وأمر الأشراف وسائر أهل البلد أن يخرجوا للسلام
عليهم ويشاهدوا آلة الحرب التي ليست ببلادهم فخرجوا وخرج السلطان في موكبه وركبت
العساكر خلفه في أحسن زي وأكمل ترتيب فكان ذلك اليوم من أيام الزينة ولما قضى غرضه
من سجلماسة وثقف أطرافها ورتب عربها وبربرها وحسم داء آيت عطة وآيت يفلمان ولى
عليهم القائد علي بن حميدة الزراري من كبار قواده وأعيان دولته ثم نهض السلطان إلى
مراكش بعد أن أقام بسجلماسة شهرا وكان سلوكه إلى مراكش على طريق الفائجة
قال صاحب البستان وكان قد ردني إلى الغرب لآتيه بجيش من أولاد عبيد الثغور ألقاه
بهم بمراكش ليزيدهم في جيشه ويقبضوا السلاح والكسوة بها ولما انتهى السلطان في
طريقه إلى ثنية الكلاوي نزل عليه الثلج الكبير فسد المسالك وتفرقت العساكر في كل
وجه وحال الثلج بينهم وبين أخبيتهم ورحالهم وبات السلطان منتبذا ناحية عن مضاربه
وقبابه معزولا عن طعامه وشرابه ولم تلتق طائفة من العسكر مع صاحبتها إلى أن طلعت
الشمس فرفع الله عنهم الثلج وأصبح ذلك اليوم عيد الأضحى فخطب السلطان الناس بنفسه
ودعا للسلطان عبد الحميد بن أحمد العثماني ودخل مراكش سالما معافى وسلم الله
العسكر من ذلك الثلج فلم يهلك منه أحد والحمد لله
____________________
خروج السلطان سيدي محمد بن عبد
الله إلى الصويرة بقصد النزهة واغتنام الراحة وما اتفق له في ذلك
لما قدم السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله من سجلماسة إلى مراكش أقام بها
إلى أن دخل فصل الربيع فاعتزم على الخروج إلى الصويرة والوقوف عليها ومعاينة
مبانيها ومعالمها إذ كان له ولوع بهذه المدينة التي أنشأها واغتبط بها وقصد أيضا
زيارة رجال رجراجة بالساحل والتبرك بآثارهم وكانت سفرته هذه سفرة فرجة وجمام نفس
واغتنام لذة فأشخص معه جماعة من علماء العصر وأئمته فكان يملي عليهم الحديث النبوي
ويؤلفونه على مقتضى إشارته منهم الفقيه العلامة المشارك أبو عبد الله محمد بن
الإمام سيدي عبد الله الغربي الرباطي والفقيه العلامة المحقق أبو عبد الله محمد
المير السلاوي والفقيه الدراكة أبو عبد الله محمد الكامل الرشيدي والفقيع العلامة
أبو زيد عبد الرحمن أبو خريص هؤلاء أهل مجلسه الذين كانوا يؤلفون له ويسردون
ويخوضون فيما يجمعه ويستخرجه من كتب الحديث التي جلبها من المشرق كمسند الإمام
أحمد ومسند أبي حنيفة وغيرهما وكان معه جماعة وافرة من الكتاب المعتبرين في
الإنشاء والترسيل كالسيد المهدي الحكاك المراكشي والسيد عبد الرحمن بن الكامل
المراكشي والسيد أحمد بن عثمان المكناسي والسيد أحمد الغزال الفاسي والسيد محمد
سكيرج الفاسي والسيد الطاهر بناني الرباطي والسيد الطاهر بن عبد السلام السلاوي
والسيد سعيد الشليح الجزولي والسيد إبراهيم إقبيل السوسي وصاحب البستان أبي القاسم
الصياني وغيرهم
وكان خروجه لهذه الفرجة سنة ثمان وتسعين ومائة وألف في فصل الربيع فضربت قبابة
بظاهر مراكش ثم ضرب عليها السياج المحيط بها
____________________
المسمى بأفراك وفي وسط تلك القباب القبة العظمى التي أهداها إليه طاغية الفرنج
وكانت مبطنة بالديباج ومحاريبها من الموبر الحر المختلف الألوان وسفائفها من
الكالون والإبريز وأطنابها من الحرير الصافي زعموا أن مبلغ ما صير عليها الطاغية
نحو خمسة وعشرين ألف دينار ومصداق ذلك أن تفاحتها التي تكون في أعلى العامود
وتسميها العامة بالجمور كانت من الذهب الخالص وزنها أربعة ألاف مثقال ذهبا وكان
السلطان رحمه الله قد أخرجها في هذه النوبة ابتهاجا بها وخرج معه الخاصة من القواد
والكتاب وغيرهم بفازاتهم الرفيعة ومضاربهم البديعة
ثم توجه في ذلك الموكب العجيب يرتاد البلاد النزهة والأماكن البهجة التي تروق
الطرف وتستغرق الوصف وتبسط النفس وتجلب الأنس فأقام شهرين كاملين يتقلب في تلك
البسائط ويستوفي اللذات ويتقرى المعاهد ويقتنص الطائر والشارد إلى أن وصل إلى ثغر
الصويرة فوقف عليه وقضى غرضه منه على الوجه الأكمل وانقلب راجعا إلى حضرته فاجتاز
في طريقه برباط شاكر وهو من مزارات المغرب المشهورة وكان مجمعا للصالحين من قديم
الزمان ووقع في التشوف أن شاكرا الذي ينسب إليه هذا الرباط من أصحاب عقبة بن نافع
الفهري فاتح المغرب وأنه هنالك فلما مر به السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه
الله في سفرته هذه أمر بتجديد مسجده وحفر أساسه وتشييده وفي قفوله طلع مع وادي نفيس
إلى أن بلغ مدينة أغمات فزار ضريخ الشيخ أبي عبد الله الهزميري وغيره من صلحائها
ونزل بمحلته تحت القرية ولما استقر به المنزل جاءه جماعة من أهلها مع قاضيهم بكبش
جيد وآنية فيها شيء من الشهد فدخل القاضي على السلطان ولما مثل أمامه أنسه السلطان
بالكلام وسأله عن أشياخه فأجاب بما لا طائل تحته فقال السلطان للحاجب ابعث بالقاضي
إلى خباء القاضي أبي زيد
____________________
عبد الرحمن بن الكامل وهو الذي يتوجه قاضيا مع المحلة إلى السوس إن شاء الله
فأنزله عليه وادفع له هذا الكبش وهذا العسل فسار الحاجب بالقاضي وبالكبش والعسل
إلى خباء قاضي العسكر أبي زيد بن الكامل وأمره أن يكرم القاضي ليلته ومن الغد
ارتحل السلطان قافلا إلى مراكش فلما تعالى النهار نزل على وادي نفيس وضرب له هنالك
صيوان الراضة على شاطىء النهر ثم استدعى القاضي أبا زيد وسائر الكتاب ولما جلسوا
بين يديه سأل القاضي على وجه المداعبة وقال له بم أجزت ضيفك على كبشه وعسله فتلعثم
في الجواب وعلم أن السلطان قصد اختباره بذلك وأنه لم يصنع شيئا حيث أهمل أمره ولما
رأى رحمه الله خجلته قال فلعلك لم تجزه فلو مدحته على كبشه وعسله لصادفت المقصود
وخرجت من العهدة وما بعثت إليكم إلا بسبب هذا الكبش والعسل فإني سهرت ليلتي ولم
أنم وذكرت ما اتفق للمنصور السعدي مع كتابه في مثل هذه القضية وعلمت أنه لم يبق في
وقتنا هذا كتاب ولا أدباء ولا أمراء وسأسمعكم ما اتفق للمنصور في زيارته هذه
القرية الأغماتية ثم أمر كاتبه ابن المبارك أن يقرأ عليهم ما حكاه الفشتالي في
مناهل الصفا عن خروج المنصور السعدي إلى أغمات بقصد الزيارة والنزهة وما اتفق
للقاضي أبي مالك عبد الواحد الحميدي مع من أهدى له الكبش والعسل من الشعر والذي
شايعه عليه جماعة من كتاب الدولة وقد ألممنا بخبر هذه الخرجة للمنصور عند ذكر
أخباره حسبما مر وقد ذكر صاحب النزهة أبيات الحميدي ومن قفا نهجه من الكتاب فلتنظر
هنالك فقرأ الكاتب المذكور الترجمة كلها على الكتاب حتى سمعوها وعاب السلطان عليهم
تقصيرهم في قضيتهم الموافقة لها وفي ظني أن السلطان رحمه الله أمرهم بنسخ ذلك
ومراجعته تحريكا لهمتهم والله أعلم
____________________
ذكر السبب الذي هاج غضب
السلطان سيدي محمد بن عبد الله على ابنه المولى يزيد رحمه الله
ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائة وألف فيها قدم ولد السلطان المولى عبد السلام من
الحجاز فولاه السلطان رحمه الله تارودانت والسوس وما إليها ثم لما حضر زمان خروج
الركب الحجازي أحضر السلطان صهره وابن عمه المولى عبد الملك بن إدريس وكاتبيه أبا
عبد الله محمد بن عثمان المكناسي وأبا حفص عمر الوزريق وشيخ الركب أبا محمد عبد
الكريم بن يحيى وحملهم على وجه الأمانة مالا لأشراف مكة والمدينة وسائر الحجاز
واليمن وقدره ثلاثمائة ألف ريال وخمسون ألف ريال وبعث معهم صلات أخر لأناس معينين
في حقاق مختوم عليها مكتوب على كل واحد منها اسم صاحبه وأمرهم أن يذهبوا أولا إلى
القسطنطينية حتى يكون مسيرهم إلى الحجاز مع أمين الصرة الذي يوجهه السلطان
العثماني إلى الحرمين كل عام وإنما ارتكب السلطان هذه المشقة حذرا من ابنه المولى
يزيد أن يعترضهم في الطريق وينتزع منهم المال فبعثهم السلطان في البحر في بعض
قراصين السلطان عبد الحميد وكتب إليه أن يبعثهم مع أمين صرته فلما وصلوا إلى
القسطنطينية وجدوا أمين الصرة قد سافر بالركب إلى الحجاز فأقاموا بها إلى العام
القابل وحينئذ سافروا صحبة الركب ولما وصلوا إلى المدينة المنورة فرقوا على أهلها
وعلى سائر شرفاء الحجاز حظهم من المال
ولما وصلوا إلى مكة وجدوا المولى يزيد بها يترصدهم ففرقوا على أهل مكة حظهم وبقي
عندهم حظ اليمن والحقاق التي فيها صلات الذهب فتغفلهم المولى يزيد وقت القيلولة
وهجم عليهم في جمع من أصحابه وهم بدار شيخ الركب عبد الكريم بن يحيى فانتزع منهم
ما قدر عليه وأخذ الحقاق وذهب فذهب شيخ الركب والمولى عبد الملك والكاتبان إلى
أمير
____________________
مكة الشريف سرور وأخبروه الخبر فبعث أعوانه إلى المولى يزيد فحضر عنده وألزمه رد
المال وتهدده فرد البعض وجحد البعض فبسبب هذا فيما قيل غضب السلطان عليه وتبرأ منه
وكتب بالبراءة منه مناشير بعث بها إلى الآفاق فعلق أحدها بالكعبة والآخر بالحجرة
النبوية والثالث ببيت المقدس والرابع بضريح الحسين بمصر والخامس بضريح المولى علي
الشريف بتافيلالت والسادس بضريح المولى إدريس بزرهون والسابع بضريح المولى إدريس
بفاس وكتب إلى السلطان عبد الحميد بأن لا يقبله إذا أوى إليه واستمر المولى يزيد
مقيما بالمشرق ولم يقدر أن يواجه أباه لسوء صنيعه إلى سنة ثلاث ومائتين وألف كما
سيأتي إن شاء الله
وفي هذه السنة أعني سنة تسع وتسعين ومائة وألف أسر أهل الجزائر نصرانية من قرابة
طاغية الإصبنيول كانت متوجهة في مركبها من أصبانيا إلى نابل لزيارة ابن عمها الذي
هو صاحب نابل فلما عرف أهل الجزائر محلها من قومها امتنعوا من فدائها بكل وجه فكتب
طاغية الإصبنيول إلى السلطان رحمه الله يسأله أن يشفع له في فدائها بكل ما يطلبون
فأسعفه وكتب لصاحب الجزائر في شأنها فاعتذر إليه بأن النصرانية في سهم العسكر ولا
يمكنه إكراههم على فدائها فلما رد صاحب الجزائر شفاعة السلطان كتب إلى السلطان عبد
الحميد بذلك فكتب عبد الحميد رحمه الله إلى أهل الجزائر يوبخهم على رد شفاعة
السلطان ويقول لهم إن الواجب أن تسرحوها له بدون مال وما عسى أن يبلغ ثمن هذه
النصرانية ولو طلب مني سلطان المغرب ألف نصرانية لبعثتها إليه وحتى الآن نأمركم أن
تبعثوا إليه بهذه النصرانية ولو كانت هي الملكة ولا تقبضوا فيها فداء أو ما رأيتم
ما افتكه ملك المغرب من أسرى الترك من كل جنس حتى لم يبق في أسر الكفار مسلم وأنتم
تردون شفاعته في نصرانية لا بال لها فلا تعودوا لمثل هذا فيكون سببا لتغير باطننا
عليكم والسلام
____________________
ولما ورد عليهم فرمان السلطان عبد الحميد لم يسعهم إلا إرسال النصرانية إلى حضرة
السلطان رحمه الله وكتبوا إليه بالاعتذار وقالوا إنما امتنعنا من فدائها خوف بلوغ
خبرها إلى ملكنا فلم نر أن نفتأت عليه وذلك هو الواجب علينا من طريق الخدمة
والطاعة فنحب من سيدنا أن يقبل عذرنا ولا يظن بنا خلاف هذا والسلام ذكر ما كان من
السلطان سيدي محمد بن عبد الله إلى أهل زاوية أبي الجعد حماها الله
هذه الزاوية من أشهر زوايا المغرب ولها الفضل الذي يفصح عنه لسان الكون ويعرب
تداولها منذ أزمان فحول أكابر ورثوا مقام الولاية والرياسة بها كابرا عن كابر قد
عرف لهم ذلك السوقة والملوك والغني والصعلوك ولم تزل الملوك من هذه الدولة وغيرها
تعاملهم بالإجلال والإعظام والتوقير والاحترام
ولما كانت دولة السلطان الجليل الماجد الأصيل نقم على كبيرها لوقته المرابط البركة
أبي عبد الله سيدي محمد العربي بن الشيخ الأكبر سيدي المعطي بن الصالح بعض ما
ينقمه الأمير على المأمور والإنسان غير معصوم والمخلوق ناقص إلا من أكمله الله
فاتفق أن كان السلطان رحمه الله قافلا في هذه السنة من رباط الفتح إلى مراكش فجعل
طريقه على تادلا ونزل على زاوية أبي الجعد فأمر على ما قيل بهدمها وطرد الغرباء
الملتفين على آل الشيخ بها ثم نقل سيدي العربي المذكور وعشيرته إلى مراكش فأسكنهم
بها واستمروا على ذلك إلى أن توفي السلطان سيدي محمد رحمه الله وبويع ابنه المولى
هشام بن محمد بمراكش فأذن لهم في الذهاب إلى بلادهم فعادوا إلى زاويتهم واطمأنوا
____________________
بها برهة من الدهر
ولما كانت دولة السلطان المولى سليمان بن محمد نقم أيضا على سيدي العربي المذكور
أمورا نقلها إليه الوشاة عنه فأمر بنقله إلى فاس بعد مكاتبات ومعاتبات يطول جلبها
فانتقل إليها وأقام بها مدة ثم سرحه إلى بلاده
ثم دخلت سنة مائتين وألف فيها بعث السلطان سيدي محمد رحمه الله كاتبه أبا القاسم
الصياني باشدورا إلى السلطان عبد الحميد العثماني بهدية عظيمة من جملتها أحمال من
سبائك الذهب الخالص مثل بارات الحديد وكان السلطان رحمه الله يقصد بمثل ذلك الفخر
على الملوك وإظهار الغنى وكمال الثروة وذلك من غريب السياسة لمن أقدره الله عليها فقدم
أبو القاسم القسطنطينية وألفى بها عبد الملك بن إدريس وشيخ الركب والكاتبين لا
زالوا مقيمين بها ينتظرون الموسم من العام القابل قال فأقمت بالقسطنطينية ثلاثة
أشهر وعشرة أيام وقضيت الغرض وانقلبت إلى السلطان وبعث معي السلطان عبد الحميد أحد
خدامه بهدية إلى السلطان رحمه الله قال ولما قدمنا على السلطان نوه بقدري وقال لا
أوجه الهدايا للعثماني إلا معك وكان الرئيس الطاهر بن عبد الحق فنيش السلاوي حاضرا
وقال لا أوجه القراصين الحربية إلا مع الطاهر يسليه بذلك قال وسألني عن مقدار راتب
عسكر الترك الذي يقبضونه في كل ثلاثة أشهر فقلت له ستون أوقية لكل واحد فاستقل ذلك
فقلت له إنه لا يكلفهم في أيام الغزو بمؤنة ولا علف خيل كل أمور السفر عليه
ثم ذكر الصياني هنا كلاما طويلا في وصف القسطنطينية العظمى وحال أهلها خارجا عن
موضوع كتابنا هذا والله الموفق
____________________
ذكر عدد عسكر الثغور في دولة
السلطان سيدي محمد بن عبد الله وما كان يقبضه من الراتب
كان بثغر الصويرة أيام السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله ما بين جيش وطبجية
وبحرية ألفان وخمسمائة وبآسفي مائتان من الطبجية ومائتان من البحرية وبتيط خمسمائة
من العبيد وبآزمور خمسمائة منهم كذلك وبآنفي ألفان من العبيد وبالعدوتين ألفان من
الطبجية والبحرية وبالمهدية ألفان وخمسمائة من العبيد وبالعرائش ألف وخمسمائة ما
بين جيش وطبجية وبحرية وبآصيلا والساحل مائتان ما بين طبجية وبحرية وبطنجة ثلاثة
آلاف وستمائة من أهل الريف وبتطاوين ثمانمائة ما بين جيش وطبجية وبحرية فكانت جملة
عساكر الثغور ستة عشر ألفا وخمسمائة وراتبهم ثلاثين أوقية لكل واحد في كل ثلاثة
أشهر من حساب مثقال للرأس في كل شهر وكانوا في ابتداء الأمر يقبضون راتب كل شهر
عند انتهائه
فلما كانت هذه السنة أعني سنة مائتين وألف أنعم السلطان رحمه الله على عساكر
الثغور بتعجيل راتب خمس عشرة سنة بحساب مثقال للرأس في كل شهر وهذا مال له بال
فإنه يقارب ثلاثة ملايين فعل ذلك رحمه الله إعانة لهم وتوسعة عليهم ثم أمر أن يجعل
في كل مرسى من مراسي المغرب بيت مال وعند تمام كل ثلاثة أشهر يفتح بيت المال ويعطي
لعسكر ذلك الثغر ثلاثون أوقية للرأس حضروا أم غابوا إعانة لهم على عيالهم وأما
عطاء الغزو وعطاء عاشوراء والصلات والصدقات فكان يبعث بذلك كله من عنده لا من بيوت
الأموال واستمر الحال على ذلك إلى أن توفي رحمه الله فوثب عبيد الثغور على بيوت
أموالها وفتحوها واكتسحوها ثم ساروا إلى مكناسة مسقط رأسهم وكان ذلك بإشارة المولى
يزيد رحمه الله
____________________
ثم دخلت سنة إحدى ومائتين وألف فيها غزا السلطان قبيلة شراقة بأحواز فاس فنهبهم
وشردهم فلجؤوا إلى ضريح الشيخ أبي الشتاء بفشتالة فعفا عنهم ثم سار إلى الحياينة
فأطلق الجيش في زروعهم فحصدوها ودرسوها واستصفوها عن آخرها ثم جرد الخيل في طلبهم
فاكتسحوا حللهم وأثاثهم
قال صاحب البستان وكنت يومئذ قد توجهت بجيش إلى عامل وجدة أبلغه إياه فلما رجعت
أدركت السلطان ببلاد الحياينة فقلدني ولاية تازا وأعمالها فسرت إليها وأقمت بها
سنة كاملة وفي هذه السنة قدم ولد السلطان المولى مسلمه بن محمد من المشرق مفارقا
لأخيه المولى يزيد
ثم دخلت سنة اثنتين ومائتين وألف فيها أرسل السلطان رحمه الله إلى آيت عطة يأمرهم
أن يبعثوا بستمائة رجل منهم وبأربعمائة من عبيد تافيلالت فالمجموع ألف ليكسوهم
ويسلحهم ويستعملهم في خدمة البحر وجنديته فبعثوا بهم إليه
قال صاحب البستان ولما قدموا عليه بمكناسة استدعاني من تازا فقدمت عليه فأمرني أن
أتوجه بهم إلى تطاوين كي يقبضوا السلاح والكسوة بها ثم أسير بهم إلى طنجة يكونون
بها وأمرني أن أكون أتعاهدهم بركوب الغلائظ العشرين التي بمرساها والخروج بها إلى
البوغاز وسواحل أسبانبا والتردد فيها بينهما ليتدربوا على البحر ويتمرنوا به قال
فذهبت بهم إلى تطاوين على ما رسم السلطان رحمه الله فأخذوا السلاح والكسوة ونفذنا
إلى طنجة فأقمنا بها شهرين وكل يوم يركبون السفن ويتطاردون بها فيما بينهم فتارة
يخرجون إلى البوغاز وتارة يطرقون سواحل أصبانيا وتارة يرجعون إلى أن زالت عنهم
دهشة البحر وفارقهم ميده وألفوه ولما أقبل فصل الشتاء كتب إلى السلطان بالقدوم بهم
فلما حللنا مكناسة أمر رحمه الله بعمارة
____________________
المشور لدخولنا عليه فلما مثلنا بين يديه دنا منا إلى أن كان في وسطنا وكلم البربر
بلسانهم وسألهم عن حالهم في سفرهم فذكروا خيرا فسره ذلك منهم ونشط ثم قال لهم هذا
كاتبي وصاحبي قد وليته عليكم وعلى أولادي وبني عمي وسائر أهل الصحراء فاسمعوا له
وأطيعوا قال ففزعت وخرس لساني وفهم السلطان عني الكراهية لذلك ثم دخل بستانه وبعث
إلى فدخلت عليه فقال لي طب نفسا ولولا أني أحبك ما وليتك على أولادي وأهل بيتي
وإني لا أستغني عنك وهذا ابن حميدة الذي وليناه بسجلماسة لم تظهر له ثمرة وكل يوم
يأتيني بشكوى بولدي الحسين وتطاوله على الناس ولا يمنعه من ذلك وما وليتك عليهم
إلا لهذا الغرض فإنهم يهابونك لمحلك مني ثم كتب إلى جميع أولاده وأعيان سجلماسة
وأمر لي بمال الصائر والبناء وعينه ثم ودعته وانفصلت فخرجت من مكناسة إلى فاس ثم
منها إلى سجلماسة فدخلتها واستوطنتها وجاء العامل الذي كان بها قبلي حتى قدم على
السلطان فقبض عليه ونكبه قدوم المولى يزيد من المشرق واحترامه بضريح الشيخ عبد
السلام ابن مشيش رضي الله عنه والسبب في ذلك
لما كانت سنة ثلاث ومائتين وألف قدم ولد السلطان المولى يزيد بن محمد من المشرق في
ركب الحاج الفيلالي وقصد سجلماسة فلما كان بقرية أبي صمغون لقيه رفقة من أهل سجلماسة
فسألهم عن البلاد وأهلها ومن المتولي عليها قالوا أبو القاسم الصياني فلما سمع
المولى يزيد ذلك سقط في يده ووجم ثم التفت إلى شيخ الركب الشريف المولى عبد الله
بن علي والي الأشراف الذين معه فقال لهم إني كنت عازما على الوصول معكم إلى بلدكم
والاستيجار بضريح جدي المولي علي الشريف وأبعث مع أعيان بني
____________________
عمي وذوي أسنانهم من يشفع لي عند أبي والآن حيث كان الوالي بهذه البلدة هو الصياني
فلا يستقيم لي معه أمر ولا يخيط بيني وبين والدي بخيط أبيض وهؤلاء عيالي فخذوهم
بارك الله فيكم واذهبوا بهم مع أصحابي ينزلون بدار أخي المولى سليمان ويكونون بها
وأما أنا فسأسير إلى ضريح الشيخ عبد السلام بن مشيش أكون به حتى يقضي الله أمرا
كان مفعولا ثم قدم عياله مع أصحابه في جملة الركب وكتب إلى أخيه المولى سليمان
يوصيه بعياله خيرا وكتب أيضا إلى شقيقته المولاة حبيبة بالرتب وإلى بني عمه الذين
هنالك وبعث بالمكاتيب مع أصحابه ولما وصل الركب إلى بلاد القنادسة تقدم أحد أصحابه
بالمكاتيب إلى المولى سليمان ولما قرأها توقف ولم يدر ما يصنع ثم جاء بها إلى أبي
القاسم الصياني وأخبره الخبر وقال إن والدي غاضب عليه وإن أنا قابلت عياله فربما ألحقني
به فما العمل فكتب أبو القاسم إلى شيخ الركب ينهاه عن استصحاب عيال المولى يزيد
معه وحذره غضب السلطان عليه وقال له إن أردت السلامة لنفسك فابعث بالعيال إلى
المولاة حبيبة بالرتب والسلام ولما وصل كتابه إلى شيخ الركب وكانت فيه غفلة نجع
فيه كلامه فحبس الركب إلى أن وصل أصحاب المولى يزيد بعياله فبعث معهم من يدلهم على
طريق الرتب فسلكوا على وادي كثير ونزلوا عند المولاة حبيبة وكتب أبو القاسم
الصياني بالخبر إلى السلطان فزعم أنه استحسن فعله ثم أمره أن يهيىء الظهر والزاد
ويبعث بهما إلى عيال المولى يزيد مع ثلاثين من العبيد ليأتوا بهم إلى دار الدبيبغ
يكونون بها مع أمه وكان السلطان قد أخرجها من الدار وأسكنها بدار الدبيبغ ففعل
الزياني ذلك كله وبهذه القضية كان المولى يزيد يعتد على الصياني حتى أنه لما أفضى
إليه الأمر قبض عليه وضربه وامتحنه
ولما وصل المولى يزيد إلى ضريح الشيخ عبد السلام رضي الله عنه بعث جماعة من أشراف
العلم للشفاعة فيه فأمرهم السلطان أن يأتوا به=
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق