دعائي

قلت المدون تم بحمد الله وفضله ثم قلت: اللهم فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين اللهم لنا جميعا يا رب العالمين .وسبحان الله وبحمده  عدد خلقه وزنة عرشه  ورضا نفسه ومداد كلماته  } أقولها ما حييت وبعد موتي  والي يوم الحساب وارحم  واغفر اللهم لوالديَّ ومن مات من اخوتي واهلي والمؤمنين منذ خَلَقْتَ الخلق الي يوم الحساب آمين وفرِّجِ كربي وردَّ اليَّ عافيتي وارضي عني في الدارين  واعِنِّي علي أن اُنْفِقها في سبيلك يا ربي اللهم فرِّج كربي واكفني همي واكشف البأساء والضراء عني وعنا.. وردَّ إليَّ عافيتي وثبتني علي دينك الحق ولا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وألِّفْ بين قلوبنا اجمعين.يا عزيز يا غفار ... اللهم واشفني شفاءاً لا يُغَادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني وفرج كربي واكفني همي واعتقني مما أصابني من مكروه أنت تعلمه واعتقني من النار وقني عذاب القبر وعذاب جهنم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال اللهم آمين /اللهم ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عُقَد لساني واغنني بك عمن سواك يارب . والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين آمين.

السبت، 20 أغسطس 2022

مجلد3.و4.الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى

 مجلد3.و4.الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى

 3. مجلد3.الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى أبو العباس أحمد بن خالد بن محمد الناصري
سنة الولادة 22/ذو الحجة/ 1250هـ /1835م/ سنة الوفاة

فضلا عن سلطان الأندلس أسعده الله تعالى وعلا بموالاتكم فهو فاضل وابن ملوك أفاضل وحوله أكياس ما فيهم من يجهل قدركم وقدر سلفكم لا سيما مولاي والدكم الذي أتوسل به إليكم وإليهم فقد كان يتبنى مولاي أبا الحجاج ويشمله بنظره وصارخه بنفسه وأمده بأمواله ثم صير الله تعالى ملكه إليكم وأنتم من أنتم ذاتا وقبيلا فقد قرت يا مولاي عين العبد بما رأت في هذا الوطن المراكشي من وفور حشودكم وكثرة جنودكم وترادف أموالكم وعددكم زادكم الله تعالى من فضله ولا شك عند عاقل أنكم إن انحلت عروة تأميلكم وأعرضت عن ذلك الوطن الأندلسي استوت عليه يد عدوه وقد علم تطارحي بين الملوك الكرام الذين خضعت لهم التيجان وتعلقي بثوب الملك الصالح والد الملوك الكرام مولاي والدكم وشهرة حرمة شالة معروفة حاش الله أن يضيعها أهل الأندلس وما توسل إليهم قط بها إلا الآن وما يجهلون اغتنام هذه الفضيلة الغريبة وأملي منكم أن يتعين من بين يديكم خديم بكتاب كريم يتضمن الشفاعة في رد ما أخذ لي ويخبر بمثواي متراميا على قبر والدكم ويقرر ما ألزمتكم بسبب هذا الترامي من الضرورة المهمة والوظيفة الكبيرة عليكم وعلى قبيلكم حيث كانوا وتطلبون منه عادة المكارمة بحل هذه العقدة ومن المعلوم أني لو طلبت بهذه الوسائل من صلب ما وسعهم بالنظر العقلي إلا حفظ الوجه مع هذا القبيل وهذا الوطن فالحياء والحشمة يأبيان العذر عن هذا في كل ملة ونحلة وإذا تم هذا الغرض ولا شك في إتمامه بالله تعالى تقع صدقتكم على القبر الكريم بي وتعينوني لخدمة هذا المولى وزيارته وتفقده ومدح النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المولد في جواره وبين يديه وهو غريب مناسب لبركم به إلى أن أحج بيت الله بعناية مقامكم وأعود داعيا مثنيا مستدعيا للشكر والثناء من أهل المشرق والمغرب وأتعوض من ذمتي بالأندلس ذمة بهذا الرباط المبارك يرثها ذريتي وقد ساومت في شيء من ذلك منتظرا ثمنه مما يباع بالأندلس بشفاعتكم ولو ظننت أنهم
____________________

يتوقفون لكم في مثل هذا أو يتوقع فيه وحشة أو جفاء والله ما طلبته لكنهم أسرى وأفضل وانقطاعي أيضا لوالدكم مما لا يسع مجدكم إلا عمل ما يليق بكم فيه وها أنا أترقب جوابكم بما لي عندكم من القبول ويسعني مجدكم في الطلب وخروج الرسول لاقتضاء هذا الغرض والله سبحانه يطلع من مولاي على ما يليق به والسلام وكتب في الحادي عشر من رجب سنة إحدى وستين وسبعمائة وفي مدرج الكتاب بعد نثر هذه القصيدة
( مولاي ها أنا في جوار أبيكا ** فابذل من البر المقدر فيكا )
( أسمعه ما يرضيه من تحت الثرى ** والله يسمعك الذي يرضيكا )
( واجعل رضاه إذا نهدت كتيبة ** تهدي إليك النصر أو تهديكا )
( واجبر بجبري قلبه تنل المنا ** وتطالع الفتح المبين وشيكا )
( فهو الذي سن البرور بأمه ** وأبيه فاشرع شرعه لبنيكا )
( وابعث رسولك منذرا ومحذرا ** وبما تؤمل نيله يأتيكا )
( قد هز عزمك كل قطر نازح ** وأخاف مملوكا به ومليكا )
( فإذا سموت إلى مرام شاسع ** فغصونه ثمر المنا تجنيكا )
( ضمنت رجال الله منك مطالبي ** لما جعلتك في الثواب شريكا )
( فلئن كفيت وجوهها في مقصدي ** ورعيتها بركاتها تكفيكا )
( وإذا قضيت حوائجي وأريتني ** أملا فربك ما أردت يريكا )
( واشدد على قولي يدا فهو الذي ** برهانه لا يقبل التشكيكا )
( مولاي ما استأثرت عنك بمهجتي ** إني ومهجتي التي تفديكا )
( لكن رأيت جناب شالة مغنما ** يضفي على العز في ناديكا )
( وفروض حقك لا تفوت فوقتها ** باق إذا استجزيته يجزيكا )
( ووعدتني وتكرر الوعد الذي ** أبت المكارم أن يكون أفيكا )
( أضفى عليك الله ستر عناية ** من كل محذور الطريق يقيكا )
( ببقائك الدنيا تحاط وأهلها ** فالله جل جلاله يبقيكا )
وقال أيضا في الغرض المذكور
____________________


( عن باب والدك الرضي لا أبرح ** يأسو الزمان لأجل ذا أو يجرح )
( ضربت خيامي في حماه فصبيتي ** تجني الحميم به وبهمي بشرح )
( حتى يراعي وجهه في وجهتي ** بعناية تشفي الصدور وتشرح )
( أيسوغ عن مثواه سيري خائبا ** ومنابر الدنيا بذكرك تصدح )
( أنا في حماه وأنت أبصر بالذي ** يرضيه منك فوزن عقلك أرجح )
( في مثلها سيف الحمية ينتضى ** في مثلها زند الحفيظة يقدح )
( وعسى الذي بدأ الجميل يعيده ** وعسى الذي سدا المذاهب يفتح )
فأجابه السلطان أبو سالم رحمه الله بما صورته من عبد الله المستعين بالله إبراهيم أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي الحسن ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي سعيد ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين يوسف بن يعقوب بن عبد الحق أيد الله أمره وأعز نصره إلى الشيخ الفقيه الأجل الأسنى الأعز الأحظى الأوجه الأنوه الصدر الأحفل المصنف البليغ الأعرف الأكمل أبي عبد الله ابن الشيخ الأجل الأعز الأسنى الوزير الأرفع الأنجد الأصيل الأكمل المرحوم المبرور أبي محمد بن الخطيب وصل الله عزته ووالى رفعته سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد حمد الله تعالى و صلى الله عليه وسلم والرضا على آله وصحبه أعلام الإسلام وأئمة الرشد والهدى وصلة الدعاء لهذا الأمر العلي العزيز المنصور المستعيني بالنصر الأعز والفتح الأسنى فإنا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لكم بلوغ الأمر ونجح القول والعمل من منزلنا الأسعد بضفة وادي ملوية يمنه الله وصنع الله جميل ومنه جزيل والحمد لله ولكم عندنا المكانة الواضحة الدلائل والعناية المتكفلة برعي الوسائل ذلك بما تميزتم به من التمسك بالجناب العلي المولوي العلوي جدد الله تعالى عليه ملابس غفرانه وسقاه غيوث رحمته وحنانه وبما أهديتم إلينا من التقرب لدينا بخدمة ثراه الطاهر والاشتمال بمطارف حرمته السامية المظاهر وإلى هذا وصل الله حظوتكم
____________________

ووالى رفعتكم فإنه ورد علينا خطابكم الحسن عندنا قصده المقابل بالإسعاف المستعذب ورده فوقفنا على ما نصه واستوفينا ما شرحه وقصه فآثرنا حسن تلطفكم في التوسل بأكبر الوسائل إلينا ورعينا أكمل الرعاية حق ذلكم الجناب العزيز علينا وفي الحين عينا لكمال مطلبكم وتمام مأربكم والتوجه بخطابنا في حقكم والاعتمال بوفقكم خديمينا أبا البقاء بن تاشكورت وأبا زكرياء بن فرقاجة أنجدهما الله وتولاهما وأمس تاريخه انفصلا مودعين إلى الغرض المعلوم بعد التأكيد عليهما فيه وشرح العمل الذي يوفيه فكونوا على علم من ذلكم وابسطوا له جملة آمالكم وإنا لنرجو ثواب الله في جبر أحوالكم وبرء اعتلالكم والله سبحانه يصل مبرتكم ويتولى تكرمتكم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته كتب في الرابع والعشرين من رجب سنة إحدى وستين فراجعه ابن الخطيب بما نصه مولاي خليفة الله بحق وكبير ملوك الأرض عن حجة ومعدن الشفقة والحكمة ببرهان وحكمة أبقاكم الله تعالى على الدرجة في المنعمين وافري الحظ عند جزاء المحسنين وأراكم ثمرة بر أبيكم في البنين وصنع لكم في عدوكم الصنع الذي لا يقف عند معتاد وأذاق العذاب الأليم من أراد في مثابتكم بإلحاد عبدكم الذي ملكتم رقه وآويتم غربته وسترتم أهله وولده وأسنيتم رزقه وجبرتم قلبه ويقبل موطئ الأخمص الكريم من رجلكم الطاهرة المستوجبة بفضل الله تعالى لموقف النصر الفارغة هضبة العز المعملة الخطوة في مجال السعد ومسير الحظ ابن الخطيب من شالة التي تأكد بملككم الرضى احترامها وتجدد برعيتكم عهدها واستبشر بملككم دفينها وأشرق بحسناتكم نورها وقد ورد على العبد الجواب المولوي البر الرحيم المنعم المحسن بما يليق بالملك الأصيل والقدر الرفيع والهمة السامية والعزة القعساء من رعي الدخيل والنصرة للذمام والاهتزاز لبر الأب الكريم فثاب الرجاء وانبعث الأمل وقوي العضد وزار اللطف فالحمد لله الذي أجرى الخير على يدكم الكريمة وأعانكم على رعي ذمام الصالحين المتوسل إليكم أولا بقبورهم ومتعبداتهم وتراب
____________________

أجداثهم ثم بقبر مولاي ومولاكم ومولى الخلق أجمعين الذي تسبب في وجودكم واختصكم بحبه وغمركم بلطفه وحنانه وعلمكم آداب الشريعة وأورثكم ملك الدنيا وهيأتكم دعواه بالاستقامة إلى ملك الآخرة بعد طول المدى وانفساخ البقاء وفي علومكم المقدسة ما تضمنت الحكايات عن العرب من النصرة عن طائر داست أفراخه ناقة في جوار رئيس منهم وما انتهى إليه الامتعاض لذلك مما أهينت فيه الأنفس وهلكت الأموال وقصارى من امتعض لذلك أن يكون كبعض خدامكم من عرب تامسنا فما الظن بكم وأنتم الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم فيمن لجأ أولا إلى حماكم بالأهل والولد عن حسنة تبرعتم بها وصدقة حملتكم الحرية على بذلها ثم فيمن حط رحل الاستجارة بضريح أكرم الخلق عليكم دامع العين خافق القلب واهي الفزعة يتغطى بردائه ويستجير بعليائه كأنني تراميت عليهم في الحياة أمام الذعر يذهل العقل ويحجب عن التميز بقصر داره ومضجع رقاده ما من يوم إلا وأجهر بعد التلاوة ياليعقوب يالمرين نسأل الله تعالى أن لا يقطع عني معروفكم ولا يسلبني عنايتكم ويستعملني ما بقيت في خدمتكم ويتقبل دعائي فيكم ولحين وصول الجواب الكريم نهضت إلى القبر المقدس ووضعته بإزائه وقلت يا مولاي يا كبير الملوك وخليفة الله وبركة بني مرين صاحب الشهرة والذكر في المشرق والمغرب عبدك المنقطع إليك المترامي بين يدي قبرك المتوسل إلى الله ثم ولدك بك ابن الخطيب وصله من مولاه ولدك ما يليق بمقامه من رعي وجهك والتقرب إلى الله برعيك والاشتهار في مشرق الدنيا ومغربها ببرك وأنتم من أنتم من إذا صنع صنيعه كملها وإذا من منة تممها وإذا أسدى يدا أبرزها طاهرة بيضاء غير معيبة ولا ممنونة ولا منتقصة وأنا بعد تحت ذيل حرمتك وظل دخيلك حتى يتم أملي ويخلص قصدي وتحف نعمتك بي ويطمئن إلى مأمنك قلبي ثم قلت للطلبة أيها السادة بيني وبينكم تلاوة كتاب الله تعالى منذ أيام ومناسبة النحلة وأخوة التأليف بهذا الرباط المقدس والسكنى بين أظهركم فأمنوا على دعائي بإخلاص من قلوبكم واندفعت في الدعاء
____________________

والتوسل الذي أرجو أن يتقبله الله تعالى ولا يضيعه وخاطب العبد مولاه شاكرا لنعمته مشيدا بصنيعته ومسرورا بقبوله وشأنه من التعلق والتطارح شأنه حتى يكمل القصد ويتم الغرض معمور الوقت بخدمة يرفعها ودعاء يردده والله المستعان أه
ولما وصل كتاب السلطان أبي سالم إلى أهل الأندلس أعظموا وسيلته وقبلوا شفاعته وردوا إلى ابن الخطيب ما تأتى رده مما كان ضاع له وأتلف عليه واستمر مقيما بسلا سنتين وزيادة ثم استدعاه سلطانه الغني بالله إلى الأندلس بعد رجوعه إليها واحتوائه على ملكها فأجاب حياء لا رغبة ومكرها لا بطلا إلى كان ما نذكره من شأنه بعد ذلك إن شاء الله ونوادره بسلا وما جرياته كثيرة وفيما ذكرناه كفاية انتقاض الحسن بن عمر الفودودي وخروجه بتادلا ثم مقتله عقب ذلك
قد قدمنا أن السلطان أبا سالم لما استولى على ملك فاس والمغرب عقد للحسن بن عمر على مراكش ووجهه إليها تخففا منه وريبة بمكانه من الدولة فاستقر بها وتأثلت له بها رياسة نفسها عليه أهل مجلس السلطان وسعوا فيه عنده حتى تنكر له وأظلم الجو بينهما وأحس الحسن بن عمر بذلك فخشي على نفسه وخرج من مراكش في صفر سنة إحدى وستين وسبعمائة فلحق بتادلا منحرفا عن السلطان ومرتكبا للخلاف فتلقاه بنو جابر من عرب جشم وأجاروه واعصوصبوا عليه فسرح إليه السلطان أبو سالم وزيره الحسن بن يوسف الورتاجني فاحتل بتادلا وانشمر الحسن بن عمر إلى الجبل بها فاعتصم به ومعه كبير بني جابر الحسن بن علي الورديغي فأحاطت بهم العساكر وأخذوا بمخنقهم وداخل الوزير بعض أهل الجبل من برابرة صناكة في الثورة بهم وسرب إليهم المال فثاروا بهم وانفض جمعهم وتقبضوا على الحسن بن عمر وقادوه برمته إلى الحسن بن يوسف فاعتقله وانكفأ راجعا به إلى الحضرة فدخلها في يوم مشهود استركب السلطان فيه الجند
____________________

وجلس ببرج الذهب مقعده من ساحة البلد وحمل الحسن بن عمر على جمل فطيف به بين تلك الجموع ولما قرب من مجلس السلطان أومأ إلى تقبيل الأرض من فوق جمله ثم ركب السلطان إلى قصره وانفض الجمع وقد شهر الحسن بن عمر وأصحابه فصاروا عبرة لمن اعتبر
ولما دخل السلطان قصره جلس على كرسيه واستدعى خاصته وجلساءه وأحضر ابن عمر فوبخه وقرر عليه ذنوبه فتلوى بالمعاذير وفزع إلى الإنكار قال ابن خلدون وحضرت هذا المجلس يومئذ فيمن حضره من الخاصة فكان مقاما تسيل فيه العيون رحمة وعبرة ثم أمر به السلطان فسحب على وجهه ونتفت لحيته وضرب بالعصى وثل إلى محبسه ثم قتل بعد ليال قعصا بالرماح خارج البلد ونصب شلوه بباب المحروق رحمه الله تعالى نهوض السلطان أبي سالم إلى تلمسان واستيلاؤه عليها
لما استوسق للسلطان أبي سالم ملك المغرب ومحا أثر الخوارج منه سمت همته إلى تملك تلمسان كما كان لأبيه وأخيه من قبل وأكد عزمه على ذلك ما كان من فرار عبد الله بن مسلم الزرد إلى عاملهم على درعة إليها فأجمع السلطان أبو سالم النهوض إليها وعسكر بظاهر فاس الجديد منتصف سنة إحدى وستين وسبعمائة ولما توافت لديه الحشود وتكاملت بسدته الجنود ارتحل إلى تلمسان
واتصل خبر نهوضه بسلطانها أبي حمو بن يوسف الزياني ووزيره عبد الله بن مسلم الزردالي فنادوا في العرب من بني عامر بن زغبة وبني معقل فأجابوهم كافة الأشرذمة قليلة من الأحلاف ثم خرج أبو حمو وشيعته عن تلمسان إلى الصحراء والتفت عليه العرب بحللها
ولما دخل السلطان أبو سالم تلمسان واستولى عليها خالفه أبو حمو في عربه إلى المغرب فنزلوا آكرسيف ووطاط وبلاد ملوية وحطموا زروعها وانتسفوا بركتها وخربوا عمرانها وبلغ السلطان أبا سالم ما كان من إفسادهم فأهمه أمر المغرب وكان في جملته من بني زيان محمد بن عثمان ابن
____________________

السلطان أبي تاشفين ويكنى أبا زيان فعقد له على تلمسان وأعطاه الآلة وجمع له جيشا من مغراوة وبني توجين ودفع لهم أعطياتهم وانكفأ راجعا إلى فاس فأجفل أبو حمو والعرب أمامه ثم خالفوه إلى تلمسان فطردوا عنها أبا زيان واستولوا عليها وثبت قدم أبي حمو بها وعاد أبو زيان إلى المغرب لاحقا بالسلطان أبي سالم قبله وعقد المهادنة مع أبي حمو واستقر الأمر على ذلك وقد كان ابن الخطيب عندما بلغه استيلاء السلطان أبي سالم على تلمسان هنأه بقصيدة طويلة يقول في مطلعها
( أطاع لساني في مديحك إحساني ** وقد لهجت نفسي بفتح تلمسان )
ويقول في أثنائها وقد ألم بشيء من علم الأحكام النجومية لميل السلطان إليه
( ولله من ملك سعيد ونصبة ** قضى المشتري فيها بعزلة كيوان )
( وسجل حكم العدل من بيوتها ** وقوفا مع المشهور من رأي يونان )
( فلم تخشى سهم القوس صفحة بدرها ** ولم تشك فيها الشمس من بخس ميزان )
( ولم يعترض مبتزها قطع قاطع ** ولا نازعت نوبهرها كف عدوان )
( تولى اختيار الله حسن اختيارها ** فلم يحتج الفرغان فيها لفرغان )
( ولا صرفت فيها دقائق نسبة ** ولا حققت فيها طوالع بلدان ) وفادة السودان من أهل مالي على السلطان أبي سالم وإغرابهم في هديتهم بالزرافة الحيوان المعروف
قد تقدم لنا ما جرى من المواصلة بين السلطان أبي الحسن والسلطان منسا موسى وأخيه أو ابنه من بعده منسا سليمان وتردد الوفود وإسناء الهدايا بينهم وقد كان السلطان منسا سليمان قد هيأ هدية نفيسة بقصد أن يبعثها إلى السلطان أبي الحسن مكافأة له على هديته فهلك السلطان أبو الحسن خلال ذلك ثم هلك السلطان منسا سليمان بعده واختلف أهل مالي وافترق أمرهم وتقاتلوا على الملك إلى أن جمع الله كلمتهم على السلطان منسا زاطة واستوسق له الأمر ثم نظر في أعطاف ملكه وأخبر بشأن الهدية التي كان منسا
____________________

سليمان قد هيأها لملك المغرب فأمر بإنفاذها إليه وضم إليها الزرافة الحيوان الغريب الشكل العظيم الهيكل المختلف الشبه بالحيوانات وفصلوا بها من بلادهم فوصلوا إلى حضرة فاس في صفر من سنة اثنتين وستين وسبعمائة
قال ابن خلدون وكان يوم وفادتهم يوما مشهودا جلس لهم السلطان ببرج الذهب بمجلسه المعد لعرض الجنود ونودي في الناس بالبروز إلى الصحراء فبرزوا ينسلون من كل حدب حتى غص بهم الفضاء وركب بعضهم بعضا في الازدحام على الزرافة إعجابا بخلقتها وحضر الوفد بين يدي السلطان وأدوا رسالتهم بتأكيد الود والمخالصة والعذر عن إبطاء الهدية بما كان من اختلاف أهل مالي وتواثبهم على الأمر وتعظيم سلطانهم وما صار إليه والترجمان يترجم عنهم وهم يصدقونه بالنزع في أوتار قسيهم عادة معروفة لهم وحيوا السلطان بأن جعلوا يحثون التراب على رؤوسهم على سنة ملوك العجم وأنشد الشعراء في معرض المدح والتهنئة ووصف الحال ثم ركب السلطان إلى قصره وانفض ذلك الجمع وقد طار به طائر الاشتهار واستقر الوفد تحت جراية السلطان أبي سالم إلى أن هلك قبل انصرافهم فوصلهم القائم بالأمر من بعده وانصرفوا إلى مراكش ثم منها إلى ذوي حسان عرب السوس الأقصى من بني معقل المتصلين ببلادهم ومن هناك لحقوا بسلطانهم والأمر كله لله
وكان مما قيل من الشعر في ذلك اليوم قول ابن خلدون من قصيدة يقول في مطلعها
( قدحت يد الأشواق من زند ** وهفت بقلبي زفرة الوجد )
إلى أن قال في وصف الزرافة
( ورقيمة الأعطاف حالية ** موشية بوشائع البرد )
( وحشية الأنساب ما أنست ** في موحش البيداء بالقرد )
( تسمو بجيد بالغ صعدا ** شرف الصروح بغير ما جهد )
( طالت رؤوس الشامخات به ** ولربما قصرت عن الوهد )
____________________


( قطعت إليك تنائفا وصل ** أسئادها بالنص والوخد )
( تحدى على استصعابها ذللا ** وتبيت طوع القن والقد )
( بسعودك اللائي ضمن لنا ** طول الحياة بعيشة رغد )
( جاءتك في وفد الأحابش لا ** يرجون غيرك مكرم الوفد )
( وافوك أنضاء تقليبهم ** أيدي السرى بالغور والنجد )
( كالطيف يستقري مضاجعه ** أو كالحسام يسل من غمد )
( يثنون بالحسنى التي سبقت ** من غير إنكار ولا جحد )
( ويرون لحظك من وفادتهم ** فخرا على الأتراك والهند )
( يا مستعينا جل في شرف ** عن رتبة المنصور والمهدي )
( جازاك ربك عن خليقته ** خير الجزاء فنعم ما تسدى )
( وبقيت للدنيا وساكنها ** في عزة أبدا وفي سعد )
وقول الكاتب البارع أبي عبد الله بن زمرك الأندلسي من قصيدة يقول في مطلعها
( لولا تألق بارق التذكار ** ما صاب واكف دمعي المدرار )
( لكنه مهما تعرض خافقا ** قدحت يد الأشواق زند أواري )
إلى أن قال في الغرض المذكور
( وغريبة قطعت إليك على الونى ** بيدا تبيد بها هموم الساري )
( تنسيه طيته التي قد أمها ** والركب فيها ميت الأخبار )
( يقتادها من كل مشتمل الدجى ** فكأنما عيناه جذوة نار )
( تشدو بحمد المستعين حداتها ** يتعللون به على الأكوار )
( إن مسهم لفح الهجير أبلهم ** منه نسيم ثنائك المعطار )
( خاضوا بها لجج الفلا فتخلصت ** منها خلوص البدر بعد سرار )
( سلمت بسعدك من غوائل مثلها ** وكفى بسعدك حاميا لذمار )
( وأتتك يا ملك الزمان غريبة ** قيد النواظر نزهة الأبصار )
( موشية الأعطاف رائقة الحلى ** رقمت بدائعها يد الأقدار )
( راق العيون أديمها فكأنه ** روض تفتح عن شقيق بهار )
____________________


( ما بين مبيض وأصفر فاقع ** سال اللجين به خلال نضار )
( يحكي حدائق نرجس في شاهق ** تنساب فيه أراقم الأنهار )
( تحدو قوائم كالجذوع وفوقها ** جبل أشم بنوره متواري )
( وسمت بجيد مثل جذع مائل ** سهل التعطف لين خوار )
( تستشرف الجدرات منه ترائبا ** فكأنما هو قائم بمنار )
( تاهت بكلكلها وأتلع جيدها ** ومشى بها الإعجاب مشي وقار )
( خرجوا لها الجم الغفير وكلهم ** متعجب من لطف صنع الباري )
( كل يقول لصحبه قوموا انظروا ** كيف الجبال تقاد بالأسيار )
( ألقت ببابك رحلها ولطالما ** ألقى الغريب به عصا التسيار )
( علمت ملوك الأرض أنك فخرها ** فتسابقت لرضاك في مضمار )
( يتبوؤون به وإن بعد المدى ** من جاهك الأعلى أعز جوار )
( فارفع لواء الفخر غير مدافع ** واسحب ذيول العسكر الجرار )
( واهنأ بأعياد الفتوح مخولا ** ما شئت من نصر ومن أنصار )
( وإليكها من روض فكري نفحة ** شف الثناء بها على الأزهار )
( في فصل منطقها ورائق رسمها ** مستمتع الأسماع والأبصار )
( وتميل من أصغى لها فكأنني ** عاطيته منها كؤوس عقار ) مقتل السلطان أبي سالم رحمه الله والسبب في ذلك
كان السلطان أبو سالم رحمه الله قد غلب على هواه الخطيب أبو عبد الله بن مرزوق وألقى زمام الدولة بيده فنقم خاصة السلطان وحاشيته ذلك عليه وسخطوا الدولة من أجله ومرضت قلوب أهل الحل والعقد من تقدمه فتربصوا بالدولة الدوائر إلى أن كانت أواخر سنة اثنتين وستين وسبعمائة فتحول السلطان أبو سالم عن دار الملك من فاس الجديد إلى القصبة من فاس القديم واختط بها إيوانا فخما لجلوسه فلما استولى عمر بن عبد الله ابن علي بن سعيد الفودودي أحد كبراء الدولة ووزرائها على دار الملك إذ كان السلطان أبو سالم قد خلفه أمينا عليها حدثته نفسه بالتوثب وسهل
____________________

ذلك عليه ما كان قد عرفه من مرض القلوب على السلطان لمكان ابن مرزوق فداخل قائد جند النصارى غرسية بن أنطول واتعدوا لذلك ليلة الثلاثاء السابع عشر من ذي القعدة من السنة المذكورة فعمدوا إلى تاشفين الموسوس ابن أبي الحسن فخلعوا عليه وألبسوه شارة الملك وقربوا له مركبا وأجلسوه مجلس السلطان وأكرهوا شيخ الحامية والناشبة محمد بن الزرقاء على البيعة وجاهروا بالخلعان وقرعوا الطبول ودخلوا إلى بيت المال ففرضوا العطاء من غير تقدير ولا حساب وماج الجند بفاس الجديد بعضهم في بعض واختطفوا ما وصلوا إليه من العطاء ثم انتهبوا ما كان بالمخازن الخارجية من السلاح والعدة وأضرموا النيران في بيوتها سترا على ما ضاع منها وأصبح السلطان أبو سالم بمكانه من قصبة فاس القديم وكان قد تحول إليها فرارا من قاطع فلكي خوفه إياه بعض منجميه فكان البلاء فيه موكلا بالمنطق فلما علم بالكائنة ركب واجتمع إليه من حضر من أوليائه وغدا على فاس الجديد وطاف بها يروم اقتحامها فامتنعت عليه ثم اضطرب معسكره بكدية العرائس لحصارها ونادى في الناس بالاجتماع إليه ولما كان وقت الهاجرة دخل فسطاطة للقيلولة فتسايل الناس عنه إلى فاس الجديد فوجا بعد فوج بمرأى منه إلى أن انفض عنه خاصته وأهله مجلسه فطلب النجاء بنفسه وركب في لمة من الفرسان وفيهم وزيراه سليمان بن داود ومسعود بن عبد الرحمن بن ماساي ومقدم الموالي والجند ببابه سليمان بن ونصار وأذن لابن مرزوق في الدخول إلى داره ومضى هو على وجهه فيمن معه ولما غشيهم الليل انفضوا عنه حتى بقي وحده ورجع الوزيران إلى دار الملك فتقبض عليهما رئيس الثورة عمر بن عبد الله الفودودي ومشاركه فيها غرسية بن أنطول النصراني واعتقلاهما متفرقين وبعث عمر بن عبد الله الطلب في أثر السلطان أبي سالم فعثروا عليه نائما من الغد في بعض المجاشر بوادي ورغة وقد غير لباسه اختفاء بشخصه وتواريا عن العيون بمكانه فتقبضوا عليه وحملوه على بغل وطيروا بالخبر إلى عمر بن عبد الله فأزعج لتلقيه شعيب بن ميمون بن داود وفتح الله بن عامر بن فتح الله
____________________

السدراتي وأمرهما بقتله وإنفاذ رأسه فلقياه بخندق القصب إزاء كدية العرائس فأمرا بعض جند النصارى أن يتولى ذبحه ففعل وحملوا رأسه في مخلاة ووضعوه بين يدي الوزير الثائر ومشيخته وكان ذلك يوم الخميس الحادي والعشرين من ذي القعدة سنة اثنتين وستين وسبعمائة ودفن بالقلة خارج باب الجيسة بأعلى جبل العرض المعروف بجبل الزعفران
قال ابن الخطيب في الإحاطة كان السلطان أبو سالم رحمه الله بقية البيت وآخر القوم دماثه وحياء وبعدا عن الشرور وركونا للعافية قال وأنشدت على قبره الذي ووريت به جثته قصيدة أديت فيها بعض حقه
( بنى الدنيا بني لمع السراب ** لدوا للموت وابنوا للخراب )
ومن أعيان وزرائه أبو عبد الله بن محمد بن أحمد بن مرزوق العجيسي الخطيب المشهور الذي مر ذكره آنفا
ومن قضاة عسكره أبو القاسم محمد بن يحيى الأندلسي البرجي
ومن أعيان كتابه الرئيس أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون صاحب التاريخ
وأبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان النجاري من أهل مالقة صاحب كتاب السياسة وغيره ومما نظمه هذا الفاضل عن إذن السلطان أبي سالم رحمه الله ليكتب في طرة قبة رياض الغزلان من حضرته قوله
____________________


( هذا محل المنى بالأمن مغمور ** من حله فهو بالأمان محبور )
( مأوى النعيم به ما شئت من ترف ** تهوى محاسنه الولدان والحور )
( ويطلع الروض منه مصنعا عجبا ** يضاحك النور من لألائه النور )
( ويسطع الزهر من أرجائه أرجا ** ينافح الندى نشر منه منشور )
( مغنى السرور سقاه الله ما حملت ** غر الغمام وحلته الأزاهير )
( انظر إلى الروض تنظر كل معجبة ** مما ارتضاه لرأي العين تحبير )
( مر النسيم به يبغي القرا فقرا ** دراهم النور تبديد وتنثير )
( وهامت الشمس في حسن الظلال به ** ففرقت فوقه منها دنانير )
( كأنما الطير في أفنائها صدحت ** بشكر مالكها والفضل مشكور )
( والدوح ناعمة تهتز من طرب ** همسا وصوت غناء الطير مجهور )
( والنهر شق بساط الأرض تحسبه ** سيفا ولكنه في السلم مشهور )
( ينساب للجنة الخضراء أزرقه ** كالأيم جد انسياب وهو مذعور )
( هذي مصانع مولانا التي جمعت ** شمل السرور وأمر السعد مأمور )
( وهذه القبة الغراء ما نظرت ** لشكلها العين إلا عز تنظير )
( ولا يصورها في الفهم ذو فكر ** إلا ومنه لكل الحسن تصوير )
( ولا يرام بحصر وصف ما جمعت ** من المحاسن إلا صد تقصير )
( فيها المقاصير تحميها مهابته ** لله ما جمعت تلك المقاصير )
( كأنها الأفق تبدو النيرات به ** ويستقيم بها في السعد تسيير )
( وينشأ المزن في أرجائه وله ** من عنبر الشحر إنشاء وتسخير )
( وينهمي القطر منه وهو منسكب ** ماء من الورد يذكو منه تعطير )
( وتخفق الريح منه وهي ناسمة ** مما أهب به مسك وكافور )
( ويشرق الصبح منه وهو من غرر ** غر تلألأ منهن الأسارير )
( وتطلع الشمس فيه من سنا ملك ** تبسم الدهر منه وهو مسرور )
ومضى في مدح السلطان والله تعالى يتغمد الجميع برحمته بمنه وكرمه
____________________

الخبر عن دولة السلطان أبي عمر تاشفين الموسوس ابن أبي الحسن المريني
هذا السلطان كان محجوبا لوزيره عمر بن عبد الله الفودودي لا يملك معه ضرا ولا نفعا أمه أم ولد اسمها ميمونة صفته طويل القامة عظيم الهيكل بعيد ما بين المنكبين أعين أدعج وكان فارسا بطلا قوي الساعد إلا أنه كان ناقص العقل
ولما ثار عمر بن عبد الله بالسلطان أبي سالم وسعى في هلاكه إلى أن قتل كما مر استبد بأمر الدولة ونصب هذا الموسوس يموه به على الناس فبويع ليلة الثلاثاء التاسع عشر من ذي القعدة سنة اثنتين وستين وسبعمائة حسبما سبق وكان نقصان عقل تاشفين من أجل الأسر الذي أصابه بوقعة طريف أيام والده السلطان أبي الحسن إلى أن افتدي وبقي ناقص العقل مختل المزاج إلى أن كان من أمره ما كان الفتك بغرسية بن أنطول قائد النصارى ومقتل جنده معه والسبب في ذلك
لما قبض عمر بن عبد الله على الوزيرين مسعود بن عبد الرحمن بن ماساي وسليمان بن داود سجنهما متفرقين فأخذ إليه ابن ماساي لمكان صهره منه ودفع لغرسية سليمان بن داود وكان سليمان بن ونصار قد فر مع السلطان أبي سالم كما مر ولما رجع عنه فيمن رجع نزل على غرسية فقبله وأكرمه وكان يعاقره الخمر ففاوضه ذات ليلة في الثورة بعمر بن عبد الله واعتقاله وإقامة سليمان بن داود المسجون بداره مقامه لما هو عليه من السن ورسوخ القدم في الأمر ونما الخبر بذلك إلى عمر بن عبد الله فارتاب
____________________

وكان خلوا من العصبية ففزع إلى قائد المركب السلطاني من ناشبة الأندلس ورماتها وهو يومئذ إبراهيم البطروجي فعاقده على أمره وبايعه على الاستماتة دونه ثم رأى أن ذلك لا يكفيه ففزع ثانيا إلى يحيى بن عبد الرحمن شيخ بني مرين وصاحب شوارهم فشكا إليه فأشكاه ووعده الفتك بابن أنطول وأصحابه وانبرم عقد ابن أنطول وسليمان بن ونصار أيضا على عمر بن عبد الله وغدوا إلى القصر وداخل ابن أنطول طائفة من النصارى استظهارا بهم وتوافت بنو مرين بمجلس السلطان على عادتهم وحضر ابن أنطول والبطروجي ويحيى بن عبد الرحمن وغير هؤلاء من الوجوه فسأل عمر بن عبد الله من ابن أنطول تحويل سليمان بن داود من داره إلى السجن فأبى وضن به عن الإهانة حتى سأل مثلها من ابن ماساي صاحبه فأمر عمر بالتقبض عليه فكشر في وجوه الرجال واخترط سكينه للمدافعة فتواثبت بنو مرين عليه وقتلوه لحينه واستلحموا من وجدوا بالدار من جنده النصارى عند دخولهم مع قائدهم وفر بعضهم إلى معسكرهم ويعرف بالملاح جوار فاس الجديد وأرجف الغوغاء بالمدينة أن ابن أنطول قد غدر بالوزير فقتلوا جند النصارى حيث وجدوهم من سكك المدينة وتزاحفوا إلى الملاح لاستلحام من بقي به منهم وركبت بنو مرين لحماية جندهم من معرة الغوغاء وانتهب يومئذ الكثير من أموالهم وآنيتهم وأمتعتهم وقتل النصارى أيضا كثيرا من مجان المسلمين كانوا يعاقرون الخمر بالملاح ثم سكنت الهيعة وما كادت
واستبد عمر بن عبد الله بدار الملك واعتقل سليمان بن ونصار إلى الليل ثم بعث من قتله بمحبسه وحول سليمان بن داود إلى بعض الدور من دار الملك فاعتقله بها واستولى على أمره ثم خاطب عامر بن محمد الهنتاتي في اتصال اليد به واقتسام ملك المغرب بينه وبينه وبعث إليه بأبي الفضل ابن السلطان أبي سالم اعتده عنده ليوم ما ثم فسد ما بينه وبين مشيخة بني مرين فاجتمعوا على كبيرهم يحيى بن عبد الرحمن وعسكروا بباب الفتوح واستدعوا عبد الحليم بن أبي علي ابن السلطان أبي سعيد من تلمسان على ما نذكره
____________________

ظهور عبد الحليم بن أبي علي بن أبي سعيد ومحاصرته لفاس الجديد ثم فراره عنها
قد قدمنا في أخبار السلطان أبي الحسن أن أخاه أبا علي صاحب سجلماسة كان قد انتقض عليه فأمكنه الله منه فقتله وكفل أولاده فلم يميز بينهم وبين أولاده في شيء من الأشياء ولما أفضى الأمر إلى أبي عنان بعث جماعة من إخوته وقرابته إلى الأندلس تحت حياطة ابن الأحمر وكان فيهم أولاد أبي علي هؤلاء ثم بعد حين سرحوا وقدموا تلمسان على سلطانها أبي حمو بن يوسف فكانوا عنده إلى هذا التاريخ فلما فسد ما بين عمر بن عبد الله وشيوخ بني مرين بعثوا إلى تلمسان جملة منهم لاستقدام عبد الحليم المذكور فسرحه أبو حمود وأعانه بشيء من الآلة وجمع عليه من رغب في طاعته وزحف إلى فاس فتلقته جماعة بني مرين بسبو ونزلوا على فاس الجديد يوم السبت سابع محرم سنة ثلاث وستين وسبعمائة واضطربوا معسكرهم بكدية العرائس وحاصروا دار الملك سبعة أيام وتتابعت وفودهم وحشودهم ثم إن عمر بن عبد الله برز يوم السبت القابل في مقدمة السلطان تاشفين بمن معه من جند المسلمين والنصارى رامحة وناشبة ووكل بالسلطان من جاء به في الساقة على التعبية المحكمة وناوشهم الحرب فزحفوا إليه فاستطرد لهم ليتمكن الناشبة من عقرهم من الأسوار حتى فشت فيهم الجراحات ثم صمم نحوهم فانفرج القلب وانفضت الجموع ثم زحف السلطان تاشفين في الساقة فابذعروا في الجهات وافترق بنو مرين إلى مواطنهم ولحق يحيى بن عبد الرحمن بمراكش مع مبارك بن إبراهيم شيخ الخلط ولحق عبد الحليم وإخوته بتازا بعد أن شهد لهم رجال الدولة بصدق الجلاد وحسن البلاء في ذلك المقام
____________________


ثم إن الوزير عمر بن عبد الله راجع بصيرته في تقديم المعتوه للأمر وعلم أن الأمر لا يستقيم له بذلك فبادر باستقدام أبي زيان محمد بن أبي عبد الرحمن يعقوب ابن السلطان أبي الحسن وكان عند الطاغية بدار الحرب فقدم وخلع الوزير المذكور سلطانه الموسوس يوم الاثنين الحادي والعشرين من صفر سنة ثلاث وستين وسبعمائة فكانت دولته ثلاثة أشهر ويومين ومات وسنه ستون سنة والله تعالى أعلم الخبر عن دولة السلطان المتوكل على الله أبي زيان محمد بن أبي عبد الرحمن يعقوب بن أبي الحسن المريني
هذا السلطان كان محجوبا للوزير عمر بن عبد الله أيضا كنيته أبو زيان لقبه المتوكل على الله أمه أم ولد اسمها فضة صفته آدم اللون شديد الأدمة معتدل القامة منفرج الأنف دقيق العينين
وقال ابن الخطيب في الإحاطة حاله فاضل سكون منقاد مشتغل بخاصة نفسه قليل الكلام حسن الشكل درب بركض الخيل مفوض للوزراء عظيم التأني لأغراضهم وكان قبل ولايته عند الطاغية بالأندلس فر إليه خوفا على نفسه ولما التبست الأمور على عمر بن عبد الله طلبه إلى الطاغية فسمح به بعد اشتراط واشتطاط وفصل من إشبيلية في المحرم فاتح سنة ثلاث وستين وسبعمائة ونزل بسبته وبها سعيد بن عثمان من قرابة الوزير عمر بن عبد الله أرصده لقومه فطير إليه بالخبر فحينئذ خلع عمر تاشفين الموسوس وبعث إلى السلطان أبي زيان بالبيعة والآلة والفساطيط ثم جهز عسكرا للقائه فتلقوه بطنجة وأغذ السير إلى الحضرة فنزل منتصف
____________________

صفر بكدية العرائس واضطرب معسكره بها وتلقاه يومئذ الوزير عمر بن عبد الله الياباني وبايعه وأخرج فسطاطه فاضطرب بمعسكره وتلوم السلطان أبو زيان هنالك ثلاثا ثم دخل في اليوم الرابع إلى قصره واقتعد أريكته وتودع ملكه
وقال ابن الخطيب في الإحاطة كان دخوله داره مغرب ليلة الجمعة بطالع الثامن من السرطان وبه السعد الأعظم كوكب المشتري من السيارة السبعة أه ولما تم له الأمر خاطبه ابن الخطيب من سلا مهنئا له بقوله
( يا ابن الخلائف يا سمي محمد ** يا من علاه ليس يحصر حاصر )
( أبشر فأنت مجدد الملك الذي ** لولاك أصبح وهو رسم داثر )
( من ذا يعاند منك وارثه الذي ** بسعوده فلك المشيئة دائر )
( ألقت إليك يد الخلافة أمرها ** إذ كنت أنت لها الولي الناصر )
( هذا وبينك للصريخ وبينها ** حرب مضرسة وبحر زاخر )
( من كان هذا الصنع أول أمره ** حسنت له العقبى وعز الآخر )
( مولاي عندي في علاك محبة ** والله يعلم ما تكن ضمائر )
( قلبي يحدثني بأنك جابر ** كسرى وحظي منك حظ وافر )
( بثرى جدودك قد حططت حقيبتي ** فوسيلتي لعلاك نور باهر )
( وبذلت وسعي واجتهادي مثل ما ** يلقى لملكك سيف أمرك عامر )
( فهو الولي لك الذي اقتحم الردى ** وقضى العزيمة وهو سيف باتر )
( وولي جدك في الشدائد عندما ** خذلت علاه قبائل وعشائر )
( فاستهد منه النصح واعلم أنه ** في كل معضلة طبيب ماهر )
( إن كنت قد عجلت بعض مدائحي ** فهي الرياض وللرياض بواكر )
ثم أتبعها بنثر أضربنا عنه اختصارا والله تعالى الموفق
____________________

وفادة ابن الخطيب من سلا على السلطان أبي زيان بن أبي عبد الرحمن رحمهما الله
قال في الإحاطة وفدت على السلطان أبي زيان بن أبي عبد الرحمن ابن أبي الحسن من محل الانقطاع بسلا وأنشدته قولي
( لمن علم في هضبة الملك خفاق ** أفاقت به من غشية الهرج آفاق )
( تقل رياح النصر عنه غمامة ** تمد لها أيد وتخضع أعناق )
( وبيعة شورى أحكم السعد عقدها ** وأعمل إجماع عليها وإصفاق )
( قضى عمر فيها بحق محمد ** فسجل عهد للوفاء وميثاق )
( أحلما ترى عيناي أم هي فترة ** أعندكما في مشكل الأمر مصداق )
( وفاض لفضل الله في الأرض تبتغي ** ومجتمعات لا تريب وأسواق )
( وسرح تهنيه الكلاءة بالكلا ** وفلح لسقي الغيث قام له ساق )
( وقد كان طيف الحلم لا يعمل الخطا ** وللفتنة العمياء في الأرض إطباق )
( وللغيث إمساك وفي الأرض رجة ** وللدين والدنيا وجوم وإطراق )
( فكل فريق فيه للبغي راية ** وكل طريق فيه للعيث طراق )
( أجل إنه من آل يعقوب وارث ** يحن له البيت العتيق ويشتاق )
( له من جناح الروح ظل مسجف ** ومن رفرف العز الإلهي رستاق )
( أطل على الدنيا وقد عاد ضوءها ** ودجى وعلى الأحداق للذعر إحداق )
( فأشرقت الأرجاء من نور ربها ** وساح بها لله لطف وإشفاق )
( فمن ألسن بالشكر لله أعلنت ** وكان لها من قبل همس وإطباق )
( وليس لأمر أبرم الله ناقض ** وليس لمسعى النجح في الله إخفاق )
( محمد قد أحييت دين محمد ** وللخلق أدماء تفيض وأرماق )
( ولو لم تثبت غطى على شفق الضحا ** دم لسيوف البغي في الأرض مهراق )
( فأيمن بمشحون من الفلك سابح ** له باختيار الله حط وإيساق )
( أقلك والدأماء تظهر طاعة ** إليك صفح الماء أزرق رقراق )
( إلى هدف السعد انبرى منه والدجا ** تضل الحجى سهم من السعد رشاق )
____________________


( فخطت لتقويم القوام جداول ** وصحت من التوفيق واليمن أوفاق )
( تبارك من أهداك للخلق رحمة ** ومستبعد أن يهمل الخلق خلاق )
( هو الله يبلو الناس بالخير فتنة ** وبالشر والأيام سم وترياق )
( سمت منك أعناق الورى لخليفة ** له في مجال السعد عدو وأعناق )
( وقالوا بنان ما استقل بكفه ** تفيض على العافين أم هي أرزاق )
( وأطنب فيك المادحون وأغرقوا ** فلم يجد إطناب ولم يغن إغراق )
( ألست من القوم الذين أكفهم ** غمام ندى إن أخلف الغيث غيداق )
( ألست من القوم الذين وجوههم ** بدور لها في ظلمة الروع إشراق )
( رياض إذا العافي استظل ظلالها ** ففيها جنى ملء الأكف وإيراق )
( أبوك ولي العهد لو سالم الردى ** وجدك قد فاق الملوك وإن فاقوا )
( فمن ذا له جد كجدك أو أب ** لآلئ والمجد المؤثل نساق )
( وحسب العلا في آل يعقوب أنهم ** هم الأصل في العلياء والناس إلحاق )
( أسود سروج أو بدور أسرة ** فإن حاربوا راعوا وإن سالموا راقوا )
( يطول لتحصيل الكمال سهادهم ** فهم للمعالي والمكارم عشاق )
ومنها
( لقد نسيت إحسان جدك فرقة ** تزر على أعناقهم منه أطواق )
( أجازت خروج ابن ابنه عن تراثه ** ولم تدر ما ضمت من الذكر أوراق )
( ومن دون ما راموه لله قدرة ** ومن دون ما أموه للفتح إغلاق )
( خذ العفو وابذل فيهم العرف ولتسع ** جريرة من أبدى لك العذر أخلاق )
( فربما تنبو مهندة الظبي ** وتهفو حلوم القوم والقوم حذاق )
( وما الناس إلا مذنب وابن مذنب ** ولله إرفاد عليهم وإرفاق )
( ولا ترج في كل الأمور سوى الذي ** خزائنه ما ضرها قط إنفاق )
( إذا هو أعطى لم يضر منع مانع ** وإن حشدت طسم وعاد وعملاق )
( عرفت الردى واستأثرت بك للعدا ** تخوم لمختط الصليب وأعماق )
( فيسر لليسرى وأحيى بك الورى ** وللروع إرعاد عليك وإبراق )
____________________


( فجاز صنيع الله وازدد بشكره ** مواهب جود غيثها الدهر دفاق )
( وأوف لمن أوفى وكاف الذي كفى ** فأنت كريم طهرت منك أعراق )
( وتهنيك يا مولى الملوك خلافة ** شجتها تباريح إليك وأشواق )
( فقد بلغت أقصى المنى بك نفسها ** وكم فاز بالوصل المهنا مشتاق )
( فلا راع منها السرب للدهر رائع ** ولا نال منها جدة السعد أخلاق )
( أمولاي راع الدهر سربي وغالني ** فطرفي مذعور وقلبي خفاق )
( وليس لكسرى غيرك اليوم جابر ** ولا ليدي إلا بمجدك أعلاق )
( ولي فيك ود واعتداد غرسته ** فراقت به من يانع الحمد أوراق )
( وقد عيل صبري في ارتقابي خليفة ** تحل به للضر عني أوهاق )
( وأنت حسام الله والله ناصر ** وأنت أمين الله والله رزاق )
( وأنت الأمان المستجار من الردى ** إذا راع خطب أو توقع إملاق )
( وأهون ما يرجى لديك شفاعة ** إذا لم يكن عزم حثيث وإرهاق )
( ودونكها من ذائع الحمد مخلص ** له فيك تقييد يروق وإطلاق )
( إذا قال أما كل سمع لقوله ** فمصغ وأما كل أنف فنشاق )
( ودم خافق الأعلام بالنصر كلما ** ذهبت لمسعى لم يكن فيه إخفاق )
قال وعدت منه ببر كبير واحترام شهير يشير بذلك إلى ما أكرمه به وكتب له من الظهير الذي يتضمن كمال الاحترام والتوقير ونصه هذا ظهير كريم من أمير المسلمين فلان أيده الله ونصره وسنى له الفتح المبين ويسره للشيخ الفقيه الأجل الأسنى الأعز الأحظى الأرفع الأمجد الأسمى الأوحد الأنور الأرقى العالم العلم الرئيس الأعرف المتفنن الأبرع المصنف المفيد الصدر الأحفل الأفضل الأكمل أبي عبد الله ابن الشيخ الفقيه الوزير الأجل الأسنى الأعز الأرفع الأمجد الوجيه الأنوه الأحفل الأفضل الحسيب الأصل الأكمل المبرور المرحوم أبي محمد ابن الخطيب قابله أيده الله بوجه القبول والإقبال وأضفى عليه ملابس الإنعام والإفضال ورعى له خدمة السلف الرفيع الجلال وما تقرر من
____________________

مقاصده الحسنة في خدمة أمرنا العال وأمر في جملة ما سوغه من الآلاء الوارفة الظلال الفسيحة المجال بأن يجدد له حكم ما بيده من الأوامر المتقدم تاريخها المتضمنة تمشية خمسمائة دينار من الفضة العشرية في كل شهر عن مرتب له ولولده الذي لنظره من مجبي مدينة سلا حرسها الله ومن حيث جرت العادة أن تمشي له ورفع الاعتراض ببابها فيما يجلب من الأدم والأقوات على اختلافها من حيوان وسواه وفيما يستفيده خدامه بخارجها وأحوازها من عنب وقطن وكتان وفاكهة وخضر وغير ذلك فلا يطلب في شيء من ذلك بمغرم ولا وظيف ولا يتوجه فيه إليه بتكليف يتصل له حكم جميع ما ذكر في كل عام تجديدا تاما واحتراما عاما أعلن بتجديد الحظوة واتصالها وإتمام النعمة وإكمالها من تواريخ الأوامر المذكورة إلى الآن ومن الآن إلى ما يأتي على الدوام واتصال الأيام وأن يحمل جانبه فيمن يشركه أو يخدمه محمل الرعي والمحاشاة في السخر مهما عرضت والوظائف إذا افترضت حتى يتصل له تالد العناية بالطارف وتتضاعف أسباب المنن والعوارف بفضل الله وتحرر له الأزواج التي يحرثها بتالماغت من كل وجيبة وتحاشى من كل مغرم أو ضريبة بالتحرير التام بحول الله وعونه ومن وقف على هذا الظهير الكريم فليعمل بمقتضاه وليمض ما أمضاه إن شاء الله وكتب في العاشر من شهر ربيع الآخرة من سنة ثلاث وستين وسبعمائة وكتب في التاريخ أ هـ وقوله وكتب في التاريخ هو العلامة السلطانية في ذلك الزمان يكتب بقلم غليظ وبعض ملوك المغرب يكتب عند العلامة صح في التاريخ
____________________

وفادة ابن محمد الهنتاتي على السلطان أبي زيان بن أبي عبد الرحمن رحمهما الله
كان الوزير عمر بن عبد الله الياباني مودة ومصافاة مع الرئيس الشهير أبي ثابت عامر بن محمد الهنتاتي كبير جبل درن والبلاد المراكشية وكان الوزير عمر المذكور قد بعث إليه بصهره وظهيره على الملك مسعود بن عبد الرحمن ابن ماساي يكون عنده عدة وعتادا ليوم ما فلما بويع السلطان أبو زيان استقدم عمر بن عبد الله صهره المذكور لوزارته وكان عامر بن محمد مجمعا القدوم على السلطان المذكور فقدم في صحبته مسعود ونزلا من الدولة بخير منزل
وعقد السلطان أبو زيان لمسعود المذكور على وزارته بإشارة الوزير عمر بن عبد الله فاضطلع بها ودفعه عمر إليها استمالة اليد وثقة بمكانه واستظهارا بعصبيته وعقد مع عامر بن محمد الحلف على مقاسمة المغرب شق الأبلمة وجعل إمارة مراكش لأبي الفضل ابن السلطان أبي سالم إسعافا لغرض عامر بن محمد في ذلك
وخطب إليهم عامر بنت السلطان أبي بكر الحفصي التي توفى عنها السلطان أبو عنان فأجابوه وحملوا أولياءها على العقد عليها وانكفأ راجعا إلى مكان عمله بمراكش يجر الدنيا وراءه عزا وثروة وتابعا وذلك في جمادى الأولى من سنة ثلاث وستين وسبعمائة فاستقل بأمر الناحية الغربية من مراكش وجبال المصامدة وما إليها من الأعمال واستبد بها ونصب أبا الفضل ابن السلطان أبي سالم صورة واستوزر له وتمكن سلطانه وعلا ذكره وصارت كأنها دولة مستقلة فصرف إليه النازعون من بني مرين عن
____________________

الدولة وجوه مفرهم ولجؤوا إليه فأجارهم على السلطان واجتمع إليه منهم ملأ واتسع الخرق على الرافع واضطربت الأحوال بالمغرب وخرج على السلطان أبي زيان الأمير عبد الحليم بن أبي علي بن أبي سعيد وتغلب على سجلماسة وأعمالها ثم غلب عليه أخوه عبد المؤمن بن أبي علي فخرج عبد الحليم إلى المشرق لقضاء فريضة الحج واستمر عبد المؤمن بسجلماسة وأقام بها دولة كما كان لوالده من قبل إلى أن فتحها الوزير مسعود بن عبد الرحمن بن ماساي وأضافها إلى مملكة فاس ثم انتقض الوزير مسعود أيضا وبايع الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن بن أبي علي ونصبه للأمر وصار يشوش به على الدولة وشرق عمر بن عبد الله بدائه في أخبار طويلة ولما لم يتم له أمر عبر هو وسلطانه البحر من مرسى غساسة إلى الأندلس فاتح سنة سبع وستين وسبعمائة وأقبلا على الجهاد واستراح الوزير عمر وسلطانه أبو زيان من شغبهما والله غالب على أمره مقتل السلطان أبي زيان بن أبي عبد الرحمن رحمه الله
لما طال استبداد الوزير عمر بن عبد الله على السلطان أبي زيان وحجره أباه إذ كان وضع عليه الرقباء والعيون حتى من حرمه وأهل قصره عزم على الفتك بالوزير المذكور وتناجى بذلك مع بعض ندمائه وأعد له طائفة من العبيد كانوا يختصون به فنما ذلك إلى الوزير بواسطة بعض الحرم كانت عينا له عليه فعاجله وكان قد بلغ من الاستبداد عليه أن كان الحجاب مرفوعا له عن خلوات السلطان وحرمه فدخل عليه وهو في وسط حشمه فطردهم عنه ثم غطه حتى فاظ وأمر به فألقي في بئر بروض الغزلان واستدعى الخاصة فأراهم مكانه بها وأنه سقط عن دابته وهو سكران وذلك في محرم فاتح سنة ثمان وستين وسبعمائة كذا عند ابن خلدون وقال في الجذوة توفي يوم الأحد الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة سبع وستين وسبعمائة وله ثمان وعشرون سنة ودفن بجامع
____________________

قصره فكانت دولته أربع سنين وعشرة أشهر ويوما واحدا والله أعلم الخبر عن دولة السلطان أبي فارس عبد العزيز بن أبي الحسن رحمه الله
هذا السلطان هو الذي أنعش دولة بني مرين بعد تلاشيها وأعاد إليها شبابها بعد هرمها وتقاضيها وأزال عنها وصمة الحجر والاستبداد وأعادها من العز إلى حالها المعتاد وهو الذي ذكره ابن خلدون في أول تاريخه الكبير وألفه برسمه وحلى ديباجته باسمه أمه مولدة اسمها مريم صفته أدم اللون شديد الأدمة طويل القامة يشرف على الناس بطوله نحيف الجسم أعين أدعج أخنس في وجهه أثر جدري وكان عفا متمسكا بالدين محبا في الخير وأهله لم يشرب خمرا ولا وقع في فاحشة قط وبالجملة فقد كان من صالحي الملوك رحمه الله
ولما كان من الوزير عمر بن عبد الله الياباني إلى السلطان أبي زيان رحمه الله ما كان من الخنق والإلقاء في البئر استدعى عبد العزيز بن أبي الحسن هذا وكان في بعض الدور من القصبة بفاس محتاطا عليه من قبل الوزير المذكور فأحضره بالقصر وأجلسه على سرير الملك وبايعه وفتحت الأبواب لبني مرين وسائر الخاصة والعامة فازدحموا على تقبيل يده معطين الصفقة بطاعته فتم أمره وثبت ملكه وذلك يوم الأحد الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة سبع وستين وسبعمائة ثم إن الوزير عمر جرى معه على عادته من الاستبداد ومنع التصرف في شيء من أمور الملك فأنف السلطان عبد العزيز من ذلك وتأفف منه ودارت بينه وبين الوزير أمور إلى أن عمل السلطان على الفتك به فأعد له جماعة من الخصيان بزوايا داره ثم أحضره ووبخه وثار به أولئك الخصيان فتناولوه هبرا بالسيوف وصاح الوزير المذكور صيحة أسمع بها بطانته خارج الدار فوثبوا على الأبواب فكسروها
____________________

واقتحموا الدار فإذا صاحبهم مضرج بدمائه قد فرغ منه فولوا الأدبار هاربين ثم تتبع السلطان عبد العزيز حاشية الوزير بالاعتقال والقتل حتى أتى على الجميع في خبر طويل واستبد بملكه واضطلع به وأدار الأمور فيه على ما ينبغي والله تعالى أعلم انتقاض أبي الفضل بن أبي سالم ثم مقتله بعد ذلك
قد قدمنا أن أبا الفضل بن أبي سالم كان قد عقد له الوزير عمر بن عبد الله على مراكش إسعافا لكافله عامر بن محمد الهنتاتي فلما فتك السلطان عبد العزيز بالوزير المذكور سولت لأبي الفضل نفسه مثلها في عامر بن محمد لاستبداده عليه وأغراه بذلك بطانته فأحس عامر بالشر فتمارض بداره من مراكش ثم استأذنه في الصعود إلى معتصمه من الجبل ليمرضه هنالك حرمه وأقاربه فارتحل بجملته واحتل بحصنه وكان أعز من الأبلق الفرد فيئس أبو الفضل من الاستمكان منه ثم أغرته بطانته إذ فاتهم عامر بالفتك بعبد المؤمن بن أبي علي وكان قد انضاف إليه بعد إجفاله عن سجلماسة فسكر أبو الفضل ذات ليلة وبعث عن قائد الجند من النصارى فأمره بقتل عبد المؤمن بمكان معتقله من قصبة مراكش فجاء برأسه إليه وطار الخبر بذلك إلى عامر فارتاع وحمد الله إذ خلصه من غائلته وبعث ببيعته إلى السلطان عبد العزيز وأغراه بأبي الفضل ورغبه في ملك مراكش ووعده بالمظاهرة فأجمع السلطان أمره على النهوض إليها ونادى في الناس بالعطاء وقضى أسباب حركته وارتحل من فاس سنة تسع وستين وسبعمائة وقد استبد أبو الفضل بمراكش وأعملها
وأقام بها رسم الملك واستوزر واستلحق وجعل شوراه لمبارك بن إبراهيم بن عطية الخلطي
ولما نهض السلطان عبد العزيز من فاس اتصل خبره بأبي الفضل وهو
____________________

منازل لعامر بن محمد فانفض معسكره ولحق بتادلا ليعتصم بجبل بني جابر منها فتبعه السلطان عبد العزيز إليها ونازله وأخذ بمخنقه وقاتله ففل عسكره ثم داخل بعض بني جابر في جر الهزيمة عليه على مال يعطيه لهم ففعلوا وانهزمت جيوشه وتقبض على أشياعه وسيق مبارك بن إبراهيم إلى السلطان عبد العزيز فاعتقله إلى أن قتله مع عامر بن محمد كما نذكر
ولحق أبو الفضل بقبائل صناكة وراء بني جابر فداخل بنو جابر في شأنه وبذلوا لهم عن السلطان مالا دثرا في إسلامه فأسلموه وبعث السلطان إليهم وزيره يحيى بن ميمون فجاء به أسيرا وأحضره أمام السلطان فوبخه ثم اعتقله بفسطاط مجاور له ثم غط من الليل فكان مهلكه في رمضان سنة تسع وستين وسبعمائة لمضي ثمان سنين من إمارته على مراكش وبعث السلطان عبد العزيز إلى عامر بن محمد يختبر طاعته فأبى عليه وجاهر بالخلاف إلى أن كان من شأنه ما نذكره انتقاض عامر بن محمد الهنتاتي وحصار السلطان عبد العزيز إياه وظفره به
كان عامر بن محمد الهنتاتي مجير السلطان أبي الحسن من ابنه أبي عنان على ما وصفنا من بلوغ الغاية في الرياسة والاعتزاز على الدولة وطول الاستبداد بمراكش وأحوازها وكان قد حصل في مدة رياسته على ثروة عظيمة وجاه كبير وكان له معتصم بجبل درن أعز من بيض الأنوق قد حصن فيه ماله وسلاحه وذخيرته وكان كلما هاجه هائج صعد إليه وأمن على نفسه فلما صفا الأمر للسلطان عبد العزيز جعل عامرا هذا من أهم أمره فنصب له واستعد لقتاله وعقد على وزارته لأبي بكر بن غازي بن يحيى بن الكاس ونهض إليه من فاس سنة سبعين وسبعمائة فحاصره في جبله سنة كاملة ولما طال الحصار على عامر وشيعته اختلفت كلمتهم عليه وفسد ما
____________________

بينه وبين ابن أخيه فارس بن عبد العزيز بن محمد فبعث إلى السلطان وسهل له الطريق لاقتحام الجبل فزحفت العساكر والجنود وشارفت المعتصم ولما استيقن عامر أن قد أحيط به بعث إلى ابنه أبي بكر أن يلحق بالسلطان مختارا له ومشيرا عليه بالتي هي أحسن وأسلم فألقى الولد بنفسه إلى السلطان فقبله وبذل له الأمان وألحقه بجملته وانتبذ عامر عن الناس وذهب لوجهه ليخلص إلى السوس فرده الثلج وقد كانت السماء أرسلت به منذ أيام حتى تراكم بالجبل بعضه على بعض وسد المسالك فاقتحمه عامر حتى هلك فيه بعض حرمه ونفق مركوبه وعاين الهلكة العاجلة فرجع أدراجه مختفيا حتى آوى إلى غار مع أدلاء كان قد استخلصهم وبذل لهم مالا على أن يسلكوا به ظهر الجبل إلى صحراء السوس فأقاموا ينتظرون إمساك الثلج وقد شدد السلطان عبد العزيز في التنقير عنه والبحث فعثر عليه بعض البربر بالغار المذكور فسيق إلى السلطان فأحضره بين يديه ووبخه فاعتذر واعترف بالذنب ورغب في الإقالة فحمل إلى مضرب بني له بإزاء فسطاط السلطان واعتقل هنالك وانطلقت الأيدي على معاقل عامر ودياره فانتهب من الأموال والسلاح والذخيرة والزرع والأقوات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت
واستولى السلطان على الجبل ومعاقله في رمضان من سنة إحدى وسبعين وسبعمائة لحول من يوم حصاره وعقد على هنتاتة لابن أخي عامر وهو فارس بن عبد العزيز بن محمد بن علي الهنتاتي وارتحل إلى فاس فاحتل بها آخر رمضان المذكور ودخلها في يوم مشهود برز فيه الناس وحمل عامر وسلطانه تاشفين من بني عبد الحق كان نصبه للأمر مموها به على عادته فحملا معا على جملين وقد أفرغ عليهما لباس رث وعبثت بهما أيدي الإهانة فكان ذلك عبرة لمن رآه
ولما قضى السلطان عبد العزيز نسك عيد الفطر أحضر عامرا فقرعه بذنوبه وأتى بكتاب بخطه يخاطب فيه أبا حمو بن يوسف الزياني ويستنجده على
____________________

السلطان فشهد عليه به وأمر السلطان بامتحانه فلم يزل يجلد حتى انتشر لحمه وضرب بالعصى حتى ورمت أعضاؤه وهلك بين يدي الوزعة وجنب تاشفين سلطانه إلى مصرعه فقتل قعصا بالرماح وجنب مبارك بن إبراهيم الخلطي من محبسه بعد الاعتقال فألحق بهم ولكل أجل كتاب وصفا الجو للسلطان عبد العزيز من المنازعين وتفرغ لغزو تلمسان على ما نذكره إن شاء الله ارتجاع الجزيرة الخضراء من يد الإسبانيول
قد قدمنا ما كان من استيلاء الطاغية على الجزيرة الخضراء أيام السلطان أبي الحسن رحمه الله فاستمرت في ملكتهم إلى هذا التاريخ فنشأت بينهم فتنة وتقاتلوا على الملك وأعروا ثغورهم الموالية للمسلمين من الحامية والجند فبقيت عورة وتشوف المسلمون إلى ارتجاع الجزيرة الخضراء التي قرب عهدهم بانتظامها في ملكة المسلمين
وكان السلطان عبد العزيز في شغل عن ذلك بفتنة أبي الفضل بن أبي سالم وعامر بن محمد وانتقاضهما فبعث إلى ابن الأحمر صاحب الأندلس أن يزحف إليها بعساكره وعليه عطاؤهم وإمدادهم بالمال والأساطيل على أن تكون مثوبة جهاده خالصة له فأجاب ابن الأحمر إلى ذلك وبعث إليه السلطان عبد العزيز بأحمال المال وأوعز إلى أساطيله بسبتة فانعمرت وأقلعت حتى احتلت بمرسى الجزيرة الخضراء لحصارها وزحف ابن الأحمر بعساكر المسلمين على أثرها بعد أن قسم فيهم العطاء وأزاح العدد وأعد الآلات للحصار فنازلها أياما قلائل ثم أيقن النصارى بالهلكة لبعدهم عن الصريخ ويأسهم من مدد ملوكهم فألقوا باليد وسألوا النزول على الصلح فأجابهم ابن الأحمر إليه ونزلوا عن البلد وأقيمت فيه شعائر الإسلام ومحيت منه كلمة الكفر وكتب الله أجرها لمن أخلص في معاملته
____________________

وكان ذلك سنة سبعين وسبعمائة وولي ابن الأحمر عليها من قبله ولم تزل إلى نظره إلى أن وقع الاختيار على هدمها خشية استيلاء النصرانية عليها مرة أخرى فهدمت أعوام الثمانين وسبعمائة وأصبحت خاوية كأن لم تغن بالأمس نهوض السلطان عبد العزيز إلى تلمسان واستيلاؤه عليها وفرار سلطانها أبي حمو بن يوسف عنها
كان أبو حمو بن يوسف الزياني قد فسد ما بينه وبين عرب سويد وقبض على بعض رؤسائهم محمد بن عريف فاستصرخوا عليه السلطان عبد العزيز وكانت القوارص لا تزال تسري إليه من أبي حمو المذكور فصادفوا منه صاغية إلى ما التمسوا منه واعتزم على النهوض إلى تلمسان وبعث الحاشرين إلى الجهات المراكشية فتوافى الناس إليه على طبقاتهم واجتمعوا عنده أيام منى سنة إحدى وسبعين وسبعمائة فأفاض العطاء وأزاح العلل ولما قضى نسك عيد الأضحى عرض الجند ونهض إلى تلمسان فاحتل بتازا
واتصل خبره بأبي حمو فجمع الجموع وهم باللقاء ثم اختلفت كلمة أصحابه وتفرق عنه العرب من بني معقل فأجفل هو وأشياعه من بني عامر بن زغبة فدخلوا القفر
وتقدم السلطان عبد العزيز فاحتل بتلمسان يوم عاشوراء من سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة فدخلها في يوم مشهود واستولى عليها وعقد لوزيره أبي بكر بن غازي بن الكاس على عساكر مرين والعرب وسرحه في اتباع أبي حمو فأدركه ببعض بلاد زناتة الشرق فأجهضوه عن ماله ومعسكره فانتهب بأسره واكتسحت أموال العرب الذين معه ونجا بذمائه إلى مصاب وتلاحق به ولده وقومه متفرقين على كل مفازة ثم دخلوا القفر بعد ذلك ودوخ الوزير المذكور بلاد المغرب الأوسط وشرد عصاته واستنزل ثواره في أخبار طويلة
____________________


واستولى السلطان عبد العزيز على سائر الوطن من الأمصار والأعمال وعقد عليها للولاة والعمال واستوسق له ملك المغرب الأوسط كما كان لسلفه واستمر مقيما بتلمسان إلى أن كان ما نذكره نزوع الوزير ابن الخطيب عن سلطانه الغني بالله إلى السلطان عبد العزيز بتلمسان
قد قدمنا ما كان من رجوع الغني بالله ابن الأحمر إلى ملكه بالأندلس سنة ثلاث وستين وسبعمائة ولما استولى على غرناطة وثبت قدمه بها بعث عن مخلفه بفاس من الأهل والولد والقائم بالدولة يومئذ عمر بن عبد ا لله فاستقدم عمر ابن الخطيب من سلا وبعثهم إلى نظره فسر السلطان ابن الأحمر بمقدمه ورده إلى منزلته ودفع إليه تدبير المملكة وخلط بينه بندمائه وأهل خلوته وانفرد ابن الخطيب بالحل والعقد وانصرفت إليه الوجوه وعلقت به الآمال وغشى بابه الخاصة والكافة وغصت به بطانة السلطان وحاشيته فتوافقوا على السعاية فيه وقد صم السلطان عن قبولها ونما بذلك الخبر إلى ابن الخطيب فشمر عن ساعده للرحلة عن الأندلس واللحاق بالمغرب وكان له حنين إليه ورغبة في الإيالة المرينية من قبل ذلك فقدم الوسائل إلى السلطان عبد العزيز وأوعز إليه بما عزم عليه من اللحاق بحضرته فوعده السلطان بالجميل وبسط أمله فحينئذ استأذن السلطان الغني بالله في تفقد الثغور الغربية من أرض الأندلس فأذن له وسار إليها في جماعة من فرسانه ومعه ابنه علي فلما حاذى جبل طارق مال إليه فخرج قائد الجبل لتلقيه وقد كان السلطان عبد العزيز أوعز إليه بذلك وجهز إليه الأسطول من حينه فاحتل بسبتة ثم سار منها فقدم على السلطان عبد العزيز بتلمسان سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة فاهتزت له الدولة وأركب السلطان خاصته لتلقيه وأحله بمجلسه محل الأمن والغبطة ومن دولته بمكان الشرف والعزة
____________________

وأخرج لوقته كاتبه أبا يحيى بن أبي مدين سفيرا إلى الأندلس في مطلب أهله وولده فجاء بهم على أكمل الحالات من الأمن والتكرمة ثم نزل بعد ذلك مدينة فاس القديمة فاستكثر بها من شراء الضياع وتأنق في بناء المساكن واغتراس الجنات وحفظت عليه رسومه السلطانية وتوقيراته وأقام مطمئنا بخير دار عند أعز جار وفاة السلطان عبد العزيز بن أبي الحسن رحمه الله
كان السلطان عبد العزيز قد أصابه مرض النحول في صغره ولأجل ذلك تجافى السلطان أبو سالم عن بعثه مع الأبناء إلى الأندلس فأقام بالمغرب ولما شب أفاق من مرضه وصلح بدنه ثم عاوده وجعه في مثواه بتلمسان وتزايد نحوله ولما كمل الفتح واستفحل الملك اشتد به الوجع فصابره وكتمه عن الناس خشية الإرجاف ثم عسكر خارج تلمسان للحاق بالمغرب
ولما كانت ليلة الخميس الثاني والعشرين من ربيع الآخر سنة أربع وسبعين وسبعمائة قضى نحبه رحمه الله بظاهر تلمسان بين أهله وولده وسيق إلى فاس فدفن بجامع قصره وسنه يومئذ أربع وعشرين سنة وكانت دولته ست سنين وأربعة أشهر
ومن نظمه ما ذكره ابن الأحمر في نثير الجمان مذيلا بيتي والده السلطان أبي الحسن اللذين هما قوله
( أرضي الله في سر وجهر ** وأحمي العرض من دنس ارتياب )
( وأعطي الوفر من مالي اختيارا ** وأضرب بالسيوف طلي الرقاب )
فقال هو وأحسن
( وأرغب خالقي في العفو عني ** وأطلب حلمه يوم الحساب )
( وأرجو عونه في عز نصر ** على الأعداء محروس الجناب )
____________________


( وعبدك واقف بالباب فارحم ** عبيدا خائفا ألم العقاب ) الخبر عن دولة السلطان السعيد بالله أبي زيان محمد بن عبد العزيز بن أبي الحسن
هذا السلطان ممن ولي الأمر وهو صبي وفيه ألف ابن الخطيب كتابه المسمى بأعلام الأعلام بمن بويع من ملوك الإسلام قبل الاحتلام كنيته أبو زيان أمه عائشة بنت القائد فارح العلج صفته آدم اللون شديد الأدمة
ولما مات السلطان عبد العزيز رحمه الله بظاهر تلمسان خرج الوزير أبو بكر بن غازي بن الكاس على الناس وقد احتمل أبا زيان ابن السلطان عبد العزيز فعزاهم عن سلطانهم ثم طرح ابنه بين أيديهم فازدحموا عليه باكين متفجعين يعطونه الصفقة ويقبلون يديه للبيعة ثم أخرجوه للمعسكر وأنزلوه بفساطيط أبيه وتم أمره وكفله الوزير المذكور فكان إليه الإبرام والنقض والصبي كالعدم إذ لم يكن في سن التصرف
ثم إن الوزير ارتحل بالناس وجد السير فدخل حضرة فاس وأجلس الصبي لبيعة العامة فبايعوا ثم توافت لديه وفود الأمصار على العادة واستبد الوزير أبو بكر واستعمل على الجهات وجلس بمجلس الفصل واشتغل بأمر المغرب إبراما ونقضا
ولما فصل بنو مرين عن تلمسان عاد إليها سلطانها أبو حمو بن يوسف الزياني والتفت عليه بنو عبد الواد من كل جانب ومحا دعوة بني مرين من ضواحي المغرب الأوسط وأمصاره واتصل الخبر بالوزير أبي بكر بن غازي فهم بالنهوض إليه ثم ثنى عزمه ما كان من خروج الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن بن أبي علي بن أبي سعيد بناحية بطوية فإن السلطان ابن الأحمر كان قد سرحه من الأندلس صحبة وزيره مسعود بن عبد الرحمن بن ماساي
____________________

لطلب ملك المغرب تشغيبا على الوزير أبي بكر بن غازي ثم أتبعه بالأمير أبي العباس أحمد بن السلطان أبي سالم الذي كان محتاطا عليه بطنجة فزحف الأمير أبو العباس المذكور إلى فاس وظاهره ابن عمه الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن فحاصروا الوزير أبا بكر بن غازي وسلطانه أبا زيان ابن عبد العزيز وضربوا على فاس الجديد سياجا بالبناء للحصار وأنزلوا به أنواع القتال بعد أن بعث ابن الأحمر رسله إلى الأمير عبد الرحمن باتصال اليد بابن عمه الأمير أبي العباس ومظاهرته على ملك سلفه بفاس واجتماعهما لمنازلتها وعقد بينهما الاتفاق والمواصلة وأن يختص عبد الرحمن بملك سلفه من سجلماسة وأعمالها فتراضيا وزحفا إلى فاس كما قلنا وأمدهم ابن الأحمر بجمع من جنده فاستمر الحال على حصار فاس إلى أن أذعن الوزير أبو بكر لخلع سلطانه أبي زيان ومبايعة الأمير أبي العباس فخلعه يوم الأحد السادس من محرم فاتح سنة ست وسبعين وسبعمائة وغرب إلى الأندلس فكانت دولته سنة وثمانية أشهر وأربعة عشر يوما والله غالب على أمره الخبر عن الدولة الأولى للسلطان المستنصر بالله أبي العباس أحمد بن أبي سالم بن أبي الحسن
هذا السلطان يقال له ذو الدولتين لأنه ولي الملك مرتين كما سيأتي أمه حرة بنت أبي محمد السبائي كنيته أبو العباس لقبه المستنصر بالله صفته أبيض اللون ربعة تعلوه صفرة رقيقة أدعج أسود الشعر أكحل الحاجبين ضيق البلج أسيل الخدين براق الثنايا جميل الوجه مليح الصورة ظريف المنزع لطيف الشمائل حسن الشكل إذا ركب بويع أولا بطنجة في شهر ربيع الآخر سنة خمس وسبعين وسبعمائة ثم بويع البيعة العامة بالمدينة البيضاء بعد استيلائه عليها يوم الأحد السادس من محرم سنة ست وسبعين
____________________

وسبعمائة وكان الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن عندما أشرفوا على فتح فاس شرط عليهم ولاية مراكش عوضا عن سجلماسة فعقدوا له على كره مخافة أن تفترق كلمتهم ولا يتم أمرهم ففعلوا وطووا له على النكث فارتحل إلى مراكش واستولى عليها ثم فارقه وزيره مسعود بن عبد الرحمن وأجاز البحر إلى الأندلس فاستقر بها في إيالة ابن الأحمر
واستقل السلطان أبو العباس بن أبي سالم بملك فاس وأعمالها واستوزر محمد بن عثمان بن الكاس وفوض إليه أموره فغلب على هواه وجعل أمر الشورى إلى سليمان بن داود فاستقل بها وحاز رياسة المشيخة واستحكمت المودة بينه وبين ابن الأحمر وجعلوا إ ليه المرجع في نقضهم وإبرامهم فصار له بذلك تحكم في الدولة المرينية وأصبح المغرب كأنه من بعض أعمال الأندلس وذلك بما كان لابن الأحمر من إعانة السلطان أبي العباس على ملك المغرب حتى تم له وبما كان تحت يده من أبناء الملوك المرشحين للأمر فكان أبو العباس وحاشيته يصانعونه لأجل ذلك والله تعالى أعلم محنة الوزير ابن الخطيب ومقتله رحمه الله
لما لجأ ابن الخطيب إلى بني مرين وأصاب عندهم دارا وقرارا عز ذلك على ابن الأحمر وسعى بطانته عنده في ابن الخطيب لعداوتهم له ثم بلغه أنه يغري السلطان عبد العزيز بتملك أرض الأندلس وقطع دعوة بني الأحمر منها فعظم عليه ذلك ودبر الحيلة في قتل ابن الخطيب وتتبع أعداؤه كلمات زعموا أنها صدرت منه في بعض تآليفه فأحصوها عليه ورفعوها إلى قاضي غرناطة أبي الحسن النباهي فاسترعاها وسجل عليه بالزندقة وبعث ابن الأحمر برسم الشهادة مع هدية لم يسمع بمثلها إلى السلطان عبد العزيز وطلب منه إقامة الحد على ابن الخطيب أو إ سلامه إليه فصم السلطان عبد العزيز عن ذلك وأنف لذمته أن تخفر ولجواره أن يؤذى وقال للوفد هلا
____________________

انتقمتم منه وهو عندكم وأنتم عالمون بما كان عليه وأما أنا فلا يخلص إليه بذلك أحد ما كان في جواري ثم وفر الجراية والإقطاع له ولبنيه ولمن جاء من فرسان الأندلس في جملته
ثم لما مات السلطان عبد العزيز رحمه الله وولي ابنه أبو زيان وقام بأمره الوزير أبو بكر ابن غازي عاود ابن الأحمر الكلام في شأن ابن الخطيب وبعث بهدية أخرى إلى الوزير المذكور وطلب منه إسلامه إليه فأبى الوزير وأساء الرد وعادت رسل ابن الأحمر إليه مخفقين وقد رهبوا سطوته فعند ذلك عمد ابن الأحمر إلى الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن وكان عنده بالأندلس فأطمعه في ملك المغرب وأركبه البحر فقذف به بساحل بطوية من بلاد الريف تشغيبا على الوزير أبي بكر بن غازي كما مر ثم ثاب له رأي آخر فأغرى محمد بن عثمان بن الكاس وهو ابن عم أبي بكر بن غازي المذكور وكان يومئذ بسبتة قائما على ثغرها فداخله في البيعة لأبي العباس ابن أبي سالم وكان يومئذ بسبتة محتاطا عليه في جملة من القرابة والتزم أن يمده بالمال والرجال حتى يتم أمره لكن بشرط أن ينزل له عن جبل طارق ويبعث له بالقرابة الذين هم بطنجة ليكونوا تحت يده ويسلم إليه ابن الخطيب متى قدر عليه فكان الأمر كذلك فإن السلطان أبا العباس لما استولى على الأمر نزل لابن الأحمر عن جبل طارق فمحا دعوة بني مرين من وراء البحر ثم ملك بعد ذلك سبتة فاستولى عليها وبعث إليه بالقرابة المذكورين فأوسع لهم جنابه بغرناطة ثم قبض السلطان أبو العباس ووزيره محمد بن عثمان على ابن الخطيب وطيروا بالأعلام لابن الأحمر فحينئذ بعث وزيره أبا عبد الله بن زمرك وكان من تلاميذه ابن الخطيب وبه تخرج فقدم على السلطان أبي العباس وأحضروا ابن الخطيب بالمشور في مجلس الخاصة وأهل الشورى من الفقهاء وعرضوا عليه بعض كلمات وقعت له في بعض كتبه فعظم عليه النكير فيها فوبخ ونكل وامتحن بالعذاب بمشهد ذلك
____________________

الملأ ثم ثل إلى محبسه وتفاوضوا في قتله بمقتضى تلك المقالات المسجلة عليه فأفتى بعض الفقهاء بقتله فدس سليمان بن داود إليه بعض الأوغاد حاشيته من حاشيته فطرقوا السجن ليلا ومعهم زعانفة من أهل الأندلس جاؤوا في لفيف ذلك الوفد فقتلوه خنقا في محبسه وأخرجوا شلوه من الغد فدفن في مقبرة باب المحروق ثم أصبح من الغد طريحا على شافة قبره وقد جمعوا له أعوادا فأضرموها عليه نارا فاحترق شعره واسود بشره وأعيد إلى حفرته وكان في ذلك انتهاء محنته وعجب الناس من هذه السفاهة التي جاء بها سليمان بن داود واعتدوها من هنتاته وعظم النكير فيها عليه وعلى قومه وأهل دولته
وكان ابن الخطيب رحمه الله أيام مقامه بالسجن يتوقع مصيبة الموت فتجيش هواتفه بالشعر يبكي نفسه فمما قال في ذلك
( بعدنا وإن جاورتنا البيوت ** وجئنا بوعظ ونحن صموت )
( وأنفسنا سكنت دفعة ** كجهر الصلاة تلاه القنوت )
( وكنا عظاما فصرنا عظاما ** وكنا نقوت فها نحن قوت )
( وكنا شموس سماء العلا ** غربنا فناحت عليها السموت )
( فكم جدلت ذا الحسام الظبي ** وذو البخت كم جدلته البخوت )
( وكم سيق للقبر في خرقة ** فتى ملئت من كساه التخوت )
( فقل للعدا ذهب ابن الخطيب ** وفات ومن ذا الذي لا يفوت )
( فمن كان يفرح منكم له ** فقل يفرح اليوم من لا يموت )
وكانت نكبته رحمه الله أوائل سنة ست وسبعين وسبعمائة وعند الله تجتمع الخصوم
____________________

بقية أخبار أمير مراكش عبد الرحمن بن أبي يفلوسن رحمه الله
قد تقدم لنا ما كان من معاقدة السلطان أبي العباس والأمير عبد الرحمن ابن أبي يفلوسن على ولاية سجلماسة أولا ثم التعويض عنها بمراكش ثانيا فلما فتح السلطان أبو العباس فاسا وفى للأمير عبد الرحمن بعقده فسار إلى مراكش واستولى عليها وعلى أعمالها واقتسمت مملكة المغرب الأقصى يومئذ بنصفين
وكان الحد بين الدولتين ثغر آزمور فكانت في إيالة صاحب فاس وما وراءها إلى مراكش في إيالة صاحب مراكش ثم كانت بينهما بعد ذلك مواصلات ومناقضات ومسالمات ومحاربات يطول جلبها واتصل ذلك إلى منتصف سنة أربع وثمانين وسبعمائة فظفر السلطان أبو العباس بعبد الرحمن بعد محاصرته بقصبة مراكش تسعة أشهر ولما أشرف السلطان أبو العباس على فتحها وانفض الناس من حول الأمير عبد الرحمن ونزلوا من الأسوار ناجين إلى السلطان وبقي هو في قصبته منفردا بات ليلته يراود ولديه على الاستماتة وهما سليم وأبو عامر وركب السلطان أبو العباس من الغد في التعبية إلى القصبة فاقتحمها بمقدمته ولقيه الأمير عبد الرحمن وولداه مسابقين إلى الميدان ومباشرين القتال بين أبواب دورهم فجالوا معهم جولة قتل فيها الولدان قتلهم علي بن إدريس وزيان بن عمر الوطاسي
قال ابن خلدون وطالما كان زيان يمتري ثدي نعمتهم ويجر ذيله خيلاء في جاههم فذهب مثلا في كفران النعمة وسوء الجزاء والله لا يظلم مثقال ذرة وكان ذلك خاتم جمادى الآخرة سنة أربع وثمانين المذكورة لمضي عشر سنين من إمارة عبد الرحمن على مراكش ثم رحل السلطان أبو العباس منقلبا إلى فاس وقد استولى على سائر أعمال المغرب وظفر بعدوه ودفع النازعين عن ملكه والله غالب على أمره
____________________

ذكر الشاوية وبيان نسبهم وأوليتهم وشرح لقبهم وتسميتهم
ذكر ابن خلدون أن الشاوية من ولد حسان بن أبي سعيد الصبيحي نسبة إلى صبيح بالتصغير بطن من سويد وسويد إحدى قبائل بني مالك بن زغبة الهلاليين وكان دخول حسان وأخيه موسى ابني أبي سعيد إلى المغرب الأقصى أيام السلطان يعقوب بن عبد الحق رحمه الله قدموا في صحبة عبد الله بن كندوز العبد الوادي ثم الكمي وكان عبد الله هذا قد نزع عن يغمراسن بن زيان إلى السلطان يعقوب المذكور فقدم عليه قبل فتح مراكش فاهتز السلطان يعقوب لقدومه وأحله بالمكان الرفيع من دولته وأنزل قومه بجهات مراكش وأقطعهم البلاد التي كفتهم مهماتهم وجعل انتجاع إبله ورواحله وسائر ظهره في إحيائهم فقدم عبد الله بن كندوز على رعايتها حسان وأخاه موسى الصبيحيين وكانا عارفين برعاية الإبل والقيام عليها فأقاموا يتقلبون في تلك البلاد ويتعدون في نجعتها إلى أرض سوس وكانت ماشية السلطان يعقوب متفرقة في سائر المغرب فجمعها لعبد الله بن كندوز وجمعها عبد الله لحسان الصبيحي المذكور فكان حسان يباشر أمور السلطان في شأن تلك الماشية ويطالعه بمهماته فحصلت له مداخلة معه جلبت إليه الحظ حتى ارتفع قدره ونشأ بنوه في ظل الدولة وعزها وتصرفوا في الولايات منها وانفردوا بخطة الشاوية فلم تزل ولايتها متوارثة فيهم منقسمة بينهم لهذا العهد إلى ما كانوا يتصرفون فيه من غير ذلك من الولايات وكان لحسان من الولد علي ويعقوب وطلحة وغيرهم ومن حسان هذا تفرعت شعوبهم في ولده
قال ابن خلدون وهم لهذا العهد يتصرفون في الدولة على ما كان لسلفهم من ولاية الشاوية والنظر في رواحل السلطان والظهر الذي يحمل من الإبل ولهم عدد وكثرة ونباهة في الدولة أه قلت ولفظ الشاوية نسبة إلى الشاء التي هي جماعة الغنم مثلا قال الصحاح والنسبة إلى الشاء شاوي قال الراجز
____________________


( لا ينفع الشاوي فيها شاته ** ولا حماراه ولا علاته )
وإن سميت به رجلا قلت شائي وإن شئت شاوي اه
واعلم أن الشاوية اليوم يطلقون على سكان تامسنا من قبائل شتى بعضها عرب وبعضها زناتة وبربر غير أن لسان الجميع عربي وكان أصل جمهورهم من هؤلاء الذين ذكر ابن خلدون ثم انضافت إليهم قبائل أخر واختلطوا بهم فأطلق على الجميع شاوية تغليبا وهكذا وقع في سائر عرب المغرب الأقصى المواطنين بتلوله فإنهم وقع فيهم اختلاط كبير حتى نسوا أنسابهم وأصولهم الأولى إلا في النادر وذلك بسبب تعاقب الأعصار وتناسخ الأجيال وتوالي المجاعات والانتجاعات ووقعات الملوك بهم في كثير من الأحيان وتفريق بعضهم من بعض ونقل بعضهم إلى بلاد بعض ومع ذلك فأسماؤهم الأولى لا زالت قائمة فيهم لن تتغير إلى الآن فمنها يهتدي الفطن إلى التنقير عن أنسابهم وإلحاق فروعهم بأصولهم متى احتاج إلى ذلك والله تعالى أعلم نهوض السلطان أبي العباس إلى تلمسان وفتحها وتخريبها
لما نهض السلطان أبو العباس إلى مراكش وحاصر بها عبد الرحمن بن أبي يفلوسن خالفه إلى المغرب أبو حمو بن يوسف الزياني في جمع من أولاد حسين عرب معقل وذلك بإغراء عبد الرحمن المذكور فدخلوا إلى أحواز مكناسة وعاثوا فيها ثم عمدوا إلى مدينة تازا فحاصروها سبعا وخربوا قصر الملك هنالك ومسجده المعروف بقصر تازروت وبينما هم على ذلك بلغهم الخبر اليقين بفتح مراكش وقتل الأمير عبد الرحمن فأجفلوا من كل ناحية ومر أبو حمو في طريقه إلى تلمسان بقصر ونزمار بن عريف السويدي في نواحي بطوية المسمى بمرادة فهدمه
ووصل السلطان أبو العباس إلى فاس فأراح بها أياما ثم أجمع النهوض إلى تلمسان فانتهى إلى تاوريرت وبلغ الخبر إلى أبي حمو فاضطرب رأيه
____________________

واعتزم على الحصار وجمع أهل البلد عليه فاستعدوا له ثم بدا له فخرج في بعض تلك الليالي بولده وأهله وخاصته وأصبح مخيما بالصفيصف فأهرع أهل البلد إليه بعيالهم وأولادهم متعلقين به تفاديا من معرة هجوم العسكر عليهم فلم يزعه ذلك عن قصده وارتحل ذاهبا إلى البطحاء ثم قصد بلاد مغراوة فنزل في بني بو سعيد قريبا من شلف وأنزل أولاده الأصاغرة وأهله بحصن تاجحمومت وجاء السلطان أبو العباس إلى تلمسان فملكها واستقر بها أياما ثم هدم أسوارها وقصور الملك بها بإغراء وليه ونزمار جزاء بما فعله أبو حمو في تخريب قصر تازروت وحصن مرادة ثم خرج من تلسمان في اتباع أبي حمو ونزل على مرحلة منها وهنالك بلغه الخبر بإجازة موسى بن أبي عنان من الأندلس إلى المغرب وأنه خالفه إلى دار الملك فانكفأ راجعا عوده على بدئه ورجع أبو حمو إلى تلمسان فاستقر ملكه بها إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله خلع السلطان أبي العباس بن أبي سالم وتغريبه إلى الأندلس والسبب في ذلك
قد قدمنا ما كان من تحكم ابن الأحمر في مملكة المغرب ودالته على السلطان أبي العباس بما أنه كان السبب في ولايته وبما تحت يده من القرابة المرشحين الذين أرصدهم للتشغيب على دار الملك بالمغرب متى رأى من أحدهم ما لا يوافق هواه وكان مع كثرة تحكمه فيهم يتجنى عليهم في بعض الأوقات بما يأتونه من تقصير في شفاعة أو مخالفة في أمر لا يجدون عنها محيصا فيضطغن ذلك عليهم وكان يعتد على السلطان أبي العباس بشيء من هذه الهنات
فلما نهض إلى تلمسان واستولى عليها سنة خمس وثمانين وسبعمائة اتصل بابن الأحمر أن دار الملك بفاس قد بقيت عورة من الجند والحامية فانتهز الفرصة وبادر بتسريح موسى ابن السلطان أبى عنان إلى المغرب
____________________

واستوزر له مسعود بن عبد الرحمن بن ماساي رئيس الفتنة وقطب رحاها وكان عنده بالأندلس بعد مفارقة عبد الرحمن بن أبي يفلوسن فنزل موسى ابن أبي عنان سبتة فاستولى عليها وسلمها لابن الأحمر فدخلت في طاعته ثم تقدم إلى فاس فدخلها من يومه واستقر قدمه بها
واتصل الخبر بالسلطان أبي العباس وهو بتلمسان فجاء مبادرا ونزل بتازا فأقام بها أربعا ثم تقدم إلى الموضع المعروف بالركن فانتقض عليه رؤساء جيشه وتسللوا إلى موسى طوائف وأفرادا ولما رأى ما نزل به رجع إلى تازا بعد أن انتهب معسكره وأضرمت النار في خيامه وذلك يوم الأحد الموفي ثلاثين من ربيع الأول سنة ست وثمانين وسبعمائة
ثم بعث موسى بن أبي عنان من أتاه بالسلطان أبي العباس في الأمان فقدم عليه وقيده وبعث به إلى ابن الأحمر فبقي عنده محتاطا عليه إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله
وكانت دولته هذه عشر سنين وشهرين وأربعة وعشرين يوما ومن وزرائه في هذه الدولة محمد بن عثمان بن الكاس المجذولي ومن كتابه عبد المهيمن ابن أبي سعيد بن عبد المهيمن الحضرمي تغمد الله الجميع برحمته الخبر عن دولة السلطان المتوكل على الله أبي فارس موسى ابن أبي عنان بن أبي الحسن
أمه مولدة اسمها تاملالت صفته أسمر مائل إلى السواد قصير القامة جاحظ العينين عظيم اللحية تملأ صدره قائم الأنف وإذا تكلم يملأ لسانه فمه فيخرج من بين شفتيه ويتحرك فيقبح كلامه بويع يوم الخميس الموفي عشرين من شهر ربيع الأول سنة ست وثمانين وسبعمائة وقام بأمر دولته وزيره مسعود بن ماساي مستبدا عليه ولما استقر أمره بالحضرة وجه إليه ابن الأحمر أمه وعياله وكانوا عنده وهناه وزيره أبو عبد الله بن زمرك بتوشيح يقول في مطلعه
____________________


( قد نظم الشمل أتم انتظام ** ولاحت الأقمار بعد المغيب )
( وضاحك الروض ثغور الغمام ** عن مبسم الزهر البرود الشيب )
إلى أن قال في آخره
( مولاي يهنيك وحق الهنا ** قد نظم الشمل كنظم السعود )
( قد فزت بالفخر ونيل المنى ** وأنجز السعد جميع الوعود )
( وقرت العين وزال العنا ** وكلما مر صنيع يعود )
( ولم يزل ملكك حلف الدوام ** يحوز في التخليد أوفى نصيب )
( يتلو عليك الدهر بعد السلام ** نصر من الله وفتح قريب ) خروج الحسن بن الناصر بغمارة ونهوض الوزير ابن ماساي إليه
كان الحسن بن الناصر بن أبي علي بن أبي سعيد قد لحق من مقره بالأندلس بحضرة تونس في سبيل طلب الملك وكان الوزير مسعود بن ماساي قد قتل محمد بن عثمان بن الكاس وافترقت حاشيته في الجهات فطلبوا بطن الأرض دون ظهرها ولحق منهم ابن أخيه العباس بن المقداد بتونس فعثر على الحسن بن الناصر بها فثاب له رأي في الرجوع به إلى المغرب لطلب الأمر فخرج به من تونس وقطع المفاوز إلى أن انتهى إلى جبال غمارة ونزل على أهل الصفيحة منهم فأكرموا مثواه ومنقلبه وأعلنوا بالقيام بدعوته واستوزر العباس بن المقداد
وبلغ الخبر إلى مسعود الوزير فجهز العساكر مع أخيه مهدي بن عبد الرحمن بن ماساي فحاصره بجبل الصحيفة أياما فامتنع عليه فنهض إليه مسعود بنفسه على ما نذكره
____________________

وفاة السلطان موسى بن أبي عنان رحمه الله
لما كان من استبداد ابن ماساي على السلطان موسى ما قدمناه استنكف من ذلك وداخل بطانته في الفتك به فنما ذلك إليه وحصلت له نفرة من السلطان طلب لأجلها البعد عنه وبادر إلى الخروج لدافعة الحسن بن الناصر القائم بغمارة واستخلف على دار الملك أخاه يعيش بن عبد الرحمن بن ماساي فلما انتهى إلى قصر كتامة بلغه الخبر بوفاة السلطان موسى وكانت وفاته في جمادى الآخرة طرقه المرض فهلك ليوم وليلة من مرضه وكان الناس يرمون يعيش أخا الوزير بأنه سمه قاله ابن خلدون
وقال ابن القاضي في الجذوة توفي السلطان موسى بن أبي عنان مسموما يوم الجمعة الثالث من شهر رمضان سنة ثمان وثمانين وسبعمائة وله إحدى وثلاثون سنة فكانت دولته سنتين وأربعة أشهر وولي بعده محمد بن أحمد بن أبي سالم اه
ومن كتابه أبو الفضل محمد بن محمد بن أبي عمرو التميمي وأبو القاسم محمد بن سودة المري ومن قضاته أبو عبد الله محمد بن محمد المغيلي والله تعالى أعلم الخبر عن دولة المنتصر بالله السلطان أبي زيان محمد بن أبي العباس ابن أبي سالم بن أبي الحسن
أمه حرة وهي رقية بنت السلطان أبي عنان صفته أبيض اللون قائم الأنف أسيل الخدين بويع بعد خاله موسى بن أبي عنان يوم الجمعة الثالث من شهر رمضان سنة ثمان وثمانين وسبعمائة وسنه يوم بويع خمس سنين وخلع يوم الجمعة الخامس عشر من شوال من السنة المذكورة وغرب إلى الأندلس مع أبيه فكانت دولته ثلاثة وأربعين يوما تحت استبداد الوزير مسعود عفا الله عنه
____________________

الخبر عن دولة السلطان الواثق بالله أبي زيان محمد بن أبي الفضل بن أبي الحسن
أمه أم ولد اسمها عسيلة صفته أسود اللون عظيم الخلق رحب الوجه طويل القامة والساقين ممتلئ الأنف عظيم الساعدين وكان قبل ولايته عند ابن الأحمر بالأندلس في جملة القرابة ولما استوحش الوزير مسعود من السلطان موسى بن أبي عنان بعث ابنه يحيى إلى ابن الأحمر يسأل منه إعادة السلطان أبي العباس إلى ملكه فأخرجه ابن الأحمر من الاعتقال وجاء به إلى جبل الفتح يروم إجازته إلى العدوة فلما توفي السلطان موسى بدا للوزير مسعود في أمره ودس لابن الأحمر في رده وأن يبعث إليه بالواثق هذا ورآه أليق بالاستبداد والحجر فأسعفه ابن الأحمر في ذلك ورد السلطان أحمد إلى مكانه بالحمراء وجيء بالواثق فحضر بجبل الفتح عنده فأجازه إلى سبتة واتفق أن جماعة من الحاشية انتقضوا على الوزير مسعود ولحقوا بسبتة فقدم عليهم الواثق بها ورجعوا به إلى المغرب وتقلبوا في نواحيه إلى أن وصلوا إلى جبل مغيلة قرب فاس فبرز الوزير مسعود في العساكر ونزل قبالتهم وقاتلهم هنالك أياما ثم وقع الاتفاق على أن يبايع مسعود للواثق بشرط الاستبداد فتم العقد على ذلك
قال في الجذوة بويع السلطان الواثق بالله أبو زيان محمد بن أبي الفضل يوم الجمعة الخامس عشر من شوال سنة ثمان وثمانين وسبعمائة وقام بأمره الوزير مسعود بن ماساي ثم حدثت الفتنة بين الوزير المذكور وابن الأحمر بسبب أن الوزير طلب منه إعادة سبتة إلى الإيالة المرينية وكان موسى ابن أبي عنان قد نزل له عنها كما مر وكان طلبه على سبيل الملاطفة فاستشاط ابن الأحمر غضبا وأساء الرد فجهز ابن ماساي العساكر لحصار سبتة مع العباس بن عمر بن عثمان الوسنافي ويحيى بن علال بن آمصمود والرئيس محمد بن أحمد الأبكم من بني الأحمر فاستولى عليها
____________________

ثم سرح ابن الأحمر السلطان أبي العباس من اعتقاله وبعثه إلى المغرب لطلب ملكه وللتشغيب على ابن ماساي الجاحد لإحسانه فعبر السلطان أبو العباس البحر إلى المغرب فاحتل سبتة واستولى عليها ثم تقدم إلى فاس فحاصرها وضيق على ابن ماساي وسلطانه الواثق بالله وأهرع الناس إلى الدخول في طاعته حتى من مراكش فاستمر الحصار على فاس الجديد ثلاثة أشهر ثم أذعن الوزير مسعود للطاعة على شرط أن يبقى وزيرا ويغرب سلطانه إلى الأندلس فأجيب وخلع الواثق بالله ثم خرج إلى السلطان أبي العباس فبايعه وتقدم أمامه فدخل داخل ملكه يوم الخميس خامس رمضان سنة تسع وثمانين وسبعمائة ولحين دخوله قبض على الواثق بالله فقيده وبعث به إلى طنجة فقتل بها بعد ذلك وسنه يوم قتل ثمان وثلاثون سنة وبها قبر
ومن وزرائه يعيش بن علي بن فارس الياباني ومسعود بن رحو بن ماساي ومن كتابه منصور بن أحمد بن محمد التميمي وأبو يحيى محمد ابن محمد بن أبي القاسم بن أبي مدين ومن قضاته أبو يحيى محمد بن محمد السكاك رحمهم الله تعالى بمنه الخبر عن الدولة الثانية للسلطان أبي العباس بن أبي سالم بن أبي الحسن
لما دخل السلطان أبو العباس حضرة فاس الجديد في التاريخ المتقدم بويع البيعة العامة في اليوم الثالث من دخوله وهو يوم السبت السابع من رمضان سنة تسع وثمانين وسبعمائة لمضي ثلاث سنين وخمسة أشهر وستة أيام من خلعه
ولما ملك أمر نفسه قبض على الوزير ابن ماساي وعلى إخوته وحاشيته وامتحنهم امتحانا بليغا فهلكوا من العذاب ثم سلط على مسعود من العذاب
____________________

والانتقام ما لا يعبر عنه واعتد عليه بما كان يفعله في دور بني مرين النازعين عنه إليه فإنه كان متى هرب منهم أحد عمد إلى بيوته فنهبها فأمر السلطان أبو العباس بعقابه في أطلالها فكان يؤتى به إلى كل بيت فيها فيضرب عشرين سوطا إلى أن برح به العذاب وتجاوز الحد ثم أمر به فقطعت أربعته فهلك عند قطع الثانية وذهب مثلا للآخرين ظهور محمد بن عبد الحليم بن أبي علي بسجلماسة ثم اضمحلاله بعد ذلك
قد قدمنا أن الأمير عبد الحليم بن أبي سعيد كان تغلب على سجلماسة ثم غلبه عليها أخوه عبد المؤمن وسافر عبد الحليم إلى المشرق فهلك في سفرته تلك وكان قد ترك ابنه محمدا هذا رضيعا فشب متقلبا بين الدول من ملك إلى آخر على أن أكثر مقامه إنما كان عند أبي حمو صاحب تلمسان ولما حاصر السلطان أبو العباس فاس الجديد كان محمد هذا عند العرب الأحلاف فلما اشتد الحصار على مسعود بن ماساي دس إلى الأحلاف أن ينصبوا محمد بن عبد الحليم للأمر ويجلبوا به على المغرب ليأخذ بحجزة السلطان أبي العباس عنه ففعلوا ودخل محمد بن عبد الحليم سجلماسة فملكها حتى إذا استولى السلطان أبو العباس على فاس الجديد وأوقع بمسعود ابن ماساي وإخوته خرج محمد بن عبد الحليم عن سجلماسة ولحق بأحياء العرب فسارت طائفة منهم معه إلى أن أبلغوه مأمنه ونزل على أبي حموا بتلمسان إلى أن هلك فسار إلى تونس ونزل على صاحبها أبي العباس الحفصي ثم ارتحل بعد وفاته إلى المشرق لحج الفريضة والله تعالى أعلم
____________________

نكبة الكاتب ابن أبي عمرو وحركات بن حسون ومقتلهما
كان محمد بن محمد بن أبي عمرو التميمي وقد تقدم ذكر والده في دولة السلطان أبي عنان كاتبا عند السلطان أبي العباس في دولته الأولى فلما خلع وولي موسى بن أبي عنان تقرب إليه بسالف المخالصة لأبيه من أبي عنان فقد كان أعز بطانته كما مر فاستخلصه السلطان موسى للشورى ورفع منزلته على منازل أهل الدولة وجعل إليه كتابة علامته على المراسم السلطانية كما كان لأبيه وكان يفاوضه في مهماته ويرجع إليه في أموره حتى غص به أهل الدولة وسعى هو عند السلطان موسى في جماعة من بطانة السلطان أبي العباس فأتى عليهم النكال والقتل لكلمات كانت تجري بينهم وبينه في مجالس المنادمة عند السلطان أبي العباس حقدها عليهم فلما ظفر بالحظ من السلطان موسى سعى بهم عنده فقتلهم وكان القاضي أبو إسحاق إبراهيم اليزناسني من بطانة السلطان أبي العباس وكان يحضر مع ندمائه فحقد عليه ابن أبي عمرو وأغرى به السلطان موسى فضربه وأطافه وجاء بها شنعاء غريبة في القبح ثم سفر ابن أبي عمرو عن سلطانه موسى إلى الأندلس فكان يمر بمجلس السلطان أبي العباس من محل اعتقاله فلا يلم به وربما يلقاه فلا يحييه ولا يوجب له حقا فأحفظ ذلك السلطان أبا العباس فلما رد الله عليه ملكه وفرغ من ابن ماساي قبض على ابن أبي عمرو هذا وأودعه السجن ثم امتحنه بعد ذلك إلى أن هلك تحت السياط وحمل إلى داره وبينما أهله يحضرونه إلى قبره إذا بالسلطان قد أمر بأن يسحب في نواحي المدينة إبلاغا في النكال فحمل من نعشه وقد ربط في رجله حبل وسحب في سكك المدينة ثم ألقي على بعض المزابل
ثم قبض السلطان على حركات بن حسون شيخ العرب وكان مجلبا في الفتنة وكان العرب المخالفون من معقل لما أجاز السلطان أبو العباس إلى
____________________

سبتة وحركات هذا بتادلا راودوه على طاعة السلطان فامتنع أولا ثم أكرهوه وجاؤوا به إلى السلطان فطوى على ذلك حتى إذا استقام أمره وملك حضرة فاس الجديد قبض عليه وامتحنه إلى أن هلك وإلى الله عاقبة الأمور أخبار تلمسان واستيلاء السلطان أبي العباس عليها
كان السلطان أبو حمو بن يوسف الزياني قد عاد إلى تلمسان وثبت قدمه بها كما قلنا إلى أن خرج عليه ابنه أبو تاشفين آخر سنة ثمان وثمانين وسبعمائة فوقعت بينهما حروب وشرق أبوه بدائه ثم عادت له الكرة عليه في أخبار طويلة فاستمد أبو تاشفين السلطان أبا العباس فأمده بابنه الأمير أبي فارس ووزيره محمد بن يوسف بن علال عقد لهما على جيش كثيف من بني مرين وغيرهم فانتصر أبو تاشفين على أبيه فقتله وبعث برأسه إلى السلطان أبي العباس ثم تقدم فدخل تلمسان آخر سنة إحدى وتسعين وسبعمائة واستمر بها مقيما لدعوة السلطان أبي العباس فكان يخطب له على منابر تلمسان ويبعث إليه بالضريبة كل سنة كما شرط على نفسه عند توجيه العساكر معه واستمر على ذلك إلى أن مات سنة خمس وتسعين وسبعمائة فتغلب على تلمسان أخوه الأخير يوسف بن أبي حمو
ولما اتصل الخبر بالسلطان أبي العباس خرج من الحضرة إلى تازا ومن
____________________

هنالك بعث ابنه الأمير أبا فارس في العساكر إلى تلمسان فاستولى عليها وأقام فيها دعوة والده وفر يوسف بن أبي حمو إلى بعض الحصون فاعتصم به إلى أن كان ما نذكره وصول هدية صاحب مصر السلطان الظاهر برقوق إلى السلطان أبي العباس بتازا والسبب في ذلك
كان العلامة الرئيس ولي الدين ابن خلدون قد استوطن في آخر عمره مصر القاهرة ونزل من سلطانها بالمنزلة الرفيعة قال رحمه الله وكان يوسف ابن علي بن غانم أمير أولاد حسين من معقل ثم من أولاد جرار منهم قد حج سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة واتصل بصاحب مصر الملك الظاهر برقوق أول ملوك الجراكسة من الترك قال فتقدمت إلى السلطان المذكور فيه وأخبرته بمحله من قومه فأكرم تلقيه وحمله بعد قضاء حجه هدية إلى صاحب المغرب يطرفه فيها بتحف من بضائع بلده على عادة الملوك فلما قدم يوسف بها على السلطان أبي العباس أعظم موقعها وجلس في مجلس حفل لعرضها والمباهاة بها وشرع في المكافأة عليها بمتخير الجياد والبضائع والثياب حتى إذا استكمل من ذلك ما رضيه وعزم على بعثها مع يوسف بن علي حاملها الأول وإنه يبعثه بها من موضع مقامه بتازا اخترمته المنية دون ذلك
____________________

وفاة السلطان أبي العباس بن أبي سالم رحمه الله **
كانت وفاة السلطان أبي العباس بمحل مقامه من تازا وهو يشارف أحوال ابنه أبي فارس ووزيره صالح بن حمو الياباني وكان قد قدمهما لفتح تلمسان والبلاد الشرقية فأصابه حمامه هنالك ليلة الخميس السابع من محرم فاتح سنة ست وتسعين وسبعمائة وحمل إلى فاس فدفن بالقلة وسنه يومئذ تسع وثلاثون سنة فكانت دولته الثانية ست سنين وأربعة أشهر ومن وزرائه في هذه الدولة صالح بن حمو الياباني ومحمد بن يوسف بن علال الصنهاجي ومن حجابه أبو العباس أحمد بن علي القبائلي ومن كتابه الشريف أبو القاسم محمد بن عبد الله الحسني السبتي والقائد محمد بن موسى بن محمود الكردي ويحيى بن الحسن بن أبي دلامة التسولي ومن قضاته القاضي أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم اليزناسني قال في الجذوة وكان السلطان أبو العباس شاعرا مفلقا بديع التشبيه فمن نظمه قوله
( أما الهوى يا صاحبي فألقته ** وعهدته من عهد أيام الصبا )
( ورأيته قوت النفوس وحليها ** فتخذته دينا إلي ومذهبا )
( ولبست دون الناس منه حلة ** كان الوفاء لها طرازا مذهبا )
( لكن رأيت له الفراق منغصا ** لا بفراقنا لا مرحبا )
ومن أخبار السلطان أبي العباس ما حكاه في نفح الطيب أن الأديب الكاتب أبا الحسن علي ابن الوزير لسان الدين ابن الخطيب كان مصاحبا للسلطان أبي العباس هذا فحضر معه ذات يوم في بستان سح فيه ماء المذاكرة الهتان وقد أبدى الأصيل شواهد الاصفرار وأزمع النهار لما قدم الليل على الفرار فقال السلطان أبو العباس لما لان جانبه وسألت بين سرحات البستان جداوله ومذانبه
( يا فاس أني وأيم الله ذو شغف ** بكل ربع به مغناه يسبيني )
( وقد أنست بقربك منك يا آملي ** ونظرة فيكم بالأنس تحييني )
____________________


فأجابه أبو الحسن ابن الخطيب بقوله المصيب
( لا أوحش الله ربعا أنت زائره ** يا بهجة الملك والدنيا مع الدين )
( يا أحمد الحمد أبقاك الإله لنا ** فخر الملوك وسلطان السلاطين )
ومن أخباره أيضا أن كاتبه أبا زكرياء يحيى بن أحمد بن عبد المنان دخل عليه عشاء فقال له أنعم الله صباح مولانا فأنكر السلطان ذلك وظن أنه ثمل فتفطن أبو زكرياء لما صدر منه وتدارك ذلك فأنشد مرتجلا
( صبحته عند المساء فقال لي ** ماذا الكلام وظن ذلك مزاحا )
( فأجبته إشراق وجهك غرني ** حتى توهمت المساء صباحا ) الخبر عن دولة السلطان المستنصر بالله أبي فارس عبد العزيز ابن أبي العباس بن أبي سالم رحمه الله
من الاتفاق الغريب أن سلطان فاس والمغرب في هذا التاريخ كان اسمه عبد العزيز بن أحمد وسلطان تونس وإفريقية كان اسمه أيضا عبد العزيز بن أحمد وكانت ولايتهما في سنة واحدة إلا أن مدة الحفصي طالت جدا
أم هذا السلطان أم ولد اسمها جوهر صفته شاب السن ربعة من القوم أدعج العينين جميل الوجه
لما توفي السلطان أبو العباس بن أبي سالم رحمه الله بتازا كان ابنه أبو فارس هذا بتلمسان فاستدعاه رجال الدولة منها فقدم عليهم بتازا وبايعوه بها يوم السبت التاسع من محرم سنة ست وتسعين وسبعمائة ولما تم أمره أطلق أبا زيان بن أبي حمو الزياني وكان معتقلا عنده بفاس لالتجائه إلى أبيه من قبل في خبر ليس تفصيله من غرضنا وبعثه إلى تلمسان أميرا عليها من قبله فسار إليها أبو زيان وملكها وأقام فيها دعوة السلطان أبي فارس ثم
____________________

خرج عليه أخوه يوسف بن أبي حمو واتصل بأحياء بني عامر بن زغبة وعزم على الإجلاب عليه بهم فسرب أبو زيان فيهم الأموال فقتلوه وبعثوا إليه برأسه فسكنت أحوال تلمسان وذهبت الفتنة بذهاب يوسف واستقامت أمور دولة السلطان أبي فارس قاله ابن خلدون وهو آخر ما ورخه عن دولة المغرب
واعلم أن ما نسوقه بعد هذا من الأخبار عن هذه الدولة المرينية لم يسمح لنا الوقت بالوقوف عليه في تأليف يخصها أو موضوع يقص أخبارها نسقا وينصها وإنما تتبعنا ما أثبتناه من ذلك في مواضع ذكرت فيها بحسب التبع لا بالقصد الأول وعلى الله تعالى في الهداية إلى الصواب المعول بقية أخبار السلطان عبد العزيز ووفاته
قالوا كان السلطان عبد العزيز بن أبي العباس رحمه الله كثير الشفقة رقيق القلب منقبضا عن الغدر متوقفا في سفك الدماء وكان فارسا عارفا بركض الخيل ويحسن قرض الشعر ويحب سماعه فمن نظمه وقد نزل المطر يشكر الله تعالى عليه قوله
( الله يلطف بالعباد فواجب ** أن يشكروا في كل حال نعمته )
( فهو الذي فيهم ينزل غيثه ** من بعد ما قنطوا وينشر رحمته )
توفي رحمه الله يوم السبت ثامن صفر سنة تسع وتسعين وسبعمائة ودفن مع أبيه بالقلة فكانت دولته ثلاث سنين وشهرا ومن وزرائه صالح بن حمو الياباني ويحيى بن علال بن آمصمود الهسكوري ومن كتابه يحيى بن الحسن ابن أبي دلامة ومن قضاته عبد الحليم بن أبي إسحاق اليزناسني رحمهم الله تعالى بمنه
____________________

الخبر عن دولة السلطان المستنصر بالله أبي عامر عبد الله ابن أبي العباس بن أبي سالم رحمه الله تعالى
هذا السلطان شقيق الذي قبله أمه الجوهر المتقدمة صفته أدعج العينين حسن الأنف لامي العذار بويع بعد أخيه عبد العزيز يوم السبت الثامن من صفر سنة تسع وتسعين وسبعمائة وكان التصرف والنقض والإبرام في هذه المدة كلها للوزراء وتوفي السلطان المذكور بعد صلاة العصر من يوم الثلاثاء الموفي ثلاثين من جمادى الآخرة سنة ثمانمائة فكانت دولته سنة وخمسة أشهر سوى أيام ومن وزرائه صالح بن حمو ويحيى بن علال ومن قضاته عبد الرحيم اليزناسني ومن حجابه أبو العباس أحمد بن علي القبائلي وفارح بن مهدي العلج والله تعالى أعلم
وأما أخبار الغني بالله ابن الأحمر بالأندلس فإنه كان أسقط رياسة الجهاد من بني مرين بها ومحا رسمها من مملكته أيام أجاز عبد الرحمن بن أبي يفلوسن للتشغيب على أبي بكر بن غازي بن الكاس حسبما تقدم وصار أمر الغزاة والمجاهدين إليه وباشر أحوالهم بنفسه واستمر الحال على ذلك إلى أن هلك سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة فولي مكانه ابنه أبو الحجاج يوسف وبايعه الناس وقام بأمره خالد مولى أبيه وتقبض على إخوته سعد ومحمد ونصر فكان آخر العهد بهم ولم يوقف لهم بعد على خبر ثم سعى عنده في خالد القائم بدولته وأنه أعد السم لقتله وأن يحيى بن الصائغ اليهودي طبيب دارهم قد داخله في ذلك ففتك بخالد وتناوشته السيوف بين يديه لسنة أو نحوها من ملكه ثم حبس الطبيب المذكور فذبح في محبسه ثم هلك سنة أربع وتسعين وسبعمائة لسنتين أو نحوها من ولايته
وقد وقفت لبعض الإصبنيوليين واسمه منويل باولو القشتيلي على كتاب موضوع في أخبار المغرب الأقصى فنقلت منه بعض أخبار لم أجدها إلا عنده وهو وإن كان ينقل الغث والسمين والرخيص والثمين إلا أن الناقد
____________________

البصير يميز حصباءه من دره ويفرق بين حشفه وثمره فمن ذلك أنه حكى عن السلطان أبي الحجاج المذكور ما صورته قال كانت مراسلات السلطان المريني يعني السلطان أبا العباس مع السلطان يوسف بن الغني بالله صاحب غرناطة حسنة في الظاهر تدل على الموافقة والمحبة وكان المريني في الباطن يحب الاستيلاء على مملكة غرناطة ولما لم يمكنه ذلك بالسيف عدل إلى أعمال الحيلة فأهدى إلى السلطان أبي الحجاج كسى رفيعة أحدها مسمومة فلبسها فهلك لحينه ومع ذلك فلم يدرك المريني غرضه فإنه لم يلبث إلا يسيرا حتى توفي أيضا اه ولم توفي أبو الحجاج بويع ابنه محمد بن يوسف وقام بأمره القائد أبو عبد الله محمد الخصاصي من صنائع أبيه قال ابن خلدون والحال على ذلك لهذا العهد ولنذكر ما كان في هذه المدة من الأحداث
ففي سنة خمسين وسبعمائة كان الوباء الذي عم المسكونة شرقا وغربا على ما نبهنا عليه فيما مضى
وفي سنة خمس وستين وسبعمائة توفي الولي الزاهد أبو العباس أحمد ابن عمر بن محمد بن عاشر الأندلسي نزيل سلا العارف المشهور قال أبو عبد الله بن سعد التلمساني في كتابه النجم الثاقب فيما لأولياء الله من المناقب كان ابن عاشر أحد الأولياء الأبدال معدودا في كبار العلماء مشهورا بإجابة الدعاء معروفا بالكرامات مقدما في صدور الزهاد منقطعا عن الدنيا وأهلها ولو كانوا من صالحي العباد ملازما للقبور في الخلاء المتصل ببحر مدينة سلا منفردا عن الخلق لا يفكر في أمر الرزق وله أخبار جليلة وكرامات عجيبة مشهورة ممن جمع الله له العلم والعمل وألقى عليه القبول من الخلق شديد الهيبة عظيم الوقار كثير الخشية طويل التفكير والاعتبار قصده أمير المؤمنين أبو عنان وارتحل إليه سنة سبع وخمسين وسبعمائة فوقف ببابه طويلا فلم يأذن له وانصرف وقد امتلأ قلبه من حبه وإجلاله ثم عاود
____________________

الوقوف ببابه مرارا فما وصل إليه فبعث إليه بعض أولاده بكتاب كتبه إليه يستعطفه لزيارته ورؤيته فأجابه بما قطع رجاءه منه وأيأسه من لقائه فاشتد حزنه وقال هذا ولي من أولياء الله تعالى حجبه الله عنا اه ومناقب الشيخ ابن عاشر وكراماته كثيرة وقد ألف فيها أبو العباس بن عاشر الحافي من علماء سلا كتابه المسمى بتحفة الزائر في مناقب الشيخ ابن عاشر فانظره
وفي سنة ست وسبعين وسبعمائة وهي السنة التي قتل فيها ابن الخطيب كان الجوع بالمغرب قال أبو العباس ابن الخطيب القسنطيني المعروف بابن قنفذ في كتابه أنس الفقير ما حاصله أنه رجع من هجرته بالمغرب الأقصى في السنة المذكورة إلى بلده قسنطينة فاجتاز في طريقه بتلمسان قال وفي هذه السنة كانت المجاعة العظيمة وعم الخراب المغرب فأقمت بتلمسان نحو شهر أنتظر تيسر سلوك الطريق فالتجأت إلى قبر الشيخ أبي مدين ودعوت الله عنده فوقع ما أملته وارتحلت بعد أيام يسيرة فرأيت في الطريق من الخير ما كان يتعجب منه من شاهده وكان أمر الطريق في الخوف والجوع بحيث أن كل من نقدم عليه يتعجب من وصولنا سالمين ثم عند ارتحالنا من عنده يتأسف علينا حتى أن منهم من يسمعنا ضرب الأكف خلفنا تحسرا علينا حتى انتهى سفرنا على وفق اختيارنا والحمد لله
وفي سنة ثمان وسبعين وسبعمائة توفي الشيخ الفقيه المحدث أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن عمران الفنزاري السلاوي المعروف بابن المجراد صاحب لامية الجمل وشرح الدرر وغيرهما من التآليف الحسان قال صاحب بلغة الأمنية ومقصد البيت فيمن كان بسبتة في الدولة المرينية من مدرس وأستاذ وطبيب في حق الشيخ المذكور كان محدثا حافظا راوية له معرفة بالرجال والمغازي والسير وكان رجلا صالحا حسن السيرة صادق اللهجة انتفع به الناس وظهرت بركته على كل من عرفه أو لازم مجلسه أو قرأ عليه من صغير أو كبير قال وذلك عندنا معروف بسبتة
____________________

مشهور بين أهلها وانتقل إلى بلده سلا وتوفي بها في السنة المذكورة قلت وقبره مشهور بها إلى الآن وعليه قبة صغيرة وهو من مزارات سلا خارج باب المعلقة منها عن يمين الخارج على نحو غلوة وأهل سلا يسمونه سيدي الإمام السلاوي رحمه الله ورضي عنه
وفي سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة توفي الشيخ الإمام العارف المحقق الرباني أبو عبد الله محمد بن إبراهيم النفزي المعروف بابن عباد شارح الحكم العطائية وأحد تلامذة الشيخ ابن عاشر المذكور آنفا قال صاحبه وأخوه في الله الشيخ أبو زكرياء السراج في حقه ما نصه كان حسن السمت طويل الصمت كثير الوقار والحياء جميل اللقاء حسن الخلق والخلق على الهمة متواضعا معظما عند الخاصة والعامة نشأ ببلدة رندة على أكمل طهارة وعفاف وصيانة وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين ثم اشتغل بعد بطلب العلوم النحوية والأدبية والأصولية والفروعية حتى رأس فيها وحصل معانيها ثم أخذ في طريق الصوفية والمباحثة عن الأسرار الإلهية حتى أشير إليه وتكلم في علوم الأحوال والمقامات والعلل والآفات وألف فيها تآليف عجيبة وتصانيف بديعة غريبة وله أجوبة كبيرة في مسائل العلوم نحو مجلدين ودرس كتبا وحفظها كلها أو جلها إلى أن قال ولقي بسلا الشيخ الحاج الصالح السني الزاهد الورع أحمد بن عاشر وأقام معه ومع أصحابه سنين عديدة قال رحمه الله قصدتهم لوجدان السلامة معهم وتوفي رحمه الله بفاس بعد صلاة العصر من يوم الجمعة ثالث رجب من السنة المذكورة وحضر جنازته السلطان أبو العباس بن أبي سالم فمن دونه وهمت العامة بكسر نعشه تبركا به رحمه الله ورضي عنه
ومن فوائده التي نقلها عن شيخه ابن عامر ما ذكره في رسائله قال كنت قد ما خرجت في يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم صائما إلى ساحل البحر فوجدت هنالك سيدي الحاج أحمد بن عاشر رحمه الله ورضي عنه وجماعة من
____________________

أصحابه ومعهم طعام يأكلونه فأرادوا مني الأكل فقلت إني صائم فنظر إلي سيدي الحاج نظرة منكرة وقال لي هذا يوم فرح وسرور يستقبح في مثله الصوم كالعيد فتأملت قوله فوجدته حقا وكأنه أيقظني من النوم اه
واعلم أنه في آخر هذا القرن الثامن تبدلت أحوال المغرب بل وأحوال المشرق ونسخ الكثير من عوائد الناس ومألوفاتهم وأزيائهم قال ابن خلدون في مقدمة تاريخه بعد أن ذكر أن الأحوال العامة للآفاق والأجيال والأعصار هي أس المؤرخ الذي تنبني عليه أكثر مقاصده ما نصه وأما لهذا العهد وهو آخر المائة الثامنة فقد انقلبت أحوال المغرب الذي نحن شاهدوه وتبدلت بالجملة واعتاض من أجيال البربر أهله على القدم بمن طرأ فيه من لدن المائة الخامسة من أجيال العرب بما كثروهم وغلبوهم وانتزعوا منهم عامة الأوطان وشاركوهم فيما بقي من البلدان بملكتهم وبأسهم هذا إلى ما نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها فقلص من ظلالها وفل من حدها وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أحوالها وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر فخربت الأمصار والمصانع ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبدل الساكن وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة والله وارث الأرض ومن عليها وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث إلى آخر كلامه رحمه الله فافهم هذه الجملة وتفطن لأحوال الدول التي سردنا أخبارها فيما مضى وأحوال التي نسرد أخبارها فيما بعد وتأمل الفرق بين ذلك والسبب فيه والله تعالى الموفق للصواب بمنه
____________________

الخبر عن دولة السلطان أبي سعيد عثمان بن أبي العباس ابن أبي سالم
هذا السلطان هو ثالث الإخوة الأشقاء من بني أبي العباس الذين ولوا الأمر من بعد ولاء أمه الجواهر أم أخويه قبله بويع بعد صلاة العصر له من يوم الثلاثاء الموفي ثلاثين من جمادى الآخرة سنة ثمانمائة وسنه يومئذ ست عشرة سنة وكان النقض والإبرام وسائر التصرفات في دولته للوزراء والحجاب والسلطان متفرغ لاستيفاء لذاته ومن أكبر حجابه أبو العباس القبائلي الذي نذكر خبره الآن حجابة أبي العباس القبائلي ونكبته ومقتله والسبب في ذلك
بيت بني القبائلي بيت مشهور في الوزارة والحجابة والكتابة من لدن الدولة الموحدية بمراكش إلى هذا التاريخ وكان الرئيس الفقيه أبو العباس أحمد بن علي القبائلي كاتبا مشهورا وحاجبا مذكورا وكان قد بذ الأقران وتصدر الأعيان وبلغ من الجاه ونفوذ الكلمة مبلغا عظيما وكان يحابي بالخطط السلطانية الأقارب والأرحام لا يعدل بها عمن سواهم فاضطغنت عليه القلوب وكثرت فيه السعايات إلى أن نفذ أمر الله فأوقع به السلطان أبو سعيد وقعة شنعاء كان من خبرها أنه كان للحاجب المذكور ولد اسمه عبد الرحمن وكان من فضلاء وقته وكان لعبد الرحمن هذا ولد اسمه علي وكان من نجباء الأبناء فكان لجده أبي العباس لذلك ميل إليه ومحبة وافتتان به فاتفق أن مرض هذا الحافد ذات يوم فنزل جده أبو العباس من الحضرة بفاس الجديد لعيادته بدار ولده عبد الرحمن من عدوة القرويين من فاس القديم
____________________

وكانت الدار بزنقة الجيلة من الطالعة فبات الشيخ عند حافده تلك الليلة وكان منذ ولي خطة الحجابة لم يغب عن دار الملك ليلة واحدة بل كان يأخذ في ذلك بالحزم بحيث يسد أبواب الحضرة ويفتحها ويباشر سائر الأمور السلطانية بنفسه فلما أراد الله إنفاذ قدره غطى على عقله وبصره فتساهل في تلك الليلة وبعث ولده أبا القاسم ليقوم مقامه في غلق الأبواب وفتحها مع صاحب السقيف ومساهمه في القيام بالأمور السلطانية أبي محمد عبد الله الطريفي الآتي ذكره فغلقا الأبواب على العادة ولما كان الصباح من الغد تقدم الولد أبو القاسم لأخذ المفاتيح من دار الخلافة فأخرجت إليه وتولى فتح الأبواب وحده دون أن يحضر الطريفي المشارك له في ولاية السقيف فلما جاء أبو محمد المذكور ورأى الأبواب مفتحة بدون حضوره أخذه من ذلك ما قدم وما حدث وأسرها في نفسه حتى إذا كان المساء وحضر الوقت المعهود لغلق الأبواب طلع للحضرة ولد آخر من ولد الحاجب القبائلي يعرف بأبي سعيد فبادر أبو محمد فسد الأبواب في وجهه قبل أن يصل إليه وأمسك المفاتيح عنده واستبد بها فطلب منه أبو سعيد أن يفتح له الباب فتجهمه وامتنع وكأنه أمر دبر بليل ثم تقدم القائد أبو محمد المذكور إلى السلطان أبي سعيد فأعلمه بما اتفق له مع أولاد الحاجب فأوعز إليه السلطان أن لا يفتح الباب بعد غلقه إلا وقت فتحه المعتاد وزاد في الوصية بأن لا يفتح ولا يغلق إلا بمحضر السعيد ابن السلطان أبي عامر رحمه الله ولما رجع أبو سعيد إلى والده بعدوة القرويين من فاس أعلمه بما اتفق له مع القائد الطريفي فامتلأ غيظا وقامت قيامته وكانت فيه دالة على السلطان فتخلف عن الحضور ولم يذكر ما قالته الحكماء إذا عاديت من يملك فلا تلمه إنه يهلكك ثم استعطفه السلطان فأبى أن يعطف ثم بعث إليه ببراءة بخطه ليزيل ما بصدره من الموجدة فكتب الحاجب جوابها وأقسم أن لا يطأ بساطا فيه فارح بن مهدي العلج وكان فارح هذا بعين التجلة من السلطان فلما وقف السلطان أبو سعيد على جواب الحاجب حمى أنفه وأظلمت الدنيا في عينيه وأمر بالإيقاع بالحاجب في الحين فذبح هو وولده عبد الرحمن يوم الخميس الموفي ثلاثين
____________________

من شوال سنة اثنتين وثمانمائة وكان عبد الرحمن هذا فاضلا شاعرا فمن شعره في الغزل قوله
( اتسمع في الهوى قول اللواحي ** وقد أبصرت خشف بني رياح )
( غزال خلف الصب المعني ** من الوجد المبرح غير صاح )
( وقد قتلت ولا إثم عليها ** مراض جفونه كل الصحاح )
( يقول ولحظه بالعقل يزري ** علام تطيل وصفي وامتداحي )
( فقلت فنون سحر فيك راقت ** قضت للقلب بالعشق الصراح )
( جبينك والمقلد والثنايا ** صباح في صباح في صباح )
وبقي الحافد أبو الحسن علي بن عبد الرحمن المذكور مرتبا في جملة الكتاب وكان فاضلا شاعرا أيضا ولما مرض السلطان أبو سعيد في شعبان سنة سبع وثمانمائة وصح من مرضه وهنأته الشعراء بقصائد كثيرة فكان من جملتهم أبو الحسن المذكور فقال
( هنيئا لنا ولكل الأنام ** براحة فخر الملوك الهمام )
( إمام أقام رسوم العلا ** وحل من المجد أعلى السنام )
( به قرت العين لما بدا ** صحيحا وما إن به من سقام )
( وهل هو إلا كبدر الدجا ** يواري قليلا وراء الغمام )
( ويظهر طورا فيجلو به ** عن الناس يا صاح ساجي الظلام )
( أو الليث يعكف في غيله ** فتحذر منه السباح اهتجام )
( أمولاي عثمان بحر الندى ** ومردي العداة ونجل الكرام )
( لقد رفع الله مقداركم ** فنفسي الفداء لكم من إمام )
( أمولاي عبدك قد ضره ** أفول رضاكم وبعد المرام )
( وأضحى كئيبا لإبعادكم ** مشوقا لتقبيل ذاك المقام )
( فكن راحما يا إمام الورى ** عطوفا بمملوكك المستهام )
( لعل الذي ناله ينقضي ** وتشمل منك هبات جسام )
( فأيدك الله بالنصر ما ** ترنم فوق الغصون حمام )
____________________

حجابة فارح بن مهدي وأوليته وسيرته
قال ابن خلدون يا فراح بن مهدي من معلوجي السلطان يعني أبا العباس وأصله من موالي بني زيان ملوك تلمسان اه وقال في الجذوة هو من موالي السلطان أبي سعيد بن أبي العباس ولا منافاة بين الكلامين والله أعلم ولما قتل أبو العباس القبائلي ولي الحجابة من بعده فارح بن مهدي هذا قال في الجذوة ولم يكن من أهل العلم لكنه كان شيخا مجربا للأمور عارفا مجيدا في التدبير قد أعطى الرياسة حقها والخطط مستحقها وكان ممسكا عنانه فلا يميل مع نفسه ولا يسحب أردانه ولا يوحش سلطانه موسوما عند الخلافة بالأمانة ملحوظا لديها بعين المروة والصيانة وكان السلطان أبو سعيد يعتني به لأجل كبر سنه وتربيته الحرة آمنه بنت السلطان أبي العباس كانت تبدي له وجهها في حالي صغرها وكبرها فكانت له بذلك مزية لم تكن لغيره بهذا ذكره التاورتي ولعل فيه تعريضا بالحاجب قبله ولما تكلم أبو عبد الله محمد العربي الفاسي في كتابه مرآة المحاسن على مدينة تيجساس وصفها بقوله إنها في شرقي تطاوين على مسيرة يوم منها في موضع كثير الحجارة والصخر في سفح جبل من غربيها وتحتها من شمالها جرف كثير الصخر عظيمة على مكسر موج البحر ولها نهر نفاع يجلب إليها منه جدول ولها بسيط تركبه الجداول من كل جهة فتسقي الزرع والكتان والثمار فأهلها في أمن من القحط إلى أن قال ولم تزل عامرة إلى حدود ثمانمائة فجلا عنها أهلها بسبب جور فارح بن مهدي الوالي عليها من قبل بني مرين فخلت من سكانها وانتقلوا إلى القبائل وغيرها ولم يزل سورها ماثلا إلى الآن اه قلت وفي هذه المدة خربت تطاوين القديمة أيضا فزعم منويل في تاريخه أن قراصين المسلمين من أهل تطاوين وغيرهم
____________________

كانت تغير على سواحل أصبانيا وتغنم مراكبها ولما كانت سنة ألف وأربعمائة مسيحية الموافقة لسنة ثلاث وثمانمائة هجرية بعث الطاغية الريكي الثالث شكوادرة لغزو تطاوين ومراكبها فانتهت إلى وادي مرتيل وأفسدت قراصين المسلمين التي به ثم نزلت عساكر الإصبنيول للبر فاقتحمت مدينة تطاوين بعد أن جلا أهلها عنها وخربتها وعاثت فيها وبقيت خربة نحو تسعين سنة ثم جدد بناؤها على يد الرئيس أبي الحسن علي المنظري الغرناطي كما سيأتي وكانت وفاة فارح بن مهدي في الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة ست وثمانمائة والله تعالى أعلم حجابة أبي محمد الطريفي وسيرته
لما توفي الحاجب فارح بن مهدي ولي الحجابة من بعده أبو محمد عبد الله الطريفي وكان من فضلاء الحجاب وهو الذي بنى مسجد السوق الكبير بفاس الجديد وحبس عليه كتبا كثيرة فكان ذلك من حسناته الباقية نفعه الله بقصده حدوث الفتنة بين السلطان أبي سعيد والسلطان أبي فارس الحفصي والسبب في ذلك
لما توفي السلطان أبو العباس الحفصي صاحب تونس ولي الأمر من بعده ابنه أبو فارس المذكور فوزع الوظائف من الإمارة والوزارة وولاية الأعمال على إخوته فاعتضد بهم وكان من جملتهم أخوه أبو بكر بن أبي العباس بقسنطينة فنازعه بها ابن عمه الأمير أبو عبد الله محمد بن أبي زكرياء الحفصي صاحب بونة وألح عليه في الحصار فصمد إليه السلطان أبو فارس الحفصي وأوقع به على سيبوس وقعة شنعاء انتهت به هزيمتها إلى فاس مستصرخا صاحبها وهو يومئذ أبو فارس المريني فأقام أبو عبد الله بفاس
____________________

إلى سنة عشر وثمانمائة في دولة السلطان أبي سعيد فاتفق أن فسد ما بين السلطان أبي فارس الحفصي وبين أعراب إفريقية من سليم فقدمت طائفة منهم حضرة فاس مستنجدين السلطان أبا سعيد على صاحبهم أبي فارس فألفوا عنده الأمير أبا عبد الله المنهزم بسيبوس كما مر فعقد له السلطان أبو سعيد على جيش من بني مرين وغيرهم وبعثه مع العرب فلما انتهى إلى بجاية تلقته أعراب إفريقية طائعة وهون عليه المرابط شيخ حكيم منها أمر تونس فرد الجيش المريني وقصدها بمن انضم إليه من الحشود فأخذ بجاية من أبي يحيى وفر في البحر وعقد أبو عبد الله عليها لابنه المنصور ثم زحف إلى السلطان أبي فارس فخالفه إلى بجاية فافتكها من يد ابنه المنصور ووجه به مع جماعة من كبار أهلها معتقلين إلى الحضرة وعقد عليها لأحمد ابن أخيه ونهض لقتال ابن عمه أبي عبد الله المذكور فنزع المرابط عنه إلى السلطان أبي فارس لعهد كان بينهما فانفض جمع أبي عبد الله وقتل واحتز رأسه ووجهه السلطان أبو فارس مع من علقه بباب المحروق أحد أبواب فاس إغاظة للسلطان أبي سعيد وذلك سنة اثنتي عشرة وثمانمائة ثم تحرك السلطان أبو فارس إلى جهة المغرب قاصدا أخذ الثار من السلطان أبي سعيد فاستولى على تلمسان ثم قصد حضرة فاس فلما شارفها جنح السلطان أبو سعيد إلى السلم فوجه إليه بهدايا جليلة فقبل ذلك أبو فارس وكافأ عليه وانكفأ راجعا إلى حضرته ولحقته في طريقه بيعة أهل فاس وانتظم له ملك المغرب وبايعه صاحب الأندلس أيضا قاله صاحب الخلاصة النقية وهو الأديب أبو عبد الله محمد الباجي أحد كتاب الدولة التركية بتونس
____________________

+ اسيتلاء البرتغال على مدينة سبتة أعادها الله
كان جنس البرتغال وهو البردقيز في هذه السنين قد كثر بعد القلة واعتز بعد الذلة وظهر بعد الخمول وانتعش بعد الذبول فانتشر في الأقطار وسما إلى تملك الأمصار فانتهى إلى أطراف السودان بل وأطراف الصين على ما قيل وألح على سواحل المغرب الأقصى فاستولى في سنة ثمان عشرة وثمانمائة على مدينة سبتة أعادها الله بعد محاصرته لها حصارا طويلا وسلطان المغرب يومئذ أبو سعيد بن أحمد صاحب الترجمة وسلطان البرتغال يومئذ خوان الأول
وذكر منويل في تاريخه أن سلطان المغرب يومئذ عبد الله بن أحمد أخو أبي سعيد المذكور وسيأتي كلامه بتمامه
وذكر صاحب نشر المثاني في كيفية استيلاء البرتغال على سبتة قصة تشبه قصة قصير مع الزباء قال رأيت بخط من يظن به التثبت والصدق أن النصارى جاؤوا بصناديق مقفلة يوهمون أن بها سلعا وأنزلوها بالمرسى كعادة المعاهدين وذلك صبيحة يوم الجمعة من بعض شهور سنة ثمان عشرة وثمانمائة وكانت تلك الصناديق مملوءة رجالا عددهم أربعة آلاف من الشباب المقاتلة فخرجوا على حين غفلة من المسلمين واستولوا على البلد وجاء أهله إلى سلطان فاس مستصرخين له وعليهم المسوح والشعر والوبر والنعال السود رجالا ونساء وولدانا فأنزلهم بملاح المسلمين ثم ردهم إلى الفحص قرب بلادهم لعجزه عن نصرتهم حتى تفرقوا في البلاد والأمر لله وحده قال وسمعت من بعضهم أن الذي جرأ النصارى على ارتكاب تلك المكيدة هو أنهم كانوا قد قاطعوا أمير سبتة على أن يفوض إليهم التصرف في المرسى والاستبداد بغلتها ويبذلوا له خراجا معلوما في كل سنة فكان حكم المرسى حينئذ لهم دون المسلمين ولو كان المسلمون هم الذين يلون حكم المرسى ما تركوهم ينزلون ذلك العدد من الصناديق مقفلة لا يعلمون ما فيها والله أعلم بحقيقة الأمر
____________________
1- 92 اسيتلاء البرتغال على مدينة سبتة أعادها الله
كان جنس البرتغال وهو البردقيز في هذه السنين قد كثر بعد القلة واعتز بعد الذلة وظهر بعد الخمول وانتعش بعد الذبول فانتشر في الأقطار وسما إلى تملك الأمصار فانتهى إلى أطراف السودان بل وأطراف الصين على ما قيل وألح على سواحل المغرب الأقصى فاستولى في سنة ثمان عشرة وثمانمائة على مدينة سبتة أعادها الله بعد محاصرته لها حصارا طويلا وسلطان المغرب يومئذ أبو سعيد بن أحمد صاحب الترجمة وسلطان البرتغال يومئذ خوان الأول
وذكر منويل في تاريخه أن سلطان المغرب يومئذ عبد الله بن أحمد أخو أبي سعيد المذكور وسيأتي كلامه بتمامه
وذكر صاحب نشر المثاني في كيفية استيلاء البرتغال على سبتة قصة تشبه قصة قصير مع الزباء قال رأيت بخط من يظن به التثبت والصدق أن النصارى جاؤوا بصناديق مقفلة يوهمون أن بها سلعا وأنزلوها بالمرسى كعادة المعاهدين وذلك صبيحة يوم الجمعة من بعض شهور سنة ثمان عشرة وثمانمائة وكانت تلك الصناديق مملوءة رجالا عددهم أربعة آلاف من الشباب المقاتلة فخرجوا على حين غفلة من المسلمين واستولوا على البلد وجاء أهله إلى سلطان فاس مستصرخين له وعليهم المسوح والشعر والوبر والنعال السود رجالا ونساء وولدانا فأنزلهم بملاح المسلمين ثم ردهم إلى الفحص قرب بلادهم لعجزه عن نصرتهم حتى تفرقوا في البلاد والأمر لله وحده قال وسمعت من بعضهم أن الذي جرأ النصارى على ارتكاب تلك المكيدة هو أنهم كانوا قد قاطعوا أمير سبتة على أن يفوض إليهم التصرف في المرسى والاستبداد بغلتها ويبذلوا له خراجا معلوما في كل سنة فكان حكم المرسى حينئذ لهم دون المسلمين ولو كان المسلمون هم الذين يلون حكم المرسى ما تركوهم ينزلون ذلك العدد من الصناديق مقفلة لا يعلمون ما فيها والله أعلم بحقيقة الأم


ولما استولى البرتغال على سبتة اعتنى بها وحصنها واستمرت في ملكتهم مدة تزيد على مائتين وخمسين سنة ثم ملكها منهم طاغية الإصبنيول في سبيل مهادنة وشروط انعقدت بينهم بمدنية أشبونة في حدود الثمانين وألف وأخبار السلطان أبي سعيد كثيرة وقد أرخ دولته وسيرته الكاتب أبو إسحاق إبراهيم ابن أحمد التاورتي رحمه الله وتوفي السلطان المذكور سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة وولي الأمر من بعده ابنه عبد الحق الأخير كذا ذكره في جذوة الاقتباس وقد ذكر منويل في أمر أبي سعيد ووفاته ما يخالف هذا قال لما كانت دولة السلطان أبي سعيد المريني كان المسلمون أهل جبل طارق قد سئموا ملكة ابن الأحمر صاحب غرناطة وتحققوا بأن المريني أقوى منه شوكة وأقدر على تخليصهم مما عسى أن ينالهم به الإصبنيول من حصار ونحوه فبعثوه إليه يخطبون ولايته ويعرضون عليه الدخول في طاعته إن هو أمدهم بما يدفعون به في نحر ابن الأحمر فأعجب أبا سعيد ذلك وللحين بعث إليهم أخاه عبد الله بن أحمد المعروف بسيدي عبو ومعه طائفة من الجيش إمدادا لهم وكان قصد أبي سعيد ببعث أخيه عبد الله الحصول على إحدى الفائدتين أما فتح جبل طارق إن كان الظهور له أو الاستراحة منه إن كان عليه لأنه كان يشوش عليه فجاء الأخ المذكور حتى نزل بإزاء جبل طارق ففتح أهل البلد الباب وأدخلوه وأدخلوا جنده وتحصن قائد الغرناطي وعسكره بقلعة الجبل وطير الأعلام بذلك إلى صاحبه فبعث إليه جيشا قويت به نفسه فنزل من القلعة وانضم إليه مدده وقاتلوا جيش المريني فهزموه وقبضوا على عبد الله باليد وعلى جماعة من أصحابه وبعثوا بهم أسرى إلى صاحب غرناطة فعمد صاحب غرناطة إلى عبد الله وأنزله في محل معتبر وأحسن إليه فتخلف ظن السلطان أبي سعيد فيما كان يحب لأخيه من التلف وغاظه فعل ابن الأحمر معه من الإحسان والإبقاء عليه ثم أن أبا سعيد دبر حيلة بأن بعث من قبله رجلا إلى أخيه ليسقيه السم ويستريح
____________________

منه مع أن غوغاء أهل المغرب وقبائله المنحرفة عن السلطان كانوا قد تشوقوا لقدومه عليهم وقيامهم معه فبطلت حيلة أبي سعيد في السم ولم يحصل على طائل ثم إن ابن الأحمر اتفق مع عبد الله على أن يمده بالعسكر والمال ويسرحه إلى المغرب ليستولي على ملكه ويأخذ له بالثأر من أخيه فقبل عبد الله ذلك وأمده ابن الأحمر وسرحه إلى المغرب فلما احتل به تبعه عدد وافر من قبائله الذين كانوا مستثقلين لوطأة أبي سعيد فنهض إليه أبو سعيد فكانت الكرة عليه ورجع مفلولا في يسير من الجند إلى فاس فتقبض عليه أهلها وسجنوه وأعلنوا بنصر أخيه عبد الله وفتحوا الباب فدخل الحضرة واستولى عليها وتم أمره وسجن أخاه أبا سعيد إلى أن مات قال ولما استقل عبد الله بأمر المغرب كله هدأت الرعية واستقامت الأحوال إلا أنه تكدر عيشه بذهاب سبتة التي استولى عليها طاغية البرتغال خوان الأول بعد ما حاصرها أشد الحصار وكان ذلك على السلطان من أعظم النحوس وتكدر المسلمون غاية لفوات هذه المدينة العظيمة منهم ثم ثاروا على السلطان عبد الله واعتورته رماحهم حتى فاظ ولما قتل تنازع الملك بعده اثنان من اخوته وبعد قتال شديد ولم ينتصف أحد منهما من صاحبه اتفق أهل الحل والعقد على أن يولوا عبد الحق بن أبي سعيد اه كلام منويل وهذا السلطان عبد الله الذي زاده منويل بين أبي سعيد وعبد الحق لم يذكره صاحب جذوة الاقتباس ويبعد أن يكون هذا الخبر الذي ساقه منويل لا أصل له والله أعلم بحقيقة الأمر
ومن جملة حجاب السلطان أبي سعيد الرئيس أبو فارس عبد العزيز بن أحمد الملياني قال في الجذوة أصله من زرهون وتولى حجابة السلطان المذكور قال فغدر مولاه ومخدومه وهتك ستره وخرب داره وعبث بحريمه وقتل أولاده وإخوانه ورفع الأذناب وحط الرؤساء وكان فساد المغرب على يده وقد ذكره التاورتي فأثنى عليه قال في الجذوة
____________________

ووجدت في طرة ذمه وتنقيصه والله أعلم
ومن وزراء السلطان أبي سعيد صالح بن حمو الياباني ويحيى بن علال بن آمصمود الهسكوري وقد تقدم ذكرهما ومن كتابه الفقيه الأديب أبو زكرياء يحيى بن أبي الحسن بن أبي دلامة وكان صاحب العلامة عند السلطان المذكور وممن شهد له أهل عصره بالتبريز في النظم الفائق ثم ابنه محمد من بعده ومن قضاته الفقيه أبو محمد عبد الرحيم بن إبراهيم اليزناسني وقد تقدم ذكره والله تعالى أعلم الخبر عن دولة السلطان عبد الحق بن أبي سعيد ابن أبي العباس بن أبي سالم المريني رحمه الله
هذا السلطان هو آخر ملوك بني عبد الحق من بني مرين وهو أطولهم مدة وأعظمهم محنة وشدة وهو أبو محمد عبد الحق بن أبي سعيد عثمان ابن أبي العباس أحمد بن أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن علي بن أبي سعيد عثمان بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق الزناتي المريني أمه علجة إصبنيولية على ما ذكره منويل وفي أيامه ضعف أمر بني مرين جدا وتداعى إلى الانحلال وكان التصرف للوزراء والحجاب شأن دولة أبيه من قبله على نذكره زحف البرتغال إلى طنجة ورجوعهم عنها بالخيبة
قال منويل كان لطاغية البرتغال خمسة إخوة شجعان فأرادوا أن يدركوا فخرا باستيلائهم على ثغر من ثغور المغرب يضيفونه إلى سبتة ويوسعون به ما ملكوه من أعمالها فركبوا قراصينهم في ستة آلاف عسكري ونزلوا بسبتة ثم زحفوا إلى طنجة سنة إحدى وأربعين وثمانمائة وحاصروها وضيقوا على أهلها ثم عاجلهم سلطان فاس وسلطان مراكش وأرهقوهم عن
____________________

فتحها وأوقعوا بهم وقبضوا على كبير عسكرهم فرناندو وجماعة من أصحابه وعادوا بهم أسرى إلى فاس فلما صارت عظماء البرتغال في يد المسلمين وأسرهم جنحوا إلى السلم فسالمهم المسلمون على أن يردوا لهم سبتة ويسرحوا لهم كبيرهم وأصحابه الذين معه فرضي البرتغال بذلك وانعقد الصلح عليه ثم كان من قدر الله أن هلك كبير البرتغال الذي وقع الشرط عليه في سجن فاس واستمرت سبتة في يد العدو وعد ذلك من سوء بخت المسلمين والأمر لله وحده
وقد ذكر صاحب المرآة أن البرتغال استولى على طنجة سنة إحدى وأربعين وثمانمائة وهو غير صواب وإنما كان الحصار فقط والله تعالى أعلم أخبار الوزراء والحجاب وتصرفاتهم
كان من جملة وزراء السلطان عبد الحق الوزير صالح بن صالح بن حمو الياباني قالوا وهو الذي أوقع بالفقيه القاضي أبي محمد عبد الرحيم ابن إبراهيم اليزناسني قتله ذبحا سنة أربع وثلاثين وثمانمائة ومن وزراء السلطان المذكور الوزير أبو زكرياء يحيى بن زيان الوطاسي قالوا وفي سنة ست وأربعين وثمانمائة غزا الوزير المذكور الشاوية وكانوا قد تمردوا على الدولة وأعضل داؤهم ففل الوزير المذكور جمعهم وخرب منازلهم ثم كانت وفاته سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة قتله عرب أنكاد على سبيل الغدر قعصا بالرماح وحمل قتيلا إلى فاس فدفن بالقلة خارج باب الحبيسة وولي الوزارة بعده علي بن يوسف الوطاسي قالوا فكانت أيامه مواسم لديانته وصيانته وحفظه أمور الملك ورفقه بالرعية مع العدل وحسن الإدارة ثم توفي بتامسنا خامس رمضان سنة ثلاث وستين وثمانمائة وحمل إلى فاس فدفن بالقلة أيضا وفي هذه السنة أو التي قبلها استولى البرتغال على
____________________

قصر المجاز وهو المعروف بقصر مصمودة والقصر الصغير وهو الآن خراب والله أعلم وزارة يحيى بن يحيى الوطاسي ومقتله ومقتل الوطاسيين معه والسبب في ذلك
لما توفي الوزير علي بن يوسف رحمه الله قدم للوزارة بعده أبو زكرياء يحيى بن يحيى بن عمر بن زيان الوطاسي قالوا فكانت ولاية هذا الوزير هي مبدأ الشر ومنشأ الفتنة وذلك أنه لما استقل بالحجابة أخذ في تغيير مراسم الملك وعوائد الدولة وزاد ونقص في الجند ونقض جل ما أبرمه قبله الوزراء وعامل الرعية بالعسف ومن جملة ما نقم عليه أنه عزل قاضي فاس الفقيه أبا عبد الله محمد بن محمد بن عيسى بن علال المصمودي وقدم مكانه الفقيه يعقوب التسولي وكان المصمودي من الدين وتحرى المعدلة بمكان فلما رأى السلطان عبد الحق فعل الوزير واستحواذه على أمور الدولة وتبين له أن الوطاسيين قد التحقوا معه رداء الملك وشاركوه في بساط العز وكادوا يغلبونه على أمره سطا بهم سطوة استأصلت جمهورهم إلا من حماه الأجل منهم فتقبض على الوزير يحيى وعلى أخويه أبي بكر وأبي شامة وعلى عمهم فارس بن زيان وقريبهم محمد بن علي بن يوسف وأتى الذبح على جميعهم واستمر البحث عن محمد الشيخ ومحمد الحلو أخوي الوزير المذكور فلم يوجدا لذهاب الشيخ في ذلك اليوم للصيد واختفاء الحلو عند قيام الهيعة فكان ذلك من لطف الله بهما واتصل بهما ما جرى على عشيرتهم وبني أبيهم فذهبا إلى منجاتهما وكان من أمرهما ما نذكره وكانت هذه الحادثة الصماء بعد مضي سبعين يوما من وزارة يحيى بن يحيى
____________________

المذكور وصفا للسلطان عبد الحق أمره ورأى أن قد شفا نفسه من الوطاسيين ونقى بساط حضرته من قضضهم وأبرأ جسم ملكه من مرضهم والله غالب على أمره رياسة اليهوديين هارون وشاويل وما نشأ عن استبدادهما من المحنة والفتنة
قالوا كان السلطان عبد الحق منذ أوقع ببني وطاس لم تسمح نفسه بإعطاء منصب الوزارة لأحد ثم نما إليه أن العامة وكثيرا من الخاصة قد نقموا عليه إيقاعه بالوطاسيين وأن أذنهم صاغية إلى محمد الشيخ صاحب آصيلا وكان قد استولى عليها بعد فراره حسبما نذكر وربما شافهه البعض منهم بذلك فولى عليهم اليهوديين المذكورين تأديبا لهم وتشفيا منهم زعموا فشرع اليهوديان في أخذ أهل فاس بالضرب والمصادرة على الأموال واعتز اليهود بالمدينة وتحكموا في الأشراف والفقهاء فمن دونهم وكان اليهودي هارون قد ولى على شرطته رجلا يقال له الحسين لا يألو جهدا في العسف واستلاب الأموال واستمر الحال على ذلك والناس في شدة
وفي سنة سبع وستين وثمانمائة انتزع الإصبنيول جبل طارق من يد ابن الأحمر استيلاء البرتغال على طنجة
ثم في سنة تسع وستين وثمانمائة استولى البرتغال على طنجة زحفوا إليها من سبتة في ألوف من العساكر واستولوا عليها واستمرت بأيديهم أكثر من مائتين وخمس سنين ثم بذلوها لطاغية النجليز سنة أربع وسبعين وألف في سبيل المهاداة والصهر الذي انعقد بينهما كما سيأتي
____________________

مقتل السلطان عبد الحق بن أبي سعيد والسبب في ذلك
ثم إن اليهودي عمد إلى امرأة شريفة من أهل حومة البليدة فقبض عليها والبليدة حومة بفاس قالوا وكانت بدار الكومى قرب درب جنيارة فأنحى عليها بالضرب ولما ألهبتها السياط جعلت تتوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم فحمى اليهودي وكاد يتميز غيظا من سماع ذكر الرسول وأمره بالإبلاغ في عقابها وسمع الناس ذلك فأعظموه وتمشت رجالات فاس بعضهم إلى بعض فاجتمعوا عند خطيب القرويين الفقيه أبي فارس عبد العزيز بن موسى الورياكلي وكانت له صلابة في الحق وجلادة عليه بحيث يلقي نفسه في العظائم ولا يبالي وقالوا له ألا ترى إلى ما نحن فيه من الذلة والصغار وتحكم اليهود في المسلمين والعبث بهم حتى بلغ حالهم إلى ما سمعت فنجع كلامهم فيه وللحين أغراهم بالفتك باليهود وخلع طاعة السلطان عبد الحق وبيعة الشريف أبي عبد الله الحفيد فأجابوه إلى ذلك واستدعوا الشريف المذكور فبايعوه والتفت عليه خاصتهم وعامتهم وتولى كبر ذلك أهل حومة القلقليين منهم ثم تقدم الورياكلي بهم إلى فاس الجديد فصمدوا إلى حارة اليهود فقتلوهم واستلبوهم واصطلموا نعمتهم واقتسموا أموالهم وكان السلطان عبد الحق يومئذ غائبا في حركة له ببعض النواحي قال في نشر المثاني خرج السلطان عبد الحق بجيشه إلى جهة القبائل الهبطية وترك اليهودي يقبض من أهل فاس المغارم فشد عليهم حتى قبض على امرأة شريفة وأوجعها ضربا وحكى ما تقدم فاتصل ببعد الحق الخبر وانفض مسرعا إلى فاس واضطرب عليه أمر الجند ففسدت نياتهم وتنكرت وجوههم وصار في كل منزلة تنفض عنه طائفة منهم فأيقن عبد الحق بالنكبة وعاين أسباب المنية ولما قرب من فاس استشار هارون اليهودي فيما نزل به فقال اليهودي له لا تقدم على فاس لغليان قدر الفتنة بها وإنما يكون قدومنا على مكناسة الزيتون لأنها بلدنا
____________________

وبها قوادنا وشيعتنا وحينئذ يظهر لنا ما يكون فما استتم اليهودي كلامه حتى انتظمه بالرمح رجل من بني مرين يقال له تيان وعبد الحق ينظر وقال وما زلنا في تحكم اليهود واتباع رأيهم والعمل بإشارتهم ثم تعاورته الرماح من كل جانب وخر صريعا لليدين والفم ثم قالوا للسلطان عبد الحق تقدم أمامنا إلى فاس فليس لك اليوم اختيار في نفسك فأسلم نفسه وانتهبت محلته وفيئت أمواله وحلت به الإهانة وجاءوا به إلى أن بلغوا عين القوادس خارج فاس الجديد فاتصل الخبر بأهل فاس وسلطانهم الحفيد فخرج إلى عبد الحق وأركبه على بغل بالبردعة وانتزع منه خاتم الملك وأدخله البلد في يوم مشهود حضره جمع كبير من أهل المغرب وأجمعوا على ذمه وشكروا الله على أخذه ثم جنب إلى مصرعه فضربت عنقه صبيحة يوم الجمعة السابع والعشرين من رمضان سنة تسع وستين وثمانمائة ودفن ببعض مساجد البلد الجديد ثم أخرج بعد سنة ونقل إلى القلة فدفن بها وانقرضت بمهلكه دولة بني عبد الحق من المغرب والبقاء لله وحده
ونقل الثقات أن الشيخ أبا العباس أحمد زروق رحمه الله كان قد ترك الصلاة خلف الفقيه أبي فارس الورياكلي لما صدر منه في حق السلطان عبد الحق وكان يقول لا آمن الغندور على صلاتي يعيبه بذلك والغندور في لسان المغاربة ذو النخوة والإباية وما أشبه ذلك والله يتغمدنا والمسلمين برحمته آمين
ولنذكر ما كان في هذه المدة من الأحداث فنقول
في سنة سبع وثمانمائة توفي الشيخ أبو زيد عبد الرحمن بن علي بن صالح المكودي عالم فاس وأديبها ونحويها صاحب المقصورة وشرح
____________________

الخلاصة وغير ذلك من التآليف قيل هو آخر من درس كتاب سيبويه في النحو بفاس
وفي سنة ثمان عشرة وثمانمائة توفي الشيخ أبو عبد الله محمد بن عمر ابن الفتوح التلمساني ثم المكناسي يقال إن سبب انتقاله من تلمسان أنه كان شابا حسن الصورة جميل الشارة فمرت به امرأة جميلة فجعل ينظر إليها من طرف خفي فقالت اتق الله يا ابن الفتوح يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فتأثر لقولها واتعظ وتاب إلى الله تعالى وجعل من تمام توبته أن يهاجر من الأرض التي قارف الذنب فيها فارتحل إلى فاس فأقام بها مدة وانتفع الناس به ثم انتقل بعدها إلى مكناسة فتوفي بها في السنة المذكورة قالوا وهو أول من أدخل مختصر الشيخ خليل مدينة فاس والمغرب
وفي سنة ست وأربعين وثمانمائة كان الوباء العظيم بالمغرب هلك فيه جمع من كبار العلماء والأعيان ويسمى هذا الوباء عند أهل فاس بوباء عزونة
وفي سنة تسع وأربعين وثمانمائة في ذي القعدة منها توفي الشيخ أبو محمد عبد الله العبدوسي مفتي فاس وعالمها الكبير ومحدثها الشهير وكان من أهل الصلاح والخير والإيثار
وفي سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة في أواخر ذي القعدة منها توفي إمام الجماعة بفاس الشيخ أبو عبد الله محمد بن قاسم الأندلسي الأصل المعروف بالقوري ودفن بباب الحمراء منها
وفي سنة تسع وتسعين وثمانمائة في أواخر صفر منها توفي الشيخ العارف بالله المحق أبو العباس أحمد البرنسي الشهير بزروق وكانت وفاته بمسراته من أعمال طرابلس والله أعلم
____________________

بقية أخبار بني الأحمر واستيلاء العدو على غرناطة وسائر الأندلس منها وانقراض كلمة الإسلام منها
كانت دولة بني الأحمر في هذه المدة متماسكة والفتنة بين أعياصها متشابكة والعدو فيما بين ذلك يخادعهم عما بأيديهم ويراوغهم ويسالمهم تارة ويحاربهم إلى أن كانت دولة السلطان أبي الحسن علي ابن السلطان سعد ابن الأمير علي ابن السلطان يوسف ابن السلطان محمد الغني بالله فنازعه أخوه أبو عبد الله محمد بن سعد المدعو بالزغل قدم من بلاد النصارى وبويع بمالقة وبقي بها مدة وعظم الخطب واشتدت الفتن وشرق المسلمون بداء الخلاف الواقع بين هذين الأخوين وتكالب العدو عليهم ووجد السبيل إلى تفريق كلمتهم والتمكن من فسخ عهدهم وذمتهم وذلك أعوام الثمانين وثمانمائة ثم انقاد أبو عبد الله لأبي السحن فسكنت أحوال الأندلس بعض الشيء ثم خرج عليه ولده أبو عبد الله محمد بن أبي الحسن وأسره النصارى في بعض الوقعات فراجع الناس طاعة أبي الحسن ثم نزل لأخيه أبي عبد الله الزغل عن الأمر لآفة أصابته في بصره ثم إن العدو عمد لأسيره أبي عبد الله ابن الحسن فوعده ومناه وأظهر له من أكاذيبه وخدعه غاية مناه وبعثه للتشغيب على عمه طلبا لتفريق كلمة المسلمين وعكس مرادهم وتوصلا إلى ما بقي عليه من حصون المسلمين وبلادهم وطالت الفتنة بين العم وابن الأخ وكل عقد كان بين العدو وبينه انحل وانفسخ وخبت العامة الذين هم أتباع كل ناعق في ذلك ووضعت وكان ذلك من أعظم الأسباب المعينة للعدو على التمكن من أرض الأندلس والتهامها واستئصال كلمة الإسلام منها ثم إن ابن الأخ استولى على غرناطة بعد خروج العم عنها إلى الجهاد ففت ذلك في عضده وعطف إلى وادي آش فاعتصم بها وحاصر العدو مالقة فقاتله أهلها بكل ما أمكنهم حتى إذا لم يجدوا للقتال مساغا نزلوا على الأمان فاستولى العدو عليها أواخر شعبان سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة ثم استولى بعد ذلك على وادي آش وأعمالها صلحا ودخل في طاعته صاحبها أبو عبد الله العم بعد
____________________

أن استهوى العدو قواده بالأموال الجزيلة ثم إن العدو خذله الله وأرسل أبا عبد الله بن أبي الحسن صاحب غرناطة وعرض عليه الدخول في الخطة التي دخل فيها عمه من النزول له عن البلاد على أموال جزيلة يبذلها له ويكون تحت حكمه مخيرا في أي بلاد الأندلس شاء فشاور رعيته فاتفق الناس على الامتناع والقتال فعند ذلك أرهف العدو حده وجعل غرناطة وأهلها من شأنه بعد أن استولى أثناء هذه الفتن والتضريبات على حصون كثيرة لم نتعرض لذكرها حتى لم يبق له إلا غرناطة وأعمالها وقد اختصرنا معظم هذه الأخبار إذ لم تكن من موضوع الكتاب وإنما ألممنا بهذه النبذة تتميما للفائدة وزيادة في الإمتاع ولما كان اليوم الثاني والعشرون من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين وثمانمائة خرج العدو بمحلاته إلى مرج غرناطة وأفسد الزرع ودوخ الأرض وهدم القرى وأمر ببناء موضع بالسور والحفير فأحكمه وكان الناس يظنون أنه عازم على الانصراف فإذا به قد صرف عزمه إلى الحصار والإقامة وصار يضيق على غرناطة كل يوم ودام القتال سبعة أشهر واشتد الحصار بالمسلمين غير أن النصارى على بعد الطرق بين غرناطة والبشرات متصلة بالمرافق والطعام يأتي من ناحية جبل شلير إلى أن تمكن فصل الشتاء وكلب البرد ونزل الثلج فانسد باب المرافق وانقطع الجالب وقل الطعام واشتد الغلاء وعظم البلاء واستولى العدو على أكثر الأماكن خارج البلد ومنع المسلمين من الحرث والسبب وضاق الحال وبان الاختلال وعظم الخطب وذلك أول سنة سبع وتسعين وثمانمائة وطمع العدو في الاستيلاء على غرناطة بسبب الجوع والغلاء دون الحرب والقتال ففر ناس كثيرون من الجوع إلى البشرات ثم اشتد الأمر في شهر صفر من السنة وقل الطعام وتفاقم الخطب فاجتمع ناس مع من يشار إليه من أهل العلم كأبي عبد الله الموافق شارح المختصر وغيره وقالوا انظروا لأنفسكم وتكلموا مع سلطانكم فأحضر السلطان أبو عبد الله بن أبي الحسن أهل دولته وأرباب مشورته وتكلموا في هذا الأمر وأن العدو يزداد مدده كل يوم ونحن لا مدد لنا وكنا نظن أنه يقلع عنا في فصل الشتاء فخاب الظن وبنى وأسس وأقام وقرب
____________________

منا فانظروا لأنفسكم وأولادكم فاتفق الرأي على ارتكاب أخف الضررين وشاع أن الكلام وقع بين النصارى ورؤساء الأجناد قبل ذلك في إسلام البلد خوفا على نفوسهم وعلى الناس ثم عددوا مطالب وشروطا أداروها وزادوا أشياء على ما كان في صلح وادي آش منها أن صاحب رومة يوافق على الالتزام والوفاء بالشرط إذا مكنوه من حمراء غرناطة والمعاقل والحصون ويحلف على عادة النصارى في العهود وتكلم الناس في ذلك وذكروا أن رؤساء أجناد المسلمين لما خرجوا للكلام في ذلك امتن عليهم النصارى بمال جزيل وذخائر ثم عقدت بينهم الوثائق على شروط قرئت على أهل غرناطة فانقادوا إليها ووافقوا عليها وكتبوا البيعة لصاحب قشتالة فقبلها منهم ونزل سلطان غرناطة أبو عبد الله عن الحمراء ولا حول ولا قوة إلا بالله
وفي ثاني ربيع الأول من السنة أعني سنة سبع وتسعين وثمانمائة استولى النصارى على الحمراء ودخلوها بعد أن استوثقوا من أهل غرناطة بنحو خمسمائة من الأعيان رهنا خوف الغدر وكانت الشروط سبعة وستين شرطا منها تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل والمال وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعتهم وعقارهم ومنها إقامة شريعتهم على ما كانت ولا يحكم على أحد منهم إلا بشريعته وأن تبقى المساجد كما كانت والأوقاف كذلك وأن لا يدخل النصارى دار مسلم ولا يغصبوا أحدا وأن لا يولي على المسلمين نصراني أو يهودي ممن يتولى عليهم من قبل سلطانهم وأن يفتك جميع من أسر في غرناطة حيث كانوا وخصوصا أعيانا نص عليهم ومن هرب من أسارى المسلمين ودخل غرناطة لا سبيل عليه لمالكه ولا لغيره والسلطان يدفع ثمنه لمالكه ومن أراد الجواز إلى العدوة لا يمنع ويجوزون في مدة عينت في مراكب السلطان لا يلزمهم إلا الكراء ثم بعد تلك المدة يعطون عشر مالهم والكراء وأن لا يؤخذ أحد بذنب غيره وأن لا يجبر من أسلم على الرجوع للنصارى ودينهم وأن من تنصر من المسلمين يوقف أياما حتى يظهر حاله ويحضر له حاكم من المسلمين وآخر من النصارى فإن أبى الرجوع إلى الإسلام تمادى على ما أراد ولا يعاتب
____________________

على من قتل نصرانيا أيام الحرب ولا يؤخذ منه ما سلب من النصارى أيام العداوة ولا يكلف المسلم بضيافة أجناد النصارى ولا يسفر لجهة من الجهات ولا يزيدون على المغارم المعتادة وترفع عنهم جميع المظالم والمغارم المحدثة ولا يطلع نصراني للسور ولا يتطلع على دور المسلمين ولا يدخل مسجدا من مساجدهم ويسير المسلم في بلاد النصارى آمنا في نفسه وماله ولا يجعل علامة كما يجعل اليهود وأهل الدجن ولا يمنع مؤذن ولا صائم ولا مصل ولا غيره من أمور دينه ومن ضحك منهم يعاقب ويتركون من المغارم سنين معلومة وأن يوافق على كل الشروط صاحب رومة ويضع خط يده وأمثال هذا مما تركنا ذكره
وبعد انبرام ذلك ودخول النصارى للحمراء والمدينة جعلوا قائدا بالحمراء وحكاما ومقدمين بالبلد ولما علم بذلك أهل البشرات دخلوا في هذا الصلح وشملهم حكمه على هذا الوجه ثم أمر العدو ببناء ما يحتاج إليه في الحمراء وتحصينها وتجديد بناء قصورها وإصلاح سورها وصار الطاغية يختلف إلى الحمراء نهارا ويبيت بمحلته ليلا إلى أن اطمأن من خوف الغدر فدخل المدينة وتطوف بها وأحاط خبرا بما يرومه منها ثم أمر سلطان المسلمين أن ينتقل لسكنى البشرات وأنها تكون له في سكناه بأندرش فانصرف إليها وأخرج الأجناد منها ثم احتال عدو الله في نفيه لبر العدوة وأظهر أن السلطان المذكور طلب منه ذلك ثم كتب لصاحب المرية أنه ساعة وصول كتابي هذا لا سبيل لأحد أن يمنع مولاي أبا عبد الله من السفر حيث أراد من بر العدوة ومن وقف على هذا الكتاب فليصرفه وليقف معه وفاء بما عهد له فانصرف السلطان أبو عبد الله في الحين بنص هذا الكتاب وركب البحر فنزل بمليلة واستوطن فاسا وكان قبل ذلك قد طلب الجواز لناحية مراكش فلم يسعف بذلك وحين جوازه لبر العدوة لقي شدة وغلاء وبلاء ثم إن النصارى نكثوا العهد ونقضوا الشروط عروة عروة إلى أن آل الحال لحملهم المسلمين على التنصر سنة أربع وتسعمائة بعد أمور وأسباب أعظمها عليهم أنهم قالوا إن القسيسين كتبوا على جميع من أسلم من النصارى أن
____________________

يرجع مهرعا لدينه ففعلوا ذلك وتكلم الناس ولا جهد لهم ولا قوة ثم تعدوا ذلك إلى أمر آخر وهو أن يقولوا للرجل المسلم إن جدك كان نصرانيا فأسلم فترجع أنت نصرانيا ولما تفاحش هذا الأمر قال أهل البيازين على الحكام فقتلوهم وهذا كان السبب الأعظم في التنصر قالوا لأن الحكم خرج من عند السلطان أن من قام على الحاكم فليس إلا الموت إلا أن يتنصر فينجو من الموت وبالجملة فإنهم تنصروا عن آخرهم بادية وحاضرة وامتنع قوم من التنصر واعتزلوا النصارى فلم ينفعهم ذلك وامتنعت قرى وأماكن كذلك منها بلفيق وأندرش وغيرهما فجمع لهم العدو الجموع واستأصلهم عن آخرهم قتلا وسبيا إلا ما كان من جبل بللنقة فإن الله تعالى أعانهم على عدوهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة مات فيها صاحب قرطبة وأخرجوا على الأمان إلى فاس بعيالهم وما خف من أموالهم دون الذخائر
ثم بعد هذا كله كان من أظهر التنصر من المسلمين يعبد الله في خفية ويصلي فشدد النصارى في البحث عنهم حتى إنهم أحرقوا كثيرا منهم بسبب ذلك ومنعوهم من حمل السكين الصغيرة فضلا عن غيرها من الحديد وقاموا في بعض الجبال على النصارى مرارا فلم يقيض الله تعالى لهم ناصرا إلى أن كان إخراج النصارى إياهم جملة أعوام سبعة عشر وألف بعد أن ساكنوهم بغرناطة وأعمالها نحوا من مائة وعشرين سنة كانوا فيها تحت ذمة النصارى كما رأيت والأمر لله وحده ولما أجلاهم العدو عن جزيرة الأندلس خرجت ألوف منهم بفاس وألوف أخر بتلمسان ووهران وخرج جمهورهم بتونس فتسلط عليهم في الطرقات الأعراب ومن لا يخشى الله تعالى من الأوباش ونهبوا أموالهم وهذا ببلاد تلمسان وفاس ونجا القليل من هذه المضرة وأما الذين خرجوا بنواحي تونس فسلم أكثرهم وكذلك بتطاوين وسلا وبيجة الجزائر ولما استخدم سلطان المغرب الأقصى وهو المنصور السعدي منهم عسكرا جرارا وسكنوا سلا كان منهم من الجهاد في البحر ما هو مشهور وحصنوا قلعة سلا وهي رباط الفتح وبنوا بها القصور والحمامات والدور
____________________


قال أبو العباس المقري في نفح الطيب وهم الآن يعني في حدود الثلاثين وألف بهذا الحال ووصل جماعة منهم إلى القسطنطينية العظمى وإلى مصر والشام وغيرها من بلاد الإسلام وانقضى أمر الأندلس وعادت نصرانية كما كانت أول مرة والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين
وفي السنة التي استولى الإصبنيول على غرناطة انكشفت لهم أرض ماركان التي كانت مجهولة قبل هذا التاريخ لسائر الأمم وذلك أن الحكماء الأقدمين من اليونان وغيرهم أجمعوا على أن شكل الأرض كرة وأن الماء قد غمر أحد جانبيها كله بحيث صارت الأرض فيه كأنها بيضة مغرقة في طست ماء قد رسب فيه أكثرها وبرز أقلها وأجمعوا على أن هذا البارز منها هو المسكون ببني آدم وغيرهم من الحيوانات وهو المقسم إلى سبعة أقسام تسمى الأقاليم ولم يهتدوا إلى أن الجانب الآخر منكشف عنه الماء ولا أنه مسكون كهذا الجانب بل جزموا بأنه ماء صرف يسمى البحر المحيط واستمر هذا الاعتقاد عندهم ونقله الخلف عن السلف ووضعوا فيه التآليف العديدة إلى أن كانت سنة سبع وتسعين وثمانمائة وهي السنة التي استولى فيها الإصبنيول على غرناطة وسائر الأندلس فاتفق أن ظهر في تلك المدة رجل من فرنج جنوة اسمه كلنب بضم الكاف واللام كانت حرفته الملاحة والسفر في البحر وكان بعيد الهمة مولعا بالشهرة مغرى بالذكر وحسن الصيت فخطر بباله أن جانب الأرض الذي أغفل الحكماء الأولون ذكره وزعموا أنه بحر صرف ربما يكون مسكونا كهذا الجانب
وكان جنس البرتغال في هذه المدة قد كثرت أسفارهم في البحر وملكوا عدة محال من جزائره الخالدات فحصل لكلنب الجنويزي بعض غيرة ونفاسة منهم وأراد أن يأتي بأعظم مما فعلوا فعزم على التلجيج في البحر المحيط والإبعاد فيه عسى أن يظفر بمراده فتطارح على ملك البرتغال واسمه يومئذ يوحنا الثاني في أن يعينه على ما هو بصدده ويمده بما يكون سببا في نيل مقصده فلم يلتفت إلى قوله ولا عرج على رأيه ومن قبل ما كان أهل
____________________

جنوة يحمقونه وينسبونه إلى التهور بمثل هذه الآراء فلما لم يجد عند ملك البرتغال مراده تطارح على ملكة الإصبنيول وهي يومئذ إيسابيلا الشهيرة الذكر عندهم فأسعفته وهيأت له ثلاث سفائن وشحنتها بالرجال والسلاح والزاد والمال ودفعت ذلك إليه فسافر بها كلنب في البحر المحيط على سمت المغرب حتى أرسى ببعض الجزائر الخالدات فأراح بها أياما ثم سافر على السمت المذكور ملججا مدة من شهرين ولما طال السفر على أصحابه الذين معه أرادوا قتله وبينما هم في ذلك ظهرت له أرض ماركان فسار حتى أرسى بأجفانه على ساحلها في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة سبع وتسعين وثمانمائة المذكورة فعثر منها على أرض واسعة ذات أقطار ونواحي وجبال وأنهار تفوت الحصر حتى قيل إنها تساوي نصف هذا المسكون من الأرض أو تزيد وإذا فيها خلق كثير من بني آدم كهذه إلا أنهم لم يفقهوا قوله ولا فقه قولهم فعاد كلنب إلى ملكة الإصبنيول بعد أن بنى هنالك حصنا وترك به بعض الجند وساق من تلك الأرض بعض الغرائب من حيوان وغيره إثباتا لمدعاه فلما قدم على الملكة بعد مغيبه سبعة أشهر وأحد عشر يوما أعظمت قدره ونوهت باسمه وسرت بما أتى به من ذلك كله وعدت ذلك من سعادتها إلى ما تسنى لها من الظفر بجزيرة الأندلس والاستيلاء عليها وتبين للفرنج حينئذ أن الأرض معمورة من كلا الجانبين لا من جانب واحد كما اعتقده الأقدمون فحينئذ تسارعت أجناسهم إلى أرض ماركان واقتسموها واعتنوا بعمرانها وسموها الدنيا الجديدة فكانت من أعظم الأسباب في انتعاشهم وتقويتهم وضخامة دولهم واتساع خطط ممالكهم والأمور كلها بيد الله
ومن جملة ما كان مفقودا بأرض ماركان نوع الخيل وكذا غيرها من الحيوانات الأهلية ولما رأوا الأدمي راكبا على الفرس مسرجا ظنوه قطعة واحدة وأن الفارس وفرسه حيوان واحد خلق على تلك الكيفية إلى غير ذلك وأخبار أرض ماركان وكيفية العثور عليها ثم التردد إليها واعتمارها بعد ذلك طويلة وملخصها ما ذكرناه والله تعالى الموفق بمنه
____________________


وهذا آخر النصف الأول من كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى قد شرعنا في إملائه منتصف رجب الفرد الحرام من سنة سبع وتسعين ومائتين وألف وفرغنا منه في منتصف ذي الحجة الحرام في السنة المذكورة ونشرع بعون الله تعالى في الجزء الثاني منه مفتتحا بما يكون كالتوطئة لدولة بني وطاس من أخبار البرتغال على الجملة وعلى الله تعالى الكمال بمنه وفضله أخبار البرتغال بالمغرب الأقصى على الجملة
اعلم أن هذا المغرب الأقصى حرسه الله وكلأه بعين حفظه لم يزل بجميع ثغوره وسواحله وأقطاره منذ الفتح الإسلامي إلى المائة التاسعة محفوظا الجوانب من طروق أمم الفرنج وغيرهم من أعداء الدين محفوف الأكتاف بالحامية من جنود المسلمين مرهوبة شوكة ملوكه عند أمم النصرانية جيلا بعد جيل وأمة بعد أمة ودولة بعد دولة لم تكن الفرنج تحدث نفسها بغزو شيء من بلاده أو طرق ثغر من ثغوره أو الاستيلاء على شيء من سواحله ولم يكن أهله أيضا يتوقعون ذلك منهم ولا يخشونه بل هم الذين كانوا يغزون الفرنج في عقر ديارهم وأعز بلادهم ويحامون عن بلاد الأندلس وسواحل إفريقية وغيرها متى هاج أهلها هيج من ذلك حسبما تقدمت الأخبار المفصحة عن ذلك ولم يبلغنا أن جنسا من أجناس الفرنج فيما قبل المائة التاسعة غزا شيئا من أطراف المغرب الأقصى أو ثغرا من ثغوره بقصد الاستيلاء والتملك إلا ما كان من مدينة سلا التي دخلها الإصبنيول غدرا أيام الفتنة بين اليعقوبين ثم خرجوا عنها لمدة يسيرة حسبما مر وإلا ما كان من محاصرة أهل جنوة لسبتة ثم الإقلاع عنها كذلك ونحو هذا مما لا يعتبر فلما دخلت المائة التاسعة ومضى صدرها وتداعت دول المغرب من بني أبي حفص بإفريقية وبني زيان بالمغرب الأوسط وبني مرين بالمغرب الأقصى
____________________

وبني الأحمر بالأندلس وأشرفت على الهرم وحدثت الفتن بين المسلمين ودامت فيهم واشتغلوا بأنفسهم دون الالتفات إلى جهاد العدو ومطالبته في أرضه وبلاده على ما كان لهم من العادة قبل ذلك وافق ذلك ابتداء ظهور الجلالقة وهم الإصبنيول والبرتغال وهم البرطقيز بجزيرة الأندلس واستفحال أمرهم فكثرت أسفار البرتغال في البحر المحيط ودام تقلبهم فيه ومرنوا عليه حتى حصلوا على عدة جزائر منه واكتشفوا بعض الرؤوس الساحلية من أرض السودان وغيرها ثم شرهوا لتملك سواحل المغرب الأقصى فهجموا عليها وجالدوا أهلها دونها حتى تمكنوا منها ونشبوا فيها فقويت شوكتهم وعظم ضررهم على الإسلام وطمحت نفوسهم للاستيلاء على ما وراء ذلك حسبما تقف عليه مبينا في مواضعه إن شاء الله
فاستولوا في سنة ثمان عشرة وثمانمائة على مدينة سبتة بعد محاصرتهم لها ست سنين على ما في بعض تواريخ الإفرنج ثم في سنة اثنتين وستين وثمانمائة استولوا على قصر المجاز ثم استولوا في سنة تسع وستين وثمانمائة على طنجة ثم في حدود سنة ست وسبعين وثمانمائة ملكوا آصيلا وفي هذا التاريخ نفسه أو قبله بيسير استولوا على مدينة آنفا وبعض سواحل السوس ثم في حدود سنة سبع وتسعمائة نزلوا بأرض الجديدة فيما بين آزمور وتيط وبنوا بها حصن البريجة وطال مقامهم بها ثم في سنة عشر وتسعمائة استولوا على مدينة العرائش ثم بعد ذلك بيسير في حدود العشر وتسعمائة على ما تقتضيه تواريخ الفرنج ملكوا حصن آكادير وما اتصل به من سواحل السوس الأقصى ثم ملكوا في حدود اثنتي عشرة وتسعمائة رباط آسفي ثم عطفوا على ثغر آزمور فاستولوا عليه في سنة أربع عشرة وتسعمائة ثم المعمورة وهي المهدية ملكوها أيضا في حدود سنة عشرين وتسعمائة وفي هذا التاريخ نفسه رجعوا إلى مدينة آنفا بعد هدمها فبنوها وسكنوها وبالجملة فلم يبق من ثغور المغرب الأقصى بيد المسلمين إلا القليل مثل سلا ورباط الفتح وفجئ المسلمون من هذا البرتغال بالأمر العظيم ودهوا منه بالخطب الجسيم واستحوذ عدو الله على بلاد الهبط وضايقهم بها حتى
____________________

انحازوا إلى الأمصار المنزوية عن الأطراف والقرى النائية عن السواحل وكان ذلك كله فيما بين انقراض دولة بني وطاس وظهور دولة الشرفاء السعديين ولقد ذكر في مرآة المحاسن أن قصر كتامة كان في صدر المائة العاشرة مقصدا للتجار وسوقا تجلب إليه بضائع العدوتين وسلعها قال إذ كان القصر المذكور ثغرا بين بلاد المسلمين وبين بلاد النصارى تحط به رحال تجار المسلمين من آفاق المغرب وتجار الحربيين من أصيلا وطنجة وقصر المجاز وسبتة ولأنه كان محل عناية سلطان المغرب إذ ذاك محمد الشيخ بن أبي زكرياء الوطاسي فإن القصر قاعدة بلاد الهبط التي كانت موقد شرارة السلطان المذكور ومشب ناره وموشج عصبيته مع مجاورته لبلاد الحرب فكان نظره مصروفا إليه واختصاصه موقوفا عليه وتقبل بنوه من بعده مذهبه فيه اه كلامه فهذا يدلك على ما كان عليه العدو خذله الله من المضايقة للمسلمين في ثغورهم وبلادهم ولله الأمر من قبل ومن بعد
ولما نزل بأهل المغرب الأقصى ما نزل من غلبة عدو الدين واستيلائه على ثغور المسلمين تباروا في جهاده وقتاله وأعملوا الخيل والرجل في مقارعته ونزاله وتوفرت دواعي الخاصة منهم والعامة على ذلك وصرفوا وجوه العزم لتحصيل الثواب فيما هنالك فكم من رئيس قوم قام لنصرة الدين غيرة واحتسابا وكم من ولي عصر أو عالم مصر باع نفسه من الله ورأى ذلك صوابا حتى لقد استشهد منهم أقوام وأسر آخرون وبلغ الله تعالى جميعهم من الثواب ما يرجون فمن استشهد منهم في سبيل الله سيدي عيسى ابن الحسن المصباحي دفين الدعداعة بأرض البروزي من بلاد طليق وأبو الحسن علي بن عثمان الشاوي من أصحاب الشيخ أبي محمد الغزواني وأبو الفضل فرج الأندلسي ثم المكناسي وأبو عبد الله محمد القصري المعروف بسقين قتله النصارى عند ضريح الشيخ أبي سلهام وكان قد قصده للزيارة ففتكوا به هنالك وكل هؤلاء معدود في أولياء الله تعالى وممن أسر منهم ثم خلصه الله الشيخ أبو محمد عبد الله بن ساسي دفين تانسيفت من أحواز مراكش والشيخ أبو محمد عبد الله الكوش دفين جبل العرض من أحواز
____________________

فاس ووالد صاحب دوحة الناشر وهو أبو الحسن علي بن مصباح الحسني عرف بابن عسكر والشيخ العلامة أبو العباس أحمد ابن القاضي المكناسي أحد قضاة سلا وهو صاحب جذوة الاقتباس والمنتقى المقصور وغيرهما من التآليف الحسان أسر وهو ذاهب إلى الحج وأبو عبد الله محمد بن أبي الفضل التونسي المعروف بخروف نزيل فاس وشيخ الجماعة بها هؤلاء كلهم أصابه الأسر ثم خلصه الله بعد حين وغير هؤلاء ممن لم يحضرنا ذكرهم أجزل الله ثوابهم ويسر بمنه حسابهم ولقد ألف الناس في ذلك العصر التآليف في الحض على الجهاد والترغيب فيه وقال الخطباء والوعاظ في ذلك فأكثروا ونظم الشعراء والأدباء فيه ونثروا فممن ألف في ذلك الباب فأفاد الشيخ المتفنن البارع الصوفي أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم ابن يجيش التازي قال في الدوحة وقفت له على تأليف ألفه في الحض على الجهاد في سبيل الله فكان مما ينبغي أن يتناول باليدين ويكتب دون المداد باللجين أودعه نظما ونثرا وممن نظم في ذلك فأجاد الشيخ الصالح المتصوف المجاهد أبو عبد الله محمد بن يحيى البهلولي قال في الدوحة كان هذا الشيخ ممن لازم باب الجهاد وفتح له فيه وله في ذلك أشعار وقصائد زجليات وغيرها وكان معاصرا للسلطان أبي عبد الله محمد ابن محمد الشيخ الوطاسي المعروف بالبرتغالي فكان إذا جاءه زائرا حضه على الغزو فيساعده على ما أراد من ذلك ولما توفي السلطان المذكور ودالت الدولة لولده السلطان أحمد وغص بالشرفاء القائمين عليه ببلاد السوس عقد الهدنة مع النصارى المجاورين له ببلاد الهبط وصاحبهم سلطان البرتغال فبلغ ذلك الشيخ أبا عبد الله المذكور فآلى على نفسه أن لا يلقى السلطان المذكور ولا يمشي إليه ولا يقبل منه ما كان عينه له والده من جزية أهل الذمة بفاس لقوته وضرورياته فمكث على ذلك إلى أن حضرته الوفاة وكان في النزع وأصحابه دائرون به فقال له بعضهم يا سيدي أخبرك أن السلطان أمر بالغزو ونادى به وحض الناس عليه والمسلمون في شرح لذلك وفرح ففتح الشيخ عينيه وتهلل وجهه فرحا وحمد الله وأثنى عليه
____________________

ففاضت نفسه وهو مسرور بذلك ولهذا الشيخ زجليات ومقطعات حسان في الحض على الجهاد منها اللامية المشهورة التي خاطب بها السلطان أبا عبد الله المذكور ومطلعها
( قل للأمير محمد ** يا طلعة الهلال )
( لويلة في السواحل ** من أفضل الليال )
ومنها القصيدة التي مطلعها
( ظهر الرمل مرادي ** والعسكر يا كرام )
( نفسي على الجهاد ** سبلت والسلام )
ومنها القصيدة التي أولها
( قم للجهاد رعاك الله منتهجا ** نهج الرشاد إلى الأقوام لو فهموا )
( من بعد أندلس ما زلت محتدما ** لو كان يمكنني في الليل أحتزم )
إلى غير ذلك مما يطول ذكره قال صاحب الدوحة حدثني الفقيه العدل أبو العباس أحمد الدغموري القصري قال كان الشيخ أبو عبد الله يقول ما غزونا غزوة قط إلا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ويخبرني بجميع ما يتفق لي ولأصحابي في تلك الغزوة وله رضي الله عنه في شأن الجهاد والرجولية حكاية ظريفة وهي أنه غز مرة غزوة إلى الثغور الهبطية ثم قدم منها مع أصحابه فوجد زوجته فلانة بنت الشيخ أبي زكرياء يحيى بن بكار قد توفيت وصلى الناس عليها بجامع القرويين وإمامهم الشيخ غازي ابن الشيخ أبي عبد الله محمد بن غازي الإمام المشهور فوصل الشيخ أبو عبد الله ووجد جنازتها على شفير القبر والناس يحاولون دفنها فقال لهم مهلا ثم تقدم وأعاد الصلاة عليها مع أصحابه الذين قدموا معه فبادر الناس إليه بالإنكار في تكرير الصلاة في الجنازة بالجماعة مرتين فقال لهم على البديهة صلاتكم التي صليتم عليها فاسدة لكونها بغير إمام فقالوا له كيف ذلك يا سيدي قال لأن شرط الإمام الذكورية وهي مفقودة في صاحبكم لأن الذي لم يتقلد سيفا في سبيل الله قط ولم يضرب به ولا عرف الحرب كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم ولم يتعبد بالسيرة النبوية فكيف يعد إماما ذكرا بل
____________________

إمامكم والله من جملة النساء اه وحكى أيضا في ترجمة الشيخ أبي محمد عبد الله الورياكلي الذي قال له العلامة ابن مرزوق وقد عزم على الرحلة إلى بلاد المشرق في طلب العلم ليس أمامك أحد أعلم منك قال فرجع من هنالك فوجد النصارى قد تغلبوا على طنجة وآصيلا فلازم الثغور الهبطية لأجل الرباط والجهاد في سبيل الله وبث العلم ونشره قال وكان من عادته أن يشتغل بالتدريس في فصلي الشتاء والربيع ويخرج في الصيف والخريف فيربط في ثغور القبائل الهبطية إلى آخر كلامه وأمثال هذا كثير ذكرنا منه هذه النبذة اليسيرة لتقف بها على أحوال القوم وما كانوا عليه من الرغبة في الجهاد والمثابرة عليه قدس الله أرواحهم وجعل في دار النعيم غدوهم ورواحهم
وقد آن أن نشرع في الأخبار عن دولة بني وطاس بعد أن نذكر دولة الشريف العمراني الذي بايعه أهل فاس يوم مقتل السلطان عبد الحق بن أبي سعد رحمه الله الخبر عن دولة الشريف أبي عبد الله الحفيد وأوليته
هذا الشريف هو أبو عبد الله محمد بن علي الإدريسي الجوطي العمراني من بيت بني عمران فرقة من أدارسة فاس وهم واسطة عقد البيت الإدريسي وأوضحهم نسبا وأعلاهم حسبا قال ابن خلدون ليس في المغرب فيما نعلمه من أهل البيت الكريم من يبلغ في صراحة نسبه ووضوحه مبلغ أعقاب إدريس رضي الله عنه قال وكبراؤهم لهذا العهد بنو عمران بفاس من ولد يحيى الجوطي بن محمد بن يحيى العدام بن القاسم بن إدريس بن إدريس وهم نقباء أهل البيت هناك والساكنون ببيت جدهم إدريس ولهم السيادة على أهل المغرب كافة اه والجوطي قال في المرآة نسبة إلى جوطة بجيم مضموم وواو مد وطاء مفتوحة وهاء تأنيث وهي قرية عظيمة على نهر سبو في العدوة الجنوبية خربت ولم يبق منها إلا أثار ولها مسيل شتوي يعرف بمخروط جوطة نزلها السيد يحيى فنسب إليها وقبره هنالك معروف اه
____________________

بيعة السلطان أبي عبد الله الحفيد والسبب فيها
كان بنو مرين أيام ولايتهم على المغرب يعظمون هؤلاء الأشراف الأدارسة ويوجبون حقهم ويتقربون إلى الله تعالى برفع منزلتهم وجبر خواطرهم لما فاتهم من رتبة الخلافة التي كانت تكون لهم بطريق الاستحقاق الشرعي فكان بنو مرين لما جبلوا عليه من الجنوح إلى مراسم الدين وانتحالها يرون في أنفسهم كأنهم متغلبون مع وجود هؤلاء الأشراف فلذا كانوا يخضعون لهم ويتأدبون معهم ما أمكن ولقد حكى أبو عبد الله بن الأزرق أن الشيخ الكبير أبا عبد الله المقري كان يحضر مجلس السلطان أبا عنان ليث العلم وكان نقيب الشرفاء بفاس إذا دخل مجلس السلطان يقوم له السلطان وجميع من في المجلس إجلالا له إلا الشيخ المقري فإنه كان لا يقوم له فجرت بين الشريف والفقيه المذكور معاتبة ومراجعة في حكاية مشهورة تركناها لعدم تعلق الغرض بها إذ الغرض هو الوقوف على ما كان عليه القوم من التجلة والتعظيم لأهل هذا البيت الكريم فلما اضطربت أحوال الدولة المرينية بفاس واجتمع رؤساء فاس إلى الفقيه أبي فارس الورياكلي في شأن اليهوديين اللذين كانا يحتكمان في المدينة ويعتسفان أهلها أجمع رأيهم على مبايعة هذا الشريف الحفيد وكان يومئذ على نقابة الأشراف بفاس فاستدعوه فحضر وبايعوه في العشر الأواخر من رمضان سنة تسع وستين وثمانمائة وتم أمره وكان من قتله للسلطان عبد الحق ما تقدم ذكره والله أعلم
____________________

فتنة الشاوية ووصولهم إلى بلاد الغرب
قد قدمنا ما كان من أمر الشاوية وفتنتهم في أيام السلطان عبد الحق ولما كانت أيام الحفيد هذا تزايد ضررهم واستطال شرهم فزحفوا إلى بلاد الغرب من أحواز مكناسة وفاس وعاثوا وأفسدوا ولما تكلم أبو عبد الله محمد العربي الفاسي في مرآة المحاسن على الشيخ عبد الوارث اليالصوتي وأنه أخذ من جماعة منهم أبو النجاء سالم الروداني الشاوي والشيخ أبو عبد الله الصغير السهلي والشيخ أبو محمد الغزواني قال وكان الشيخ أبو النجاء أولا يقرأ بالمدرسة العنانية فلما نزل الشاوية الغرب خرج من فاس خائفا يترقب وذلك في أيام الحفيد اه وبلاد الغرب تطلق في عرف أهله على خصوص بسيط أزغار وما اتصل به إلى ساحل البحر والله أعلم استيلاء البرتغال على مدينة آنفي وآصيلا
رأيت في بعض تواريخ الفرنج أن استيلاء البرتغال على آنفي كان في حدود أربع وسبعين وثمانمائة وأنهم هدموها وبقيت كذلك مدة تزيد على أربعين سنة ثم شرعوا في تحصينها والبناء بها ولم يزالوا مقيمين بها إلى حدود أربع وخمسين ومائة وألف في سنة ست وسبعين وثمانمائة استولوا على آصيلا وظفروا فيها ببيت مال الوطاسي وأسروا ولده محمدا المدعو بالبرتغالي وابنته وزوجتيه وجماعة من الأعيان وكان الخطب عظيما وبقي ولد الوطاسي عند البرتغال سبع سنين ثم افتكه والده بعد وكان يوم أسر صبيا صغيرا وأما مدينة فضالة فلم يقع عليها استيلاء وإنما كانت بها كمبانية خمسة نفر من تجار مادريد قاعدة قشتالة نزلوها بقصد التجارة بإذن سلطان الوقت وكانت سلعهم توسق وتوضع من مرساها وبنوا بها البناء الموجود
____________________

اليوم والله تعالى أعلم خلع السلطان أبي عبد الله الحفيد وانقراض أمره
قال في الجذوة لما قامت عامة فاس على السلطان عبد الحق وأقاموا هذا النقيب من أهل مدينة فاس إماما استمر بها وابنه وزير له إلى سنة خمس وسبعين وثمانمائة فعزل عن الإمامة وكان الذي خلعه أبا الحجاج يوسف بن منصور بن زيان الوطاسي وكان ذلك سبب ذهاب الشريف المذكور إلى تونس لمدة يسيرة من خلعه وبقيت حضرة فاس الجديد في يد أخت أبي الحجاج المذكور وهي الزهراء المدعوة بزهور مع قائده السجيري إلى أن تولى الأمر أبو عبد الله محمد الشيخ الوطاسي والله غالب على أمره
____________________

الخبر عن دولة بني وطاس وذكر نسبهم وأوليتهم
اعلم أن بني وطاس فرقة من بني مرين غير أنهم ليسوا من بني عبد الحق ولما دخل بنو مرين المغرب واقتسموا أعماله حسبما تقدم كان لبني وطاس هؤلاء بلاد الريف فكانت ضواحيها لنزولهم وأمصارها ورعاياها لجبايتهم وكان بنو الوزير منهم يسمون إلى الرياسة ويروسون الخروج على بني عبد الحق وقد تكرر ذلك منهم حسبما مر ثم أذعنوا إلى الطاعة وراضوا أنفسهم على الخدمة فاستعملهم بنو عبد الحق في وجوه الولايات والأعمال واستظهروا بهم على أمور دولتهم فحسن أثرهم لديها وتعدد الوزراء منهم فيها وذكر ابن خلدون أن بني الوزير هؤلاء يرون أن نسبهم دخيل في بني مرين وأنهم من أعقاب يوسف بن تاشفين اللمتوني لحقوا بالبدو ونزلوا على بني وطاس ووشجت فيهم عروقهم حتى لبسوا جلدتهم ولم يزل السرو متربعا بين أعينهم لذلك والرياسة شامخة بأنوفهم اه ولما كانت دولة السلطان أبي عنان واستولى على بجابة عقد عليها لعمر بن علي الوطاسي من بني الوزير هؤلاء فثار عليه أهلها واستلحموه في خبر مر التنبيه عليه
ثم لما كانت الدولة الأولى للسلطان أبي العباس بن أبي سالم وخلص ملك مراكش وأعمالها إلى ابن عمه الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن كان من جملة من تحيز إليه وصار في جملته زيان بن عمر بن علي المذكور فكانت له في دولته الوجاهة الكبيرة والمنزلة الرفيعة ثم لما فسد ما بين السلطان أبي العباس والأمير عبد الرحمن كان زيان بن عمر في جملة النازعين إلى السلطان أبي العباس فاتصل به وصار في جملته إلى أن حاصر السلطان أبو العباس قصبة مراكش وبها يومئذ الأمير عبد الرحمن فأبلى
____________________

زيان بن عمر في ذلك الحصار وكان أحد الذين باشروا قتل ولدي الأمير عبد الرحمن
قال ابن خلدون وطالما كان زيان هذا يمتري ثدي نعمتهم ويجر ذيله خيلاء في جاههم فذهب مثلا في كفران النعمة وسوء الجزاء والله لا يظلم مثقال ذرة ثم جاء بعده ابنه أبو زكرياء يحيى بن زيان فولي الوزارة للسلطان عبد الحق كما مر ثم بعده ابنه يحيى أيضا وهو الذي قتله السلطان عبد الحق في جماعة من عشيرته وفر أخوه أبو عبد الله محمد الشيخ إلى الصحراء وبقي متنقلا في البلاد إلى أن كان من أمره ما نذكره الخبر عن دولة السلطان أبي عبد الله محمد الشيخ بن أبي زكرياء الوطاسي رحمه الله
قد تقدم لنا ما كان من إيقاع السلطان عبد الحق ببني وطاس وإفلات محمد الشيخ ومحمد الحلو من النكبة وأن الشيخ كان قد خرج للصيد فاتصل به الخبر فذهب على وجهه لا يلوي على شيء وأن الحلو اختفى حتى إذا سكنت الهيعة تسلل ولحق بالشيخ فسارا إلى جهة الصحراء وجعلا يترددان فيما بينها وبين البلاد الهبطية حتى ملكا آصيلا وذلك قبل استيلاء البرتغال عليها ولما ملك الشيخ آصيلا واستفحل أمره بها تشوفت إليه الأعيان من أهل فاس والرؤساء من أهل دولة السلطان عبد الحق وصاروا يكاتبونه ويقدمون إليه الوسائل سرا وربما دعوه إلى القدوم على أن يبذلوا له من الطاعة والنصرة ما شاء فاستمر الحال على ذلك إلى أن قتل عبد الحق وبويع الحفيد فحينئذ أرهف الشيخ حده واستفرغ في المطالبة جهده إلى أن استولى على الحضرة وصفا له ملك المغرب
قال في المرآة لما بايع أهل فاس أبا عبد الله الحفيد قام محمد الشيخ الوطاسي في آصيلا واستتبع القبائل واستفحل أمره وحاصر فاسا وقتا
____________________

بعد وقت إلى أن دخلت في طاعته في رمضان سنة ست وسبعين وثمانمائة وخرج عنها الحفيد ودخلها محمد الشيخ المذكور في أوائل شوال من السنة المذكورة وهو مورث الملك لبنيه بها اه وقد تقدم لنا أن الذي خلع الشريف من الملك هو أبو الحجاج يوسف بن منصور الوطاسي وأن حضرة فاس الجديد قد بقيت بعد ذهاب الشريف إلى تونس في يد زهور الوطاسية والقائد السجيري إلى أن قدم السلطان محمد الشيخ والله تعالى أعلم
وقال منويل في أخبار محمد الشيخ هذا ما صورته كانت مملكة المغرب الأقصى في غاية الاضطراب والانتكاس حتى طمع في ملكها كل من كانت توسوس له نفسه بذلك واستولى ابن الأحمر على جميع الثغور التي كانت لبني مرين بأرض الأندلس ولم يترك لهم قيد شبر واشرأبت أجناس الفرنج للتغلب على المغرب وفي تلك المدة كان بآصيلا محمد الشيخ الوطاسي وكان شجاعا مقداما وأحس من نفسه بالقدرة على الاستيلاء على كرسي فاس وتنحية الشريف عنه لا سيما مع ما كان الناس فيه من افتراق الكلمة فجمع جندا صالحها وزحف إلى فاس فبرز إليه الشريف والتقوا بأحواز مكناسة فوقعت بينهما حرب عظيمة كانت الكرة فيها على الوطاسي ثم جمع عسكرا آخر وزحف به إلى فاس وحاصرها نحو سنتين والشريف فيها مع أرباب دولته وفي أثناء الحصار ورد عليه الخبر باستيلاء البرتغال على آصيلا وعلى بيت ماله الذي كان بها وعلى حظاياه وأولاده فأفرج عن فاس ورجع مبادرا إلى آصيلا فحاصرها ولما امتنعت عليه عقد مع البرتغال هدنة وعاد سريعا إلى فاس فحاصرها وضيق على الشريف بها حتى خرج فارا بنفسه وأسلمها إليه فدخلها محمد ا لشيخ وتمت بيعته وتفرغ لتدويخ القبائل التي بأحواز فاس وغيرها فدخلوا في طاعته واغتبطوا به اه كلامه
____________________

رياسة بني راشد من شرفاء العالم بغمارة وبناؤهم مدينة شفشاون وما يتبع ذلك
قال في نشر المثاني اختط بعض شرفاء العلم مدينة شفشاون بقصد تحصين المسلمين من نصارى سبتة إذ كانوا بعد استيلائهم عليها يتطاولون على أهل تلك المداشر في أواخر دولة بني وطاس
وقال في المرآة كان ابتداء اختطاط مدينة شفشاون في الجهة المعروفة عندهم بالعدوة وهي عدوة وادي شفشاون في حدود سنة ست وسبعين وثمانمائة على يد الشريف الفقيه الصالح الناصح المجاهد أبي الحسن بن أبي محمد المعروف بأبي جمعة العلمي واسمه الحسن بن محمد ابن الحسن بن عثمان بن سعيد بن عبد الوهاب بن علال بن القطب أبي محمد عبد السلام بن مشيش ومات شهيدا قبل إتمام ما شرع فيه بتدبير النصارى دمرهم الله مع أهل النفاق إذ ذاك من أهل الخروب وقد جاءهم في سبيل الجهاد وبينما هو يتهجد من الليل في مسجد هنالك إذ أضرموا عليه نارا فمات رضوان الله عليه وقام مقامه فيما كان بسبيله من الجهاد والاستنفار له وتجييش الجيوش ابن عمه الأمير الجليل الفاضل الأصيل أبو الحسن علي بن موسى بن راشد بن علي بن سعيد بن عبد الوهاب إلى آخر النسب المتقدم فشرع في اختطاط مدينة شفشاون في العدوة الأخرى فبنى قصبتها وشيدها وأوطنها بأهله وعشيرته وزل الناس بها فبنوا وصارت في عداد المدن إلى أن توفي سنة سبع عشرة وتسعمائة وورثها بنوه من بعده ولم يزالوا فيها بين سلم وحرب إلى أن أخرجهم منها الشرفاء السعديون عند استيلائهم على بلاد المغرب والله تعالى أعلم
____________________

ثورة عمرو بن سليمان السياف ببلاد السوس وشيء من أخباره
هذا الرجل هو عمرو بن سليمان الشيظمي المغيطي المعروف بالسياف ويقال له المريدي بضم الميم وكان ابتداء أمره أنه كان من تلامذة الشيخ أبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي صاحب دلائل الخيرات نقل الثقات أنه كان يتردد إلى الشيخ المذكور أيام حياته ويأتيه بألواح فيها كلام كثير منسوب إلى الخضر عليه السلام فلا يقول له في ذلك شيئا غير انه أثنى عليه مرات كثيرة ثم لما مات الشيخ المذكور رحمه الله سنة سبعين وثمانمائة ثار عمرو المذكور مظهرا الطلب بثأر الشيخ والانتقام من الذين سموه إذ كان سمه بعض فقهاء عصره فتتبعهم حتى قتلهم ثم صار يدعو الناس إلى إقامة الصلاة ويقاتلهم عليها فانتصر عليهم وشاع ذكره وتمكن ناموسه ثم تجاوز ذلك إلى أن صار يدعو الناس إلى نفسه ويقتل المنكرين عليه وعلى شيخه وأصحابه وسمى أصحابه المريدين بضم الميم قال زروق وما أحقها بالفتح وسمى المخالفين له الجاحدين ثم جعل يتفوه بالمغيبات ويزعم أنه مأذون وربما ادعى النبوة وكان قد أخرج شلو الشيخ الجزولي من قبره وجعله في تابوت وصار يقدمه بين يديه في حروبه كتابوت بني إسرائيل فينتصر على من خالفه وقيل إنه لم يدفنه وإنما أخذه بعد موته فكفنه وجعله في التابوت وجمع الجموع وقاد الجيوش وسفك الدماء واستمرت فتنة في الناس عشرين سنة
قال الشيخ زروق رحمه الله بلغني أن شيخنا الفقيه أبا عبد الله القوري ورد عليه سؤال في شأن عمرو بن سليمان السياف فبادرت إليه كي أراه فقال لي قد خرج من يدي فقلت له فما مقتضاه قال مقتضاه أنه يقول إن أحكام الكتاب والسنة ارتفعت ولم يبق إلا ما يقول له قلبه قال زروق وشاع من أمره أنه يقول إنه وارث النبوة وأن له أحكاما تخصه كما في قصة الخضر مع موسى عليهما السلام وأن الخضر حي ونبي مرسل وأنه يلقاه ويأخذ عنه بل يدعي ذلك من هو دونه من تلامذته
____________________


وحكى بعضهم أن عمرا المذكور لما جعل شلو الشيخ في التابوت كان إذا رجع به من حربه وضعه في روضة عنده يسميها الرباط فإذا جنه الليل أطاف الحرس بالروضة يحرسون التابوت من السراق ويوقد عليه كل ليلة فتيلة عظيمة في مقدار الثوب مغموسة في نحو مدين من الزيت ليقوى الضوء وينتشر ويبلغ من كل الجهات إلى مسافة بعيدة فتنكشف الطرق عمن يأتي عليها كل ذلك مخافة أن يؤخذ منه شلو الشيخ فينتصر به عليه
ويقال إن ثورة عمرو المذكورة وفتنته كانت أثرا من آثار دعوات الشيخ الجزولي رحمه الله فقد ذكر تلامذته كالشيخ التباع وغيره أن الشيخ الجزولي خرج عليهم من آخر الليلة التي قتل في صبيحتها فقالوا له يا سيدي الناس يزعمون أنك الفاطمي المنتظر فقال ما يبحثون إلا عمن يقطع رقابهم الله يسلط عليهم من يقطع رقابهم وكرر ذلك مرارا فكانوا يرون أن أثر دعوته ظهر في عمرو السياف والله أعلم
وقتل عمرو المذكور سنة تسعين وثمانمائة واختلف فيمن قتله فقيل كان عمرو قد تزوج زوجة الشيخ الجزولي وبنته فلما رأتا ما هو عليه من الزندقة والفساد في الأرض قتلتاه امتعاضا للدين ترصدتاه حتى إذا نام عدتا عليه فقتلتاه ثم رمت إحداهما وهي بنت الشيخ بنفسها من كوة هنالك في البيت الذي كانوا به فوصلت إلى الأرض سالمة ونجت وبقيت الأخرى وهي الزوجة بالبيت فدخلوا عليها فقتلوها وقيل إنما قتلته زوجته وربيبته وقيل غير ذلك والله أعلم
ولما هلك عمرو السياف دفن الناس الشيخ الجزولي وقيل هو دفنه بموضع يعرف بتاصروت ثم نقل بعد إلى مراكش على ما نذكر إنشاء الله ولما ذكر الشيخ أبو العباس الصومعي في كتابه الموضوع في مناقب الشيخ أبي يعزى قصة نقل الشيخ الجزولي إلى مراكش وأنه وجد طريا لم يتغير بعد وفاته بنحو سبعين سنة قال وأعجب من هذا أن عمرا المغيطي السياف زعموا أنه وجد كذلك ولعله أدركته بركة هذا الشيخ مع ما كان عليه والفضل بيد الله اه
____________________


وفي سنة إحدى وتسعين وثمانمائة استدعى السلطان محمد الشيخ الإمام أبا عبد الله بن غازي من مكناسة إلى فاس فولي الخطابة أولا بالمسجد الجامع من فاس الجديد ثم ولي الإمامة والخطابة ثانيا بمسجد القرويين من فاس وصار شيخ الجماعة بها واستوطنها إلى أن مات رحمه الله
وفي سنة خمس وتسعين وثمانمائة تحرك السلطان محمد الشيخ إلى دبدو ثم عاد إلى حضرته وفيها أيضا في يوم الخميس السابع من ذي القعدة توفي الوزير أبو عبد الله محمد الحلو الوطاسي ودفن بالقلة خارج باب الحبيسة
وفي سنة سبع وتسعين وثمانمائة استولت الرينة إيسابيلا صاحبة مادريد قاعدة بلاد قشتالة على حمراء غرناطة ومحت دولة بني الأحمر من جزيرة الأندلس ولم يبق للمسلمين بها سلطان وتفرق أهلها في بلاد المغرب وغيرها أيادي سبا وقد تقدم الخبر عن ذلك مستوفى بناء مدينة تطاوين
قال منويل لما استولى الإصبنيول على غرناطة خرج جماعة كبيرة من أهلها إلى المغرب فنزلوا في مرتيل قرب تطاوين ولما نزلوا به لم يقدموا شيئا على الوفادة على سلطان فاس محمد الشيخ الوطاسي فأجل مقدمهم ورحب بهم فقالوا إن ضيافتنا عندك أن تعين لنا موضعا نبني فيه بلدا يكننا ونحفظ فيه عيالنا من أهل الريف فأجابهم إلى مرادهم وعين لهم مدينة تطاوين الخربة منذ تسعين سنة وولى عليهم كبيرهم أبا الحسن عليا المنظري وكان رجلا شجاعا من كبار جند ابن الأحمر وكان قد أبلى معه في حرب غرناطة البلاء الحسن ثم انتقل إلى المغرب كما قلنا ولما عقد له الشيخ الوطاسي على أصحابه رجع بهم إلى تطاوين وشرع في بناء أسوار البلد القديم فجدده وبنى المسجد الجامع به واستوطنه هو وجماعته ثم أخذ في جهاد البرتغال بسبتة وبلاد الهبط إلى أن أسر منهم ثلاثة آلاف فاستخدمهم في إتمام ما بقي
____________________

عليه من بناء تطاوين واتصلت الحرب بينهم وبين برتقال سبتة كاتصالها بين أهل آزمور وبرتقال الجديدة اه
وقوله إن بناء تطاوين كان عقب أخذ غرناطة مخالف لما يقول أهل تطاوين من أن تاريخ بنائها رمز تفاحة وأن ذلك كان بإعانة الشريف أبي الحسن علي بن راشد فيظهر والله أعلم أن أبا الحسن المنظري كان قد قدم من الأندلس قبل أخذ غرناطة بسنين يسيرة موافق الرمز المذكور والله أعلم قدوم أبي عبد الله بن الأحمر مخلوعا على السلطان محمد الشيخ الوطاسي رحمهما الله
لما استولى طاغية الإصبنيول على حضرة غرناطة وسائر الأندلس انتقل سلطانها أبو عبد الله بن الأحمر إلى حضرة فاس فاستوطنها تحت كنف السلطان محمد الشيخ بعد أن خاطبه من إنشاء وزيره أبي عبد الله محمد العربي العقيلي بقصيدة بارعة يقول في صدرها
( مولى الملوك ملوك العرب والعجم ** رعيا لما مثله يرعى من الذمم )
( بك استجرنا ونعم الجار أنت لمن ** جار الزمان عليه جور منتقم )
( حتى غدا ملكه بالرغم مستلبا ** وأفظع الخطب ما يأتي على الرغم )
( حكم من الله حتم لا مرد له ** وهل مردا لحكم منه منحتم )
وهي طويلة ثم وصلها برسالة يقول فيها بعد الحمد لله والصلاة على نبيه ما نصه
أما بعد فيا مولانا الذي أولانا من النعم ما أولانا لا حط الله لكم من العزة أرواقا ولا أذوى لدوحة دولتكم أغصانا ولا أوراقا ولا زالت مخضرة العود مبتسمة عن زهرات البشائر متحفة بثمرات السعود ممطورة بسحائب البركات المتداركات دون بروق ولا رعود هذا مقام العائذ بمقامكم المتعلق بأسباب ذمامكم المرتجي لعواطف قلوبكم وعوارف أنعامكم
____________________

المقبل الأرض تحت أقدامكم المتلجلج اللسان عند محاولة مفاتحة كلامكم وماذا الذي يقول من وجهه خجل وفؤاد وجل وقضيته المقضية عن التنصل والاعتذار تجل بيد أني أقول لكم ما أقول لربي واجترائي عليه أكثر واحترامي إليه أكبر اللهم لا بريء فاعتذر ولا قوي فأنتصر لكني مستقيل مستعتب مستغفر وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء هذا على طريق التنازل والاتصاف بما تقتضيه الحال ممن يتحيز إلى حيز الإنصاف وأما على جهة التحقيق فأقول ما قالته الأم ابنة الصديق والله إني لأعلم أني إن أقررت بما يقوله الناس والله يعلم أني منه بريئة لا قول ما لم يكن ولئن أنكرت ما تقولون لا تصدقوني فأقول ما قاله أبو يوسف فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون على أني لا أنكر عيوبي فأنا معدن العيوب ولا أجحد ذنوبي فأنا جبل الذنوب إلى الله أشكو عجري وبجري وسقطاتي وغلطاتي نعم كل شيء ولا ما يقوله المتقول المشنع المهول الناطق بفم الشيطان المسول ومن أمثالهم سبني واصدق ولا تفتر ولا تخلق أفمثلي كان يفعل أمثالها ويحتمل من الأوزار المضاعفة أحمالها ويهلك نفسه ويحبط أعمالها عياذا بالله من خسران الدين وإيثار الجاحدين والمعتدين { قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين } وايم الله لو علمت شعرة في فودي تميل إلى تلك الجهة لقطعتها بل لقطفت ما تحت عمامتي من هامتي وقطفتها غير أن الرعاع في كل أوان أعداء للملك وعليه أحزاب وأعوان كان أحمق أو أجهل من أبي ثروان أو أعقل أو أعلم من أشج بني مروان رب متهم بريء ومسربل بسربال وهو منه عري وفي الأحاديث صحيح وسقيم ومن التراكيب المنطقية منتج وعقيم ولكن ثم ميزان عقل تعتبر به أوزان النقل وعلى الراجح الاعتماد ثم إساغة الأحماد المتصل المتماد وللمرجوح الإطراح ثم التزام الصراح بعد النفض من الراح وأكثر ما تسمعه الكذب وطبع جمهور الخلق إلا من عصمه الله تعالى إليه منجذب ولقد قذفنا من الأباطيل بأحجار ورمينا بما لا يرمى به الكفار فضلا عن الفجار وجرى من الأمر المنقول على لسان زيد وعمرو ما
____________________

لديكم منه حفظ الجار وإذا عظم الإلكاء فعلى تكأة التجلد والاتكاء أكثر المكثرون وجهد في تعثيرنا المتعثرون ورمونا عن قوس واحدة ونظمونا في سلك الملاحدة أكفرا أيضا كفرا غفرا اللهم غفرا أعد نظرا يا عبد قيس فليس الأمر على ما خيل لك ليس وهل زدنا على أن طلبنا حقنا ممن رام محقه ومحقنا فطاردنا في سبيله عداة كانوا لنا غائظين فانفتق علينا فتق لم يمكنا له رتق { وما كنا للغيب حافظين } وبعد فاسأل أهل الحل والعقد والتمييز والنقد فعند جهينتهم تلقى الخبر يقينا وقد رضينا بحكمهم يوثمنا فيوبقنا أو يبرئنا فيقينا إيه يا من اشرأب إلى ملامنا وقدح حتى في إسلامنا رويدا رويدا فقد وجدت قوة وأيدا ويحك إنما طال لسانك علينا وامتد بالسوء إلينا لأن الزمان لنا مصغر ولك مكبر والأمر عليك مقبل وعنا مدبر كما قاله كاتب الحجاج المتبر وعلى الجملة فهنا صرنا إلى تسليم مقالك جدلا وذهبنا فأقررنا بالخطأ في كل ورد وصدر فلله در القائل
إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر وكأنا بمعتسف إذا وصل إلى هنا وعدم إنصافا يعلمه الهنا قد أزور متجانفا ثم أفتر متهانفا وجعل يتمثل بقولهم إذا عيروا قالوا مقادير قدرت وبقولهم المرء يعجزه المحال فيعارض الحق بالباطل والحالي بالعاطل وينزع بقول القائل رب مسمع هائل وليس تحته طائل وقد فرغنا أول أمس من جوابه وتركنا الضغن يلصق حرارة الجوى به وسنلم الآن بما يوسعه تبكيتا ويقطعه تسكيتا فنقول له ناشدناك الله تعالى هل اتفق لك قط وعرض خروج أمر ما عن القصد منك فيه والغرض مع اجتهادك أثناءه في إصدارك وإيرادك في وقوعه على وفق اقتراحك ومرادك أو جميع ما تزاوله بإدارتك لا يقع إلا مطابقا لإرادتك أو كل ما تقصده وتنويه تحرزه كما تشاء وتحويه فلا بد أن يقر اضطرارا بأن مطلوبه يشذ عنه مرارا بل كثيرا ما يفلت صيده من أشراكه ويطلبه فيعجز عن إدراكه فنقول ومسألتنا من هذا القبيل أيها النبيه النبيل ثم نسرد له من الأحاديث النبوية ما شئنا مما يسايرنا في غرضنا منه ويماشينا كقوله
____________________

صلى الله عليه وسلم ( كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس ) وقوله أيضا ( لو اجتمع أهل السموات والأرض على أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يقضه الله عليك لم يقدروا عليه ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم فأخلق به أن يلوذ بأكناف الأحجام ويزم على نفث فيه كأنما الجم بلجام حينئذ نقول له والحق قد أبان وجهه وجلاه وقهره بحجته وعلاه ( ليس لك من الأمر شيئا ) ( قل إن الأمر كله لله ) وفي محاجة آدم وموسى ما يقطع لسان الخصم ويرخص عن أثواب أعراضنا ما عسى أن يعلق بها من دون الوصم وكيفما كانت الحال وإن ساء الرأي والانتحال ووقعنا في أوجال وأوحال فثل عرشنا وطويت فرشنا ونكس لوانا ومللت مثوانا فنحن أمثل من سوانا وما في الشر خيار ويد الألطاف تكسر من صولة الأغيار فحتى الآن لم نفقد من اللطيف تعالى لطفا ولا عدمنا أدوات أدعية تعطف بلا مهلة على جملتنا المقطوعة جمل النعم الموصولة عطفا وإلا فتلك بغداد دار السلام ومتبوأ الإسلام المحفوف بفرسان السيوف والأقلام مثابة الخلافة العباسية ومقر العلماء والفضلاء أولي السير الأويسية والعقول الأياسية قد نوزلت بالجيوش ونزلت وزوزلت بالزحوف وزلزلت وتحيف جوانبها الحيف ودخلها كفار التتار عنوة بالسيف ولا تسل إذ ذاك عن كيف أيام تجلت عروس المنية كاشفة عن ساقها مبدية وجرت الدماء في الشوارع والطرق كالأنهار والأودية وقيد الأئمة والقضاة تحت ظلال السيوف المنتضاة بالعمائم في رقابهم والأردية وللنجيع سيول تخوضها الخيول فتخضبها إلى أرساغها وتهم ظماؤها بوردها فتنكل عن تجرعها ومساغها فطاح عاصمها ومستعصمها وراح ولم يغد ظالمها ومتظلمها وخربت مساجدها وديارها واصطلم بالحسام أشرارها وخيارها فلم يبق من جمهور أهلها عين تطرف حسبما عرفت أو حسبما تعرف فلاتك متشككا متوقفا فحديث تلك الواقعة الشنعاء أشهر عند المؤرخين من قفا فأين تلك الجحافل والآراء المدارة في المحافل حين أراد الله تعالى بإدالة الكفر لم تجد ولا قلامة ظفر إذن من سلمت له نفسه
____________________

التي هي رأس ماله وعياله وأطفاله اللذان هما من أعظم آماله وكل أوجل أو قل رياشه وأسباب معاشه الكفيلة بانتهاضه وانتعاشه ثم وجد مع ذلك سبيلا إلى الخلاص في حال مياسرة ومساهلة دون تعصب واعتياص بعد ما ظن كل الظن أن لا محيد ولا مناص فما أحقه حينئذ وأولاه أن يحمد خالقه ورازقه ومولاه على ما أسداه إليه من رفده وخيره ومعافاته مما ابتلي به كثير من غيره ويرضى بكل إيراد وإصدار تتصرف فيهما الأحكام الإلهية والأقدار فالدهر غدار والدنيا دار مشحونة بالأكدار والقضاء لا يرد ولا يصد ولا يغالب ولا يطالب والدائرات تدور ولا بد من نقص وكمال للبدور والعبد مطيع لا مطاع وليس يطاع إلا المستطاع وللخالق القدير جلت قدرته في خليقته علم غيب للأذهان عن مداه انقطاع ومالي والتكلف لما لا أحتاج إليه من هذا القول بين يدي ذي الجلالة والمجادة والفضل والطول فله من العقل الأرجح ومن الخلق الأسجح ما لا تلتاط معه تهمتي بصفره ولا تنفق عنده وشاية الواشي لا عد من نفره ولا فاز قدحه بظفره والمولى يعلم أن الدنيا تلعب باللاعب وتجر براحتها إلى المتاعب وقديما للأكياس من الناس خدعت وانحرفت عن وصالهم أعقل ما كانوا وقطعت وفعلت بهم ما فعلت بيسار الكواعب الذي جبت وجدعت ولئن رهصت وهصرت فقد نبهت وبصرت ولئن قرعت ومعضت ولقد أرشدت ووعظت ويا ويلنا من تنكرها لنا بمرة ورميها لنا في غمرة أي غمرة أيام قلبت لنا ظهر المجن وغيم أفقها المصمي وأدجن فسرعان ما عاينا حبالها منبته ورأينا منها ما لم نحتسب كما تقوم الساعة بغته فمن استعاذ من شيء فليستعذ مما صرنا إليه من الحور بعد الكور والانحطاط من النجد إلى الغور
( فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ** إذا نحن فيهم سوقة نتنصف ) ( فتبا لدينا لا يدوم نعيمها ** تقلب تارات بنا وتصرف )
وأبيها لقد أرهقتنا إرهاقا وجرعتنا من صاب الأوصاب كأسا دهاقا ولم نفزع إلى غير بابكم المنيع الجناب المنفتح حين سدت الأبواب ولم نلبس
____________________

غير لباس نعمائكم وحين خلعنا ما ألبسنا الملك من الأثواب وإلى أمه يلجأ الطفل لجأ اللهفان وعند الشدائد تمتاز السيوف من الأجفان ووجه الله تعالى يبقى وكل من عليها فان وإلى هنا ينتهي القائل ثم يقول حسبي هذا وكفان ولا ريب في اشتمال العلم الكريم على ما تعارفته الملوك بينها في الحديث والقديم من الأخذ باليد عند زلة القدم وقرع الإنسان وعض البنان من الندم دينا تدينته مع اختلاف الأديان وعادة أطردت على تعاقب الأزمان والأحيان ولقد عرض علينا صاحب قشتالة مواضع معتبرة خير فيها وأعطى من أمانة المؤكد فيه خطه بأيمانه ما يقنع النفوس ويكفيها فلم نر ونحن من سلالة الأحمر مجاورة الصفر ولا سوغ لنا الإيمان الإقامة بين ظهراني الكفر ما وجدنا عن ذلك مندوحة ولو شاسعة وأمنا المطالب المشاغب حمة شر لنا لا سعة وادكرنا أي ادكار قول الله تعالى المنكر لذلك غاية الإنكار { ألم تكن أرض الله واسعة } وقول الرسول صلى الله عليه وسلم المبالغ في ذلك بأبلغ الكلام ( أنا بريء من مؤمن مع كافر تتراءى ناراهما ) وقول الشاعر الحاث على حث المطية المتثاقلة عن السير في طريق منجاتها البطية
( وما أنا والتلذذ نحو نجد ** وقد غصت تهامة بالرجال )
ووصلت أيضا من الشرق إلينا كتب كريمة المقاصد لدينا تستدعي الانحياز إلى تلك الجنبات وتتضمن مالا مزيد عليه من الرغبات فلم نختر إلا دارنا التي كانت دار آبائنا من قبلنا ولم نرتض الانضواء إلا لمن بحبله وصل حبلنا وبريش نبله ريش نبلنا إدلالا على محل إخاء متوارث لا عن كلالة وامتثالا لوصاة أجداد لا نظارهم وأقدارهم أصالة وجلالة إذ قد روينا عن سلف من أسلافنا في الإيصاء لمن يخلف بعدهم من أخلافنا أن لا يبتغوا إذا دهمهم أمر بالحضرة المرينية بدلا ولا يجدوا عن طريقها في التوجه إلى فريقها معدلا فاخترقنا إلى الرياض الأريضة الفجاج وركبنا إلى البحر الفرات ظهر البحر الأجاج فلا غرو أن نرد منه على ما يقر العين ويشفي النفس الشاكية من ألم البين ومن توصل هذا التوصل وتوسل بمثل
____________________

ذلك التوسل تطارحا على سدة أمير المؤمنين المحارب للمحاربين والمؤمن للمستأمنين فهو الخليق الحقيق بأن يسوغ أصفى مشاربه ويبلغ أوفى مآربه على توالي الأيام والشهور والسنين ويخلص من الثبور إلى الحبور ويخرج من الظلمات إلى النور خروج الجنين ولعل شعاع سعادته يفيض علينا ونفحة قبول إقباله تسري إلينا فتخامرنا أريحية تحملنا على أن نبادر لإنشاد قول الشريف الرضي في الخليفة القادر
( عطفا أمير المؤمنين فإننا ** في دوحة العلياء لا نتفرق )
( ما بيننا يوم الفخار تفاوت ** أبدا كلانا في المعالي معرق )
( إلا الخلافة ميزتك فإنني ** أنا عاطل منها وأنت مطوق )
لا بل الأحرى بنا والأحجى والأنجح لسعينا والأرجى أن نعدل عن هذا المنهاج ويقوم وافدنا بين يدي علاه مقام الخاضع المتواضع الضعيف المحتاج وينشد ما قال في الشيرازي ابن حجاج
( الناس يفدونك اضطرارا ** منهم وأفديك باختياري )
( وبعضهم في جوار بعض ** وأنت حتى أموت جاري )
( فعش لخبزي وعش لمائي ** وعش لداري وأهل داري )
ونستوهب من الوهاب تعالى جلت أسماؤه وتعاظمت نعماؤه رحمة تجعل في يد الهداية أعنتنا وعصمة تكون في مواقف المخاوف جنتنا وقبولا يعطف علينا نوافر القلوب وصنعا يسني لنا كل مرغوب ومطلوب ونسأله وطالما بلغ السائل سؤلا ومأمولا متابا صادقا على موضوع الندم محمولا ثم عزاء حسنا وصبرا جميلا عن أرض أورثها من شاء من عباده معقبا لهم ومديلا وسادلا عليهم من ستور الإملاء الطويلة سدولا { سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } فليطر طائر الوسواس المرفرف مطيرا { كان ذلك في الكتاب مسطورا } لم نستطع عن مورده صدورا { وكان أمر الله قدرا مقدورا } إلا وإن لله سبحانه في مقامكم العالي الذي أيده وأعانه سرا من النصر يترجم عنه لسان من النصل وترجع فروع البشائر الصادقة بالفتوحات المتلاحقة من قاعدته
____________________

المتأصلة إلى أصل فبمثله يجب اللياد والعياذ ولشبهه يحق الالتجاء والارتجاء ولأمر ما آثرناه واخترناه بعد أن استرشدنا الله سبحانه واستخرناه ومنه جل جلاله نرغب أن يخير لنا ولجميع المسلمين ويأوب بنا من حمايته ووقايته إلى معقل منيع وجناب رفيع آمين آمين آمين ونرجو أن يكون ربنا الذي هو في جميع الأمور حسبنا قد خار لنا حيث أرشدنا وهدانا وساقنا توفيقه وحدانا إلى الاستجارة بملك حفي كريم وفي أعز جارا من أبي داود وأحمى أنفا من الحارث بن عباد ويشهد بذلك الداني والقاصي والحاضر والباد إن أغاث ملهوفا فما الأسود بن قنان يذكر وإن أنعش حشاشة هالك فما كعب بن مامة على فعله وحده يشكر جليسه كجليس القعقاع بن شور ومذاكره كمذاكر سفيان المنتسب من الرباب إلى ثور إلى التحلي بأمهات الفضائل التي أضدادها أمهات الرذائل وهي الثلاث الحكمة والعدل والعفة التي تشملها الثلاثة الأقوال والأفعال والشمائل وينشأ عنها ما شئت من عزم وحزم وعلم وحلم وتيقظ وتحفظ واتقاء وارتقاء وصول وطول وسماح نائل فبنور حلاه المشرق يفتخر المغرب على المشرق وبمجده السامي خطره في الأخطار وبيته الذي ذكره في النباهة والنجابة قد طار يباهي جميع ملوك الجهات والأقطار وكيف لا وهو الرفيع المنتمي والنجار الراضع من الطهارة صفو البان الناشئ من السراوة وسط أحجار في ضئضئ المجد وبحبوح الكرم وسرواة أسرة المملكة التي أكنافها حرم وذؤابة الشرف التي مجادتها لم ترم من معشر أي معشر بخلوا أن وهبوا ما دون أعمارهم وجبنوا إن لم يحموا سوى دمارهم بنو مرين وما أدراك ما بنو مرين سم العداة وآفة الجزر النازلون بكل معترك والطيبون معاقد الأزر لهم عن الهفوات انتفاء وعندهم من السير النبوية اكتفاء انتسبوا إلى بر بن قيس فخرجوا في البر عن القيس ما لهم القديم المعروف قد نفد في سبيل المعروف وحديثهم الذي نقلته رجال الزحوف من طريق القنا والسيوف على الحسن من المقاصد موقوف تحمد من صغيرهم وكبيرهم ذابلهم ولدنهم فلله آباء أنجبوهم وأمهات ولدنهم شم
____________________

الأنوف من الطراز الأول إليهم في الشدائد والاستناد وعليهم في الأزمات المعول ولهم في الوفاء والصفاء والاحتفاء والعناية والحماية والرعاية الخطو الواسع والباع الأطول كأنما عناهم بقوله جرول
( أولئك قوم إن بنو أحسنوا البنا ** وإن عاهدوا وفوا وإن عقدوا شدوا )
( وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها ** وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا )
( وتعذلني أبناء سعد عليهم ** وما قلت إلا بالذي علمت سعد )
وبقول الوثيق مبناه البليغ معناه
( قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ** شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا )
يزيحون عن النزيل كل نازح قاصم وليس له منهم عائب ولا واصم فهو أحق بما قاله في منقر قيس بن عاصم
( لا يفطنون لعيب جارهم ** وهم لحفظ جوارهم فطن )
حلاهم هذه الغريزة التي ليست باستكراه ولا جعل وأمير المؤمنين دام نصره قسيمهم فيها حذو النعل بالنعل ثم هو عليهم وعلى من سواهم بالأوصاف الملوكية مستعل ارفض مزنهم منه عن غيث ملث يمحو آثار اللزبة وانشق عيلهم منه عن ليث ضار منقبض على براثنه للوثبة فقل لسكان الفلا لا تغرنكم أعدادكم وأمدادكم فلا يبالي السرحان المواشي سواء مشي إليها النقرا أو الجفلى بل يصدمهم صدمة تحطم منهم كل عرنين ثم يبتلع بعد أشلاءهم المعفرة ابتلاع التنين فهو هو كما عرفوه وعهدوه وألفوه وأخو المنايا وابن جلا وطلاع الثنايا مجتمع أشده قد احتنكت سنه وبان رشده جاد مجد محتزم بحزام الحزم مشمر عن ساعد الجد
( لا يشرب الماء إلا من قليب دم ** ولا يبيت له جار على وجل )
( أسدى القلب آدمي الروا لابس ** جلد النمر يزني العناد والنوى )
( وليس بشاري عليه دمامة ** إذا ما سعى يسعى بقوس وأسهم )
( ولكنه يسعى عليه مفاضة ** دلاص كأعيان الجراد المنظم )
فالنجاء النجاء سامعين له طائعين والوجل الوجل لاحقين به خاضعين
____________________

قبل أن تساقوا إليه مقرنين في الأصفاد ويعيي الفداء بنفائس النفوس والأموال على الفاد حينئذ يعض ذو الجهل والفدامة على يديه حسرة وندامة إذا رأى أبطال الجنود تحت خوافق الرايات والبنود قد لفحتهم نار ليست بذات خمود وأخذتهم صاعقة مثل صاعقة الذين من قبلهم عاد وثمود زعقات تؤز الكتائب أزا وهمزا محققا للخيل بعد المد المشبع للأعنة همزا وسلا للهندية سلا وهزا للخطية هزا حتى يقول النسر للذئب هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ثق خليفة الله بذاك في كل من رام أذى رعيتك أو أذاك فتلك عادة الله سبحانه في ذوي الشقاق والنفاق الذين يشقون عصا المسلمين ويقطعون طريق الرفاق وينصبون حبائل البغي والفساد في جميع النواحي والآفاق فلن يجعلهم الله عز وجل من الآمنين أنى وكيف وقد أفسدوا وخانوا وهو سبحانه { لا يصلح عمل المفسدين } و { لا يهدي كيد الخائنين } وها نحن قد وجهنا إلى كعبة مجدكم وجوه صلوات التقديس والتعظيم بعد ما زينا معاظفها باستعطافكم بدر ثناء أبهى من در العقد النظيم منتظمين في سلك أوليائكم متشرفين بخدمة عليائكم ولا فقد عزة ولا عدمها من قصد مثابتكم العزيزة وخدمها وأن المترامي على سنائكم لجدير بحرمتكم واعتنائكم وكل ملهوف تبوأ من كنفكم حصنا حصينا عاش بقية عمره محروسا من الضيم مصونا وقد قيل في بعض الكلام من قعدت به نكاية الأيام أقامته إغاثة الكرام ومولانا أيده الله تعالى ولي ما يزفه إلينا من مكرمة بكر ويصنعه لنا من صنيع حافل يخلد في صحائف حسن الذكر ويروي معنعن حديث حمده وشكره طرس عن قلم عن بنان عن لسان عن فكر وغيره من ينام عن ذلك فيوقظ ويسترسل مع الغفلة حتى يذكر ويوعظ وما عهد منذ وجد إلا سريعا إلى داعي الندى والتكرم بريئا من الضجر بالمطالبة والتبرم حافظا للجار الذي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بحفظه مستفرغا وسعه في رعيه المستمر ولحظه آخذا من حسن الثناء في جميع الأوقات والآناء بحظه
( فهو من دوحة السنا فرع عز ** ليس يحتاج مجتنيه لهز )
____________________


( كفه في الأمحال أغزر ويل ** وذراه في الجوف أمنع حرز )
( حلمه يسفر اسمه لك عنه ** فتفهم يا مدعي الفهم لغزي )
( لا تسله شيئا ولا تستلنه ** نظرة منه فيك تغني وتجزي )
( فنداه هو الفرات الذي قد ** عام فيه الأنام عوم الأوز )
( وحماه هو المنيع الذي ترجع ** عنه الخطوب مرجع عجز )
( فدعوا ذهنه يزاول قولي ** فهو أدرى بما تضمن رمزي )
( دام يحيى بكل صنع ومن ** ويعافى من كل بوس ورجز )
وكأنا به قد عمل على شاكلة جلاله من مد ظلاله وتمهيد خلاله وتلقى ورودنا بتهلله واستهلاله وتأنيسنا بجميل قبوله وإقباله وإيرادنا على حوض كوثره المترع بزلاله والله سبحانه يسعد مقامه العلي ويسعدنا به في حله وارتحاله ومآله وحاله ويؤيد جنده المظفر ويؤيدنا بتأييده على نزال عدوه واستنزاله وهز الذوابل لإطفاء ذباله وهو سبحانه وتعالى المسؤول أن يريه قرة العين في نفسه وأهله وخدامه وأمواله وأنظاره وأعماله وكافة شؤونه وأحواله وأحق ما نصل بالسلام وأولى على المقام الجليل مقام الخليفة المولى و صلى الله عليه وسلم صلاة وسلاما دائمين أبدا موصولين بدوام الأبد واتصاله ضامنين لمجددهما ومرددهما صلاح فساد أعماله وبلوغ غاية آماله وذلك بمشيئة الله تعالى وإذنه وفضله وأفضاله انتهت الرسالة وما كادت
ووصل السلطان ابن الأحمر المخلوع بعد نزوله بمليلية إلى مدينة فاس بأهله وأولاده معتذرا عما أسلفه متلهفا على ما خلفه وبنى بفاس بعض قصور على طريق بنيان الأندلس وتوفي بها سنة أربعين وتسعمائة ودفن بإزاء المصلى خارج باب الشريعة وخلف ذرية من بعده قال في نشر المثاني انقرضوا ولم يبق منهم أحد وزعم منويل أنه هلك في وقعة أبي عقبة في حرب الوطاسيين مع السعديين قال ولم يحسن هذا الرجل أن يدفع عن ملكه فدفع عن ملك غيره
____________________

استيلاء البرتغال على ساحل البريجه وبناؤهم مدينة الجديدة صانها الله سبحانه وتعالى بمنه
قال مؤلفه عفا الله عنه قد وقفت لبعض البرتغاليين واسمه لويز مارية على تأليف في أخبار الجديدة من لدن بنوها إلى أن انتزعها المسلمون منهم فاقتطفت منه ما أثبته في هذه الترجمة قال هذا المؤلف لما كانت سنة ألف وخمسمائة واثنتين مسيحية قلت ويوافقها من تاريخ الهجرة سنة سبع وتسعمائة تقريبا بعث سلطان البرتغال واسمه منويل من دار ملكه أشبونة عمارة في البحر للاستيلاء على بعض ثغور المغرب فألجأهم هيجان البحر وموجه إلى ساحل البريجة فيما بين آزمور وتيط وكانت البريجة على ما يفهم من كلامه بناء متخذا هنالك للحراسة ونحوها كان يسمى برج الشيخ ولا زال مسمى بهذا الاسم إلى الآن فأرسى البرتغاليون على الساحل المذكور ونزلت طائفة منهم إلى البر فتطوفوا بالبريجة وما حولها وأعجبهم المكان فعزموا على المقام به واتفق رأيهم أن يتركوا جماعة هنالك يحفظون المحل ويرجع باقيهم إلى ملكهم يستأذنوه فيما عزموا عليه فتركوا اثني عشر رجلا بالبريجة بعد أن حصنوها وشحنوها بما يحتاجون إليه من عدة وقوت ونحوهما ورجع الباقون إلى الملك فأخبروه بشأنهم فأذن لهم وبعث معهم جماعة من البنائين والعملة ليبنوا لهم ما يتحصنون به فقدموا على إخوانهم وشرعوا في إدارة السور على قطعة من الأرض فنذر بهم أهل تلك البلاد من المسلمين وتسابقوا إليهم على الصعب والذلول ففر النصارى إلى البريجة وتحصنوا بها وأفسد المسلمون كل ما كانوا عملوه في تلك الأيام وأحجروهم بحصنهم ووضعوا عليهم الرصد إلى أن فتر عزمهم وأيسوا من نجاح سعيهم فعاد جلهم أو كلهم إلى أشبونة وأعادوا الكلام على ملكهم منويل في شأن البريجة ووصفوا له حسن البقعة وصحة هوائها ومنزلتها من البحر ومن قبائل أهل المغرب من أهل تامسنا ودكالة وغيرهم وأنها عسى أن تكون سلما للاستيلاء
____________________

على غيرها من بلاد المغرب لا سيما ودولة المسلمين به يومئذ قد تلاشت وملكهم قد ضعف فوقر ذلك في نفس الملك واستأنف العزم وبعث معهم حصة من العسكر تحصل بها الكفاية وتتأتى بها المدافعة والممانعة مع جماعة وافرة من البنائين والمهندسين وحملهم ما يحتاجون إليه من آلة وغيرها فانتهوا إلى الموضع المذكور بعد سبع سنين من مقدمهم الأول وتحينوا غفلة أهل البلاد وشرعوا في بناء حصن مربع على كل ربع منه برج وثيق ودأبوا في العمل ليلا ونهارا فلم تمض مدة يسيرة حتى فرغوا منه وامتنعوا على المسلمين به وكان إنشاؤهم لهذا الحصن على البريجة القديمة بأن جعلوها أحد أرباعه وأضافوا إليها ثلاثة أرباع أخر وأداروا السور على الجميع واتخذوا في داخل هذا الحصن ماجلا عظيما لخزن الماء وهو النطفية في لسان الجيل بنوه مربعا بتربيع الحصن مساحة كل ربع منه مائة وثلاثون شبرا وجوانبه وقبوه من حجر النصف العجيب النحت المحكم الوضع والالتئام محمولا ذلك القبو على ستة أقواس في كل ربع قال هذا المؤلف وامتلاء نحو بلكاظة من هذا الماجن يسع عشرين بوطة من الماء ثم شيدوا على أحد أرباع هذا الحصن طريا عظيما مرتفعا جدا ليس صادق التربيع ولا الاستدارة غير مهندس الشكل ثم بنوا في أعلاه على أحد جوانبه بناء آخر لطيفا مستديرا صاعدا في الجويرقي إليه على مدارج لطيفة وجعلوا في أعلاه صاريا خارجا من جوفه وناقوسا للحراسة يشرف الحارس منه على نحو خمسة وعشرين ميلا من سائر جهاته وجميع هذه البناءات التي ذكرها المؤلف من الحصن وما معه لا زالت قائمة العين والأثر إلى الآن إلا الطري فإنه قد اتخذ في هذه الأيام التي هي سنة سبع وتسعين ومائتين وألف منارا للمسجد الجامع وذلك أن عامل الجديدة في هذا العصر وهو الرئيس الفاضل أبو عبد الله محمد بن إدريس الجراري حفظه الله استأذن الخليفة وهو السلطان الأعظم المولى الشريف أبو علي الحسن بن محمد العلوي نصره
____________________

الله في جعله منارا لكون المنار القديم قصيرا لا يسمع الناس الأذان فأذن أعزه الله في ذلك وهذا العامل اليوم جاد في إصلاحه والزيادة فيه وقد أشرف على التمام وكذلك استأذن هذا العامل حضرة السلطان المذكور في إدارة جدار من داخل سور المدينة يكون سترة على منازل أهلها وبيوتهم لأن السور المذكور كان مرتفعا على البلد بحيث يكون الصاعد عليه متكشفا على البيوت واستأذنه في إصلاح القبة المشرفة على البحر المعروفة بقبة الخياطين وكانت قد تلاشت وباتخاذ سجن متسع محكم عن يمين الداخل من باب المدينة المذكورة لأنه لم يكن بها سجن معتبر فأجابه الخليفة المذكور إلى ذلك كله أدام الله علاه وقد تم جل ذلك وعادت القبة إلى أحسن حالاتها التي كانت عليها أيام البرتغال والله لا يضيع أجر من أحسن عملا
ولنرجع إلى موضوعنا الذي كنا فيه فنقول ثم شرع نصارى البرتغال بعد الفراغ من الحصن المذكور في إدارة سور المدينة على أوثق وجه وأحكمه وذلك أنهم عمدوا إلى بقعة مربعة من الأرض مساحة كل ربع منها ثلاثمائة وخمس وسبعون خطوة وجعلوا مركزها الحصن المذكور ثم أداروا بها سورين عاديين ثخن الخارج منهما نحو خمسة عشر شبرا والداخل على نحو الثلثين منه وبينهما فضاء مردوم بالتراب والحجارة الصغيرة فصار السوران بذلك سورا واحد سعته خمسون شبرا وهذا في غير الربع الموالي للبحر أما هو فليس فيه ردم وإنما هو سور واحد مصمت أضيق مما عداه يسيرا وارتفاع هذه الأسوار من داخل البلد نحو ستين شبرا ومن خارجه نحو السبعين ثم أداروا خارج السور خندقا فسيحا وجعلوا عمقه أربعة عشر شبرا بحيث بلغوا به الماء وإذا فاض البحر ملأ ما بين جوانبه واتخذوا للمدينة ثلاثة أبواب أحدها للبحر وهو باب المرسى وقد سد بالبناء في هذه السنين واثنان للبر وجعلوا أمامهما قنطرتين بالعمل الهندسي بحيث ترفعان وتوضعان وقت الحاجة إلى ذلك فصارت المدينة بهذا كله في غاية المناعة
____________________


وكان بنو وطاس في هذه المدة أشغل من ذات النحيين مع برتقال سبتة وطنجة وسائر بلاد الهبط فلذا تأتي لهؤلاء النصارى أن يفعلوا ما فعلوه في هذه المدة اليسيرة وجعلوا داخل المدينة خمس حارات وسموا كل حارة باسم كبير من قدمائهم على عادتهم في ذلك واتخذوا بها أربع كنائس واتخذوا المخازن والأهراء للاختزان وسائر المرافق ومن جملتها هرى كان يسع ستمائة فنيكة من الحب وأوطنوها بأهلهم وعيالهم وكان فيها جماعة من أشرافهم وذوي بيوتاتهم من أهل أشبونه وغيرها وكانوا يعدون فيها أربعة آلاف نفس ما بين المقاتلة والعيال والذرية وكانوا يأملون الاستيلاء منها على مراكش فخيب الله رجاءهم ثم ذكر هذا المؤلف ما كان يقع بين المسلمين ونصارى الجديدة من الحروب والغارات مما لعلنا نشير إلى بعضه في محله إن شاء الله استيلاء البرتغال على سواحل السوس وبناؤهم حصن فونتي قرب أكادير وما قيل في ذلك
ذكر بعض المؤرخين من الفرنج أن استيلاء البرتغال على آكادير كان في مدة ملكهم منويل المذكور آنفا وإن ذلك كان على حين غفلة من أهل تلك البلاد
قال منويل لما علم طاغية البرتغال منويل أن مرسى آكادير جيدة لمناعتها وكثرة تجارتها بسبب مجاورتها لقبائل السوس أراد الاستيلاء عليها وكان يظن أن ذلك لا يتأتى له لحصانتها وكثرة القبائل المجاورين لها ثم خاطر وبعث إليها جيشا فاستولوا عليها على حين غفلة من أهلها وحصنوها وبنوا بها دورا وبرجا جيدا وأخذوا في التجارة بها مع أهل السوس وكثرت أرباحهم ثم لما ضعفت شوكتهم خرجوا عنها وعن آسفي وآزمور قلت مراده بآكادير حصن فونتي القريب منه وإلا فآكادير إنما بني بعد هذا التاريخ
____________________

بكثير كما سيأتي ثم مقتضى ما ذكره أن يكون زمان استيلائهم عليه موافقا أو قريبا لزمان استيلائهم على البريجة ومقتضى ما نقله في النزهة عن ابن القاضي أن يكون استيلاؤهم عليه في حدود سنة خمس وسبعين وثمانمائة فإنه لما وصف حال السلطان محمد الشيخ السعدي الآتي ذكره إن شاء الله قال وكان له بخت عظيم في الجهاد فتح حصن النصارى بسوس بعد أن أقاموا به اثنتين وسبعين سنة اه وكان فتحه إياه في حدود سبع وأربعين وتسعمائة والظاهر أنهم استولوا على بعض حصون السوس في التاريخ الأول وعلى بعضها في الثاني والله أعلم وفاة السلطان محمد الشيخ الوطاسي رحمه الله
ذكر ابن القاضي في الجذوة أن وفاة السلطان المذكور كانت سنة عشر وتسعمائة قال ومن حملة وزرائه أخوه الناصر بن أبي زكرياء والله أعلم وولي الأمر من بعده ابنه محمد البرتغالي على ما نذكره الخبر عن دولة السلطان محمد بن محمد الشيخ الوطاسي المعروف بالبرتغالي رحمه الله
لما توفي السلطان محمد الشيخ بويع ابنه محمد البرتغالي في التاريخ المتقدم وكان نصارى سبتة وطنجة وآصيلا قد استحوذوا على بلاد الهبط وضايقوا المسلمين بها حتى ألجأوهم إلى قصر كتامة فكان هو الثغر يومئذ بين بلاد المسلمين وبلاد النصارى كما مر وكان السلطان محمد هذا قد عني بجهادهم وترديد الغزو إليهم والإجلاب عليهم حتى شغل بذلك عن البلاد المراكشية وسواحلها فكان ذلك سببا لظهور الدولة السعدية بها سنة خمس عشرة وتسعمائة على ما نذكره إن شاء الله
____________________

استيلاء البرتغال على ثغر آسفي حرسه الله
قال منويل كان البرتغال قد تشوفوا للاستيلاء على آسفي وكان أهلها فيهم شجاعة أكثر من غيرهم من أهل الثغور فزحفوا إليها وجرى بينهم وبين أهلها قتال شديد هلك فيه عدد كبير من البرتغال وعظم عليهم أن تمتنع منهم بلدة صغيرة ليس لها حامية سوى أهلها ثم طاولوها بالحصار حتى قل القوت عند أهل آسفي وأشرفوا على الهلاك فحينئذ شارطوا البرتغال وأسلموها إليهم على الأمان فاستولوا عليها وحصنوها غاية لتوقعهم كرة المسلمين عليهم فكان كذلك فإنهم زحفوا إليهم بعد ثلاث سنين من أخذها ووقع بينهم وبين البرتغال حرب شديدة كانت صفوف المسلمين تترادف فيها كأمواج البحر وقتل قواد عسكر البرتغال وكبارهم ثم قدمت عليهم شكوادره من مادرة بالعسكر والزاد فقويت نفوس البرتغال وارتحل المسلمون عنها بعد أن أشرفوا على الفتح وتبعهم البرتغال لينتهزوا فيهم الفرصة فكر المسلمون عليهم واستلبوهم وهذا أول حصار كان على آسفي
ثم بعد سنين قلائل زحف المسلمون إليها أيضا ومعهم عدد من المدافع وقاتلوا قتالا صعبا وزحفوا إلى السور فهدموا منه ثلمة كبير واشتد القتال عليها بما خرج عن العادة ثم رحل المسلمون من غير فتح وأعرضوا عنها مدة لم يحدثوا أنفسهم بالقتال وعمرت آسفي بالنصارى وانتقل إليها التجار وبنوا بها الدور وكانوا يسقون منها الحب ويحملونه في السفن إلى بلادهم ولعل ذلك لهدنة كانت لهم مع المسلمين
ثم عادت للمسلمين بعد نحو ثلاث وعشرين سنة وقال الشيخ أبو عبد الله محمد العربي الفاسي في مرآة المحاسن ما نصه قرأت بخط شيخنا أبي عبد الله القصار أن صاحب آسفي أخرج الشيخ أبا عبد الله محمد بن سليمان الجزولي منها فدعا عليهم فسئل منه العفو فقال أربعين سنة فأخذها النصارى بعدها اه وهذا يقتضي أن استيلاءهم عليها كان في حدود
____________________

عشر وتسعمائة لأن وفاة الشيخ الجزولي رحمه الله كانت في سنة سبعين وثمانمائة كما مر وعند الفرنج ما يقتضي أن استيلاءهم عليها كان بعد ذلك بسنتين أو ثلاث والله أعلم زحف السلطان أبي عبد الله البرتغالي إلى آصيلا
قال منويل لما أفضى الأمر إلى السلطان محمد بن محمد الشيخ الوطاسي أراد أن يأخذ بثأره من البرتغال الذين أسروه لسبع سنين فزحف إلى آصيلا في حدود أربع عشرة وتسعمائة وحاصرها وطال قتاله عليها ثم اقتحمها المسلمون عليهم اقتحاما واقتتلوا في وسط الأزقة والأسواق يومين ثم جاء المدد إلى البرتغال من طنجة وجبل طارق فقويت نفوسهم وخرج المسلمون عنهم لكن ما خرجوا حتى هدموها وأحرقوها ولم يتركوا لهم بها إلا الخربات ثم جد البرتغال في إصلاحها وأقاموا بها برهة من الدهر إلى أن رجعت للمسلمين استيلاء البرتغال على ثغر آزمور حرسه الله
قال منويل بعث طاغية البرتغال أربع عشرة وتسعمائة إلى ثغر آزمور شكوادره فيها ألفان من العسكر وأربعمائة خيالة فدافعهم زيار الوطاسي ابن عم السلطان ونشبت مراكب البرتغال في الساحل وتكسر جلها وعاث فيها المسلمون ورجع الباقي مفلولا ثم بعد أربع سنين بعث إليها الطاغية منويل شكوادره فيها عشرون ألفا من العسكر وألفان وسبعمائة خيالة فانتهوا إلى آزمور وحاصروها بحرا وزحفوا إليها من الجديدة برا ووقع حرب شديدة بينهم وبين أهل آزمور وأهل البادية ثم انهزم المسلمون وخرجوا من باب تركه لهم البرتغال قصدا قال لأنه يقال في المثل الفار منك في الحرب
____________________

اجعل له قنطرة من فضة يعبر عليها
وقال في النزهة كان نزول النصارى بآزمور سنة أربع عشرة وتسعمائة قال وفي هذه السنة بنى النصارى حجر باديس وفي أواخر المحرم منها أخذ النصارى يعني الإصبنيول مدينة وهران ونكبوا أهلها فما منهم إلا أسير أو قتيل إلى أن أعادها الله للإسلام على يد الأتراك في حدود العشرين ومائة وألف اه
قلت أهل آزمور يزعمون أن استيلاء البرتغال على مدينتهم كان متكررا وسيأتي ما يفهم منه ذلك والله أعلم
ومن أخبار السلطان أبي عبد الله ما وقفت عليه في تاريخ البرتغاليين من أن السلطان المذكور كتب لطاغيتهم منويل يطلب منه أن يتقدم بالوصاة لأصحاب قراصينه البحرية أن لا يتعرضوا لمركبين له كان قد عزم على بعثهما إلى الجزائر ثم منها إلى تونس وكان الطاغية لم يجبه أو أبطأ بالجواب فكرر إليه الكتاب ثانيا في القضية المذكورة وسرد هذا المؤرخ نص الكتابين معا مترجمين بلغته وذكر أن تاريخ الأول منهما الثالث والعشرون من جمادى سنة عشرين وتسعمائة وتاريخ الثاني الثامن والعشرون من ذي القعدة من السنة اه استيلاء البرتغال على ثغر المعمورة حرسه الله
قال في نشر المثاني إن الذي اختط حصن المعمورة هو المهدي الشيعي على يد بعض عماله وزعم بعض الفرنج أن المعمورة من بناء يعقوب المنصور الموحدي قال ولما كان زمن منويل البرتغالي بلغه أن مينا المعمورة جيدة وبلادها نفاعة فبعث إليها طائفة من جنده فوصلوا إلى ساحلها ونزلوا في البر المقابل لها وبنوا هنالك برجا لحصارها ثم أردفهم ملكهم المذكور بعمارة تشتمل على مائتي مركب مشحونة بثمانية آلاف
____________________

من المقاتلة قال وكان خروج هذه العمارة من مدينة أشبونة في اليوم الثالث عشر من يونيه العجمي سنة ألف وخمسمائة وخمس عشرة مسيحية قلت يوافقها من تاريخ الهجرة تقريبا سنة إحدى وعشرين وتسعمائة فوافت مينا المعمورة في الثالث والعشرين من يوينه المذكور وحاصروها وألحوا عليها بالقتال أياما وبلغ الخبر بذلك إلى السلطان أبي عبد الله البرتغالي فبعث أخاه الناصر صريخا في جيش كثيف فوصل سادس أغشت من السنة المذكورة وقاتل البرتغال قتالا شديدا وهزمهم هزيمة قبيحة ثم كانت لهم الكرة على المسلمين فهزموهم واستولوا على المعمورة وثبت قدمهم بها وحصنوها بالسور الموجود بها الآن واستمروا بها نحو خمس سنين ثم استرجعها المسلمون منهم في دولة السلطان المذكور والله تعالى أعلم وفي السنة التي استولوا على المعمورة رجعوا إلى موضع مدينة آنفي فشرعوا في بنائها ومن يومئذ سميت الدار البيضاء وبقوا بها مدة طويلة إلى زمن السلطان المولى عبد الله بن إسماعيل على ما زعم منويل أخبار السلطان أبي عبد الله البرتغالي مع الشيخ أبي محمد الغزواني رضي الله عنه
أصل الشيخ أبي محمد عبد الله الغزواني دفين حومة القصور من مراكش من غزوان قبيلة من عرب تامسنا وكان في ابتداء أمره يقرأ العلم بمدرسة الوادي من عدوة الأندلس بفاس فحصلت له إرادة فسافر إلى مراكش ولازم الشيخ التباع وتخرج به ثم انتقل إلى بلاد الهبط فنزل بها على قبيلة يقال لهم بنو فزنكار واجتمع عليه الناس واشتهر أمره وعظم صيته فبلغ ذلك السلطان أبا عبد الله وكان يومئذ ببلاد الهبط قد خرج إليها بقصد الغارة على نصارى آصيلا وكان معه في هذه الحركة الشيخ أبو عبد الله محمد بن غازي الإمام المشهور فتوهم السلطان المذكور من أمر الشيخ الغزواني وخشي
____________________

على الدولة عاقبة أمره وأغراه به مع ذلك الفقيه ابن عبد الكبير البادسي السفياني الأصل وكان هذا الفقيه يصحب الولاة والعمال ويخرج في بعوثهم قاضيا فكثرت سعايته بالشيخ حتى وقر ذلك في نفس السلطان فبعث إ ليه فحضر وأمر بالقبض عليه بالموضع المعروف بتاجناوت وجعله في سلسلة وبعث به إلى فاس وتقدم في شأنه إلى ابن شقرون صاحب شرطته بقصبة فاس القديم وكان الشيخ ابن غازي قد مرض في هذه الغزوة وأمر السلطان بحمله إلى منزله من فاس فلما وصل إلى قرب عقبة المساجين اشتد به الحال وأمر أصحابه أن يريحوا به هنالك فبينما هو كذلك إذ مر به الشيخ الغزواني في سلسلته فسأل الموكلين به أن يعوجوا به على الشيخ ابن غازي كي يعوده ويؤدي حقه فلما وقف عليه طلب ابن غازي منه الدعاء فدعا له بخير وانصرف فلما غاب عنه قال ابن غازي لأصحابه احفظوا وصيتي فإني راحل عنكم إلى الله تعالى بلا شك قالوا له يا سيدي ما عندك باس فقال إن الله وعدني أن لا يقبض روحي حتى يريني وليا من أوليائه وقد أرانيه الساعة فدلني ذلك على انقضاء الأجل فحملوه من حينه إلى منزله فكان آخر العهد به هكذا ساق هذا الخبر صاحب الدوحة في ترجمتي الشيخين المذكورين
وكانت وفاة ابن غازي أواخر جمادى الأولى سنة تسع عشرة وتسعمائة وقال صاحب المرآة عن بعض شيوخه بعد أن ذكر سعاية ابن عبد الكبير بالشيخ الغزواني ما نصه فتحرك الشيخ الغزواني لزيارة ضريح الشيخ أبي سلهام فعرض له العروسي قائد القصر الكبير وناوله كتاب السلطان يأمره فيه بقدوم الشيخ إلى فاس دار الملك إذ ذاك فقال له الشيخ طاعة السلطان واجبة وقال للزائرين معه بلغت النية فتوجه الشيخ إلى فاس من ذلك المكان وكلما بات في منزل ذهبت جماعة من الذين معه فلم يصل معه إلا القليل وكان الشيخ أبو البقاء عبد الوارث اليالصوتي إذ ذاك ساكنا بفاس
____________________

ولم يكن صحب الشيخ قبل ذلك فلما دخل الشيخ حضرة فاس لقيه أبو البقاء المذكور فسلم عليه فشد الشيخ يده على يده فلم يرسلها حتى عاهده على الرجوع فلما انفصل عنه اشترى خبزا وعنبا وحمل ذلك إلى الشيخ وأصحابه فوجدهم عند القاضي أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله اليفرني المكناسي وهو مؤلف المجالس المكناسية فوجدهم في المسجد القريب من دار القاضي المذكور بدرب السعود فناولهم ما معه ووجد الشيخ موكلا به وأصحابه يدخلون ويخرجون ثم دخل القاضي على الشيخ بالمسجد فقال له ما هذا الذي يذكر عنك قال أبو البقاء فتكلمت أنا وقلت إن هذا الرجل قد نزل بلدا عظيمة المناكر وأخذت أعدد مناكرها وصار هذا السيد ينهاهم عن ذلك فهدى الله على يده من هدى وشنئه من أبى فقام القاضي وركب إلى دار السلطان ثم رجع إلى منزله فبات ومن الغدر ركب إلى دار السلطان أيضا ومعه الشيخ الغزواني فلما اطمأن بهم مجلس السلطان وكان فيه صاحب تازا وهو أبو العباس أحمد ابن الشيخ أخو السلطان المذكور سكت الجميع وتكلم كاتب السلطان وإمام صلاته قال صاحب المرآة ولم يسم لنا فقال للشيخ ما هذا الذي يذكر عنك فقال له الشيخ أنت لا تتكلم حتى تغتسل من جنابتك فاستشاط الكاتب غضبا فقال له أخو السلطان هؤلاء القوم يعنون الجنابة غير ما تعنيه العامة يشير إلى ما في الحكم فقال له السلطان ومن أين تعرف هذا فقال له من سيدي محمد بن عبد الرحيم بن يجيش ففرح السلطان بمعرفة أخيه ذلك وقال للشيخ نحن نريد قربك وأن تكون معنا في هذه المدينة فقال له على بركة الله فانتقل إلى فاس القديم وبنى خارج باب القليعة داخل باب الفتوح وأقام هنالك ما شاء الله قيل سبع سنين إلى أن كانت سنة تعذر فيها المطر وأخذ الناس في استخراج السواقي للحرث فأخرج الشيخ من وادي اللبن ساقية لم يكن
____________________

في سواقي السلطان وغيره مثلها فبعث إليه أخوه السلطان وهو الناصر الملقب بالكديد بالكاف المعقودة والدال المشددة على لغة العامة وقال له نحن أحق بتلك الساقية فقال له الشيخ خذها وأخذ في الرحيل إلى مراكش ولما توجه تلقاءها أخذ خنيفه في يده وجعل يشير به من جهة فاس إلى جهة مراكش ويقول أيا يا سلطنة إلى مراكش قال صاحب المرآة هذا حديث شيخنا أبي عبد الله النيجي قال وآخنيف معروف وهو نوع من البرانس السود ومعنى أيا بلغة عامة المغرب سيري معي وموضع بني فزنكار أظنه تاصروت فإن بها رسما منسوبا إليه إلى الآن وأنه منزله الذي كان يأوي إليه وما زالت آثاره هنالك والدار التي بنى بباب القليعة هي المتصيرة إلى تلميذه الشيخ أبي عبد الله محمد بن علي الهروي المعروف بالطالب ولعل سنة إخراج السواقي هي سنة ست وعشرين وتسعمائة فإنه قد تعذر فيها المطر وحدث الغلاء الكبير المؤرخ بسنة سبع وعشرين وتسعمائة وكأنه أشار إلى انتقال السلطنة عن بني وطاس ملوك فاس إلى الشرفاء السعديين ملوك مراكش يومئذ والله أعلم نهوض السلطان أبي عبد الله البرتغالي إلى مراكش ومحاصرته أبا العباس الأعرج السعدي بها
قد تقدم لنا أن ظهور الدولة السعدية ببلاد السوس كان في سنة خمس عشرة وتسعمائة وما زال أمرهم في الزيادة إلى أن كانت دولة أبي العباس الأعرج منهم فاستفحل أمره وبعد صيته وفتك بنصارى السوس فكاتبه أمراء هنتاتة أصحاب مراكش ودخلوا في طاعته فانتقل إليها وملكها في حدود الثلاثين وتسعمائة ولما اتصل خبره بالسلطان أبي عبد الله وهو يومئذ بفاس قامت قيامته وأقبل في جموع عديدة ومعه وزيره ابن عمه المسعود بن الناصر كذا في النزهة والذي عند غيره أن الوزير الذي جاء معه هو الناصر
____________________

أخو السلطان المذكور ولما رأى أبو العباس السعدي ما لا قبل له به تحصن بمراكش وشحن أسوارها بالرماة فتقدم السلطان أبو عبد الله ونصب الأنفاض على مراكش ودام الحصار عليها أياما فيحكى أنه قيل للشيخ أبي محمد الغزواني وكان قد استوطن مراكش يومئذ أن أهل مراكش سئموا الحصار فركب الشيخ في جماعة من أصحابه وخرج من باب فاس المعروف اليوم بباب الخميس فوجد رماة السلطان أبي عبد الله يرمون من علا الأسوار من أهل البلد فوقف الشيخ ينظر فجاءت رصاصة ضربت صدره وخرقت الجبة التي عليه والتصقت بلحمه كأنها وقعت في صخرة صماء فقبض عليها بيده وقال هذه خاتمة حربهم ثم رجع إلى منزله فوردت الأنباء على السلطان أبي عبد الله في تلك الليلة بأن بني عمه قد قاموا عليه بفاس ونبذوا دعوته فأصبح من الغد راحلا إلى فاس وظهر مصداق ما قال الشيخ الغزواني ولم يعد لبني وطاس وصول بعدها إلى مراكش ولا إلى أعمالها والله تعالى أعلم ذكر وزراء السلطان أبي عبد الله وما قيل فيهم
كان من جملة وزرائه ابن عمه المسعود بن الناصر وهو الذي زحف معه إلى مراكش على ما في النزهة وكان من جملة وزرائه القائمين بأمره أخوه الناصر بن محمد الشيخ المعروف عند عامة فاس بأبي علاقة وبالكديد على ما مر قال في الجذوة لقب بذلك لكثرة سفكه الدماء وإقدامه عليه فكان يقتل الناس ويجزرهم كثيرا وكذا بمكناسة أيام وزارته بها كذا حدث غير واحد ممن أدركه ورآه وتوفي الوزير المذكور سنة ثلاثين وتسعمائة وفاة السلطان أبي عبد الله رحمه الله
كانت وفاة السلطان أبي عبد الله البرتغالي سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة على ما في الجذوة ويؤخذ من النزهة أنها كانت سنة اثنتين وثلاثين بعدها والله أعلم وولي الأمر من بعده أخوه أبو حسون بولاية عهده إليه
____________________

الخبر عن الدولة الأولى للسلطان أبي حسون بن محمد الشيخ الوطاسي
هو أبو الحسن علي بن محمد الشيخ ابن أبي زكرياء يحيى بن زيار الوطاسي ويعرف بأبي حسون البادسي قال في النزهة بويع بفاس سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة ثم قبض عليه ولد أخيه أبو العباس أحمد بن محمد البرتغال وخلعه وأشهد عليه بالخلع آخر ذي الحجة من السنة المذكورة انتهى الخبر عن دولة السلطان أبي العباس أحمد بن محمد الوطاسي رحمه الله تعالى
هو أبو العباس أحمد بن أبي عبد الله محمد البرتغالي ابن أبي عبد الله محمد الشيخ ابن أبي زكرياء يحيى بن زيان الوطاسي بويع يوم خلع عمه أبي حسون آخر ذي الحجة من سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة قال ابن القاضي وقد رأيت البيعة التي كتبت له بخط الإمام أبي محمد عبد الواحد ابن أحمد الوانشريسي من إنشائه وعليها خطوط جماعة من فقهاء فاس كأبي العباس الحباك والفقيه أبي العباس أحمد الماواسي وغيرهما اه
قال أبو عبد الله اليفرني في النزهة وانظر ما وجه كتب البيعة لأحمد مع أن خلع أبي حسون لم يكن لموجب والوانشريسي من أهل الورع وقال ولعله لأمر لم يظهر لنا والله أعلم اه وقال ابن عسكر في الدوحة لما توفي السلطان أبو عبد الله البرتغالي ودالت الدولة لولده السلطان أبي العباس أحمد وغص بالشرفاء القائمين عليه ببلاد السوس وزوحم بهم عقد الهدنة مع النصارى المحاورين له ببلاد الهبط وصاحبهم سلطان البرتغال فبلغ ذلك الشيخ أبا عبد الله محمد بن يحيى البهلولي وكان له رغبة في الجهاد وممن له وصلة بالسلطان أبي عبد الله فكان إذا جاءه زائرا حضه على الغزو
____________________

فيساعده على ما أراد من ذلك فلما بلغ الشيخ المذكور ما عقده السلطان أبو العباس من الصلح آلى على نفسه أن لا يلقى السلطان المذكور ولا يمشي إليه ولا يقبل منه ما كان عينه له والده من جزية أهل الذمة بفاس لقوته وقوت عياله فمكث على ذلك إلى أن حضرته الوفاة وكان في النزع وأصحابه دائرون به فقال له بعضهم يا سيدي أخبرك أن السلطان أمر بالغزو وأمر بالنداء به وحض الناس عليه والمسلمون في شره لذلك وفرح ففتح الشيخ عينيه وتهلل وجهه فرحا وحمد الله وأثنى عليه ففاضت نفسه وهو مسرور بذلك اه وقعة آنماي بين الوطاسيين والسعديين
قد تقدم لنا في خبر السلطان أبي عبد الله أنه لما حاصر مراكش وأصابت الرصاصة الشيخ الغزواني قال هذه خاتمة حربهم ولم يعد لبني وطاس وصول إلى مراكش ولا إلى أحوازها قال في النزهة فكان أبو العباس الأعرج يتلاقى مع أبي العباس الوطاسي بتادلا وأحوازها قال وكانت بينهما معركة بموضع يقال له آنماي وذلك في ذي القعدة سنة خمس وثلاثين وتسعمائة فافترقا على اصطلاح اه وآنماي موضع قرب مراكش به زاوية الشيخ أبي العزم رحال الكوش
____________________

عقد الصلح بين السلطانين أبي العباس الوطاسي وأبي العباس السعدي رحمهما الله تعالى
لما رأى أهل المغرب ما وقع بين السلطان أبي العباس أحمد الوطاسي صاحب فاس وأبي العباس أحمد السعدي المعروف بالأعرج صاحب مراكش من التقاتل على الملك والتهالك عليه وفناء الخلق بينهم دخلوا في الصلح بينهم والتراضي على قسمة البلاد وحضر لذلك جماعة من العلماء والصلحاء منهم أبو حفص عمر الخطاب دفين جبل زرهون وأبو الرواين المحجوب دفين مكناسة الزيتون وكان صاحب حال وجذب فجعل الناس يوصونه بالسكوت مخافة أن يفسد عليهم أمرهم فلما دخلوا على أبي العباس الأعرج وأخيه وزيره محمد الشيخ وتكلموا فيه جاءوا لأجله وجدوا فيهما شدة وغلظة وامتناعا من مساعدتهم على ما أرادوا فحلف أبو حفص الخطاب لا دخلوها يعني فاسا ما دمت على وجه الأرض فما دخلوها حتى مات بعد مدة فكان بعضهم يقول لو كان بنو وطاس يعرفون شيئا ما دفنوا أبا حفص الخطاب يعني لتركوه في تابوت على وجه الأرض لأنه حلف لا دخلوها ما دام على وجه الأرض حكاه صاحب ممتع الأسماع وذكر في شرح زهرة الشماريخ أن الصلح انبرم بين الطائفتين على أن للأشراف من تادلا إلى السوس ولبني وطاس من تادلا إلى المغرب الأوسط وإن ممن حضر الصلح المذكور قاضي الجماعة بفاس أبا الحسن علي بن هارون المطغري بالطاء المهملة مطغرة تلمسان والإمام الشهير أبا مالك عبد الواحد بن أحمد الوانشريسي وغيرهما من مشايخ فاس ويذكر أنه لما تواطأت كلمة الحاضرين على الصلح وعقدوا شروطه وهدأت الأصوات وسكن اللجاج أتى بدواة وقرطاس ليكتب الصلح فما وضعت الدواة بين يدي أحد الفقهاء الحاضرين إلا وجم وانقبض ودفعها عن نفسه استحياء في ذلك المحفل أن يكتب ما لا يناسب الجهتين فقام قاضي الجماعة المذكور وأخذ الدواة وأساودها ووضعها بين يدي أبي مالك
____________________

المذكور فأنشأ أبو مالك في الحين خطبة بليغة ونسج الصلح على منوال عجيب واخترع أسلوبا غريبا تحير فيه الحاضرون وعجبوا من ثبات جأشه وجموم قريحته في مثل ذلك المشهد العظيم الذي تخرس فيه ألسن الفصحاء هيبة وإكبارا فقام قاضي الجماعة وقبله بين عينيه وقال جزاك الله عن المسلمين خيرا وما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر وكان ذلك كله في حدود أربعين وتسعمائة اه غزوة الحمر قرب آصيلا حرسها الله
ذكر صاحب الدوحة في ترجمة الشيخ أبي الحسن علي بن عثمان الشاوي رحمه الله أنه استشهد في وقعة الحمر التي كانت في حدود أربعين وتسعمائة بين النصارى والقائد عبد الواحد بن طلحة العروسي على مقربة من آصيلا قال حدثني غير واحد ممن يوثق به ممن حضر الوقعة وبعضهم يصدق بعضا قالوا لما انهزم الناس استقبل الشيخ أبو الحسن النصارى وسيفه في يده وهو يتلو بردة البوصيري فكان ذلك آخر العهد به ولما رجع الناس من الغد ليحملوا قتلاهم لم يوقف له على عين ولا أثر وإنما وجد غنباز من لباسه عند النصارى وفيه أثر طعنة في صدره اه كلام الدوحة
وفي المرآة أن الشيخ المذكور مات في حياة شيخه الغزواني شهيدا في الجهاد سنة خمس وعشرين وتسعمائة اه ولعله الصواب
والعروسي المذكور هو من أمراء بني عبد الحميد العروسيين أصحاب قصر كتامة وكانت لهم رياسة وسياسة وجهاد في العدو إلى أن انقرض أمرهم أعوام الخمسين وتسعمائة
قال في الدوحة أخبر غير واحد من فقهاء قصر كتامة أن الشيخ أبا الرواين جاء إلى القصر وصاحبه يومئذ القائد عبد الواحد العروسي في عصبة من أقاربه أولاد عبد الحميد فصعد أبو الرواين صومعة المسجد ثم نادى بأعلى صوته يا بني عبد الحميد اشتروا مني القصر وإلا خرجتم منه
____________________

في هذه السنة فسمع القائد عبد الواحد ذلك فقال إن كان القصر له أو بيده فلينزعه منا ما بقي لنا إلا كلام الحمقى نلتفت إليه ومن الغد خرج الشيخ أبو الرواين من البلد وهو يقول القائد عبد الواحد وأهله يخرجون من القصر ولا يعودون إليه أبدا فكان كذلك بقدرة الله تعالى وقعة أبي عقبة بوادي العبيد وما كان فيها بين الوطاسيين والسعديين من القتال الشديد
هذه الوقعة من أعظم الوقعات التي كانت تكون بين الوطاسيين والسعديين وما زالت العامة تتحدث بها في أنديتها إلى الآن ويبالغون في وصفها والأخبار عنها وقد ذكرها شعراؤهم في أزجالهم الملحونة وهي محفوظة فيما بينهم وذلك أنه لما طمى عباب السعديين على بلاد الحوز وكادوا يلجون على الوطاسيين دار ملكهم من فاس نهض إليهم السلطان أبو العباس الوطاسي أواخر سنة اثنتين وأربعين وتسعمائة يجر الشوك والمدر في جمع كثيف من الجند وقبائل العرب في حللها وظعنها وجاء أبو العباس السعدي في قبائل الحوز بحللها وظعنها كذلك فكان اللقاء بمشروع أبي عقبة أحد مشارع وادي العبيد من تادلا فنشبت الحرب وتقاتل الناس وبرز أهل الحفائظ منهم والتراث وقاتل الناس على حرمهم وأحسابهم وعزهم فأفنى بعضهم بعضا إلا قليلا ودامت الحرب أياما على ما قيل إلى أن كانت الهزيمة على الوطاسيين عشية يوم الجمعة ثامن صفر سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة قال في الجذوة فرجع السلطان أبو العباس الوطاسي إلى فاس وبقيت محلته وقصبة تادلا بين الشريف السعيد قال وتسمى هذه السنة سنة أبي عقبة
وقال في المرآة ومما اشتهر من كرامات الشيخ أبي طلحة محمد المصباحي الشاوي الزناتي أنه لما التقى مقاتلة فاس وسلطانهم أبو العباس أحمد الوطاسي ومقاتلة مراكش وسلطانهم أبو العباس أحمد الأعرج ومعه
____________________

أخوه المتولي بعده أبو عبد الله محمد الشيخ سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة على مشرع أبي عقبة من وادي العبيد انهزم السلطان أبو العباس الوطاسي وتفرقت جموعه وتبعته الخيل فكادوا يقبضون عليه فحضر هنالك رجل على فرس أنثى فجعل يحول بينه وبينهم ويقول له سر يا أحمد ولا تخف ولم يزل معه إلى أن رجعوا عنه وأمن الطلب وقد عرف السلطان صفته وتحققها ولم يزل يسأل عن صاحب تلك الصفة حتى قيل له هذه صفة أبي طلحة المصباحي وتحقق ذلك ولما كان خروج السلطان المذكور الذي وصل فيه تطاوين وتزوج بها الحرة بنت الأمير السيد أبي الحسن علي بن موسى ابن راشد الشريف وذلك في ربيع الأول سنة ثمان وأربعين وتسعمائة وبتطاوين بنى بها وقصد أبا طلحة المذكور ونزل عليه فلما رآه عرفه وأيقن أنه الرجل الذي أغاثه فأكب عليه السلطان وذكر ما وقع له معه فقال الشيخ يا رب كيف العيش مع هذه الشهرة فاقبضني إليك فمات عقب ذلك من سنته قال في المرآة سمعت هذه الحكاية من غير واحد وسألت شيخنا أبا القاسم بن أبي طلحة المذكور فقال لي أعقل مجيء السلطان وأنا صغير جدا أقعد في حجر أبي وعند ركبته اه قلت والأمير أبو الحسن بن راشد المذكور هو الذي اختط مدينة شفشاون كما مر وذكر في المرآة أن وفاته كانت سنة سبع عشرة وتسعمائة فيكون السلطان المذكور إنما تزوج ابنته بعد وفاته ولعله خطبها من أخيها الأمير أبي عبد الله محمد بن أبي الحسن والله أعلم
واعلم أن ما سلكناه هنا من تقديم قضية الصلح على وقعة أبي عقبة هو ما يقتضيه التاريخ الذي صرحوا به وسيأتي بعد هذا ما ربما يفهم منه أن الأمر بالعكس والجواب أن قضية الصلح تكررت حسبما يؤخذ مما مر والله أعلم وفي هذه السنة أيضا عقد السلطان أبو العباس الوطاسي مع برتقال آسفي صلحا على ثلاث سنين ودخل في هذا العقد آسفي والجديدة وآزمور وكتب البرتغال بذلك إلى ملكهم ووقعت المحادة في البلاد وتفرغ الوطاسي لقتال السعديين
____________________

بناء السلطان أبي العباس الوطاسي قنطرة الرصيف بفاس حرسها الله
كان السلطان أبو العباس أحمد الوطاسي قد جدد بناء قنطرة الرصيف بحضرة فاس وذلك منتصف سنة إحدى وخمسين وتسعمائة وفي ذلك يقول الفقيه أبو مالك عبد الواحد بن أحمد الوانشريسي مشيرا إلى التاريخ المذكور
( جسر الرصيف أبو العباس جدده ** فخر السلاطين من أبناء وطاس )
( فجاء في غاية الإتقان مرتفقا ** لمن يمر به من عدوتي فاس )
( وكان تجديده في نصف عام غنا ** من هجرة المصطفى المبعوث للناس )
وقال الفقيه أبو مالك أيضا
( أيا أهل فاس سدد الله سدكم ** برأي أبي العباس حامي حمى فاس )
( وأحيى به أشجاركم وثماركم ** على رغم قوم منكرين من الناس )
( فدام ودام السعد يخدم مجده ** وفاز من الشكر الجميل بأجناس )
وقال الشيخ أبو زكرياء يحيى السراج
( ألا سدد الله رأي الذي ** بتسديده سديدا حصينا )
( وخلد في عزه ملكه ** وأولاه فتحا ونصرا مبينا )
( إمام الهدى أحمد المرتضى ** مبيد العدا عدة المسلمينا )
وقال الإمام أبو الحسن علي بن هارون
( لقد سدد الله رأي العماد ** وأبطل في السد رأي الجهول )
( وقرب ما رامه من بعاد ** بمولاي أحمد مدحي يطول )
( فطردا وعكسا لساني يناد ** عقول الملوك ملوك العقول )
____________________

وقعة وادي درنة بتادلا وأسر الأمير أبي زكرياء الوطاسي ومهلكه رحمه الله
ذكر في المرآة عند الكلام على أبي عبد الله محمد بن يوسف الفاسي وهو والد الشيخ أبي المحاسن رضي الله عنه أن أبا عبد الله المذكور كانت له وجاهة كبيرة عند أمير القصر أبي زكرياء يحيى بن أبي عبد الله البرتغالي وهو يومئذ أخو السلطان أبي العباس الوطاسي قال فانتفع بوجاهة أبي عبد الله الفاسي خلق كثير ولم يسامح هو نفسه في نيل شيء من الدنيا بسبب ذلك الجاه إلى أن أسر الأمير أبو زكرياء المذكور في وقعة وادي درنة من تادلا للشرفاء على بني وطاس في رجب سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة ومات في تلك الليالي القريبة غما وأسفا رحمه الله قلت وكان سلطان السعديين يومئذ محمد الشيخ الملقب بالمهدي فإنه تغلب على أخيه الأعرج وانتزع منه الملك وسجنه كما يأتي إن شاء الله تعالى استيلاء السلطان محمد الشيخ السعدي على فاس وقبضه على بني وطاس ومهلك سلطانهم أبي العباس رحمه الله تعالى بفضله
لما غلب السلطان محمد الشيخ السعدي على أخيه أبي العباس الأعرج واستولى على مراكش طمحت نفسه للتوغل في بلاد الغرب وقراه فتفرغ لحرب بني وطاس ونكث ما كان بينه وبينهم من الصلح ورموا منه بحجر الأرض وردد إليهم البعوث والسرايا وأكثر فيهم من شن الغارات وصار يستلبهم البلاد شيئا فشيئا إلى أن استولى عليها وكان أول ما ملك من أمصار الغرب مكناسة الزيتون افتتحها عقب سنة خمس وخمسين وتسعمائة بعد حصار ومقاتلة ثم تقدم إلى فاس فألح عليها بالقتال وضايقها بالحصار مدة قريبة من السنة ثم استولى عليها بعد أن أسر سلطانها أبا العباس الوطاسي وصار في قبضته وكان دخوله إياها أوائل سنة ست وخمسين وتسعمائة ولما
____________________

4 دخلها تقبض على الوطاسيين أجمع وبعث بهم مصفدين إلى مراكش عدا أبا حسون المخلوع فإنه فر إلى الجزائر إلى أن كان من أمره ما نذكره ثم إن الشيخ السعدي غدر ببني وطاس فيما قيل بعد أن أظهر العفو عنهم وسرح سلطانهم أبا العباس من ثقافة والله أعلم وفي الجذوة كانت وفاة السلطان أبي العباس الوطاسي بمراكش قرب سنة الستين وتسعمائة اه
وزعم منويل أنه قتل مذبوحا بدرعة قال زحف أبو عبد الله محمد الشيخ السعدي إلى فاس فبرز إليه أبو حسون الوطاسي وكان قائد جيش ابن أخيه ووقع بينهما قتال عظيم انهزم فيه أبو حسون إلى فاس وحاصره السعدي بها سنتين ولما قلت الأقوات وعجز الوطاسيون عن الدفاع نزلوا على حكم السعدي فقبض على أبي العباس الوطاسي وفر أبو حسون إلى الجزائر واستقل محمد الشيخ السعدي بأمر المغرب وغرب الوطاسيين إلى درعة فقتل أبا العباس الوطاسي الذي كان تلميذا له ذبحا اه كلامه بقية أخبار السلطان أبي العباس الوطاسي وسيرته
كان من جملة وزراء السلطان أبي العباس المذكور ابنه محمد ومن أخباره ما ذكره في الدوحة في ترجمة الشيخ أبي عثمان سعيد بن أبي بكر المشترائي دفين مكناسة الزيتون قال من كراماته الشائعة ما اتفق له مع الوزير أبي عبد الله محمد بن السلطان أبي العباس أحمد الوطاسي لما استوزره أبوه وولاه على مكناسة فكان بها فغضب ذات يوم على أحد المشاورية فهرب المشاوري إلى زاوية الشيخ أبي عثمان فبعث الوزير إلى الشيخ بأن عليه الأمان ويبعثه إليه فقال له الشيخ إن شئت أن تذهب إلى سيدك فافعل فقال المشاوري يا سيدي أخاف أن يقتلني فقال الشيخ إن قتلك فالله يقتله فذهب المشاوري إلى الوزير وبقي عنده ليلتين وفي الثالثة قتله ولم يظهر له فجاءت أمه إلى الشيخ وقالت يا سيدي إن ولدي قد
____________________

قتله الوزير فقال لها سبق ذلك في علم الله وإن الآخر سيلحقه الآن يعني الوزير فوعك الوزير تلك الليلة وسلط عليه آكال في جسمه فتمزق لحمه وتقطع شيئا فشيئا إلى أن هلك لليال قلائل من مرضه فاعتبر الناس والسلطان بذلك ومن ذلك الوقت زاد الأمراء وغيرهم في احترام حرم زاوية الشيخ المذكور اه
وكان للسلطان أبي العباس اعتقاد في المتصلحين وأرباب الأحوال فمن فوقهم من أهل العلم والدين من ذلك ما حكاه في الدوحة أيضا في ترجمة أبي الحسن علي الصنهاجي المعروف بالدوار قال كان أبو الحسن المذكور من الملامتية وكان يدخل دور الملوك من بني وطاس فيتلقاه النساء والصبيان يقبلون يديه وقدميه فلا يلتفت إلى أحد ويعطونه الثياب الرفيعة والذخائر النفيسة ويلبسه السلطان يعني أبا العباس من أشرف لباسه فإذا خرج تصدق بجميع ذلك ويمر على حوانيت الزياتين فيغمس أكمام الحلة التي تكون عليه ويبرقعها بالزيت أو بالسمن ولا يزال يدور في الأماكن ويصرخ باسم الجلالة اه قالوا وكان السلطان أبو العباس المذكور واقفا عند إشارة الفقيه أبي مالك عبد الواحد بن أحمد الوانشريسي وهو ابن صاحب المعيار لا يتعدى أمره ولا يخالف رأيه كما وقع له في مسألة رجل إسلامي يعرف بعبد الرحمن المنجور وكان تاجرا جامعا للمال فشهد عليه في حكاية طويلة أربعون رجلا من العدول باستغراق ذمته فأخذه السلطان أبو العباس الوطاسي وقتله وصير أملاكه لبيت مال المسلمين فرغب أولاد المنجور من السلطان أن يؤدوا له عشرين ألف دينار ويرد إليهم أملاكهم ويسقط عنهم بينة الاستغراق فقال السلطان لحاجبه اذهب إلى الشيخ عبد الواحد الوانشريسي وشاوره في ذلك وعرفه بأني في الحاجة إلى هذا المال لأجل هذه الحركة التي عرضت لي فذهب الحاجب إليه وأخبره بمقالة السلطان ورغبته في قبول ذلك فقال الشيخ
____________________

والله لا ألقى الله بشهادة أربعين رجلا من عدول المسلمين لأجل سلطانك اذهب وقل له إني لا أوافق على ذلك ولا أرضاه فرجع الحاجب إلى السلطان وأخبره بما قال الشيخ فرجع السلطان عما عزم إليه
ونظير هذا ما اتفق له معه أيضا وهو أن الناس خرجوا يوم العيد للصلاة فانتظروا السلطان فأبطأ عليهم ولم يأت إلى خروج وقت الصلاة وحينئذ أقبل السلطان أبو العباس في أبهته فلما انتهى إلى المصلى نظر الشيخ أبو مالك فرأى أن الوقت قد فات فرقي المنبر وقال معشر المسلمين أعظم الله أجركم في صلاة العيد فقد عادت ظهرا ثم أمر المؤذن فأذن وأقام الصلاة فتقدم الشيخ أبو مالك وصلى الناس الظهر فخجل السلطان أبو العباس واعترف بخطيئته رحم الله الجميع الخبر عن الدولة الثانية للسلطان أبي حسون الوطاسي رحمه الله
لما دخل السلطان أبو عبد الله محمد الشيخ السعدي إلى فاس سنة ست وخمسين وتسعمائة وقبض على بني وطاس بها حسبما تقدم فر أبو حسون هذا إلى ثغر الجزائر حقنا لدمه ومستجيشا لتركها ومستجيشا على السعدي وكان الترك قد استولوا على المغرب الأوسط وانتزعوه من يد بني زيان كما سيأتي
____________________

فلم يزل أبو حسون عندهم يفتل لهم في الغارات والسنام ويحسن لهم بلاد المغرب الأقصى ويعظمها في أعينهم ويقول إن المتغلب عليها قد سلبني ملكي وملك آبائي وغلبني على تراث أجدادي فلو ذهبتم معي لقتاله لكنا نرجو الله تعالى أن يتيح لنا النصر عليه ويرزقنا الظفر به ولا تعدمون أنتم مع ذلك منفعة من ملء أيديكم غنائم وذخائر ووعدهم بمال جزيل فأجابوه إلى ما طلب وأقبلوا معه في جيش كثيف تحت راية باشاهم صالح التركماني المعروف بصالح رئيس إلى أن اقتحموا حضرة فاس بعد حروب عظيمة ومعارك شديدة وفر عنها محمد الشيخ السعدي إلى منجاته
وكان دخول السلطان أبي حسون إلى فاس ثالث صفر سنة إحدى وستين وتسعمائة ولما دخلها فرح به أهلها فرحا شديدا وترجل هو عن فرسه وصار يعانق الناس كبيرا وصغيرا شريفا ووضيعا ويبكي على ما دهمه وأهل بيته من أمر السعديين واستبشر الناس بمقدمه وتيمنوا بطلعته وقبض على كبير فاس يومئذ القائد أبي عبد الله محمد بن راشد الشريف الإدريسي واطمأنت به الدار ثم لم يلبث السلطان أبو حسون إلا يسيرا حتى كثرت شكاية الناس إليه بالترك وأنهم مدوا أيديهم إلى الحريم وعاثوا في البلاد فبادر بدفع ما اتفق معهم عليه من المال وأخرجهم عن فاس وتخلف بها منهم نفر يسير
____________________

مجيء السلطان محمد الشيخ السعدي إلى فاس واستيلاؤه عليها ومقتل السلطان أبي حسون رحمه الله
لما فر السلطان محمد الشيخ السعدي من وقعة الأتراك بفاس وصل إلى مراكش فاستقر بها وصرف عزمه لقتال أبي حسون فأخذ في استنفار القبائل وانتخاب الأبطال وتعبية العساكر والأجناد فاجتمع له من ذلك ما اشتد به أزره وقوي به عضده ثم نهض بهم إلى فاس فخرج إليه السلطان أبو حسون في رماة فاس وما انضاف إليهم من جيش العرب فكانت الهزيمة على أبي حسون فرجع إلى فاس وتحصن بها فتقدم الشيخ السعدي وحاصره إلى أن ظفر به في وقعة كانت بينهما بالموضع المعروف بمسلمة فقتله واستولى على حضرة فاس وصفا له أمرها وكان استيلاؤه عليها يوم السبت الرابع والعشرين من شوال سنة إحدى وستين وتسعمائة على الصواب خلاف ما وقع في الدوحة والله أعلم وبمقتل السلطان أبي حسون رحمه الله انقرضت الدولة المرينية بالمغرب والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين
وبقي علينا الإلماع بأواخر دولة بني زيان ملوك تلمسان وكيف كان انقراض أمرهم فلنشر إلى ذلك فنقول كانت دولة بني زيان على ما علمت من الاضطراب سائر أيام بني مرين وكان منهم في صدر المائة التاسعة السلطان الواثق بالله من أمثل ملوكهم وغلبهم على تلمسان في تلك المدة السلطان أبو فارس عبد العزيز بن أحمد الحفصي فأخذوا بطاعته ثم بعد موته سنة سبع وثلاثين وثمانمائة اعتزوا بعض الشيء إلى أن كانت دولة السلطان أبي عمرو عثمان بن محمد الحفصي فغزا تلمسان أعوام السبعين وثمانمائة مرتين وفي الثانية هدم أسوارها وعزم على استئصال أهلها إلى أن تشفع إليه علماؤها وصلحاؤها فعفا عنهم وكان الباعث له على غزوها أولا ما بلغه من أن الأمير محمد بن محمد بن أبي ثابت استولى عليها ففعل ما فعل وصاهرهم ببعض حفدته
وقال صاحب بدائع السلك شاهدت بتلمسان وبعض أعمالها تصريح
____________________

الخطيب باسم السلطان أبي عمرو عثمان صاحب تونس مقدما في الذكر على اسم صاحب تلمسان أبي عبد الله من أعقاب بني زيان لما بينهما من الشرط في ذلك وبقيت حال بني زيان متماسكة إلى أن ظهر جنس الإصبنيول في صدر المائة العاشرة بعد ما تم له ملك الأندلس وعظمت شوكته فطمح للتغلب على ثغور المغربين الأدنى والأوسط فاستولى على بجاية سنة عشر وتسعمائة ثم على وهران سنة أربع عشرة وتسعمائة وفعل بأهلها الأفاعيل ثم سما لتملك الجزائر وشره لالتهامها وضايق المسلمين في ثغورهم وضعف بنو زيان عن مقاومته وكان الشيخ الفقيه الصالح أبو العباس أحمد ابن القاضي الزواوي ممن له الشهرة والوجاهة الكبيرة في بسائط المغرب الأوسط وجباله وكانت دولة العثامنة من الترك في هذه المدة قد زخر عبابهم وملكت أكثر المسكونة وظهر من قواد عساكرهم البحرية قائدان عظيمان وهما خير الدين باشا وأخوه عروج باشا وكانا قد تابعا الغزو على بلاد الكفر برا وبحرا وأوقعا بأهل دول الأوروبا وقائع شهيرة وصار لهم ذكر في أقطار البلاد وتمكن ناموسهم من قلوب العباد فكاتبهم الفقيه أبو العباس المذكور وعرفهم بما المسلمون فيه من مضايقة العدو الكافر وقال إن بلادنا بقيت لك أو لأخيك أو للذئب فأقبل الترك نحوه مسرعين واستولى عروج على ثغر الجزائر بعد ما كاد العدو يملكه فتخلصه منه ثم استولى على تلمسان وغلب بني زيان على أمرهم وذلك سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة على ما في النزهة ثم إن أهل تلمسان أنكروا سيرة الترك وسئموا ملكتهم ويقال إن الترك عسفوهم وصادروهم على أموالهم وكان عروج قد أغرى بالفقيه أبي العباس المستدعي له فقتل شهيدا بعد الثلاثين وتسعمائة ورأى عروج أن أمر المغرب الأوسط لا يصفو له مع وجود الفقيه المذكور فدس عليه من قتله ثم نهض عروج إلى بني يزناسن فكان الكرة عليه وقتل هنالك مع جماعة من وجوه عسكره وتفرقت جموعه
وعادت تلمسان إلى بني زيان فجددوا بها رياستهم وأحيوا رمق دولتهم إلى أن عاود الترك غزوها بعد حين وانتزعوها من يد صاحبها أبي العباس
____________________

أحمد بن عبد الله من أعقاب يغمراسن بن زيان
قال في المرآة ما نصه قال الشيخ الإمام قاضي الجماعة أبو محمد عبد الواحد بن أحمد الوانشريسي رحمه الله ومن خطه نقلت قدم حسن ابن خير الدين التركي فاستولى على تلمسان في أواسط شعبان سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة وأخرج منها الأمير أحمد ابن الأمير عبد الله ووزيره منصور بن أبي غانم ولحقا بدبدو مع من انضاف إليهما من أمراء تلمسان وكبرائها فغدر بهم عمر بن يحيى الوطاسي صاحب دبدو وأخذ أموالهم واعتقلهم وسرح منصورا في محرم من سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة اه واستمرت تلمسان في يد الترك إلى أواسط صدر المائة الثالثة عشرة فاستولى عليها الفرنسيس على ما نذكره إن شاء الله
واعلم أنه كان في صدر هذه المائة العاشرة أمور عظام
منها ظهور الفرنج بالديار المغربية واستيلاؤهم على ثغورها بما لم يعهد مثله قبل ذلك لا سيما البرتغال والإصبنيول حسبما تقدمت الإشارة إليه ومنها ظهور دولة آل عثمان ملوك التركمان بالديار المشرقية وما أضيف لها الظهور الذي لا كفاء له وابتداء هذه الدولة وإن كان قبل هذا التاريخ بنحو مائتي سنة لكن إنما كان عنفوان شبابها وفيضان عبابها في هذه المدة لا سيما في دولة سلطانهم الأعظم وخاقانهم الأفخم سليمان بن سليمان خان فإنه ملك أكثر المعمور وقام بدعوته من الأمم الجمهور وهجمت عساكره على ديار الأرنا فقاتلوهم في أعز بلادهم واستلبوهم من طارفهم وتلادهم وخضعت ملوكهم لعزته واستكانوا لصولته وأعطوه يد المقادة وآتوه من الطاعة والخضوع ما خالف العادة ثم أوطأ عساكره المغربيين الأدنى والأوسط فاستولى عليهما وكاد يتناول الأقصى ويضيفه إليهما على ما تقف عليه في أخبار السعديين إن شاء الله
ومنها ظهور الأولياء وأهل الصلاح من الملامتية وأرباب الأحوال والجذب في بلاد الشرق والغرب لكنه انفتح به للمستورين على النسبة
____________________

وأهل الدعوى باب متسع الخرق متعسر الرتق فاختلط المرعى بالهبل وادعى الخصوصية من لا ناقة له فيها ولا جمل وصعب على جل الناس التمييز حتى بين البهرج والإبريز لا سيما العامي الغمر الذي لا يفرق بين الحصباء والدر ويرحم الله الشيخ اليوسي إذ قال في محاضرته ما نصه وقد طرق أسماع القوم من قبل اليوم كلام أهل الصولة كفحول القادرية والشاذلية رضي الله عنهم وكلام أرباب الأحوال في كل زمان فتعشقت النفوس ذلك وأذعن له الجمهور وخاضوا في التشبيه بهم فما شئت أن تلقى جاهلا مسرفا على نفسه لم يعرف بعد ظاهر الشريعة فضلا عن أن يعمل فضلا عن أن يخلص إلى الباطن فضلا عن أن يكون صاحب مقام إلا وجدته يصول ويقول وينابذ المنقول والمعقول وأكثر ذلك في أبناء الفقراء يريد الواحد منهم أن يتحلى بحلية أبيه ويستتبع أتباعه بغير حق ولا حقيقة بل لمجرد حطام الدنيا فيقول خدام أبي وزريبة أبي ويضرب عليهم المغرم كمغرم السلطان ولا يقبل أن يحبوا أحدا في الله أو يعرفوه أو يقتدوا به غيره وإذا رأى من خرج يطلب دينه أو من يدله على الله تعالى يغضب عليه ويتوعده بالهلاك في نفسه وماله وقد يقع شيء من المصائب بحكم القضاء والابتلاء فيضيفه إلى نفسه فيزداد بذلك هو وأتباعه ضلالا ثم يخترق لهم من الخرافات والأمور المعتادة ما يدعيه سيرة ودينا يستهويهم به ثم يضمن لهم الجنة على مساوئ أعمالهم والشفاعة يوم المحشر ويقبض على لحمة من ذراعه فيقول للجاهل مثله أنت من هذه اللحمة فيكتفي جهال العوام بذلك ويبقون في خدمته ولدا عن والد قائلين نحن خدام الدار الفلانية وفي زريبة فلان فلا نخرج عنها وكذا وجدنا آباءنا وهذا هو الضلال المبين وهؤلاء قطاع العباد عن الله إلى آخر كلامه فقف عليه في الفصل الخامس والعشرين منها فإنه نفيس وبالله تعالى التوفيق
وفي سنة إحدى عشرة وتسعمائة توفي الفقيه أبو العباس أحمد بن عيسى الماواسي البطوي الموقت المشهور
وفي سنة اثنتي عشرة بعدها توفي الشيخ الفقيه أبو الحسن علي بن قاسم
____________________

التجيبي المعروف بالزقاق فقيه فاس وهو صاحب المنظومة اللامية في علم القضاء وغيرها وفي سنة أربع وتسعمائة في يوم الثلاثاء العشرين من صفر منها توفي الشيخ الإمام أبو العباس أحمد بن يحيى الوانشريسي مؤلف المعيار وغيره من التآليف الحسان أصله من تلمسان واستوطن مدينة فاس إلى أن توفي بها في التاريخ المذكور وفيها أيضا توفي الشيخ الكبير أبو فارس عبد العزيز بن عبد الحق الحرار المعروف بالتباع دفين حومة الفحول من مراكش من أصحاب الشيخ الجزولي رضي الله عنهما وصفه شيخه المذكور بالكيمياء وكان يقال النظرة فيه تغني أفاض الله علينا من مدده
وفي سنة تسع عشرة وتسعمائة توفي الشيخ الإمام العلامة النظار أبو عبد الله محمد بن أحمد بن غازي العثماني المكناسي ثم الفاسي وقد تقدم خبره مع الشيخ أبي محمد الغزواني رحمهما الله
وفي سنة ست وعشرين وتسعمائة انحبس المطر بفاس والمغرب واضطر الناس إلى استخراج السواقي من الأودية والأنهار لسقي زرعهم وثمارهم
وفي سنة سبع وعشرين بعدها كان الغلاء والجوع الكبير الذي صار تاريخا في الناس مدة
وفي سنة ثمان وعشرين بعدها كان الوباء بالمغرب سنة الله في خلقه وفي هذه المدة أعني أعوام الثلاثين وتسعمائة على ما في الدوحة توفي الشيخ أبو عبد الله محمد بن منصور السفياني دفين جزيرة البسابس من بلاد أولاد جلون على مسيرة نصف يوم من مصب نهر سبو في البحر من جهة المشرق وكان من أصحاب الشيخ التباع والروضة التي عليها بناها الشيخ أبو زيد عبد الرحمن المجذوب يقال إنه لما أكملها رآه في المنام وألبسه حلة خضراء
وفي سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة في ثاني يوم من ربيع الأول منها توفي الشيخ أبو محمد عبد الكريم بن عمر الحاجي المعروف بالفلاح ضجيع القاضي عياض في روضته بحومة باب إيلان من مراكش وهو من أصحاب
____________________

الشيخ التباع أيضا وفي هذه المدة على ما في الدوحة توفي الشيخ أبو يشو مالك بن خدة الصبيحي من عرب صبيح كان من أهل العلم والفضل والدين ودفن على ضفة نهر سبو على نحو مرحلة من فاس وقبره مزارة إلى الآن
وفي سنة خمس وثلاثين وتسعمائة توفي الشيخ أبو محمد الغزواني رضي الله عنه دفين حومة القصور من مراكش وقد تقدم شيء من خبره
وفي أعوام أربعين وتسعمائة توفي الشيخ الكامل أبو عبد الله محمد بن عيسى السفياني المختار ثم الفهدي دفين مكناسة الزيتون وهو شيخ جليل القدر شهير الذكر رضي الله عنه ونفعنا به آمين
تم الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس
أوله
الخبر عن دولة الأشراف السعديين من آل زيدان
____________________

5
____________________

بسم الله الرحمن الرحيم الدولة السعدية الخبر عن دولة الأشراف السعديين من آل زيدان وذكر أوليتهم وتحقيق نسبهم
اعلم أن هؤلاء السعديين كانوا يقولون إن أصل سلفهم من ينبع النخل من أرض الحجاز وأنهم أشراف من ولد محمد النفس الزكية رضي الله عنه وإليه كانوا يرفعون نسبهم ويقولون في أول ملوكهم القائم بأمر الله مثلا هو محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن علي بن مخلوف بن زيدان بن أحمد ابن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن أبي محمد بن عرفة بن الحسن بن أبي بكر بن علي بن حسن بن أحمد بن إسماعيل بن قاسم ابن محمد النفس الزكية ابن عبد الله الكامل بن حسن المثنى بن الحسن السبط ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم فهم بنو عم السادة العلويين أشراف سجلماسة يجتمعون معهم في محمد بن أبي القاسم المذكور في النسب
قالوا والسبب في قدوم سلفهم من الحجاز إلى المغرب أن أهل درعة كانت لا تصلح ثمارهم وتعتريها العاهات كثيرا فقيل لهم لو أتيتم بشريف إلى بلادكم كما أتى أهل سجلماسة لصلحت ثماركم كما صلحت ثمارهم وقد كان أهل سجلماسة جاؤوا بالمولى الحسن بن قاسم بن محمد بن أبي القاسم من أرض ينبع في قصة ظريفة تأتي في محلها إن شاء الله قالوا فأتى أهل درعة بالمولى زيدان بن أحمد مضاهاة لأهل سجلماسة فعادت عليهم بركته
واعلم أن هذا النسب الشريف المسرود آنفا فيه كما قال اليفرني بتر
____________________

بين قاسم ومحمد النفس الزكية فإنه لا يعرف في أولاد النفس الزكية من اسمه قاسم وإنما هو قاسم بن محمد بن عبد الله الأشتر بن محمد النفس الزكية ولعله سقط عن ذهول من الناسخ وقيل الصواب إنه قاسم بن حسن بن محمد بن عبد الله الأشتر بن محمد النفس الزكية
واعلم أيضا أن ما زعمه هؤلاء السعديون من انتسابهم لهذا البيت الكريم هو المعروف عند الكافة وتلقاه فضلاء عصرهم بالقبول وأثبتوه في تقريضاتهم ومؤلفاتهم الموضوعة في أخبارهم ومن الناس من يطعن في ذلك ونقله بعضهم عن الشيخ أبي العباس المقري صاحب نفح الطيب وأنه صحح أنهم من بني سعد بن بكر بن هوازن الذين منهم حليمة السعدية ظئر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا النقل ضعيف لأن الشيخ المقري صرح في نفح الطيب بشرف هؤلاء السادة في غير موضع وهو من آخر ما ألف
وممن طعن في نسبهم المولى محمد فتحا بن الشريف السجلماسي أول ملوك السادة العلويين صرح بذلك في بعض الرسائل التي كانت تدور بينه وبين الشيخ ابن زيدان منهم قال فيها وقد اعتمدنا في ذلك يعني في عدم شرفهم على ما نقله الثقات المؤرخون لأخبار الناس من علماء مراكش وتلمسان وفاس ولقد أمعن الكل التأمل بالذكر والفكر فما وجدوكم إلا من بني سعد بن بكر اه
ويحكى شائعا عن الفقيه الورع المولى أبي محمد عبد الله بن علي بن طاهر السجلماسي وكان من أهل الصلاح والدين أنه كان ذات يوم جالسا مع المنصور السعدي في بعض قصوره من حضرة مراكش وهما مجتمعان على خوان طعام فقال المنصور للشيخ أبي محمد أين اجتمعنا يا فقيه يعني في النسب فقال أبو محمد على هذا الخوان ويروى في هذا المشور فأسرها المنصور في نفسه ولم يبدها له إلى أن احتال عليه بما كان السبب في إتلاف مهجته فكان المنصور بعد ذلك يدعو الشيخ أبا محمد فيجلسه على الرخام في زمان كلب البرد وهيجانه من غير حائل وقد اتخذ المنصور فيما زعموا لبدة صوف داخل سراويله لا يحس معها بالبرد فإذا
____________________

رآه أبو محمد جالسا معه تجلد واستحيى أن يقوم عن السلطان ويتركه ويستمران على المذاكرة في مسائل العلم فعل ذلك به أياما حتى سكنته علة البرد فلم يزل أبو محمد يشتكي من ذلك إلى أن قضت عليه
وأنكر هذا صاحب نشر المثاني ورده بتأخر وفاة ابن طاهر عن وفاة المنصور بأكثر من ثلاثين سنة
وجواب أبي محمد هذا من النوع البياني المسمى بتلقي المخاطر بغير ما يترقب على ما هو معروف في كتب الفن وإنما سأله المنصور لما مر من أن السعديين يزعمون أن جدهم قدم من ينبع أيضا كما قدم جد العلويين والعلويون ينكرون ذلك كل الإنكار ويقولون إنهم لم يجتمعوا معهم في قبيل ولا دبير
قال اليفرني لكن صحح لنا غير واحد من أشياخنا أن الشيخ ابن طاهر رجع عن ذلك الإنكار وأن المنصور أطلعه بعد ذلك على ظهير فيه خط الإمام ابن عرفه وشيخه ابن عبد السلام بثبوت نسبهم فاطمأنت نفس ابن طاهر لذلك فكان يصرح بصحة نسبهم بعد ذلك ويزجر من يطعن فيه اه
قلت وهذا هو الصواب إذ مستند من يطعن في نسبهم عدم وضوحه ولا يلزم من عدم وضوحه عدم ثبوته في نفس الأمر وإلا فيبعد أن يكون هؤلاء المنكرون قد اطلعوا على أحوال عمود نسبهم وما اشتمل عليه من الآباء والأجداد من لدن مبدئه إلى منتهاه مع طول المدة وتناسخ الأجيال فالتنقير عن ذلك عسير جدا ولذا وكل الشارع أمر الأنساب إلى أهلها وجعلهم مصدقين فيها إذ لا تعرف غالبا إلا من قبلهم فهؤلاء السادة الزيدانيون لو فرضنا أنهم ما كانوا ملوكا ولا بلغوا من الشهرة إلى حيث بلغوا ثم ادعوا هذا النسب الكريم فلا سبيل لأحد أن يدفعهم عنه إلا بقاطع ولا قاطع كما علمت نعم الحكاية المسوقة في سبب دخولهم إلى المغرب يظهر عليها أثر الصنعة والله أعلم بحقائق الأمور
وأما تسميتهم بالسعديين فقد قال اليفرني إن هذه النسبة لم تكن لهم
____________________

في القديم ولا وقعت بها تحليتهم في ظهائرهم ولا في سجلاتهم وصدور رسائلهم بل كانوا لا يقبلون ذلك ولا يجترئ أحد على مواجهتهم به لأنه إنما يصفهم بذلك من يقدح في نسبهم ويطعن في شرفهم ويزعم أنهم من بني سعد بن بكر كما قلنا وكثير من العامة وإخوانهم من الطلبة يعتقدون أنهم إنما سموا بذلك لأن الناس سعدوا بهم ونحو ذلك مما لا معنى له اه
قلت وإنما نصفهم نحن بذلك لأنهم اشتهروا عند الخاصة والعامة به فصار كالعلم الصرف المرتجل مع أنه لا محذور بعد تحقيق النسب وثبوت الشرف والله تعالى يلهمنا الصواب بمنه وفضله الخبر عن دولة الأمير أبي عبد الله محمد القائم بأمر الله وبيعته والسبب فيها
قال ابن القاضي درة السلوك لم يزل أسلاف السعديين مقيمين بدرعة إلى أن نشأ منهم أبو عبد الله محمد القائم بأمر الله فنشأ على عفاف وصلاح وحج البيت الحرام وكان مجاب الدعوة ولقي جماعة من العلماء الأعلام والصلحاء العظام في وفادته على الحرمين الشريفين أخبرني بعض الفضلاء أنه لقي رجلا صالحا بالمدينة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام فأشار له بما يكون منه ومن ولديه وكان قد رأى رؤيا وهي أن أسدين خرجا من إحليله فتبعهما الناس إلى أن دخلا صومعة ووقف هو ببابها فعبرت له رؤياه بأنه سيكون لولديه شأن وإنهما يملكان الناس ثم رجع إلى المغرب وهو معلن بالدعوة فيقول في كل محفل إن ولديه سيملكان المغرب وسيكون لهما شأن من غير تردد منه ثقة بخبر الرجل الصالح وبرؤياه المذكورة فما زال إلى أن قام سنة خمس عشرة وتسعمائة اه
وقال صاحب زهرة الشماريخ ما صورته إن سبب قيام أبي عبد الله القائم أن أهل السوس أحاط بهم العدو الكافر ونزل بجوانبهم من كل جهة حتى أظلم الجو واستحكمت شوكة البرتغال وبقي المسلمون في أمر مريج لعدم أمير تجتمع عليه كلمة الإسلام لأن بني وطاس فشلت ريحهم يومئذ
____________________

في بلاد السوس وإنما كان لهم الملك في حواضر المغرب ولم يكن لهم منه بالسوس إلا الاسم مع ما كانوا فيه من قتال العدو بطنجة وآصيلا وحجر بادس وغيرها من ثغور بلاد الهبط فلما رأى قبائل السوس ما دهمهم من تفاقم الأحوال وكثرة الأهوال وطمع العدو في بلادهم ذهبوا إلى الشيخ الصالح أبي عبد الله محمد بن مبارك الأقاوي نسبة إلى آقة من بلاد السوس فذكروا له ما هم فيه من افتراق الكلمة وانتشار الجماعة وكلب العدو على مباكرتهم بالقتال ومراوحتهم وطلبوا منه أن يعقدوا له البيعة وتجتمع كلمتهم عليه فامتنع من ذلك وقال إن رجلا من الأشراف بتاجمدارت من درعة يقول إنه سيكون له ولولديه شأن فلو بعثتم إليه وبايعتموه كان أنسب بكم وأليق بمقصودكم فبعثوا إليه وكان من أمره ما كان
وقال اليفرني رأيت بخط الفقيه العلامة أبي زيد عبد الرحمن ابن شيخ الجماعة أبي محمد عبد القادر الفاسي ما صورته ذكر لنا الوالد عن سيدي أحمد بن علي السوسي البوسعيدي أن ابتداء دولة الشرفاء بالسوس أن بعض السادة وهو سيدي بركات توسط في فداء بعض الأسارى وأراد أن يكون مع النصارى اتفاق على أن لا يحبسوا أسيرا فكلمهم في ذلك فقالوا له حتى يكون لكم أمير فإن ملككم قد ذهب واضمحل قال ثم إن بعض أهل السوس ساروا إلى قبيلة جسيمة يكتالون الطعام فأخذتهم جسيمة وأكلوا متاعهم وبضاعتهم فذهبوا إلى شيخهم وكان ذا حزم وتدبير فرد عليهم كل ما ضاع لهم حتى لم يبق لهم شيء فلما رجعوا إلى بلادهم قالوا إن هذا الشيخ الرئيس هو الذي يليق أن نبايعه فاجتمعوا وأتوه وطلبوا منه أن يرأسهم فامتنع واحتاط لدينه واعتذر بتشويش هذا الأمر للدين ودلهم على رجل شريف كان مؤذنا بدرعة فقال لهم إن كان ولا بد فاقصدوا الشريف الفلاني
____________________

فإنه يذكر أن ولديه يملكان المغرب فقصدوه وحملوه إلى بلادهم وبايعوه وفرضوا له من المؤنة ما يكفيه وأولاده وبقي هنالك في نحر العدو
ويروى أنه لما بايعه أهل السوس ورأى قلة ما بيده مع أن الملك لا يقوم إلا بالمال احتال بأن أمر أهل السوس أن يأتوه ببيضة لكل كانون فاجتمع له من ذلك آلاف من البيض لا تحصى لأن الناس استهونوا أمر البيضة فلما اجتمع عنده البيض أمر أن كل من أتى ببيضة يأتي بدلها بدرهم ففعلوا فاجتمع له من ذلك مال وافر فأصلح به شأنه وقوى به جيشه وكانت تلك أول نائبة فرضت في دولة السعديين والله أعلم
وقال ابن القاضي إن الأمير أبا عبد الله القائم لما اجتمع بالشيخ ابن مبارك ببلده آفة وذلك سنة خمس عشرة وتسعمائة على ما مر فاوضه في شأنه ثم عاد إلى مقره من درعة ثم في سنة ست عشرة بعدها بعث إليه فقهاء الصامدة وشيوخ القبائل ودعوه إلى توليته عليهم وتسليم الأمر إليه فلبى دعوتهم وجاء إلى قرية يقال لها تيدسي قرب تارودانت فبايعه الناس بها وأصبحوا معه بقلوب متفقة وأهواء على الجهاد مجتمعة اه
وقد ساق منويل أولية هذه الدولة مساقا غريبا ولا يخلو عن فائدة فلنذكر منه ما يقرب إلى الصحة ويكون كالشرح لما مضى أو يأتي من أخبار هذه الدولة قال
لما كان السلطان أبو عبد الله الوطاسي يعني البرتغالي أميرا بفاس ظهر في درعة رجل شريف يعني أبا عبد الله محمدا القائم بأمر الله قال وكان هذا
____________________

الشريف من قراء القرآن ومن أهل العلم والدين والفقر والخمول ولم يكن من بيت الرياسة وكان له اطلاع على تواريخ قطره وعوائد جيله وأخلاقهم وطبائعهم ورأى ما وصل إليه ملك المغرب من الانحطاط والضعف وتيقن أنه لا يصعب عليه تناوله فأعمل في ذلك فكره ومكره وصار يحض الناس على القيام بأمور دينهم والامتعاض لها وكان قد بعث ثلاثة من أولاده وهم عبد الكبير وأحمد ومحمد إلى الحجاز بقصد الحج وكانت لهم فصاحة ورجاحة ومعرفة بإدارة الكلام فظهر لهم ناموس في تلك البلاد وأحبهم الناس لا سيما أحمد ومحمد ولما رجعا من مكة أقاما بفاس وهي يومئذ دار الملك وترتب أحمد في مجلس بالقرويين لتدريس العلم فاكتسب بذلك جاها وتقرب محمد إلى السلطان حتى صار مؤدبا لأولاده وبقيا على ذلك مدة وهما في ذلك كله يتحببان إلى الناس ويسعيان في مذاهب الشهرة والبرتغال في أثناء ذلك ملح على الثغور واستلابها من أهلها ولم تكن تقوم للمسلمين معه راية فدعا ذلك الأخوين أحمد ومحمدا إلى أن ندبا السلطان وهو أبو عبد الله البرتغالي إلى المناداة في الناس بالجهاد إظهارا للنصح وهما يسران حسوا في ارتغاء وقصدهما تفرقة الكلمة على السلطان لا غير فاغتر السلطان بنصحهما وقال لهما لا أحد أولى منكما بالقيام بهذه الوظيفة فأجاباه إلى ذلك عن توفر داعية وكمال رغبة فأرسلهما يناديان ويستنفران الناس في نواحي المغرب إلى الجهاد ويحضان الناس عليه ويخطبان بذلك في المحافل ويعظان وتتبعا الحواضر والبوادي وتقريا الأحياء والمداشر والقرى إلى أن وصلا إلى درعة حيث أبوهما وأخوهما عبد الكبير فاجتمعا بهما وذاكراهما في أمرهما وأنهما قد أشرفا على المراد وكادا يلجان الملك من بابه لأن أهل تلك البلاد كانوا سامعين لهم من قبل اليوم فكيف بهم اليوم فحينئذ أخذ الأب وأولاده في نشر معايب الدولة للعامة ويقررون ذلك بفصاحتهم ووجاهتهم وما أوتوه من القبول وعضدهم على ذلك شيوخ البلد وتبعهم الناس واجتمعوا عليهم من كل جهة وصار حالهم ينموا شيئا فشيئا إلى أن استبدوا على السلطان ولم يرجعوا إليه بعد
____________________


وقال في نشر المثاني كان السبب في قيام الشرفاء الزيدانيين واستبدادهم بملك المغرب أن الحرب نشبت بين النصارى وأهل السوس ودامت وكان بنو وطاس يمدون أهل السوس بالمال والعدد فاتفق أن خرج الشريفان محمد الشيخ وأخوه أحمد الأعرج للجهاد مع أهل السوس فظهر مكانهما في الجهاد فلما وفدا على الوطاسي تلقاهما بالرحب وأقبل عليهما لأجل قيامهما بالجهاد وأعطاهما عدة وخيولا كثيرة فرجعا إلى جهادهما ثم عادا إليه مرة أخرى فأعطاهما مثل ذلك وكانت لهما وقائع في النصارى ونكاية وظهور وصارا يكتبان إلى القبائل فيساعدونهما على ذلك حتى اجتمعت عليهم جموع عديدة فحينئذ خلعا طاعة الوطاسي ودعوا لأنفسهما اه
قال منويل وكان أكثر شهرة أمرهم بالسوس الأقصى ودرعة وأعمالهما وصاروا يرفعون إليهم زكواتهم وأعشارهم ثم بايعوهم ونهض هؤلاء الأشراف إلى تارودانت فاستولوا عليها وحصنوها ثم زحفوا إلى آكادير لحرب البرتغال فقاتلوه مدة ولم يفتح لهم وكانوا يشيعون أنهم لا قصد لهم إلا في الجهاد ومحاربة عدو الدين ومن هو سلم له من المسلمين إذ لم يتأت لهم إذ ذاك التصريح بخلع السلطان
وفي سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة تجاوزوا جبل درن إلى بلاد حاحة والشياظمة ثم دخلوا بسيطة عبدة وكان بآسفي رجل تنصر اسمه يحيى بن تافوت احتمى بالبرتغال من السلطان وكان معروفا بالشجاعة واتصل خبره بطاغية البرتغال منويل فولاه على النصارى وعلى أتباعه من المسلمين تأليفا له
ولما زحف الأشراف إلى بلاد عبدة كان بينهم وبين يحيى المذكور ونصاراه معركتان شديدتان كان الظهور فيهما ليحيى لكن أبو العباس أحمد الأعرج تدارك أمره فورا وجمع عسكرا آخر وخطبهم ووعظهم وزحف إلى يحيى المذكور ففضه وفض نصاراه إلى أن انجحروا بآسفي وأغلقوه عليهم وأتيح لأحمد عليهم ما لم يتقدم لغيره فيهم فبذلك تأتى له أن يتناول ملك المغرب
____________________


ولما اتصل خبر هذا الظهور له بالسلطان الوطاسي لم يعجبه ذلك وظهر له أن ما كان أحمد وأخوه يحاولانه من أمر الجهاد لم يكن ظاهره كباطنه وحقق له ذلك ما فعلوه من تحصين تارودانت مع ما كان لأبيهم من نفوذ الكلمة بالسوس
وكان في هذا التاريخ بمراكش وأعمالها عامل اسمه ناصر بوشتنوف وكان مستبدا على الوطاسي ويبذل له شيئا تافها يتقيه به ولما مر به هؤلاء الأشراف في أول أمرهم داعين إلى الجهاد أحسن إليهم غاية ولما أوقعوا وقعة آسفي أبرموا أمرهم مع ناصر أبي شتنوف وأظهروا له المحبة والموالاة وطلبوا منه أن يظاهرهم على جهاد العدو وأن يكونوا يدا واحدة وجندا واحدا عليه فأسعفهم وقدموا مراكش فدخلوها مرة ثانية وأحسن إليهم وبعد أيام خرجوا به للصيد فسموه في خبز صغير يسمى القريشلات فهلك للحين وصفا للأشراف مراكش وأعمالها إذا كان أهلها قد أحبوهم وشرهوا إليهم ولما تم لهم أمر درعة والسوس ومراكش تسمى أحمد باسم الأمير واستخلف أخاه محمدا الشيخ
ولما اتصل الخبر بالوطاسي وأنهم استولوا على مراكش أقلقه ذلك ومن مكر أحمد أنه بعث إليه يقول ما أنا إلا واحد من أعمالك وما كان يعطيه أهل هذه البلاد أبذله لك مضاعفا ومع ذلك لم يطمئن إليه ثم هلك الوطاسي وولي مكانه ابنه أبو العباس أحمد وانقسمت مملكة المغرب فصارت فاس للوطاسي ومراكش وأعمالها لأبي العباس الأعرج وتارودانت والسوس ودرعة لمحمد الشيخ وأما عبد الكبير فإنه كان استشهد قبل هذا في حرب البرتغال قرب آسفي
ولما رأى أبو العباس الوطاسي استفحال أمر الأشراف وأنهم أمسكوا عنه ما وعدوا بأدائه لأبيه عزم على حربهم فجمع عسكرا عظيما وزحف إلى مراكش فتحصن أحمد الأعرج بها وقدم عليه أخوه فظاهره على عدوه وفي أثناء حصاره الوطاسي لمراكش اتصل به الخبر بأن أهل فاس قد قاموا عليه وبايعوا بعض إخوته فرجع إلى فاس وقبض على أخيه الثائر عليه ثم كر إلى
____________________

مراكش بعسكر أعظم من الأول وفي هذه المرة برز إليه الأشراف خارج البلد ثم تقدموا إليه فكان اللقاء على أبي عقبة من تادلا ووقعت بينهم حرب هائلة لأن الوطاسيين كانوا يرون أن هذه الحرب هي الفيصل بينهم وبين عدوهم والأشراف كذلك وحضر هذا الحرب أبو عبد الله ابن الأحمر سلطان الأندلس المخلوع وأبلى بلاء حسنا حتى قتل وكان الظهور للأشراف ورجع الوطاسي مفلولا إلى فاس وترك محلته بما فيها من مدافع وغيرها بيد عدوه وبعد هذه الوقعة استولى الأشراف على تافيلالت وملكوا آكادير وآسفي وآزمور لأن البرتغال كانوا قد تخلوا عنها ثم عن قريب حدث بين الأخوين النفرة وحاول رجال دولتهما الوفاق بينهما فلم يتفقا وكانت الكرة على أحمد وفر ابنه زيدان الذي كان عضد أبيه في الحروب إلى تافيلالت فاستولى عليها واقتطعها عن عمه محمد الشيخ ثم زحف الشيخ إلى فاس فحاصرها إلى أن قبض على الوطاسيين وغربهم إلى درعة اه كلام منويل
ثم نرجع إلى سياقة الخبر عن هذه الدولة حسبما عند اليفرني وغيره أخبار الأمير أبي عبد الله القائم في الجهاد وما هيأ الله له من النصر فيه
لما استتب أمر الأمير أبي عبد الله القائم واجتمعت كلمة القبائل السوسية عليه ندب الناس إلى مقارعة البرتغال وجهاده ونفيه عن ثغور المغرب وبلاده وكانت معه يومئذ جموع حافلة من المسلمين فصمدوا معه إلى النصارى وناوشوهم الحرب فأتاح الله للأمير أبي عبد الله الفتح والنصر ونثر أثلاء الكفار بمخالب الظفر وأخرج حية الغي من جحرها وأعاد كلمة الإسلام إلى مقرها فلما رأى المسلمون ذلك تيمنوا بطلعته وتفاءلوا بطائره الميمون ونقيبته وزادهم ذلك محبة في جانبه وتعظيما في مكانته ولما فصل من جهاده عاد إلى محله المذكور من تيدسي فوقع بينه وبين بعض الرؤساء هنالك منافرة أدت إلى ارتحاله عنها وعوده إلى درعة فلم يزل مقيما
____________________

بها إلى سنة ثمان عشرة وتسعمائة فرجع إلى مكانه من تيدسي واطمأنت به دارها وأزال الله عنه ما كان أزعجه عنها والله غالب على أمره عقد الأمير أبي عبد الله القائم ولاية العهد لابنه أبي العباس الأعرج رحمهم الله تعالى
قد تقدم لنا ما كان من أمر الرؤيا التي رآها الأمير أبو عبد الله القائم في شأن ولديه وأنهما يملكان المغرب وفي معنى ذلك أيضا ما يحكى شائعا أن ولدي أبي عبد الله المذكور وهما أبو العباس الأعرج وأبو عبد الله الشيخ كانا يقرآن في مكتب وهما صبيان فدخل ديك فوثب على رأس كل منهما وصرخ فأول ذلك مؤدبهما بأنهما سيكون لهما شأن فمن أجل هذا ونحوه كان والدهما يعلن بأن أمر المغرب صائر إليهما فلما قضى الله ببيعته واجتماع الناس عليه واطمأنت به في البلاد السوسية الدار وطاب له بها المقام والقرار ندب الناس إلى بيعة أكبر ولديه وهو الأمير أبو العباس أحمد المعروف بالأعرج فبايعوه وكان ذلك مبدأ ظهور أمره على ما نذكره إن شاء الله تعالى انتقال الأمير أبي عبد الله القائم إلى أفغال من بلاد حاحة ووفاته بها رحمه الله
ثم إن أبا عبد الله القائم وفد عليه أشياخ حاحة والشياظمة لما بلغهم من حسن سيرته ونصرة لوائه فشكوا إليه أمر البرتغال ببلادهم وشدة شوكته واستطالته عليهم وطلبوا منه أن ينتقل إليهم هو وولده ولي العهد المذكور فأجابهم إلى ذلك ونهض معهم هو وابنه أبو العباس إلى الموضع المعروف بآفغال من بلاد حاحة وترك ولده الأصغر أبا عبد الله الشيخ بالسوس يرتب
____________________

الأمور ويمهد المملكة ويباكر العدو بالقتال ويراوحه واستمر الأمير أبو عبد الله القائم بمكانه من آفغال مسموع الكلمة متبوع العقب إلى أن توفي به سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة ودفن هنالك بإزاء ضريح الشيخ أبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي رضي الله عنه إلى أن نقل إلى مراكش بنقل الشيخ المذكور على ما يأتي إن شاء الله الخبر عن دولة السلطان أبي العباس أحمد الأعرج ابن الأمير أبي عبد الله القائم رحمه الله
كانت ولادة السلطان أبي العباس الأعرج فيما حققه ابن القاضي سنة إحدى وتسعين وثمانمائة وبويع بولاية العهد من أبيه سنة ثمان عشرة وتسعمائة كما مر ولما توفي أبوه في التاريخ المتقدم اجتمع الناس على بيعته من سائر الآفاق وآتوه طاعتهم عن رضا منهم وإصفاق فاستقام أمره وصرف عزمه إلى تمهيد البلاد واقتناء الأجناد وتعبية الجيوش إلى الثغور وشن الغارات على العدو في الآصال والبكور في أحواز تيلمست وآسفي وغيرهما وكان النصارى قد خيموا بشاطئ البحر وعاثوا في تلك السواحل فأجلاهم عنها وطهر تلك البقاع من رجسهم وأراح أهلها من شؤمهم ونحسهم وفي ذلك يقول البقاع مخلوف بن صالح يمدحه
( فلله هذا الهاشمي وفضله ** فلولاه صال الكفر أعظم صولة )
____________________

دخول السلطان أبي العباس الأعرج مراكش واستيلاؤه عليها
لما كان من إيقاع السلطان أبي العباس بنصارى السوس وانتصاره عليهم ما ذكرناه بعد صيته وانتشر في البلاد ذكره وأهرع الناس إليه من كل جانب ودخلت في طاعته سائر البلاد السوسية فعند ذلك كاتبه أمراء هنتاتة ملوك مراكش يخطبون أمره ويرومون الدخول في طاعته فأجاب داعيهم وانتقل إلى مراكش فدخلها في حدود الثلاثين وتسعمائة واستولى عليها وكان من أمره ما نذكره نقل الشيخ الجزولي رضي الله عنه من مدفنه بآفغال إلى مراكش والسبب في ذلك
قد تقدم لنا في أخبار عمرو السياف أنه كان في ابتداء أمره من أصحاب الشيخ الجزولي هذا وأنه لما توفي الشيخ المذكور جعل جثته في تابوت وصار يستنصر به في حروبه مدة من عشرين سنة أو نحوها ثم دفن بعد ذلك بآفغال وتقدم لنا أن الأمير أبا عبد الله القائم لما توفي دفنه ابنه أبو العباس بإزاء هذا الشيخ ثم لما ملك أبو العباس المذكور مراكش نقل الشيخ الجزولي إليها ونقل أباه معه فدفنه بقربه أيضا
واختلف في سبب ذلك فقيل إن السلطان المذكور خاف أن يثور عليه أحد بتلك البلاد فيستخرج الشيخ من ملحده وينتصر عليه به فنقله إلى مراكش ليأمن من ذلك وقيل إن الحامل له على نقله أنه ذكر له أن تحته كنز فتعلل للنبش عنه بأنه قصد نقله إلى الحضرة تبركا به والله أعلم وكان ذلك كله في حدود الثلاثين وتسعمائة
____________________

مجيء السلطان أبي عبد الله الوطاسي إلى مراكش وحصاره للسلطان الأعرج بها ثم إقلاعه عنها
لما استولى السلطان أبو العباس الأعرج على مراكش وصفا له أمرها اتصل خبره بصاحب فاس أبي عبد الله الوطاسي المعروف بالبرتغالي فأقبل في جموع عديدة مع وزيره ابن عمه المسعود بن الناصر ويقال مع أخيه الناصر فلما رأى السلطان أبو العباس ما لا قبل له به تحصن بمراكش وشحن أسوارها بالرماة والمقاتلة وزحف الوطاسي إلى الحضرة فنصب الأنفاض عليها ووالى الرمي عليها أياما واشتد الأمر على الناس فكان من ذهابهم إلى الشيخ الغزواني وخروجه إلى باب الخميس وقوله عند إصابة الرصاصة له أنها خاتمة حربهم ما قدمناه في أخبار الوطاسيين مستوفى ثم كان اللقاء بعد ذلك بين الفريقين إنما يكون في تادلا وأعمالها على ما مر والله أعلم خبر آسفي والثغور
رأيت في تواريخ الفرنج أن البرتغال خرجوا من آسفي سنة ألف وخمسمائة وثلاثين مسيحية وهذا التاريخ يوافقه من سني الهجرة سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة وهي وسط دولة السلطان أبي العباس وزعم هذا المؤرخ
____________________

أنهم خرجوا منها من قبل أنفسهم ونقلوا جميع ما كان فيها من عدة وأثاث إلى الجديدة بعدما خربوها وأفسدوها وأوقدوا فيها النار قال وبقيت اثنتي عشرة سنة وهي مخربة إلى أن أصلحها السلطان محمد الشيخ يعني السعدي الآتي ذكره
وفي النزهة ما يقرب من هذا فإنه قال بعد ذكر إيقاع السلطان أبي العباس بنصارى السواحل ما نصه ويقال إن النصارى لما رأوا ما فعل بمن كان منهم بالسوس من القتل والسبي أخلوا ثغر آزمور ورباط آسفي وآصيلا من غير قتال ثم نقل هذا الخبر في محل آخر عن ابن القاضي منسوبا إلى أبي عبد الله الشيخ وسيأتي ذكره في محله وأظن أن الإخلاء كان متكررا والله أعلم وعلى كل حال فذكر آصيلا هنا غير مناسب إذ هي يومئذ في جهة الوطاسيين وتخومهم فما بال نصاراها يخرجون فرارا منها خوفا من السعديين وليسوا مجاورين لهم ولا متوقعين هجومهم عليهم ثم كان بعد هذا بين أبي العباس السعدي وأبي العباس الوطاسي من الحرب والسلم ما تقدم بيانه كوقعة آنماي ووقعة أبي عقبة وغيرهما مما لا فائدة في إعادته حدوث النفرة بين الأخوين السلطان أبي العباس الأعرج ووزيره أبي عبد الله الشيخ وما نشأ عن ذلك
كان السلطان أبو العباس رحمه الله من الشهامة والصرامة واستفحال الأمر بالمحل الذي وصفناه قبل وكان أخوه أبو عبد الله الشيخ أصغر سنا منه وكان تحت طاعته واقفا عند إشارته وكان السلطان أبو العباس يستشيره في أموره ويفاوضه في مهماته ويستعين بنجدته في الزحوف والمعارك ويستضيء برأيه في الحوادث الحوالك وكان الشيخ ثاقب الذهن نافذ البصيرة مصيب الرأي حازما شهما فكانت كلمتهما واحدة وأمرهما
____________________

جميعا إلى أن دخل الوشاة بينهما فأفسدوا قلوبهما وأفضى الحال إلى المصافة والمقاتلة وانقسم الجند حزبين وانصرفت كل طائفة إلى متبوعها وصاحب أمرها وتقاتلا مدة وكانت جل القبائل السوسية صاغية إلى الشيخ لما كان نشأ بين أظهرهم وسبروه من نجابته وكفايته منذ تركه أبوه عندهم عند انتقاله إلى آفغال حسبما مر فاستفحل أمره وغلب على أخيه أبي العباس فقبض عليه واستولى على ما بيده واجتمعت كلمة أهل السوس عليه ثم أودع أخاه وأولاده السجن ووسع عليهم في الجرايات والنفقات وأصبح ملكا مستقلا بعد أن كان وزيرا وكان ذلك سنة ست وأربعين وتسعمائة
وفي نشر المثاني أن قبض الشيخ على أخيه أبي العباس الأعرج كان سنة إحدى وخمسين وتسعمائة والأول أصح ولم يزل السلطان أبو العباس وأولاده في حكم الثقاف إلى أن قتل يوم مقتل أخيه الشيخ بعد ثمان عشرة سنة أو نحوها حسبما يأتي إن شاء الله وكانت دولته من يوم بويع إلى أن قبض عليه أخوه ثلاثا وعشرين سنة وكان من حجابه محمد بن علي الأنكراطي اليملالي ومحمد بن أبي زيد المنزاري ومن كتابه سعيد بن علي الحامدي رحمهم الله أمر زيدان ابن السلطان أبي العباس وما كان منه
قال صاحب درة الحجال اختلف الناس هل بويع لزيدان بن الأعرج بعد وفاة أبيه أم لا وقال شارح زهرة الشماريخ كان زيدان بن أبي العباس بسجلماسة وبويع له بها فلم يتم أمره ونفي إلى أن توفي سنة ستين وتسعمائة
____________________

الخبر عن دولة السلطان أبي عبد الله محمد المهدي المعروف بالشيخ ابن الأمير أبي عبد الله القائم بأمر الله
كانت ولادة السلطان أبي عبد الله محمد الشيخ سنة ست وتسعين وثمانمائة ويلقب بالشيخ بآمغار وهو الشيخ بالبربرية ويلقب من الألقاب السلطانية بالمهدي لقبه به غير واحد من أئمة عصره ونشأ في عفاف وصيانة وعني بالعلم في صغره وتعلق بأهدابه فأخذ عن جماعة من الشيوخ وبلغ فيه إلى درجة الرسوخ فتح حصن فونتي وآسفي وآزمور وما قيل في ذلك
لما استقل السلطان أبو عبد الله الشيخ بأمر السوس واجتمعت كلمته عليه صرف عزمه إلى جهاد العدو الذي بثغوره وحصونه وأرهف حده لتطهيرها من بقايا شغبه وزبونه فانتصر عليهم واستأصل شأفتهم وقطع من تلك النواحي دابرهم وحسم آفتهم
قال ابن القاضي كان الشيخ رحمه الله ماضي العزيمة قوي الشكيمة عظيم الهيبة كثير الغزوات ذا همة عالية وشهامة عالية فعد قواعد الملك وأسس مبانيه وأحيى مراسم الخلافة الدارسة ومعالمها الطامسة وكان له سعد وبخت عظيم في الجهاد ويد بيضاء في الإسلام فتح حصن النصارى بالسوس يعني حصن فونتي بعد أن أقاموا فيه اثنتين وسبعين سنة وكان منصورا بالرعب حتى تركوا له آسفي وآزمور وآصيلا من غير قتال ولا إيجاف عليهم اه ونحوه في تاريخ البرتغاليين زاد مؤرخهم أن ذلك كان بإذن طاغيتهم صاحب أشبونة وقد تقدم نحو هذا في أخبار الأعرج والجواب عنه وكان فتح فونتي سنة سبع وأربعين وتسعمائة كما في النزهة وفتح آسفي سنة
____________________

ثمان وأربعين بعدها كما في المرآة وعند البرتغاليين أن ذلك كان سنة ألف وخمسمائة واثنتين وأربعين مسيحية وهو موافق لهذا التاريخ الهجري
وفي الدوحة لما أخلى النصارى آزمور تسارع إليها جماعة من الفقراء منهم الشيخ أبو محمد عبد الله الكوش دفين جبل العرض من فاس والشيخ أبو محمد عبد الله بن ساسي دفين تانسيفت قرب مراكش فقعدوا بها يحرسونها حتى يأتي مدد المسلمين ومن يعمرها منهم مخافة أن يرجع إليها العدو فإذا به قد رجع واقتحمها عليهم وأسرهم إلى أن افتكهم المسلمون
قال منويل كان فداؤهما بألفي ريال ومائتي ريال بالتثنية فيهما ولما افتدى الشيخ الكوش وعزم على الخروج وكان أسيرا عند امرأة نصرانية ناولته كتبا للمسلمين وقالت له هذه كتب كانت عندي ولا حاجة لي بها فخذها إليك فأخذها وخرج بها في قفة على رأسه فكان من جملتها كتاب تنبيه الأنام الموضوع في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فكان ذلك أول دخوله لهذه البلاد على يد الشيخ المذكور اه بناء حصن آكادير
قال الشيخ أبو العباس ابن القاضي في كتابه المنتقى المقصور كانت للأمير السلطان أبي عبد الله الشيخ مآثر حسنه منها أنه أول من اختط مرسى آكادير بالسوس الأقصى سنة سبع وأربعين وتسعمائة لما أجلى النصارى من الموضع المعروف بفونتي على مقربة من آكادير المذكور وكان له في اختطاطه رأي مصيب وفراسة تامة اه
____________________

استيلاء السلطان أبي عبد الله محمد الشيخ على مراكش وتجديد البيعة له بها
كان السلطان أبو عبد الله الشيخ بعد القبض على أخيه واستقلاله بالأمر قد أقام بالبلاد السوسية مثابرا على جهاد العدو إلى أن قلع عروق مفسدته منها وكانت مراكش في هذه المدة قد توقفت عن بيعته وتربصت عن الدخول في دعوته اتقاء للوطاسيين وارتياء في أمره إلى ماذا يؤول واستمر الحال إلى سنة إحدى وخمسين وتسعمائة فانقادت له حينئذ وبايعه أهلها فقدمها واستولى عليها وخلص له جميع ما كان بيد أخيه المخلوع من تادلا إلى وادي نول والله غالب على أمره نهوض السلطان أبي عبد الله محمد الشيخ لحرب بني وطاس واستيلاؤه على مكناسة وما اتفق له في ذلك
لما استولى السلطان أبو عبد الله محمد الشيخ على مراكش وصفت له أعمالها طمحت نفسه للاستيلاء على بقية بلاد المغرب وأمصاره وقطع جرثومة الوطاسيين من سائر أقطاره فجمع الجموع وتقدم بها إلى أعمال فاس فلم يزل يستفتحها بلدا بلدا ومصرا مصرا إلى أن أتى عليها أجمع وكان أول ما ملك منها مكناسة الزيتون فإنه افتتحها عقب سنة خمس وخمسين وتسعمائة بعد حصار وقتال كبير
____________________

حصار السلطان أبي عبد الله الشيخ حضرة فاس ومقتل الشيخ عبد الواحد الوانشريسي رحمه الله
كان السلطان أبو عبد الله الشيخ قد ألح على فاس بالقتال وحاصرها حصارا طويلا ولما عسر عليه أمرها بحث عن ذلك فقيل له لا سبيل لك إليها ولا يبايعك أهلها إلا إذا بايعك ابن الوانشريسي يعنون الشيخ الفقيه أبا محمد عبد الواحد بن أحمد الوانشريسي رحمه الله فبعث إليه السلطان المذكور سرا ووعده ومناه فقال له الشيخ عبد الواحد بيعة هذا السلطان يعني أبا العباس الوطاسي في رقبتي ولا يحل لي خلعها إلا لموجب شرعي وهو غير موجود وزعم بعضهم أن السلطان المذكور كتب إلى أهل فاس يقول لهم إني إن دخلت فاسا صلحا ملأتها عدلا وإن دخلتها عنوة ملأتها قتلا فأجابه ابن الوانشريسي بأبيات أغلظ له فيها منها قوله
( كذبت وبيت الله ما تحسن العدلا ** ولا خصك المولى بفضل ولا أولى )
كذا في النزهة قلت وهذا البيت من أبيات قديمة والوانشريسي إنما تمثل به لا غير فقد ذكر العلامة ابن خلدون في أخبار بني صالح بن منصور الحميري أصحاب قلعة نكور لأول الفتح أن عبيد الله المهدي العبيدي صاحب إفريقية لما تغلب على المغرب خاطب سعيد بن صالح منهم يدعوه إلى أمره وكتب له في أسفل كتابه
( فإن تستقيموا أستقم لصلاحكم ** وإن تعدلوا عني أرى قتلكم عدلا )
( وأعلوا بسيفي قاهرا لسيوفكم ** وأدخلها عنوا وأملأها قتلا )
فأجابه سعيد بن صالح بأبيات من نظم شاعره الطليطلي نصها
____________________


( كذبت وبيت الله ما تحسن العدلا ** ولا علم الرحمن من قولك الفصلا )
( وما أنت إلا جاهل ومنافق ** تمثل للجهال في السنة المثلى )
( وهمتنا العليا بدين محمد ** وقد جعل الرحمن همتك السفلى )
فلعل الشيخ كتب لأهل فاس بالبيتين الأولين والوانشريسي كان مطلعا على القضية فأجابه بجوابهما
ولما بلغ ذلك السلطان الشيخ حقد على الوانشريسي ودس إلى جماعة من المتلصصة بأن يأخذوه ويأتوا به إلى محلته محبوسا من غير قتل وكان الشيخ عبد الواحد يقرأ صحيح البخاري بجامع القرويين بين العشاءين وينقل عليه كلام ابن حجر في فتح الباري ويستوفيه لأنه شرط المحبس فقال له ابنه يا أبت إني قد سمعت أن اللصوص أرادوا الفتك بك في هذه الليلة فلو تأخرت عن القراءة فقال له الشيخ أين وقفنا البارحة قال على كتاب القدر قال فكيف نفر من القدر إذا اذهب بنا إلى المجلس فلما افترق المجلس خرج الشيخ عبد الواحد من باب الشماعين أحد أبواب المسجد المذكور فثار به اللصوص وأرادوا حمله فأخذ بإحدى عضادتي الباب فضرب أحدهم يده فقطعها وأجهز عليه الباقون فقتلوه بباب المسجد المذكور في السابع والعشرين من ذي الحجة سنة خمس وخمسين وتسعمائة
قال الشيخ المنجور في فهرسته واشتهر عن الفقيه الصالح أبي عبد الله محمد بن إبراهيم المدعو بأبي شامة أنه رأى الشيخ عبد الواحد في المنام بعد مقتله فسأله عن حاله فأنشأ يقول
( لقد عمني رضوان ربي وفضله ** ولم أر إلا الخير في وحشة القبر )
( وإني أسأل الإله بفضله ** ليحفظني يوم الخروج إلى الحشر )
( وما بعد ذاك من أمور عسيرة ** كنشر الكتاب والمرور على الجسر )
____________________

استيلاء السلطان أبي عبد الله الشيخ على فاس وقبضه على الوطاسيين وتغريبهم إلى مراكش
ثم إن السلطان أبا عبد الله الشيخ جد في حصار فاس وألح عليها بالقتال إلى أن ملكها واحتوى عليها
قال في الدوحة لما ألح السلطان الشيخ بالحصار على فاس جاءه الشيخ أبو الرواين المحجوب وقال له اشتر مني فاسا بخمسمائة دينار فقال له السلطان ما أنزل الله بهذا من سلطان هذا شيء لم تأت به الشريعة فقال والله لا دخلتها هذه السنة فبقي أشهرا والأمر لا يزداد إلا شدة فقال ابن السلطان وهو الأمير أبو محمد عبد القادر ابن الشيخ لأبيه يا أبت افعل ما قال لك الشيخ أبو الرواين فإنه رجل مبارك من أولياء الله تعالى ولم يزل به حتى أذن له في الكلام معه فكلمة الأمير عبد القادر فقال له ادفع المال فدفعه إليه فقال له عند تمام السنة يقضي الله الحاجة وأمري بأمره سبحانه ثم إن الشيخ أبا الرواين فرق المال من يومه ولم يمسك منه لنفسه حبة ومن ذلك اليوم والسلطان المذكور في الظهور إلى أن انقضت السنة فدخل فاسا كما قال اه
وقال صاحب الممتع والشيخ أبو الرواين هو كان أحد الأسباب في تمكن السلطان المذكور من الملك وإخراج بني وطاس عنه فإنه لما رأى اضطراب أمر الناس وهيجان النصارى على المسلمين جعل ينادي يا حران جئ فإني قد أعطيتك الغرب وذلك قبل ظهور السعديين ولم يكن الناس يدرون ما يقول حتى ظهر الحران وهو أحد أولاد السلطان أبي عبد الله الشيخ وهو الذي كان يتقدم للحرب ولم يفتح والده من البلاد إلا ما فتح له على يده
وكان دخول السلطان الشيخ إلى فاس سنة ست وخمسين وتسعمائة ولما دخلها تقبض على الوطاسيين أجمع وبعث بهم مصفدين إلى مراكش عدا
____________________

أبا حسون منهم فإنه فر إلى الجزائر مستجيرا بتركها حسبما مر
وقال اليفرني لما دخل الشيخ حضرة فاس دخلها وعليه وعلى أصحابه الدراعات الصفر وسمة البداوة لائحة عليهم فحملوا أنفسهم على التأدب بآداب الحاضرة والتخلق بأخلاقهم يعني حتى رسخ فيهم ذلك والله أعلم نهوض السلطان أبي عبد الله الشيخ إلى تلمسان واستيلاؤه عليها
قد قدمنا ما كان من استيلاء حسن بن خير الدين التركي على تلمسان وانقراض دولة بني زيان منها سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة فلما فتح أبو عبد الله الشيخ حضرة فاس في التاريخ المتقدم تاقت نفسه إلى الاستيلاء على المغرب الأوسط وكان يعز عليه استيلاء الترك عليه مع أنهم أجانب من هذا الإقليم ودخلاء فيه فيقبح بأهله وملوكه أن يتركوهم يغلبون على بلادهم لا سيما وقد فر إليهم عدو من أعدائه وعيص من أعياص أقتاله وهو أبو حسون الوطاسي فرأى الشيخ من الرأي وإظهار القوة في الحرب أن يبدأهم قبل أن يبدؤوه فنهض من فاس قاصدا تلمسان في جموعه إلى أن نزل عليها وحاصرها تسعة أشهر وقتل في محاصرتها ولده الحران وكان نابا من أنيابه وسيفا من سيوفه ثم استولى الشيخ على تلمسان ودخلها يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وتسعمائة ونفى الترك عنها وانتشر حكمه في أعمالها إلى وادي شلف واتسعت خطة مملكته بالمغرب ودانت له البلاد ثم كرت عليه الأتراك وأخرجوه من تلمسان فعاد إلى مقره من فاس ثم عاود غزو تلمسان حين بلغه قيام رعاياها على الترك وانحصار الترك بقصبتها فأقام مرابطا عليها أياما فامتنعت عليه وأقلع عنها ولم يعاود غزوها بعد ذلك وخلص أمرها إلى الترك على ما نذكره
____________________

امتحان السلطان أبي عبد الله الشيخ أرباب الزوايا والمنتسبين والسبب في ذلك
لما كانت سنة ثمان وخمسين وتسعمائة أمر السلطان أبو عبد الله الشيخ بامتحان أرباب الزوايا والمتصدرين للمشيخة خوفا على ملكه منهم لما كان للعامة فيهم من الاعتقاد والمحبة والوقوف عند إشاراتهم والتعبد بما يتأولونه من عباراتهم ألا ترى أن بيعة و الده أبي عبد الله القائم لم تنعقد إلا بهم ولا ولج بيت الملك إلا من بابهم فامتحن جماعة منهم كالشيخ أبي محمد الكوش فأخلى زاويته بمراكش وأمر برحيله إلى فاس
وفي الدوحة لما امتحن السلطان أبو عبد الله الشيخ زوايا المغرب قيل لأبي علي الحسن بن عيسى المصباحي دفين الدعادع التي على وادي مضي من عمل القصر ألا تخشى من هذا السلطان فقال إنما الخشية من الله ومع هذا فالماء والقبلة لا يقدر أحد على نزعهما والباقي متروك لمن طلبه
وكان السلطان المذكور يطالب أرباب الزوايا بودائع أمراء بني مرين ويتهمهم بها وبعث خديمه يوما إلى الشيخ أبي عثمان سعيد بن أبي بكر المشترائي دفين مكناسة يطالبه بشيء من ذلك فوجده جالسا بناحية زاويته يضفر الدوم وإذا بطائر لعله اللقلاق سلح أمامه فما رفع أبو عثمان بصره حتى سقط الطائر ميتا متطاير الريش فلما رأى الخديم ذلك فزع وولى هاربا قاله في الممتع والله تعالى أعلم
____________________

وفادة الإمام أبي عبد الله الخروبي من جانب دولة الترك في شأن قسم البلاد وتحديدها
لما كان من السلطان أبي عبد الله الشيخ ما كان من غزوه تلمسان مرتين وكان يحدث نفسه بمعاودة غزو تلك البلاد عينت دولة الترك من جانبها الفقيه الصالح أبا عبد الله محمد بن علي الخروبي الطرابلسي نزيل الجزائر ودفينها للوفادة على السلطان المذكور في شأن عقد المهادنة وتحديد البلاد فقدم عليه الفقيه المذكور وهو بمراكش سنة إحدى وستين وتسعمائة في هذا الغرض فأكرم السلطان أبو عبد الله وفادته إلا أنه لم تظهر ثمرة لمقدمه
وفي المرآة أن أبا عبد الله الخروبي قدم المغرب الأقصى مرتين في سبيل السفارة بين ملوك المغرب الأوسط والمغرب الأقصى فأخذ عنه كثير من أهل المغرب الأقصى وأخذ هو عن الشيخ زروق رحمه الله وفي قدمة الخروبي هذه إلى مراكش أنكر على الشيخ أبي عمرو القسطلي دفين رياض العروس من مراكش حلق شعر التائب الذي يريد الدخول في طريق القوم وقال إنه بدعة فقالوا له إن الشيخ الجزولي كان يفعله فقال لهم لعله بإذن والإذن له لا يعمكم فإن الإذن للنبي يعم أتباعه والإذن للولي لا يعم أتباعه وأنكر عليه مسائل كثيرة وبعث إليه رسالة أقذع له فيها وقد وقفت عليها رحم الله الجميع بمنه وتوفي الخروبي هذا سنة ثلاث وستين وتسعمائة ودفن خارج الجزائر والله أعلم
____________________

قدوم أبي حسون الوطاسي بجيش التراك واستيلاؤه على فاس ونفيه الشيخ عنها
قد قدمنا ما كان من استيلاء السلطان أبي عبد الله على فاس سنة ست وخمسين وتسعمائة وقبضه على بني وطاس وفرار أبي حسون إلى الجزائر فلم يزل أبو حسون عند تركها إلى أن قدم بهم مع باشاهم صالح التركماني فاستولى على فاس ثالث صفر سنة إحدى وستين وتسعمائة ونفى أبا عبد الله الشيخ عنها حسبما مر الخبر عنه مستوفى عود السلطان أبي عبد الله الشيخ إلى فاس واستيلاؤه عليها
لما فر السلطان أبو عبد الله الشيخ من وقعة الترك بفاس ووصل إلى مراكش صرف عزمه لقتال أبي حسون فاستنفر قبائل السوس وجمع الجموع وزحف إلى فاس فدارت بينه وبين سلطانها أبي حسون حروب شديدة كان في آخرها الظفر للشيخ فقتل أبا حسون واستولى على فاس وصفا له أمر المغرب وقد تقدمت هذه الأخبار مستوفاة في محلها وكان استيلاء السلطان الشيخ على فاس يوم السبت الرابع والعشرين من شوال سنة إحدى وستين وتسعمائة
وفي الدوحة أن دخول أبي حسون لفاس كان سنة ستين وتسعمائة وعود السلطان الشيخ إليها واستيلاؤه عليها كان في ذي القعدة سنة ستين أيضا والله تعالى أعلم
____________________

مقتل الفقيهين أبي محمد الزقاق وأبي علي حرزوز والسبب في ذلك
لما استولى السلطان أبو عبد الله الشيخ على فاس في هذه المرة أمر بقتل الفقيه الصالح قاضي الجماعة بفاس أبي محمد عبد الوهاب بن محمد ابن علي الزقاق لأنه اتهمه بالميل إلى أبي حسون
ويحكى أنه لما مثل بين يديه قال له اختر بأي شيء تموت فقال له الفقيه اختر أنت لنفسك فإن المرء مقتول بما قتل به فقال لهم السلطان اقطعوا رأسه بشاقور فكان من حكمة الله وعدله في خلقه أن السلطان المذكور قتل به أيضا كما سيأتي
وفي كتاب خلاصة الأثر أن الشيخ الزقاق كان يقول من قتل سوسيا كان كمن قتل مجوسيا فلما قبض عليه الشيخ قال له أنت زق الضلال فقال له لا والله بل أنا زق العلم والهداية ثم قتله
وأمر أيضا بقتل خطيب مكناسة الزيتون الشيخ أبي علي حرزور المكناسي لكلام بلغه عنه وأنه كان يذكره في خطبه ويحذر الناس من اتباعه والانقياد إليه ويقول في خطبته جاءكم أهل السوس الأقصى البعاد ثم يذكر الشيخ ويقول { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد } في كلام غير هذا وكان مقتل الفقيهين المذكورين في ذي القعدة سنة إحدى وستين وتسعمائة
____________________

ترتيب السلطان أبي عبد الله الشيخ أمر دولته وما قيل في ذلك
قال اليفرني كان السلطان أبو عبد الله الشيخ مولعا بتدبير أمر الرعية مستيقظا في أموره حازما غير متوقف في سفك الدماء قال ويحكى أنه لما دخل فاسا دخلها وعليه وعلى أصحابه سمة البداوة فحملوا أنفسهم على التأدب بآداب أهل الحاضرة والتخلق بأخلاقهم وذكر أن ملك السعديين إنما تأنق على يد رجل وامرأة فأما الرجل فقاسم الزرهوني فإنه رتب للسلطان أبي عبد الله الشيخ هيئة السلاطين في ملابسهم ودخولهم وخروجهم وآداب أصحابهم وكيفية مثولهم بين أيديهم وأما المرأة فالعريفة بنت خجو فإنها علمته سيرة الملوك في منازلهم وحالاتهم في الطعام واللباس وعاداتهم مع النساء وغير ذلك فاكتسى ملك الشيخ بذلك طلاوة وازداد في عيون العامة رونقا وحلاوة بسبب جريانه على العوائد الحضرية لأن أهل البادية مسترذلون في عيون أهل الحاضرة قالوا ولم يزل السلطان أبو عبد الله الشيخ يدور على مدن المغرب وأمصاره ويطيل الإقامة بفاس
قال في المنتقى ومن مآثره أنه بنى جسر وادي سبو وجسر وادي أم الربيع وتقدم بناؤه حصن آكادير والله تعالى أعلم وضع الوظيف المسمى في لسان العامة بالنائبة
قد تقدم لنا في صدر هذا الكتاب اختلاف العلماء في أرض المغرب هل فتحت عنوة أو صلحا أو غير ذلك وعلى القول بأنها فتحت عنوة فهي خراجية كما هو مقرر في كتب الفقه وتقدم لنا أيضا أن أول من وظف الخراج على أرض المغرب عبد المؤمن بن علي وتبعه بنوه على ذلك وقفا نهجهم بنو مرين وفي الظهير الذي كتبه السلطان أبو زيان المريني لابن الخطيب أيام مقامه بسلا شاهد بذلك ولما جاء السعديون من بعدهم سلكوا هذا السبيل أيضا وقول اليفرني إن أبا عبد الله الشيخ أول من أحدث النائبة
____________________

بالمغرب يحمل على أنه أول من أحدثها على الوجه الآتي بيانه وذلك أنه لما صفا للسلطان أبي عبد الله الشيخ أمر المغرب واستأصل جرثومة بني وطاس منه التفت إلى ترتيب ملكه وتهذيب أعطافه وتأسيس أمور دولته كما قلنا فمن ذلك أنه فرض على قبائل المغرب الضريبة المسماة في لسان العامة بالنائبة ولم ينزه عنها شريفا ولا مشروفا حتى أرباب الزوايا والمنتسبين ومنهم أولاد الشيخ أبي البقاء خالد المصمودي مع ما كان لأبيهم من الشهرة بالولاية والصيت في بلاده وكان قدر هذه النائبة صحفة من الشعير وعشرين مدا من القمح لكل نائبة وصاعا من السمن وكبشا لكل أربع نوائب وكانت تفرض في زمان الشيخ على الكوانين وتوظف على حسب السكان وتدفع بأعيانها وجرى على ذلك ولده الغالب بالله وأخوه المعتصم ولما جاء المنصور من بعدهم قوم تلك الأعيان بسعر الوقت وصارت تدفع دراهم ثم ازداد ذلك إلى أن خرج الأمر عن القياس واتسع الخرق على الراقع والله لا يظلم مثقال ذرة مراسلة السلطان سليمان العثماني للسلطان أبي عبد الله الشيخ وما نشأ عن ذلك
قد قدمنا ما كان من غص السلطان أبي عبد الله الشيخ بمكان الترك من تلمسان والمغرب الأوسط وأنه غزاهم مرتين وقدم الإمام أبو عبد الله الخروبي ساعيا في الهدنة فلم يرجع بطائل وكان السلطان الشيخ يقول فيما زعموا لا بد لي أن أغزو مصر وأخرج الترك من أحجارها وكان يطلق لسانه في السلطان سليمان العثماني ويسميه بسلطان الحواتة يعني لأن الترك كانوا أصحاب أساطيل وسفر في البحر فأنهى ذلك إلى السلطان سليمان فبعث إليه رسله فهذا سبب المراسلة على ما في النزهة
وأشبه منه بالصواب ما حكاه بعضهم قال لما بلغ خبر انقراض الدولة الوطاسية إلى السلطان سليمان العثماني واستيلاء السعديين على ملك المغرب الأقصى كتب إلى الشيخ يهنئه بالملك ويلتمس منه الدعاء له على منابر
____________________

المغرب وبعث إليه بذلك رسولا في البحر فانتهى إلى الجزائر ومنها قدم إلى مراكش في البر ولما وصل إلى السلطان أبي عبد الله الشيخ أنزله على كبير الأتراك في محلته صالح باي المعروف بالكاهية وكان هؤلاء الأتراك قد انحاشوا إلى الشيخ من بقايا القادمين مع أبي حسون فضمهم إليه وجعلهم جندا على حدة وسماهم اليكشارية بالياء ثم الكاف ثم الشين وهو لفظ تركي معناه العسكر الجديد ولما قرأ السلطان أبو عبد الله الشيخ كتاب السلطان سليمان ووجد فيه أنه يدعو له على منابر المغرب ويكتب اسمه على سكته كما كان بنو وطاس حمى أنفه وأبرق وأرعد وأحضر الرسول وأزعجه فطلب منه الجواب فقال لا جواب لك عندي حتى أكون بمصر إن شاء الله وحينئذ أكتب لسلطان القوارب فخرج الرسول من عنده مذعورا يلتفت وراءه إلى أن وصل إلى سلطانه وكان من أمره ما نذكره قدوم طائفة الترك من عند السلطان سليمان العثماني واغتيالهم للسلطان أبي عبد الله الشيخ رحمه الله
لما خرج رسول السلطان سليمان العثماني من عند السلطان أبي عبد الله الشيخ ووصل إلى الجزائر ركب البحر إلى القسطنطينية فانتهى إليها واجتمع بالوزير المعروف عندهم بالصدر الأعظم وأخبره بما لقي من سلطان المغرب فأنهى الوزير ذلك إلى السلطان سليمان فأمره أن يهيئ العمارة والعساكر لغزو المغرب فاجتمع أهل الديوان وكرهوا توجيهها واتفق رأيهم على أن عينوا اثني عشر رجلا من فتاك الترك وبذلوا لهم اثني عشر ألف دينار وكتبوا لهم كتابا إلى صالح الكاهية كبير عسكر الشيخ ووعدوه بالمال والمنصب إن هو نصح في اغتيال الشيخ وتوجيه رأسه مع القادمين عليه
وفي النزهة أن صالحا هذا كان من ترك الجزائر جاء في جملة
____________________

الطائفة الموجهين لاغتيال الشيخ والله أعلم ثم دخل الوزير على السلطان سليمان واعتذر إليه عن توجيه العمارة وقال هذا أمر سهل لا يحتاج فيه إلى تقويم عمارة وهذا المغربي الذي أساء الأدب على السلطان يأتي رأسه إلى بين يديك فاستصوب رأيهم وشكر سعيهم وأمر بتوجيه الجماعة المعينة في البحر إلى الجزائر ومنها يتوجهون إلى مراكش في البر ففعلوا ولما وصلوا إلى الجزائر هيؤوا أسبابا واشتروا بغالا وساروا إلى فاس في هيئة التجار فباعوا بها أسبابهم وتوجهوا إلى مراكش ولما اجتمعوا بصالح الكاهية أنزلهم عنده ودبر الحيلة في أمرهم إلى أن توجهت له
وفي النزهة أن هؤلاء الأتراك خرجوا من الجزائر إلى مراكش مظهرين أنهم فروا من سلطانهم ورغبوا في خدمة الشيخ والاستيجار به ثم إن صالحا الكاهية دخل على السلطان أبي بعد الله الشيخ وقال يا مولاي إن جماعة من أعيان جند الجزائر سمعوا بمقامنا عندك ومنزلتنا منك فرغبوا في جوارك والتشرف بخدمتك وليس فوقهم من جند الجزائر أحد وهم إن شاء الله السبب في تملكها فأمره بإدخالهم عليه ولما مثلوا بين يديه رأى وجوها حسانا وأجساما عظاما فأكبرهم ثم ترجع له صالح كلامهم فأفرغه في قالب المحبة والنصح والاجتهاد في الطاعة والخدمة حتى خيل إلى الشيخ أنه قد حصل على ملك الجزائر فأمره بإكرامهم وأن يعطيهم الخيل والسلاح ويكونوا يدخلون عليه مع الكاهية كلما دخل فكانوا يدخلون عليه كل صباح لتقبيل يده على عادة الترك في ذلك
وصار الشيخ يبعث بهم إلى أشياخ السوس مناوبة في الأمور المهمة ليتبصروا في البلاد ويعرفوا الناس وكان يوصي الأشياخ بإكرام من قدم عليهم منهم واستمر الحال إلى أن أمكنتهم فيه الفرصة وهو في بعض حركاته بجبل درن بموضع يقال له آكلكال بظاهر تارودانت فولجوا عليه خباءه ليلا على حين غفلة من العسس فضربوا عنقه بشاقور ضربة أبانوا بها رأسه واحتملوه في مخلاة ملؤوها نخالة وملحا وخاضوا به أحشاء الظلماء وسلكوا طريق درعة وسجلماسة كأنهم أرسال تلمسان لئلا يفطن بهم أحد من
____________________

أهل تلك البلاد ثم أدركوا ببعض الطريق فقاتلت طائفة منهم حتى قتلوا ونجا الباقون بالرأس وقتل مع الشيخ تلك الليلة الفقيه مفتي مراكش أبو الحسن علي بن أبي بكر السكتاني والكاتب أبو عمران الوجاني
ولما شاع الخبر بأن الترك قتلوا السلطان واستراب الناس بجميع من بقي منهم بالمغرب أغلق إخوانهم الذين كانوا بتارودانت أبوابها واقتسموا الأموال واستعدوا للحصار ولما بويع ابنه الغالب بالله وقدم من فاس نهض في العساكر إلى تارودانت للأخذ بثأر أبيه من الترك الذين بها فحاصرهم مدة ولما لم يقدر منهم على شيء أعمل الحيلة بأن أظهر الرحلة عنهم وأشاع أنه راجع إلى فاس لثائر قام بها ولما أبعد عنهم مسيرة يوم خرجوا في اتباعه ليلا والعيون موضوعة عليهم بكل جهة إلى أن شارفوا محلة السلطان الغالب بالله فعطف عليهم ولما لم يمكنهم الرجوع إلى تارودانت تحيزوا إلى الجبل وبنوا به قياطنهم وجعلوا عليها المتارزات من الأحجار وتحصنوا بها وأحاطت بهم العساكر من كل جهة فقاتلوا إلى أن فنوا عن آخرهم ولم يؤخذ منهم أسير وقتلوا من محلة الغالب بالله ألفا ومائتين وأما الذين نجوا بالرأس فانتهوا إلى الجزائر وركبوا البحر منها إلى القسطنطينية فأوصلوا الرأس إلى الصدر الأعظم وأدخله على السلطان سليمان فأمر به أن يجعل في شبكة نحاس ويعلق على باب القلعة فبقي هنالك إلى أن شفع في إنزاله ودفنه ابناه عبد الملك المعتصم وأحمد المنصور حين قدما القسطنطينية على السلطان سليم بن سليمان مستعديين له على ابن أخيهما المسلوخ كما يأتي وكان مقتل الشيخ رحمه الله يوم الأربعاء التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة أربع وستين وتسعمائة ولما بلغ خبر مقتله إلى خليفته بمراكش القائد أبي الحسن علي بن أبي بكر آزناك بادر بقتل أبي العباس الأعرج المخلوع وأولاده ذكورا وإناثا كبارا وصغارا خشية أن يخرجه أهل مراكش فيبايعوه ولما قتلوا لم يتجرأ أحد على دفنهم فبقوا مصرعين حتى دفنهم الشيخ أبو عمرو القسطلي الولي الشهير بمقربة من ضريح الشيخ الجزولي وهي القبة التي قرب الضريح المذكور تسمى قبور الأشراف وأما السلطان أبو عبد الله الشيخ
____________________

فإنهم حملوا جثته إلى مراكش فدفنت بها قبلي جامع المنصور بروضة السعديين وقبره شهير بها إلى الآن ومما نقش على رخامة قبره هذه الأبيات
( حي ضريحا تغمدته رحمات ** وظلت لحده منها غمامات )
( واستنشقن نفحة التقديس منه فقد ** هبت من الخلد لي منها نسيمات )
( بحر به كورت شمس الهدى فكست ** من أجلها السبعة الأرضين ظلمات )
( يا مهجة غالها غول الردى قنصا ** وأثبتت سهمها فيها المنيات )
( دكت لموتك أطواد العلا صعقا ** وارتج من بعدك السبع السموات )
( وشيعت نعشك المزجى إلى عدن ** من الملائك ألحان وأصوات )
( يا رحمة الله عاطيه سلاف رضا ** تدور منها عليه الدهر كاسات )
( قضى فوافق في التاريخ منه حلى ** دار إمام الهدى المهدي جنات ) بقية أخبار السلطان أبي عبد الله الشيخ وسيرته
كان السلطان أبو عبد الله محمد الشيخ يلقب من الألقاب السلطانية بالمهدي ونشأ في عفاف وصيانة وعني بالعلم في صغره وتعلق بأهدابه فأخذ عن جماعة من الشيوخ وبلغ فيه درجة الرسوخ حتى كان يخالف القضاة في الأحكام ويرد عليهم فتاويهم فيجدون الصواب معه وقع ذلك منه مرارا وله حواش على التفسير وذلك مما يدل على غزارة علمه
وقال في المنتقى كان السلطان أبو عبد الله الشيخ رحمه الله أديبا متفننا حافظا حدثني شيخنا أبو راشد أنه كان ممتع المجالسة والمذاكرة نقي الشيبة عظيم الهيبة ما رأيت بعد شيخي أبي الحسن علي بن هارون أحفظ منه للمقطعات الشعرية وكثيرا ما ينشد
( الناس كالناس والأيام واحدة ** والدهر كالدهر والدنيا لمن غلب )
وكان حافظا للقرآن فهما جدا حافظ لصحيح البخاري ويستحضر ما للناس عليه ويقول في شرح ابن حجر ما صنف في الإسلام مثله عارفا بالتفسير وغيره وكان يحفظ ديوان المتنبي عن ظهر قلب وكان يحض على
____________________

المشاورة ويقول لا سيما في حق الملوك وينشد قول المتنبي
( ومن جهلت نفسه قدره ** رأى غيره منه ما لا يرى )
وكان يقول ينبغي للملك أن يكون طويل الأمل فإن طول الأمل وإن كان لا يحسن من غيره فهو منه صالح لأن الرعية تصلح بطول أمله وكان يقول من طول أمله أخذ تلمسان وسبتة وغيرهما انتهى
وقوله إنه كان يحفظ ديوان المتنبي سببه ما ذكره في الدوحة قال أخبرني الوزير المعظم أبو عبد الله محمد بن الأمير أبي محمد عبد القادر بن السلطان أبي عبد الله محمد الشيخ الشريف قال لما غدرت قبيلة المنابهة بجد السلطان المذكور وأنجاه الله من غدرتهم عرف الشيخ أبا محمد عبد الله ابن عمر بذلك فكتب إليه يقول أين أنت من قول أبي الطيب المتنبي
( غاض الوفاء فما تلقاه في عدة ** وأعوز الصدق في الإخبار والقسم )
قال فعكف السلطان المذكور على ديوان المتنبي حتى حفظه كله ولم يعزب عنه بيت واحد اه وابن عمر المذكور هو أحد أشياخ السلطان المذكور وهو أبو محمد عبد الله بن عمر المضغري الفقيه الفرضي الحاسب فقيه درعة وعالمها وكان قد وفد على السلطان المذكور أيام كونه بالسوس ولما عاد إلى درعة سأله فقهاؤنا كيف وجدت أهل السوس فقال وجدت فقهاءهم على ضعيف الفتاوي وفقراءهم على عظيم الدعاوي وعامتهم على كثير المساوي
ومن أشياخ السلطان المذكور الإمام الشهير شيخ الجماعة بالصقع السوسي أبو الحسن علي بن عثمان الثاملي ذكره في المنتقى وأثنى عليه ومن أشياخه علامة فاس ومحققها أبو عبد الله محمد بن أحمد اليستني أخذ عنه علوما منها التفسير قال المنجور وكنت أنا قارئه بين يدي أمير المؤمنين أبي عبد الله الشيخ المذكور وكان شديد المحبة له قال ولما
____________________

توفي الفقيه المذكور وذهبت مع ولده صبيحة تلك الليلة التي توفي بها لنخبر السلطان بوفاته وجدناه يقرأ ورده بحمام المريني فخرج السلطان إلينا وهو يبكي بصوت عال يفزع من سمعه حتى رأينا منه العجب وما سكت إلا بعد مدة لما كان يعلم منه من صحة الدين والنصح لخاصة المسلمين وعامتهم وحضر جنازته وكانت وفاته رحمه الله سنة تسع وخمسين وتسعمائة وللسلطان المذكور عدة أشياخ غير هؤلاء
ومن وزرائه الرئيس أبو الحسن علي بن أبي بكر آصناك الحاحي وأبو عمران موسى بن أبي جمدي العمري وغيرهم
ومن قضاته بفاس أبو الحسن علي بن أحمد الخصاصي وبمراكش أبوالحسن علي بن أبي بكر السكتاني رحم الله الجميع
وكان للسلطان أبي عبد الله الشيخ عدة أولاد نجباء ومن أنجبهم أبو عبد الله محمد المعروف بالحران القتيل على تلمسان ومنهم أبو محمد عبد الله الغالب بالله وأبو مروان عبد الملك الغازي وأبو العباس أحمد المنصور وهؤلاء الثلاثة ولوا الأمر بعد أبيهم ومنهم الوزير أبو محمد عبد القادر وتوفي في حياة أبيه سنة تسع وخمسين وتسعمائة
وفي نشر المثاني أنه قتل مخنوقا بأمر أخيه عبد الله الغالب بالله سنة خمس وسبعين وتسعمائة فالله أعلم ومنهم عثمان وعبد المؤمن وعمر وغيرهم
قال المنجور في فهرسته حضرت يوما مجلس أمير المؤمنين أبي عد الله الشيخ وقد حضر عنده أولاده الصناديد الأمراء المولى محمد الحران والمولى عبد القادر والمولى عبد الله فدخل شيخنا الإمام أبو عبد الله اليستني فلما نظر إليهم حول أبيهم أنشد بيت تلخيص المفتاح
( فقلت عسى أن تبصريني كأنما ** بنى حوالي الأسود الحوارد )
فأعجب ذلك السلطان وأولاده رحمة الله عليهم
____________________

الخبر عن دولة السلطان أبي محمد عبد الله الغالب بالله ابن السلطان محمد الشيخ رحمه الله
كانت ولادة السلطان أبي محمد عبد الله الغالب بالله كما رأيته مرقوما على الرخامة التي على قبره في رمضان سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة وكان رحمه الله أدعج العينين مستدير الوجه عريضه أسيل الخدين مشرف الوجنتين ربعة للقصر ونشأ في عفاف وصيانة وحفظ القرآن وأخذ بطرف صالح من العلم وكان ولي عهد أبيه وكان يلقب من الألقاب السلطانية بالغالب بالله لقبه به غير واحد من الأئمة ولما وافته الأنباء بمقتل أبيه وهو بفاس بايعه أهلها ولم يتخلف عن بيعته منهم أحد
وذكر صاحب زهرة الشماريخ أن الفقيه الميقاتي المعدل بمنار القرويين أبا عبد الله المزوار وكان بصيرا بعلم الأحكام والحدثان بينما هو ذات ليلة يرقب الطالع والغارب وقد ابهار الليل واسود ديجوره رأى طالع السلطان الشيخ قد سقط وكانت بينه وبين ابنه أبي محمد عبد الله وصلة فأسرع في الذهاب إليه ليخبره بما رأى فلما بلغ باب فاس الجديد وجده مغلقا فاستأذن الموكلين به في فتحه فأبوا فقال لهم إني جئت إلى الخليفة يعني خليفة السلطان في أمر مهم عنده وإن لم تعلموه بمكاني الساعة لحقكم منه غدا ما تكرهون فأنذروا الخليفة المذكور به فحمل إليه وسأله عن قضيته فأخبره بما رأى ونعى إليه أباه فلم يكذب في ذلك وتهيأ واستعد فلم تمض إلا أيام قلائل حتى وافته الأنباء بمقتل أبيه في تلك الساعة التي قال له المعدل المذكور فصادفه الحال على أهبة واستعداد ولما بلغ أهل مراكش مبايعة أهل فاس له وافقوا عليها فاستوسق له الأمر وتمهد له ملك أبيه وكان ذلك كله في المحرم سنة خمس وستين وتسعمائة
____________________

مجيء حسن بن خير الدين التركي إلى فاس ورجوعه منهزما عنها
قال ابن القاضي لما ولي السلطان أبو محمد عبد الله الغالب بالله الخلافة اشتغل بتأسيس ما بيده وتحصينه بالعدد والعدة ولم تطمح نفسه إلى الزيادة على ما ملك أبوه من قبله
وفي سنة خمس وستين وتسعمائة في جمادى الأولى منها غزاه حسن بن خير الدين باشا التركي صاحب تلمسان في جيش كثيف من الأتراك فخرج إليه السلطان الغالب بالله فالتقيا بمقربة من وادي اللبن من عمالة فاس فكانت الدبرة على حسن فرجع منهزما يطلب صياصي الجبال إلى أن بلغ إلى باديس وكانت يومئذ للترك ورجع الغالب بالله إلى فاس لكنه لم يدخلها لوباء كان بها يومئذ ولما رجع من حركته هذه أمر بقتل أخيه عثمان لأمر نقمه عليه فقتل في السنة المذكورة والله تعالى أعلم بناء جامع المواسين بحضرة مراكش والبركة المتصلة به والمارستان وغير ذلك
قال اليفرني وفي عشرة السبعين وتسعمائة أنشأ السلطان الغالب بالله جامع الأشراف بحومة المواسين من مراكش والسقاية المتصلة به التي عليها مدار المدينة المذكور والمارستان الذي ظهر نفعه ووقف عليه أوقافا عظيمة قلت وهذا المارستان هو الذي بحومة الطالعة قرب السجن وقد اتخذ اليوم سجنا للنساء قال وهذا السلطان هو الذي جدد أيضا بناء المدرسة التي بجوار جامع ابن يوسف اللمتوني وليس هو الذي أنشأها كما يعتقده كثير من الناس بل الذي أنشأها أولا هو السلطان أبو الحسن المريني رحمه الله حسبما ذكره ابن بطوطة في رحلته وشاع على الألسنة أن السلطان الغالب بالله توصل إلى بنائها بصناعة الكيمياء وأن الشيخ أبا العباس أحمد بن موسى السملالي علمه إياها حين تلمذ له كما سيأتي
قال اليفرني وهو كذب فإن المنقول عن الشيخ المذكور إنكارها
____________________

وما كان ليفتح على مسلم بابا عظيما من أبواب الفتنة وسببا بليغا من أسباب المحنة لأن هذه الحرفة من أعظم أبواب الفتن وقد أجمع أرباب البصائر على التحذير من تعاطيها لوجوه ثلاثة أولها إنها من المستحيلات كما ذكره ابن سيناء مستدلا عليه بقوله تعالى { لا تبديل لخلق الله } وكما أنه ليس في قدرة المخلوق أن يحول القرد إنسانا والذئب غزالا كذلك ليس في قدرته أن يصير الرصاص فضة والنحاس ذهبا يعني لأن ذلك من باب قلب الحقائق وهو محال ولقد تناظر رجلان فيها فقال مجوزها أتنكر ما تشاهده في الصبغ وتصيير الجسد الأحمر أصفر والأبيض أسود فقال مانعها لا أنكر ذلك لأن الصبغ ليست تغيير أصل وإنما أنكر أن ثوب الصوف الأبيض ترده صناعة الصبغ قطنا أو حريرا أحمر أو أخضر وأما الصبغ فلا شك أن النحاس يصير أبيض ولا يخرجه ذلك عن أصله ولا يسلب عنه اسم النحاس بل يقال فيه نحاس أبيض كما لا يسلب صبغ الصوف عنه اسم الصوف ثانيها سلمنا أنها جائزة الوجود لكنها معدومة في الخارج كما ذهب إليه أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله إذ قال ثلاث متفق على وجودها في الغالب وقد اتفق على عدم رؤيتها أهل المشارق والمغارب الكيمياء والعنقاء والغول وأخبارها كلها على وجه السماع والإسنادات وحكايتها كالموضوعات عن العجماوات والجمادات ثالثها سلمنا أنها موجودة في الخارج لكنه يحرم تناولها والبيع والشراء بها
وقد سئل عنها الشيخ أبو إسحاق التونسي رحمه الله فقيل له أحلال هي إذا كانت خالصة فقال لو دبر النحاس أو غيره من الأجساد حتى صار ذهبا خالصا لا شك فيه فمتى لم يقل بائعه لمبتاعه هذا كان نحاسا أو جسدا من الأجساد فدبرته حتى صار ذهبا كما ترى لكان غاشا مدلسا قال ومتى ذكره لم يشتر أحد منه ذلك بفلس ويقول فكما دبرته حتى صار ذهبا فكذلك يدبره غيرك حتى يرجع إلى أصله فمن لم يبين فيها فهو داخل
____________________

في قوله صلى الله عليه وسلم من غشنا فليس منا فتكون صناعتها حراما وقيل لبعض الفضلاء لم لم تتعلل بهذه الصناعة فإنها تسلي الخاطر فقال قيل للحمار لم لم تجتر فقال أكره مضغ الباطل وأنشد
( فقلت لأصحابي هي الشمس ضوءها ** قريب ولكن في تناولها بعد )
اه ما نقله اليفرني ملخصا مهذبا وهو الحق الذي لا عوج فيه ولا أمت ثم قال وبالجملة فما شاع عن السلطان الغالب بالله من ذلك لا أصل له ولقد كان أهل الورع يجتنبون الصلاة في جامع الأشراف بعد ما بنى مدة ويقال إن موضع ذلك الجامع كان مقبرة لليهود والله تعالى أعلم فتح مدينة شفشاون وانقراض أمر بني راشد منها
تقدم أن مدينة شفشاون حرسها الله بناها بنو راشد من شرفاء العلم وكانوا أهل جهاد ومرابطة على العدو ببلاد غمارة والهبط ولما توفي مختطها الأمير أبو الحسن علي بن موسى بن راشد بقيت بيد أولاده يتولون رياستها قال في المرآة ولم يزالوا فيها بين سلم وحرب إلى أن حاصرهم بها الوزير أبو عبد الله محمد بن عبد القادر ابن السلطان محمد الشيخ السعدي بجيوش عمه السلطان أبي محمد عبد الله الغالب بالله وصاحب شفشاون يومئذ الأمير الفاضل أبو عبد الله محمد ابن الأمير أبي الحسن علي بن موسى بن راشد فلما اشتد عليه الحصار خرج فيمن إليه من أهله وولده وقرابته وصعدوا الجبل المطل على شفشاون في مسلك وعر صحبتهم فيه السلامة وذلك ليلة الجمعة الثاني من صفر سنة تسع وستين وتسعمائة وساروا إلى ترغة فركبوا منها البحر يوم الجمعة تاسع الشهر المذكور واستقر الأمير أبو عبد الله بالمدينة المنورة إلى أن مات بها رحمه الله
____________________

حصار البريجة المسماة اليوم بالجديدة
قد قدمنا ما كان من بناء البرتغال لمدينة الجديدة وتحصينهم لها بما فيه كفاية وكانت غارات المسلمين المجاورين لهم لا تنقطع عنهم وكذلك هم سائر مقامهم بها ولما كانت سنة تسع وستين وتسعمائة جهز إليها السلطان الغالب بالله جيشا كثيفا واستنفر لها قبائل الحوز وعقد عليهم لابنه محمد المعروف بالمسلوخ قتيل وادي المخازن وكان يومئذ ابن عشرين سنة على ما قيل واستوزر له القائد المجاهد الشاعر الفاضل أبا زيد عبد الرحمن بن تودة العمراني وجعل إليه أمر الحرب وابن السلطان صورة فزحف إليها وحاصرها أربعة وستين يوما وملك بعض أسوارها ولم يقض الله بفتحها
وفي النزهة ذكر أن القائد ابن تودة دخل البريجة التي قرب آزمور وأخذ أسوارها وعزم على أن يستأصل في الغد بقيتها ولا يبقي للكفر بها أثرا فكتب إليه السلطان الغالب بالله ينهاه عنها فتراجع النصارى إليها بعد أن ركبوا البحر عازمين على الجلاء عنها اه
وقد وقفت في التاريخ البرتغالي الموضوع في أخبار الجديدة واسم مؤلفه لويز مارية على أخبار هذا الحصار وقد استوعبها وبسطها وتتبع الوقائع فصلا فصلا ويوما يوما وأتى من ذلك بما يزيد على الكراسة فكان من جملة ما قال إنه لما عزم السلطان الغالب بالله على غزوهم وأخذ في تجهيز الجيوش إليهم أتاهم بعض المتنصرة قال وهو عبد أسود فأخبرهم بأن السلطان مستعد لحربهم وكانوا عازمين على التوثق من هذا الجاسوس فأفلت منهم فعلموا أن إظهاره للتنصر كان مكيدة ثم أخذوا في الاستعداد واشتروا من عند قائد آزمور ألفي سيف هكذا زعم قال وفي اليوم الرابع من مارس سنة ألف وخمسمائة واثنتين وستين مسيحية وصلت جموع المسلمين إلى حوز الجديدة وهذا التاريخ موافق للتاريخ العربي الذي قدمناه قال فكانت خيل المسلمين نحو ثلاثين ألف والرماة ضعف ذلك وكان فيهم عسكر الترك المعروف بالبلدروش وكانوا يومئذ جندا للسعديين وكان معهم
____________________

عشرون مدفعا عشرة كبيرة وعشرة صغيرة وفيها واحد أعظم من الجميع يسمى ميمونا وكان معهم العلم الكبير الأبيض ورايات أخر ملونة وتقدموا إلى الجديدة فحاصروها حصارا شديدا وحاربوها حربا هائلة وصف هذا المؤرخ ذلك كله وصفا كاشفا وكانت الجديدة يومئذ في غاية الحصانة والمناعة فلم يتمكن المسلمون من النصارى على ما ينبغي وأرسل الترك عليهم أنواع الحراقيات وملكوا المتارزات التي كانت حول السور بعد أن هلكت عليها نفوس من الفريقين ثم صنع النصارى للمسلمين عندها مينا البارود مرتين ففي الأولى كانت المينا تسعة براميل نفط منهن سبعة فأهلكت خلقا من المسلمين والنصارى وفي الثانية كانت تسعة عشر برميلا أمام السور فنفطت بالمسلمين وأتلفت منهم عددا فبعضهم طار في الهواء وبعضهم تحت التراب
وكان رماة المسلمين ينالون منهم نيلا عظيما واعترف النصارى لهم بجودة الرمي بحيث كانوا كلما ظهر منهم عسكري على السور اختطفته رصاصة في أخير موضع من بدنه من الرأس أو الصدر
قال لويز المؤرخ ولقد قدم في بعض الأيام من أشبونة كبير من كبراء جندهم فقال لهم أروني كيف قتالكم لهؤلاء المسلمين وكيف مصافتكم لهم قال فما ظهر برأسه على السور ليرى محلة المسلمين حتى أصابته رصاصة نثرت دماغه كأن صاحبها كان ينتظره وكان ذلك بنفس نزوله من البحر قبل أن يذهب إلى منزله فعوضه منه المسلمون القبر قال فما كان النصارى بعدها يقدرون أن يظهروا على السور إلا في النادر ولما طال عليهم الحصار ندب كبيرهم جماعة منهم للخروج إلى السواحل البعيدة عن محلة المسلمين لعلهم يظفرون بأسير منهم يستكشفونه عن خبر الجيش المحاصر لهم هل هو مرتحل أو مقيم وما مدة الإقامة قال فخرجوا في فلك لهم ليلا وساروا حتى بلغوا ساحل طيط وهي يومئذ خالية وكان بقربها محلة لقائد آسفي فلما طلع الفجر تقدموا إلى البر وأرسوا فلكهم إلى جانب بعض الأحجار هنالك بحيث يخفى على المارين بالساحل ثم كمنوا هنالك فلما كان وقت الإسفار إذا برجل من محلة آسفي أتى على فرسه إلى
____________________

شاطئ البحر لبعض حاجاته فلم يرعه إلا النصارى قد أحدقوا به وأخذوا بلجام فرسه وجعل بعضهم فم مكحلته في صدره فلم يملك المسلم من نفسه شيئا ثم أنزلوه عن الفرس وساقوه إلى الفلك أسيرا ولججوا به في البحر ولما بعدوا عن البر شيئا ما رمى أحدهم الفرس برصاص فقتله ثم أسرعوا إلى الجديدة فدخلوها واجتمع النصارى على المسلم وهو كالمبهوت بينهم ثم سألوه عن خبر الجيش المحاصر لهم فأخبرهم بأنهم يناجزونهم بعد هذا مرة أخرى أو مرتين فإن لم يظفروا بهم ارتحلوا عنهم فكان كذلك قال وكان ارتحال المسلمين من الجديدة في سابع مايه العجمي من السنة المذكورة فعمل النصارى لذلك عيدا وأحدثوا في كنائسهم صلوات لم تكن قبل وذلك بإشارة باباهم صاحب رومة
ومما حكاه هذا البرتغالي فيما كان يجري بين أهل آزمور وبينهم من الحرب وذلك بعد هذا الحصار بمدة يسيرة أنه كان بآزمور امرأة حسناء وخطبها رجل من أهل البلد سماه لويز إلا أنه لم يحسن النطق به لعجمته وأظنه اسمه الميلودي لأن الحروف التي ذكر تقرب منه قال فامتنعت عليه فراودها أياما واشتد كلفه بها فلم تزدد عليه إلا تمنعا فبعث إليها ذات يوم يرغبها في نفسه ويدلي عليها بمآثره التي من جملتها الشجاعة حتى قال لها وإن شئت أن آتيك برأس أعظم نصراني بالجديدة وأشجعه فعلت ولعلها كانت موتورة لهم فقالت له إن أتيتني به تزوجتك فذهب الرجل المذكور إلى قائد آزمور ولم يسمه لويز وعرض عليه أن يكتب إلى كبير نصارى الجديدة وصاحب رأيهم بأن يعين من جانبه رجلا من شجعانهم
____________________

ليبارزه إن شاء فأجابه القائد إلى مراده وذهب الرسول بالكتاب حتى وقف على نحو غلوة من المدينة وهذا الموضع هو الذي كانت تقف فيه رسل آزمور إذا قدمت لغرض فخرج إليه البريد من عند صاحب الجديدة وحاز الكتاب ورجع به إلى صاحبه فلما قرأه أحضر جماعة من وجوه جنده وعرض عليهم ما فيه فقام رجل منهم وقال أن صاحبه وهذا الرجل سماه لوزير وقال كان ابن ثلاثين سنة كامل القامة ممتلئ الأعضاء أسمر اللون كثير شعر البدن أسود اللحية وكان برأسه جرح لم يندمل من وقعة كانت بينهم وبين أهل أزمور قبل ذلك فكتب صاحب الجديدة إلى قائد آزمور إنا قد أجبناك إلى ما دعوت وقد أعجبنا ذلك وها نحن قد عينا لصاحبك قرنه فلتعينوا لنا اليوم والساعة التي تكون فيها الملاقاة فاتفقا على يوم معلوم وفي ذلك اليوم سار قائد آزمور في أصحابه ووجوه أهل بلده ومعهم الرجل المذكور إلى الجديدة فانتهوا إلى الموضع الذي جرت العادة أن يقف فيه المسلمون وخرج قائد النصارى في جماعته وشرطوا للمبارزة وكيفتها شروطا منها أن تبعد كل جماعة من صاحبها بخمسين خطوة ولا يلتقي إلا المتبارزان وحدهما بمرأى من الفريقين ومنها أن مساحة الموضع الذي يكون فيه مجالهما خمسون شبرا وسطا من الفريقين وإن من خرج عن هذا المحل منهما ولو قيد شبر كان رقا للآخر وأعطوا خطوطهم بذلك ولما حان وقت البراز خرج عدلان من جانب المسلمين حتى انتهيا إلى النصراني ففتشاه لينظرا ما عليه من السلاح وما معه لأن من جملة الشروط أن لا يتبارزا إلا بالسيف والرمح فقط فلم يجدا مع النصراني سواهما قال لويز وكان صاحبهم المذكور يحسن الضرب بكلتا يديه فشرط عليه العدلان أن لا يقاتل إلا باليمين فرضي ثم خرج شاهدان من جانب النصارى حتى انتهيا إلى المسلم ففتشاه فلم يجدا عنده سوى السيف والرمح أيضا غير أنه قد علق على ذراعه تمائم كثيرة مخروزة في الجلد فقال له الشاهدان لا بد أن تنزع
____________________

هذه التمائم لأن صاحبنا ليس عنده شيء من هذا وأيضا فيمكن أن تقيك هذه التمائم بعض الوقاية فقال لهم لا أنزعها لأن مثل هذا لا يتقى به في الحرب ولا يغني في الظاهر من السيف والرمح شيئا وإنما فيها أسماء الله ولا يحسن بي أن أطرحها في هذه الحالة التي أنا مشرف فيها على الموت فيكون ذلك سوء أدب مني مع اسم الله تعالى وربما يكون سببا في خذلاني فرجع النصرانيان إلى قائدهما وأخبراه بالقضية فقال لا بد من نزعها فعادا إليه وزعم لويز أن المسلمين وافقوا على نزعها وقال له العدلان إن الحق مع النصارى لأنا كشفنا صاحبهم كشفا تاما وراوده القائد أيضا فأصر على الامتناع معتذرا بما سلف ولما لم يحصلوا على طائل رجع المسلمون إلى بلدهم ولم يكن براز قال لويز وعد النصارى ذلك غلبا وجعلوا يصيحون ويخرجون البارود قال وكان سور الجديدة مكسوا بالنساء والصبيان واغتاظ قائد آزمور فسجن المسلم المذكور لكونه جر هذه المذلة على المسلمين
قلت من تأمل وأنصف علم أن الفشل إنما هو من جانب النصارى لأن تلك التمائم من حيث الظاهر لا تغني شيئا وكون بركتها تقيه من ضربات السيف وطعنات الرمح فهذا لا يعتقده النصارى بل ولا يسلمونه فلم يبق إلا الفشل والتعلل بما لا اعتبار به عند العقلاء ثم قال لويز وقد كانت بين المسلمين والنصارى بعد ذلك وقائع فأبلى فيها ذلك المسلم البلاء الحسن وعرف محله من الشجاعة اه والحق ما شهدت به الأعداء وإنما أثبت هذه الحكاية بطولها لغرابتها ولما اشتملت عليه من خلال الفتوة ومنازع النخوة الإيمانية فنسأله سبحانه وتعالى أن يعلي منار الدين ويكبت كيد الجاحدين والمعتدين آمين
وفي سنة سبعين وتسعمائة ولى السلطان الغالب بالله الفقيه أبا مالك عبد الواحد بن أحمد الحميدي قضاء فاس فطالت مدته
____________________

وفادة السلطان الغالب بالله على الشيخ أبي العباس أحمد بن موسى السملالي رضي الله عنه
حكى صاحب الممتع أن السلطان أبا محمد عبد الله الغالب بالله قال للأستاذ أبي عبد الله الترغي إني أجد في نفسي إرادة وطلبا للشيخ فامض فاطلب لي شيخا فذهب يطوف على مشايخ المغرب وكانوا إذ ذاك متوافرين حتى أتى على الشيخ أبي العباس أحمد بن موسى الجزولي ثم السملالي فوجده شيخا جليلا سنيا متواضعا زاهدا ظاهر الورع حسن الأخلاق باهر الكرامات واضح الطريقة جامعا لمحاسن الخلال والأوصاف فرجع إليه وجعل يصف له كل من رأى من المشايخ بما ظهر له فيه حتى أتى على الشيخ المذكور فقال وهو ولي ثم ولي ثم ولي ثم ولي سبعا فقال له كأنك تدلني عليه وأنه مطلوبي وأنه المقدم على غيره فقال له لا أدلك عليه ولا عندي ما أعرفه به تقديمه غير أن هذا الذي ظهر لي فأزمع السلطان الغالب بالله الرحلة إليه فلما بلغ الشيخ المذكور مجيء السلطان إليه خرج يتلقاه وقد هيأ له النزل وما يصلحه وأعد له ما يناسبه من الأطعمة الرفيعة النفيسة وقدم إليه الثمر الجيد واللبن الحليب ولما خرج للقائه أتاه بعضهم بفرس وكان من عادته أن لا يركب وإذا أتاه أحد بمركوب لا يرده عليه بل يستصحبه معه ويعلفه له حتى يرجع ففعل ذلك ولقي السلطان ورجع به معه وأنزله عنده فمكث في ضيافته ثلاثة أيام ثم طلب منه أن يتخذه وسيلة إلى الله تعالى وسأله مع ذلك تمهيد الملك واعتذر إليه بأنه لا يمكنه العيش بدونه ولا يأمن على نفسه ولا تؤويه أرض إذا هو تخلى عنه فقال الشيخ يا عرب يا بربر يا سهل يا جبل أطيعوا السلطان مولاي عبد الله ولا تختلفوا عليه ثم بعد الثلاث انصرف السلطان إلى محله فبقي مدة وهو مسكن ممهد الملك في عافية
____________________

ثم أتى الترك إلى بوغاز طنجة وسبتة فخافهم وتشوش منهم كثيرا ولم يهنأ له عيش فجعلت حاشيته يهونون عليه أمرهم فقال دعوني منكم حتى أستقي من رأس العين ثم أبرد بريدا إلى الشيخ فلما انتهى إليه سمعه يقول يا ترك ارجعوا إلى بلادكم ويا مولاي عبد الله هناك الله في بلادك بالعافية فتقدم الرسول وسلم على الشيخ وبلغه سلام السلطان ثم انقلب من فوره بعد ما ورخ وقت سماع مقالته فلما بلغ إلى السلطان أخبره بما كان من الشيخ من تلك المقالة وما كان منه من التاريخ وأقاموا ينتظرون ما يكون فإذا الخبر قد ورد على السلطان بأن الترك قد ارتحلوا وانصرفوا إلى بلادهم وإذا ارتحالهم كان وقت مقالة الشيخ المذكورة
ثم إن الشيخ قدم مراكش في بعض الأيام زائرا من كان بها من أهل الله تعالى فرغب إليه السلطان الغالب بالله أن يدخل داره هو وأصحابه ويصنع لهما طعاما وشرط على نفسه أن لا يطعمهم إلا الحلال ولا يطعمهم ما فيه شبهة وحلف للشيخ على ذلك فأسعفه ولما حضر الطعام وضع الشيخ يده عليه ولم يصب منه فلما خرج قيل له مالك لا تتناول من طعام السلطان وقد حلف أن لا يطعمكم إلا الحلال فقال له من أكل طعام السلطان وهو حلال أظلم قلبه أربعين يوما ومن أكله وفيه شبهة مات قلبه أربعين سنة اه
ومما ينخرط في هذا السلك أن السلطان المذكور كان له اعتقاد في الشيخ أبي عمرو القسطلي وكان يعظمه غاية وكانت عنده مظلة له من سعف النخل يتقي بها الحر تبركا بها ولما توفي الشيخ أبو عمرو المذكور وذلك يوم الجمعة منتصف شوال سنة أربع وسبعين وتسعمائة حضر السلطان المذكور جنازته وحثا التراب على قبره بيده
ومن أخبار السلطان المذكور أن الشيخ أبا محمد عبد الله بن حسين المغاري كان ظهر بمراكش وكثرت الجموع عليه وقصده الناس من كل جهة فأرسل إليه السلطان المذكور إما أن تخرج عني أو أخرج عنك فقال
____________________

الشيخ ابن حسين بل أنا أخرج وخرج من فوره إلى تامصلوحت فكان من أمره ما كان استيلاء النصارى على حجر باديس والسبب في ذلك
قد تقدم لنا في أخبار الوطاسيين أن النصارى بنوا حجر باديس واستولوا على وهران سنة أربع عشرة وتسعمائة واستمروا بهما إلى أن انتزعهما الترك من أيديهم ولما كانت دولة السلطان الغالب بالله وطمع الترك في الاستيلاء على المغرب الأقصى أغرى السلطان المذكور النصارى بالاستيلاء على الثغور الهبطية وسد أنقابها دونه
قال في النزهة ذكر بعضهم أن السلطان الغالب بالله لما رأى عمارة ترك الجزائر وأساطيلهم لا ينقطع ترددها عن حجر باديس ومرسى طنجة يعني البوغاز وتخوف منهم اتفق مع الطاغية أن يعطيه حجر باديس ويخليها لهم من المسلمين فتنقطع بذلك مادة الترك عن المغرب ولا يجدوا سبيلا إليه فنزل النصارى على حجر باديس وأخرجوا المسلمين منها ونبشوا قبور الأموات وحرقوها وأهانوا المسلمين كل الإهانة ولما بلغ خبر نزولهم عليها لولده محمد وكان خليفته على فاس خرج بجيوشه لإغاثة المسلمين فلما كان بوادي اللبن بلغه استيلاؤهم عليها فرجع وتركها لهم اه
وذكر اليفرني أنه وجد هذه الأخبار في أوراق مجهولة والله تعالى أعلم
____________________

فتنة الفقيه أبو عبد الله الأندلسي ومقتله
كان الفقيه أبو عبد الله محمد الأندلسي نزيل مراكش متظاهرا بالزهد والصلاح حتى استهوى كثيرا من العامة فتبعوه وكانت تصدر عنه مقالات قبيحة من الطعن على أئمة المذاهب رضي الله عنهم ينحو فيها منحى ابن حزم الظاهري ويتفوه بمقالات شنيعة في الدين فأمر السلطان الغالب بالله بقتله فاستغاث بالعامة من أتباعه واعصوصبوا عليه ووقعت فتنة عظيمة بمراكش بسببه إلى أن قتل وصلب على باب داره برياض الزيتون من المدينة المذكورة وكان ذلك أواسط ذي الحجة من سنة ثمانين وتسعمائة ظهور بدعة الشراقة من الطائفة اليوسفية وما قيل فيهم
قال في الدوحة كان الشيخ أبو العباس أحمد بن يوسف الراشدي نزيل مليانة تظهر على يده الكرامات وأنواع الانفعلات فبعد صيته وكثرت أتباعه فغلوا في محبته وأفرطوا فيها حتى نسبه بعضهم إلى النبوة قال وفشا ذلك الغلو على يد رجل ممن صحب أصحابه يقال له ابن عبد الله فإنه تزندق وذهب مذهب الإباضية على ما حكى عنه واعتقد هذا المذهب الخسيس كثير من الغوغاء وأجلاف العرب وأهل الأهواء من الحواضر وتعرف هذه الطائفة باليوسفية قال ولم يكن اليوم بالمغرب من طوائف المبتدعة سوى هذه الطائفة وسمعت بعض الفضلاء يقول إنه قد ظهر ذلك في حياة الشيخ أبي العباس المذكور فلما بلغه ذلك قال من قال عنا ما لم نقله يبتليه الله بالعلة والقلة والموت على غير ملة
____________________


قال صاحب الدوحة ولقد أشار الفقهاء على السلطان الغالب بالله بالاعتناء بحسم مادة فساد هذه الطائفة فسجن جماعة منهم وقتل آخرين وهؤلاء المبتدعة ليسوا من أحوال الشيخ في شيء وإنما فعلوا كفعل الروافض والشيعة في أئمتهم وإنما أصحاب الشيخ كأبي محمد الخياط والشيخ الشطيبي وأبي الحسن علي بن عبد الله دفين تافلالت وأنظارهم من أهل الفضل والدين وإلا فالأئمة المقتدى بهم كلهم يعظم الشيخ ويعترف له بالولاية والعلم والمعرفة اه
وقال في المرآة ما نصه والشيخ أبو العباس أحمد بن يوسف الراشدي الملياني من كبار المشايخ أهل العلم والولاية وعموم البركات والهداية وكان كثير التلقين فقال له الشيخ أبو عبد الله الخروبي أهنت الحكمة في تلقينك الأسماء للعامة حتى النساء فقال له قد دعونا الخلق إلى الله فأبوا فقنعنا منهم بأن نشغل جارحة من جوارحهم بالذكر قال الشيخ الخروبي فوجدته أوسع مني دائرة
قال صاحب المرآة وانتسبت إليه الطائفة المعروفة بالشراقة بتشديد الراء وهو بريء من بدعتهم فما كان إلا إمام سنة وهدى مقتدى به في العلم والدين قد نزهه الله وطهر جانبه وقد أظهروا شيئا من ذلك في حياته فتبرأ منهم وقاتلهم وبلغ المجهود في تشريدهم قال وحدثني شيخنا أبو عبد الله النيجي أن الشيخ أبا البقاء عبد الوارث اليالصوتي لما ظهرت بدعة الشراقة وانتسابهم إليه وقع في نفسه من ذلك شيء فقيل له إن الشيخ أبا محمد الخياط من أصحابه فقال أنا تائب إلى الله كفى في طهارة جانبه أن يكون الخياط من أصحابه وكانت وفاة الشيخ الملياني سنة سبع وعشرين وتسعمائة لكن ما كان عنفوان تلك البدعة المدسوسة عليه إلا في دولة السلطان الغالب بالله كما مر والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء
____________________

احتيال النصارى بمكيدة البارود بجامع المنصور من مراكش وما وقى الله تعالى من شرها
كان بقصبة مراكش جماعة من أسارى النصارى من لدن أيام أبي العباس الأعرج وأخيه أبي عبد الله الشيخ فرأوا الجم الغفير من أعيان المسلمين وأهل الدولة يحضرون كل جمعة للصلاة مع السلطان بجامع المنصور من القصبة المذكورة فحدثتهم نفسهم الشيطانية بأن يصنعوا مكيدة يهلكون بها السلطان ومن معه فحفروا في خفية تحت الجامع المذكور حفرة ملأؤها من البارود ووضعوا فيها فتيلا تسري فيه النار على مهل كي ينقلب الجامع بأهله وقت الصلاة فنفطت المينا وانهدت بها القبة الواسعة من الجامع المذكور وانشق مناره شقا كبيرا ولا زال ماثلا به إلى الآن وكان ذلك مبلغ ضررهم وكفى الله المسلمين شر تلك المكيدة ولم يتمكن لهم الحال على وفق ما أرادوا وكان ذلك سنة إحدى وثمانين وتسعمائة وفاة السلطان أبي محمد عبد الله الغالب بالله رحمه الله
قال الشيخ أبو العباس ابن القاضي في شرح درة السلوك توفي السلطان أبو محمد عبد الله الغالب بالله يوم الجمعة الثامن والعشرين من رمضان سنة إحدى وثمانين وتسعمائة بسبب غم كان يعتريه اه وهذا الغم هو الداء المسمى عند العامة بالضيقة أعاذنا الله منه وذكر غيره أنه توفي في شوال بسبب تكلفه للصيام فعدت عليه العلة المذكورة وشاع على ألسنة الناس أنه بات يصلي ليلة سبع وعشرين من رمضان فوافته ميتته وهو ساجد وذلك كذب ودفن رحمه الله عند ضريح أبيه بقبور الأشراف وقبره معروف ومما كتب بالنقش على رخامة قبره هذه الأبيات
( أيا زائري هب لي الدعاء ترحما ** فإني إلى فضل الدعاء فقير )
____________________


( وقد كان أمر المؤمنين وملكهم ** إلى وصيتي في البلاد شهير )
( فها أنا ذا قد صرت ملقى بحفرة ** ولم يغن عني قائد ووزير )
( تزودت حسن الظن بالله راحمي ** وزادي بحسن الظن فيه كثير )
( ومن كان مثلي عالما بحنانه ** فهو بنيل العفو منه جدير )
( وقد جاء إن الله قال ترحما ** إلى ما يظن العبد بي سيصير )
وحكى أنا ابنه أبا عبد الله المعروف بالمسلوخ لما قرأ هذه الأبيات عاقب ناظمها وقال له إن في قولك ملقى بحفرة دسيسة وتلويحا إلى الحديث ( القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ) فهلا قلت ببلقع أو نحوه بقية أخبار السلطان الغالب بالله وسيرته
كان السلطان أبو محمد عبد الله الغالب بالله ذا سياسة وخبرة بأحوال الملك وتأن في الأمور ولما ولي الخلافة ألان الجانب وخفض الجناح وسار بسيرة حسنة حتى صلحت الرعية وازدانت الدنيا وانتعش الناس حتى كان يقال ثلاث عينات هم عيون الزمان السلطان المولي عبد الله والشيخ أبو محمد عبد الله بن حسين المغاري والشيخ أبو السرور عياد السوسي
قال اليفرني ورأيت من جملة سؤال كتب به الفقيه الصالح خطيب الجامع الأعظم بتارودانت أبو زيد عبد الرحمن التلمساني إلى قاضي الجماعة أبي مهدي عيسى بن عبد الرحمن السكتاني يقول فيه ولا شك أن مولاي عبد الله مجمع على عدالته وبيعته وقد أخبرني الثقة من أصحاب الشيخ الجامع أبي العباس أحمد بن موسى السملالي أنه قال مولاي عبد الله ياقوتة الأشراف هو صالح لا سلطان وقد اشتهر بين الأنام وعلى ألسنة الخاص والعام أن السلطان الغالب بالله كان عدلا صالحا ووقع في الرسالة
____________________

التي كتب بها ابن أخيه السلطان أبو المعالي زيدان بن منصور إلى الفقيه أبي زكرياء يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد المنعم الحاحي ما ظاهره يخالف ذلك ويؤذن بأنه كان كغيره من الملوك ونص المحتاج إليه من تلك الرسالة مخاطبا للفقيه المذكور يقول وقد تحققت وعلمت أن ولاية أحمد بن موسى السملالي كادت تكون قطعية واشتهر أمره عند الخاص والعام حتى أطبق أهل المغرب على ولايته وقد كان على عهد مولانا عبد الله برد الله ضريحه وكان المولى المذكور على ما كان عليه واشتهر عنه وما برح الشيخ المذكور يدعو له ولدولته بالبقاء ويظهر حبه وكان المولى المذكور يعزل ويولي ويقتل وكان شرد منه إلى زاويته المرابط الأندلسي وولد آصناك وأمثالهم وكان الشيخ يقدم للشفاعة فيشفع ولا يتعقب ولا يبحث عما وراء ذلك باق على عهده ومودته وكان المولى المذكور بعث لابن حسين بسد داره فما فتحها حتى أمره ولا استعظم أحد ذلك ولا أكثر فيه ولا جعله سببا لفتح الفتنة وكان قواد المذكور مثل وزيره ابن شقراء وبعد الكريم بن الشيخ وعبد الكريم بن مؤمن العلج والهبطي والزرهوني وعبد الصادق بن ملوك وغيرهم ممن لا يحضرني ذكرهم لبعد عصرهم قد انغمسوا في شرب الخمور واتخاذ القيان وبسط الحرير وغير ذلك من آلات الفضة والذهب وكان في عصره أحمد بن موسى المذكور وابن حسين والشرقي وأبو عمرو القسطلي وأبو محمد بن إبراهيم التامنارتي والشيظمي وغير هؤلاء من المشايخ وأهل الدين الذين لا يسع من يدعي هذه الطريقة التقدم عليهم ولا اكتساب الفضيلة دونهم فأحسنوا السيرة ولا تعرضوا للسلطنة ولا سمع منهم ما يقدح في ولاة الأمر وقادة الأجناد ممن ذكر الذين كان الملك يدور عليهم ويرجع إليهم في تدبيره اه القدر المحتاج إليه من الرسالة المذكورة
قال اليفرني ومثل هذا ما ذكر بعضهم أن السلطان الغالب بالله أعطى حجر باديس للطاغية لتنقطع بذلك مادة الترك عنه ومثله ما ذكر عنه أيضا أن قائده ابن تودة أخذ بعض أسوار الجديدة وعزم على فتحها من الغد فكتب إليه السلطان المذكور ينهاه عن ذلك ونظيره أيضا قضيته مع أهل غرناطة
____________________

وأطال فيها هذا البعض المنقول عنه بما استنكفت من ذكره هنا قال وهذه أمور شنيعة إن صح أنه فعلها ولست أدخل في عهدتها لأني إنما رأيتها في أوراق مجهولة المؤلف اشتملت على ذم هذه الدولة السعدية وظني أنها من وضع بعض أعدائهم لحطة من قدرهم وإخراجه إياهم من النسب الشريف ووصفه دولتهم بالدولة الخبيثة فلذا تجنبت منهم كثيرا من الأخبار التي لا تظن بأولئك السادة رحمهم الله فقد قال الشيخ تاج الدين السبكي رحمه الله في طبقاته إن المؤرخين على شفا جرف هار لأنهم يتسلطون على أعراض الناس وربما وضعوا من الناس تعصبا أو جهلا أو اعتمادا على نقل من لا يوثق به قال فعلى المؤرخ أن يتقي الله تعالى اه إلا أن الملوك لا يستغرب في حقهم أن يهدموا أساس الشريعة ليبنوا منار رياستهم ويستهونوا عظائم الأمور لتطيعهم الرعية ساعة كيف لا وشراع أفئدتهم تلعب به رياح الشهوات فتلقي سفينة قلوبهم على ساحل بحر القنوط من رحمة الله تعالى والله يسامح الجميع ويتجاوز عن كافة عصاة هذه الأمة بمنه وفضله اه كلام اليفرني رحمه الله
ومن وزراء السلطان الغالب بالله ابن أخيه الأمير الأجل الأديب الأحفل أبو عبد الله محمد بن عبد القادر بن محمد الشيخ كان من أنبل الوزراء وألطفهم مسلكا وأخفهم روحا وله عارضة في النظم والنثر
ذكر الأديب أبو محمد عبد الله بن محمد الفاسي في كتابه الأعلام بمن مضى وغبر من أهل القرن الحادي عشر ما صورته قدم الوزير أبو عبد الله محمد بن عبد القادر السعدي من مراكش إلى فاس ومعه الفقيه قاضي الجماعة أبو مالك عبد الواحد بن أحمد الحميدي والفقيه الإمام أبو العباس أحمد المنجوز فلما تبدت لهم معالم فاس الجديد وتلظى للشوق في جوانحهم أوار
( وأبرح ما يكون الشوق يوما ** إذا دنت الديار من الديار )
وأنشد الوزير المذكور لنفسه ارتجالا
( أخلائي هذا المستقى وربوعه ** وهذي نواعير البلاد تنوح )
____________________


( وذاك المصلى مطرح الشوق والأسى ** وتلك منازل الديار تلوح )
فقال القاضي الحميدي ارتجالا
( وتلك القباب الخضر شبه زبرجد ** بهن غوان طرفهن جموح )
( يمسن كأملود من الروض يانع ** شذاهن من حول الديار يفوح )
فقال الفقيه أبو العباس المنجور ارتجالا أيضا
( ويرفلن في الحلات يختلن في الحلى ** وفيهن أنواع الجمال وضوح )
( يبادرن ترقيع الكوى بمحاجر ** لإقبال حب طال منه نزوح )
ولما بلغت الأبيات إلى الأستاذ أبي العباس أحمد الزموري قال مذيلا
( تأمل سنا الحسناء تحت قبابها ** كشمس غدت تحت السحاب تلوح )
( تحلت ربوع المستقي بجمالها ** وأنت إلى تلك القباب تروح )
وبعضهم جعل البيتين الأولين للمولى الأديب أبي محمد عبد الواحد بن أحمد الشريف السجلماسي وكان كاتبا للوزير المذكور ويجعل موضع أخلائي أمولاي والبيتين بعدهما للوزير والله تعالى أعلم والمستقى بصيغة اسم المفعول اسم بستان معروف
ونظير هذا ما ذكره الأديب المذكور في أعلامه المذكور قال كان الوزير المذكور مع كاتبه المولى عبد الواحد الشريف في بعض الأسفار وأرسلت السماء بغيثها المدرار فقال الوزير المذكور
( لله أشكو غداة السفح إذ ركضت ** أيدي المطايا وحادي الريح يحدونا )
فأجابه الكاتب المذكور
( والغيم في الأفق قد أرخى ذوائبه ** بأسهم الودق لا ينفك يرمينا )
فقال الوزير
( حتى استوى الماء والآكام واستترت ** معالم الرشد لا خريت يهدينا )
( فطلت الخيل في الأمواج سابحة ** سبح السلاحف نحو الدار يهوينا )
فقال الكاتب
( والنفس في قلق لبين مألفها ** والشوق يحدو بنا والحال يقصينا )
____________________


فقال الوزير
( كأننا لم نبت والوصل ثالثنا ** حتى غدا الطير فوق السرح يفشينا )
وأخبار هذا الوزير ونوادره كثيرة وهو الذي أخرج بني راشد من مدينة شفشاون حسبما مر وكانت وفاته في العشرين من جمادى الثانية سنة خمس وسبعين وتسعمائة
ومن وزراء السلطان الغالب بالله أيضا القائد عبد الكريم بن مؤمن بن يحيى العلج الجنوي وعبد الرحمن بن تودة وقاسم الزرهوني وأحمد الهبطي ومن ولاة مظالمه أبو عمران موسى بن مخلوف الكنسوسي وهو والي الشرطة وكان فقيها مشاركا
وذكر بعضهم أن الشيخ الصالح أبا العباس أحمد بن موسى السملالي كان في بعض قدماته على السلطان الغالب بالله قد انحشر الناس لزيارته بزاويته فوقف أبو عمران المذكور يذود الناس عنه ويقول رحمكم الله من زار خرج فسمعه الشيخ فقال له لا تقل ذلك وقل من جار خرج ومن كتاب السلطان المذكور محمد بن عبد الرحمن السجلماسي ومحمد بن أحمد بن عيسى وغيرهما ومن قضاته بمراكش الفقيه قاضي الجماعة أبو القاسم بن علي الشاطبي وبفاس أبو عبد الله العوفي وأبو مالك عبد الواحد الحميدي رحمهم الله الخبر عن دولة السلطان أبي عبد الله محمد المتوكل على الله ابن السلطان عبد الله الغالب بالله رحمه الله
لما توفي السلطان الغالب بالله بحضرة مراكش كان ابنه محمد هذا بفاس وكان ولي عهد أبيه فاجتمع أهل العقد والحل بمراكش واستأنفوا له
____________________

البيعة وكتبوا بها إليه فوصلت إليه وهو بفاس أوائل شوال سنة إحدى وثمانين وتسعمائة فبايعه أهل فاس وتم أمره
قال ابن القاضي أمه أم ولد وكنيته أبو عبد الله ولقبه المتوكل على الله ويعرف عند العامة بالمسلوخ لأنه سلخ جلده وحشي تبنا كما سيأتي
وكان مما وقع في أيامه أنه كانت بين المسلمين وبين نصارى طنجة وقعة بالرملة المسماة بأبي غاص من فحص طنجة قرب قنطرة عصماء وذلك يوم الأربعاء منتصف جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة وفي هذه الوقعة استشهد الشيخ أبو مهدي عيسى بن الحسن المصباحي دفين الدعادع على وادي مضي من عمل القصر فإنه حمل بعد استشهاده إلى الموضع المذكور فدفن بإزاء قبر أبيه في الروضة التي هنالك
واستمر أمر أبي عبد الله المتوكل منتظما إلى أواخر سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة فقدم عليه عمه عبد الملك ابن الشيخ بجيش الترك فنثر سلكه وبدد ملكه على ما نذكره ويقال إنه كان أضمر الفتك بعميه أحمد وعبد الملك ففرا منه إلى ناحية الترك على ما سيأتي قالوا وكان السلطان المذكور فقيها أديبا مشاركا مجيدا قوي العارضة في النظم والنثر وكان مع ذلك متكبرا تياها غير مبال بأحد ولا متوقفا في الدماء عسوفا على الرعية ومن شعره قوله
( فقم بنا نصطبح صهباء صافية ** في وجهها عسجد في وجهه نقط )
( وانهض إليها على رغم العدا قلقا ** فإن تأخير أوقات الصبا غلط )
ومن شعره أيضا قوله
( ساروا فسار فؤادي إثر ظعنهم ** وخلفوني نحيل الجسم حيرانا )
( لا افتر ثغر الثرى من بعد بينهم ** ولا سقى هاطل وردا وريحانا )
وكان خليفته بمراكش القائد ابن شقراء وحاجبه أحمد بن حمو الدرعي وكتابه يونس بن سليمان الثاملي وعلي بن أبي بكر وغيرهما رحمهم الله تعالى
____________________

الخبر عن دولة السلطان أبي مروان عبد الملك المعتصم بالله ابن محمد الشيخ وأولية أمره ومآله
كان أبو مروان عبد الملك بن أبي عبد الله الشيخ السعدي وأخوه أبو العباس أحمد المدعو بعد بالمنصور مقيمين بسجلماسة سائر أيام أبيهما فلما توفي وولي الأمر بعده ابنه الغالب بالله فر عبد الملك وأحمد إلى تلمسان خوفا على أنفسهما منه فأقاما عند صاحبها حسن بن خير الدين مدة ولحق بهما أخوهما عبد المؤمن فصار ثالثة الأثافي ثم انتقلوا بعد ذلك إلى الجزائر ومنها ركب عبد الملك البحر إلى القسطنطينية متطارحا على صاحبها السلطان سليم بن سليمان العثماني رحمه الله فأمده بالجند حتى ملك المغرب كما سيأتي
ولنذكر هنا كيفية استيلاء العساكر العثمانية على تونس وانقراض أمر الحفصيين منها ثم نرجع إلى بقية أخبار السلطان أبي مروان المعتصم بالله لأنها تنبني على ذلك فنقول اعلم أن أمر بني أبي حفص أصحاب تونس كان قد مرج في هذه المدة وتداعى إلى الاختلال وكان خير الدين باشا التركي المقدم ذكره في أخبار تلمسان قد استولى على تونس في حدود الأربعين وتسعمائة وغلب عليها صاحبها الحسن بن محمد الحفصي ففر الحسن المذكور إلى طاغية الإصبنيول صاحب قشتالة فأعطاه العساكر وجاء بها إلى تونس فنزل عسكر النصارى ببرج العيون قرب حلق الوادي وتقدموا إلى تونس فملكوها وانهزم خير الدين إلى الجزائر وشارك النصارى الحسن بن محمد في إمرة تونس واستباحوا أهلها قتلا وأسرا ونهبا يقال إنهم قتلوا من أهل تونس الثلث وأسروا الثلث وأبقوا الثلث وكل ثلث ستون ألفا هكذا عند صاحب الخلاصة النقية ثم ملكوا الموضع المسمى بحلق الوادي وليس هناك واد عذب وإنما هو جون دخل من البحر في البر وعليه مرسى تونس ثم بنى النصارى في الحلق المذكور حصنا عاديا أقاموا في بنائه نحو ثلاث وأربعين سنة بحيث عجز الترك عن هدمه لما ملكوه بعد
____________________


ثم ثار على الحسن ابنه أحمد المدعو حميدة وملك الحضرة مدة وقاتل نصارى حلق الوادي فامتنعوا عليه ثم غزاه علي باشا صاحب الجزائر واستولى على تونس سنة سبع وسبعين وتسعمائة وطرد أحمد عنها فذهب أحمد إلى طاغية قشتالة مستغيثا به شأن أبيه من قبله هذا كله ونصارى الحلق لا زالوا متمكنين منه أي تمكين فأمد الطاغية أحمد المذكور بأسطول عظيم واشترط عليه أداء مال فالتزمه
ولما وصل الأسطول إلى ظاهر تونس اطلع قائده السلطان أحمد على كتاب من الطاغية مضمنه المشاركة في الحكم فأنكر أحمد ذلك وأنف منه وذهب إلى صقلية فبقي بها إلى أن مات وحمل إلى تونس وكان هنالك أخوه محمد بن الحسن فرضي بالمقاسمة ودخل بالنصارى إلى تونس فاستولى عليها وملك قصبتها وجالسه شريكه النصراني بها وانتهبت المدينة وأهين الدين وعم الخراب وتكدر المشرب وتفرق الجمع وارتبطت خيل العدا بالجامع الأعظم وألقيت ما فيه من نفائس الكتب بالطرق ونبش قبر الشيخ أبي محفوظ محرز بن خلف فلم يوجد فيه إلا الرمل حماية من الله له وحاشا أن تعدو الأرض على جسد مثله وأرسل محمد بن الحسن إلى الناس بالأمان واستمالهم النصراني بعد بكاذب الرفق فأقاموا بدار مذلة وهوان
واتصل ذلك كله بالسلطان سليم بن سليمان العثماني فأعظمه وجهز العمارة للحين مع الوزير سنان باشا يقال كانت أربعمائة وخمسين قطعة فخرج بها الوزير المذكور من القسطنطينية وهي إصطنبول غرة ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وتسعمائة ووصلوا إلى حلق الوادي في الرابع والعشرين منه وكان حيدر باشا صاحب القيروان ومصطفى باشا صاحب طرابلس محاصرين لتونس قبل ذلك حتى فتر عزمهم فلما قدم عليهم سنان باشا قويت نفوسهم واعصوصبوا عليه وتقدموا إلى الحصن الذي بحلق الوادي فحاصروه حتى اقتحموه عنوة سادس جمادى الأولى من السنة المذكورة أعني سنة إحدى وثمانين وتسعمائة واستلحموا من به وغنموا ما فيه والتجأ محمد بن الحسن الحفصي وأنصاره من النصارى إلى البستيون وهو حصن آخر كانوا قد بنوه خارج باب تونس فحاصرهم سنان باشا به حتى اقتحمه
____________________

عنوة وقتلوا من به وامتلأت أيديهم من المغانم وطهر الله بهم البلاد وكانت إحدى الوقائع الجليلة القدر الباقية الذكر وظفر الوزير بمحمد بن الحسن فاحتمله معه إلى السلطان سليم فاعتقله في يد قلة أحد حصونه حتى هلك وانقرضت بمهلكه دولة بني أبي حفص التي هي بقية الموحدين
إذا علمت هذا فاعلم أن استيلاء العساكر العثمانية على تونس كان قبل وفاة السلطان الغالب بالله بنحو خمسة أشهر لأن وفاته كانت في آخر رمضان سنة إحدى وثمانين وتسعمائة كما مر وفتح تونس كان في جمادى الأولى من السنة المذكورة ووقع في النزهة أن فتح تونس كان سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة وهو غير صواب والله تعالى أعلم مجيء السلطان أبي مروان عبد الملك بن الشيخ السعدي بعسكر الترك واستيلاؤه على المغرب
اعلم أنه وقع في النزهة وغيرها أن عبد الملك بن الشيخ وأخاه أحمد كانا في ابتداء أمرهما بسجلماسة فلما توفي أبوهما وولي أخوهما الغالب بالله لحقا بتلمسان فأقاما بها مدة ثم انتقلا إلى الجزائر فلما اتصل بهما خبر وفاة أخيهما الغالب وولاية ابنه محمد المتوكل من بعده ركب عبد الملك البحر إلى القسطنطينية وتطارح على ملكها العثماني في أن يمده بجيش ليملك المغرب فتثاقل عنه العثماني إلى أن بعث بالعمارة لفتح تونس فشهد عبد الملك الفتح وعاد إليه بالبشارة فأسعفه وهذا غير صواب من جهة أن فتح تونس كان متقدما على وفاة الغالب بالله كما مر اللهم إلا إذا كان عبد الملك وفد على العثماني مستعديا على أخيه الغالب بالله وفي أثناء ذلك توفي وولي ابنه المتوكل فيكون الكلام صحيحا وأما ما في النزهة مما يقتضي تأخر فتح تونس عن وفاة الغالب بالله فغير صواب كما مر
ولنذكر ما حكوه من ذلك فنقول لما بويع السلطان أبو عبد الله محمد
____________________

المتوكل على الله كان عبد الملك بن الشيخ وأخوه أحمد المدعو بعد بالمنصور بالجزائر فركبا البحر إلى القسطنطينية العظمى قاصدين السلطان سليم بن سليمان العثماني رحمه الله ومع عبد الملك أمه سحابة الرحمانية وزعم بعضهم أن التي كانت معهما مسعودة الوزكيتية وهي أم أحمد منهما فانتهيا إلى القسطنطينية وتعلقا بكراء الدولة حتى أدخلوهما على السلطان سليم ودخلت أمهما داره وطلبوا منه أن يبعث معهم العساكر لتملك المغرب ويقوموا فيه بدعوته فتثاقل عنهم مدة إلى أن كان الغزو إلى تونس فكتب السلطان سليم إلى أهل الجزائر وأهل طرابلس أن يوجهوا قراصينهم لحصار تونس مع العمارة الموجهة من قبله فطلب عبد الملك وأخوه أحمد من الدولاتي وهو صاحب الجزائر أن يجعل لهما رياسة قرصان منهما يتوجهان فيه للجهاد معه فأعطاهما غليوطة فيها ستة وثلاثون رجلا فركباها ولحقا بعمارة السلطان سليم في جملة مراكب الجزائر هكذا وقع في سياقة هذا الخبر وهو يقتضي أنهما كانا يومئذ بالجزائر لا بالقسطنطينية فلعلهما عادا إليها من عند السلطان سليم إلى أن سافرا في جملة عسكر الجزائر والله تعالى أعلم ولما فتحوا تونس واستأصلوا من بها من الكفار حسبما مر عين رئيس العمارة العثمانية مركبين يتوجهان بكتاب الفتح إلى السلطان سليم فطلب منه عبد الملك وأحمد أن يأذن لهما في الذهاب معهما بالغليوطة ليأتيا بأمهما التي تركاها هنالك فلم يزالا بالرئيس المذكور حتى أسعفهما فكان من قدر الله تعالى أن هاج البحر عليهم ذات ليلة ففرق مراكبهم ولما أصبح عبد الملك وأحمد لم يجدا للمركبين أثرا فوافقهم السعد وساعدتهم الريح فوصلوا إلى القسطنطينية قبل المركبين بثلاث
واتصل خبرهما بالصدر الأعظم فأحضرهما وسألهما عن العمارة وما كان منها فأخبراه بفتح تونس وقصا عليه الحديث من البدء إلى التمام فأعلم السلطان سليما بهما فأدخلهما عليه وسألهما كذلك فأخبراه وسألهما عن كتاب الفتح إن أمير العمارة قد بعث به مع مركبين صحبناهما إلى أن فرق بيننا البحر ولم ندر ما كان منهما بعد ذلك
____________________


ولما رأيا من السلطان سليم تنازلا واهتزازا لكلامهما طلبا منه في بشارتهما أن يبعث معهم العساكر إلى الغرب وشفعا في إنزال رأس والدهما ودفنه فقبل شفاعتهما ثم أمر بهما إلى بعض المنازل فأنزلهما به وأكرمهما وبعث إليهما بالأم التي كانت هنالك وأرجأ أمرهما إلى قدوم الخبر اليقين وبعد ثلاث قدم المركبان ومعهما كتاب الفتح وظهر صدق عبد الملك الملك وأحمد فحينئذ أقبل عليهما السلطان سليم وأعطاهما مالا وسلاحا وزادا وكتب لهما فرمانا للدولاتي صاحب الجزائر ليبعث معهما خمسة آلاف من عسكر الترك تطأ معهما أرض المغرب الأقصى
ولما قدما على الدولاتي بالفرمان وقرأه على أهل الديوان قالوا علينا الرجال وعليهما المال وهذه عادتنا مع السلطان ولما لم يكن عندهما مال يومئذ تطارحا على الخزندار وعلى الآغا والوكيل وأهديا إليهم ورغبا منهم أن يسلفوهما ما ينفقانه في وجهتهما تلك إلى أن يبعثا به إليهم من المغرب فسهلوا لهما وقوموا العسكر بما يحتاج إليه وفرضوا له المؤنة كل يوم بيومه إلى أن يرجع وأشهدوا عليهما بذلك في دفتر فقبلا وأعطوا خطوطهما به ثم نهض عبد الملك وأخوه إلى المغرب يجران عساكر الترك خلفهما وكتب عبد الملك إلى شيعته بالمغرب يعرفهم قدومه ويعدهم ويمنيهم إلى أن كان من أمره ما كان
وساق اليفرني هذا الخبر وفيه بعض مخالفة لما تقدم قال لما فتحت تونس كان عبد الملك أول من أرسل البشارة مع أصحابه إلى السلطان العثماني فبلغت الرسالة أمه سحابة الرحمانية فأعطتها السلطان المذكور والتمست منه أن يعطيها في بشارتها أمر أهل الجزائر بالذهاب معها إلى المغرب فأعطاها ذلك فجاء عبد الملك مع أمه بكتاب السلطان إلى أهل الجزائر يأمرهم بالمسير معه لتملك ما كان بيد آبائه فطالبه أهل الجزائر بالراتب فقال لهم أسلفوني وعلي القضاء فاتفق معهم أن يعطيهم عشرة آلاف لكل مرحلة وكان عدد جيش الترك أربعة آلاف
وقال في شرح الدرة إن عبد الملك طلب من رئيس الترك أن يعينه
____________________

بحصة منهم توصله إلى تخم بلاده ليدخلها إذ الجند كله جند أبيه لا يمكن أن يقاتلوه ويضربوا في وجهه لتعظيمهم إياه فأسعفه على مراده وأرسل معه عصابة وحصة قليلة فأقبل بهم حتى انتهى إلى الموضع المعروف بالركن من أحواز فاس فلما سمع بذلك ابن أخيه محمد المتوكل خرج للقائه بنفسه ولما التقى الجمعان نزع رئيس جند الأندلس سعيد الرغالي إلى عبد الملك وكان عبد الملك يكاتب حاشية المتوكل وبطانته ورؤوس أجناده ويعد طائعهم ويوعد عاصيهم فلما سمع المتوكل بما فعله جند الأندلس فت ذلك في عضده وفشلت ريحه وأيقن بالنكبة ظنا منه أن جنده كله سيفعل فعل الرغالي فكان ذلك سبب جزعه وفراره من المعركة وسبب خراب ملكه وإقامة ملك عمه ويقال إن بعض الجند لما سمع بأن القائد جرمون وأولاد عمران نزعوا إلى عبد الملك أيضا جاء إلى المتوكل وقال له إن القائد ابن شقراء قد غدر وفر إلى عبد الملك وكان ابن شقراء هذا من أكبر قواده وأصدقهم لديه فارتاع المتوكل لذلك وانقلب منهزما وانتهبت خزائنه وأوقد فيها النار ونفط ما كان بها من البارود حتى رئي من رؤوس الجبال
ولما انهزم المتوكل بالركن عطف على فاس الجديد فأخذ منها ما يعز عليه من الذخيرة ثم خرج على وجهه إلى مراكش لا يلوي على شيء فلحق به القائد ابن شقراء بوادي النجاة على مقربة من فاس وأغلظ له في القول ولامه على عدم التأني والتثبت وكان أمر الله قدرا مقدورا استيلاء السلطان أبي مروان عبد الملك المعتصم بالله على حضرة فاس وما يتبع ذلك
لما انهزم المتوكل بالركن وأجفل إلى مراكش تقدم عمه أبو مروان إلى فاس فدخلها واستولى عليها يوم الأحد سابع ذي الحجة سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة من باب الفتوح وبعد أن دخلها وبايعه أهلها أقام بها أياما ثم طمحت نفسه إلى اتباع ابن أخيه إلى مراكش ولما عزم على النهوض إليه
____________________

طالبه الترك بأن يردهم إلى بلادهم وأن يعطيهم المال الذي اتفق معهم عليه وهم يسمونه بلغتهم البقشيش فبذل لكل واحد منهم أربعمائة أوقية واستسلف المال من تجار أهل فاس حتى يتسع حاله فكان جملة ما أعطى الترك خمسمائة ألف وأعطاهم عشرة من الأنفاض منها النفض الكبير الذي له عشرة أفواه وزادهم من تحف المغرب وطرفه ما سلى به نفوسهم وركب لوداعهم بنفسه إلى نهر سبو ثم رجع إلى فاس
وفي هذه المدة قبض على قاضيها الفقيه أبي مالك عبد الواحد بن أحمد الحميدي لأمر نقمه عليه وأودعه السجن فبعث الفقيه المذكور أولاده إلى الشيخ الصالح أبي النعيم رضوان بن عبد الله الجنوي يطلب منه أن يشفع له عند السلطان المعتصم بالله فكتب إليه الشيخ أبو النعيم يحضه على الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم والاستمساك بحبله لأنه باب الله الأعظم فقبل القاضي إشارته وتوجه إلى ربه بكليته فأتاه الفرج من حينه رحم الله الجميع بمنه نهوض السلطان أبي مروان إلى مراكش واستيلاؤه عليها وفرار ابن أخيه إلى السوس وما نشأ عن ذلك
ثم إن السلطان أبا مروان نهض من فاس في جنده الذي أقامه وكان غرس يده وفيما انضاف إليه من جند ابن أخيه وتقدم إلى البلاد المراكشية قاصدا حربه وتشريده عنها ولما سمع ابن أخيه بخروجه إليه وقصده إياه تهيأ لملاقاته وسار إلى منازلته فالتقى الجمعان بموضع يسمى خندق الريحان على مقربة من وادي شراط من أحواز سلا فكانت الهزيمة أيضا على المتوكل وفر برأس طمرة ولجام وأجفل كعادته إجفال النعام وتبعه أحمد المنصور خليفة أخيه أبي مروان يومئذ فلما سمع المتوكل باتباعه بعد بلوغه إلى مراكش فر عنها إلى جبل درن وأسلم له مراكش فدخلها أحمد نائبا عن أخيه وأخذ له البيعة على أهلها ثم لحق به السلطان أبو مروان فدخلها يوم الاثنين
____________________

تاسع عشر ربيع الثاني سنة أربع وثمانين وتسعمائة وأقام بها أياما ثم خرج في طلب ابن أخيه فعميت عليه أنباؤه وسقط بين سمع الأرض وبصرها فعاد أبو مروان إلى مراكش فأقام بها إلى أن كان من أمره ما نذكره استخلاف السلطان أبي مروان لأخيه أبي العباس أحمد على فاس وأعمالها
لما استقر السلطان أبو مروان بمراكش وانقطع خبر المتوكل عنه بالسوس تقدم إليه أخوه أحمد وسأله أن يستخلفه على فاس ليكفيه أمرها فأجابه إلى ذلك وولاه عليها ظنا منه أن أمر المغرب قد صفا له وإن المتوكل لا يعود إليه وكان الوزير أبو فارس عبد العزيز بن سعيد الوزكيتي حاضرا للطلبة والعطية فأنكر ذلك ولم يره صوابا وقال لا ينبغي لكما أن تقعدا حتى يحكم الله بينكما وبين ابن أخيكما فغاظ ذلك أحمد وظن أنه من سوء رأي عبد العزيز فيه وبغضه لجانبه فأعرض عن مقالة الوزير المذكور وذهب إلى فاس خليفة عليها وبقي السلطان أبو مروان بمراكش
وفي هذه المدة كتب السلطان أبو مروان لأخيه أحمد برسالة يقول فيها بسم الله الرحمن الرحيم و صلى الله عليه وسلم من عبد الله المعتصم بالله المجاهد في سبيل الله أمير المؤمنين أبي مروان عبد الملك ابن أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد الشيخ الشريف الحسني أيده الله وأعز نصره وأسعد زمانه المبارك وعصره وأبقى بمنه فخره من إملائه أيده الله ونصره إلى أخينا الأعز الأحظى بابا أحمد حفظه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد فاعلم أني لا أحب أحدا بعد نفسي كمحبتي لك ورغبتي في انتقال هذا الأمر بعدي إليك لا لغيرك غير أني أعتاد منك التراخي في الأمور حتى أنك لا تبالي بعظيم الأمر ولا تعتبره إلى أن يتطرق إلى ما لا يتلافى جبره من الأمور التي تكاد لولا لطف الله تذهب بهذا الملك وتهد أركانه ويبلغ العدو معها مناه ومراده من ذلك التراخي إهمالك أمر الجند الذي
____________________

بالعرائش وإغفالك له مع ما يترادف عليك في كل ساعة من تلقائه من استدعاء ما دعت الحاجة إليه من المؤونة والبارود والرصاص الذي لا يستقيم لهم أمر في مقاومة العدو دون ذلك وجعلت تقابل خطابهم بالإهمال وعدم المبالاة والآن ساعة يرد عليك كتابنا هذا قبل وضعه من يدك ابعث إليهم مؤنة عشرة أيام بينما نصل إن شاء الله فيقع التدبير فيما يحتاجون إليه زائدا على ذلك مع ما عندكم هنالك من البارود والرصاص من غير عطلة ولا تراخ بحيث لا نقبل منك عذرا في هذه المسألة التي لا تحتاج إلى الإهمال ولا بد ولا بد فقد بلغنا أن صاحب النصارى بقرب آصيلا في خمس عشرة مائة من النصارى وتمنيت أن لو حركتك الهمة للاقتحام عليه في مكانه بجيش يكسوه أردية الصغار ويرجع ساعة رؤيته إلى عادته من الذل والفرار فانتبه من الغفلة وافتح عين الانتباه واليقظة فإن الساعة لا تقتضي إلا الحزم والتشمير عن ساعد الاجتهاد والعزم والسلام اه ظهور أبي عبد الله المتوكل بالسوس ومجيئه إلى مراكش واستيلاؤه عليها
كان أبو عبد الله المتوكل بعد فراره من مراكش يجول في جبال السوس ويتنقل في قبائلها وأحيائها إلى أن اجتمعت عليه طائفة من الصعاليك وتأشب عليه ما يشبه أن يكون جيشا فاستهوتهم منه الأضاليل وقادهم قود الملك الضليل وجاء بهم إلى مراكش فسمع به السلطان أبو مروان فخرج للقائه فخالفه المتوكل وسلك طريقا غير طريقه وفجا غير فجه وقصد مراكش فدخلها باتفاق أهلها ونصروه وكتبوا له البيعة إلا أنه لم يتمكن من القصبة
____________________

لأن السلطان أبا مروان كان قد ترك بها أخته الست مريم في نحو ثلاثة آلاف من الرماة فتحصنوا بها وبلغ الخبر أبا مروان باستيلاء المتوكل على مراكش فرجع عوده على بدئه إلى أن وافى الحضرة فحاصره بها وكتب إلى أخيه أحمد الخليفة على فاس أن يأتيه بجيش منها فأتاه به أحمد مسرعا
وما انتهى إلى مراكش اجتمع بالوزير أبي فارس الوزكيتي فقال له أوقفت على الرأي أول الفكرة آخر العمل فبانت لأحمد نصيحته وزال ما كان يختلج بصدره عليه
ولما جاء أحمد بجيش فاس أسلم المتوكل شيعته من أهل مراكش وفر إلى السوس فبقي أهل مراكش متمادين على الحصار إلى أن اتفق السلطان أبو مروان مع أعيان جراوة فأدخلوه من بعض الأسوار والأنقاب ولما فر المتوكل إلى السوس تبعه أحمد المنصور فكانت بينهما هنالك حروب عظيمة أتاح الله فيها النصر للمنصور منها وقعة تينزرت التي أنشده فيها وزيره الكاتب أبو الحسن علي بن منصور الشيظمي البيتين اللذين قالهما فيه الكاتب أبو عبد الله بن عيسى وهما
( هو الغيث والبحر الغطمطم في الندى ** وليث إذا جد الطعان هصور )
( يفوق السهام عزمه وانبعاثه ** ويقصر عنه في الثبات ثبير )
فأجابه أحمد المنصور ببيتي أبي فراس الحمداني وهما
( ونحن أناس لا توسط عندنا ** لنا الصدر دون العالمين أو القبر )
( تهون علينا في المعالي نفوسنا ** ومن خطب الحسناء لم يغله المهر )
ومنها الوقعة التي بعدها بأساطين المنصور وهو في نحو ثلاثة آلاف والمتوكل في نحو ستين ألفا ومع ذلك هزمه المنصور
قلت كان أحمد المنصور هذا مجدودا محظوظا مسعودا بحيث أربت سعادته على شجاعته وما كان أخوه عبد الملك يسري إلا في ضوء طلعته ويمن نقيبته فلذا كان يقدمه في الحروب ويستكفي به في نوازل الخطوب ومن سعادته ما اتفق له في ذهابه إلى العثماني بخبر الفتح وتقدمه
____________________

قبل الكتاب بثلاث حتى تسنى له من جانب السلطان المذكور ما كان سببا في استيلائهما على المغرب وستسمع في أخبار دولته من أنباء سعاداته ما تقف به على حقيقة الحال إن شاء الله وأما أمر المتوكل فإنه بعد توالي الهزائم عليه فر إلى جبل درن وتوغل في قننه ثم فر منه إلى باديس فأقام بها مدة ثم ذهب إلى سبتة ثم دخل طنجة مستصرخا بعظيم البرتغال والله تعالى لا يهمل من حقوق عباده وزن المثقال الغزوة الكبرى بوادي المخازن من بلاد الهبط والسبب فيها
كان من خبر هذه الغزوة أن السلطان المخلوع أبا عبد الله محمد بن عبد الله السعدي لما دخل طنجة قصد طاغية البرتغال واسمه سبستيان بكسر السين وفتح الباء والسين وسكون التاء القريبة من الطاء وهو طاغيتهم الأعظم وليس قائد الجيش فقط على ما هو المحقق في تواريخهم وتطارح عليه وشكا إليه ما ناله من عمه أبي مروان المعتصم بالله وطلب منه الإعانة عليه كي يسترجع ملكه وينتزع منه حقه فأشكاه الطاغية ولبى دعوته وصادف منه شرها إلى تملك سواحل المغرب وأمصاره فشرط عليه أن يكون للنصارى سائر السواحل وله هو ما وراء ذلك فقبل أبو عبد الله ذلك والتزمه وللحين جمع الطاغية جموعه واستوعب كبراء جيشه ووجوه دولته وعزم على الخروج إلى بلاد الإسلام
ومن المتواتر في تواريخ الإفرنج أن كبار دولته حذروه عاقبة هذا الخروج ونهوه عن التغرير ببيضة البرتغال وتوريطها في بلاد المغرب وقبائله فصم عن سماع قولهم ولج في رأيه وملك الطمع قلبه وأبى إلا الخروج فأسعفوه وخرج من طنجة في جيش قال ابن القاضي في المنتقى المقصور عدده مائة ألف وخمسة وعشرون ألفا وقال أبو عبد الله محمد العربي الفاسي في مرآة المحاسن يقال إن مجموعهم كان مائة ألف وعشرين ألفا وأقل ما قيل في عددهم ثمانون ألف مقاتل وكان مع محمد بن عبد الله نحو الثلاثمائة من أصحابه قال بعضهم وكان عدد الأنفاض التي يجرونها مائتين
____________________

وقصدوا هلاك المغرب وحصد المسلمين وإدارة رحى الهوان على الدين فعظم ذلك على الناس وامتلأت صدورهم رعبا وقلوبهم كربا وبلغت القلوب الحناجر واتقدت بها نيران الهواجر وكان محمد بن عبد الله المذكور قد كتب عند خروجه بجيش البرتغال إلى بلاد الإسلام رسالة بعث بها إلى أعيان المغرب من علمائه وأشرافه وذوي رأيه يغمض عليهم بها في نكث بيعته ونقضها ومبايعة عمه من غير موجب شرعي وقال لهم ما استصرخت بالنصارى حتى عدمت النصرة من المسلمين وقد قال العلماء أنه يجوز للإنسان أن يستعين على من غصبه حقه بكل ما أمكنه وتهددهم فيها وأبرق وأرعد وقال فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وسمى النصارى أهل العدوة واستنكف من تسميتهم نصارى فأجابه علماء الإسلام رضوان الله عليهم عن رسالته تلك برسالة دامغة لجيش أباطيلة وفاضحة لركيك تأويله وهذا نص جواب تلك الرسالة حرفا حرفا الحمد الله كما يجب لجلاله و صلى الله عليه وسلم والرضى عن آله وأصحابه الذين هجروا دين الكفر فما نصروه ولا استنصروا به حتى أسس الله دين الإسلام بشروط صحته وكماله
وبعد فهذا جواب من كافة الشرفاء والعلماء والصلحاء والأجناد من أهل المغرب وفقهم الله لمولانا محمد ابن مولانا عبد الله السعدي عن كتابه الذي استدعاهم فيه لحكم الكتاب والسنة واستدل بحججه الواهية المنكبة عن الصواب قائلين له عن أول حجة صدر بها الخطاب لو رجعت على نفسك اللوم والعتاب لعلمت أنك المحجوج والمصاب فقولك خلعنا بيعتك التي التزمناها وطوقناها أعناقنا وعقدناها فلا والله ما كان ذلك منا عن هوى متبع ولا على سبيل خارج عن طريق الشرع مبتدع وإنما ذلك منا على منهج الشرع وطريقه وعلى سبيل الحق وتحقيقه وسنشرح لك ذلك ونبينه ونسطره لك بالأدلة الشرعية التي ترقيه وتزينه نعم كنت سلطانا بما عقد لك والدك من البيعة وترك لك من الأموال والعدد والحصون مما لم يتهيأ مثله لأحد من أسلافكم الكرام رضوان الله عليهم فجاهدوا بما حصل لهم من ذلك في الله حق جهاده حتى استخلصوا من أيدي الكفار رقاب عباد الله وحصون بلاده
____________________

وأسسوا لدين الله قواعد وأركانا وملكوا من المغرب بلادا معتبرة وأوطانا فلما وصل ذلك إليك ألقت إليك العباد أعنتها وملكتك أزمتها غير مبدلين ولا مغيرين ولا باغين ولا منكرين إلى أن قام عليك عمك بحجته التي لا يمكنك جحدها حسبما ثبت كما يجب عقدها فخرجت مبادرا له بدفعها ولقيته بها وأنت واسطة عقدها وحامل راية عهدها وعمك في فئة لا يخطر على بال عاقل أن يقابل جندا من جنودك أو يدافع ما تحت لواء من ألويتك وبنودك فما هو إلا أن جرى القتال وحضر النزال رجعت على عقبك هاربا هروب مطرود بقصاص وجنودك تناديك ولات حين مناص فتركت عددك ومحلتك بكل ما فيها وخلفتها لعدوك ينهبها ويسبيها وهربت عن مدينة فاس المحروسة وسكانها ينادونك لمن تركتنا وإلى من تكلنا فلم تلتفت إليهم وأسلمت بلادهم على ما فيها من خزائن ا لأموال والعدد الوافرة والرجال والأسوار المرتفعة المانعة والمدينة المشهورة الجامعة فأصبح أهلها واليد العادية من المفسدين تريد أن تمتد إلى الحريم والأولاد والطارف والتلاد ولا دافع عن الضعفاء والمساكين إلا الله تعالى الذي قال في مثلهم { ومن أصدق من الله قيلا } { لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا } فما أمكنهم بعد هروبك عنهم وإسلامك لهم فوضى مهملين إلا النظر في أمرهم وإعمال الفكر في التدبير على أنفسهم فبينما هم على ذلك إذا بعمك بجنوده على باب مدينتهم قائما بحجته سالكا في ذلك سبيل أبيه رحمه الله ومحجته حسبما تقرر ذلك عندكم وظهر ولم يخف عنكم منه عين ولا أثر إذ كان مولانا محمد الجد الأكبر عهد لأولاده مولانا أحمد ومولانا محمد الشيخ وإخوانهم لا يتولى الخلافة منهم ولا من أولادهم إلا الأكبر فالأكبر فالتزموا ذلك إلى أن كبر أولادهم فطلب جدك من عمك الوفاء بذلك فامتنع فقاتله على ذلك حتى تم له الأمر وانتظم فعهد لوالدك الذي كان أكبر أولاده فلم ينازعه أحد في ذلك إلى أن ألقى والدك رحمه الله ذلك وعهد إليك فلم ينازعكم أحد فأبى الله إلا الحق فأعطى ملكه لعمك الذي هو أكبركم بعد أبيك فإن سلمت هذا فأي حجة تدلي بها وأي طريق
____________________

تعتمد عليها وإن أنكرت هذا فلا أثر لخلافة أبيك من قبلك ولا لجدك من قبله لثبوتها لعمكم مولانا أحمد إذ لا حجة حينئذ لجدك في القيام على عمك فخلافته صحيحة لبيعة جدك له فلم يبق إلا التغلب الذي تدلي به في مسألة عمك وفي قيامه عليك فإن كنت تريد أن تسقط حجته بالتغلب عليك فحجتك أبين في السقوط لعدم ثبوت الخلافة لمن عقدها لك إذ المعدوم شرعا كالمعدوم حسا فلم يبق بينكم إلا والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا فيلزمك على هذا أن تثبت ما عقده مولانا الجد رحمة الله وعليه فالخلافة لعمك القائم عليك إذ هو أكبركم في هذا التاريخ
فإن قلت إن ما عقده الجد غير صحيح قلنا فقد ذكر الإمام الماوردي رحمه الله ورضي عنه في كتاب الأحكام السلطانية له في باب عقد الخلافة أن عبد الملك بن مروان رتبها في الأكبر فالأكبر من بنيه فلم ينازعه أحد في ذلك
فإن قلت فعل عبد الملك ليس بحجة قلنا سكوت العلماء على ذلك وهم ما هم في زمانه هو الحجة إذ لا يمكن أن يسكتوا على باطل وإقرار أهل العصر الواحد على مسألة من المسائل واتفاقهم عليها يقوم مقام الإجماع الذي هو حجة الله في أرضه وكان أيضا من محفوظات علماء فاس المحروسة ما خرجه مسلم رضي الله عنه في صحيحه في كتاب الإمارة ما نصه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة عند رأسه يقال هذه غدرة فلان ابن فلان ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة ) قال القاضي أبو الفضل عياض رحمه الله في كتاب إكمال المعلم على شرح فوائد مسلم يعني لم يحطهم ولم ينصح لهم ولم يف بالعقد الذي تقلده من أمرهم وفي الباب نفسه عنه صلى الله عليه وسلم ما نصه ( ما من أمير استرعاه الله رعية ثم لم ينصح لهم إلا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام ) وفي الإكمال نفسه قال القاضي والذي عليه الناس إن القوم إذا بقوا فوضى مهملين لا إمام لهم فلهم أن يتفقوا على إمام يبايعونه ويستخلفونه عليهم ينصف بعضهم من بعض ويقيم لهم الحدود
____________________

فلما أسلمتهم وأضحوا بغير إمام وعمك يدلي بحجته التي ذكرنا لك مع ما حفظوه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام السلف الصالح وأيسوا من رجوعك إليهم وبقوا فوضى مهملين لم يسعهم إلا الرجوع إلى ما عليه الناس رضوان الله عليهم فاتفقوا على أن يبايعوا عمك لما ذكرنا لك من الحجج التي لا يسعك جحدها إلا على وجه المكابرة فاطمأن الناس وسكنوا وانفتحت السبل وأقيمت الحدود وارتفعت اليد العادية
فإن قلت كان يجب على أهل فاس أن يقاتلوا على البيعة التي التزموها لك قلنا إنما يلزمهم القتال أن لو أقمت بين أظهرهم فيكون قتالهم على وجه شرعي لأن القتال على الحدود الشرعية إنما يكون بعد نصب إمام يصدر الناس عن رأيه ولا يمكنك أيضا جحدها إيه ثم وصلت إلى مراكش الغراء التي تجبى إليها الأموال من البوادي والأمصار وتشد إليها الرحال من سائر الأقطار فلقيك أهلها بالترحاب والسرور وأنواع الفرح والحبور فوجدت خزائنها تتدرج ملئا من كل شيء فأما أسوارها ورحابها فهي كما قيل تربة الولي ومدرج الحلي وحضرة الملك الأولي والبرج النير الجلي فحللتها وتمكنت من أموالها وخزائنها ووافقك أهلها فما نكثوا ولا غدروا ولا خرجوا عليك في سلطانك ولا أنكروا فطلبت أيضا قتال عمك وجندت جنودا لا يجمعها ديوان حافظ ولا يعهدها لسان لافظ فخرجت إليه تجر أعنة الخيل وراءك كالسيول والرماة قد ملأت الهضاب والتلول فما كان من حديثك إلا أن وقع القتال وحضر النزال بادرت هاربا محكما للعادة تاركا للرؤساء من أجنادك والقادة فحلت بهم الخطوب والرزايا واختطفتهم أيدي المنايا فتركت أيضا محلتك بما فيها من حريمك وأموالك وعدتك ثم أسرعت هاربا إلى مراكش فما صدك عنها أحد من أهلها ولا قال لك أحد لست ببعلها فعملوا على القتال معك والتمنع بأسوارها الحصينة والحصار داخل المدينة فلما كان الليل غدرتهم وغادرت بناتك وأخواتك وعماتك ونساءك وخرجت عنهم من القصبة وتركتهم لا بواب عليهم ولا حارس ولا راجل ولا فارس فيالها من مصيبة ما أعظمها ومن داهية ما أعضلها ولولا
____________________

فضل الله ولطفه ووعده بتطهير أهل البيت لامتدت إليهم أيدي السفلة من الفسقة فأي حجة تبقى لك بعد هذا وأي كلام لك بين الرجال يا هذا ثم جاءك عمك أيضا بما سلف من الحجج فوجد أهلها في لطف الله سبحانه وهم يحرسون أولادهم وديارهم من اليد العادية فأنقذهم الله به أيضا فبايعوا عمك بما سلف من الحجج واطمأنوا وسكنوا ثم هربت للجبل عند صاحبه فصرتما في نهب أموال الرعية وسفك دمائهم وأكثر ما صفا لك من ذلك أهل الذمة المصغرون بحكم القرآن الداخلون تحت عهد سيد الثقلين في الأمن والأمان فأنت وهم في استيلائك عليهم وظلمك إياهما كما قيل
( إن هو مستوليا على أحد ** إلا على أضعف المجانين )
ولم تبال بقول النبي صلى الله عليه وسلم أنا خصيم من ظلم ذميا يوم القيامة ثم خربت العامر وأفسدت ما شيدت الأسلاف للإسلام من المآثر فلما رأى أهل السوس الأقصى ذلك أيقنوا أنك إنما قصدت خراب الإسلام وأهله فنكب عنك أهل الدين والعلم منهم وبقيت كما قيل في خلف كجلد الأجرب
فإن قلت إن أولئك الخلف لم يبايعوا عمك فتنقض بهم ما قررناه قلنا لم يطعن في خلافة أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من تخلف عنها من أهل الشام وفيهم من قد علمت من الناس والإجماع على صحة بيعته وسمي من تخلف عنها باغيا لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمار تقتلك الفئة الباغية فقتله أصحاب معاوية رضي الله عنه والحديث من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم والقاعدة أن ما اجتمع عليه من يعتبر من أهل العصر الواحد هو المعول عليه ولا يعد خلاف من خالفه خلافا وهذا كله بالنظر إلى ما كان من حديثك قبل التحزب مع عدو الدين والأخذ
____________________

في التخليط العظيم على المسلمين فإنك اتفقت معهم على دخول آصيلا وأعطيتهم بلاد الإسلام فيالله ويا لرسوله لهذه المصيبة التي أحدثتها وعلى المسلمين فتقتها ولكن الله تعالى لك ولهم بالمرصاد ثم لم تتمالك أن ألقيت بنفسك إليهم ورضيت بجوارهم وموالاتهم كأنك ما طرق سمعك قول الله سبحانه { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم } قال أبو حيان رحمه الله أي لا تنصروهم ولا تستنصروا بهم وفي كتاب القضاء من نوازل الإمام البرزلي رحمه الله أن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين اللمتوني رحمه الله استفتى علماء زمانه رضي الله عنهم وهم ما هم في استنصار ابن عباد الأندلسي بالكتابة إلى الإفرنج على أن يعينوه على المسلمين فأجابه جلهم رضي الله عنهم بردته وكفره فتأمل هذا مع قضيتك تجدها أحروية مناسبة لقضية ابن عباد في عقدها ابتداء وأنه متى طرأ الكفر وجب العزل وناهيك بقول النبي صلى الله عليه وسلم عليكم بالسمع والطاعة وبما أفتى العلماء رضوان الله عليهم بردة من استنصر بالنصارى على المسلمين فهو نص جلي في وجوب خلعك وسقوط بيعتك فلم يبق لك إلا منازعة الحق سبحانه في حكمه { ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب }
وأما قولك في النصارى فإنك رجعت إلى أهل العدوة واستعظمت أن تسميهم بالنصارى ففيه المقت الذي لا يخفى وقولك رجعت إليهم حين عدمت النصرة من المسلمين ففيه محظوران يحضر عندهما غضب الرب جل جلاله أحدهما كونك اعتقدت أن المسلمين كلهم على ضلال وأن الحق لم يبق من يقوم به إلا النصارى والعياذ بالله والثاني أنك استعنت بالكفار على المسلمين وفي الحديث أن رجلا من المشركين ممن عرف بالنجدة والشجاعة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده بحرة الوبرة موضع على نحو أربعة أميال من المدينة فقال له يا محمد جئت لأنصرك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إن كنت تؤمن بالله ورسوله فقال لا أفعل فقال له صلى الله عليه وسلم إني لا أستعين بمشرك وما سمعته من قول العلماء رضي الله عنهم في
____________________

الاستعانة بهم إنما هو على المشركين بأن نجعلهم خدمة لأزبال الدواب لا مقاتلة فأما الاستعانة بهم على المسلمين فلا يخطر إلا على بال من قلبه وراء لسانه وقد قيل قديما لسان العاقل من وراء قلبه وفي قولك يجوز للإنسان أن يستعين على من غصبه حقه بكل ما أمكنه وجعلت قولك هذا قضية أنتجت لك دليلا على جواز الاستعانة بالكفار على المسلمين وفي ذلك مصادمة للقرآن والحديث وهو عين الكفر أيضا والعياذ بالله
وقولك فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله إيه أنت مع الله ورسوله أو مع حزبه فتأمل ما قلت في الحديث يتكلم أحدكم بالكلمة تهوي به في النار سبعين خريفا
ولما سمعت جنود الله وأنصاره وحماة دينه من العرب والعجم قولك هذا حملتهم الغيرة الإسلامية والحمية الإيمانية وتجدد لهم نور الإيمان وأشرق عليهم شعاع الإيقان فمن قائل يقول لا دين إلا دين محمد صلى الله عليه وسلم ومن قائل يقول سترون ما أصنع عند اللقاء ومن قائل يقول { وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين } ومن قائل يقول إنما قصد التشفي بالمسلمين إذ لو كان يطلب الصلاح لما صدرت منه هذه الأفعال القبيحة إلى غير ذلك فجزاهم الله عن الإسلام خيرا ورضي عنهم وبارك فيهم فلله درهم من رجال وفرسان وأبطال وشجعان فلو لم يكن منهم إلا ما غير قلوبهم على الدين لكان كافيا في صحة إيمانهم وعظيم إيقانهم فقد بلغ نور غضبهم لله سبحانه ساق العرش والحب في الله والبغض في الله من قواعد الإيمان
وقولك أيضا متبرئا من حول الله وقوته فإن لم تفعلوا فالسيف فهو كلام هذيان يدل على حماقة قائله فقط أنبأ سيفك هذا وأنت مع المسلمين في أربع وعشرين معركة لم تثبت لك فيها راية ثم زال نبوه الآن بالكفار فهذه أضحوكة فتأملها
وأما ما نسبته لإمام دار الهجرة فكفاك عجزا إن لم تعين لنا نصا جليا نعتمد عليه فيما تحتج به إلا أنك كثرت به سواد القرطاس مغربا بذكره لا معربا بنصه
____________________

وما نسبته للحنفية من أكل الميتة عند الضرورة وتسويغ الغصة بخمر فهو ما نص عليه المالكية في مختصراتهم التي ألفوها للصبيان فعدولك عن ذلك إلى الحنفية إما قصور وإما إلغاء لمذهب مالك رضي الله عنه وهو النجم الثاقب
وأما قولك أنتم أهل بغي وعناد فلا نسلم لك ذلك إلا لو أقمت بين أظهرنا وقاتلت معنا حتى ترى أنسلمك أم لا فأما إذا هربت عنا وتركتنا فالحجة عليك لا علينا على انك في كتابك تفسق الكل بذلك وتكفره وقد قال العلماء رضي الله عنهم من يقول بتكفير العامة فهو أولى بالتكفير وذلك معزو لزعيم العلماء القاضي أبي الوليد بن رشد والقاضي أبي الفضل عياض وكيف لا تنظر لقضايا تلمسان وتونس وغيرهما من سائر البلدان وكيف وقع لأمرائهم المستنصرين بالكفار على المسلمين هل حصلوا على شيء مما قصدوه أو بلغوا شيئا مما أملوه على أن أكثر العلماء حكموا بردتهم ففاتتهم الدنيا والآخرة والعياذ بالله
وقد افتخرت في كتابك بجموع الروم وقيامهم معك وعولت على بلوغ الملك بحشودهم وأنى لك هذا مع قول الله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } { ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لن تغلب هذه الأمة ولو اجتمع عليها من الكفار ما بين لابات الدنيا ) وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال سيقاتل آخر هذه الأمة الدجال وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته ألا يهلكهم بسنة عامة فأعطانيها وسألته ألا يغلبهم عدوهم الكافر فأعطانيها وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ) والكل عليك وإياك نعني
وما ذكرته عن عمك فاعلم أنه لما بلغه خبرك واستنصارك بالكفار عقد ألويته المنصورة بالله في وسط جامع المنصور بعد أن ختم عليها أهل الله من حملة القرآن مائة ختمة وصحيح البخاري وضجوا عند ذلك بالتهليل
____________________

والتكبير و صلى الله عليه وسلم والدعاء له وللأسلام بالنصر والتمكين والفتح الشامخ المبين فلو سمعت ذلك لعلمت وتحققت أن أبواب السماء انفتحت لذلك وقضى ما هنالك وبلغه كتابك الذي كان هذا جوبا عنه وهو بوسط تامسنا معه من جنود الله وأنصاره وحماة دينه ما يجعل الله فيه البركة ولولا أن الشرع العزيز أمر بتعظيم جنود الإسلام والمباهاة بها والافتخار بكثرتها لما قررنا لكم أمرها إذ لا اعتماد له أيده الله عليها وكذلك هم لا اعتماد لهم إلا على حول الله وقوته ونصره وتأييده والناس على دين الملك وقد قاتلت وأنت في وسط المسلمين في بضع عشرة معركة لم تنصر لك فيها راية فأي نحس وشؤم حلا بديار الروم فإن جلبتهم فالله لك ولهم بالمرصاد ارجع إلى الله أيها المسكين وتب إليه فإنه يقبل التوبة عن عباده في كل وقت وحين ودع عنك كلام من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله وهذه نصيحة إن قبلتها وموعظة إن وفقت إليها والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وهو نعم المولى ونعم النصير وهو حسبنا ونعم الوكيل والسلام انتهت الرسالة
وكان خروج محمد بن عبد الله بجيش البرتغال وفصوله به من طنجة في ربيع الثاني سنة ست وثمانين وتسعمائة قال في المرآة إنهم لما خرجوا إلى بلاد الإسلام ضربوا محلاتهم بالفحص على أقل من مسيرة يوم من مدينة القصر وكانت آصيلا قد تصيرت إليهم قبل ذلك بأشهر يعني بعد فرارهم عنها أيام السلطان محمد الشيخ كما تقدم فعاين أهل القصر الهلكة لقرب العدو منهم وقوته التي لا طاقة لهم بها وفشا النفاق لأجل السلطان محمد بن عبد الله الذي معهم ولأجل بعد صريخ المسلمين فإن السلطان أبا مروان المعتصم بالله كان إذ ذاك بمراكش فاستبطؤوا وصول الخبر إليه ثم مجيئه بعد ذلك فلم يبق لهم تدبير إلا الفرار والتحصن بالجبال وغيرها فقال الشيخ أبو المحاسن يوسف الفاسي رحمه الله وكان إذ ذاك بالقصر لرجل من أصحابه ناد في الناس أن الزموا بلادكم ودوركم فإن عظيم
____________________

النصارى مسجون حيث هو حتى يجيء السلطان من مراكش وإن النصارى غنيمة للمسلمين ومن شاء فليعط خمسين أوقية في النصراني يشير إلى مبلغ قيمة النصراني في الغنيمة فما انتقل النصارى من مكانهم ذلك أكثر من شهر حتى قدم السلطان أبو مروان وكان مريضا اه
وقال في النزهة إن النصارى لما برزوا من طنجة شنوا الغارة على السواحل فأعلم أهلها السلطان أبو مروان وكان بمراكش وشكوا إليه كلب العدو عليهم فكتب السلطان أبو مروان من مراكش إلى الطاغية إن سطوتك قد ظهرت في خروجك من أرضك وجوازك العدوة فإن ثبت إلى أن نقدم عليك فأنت نصراني حقيقي شجاع وإلا فأنت كلب ابن كلب فلما بلغه الكتاب غضب واستشار أصحابه هل نقيم حتى يلحق بنا من خلفنا من أصحابنا فقال له محمد بن عبد الله الرأي أن نتقدم ونملك تطاوين والعرايش والقصر ونجمع ما فيها من العدة ونتقوى بما فيها من الذخائر فأعجب ذلك الرأي أهل الديوان ولم يعجب الطاغية وكتب السلطان أبو مروان لأخيه أبي العباس أحمد وكان نائبه على فاس وأعمالها أن يخرج بجيوش فاس وأحوازها ويتهيأ للقتال ثم كتب إليه أيضا في شأن مؤنة الجيش كتابا يقول فيه من عبد الله المعتصم بالله المجاهد في سبيل الله أمير المؤمنين أبي مروان عبد الملك بن أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد الشيخ الشريف الحسني أيد الله أمره وأعز نصره إلى أخينا الأعز الأنجب بابا أحمد ابن مولانا الوالد حرس الله كريم إخائه سلام كريم ورحمة الله وبركاته أما بعد فإنا كتبناه إليكم من محلتنا السعيدة بتامسنا ولا زائد بحمد الله إلا الخير والعافية والنعم الضافية هذا وإنه ساعة وصوله إليكم تخرجون من الخدام لعمالة مكناسة وقبيلة آزمور وأولاد جلول من يفرض عليهم علف محلتنا المنصورة ومؤنتها ويأمرهم برفعه وإبلاغه إلى مدينة سلا وقدر ذلك صحفة شعير وعشرون مدا من القمح لكل نائبة وصاع من سمن وكبش لكل أربع نوائب ووكد عليهم رعاك الله أن يعتنوا بذلك وبإيصاله إلى المكان المذكور من غير عطلة وهذا ما وجب به الإعلام إليكم والله يرعاكم بمنه والسلام اه
____________________


ثم كتب السلطان أبو مروان للطاغية ثانية وذلك بعد ما وصل إلى القصر إني رحلت إليك ست عشرة مرحلة أما ترحل إلى واحدة فرحل الطاغية من موضع يقال له تاهدارت ونزل على وادي المخازن بمقربة من قصر كتامة وكان ذلك من السلطان أبي مروان مكيدة ثم إن الطاغية تقدم بجيوشه وعبر جسر الوادي ونزل من هذه العدوة فأمر السلطان بالقنطرة أن تهدم ووجه إليها كتيبة من الخيل فهدموها وكان الوادي لا مشرع له سوى القنطرة ثم زحف السلطان أبو مروان إلى العدو بجيوش المسلمين وخيل الله المسومة وانضاف إليه من المتطوعة كل من رغب في الأجر وطمع في الشهادة وأقبل الناس سراعا من الآفاق وابتدروا حضور هذا المشهد الجليل فكان ممن حضره من الأعيان الشيخ أبو المحاسن يوسف الفاسي وغيره
قال في المرآة كان الشيخ أبو المحاسن في ذلك اليوم في أحد الجناحين وأظنه الميسرة من عسكر المسلمين في مقابلة النصارى دمرهم الله قال فوقع في ذلك الجناح انكسار تزحزح به المسلمون عن مصافهم وحملت عليهم النصارى دمرهم الله فثبت الشيخ وثبت من كان معه إلى أن منح الله المسلمين النصر وركبوا أكتاف العدو يقتلون ويأسرون والشيخ لم يتزلزل ولم يلتفت منذ توجه إلى قتالهم حتى فتح الله عليهم اه
ولما التقت الفئتان وزحف الناس بعضهم إلى بعض وحمى الوطيس واسود الجو بنقع الجياد ودخان المدافع وقامت الحرب على ساق توفي السلطان أبو مروان رحمه الله عند الصدمة الأولى وكان مريضا يقاد به في محفة فكان من قضاء الله السابق ولطفه السابغ أنه لم يطلع على وفاته أحد إلا حاجبه مولاه رضوان العلج فإنه كتم موته وصار يختلف إلى الأجناد ويقول السلطان يأمر فلانا أن يذهب إلى موضع كذا وفلانا أن يلزم الراية وفلانا يتقدم وفلانا يتأخر
وقال شارح الزهرة لما توفي السلطان أبو مروان لم يظهر الذي كان سائس المحفة موته فصار يقدم دواب المحفة نحو العدو ويقول للجند السلطان يأمركم بالتقدم إليهم وعلم أيضا بموته أخوه وخليفته أبو
____________________

العباس أحمد بن الشيخ فكتمها ولم يزل الحال على ذلك والناس في المناضلة والمقاتلة ومعانقة القواضب والاصطلاء بنار الطعان واحتساء كؤس الحمام إلى أن هبت على المسلمين ريح النصر وساعدهم القدر وأثمرت أغصان رماحهم زهر الظفر فولى المشركون الأدبار ودارت عليهم دائرة البوار وحكمت السيوف في رقاب الكفار ففروا ولات حين فرار وقتل الطاغية سبستيان عظيم البرتغال غريقا في الوادي وقصد النصارى القنطرة فلم يجدوا إلا آثارها فخشعت نفوسهم وتهافتوا في النهر تهافت الفراش على النار فكان ذلك من أكبر الأسباب في استئصالهم وأعظم الحبائل في اقتناصهم ولم ينج منهم إلا عدد نزر وشرذمة قليلة
وقال في المنتقى المقصور كانت هذه الغزوة من الغزوات العظيمة الوقائع الشهيرة حضرها جم غفير من أهل الله تعالى حتى إنها أشبه شيء بغزوة بدر حدثنا شيخنا أبو راشد يعقوب البدري عمن يثق به أن الرجل من حاضري ذلك المعترك كان يستبق إلى النصراني لينتهز فيه الفرصة فما يصله حتى يجده ميتا اه
وبحث في القتلى عن محمد بن عبد الله المستصرخ بهم والقائد لهم إلى مصارعهم فوجد غريقا في وادي المخازن وذلك أنه لما رأى الهزيمة فر ناجيا بنفسه واضطر إلى عبور النهر فتورط في غدير منه وغرق فمات فاستخرجه الغواصون وسلخ وحشي جلده تبنا وطيف به في مراكش وغيرها من البلاد
وممن وجد صريعا في القتلى يومئذ الفقيه أبو عبد الله محمد بن عسكر السريفي الشفشاوني صاحب الدوحة فإنه كان هرب مع المسلوخ وكان من بطانته فدخل معه بلاد العدو فوجد بين جيف النصارى قتيلا وتكلم الناس في أمره حتى قيل إنه وجد على شماله مستدبر القبلة وفيه يقول الفقيه العلامة أبو عبد الله محمد ابن الإمام الشهير أبي محمد عبد الله الهبطي رحمه الله في منظومته التي نظم فيها أصحاب أبيه معتذرا عن ابن عسكر المذكور ومشيرا إلى توهين ما قيل فيه
( ومنهم الشيخ الذي لا ينكر ** محمد أخو الدهاء عسكر )
____________________


( وإن يكن أتى بذنب ظاهر ** فعرضه من الشكوك طاهر )
( رأيته في النوم ذا بشاره ** وهيئة حسنة وشارة )
وكان التقاء الجمعين يوم الاثنين منسلخ جمادى الأولى سنة ست وثمانين وتسعمائة ويوافقه من التاريخ المسيحي اليوم الرابع من أغشت سنة ثمان وسبعين وخمس عشرة مائة
قال في المنتقى وكان مقدار زمان المقاتلة خمسا وأربعين درجة وقيل اثنتين وخمسين على ما حدثني به بعض الميقاتيين
وقال في المرآة وحصل المسلمون على غنيمة لم يكن قط مثلها بالمغرب إذ لم يتقدم للنصارى خروج به على هذه الصورة إلا أن الغنيمة لم تقسم وإنما انتهبها الناس كما اتفق لهم بحسب القوة والبخت الدنيوي وكان الناس يتوقعون مغبتها لاختلاط الأموال بالحرام فظهر ذلك من غلاء وغيره وكنا نسمع أن البركة رفعت من الأموال من يومئذ
وقد حضر الشيخ أبو المحاسن هذه الغزوة وأبلى فيها بلاء حسنا وتورع عن الغنيمة فلم يتلبس منها بشيء وبلغت قيمة النصراني ما ذكره الشيخ وكان سبب عدم ضبط الغنيمة وقسمها على الوجه المشروع موت السلطان أبي مروان قبل هزيمة النصارى وكان مريضا فاشتغل أخوه أبو العباس أحمد بجمع الكلمة ولم يهتبل بأمر الغنيمة فتم له ما قصد
وقد ساق منويل في تاريخه خبر هذه الوقعة مساقا حسنا فقال لما استولى عبد الملك السعدي المدعو عند أهل المغرب بمولاي ملوك على ملك المغرب وطرد ابن أخيه مولاي محمد المعروف بالأكحل يعني المسلوخ ذهب أولا إلى إصبانيا وتطارح على طاغية الإصبنيول فيليب الثاني في أن يعينه على استرجاع ملكه فامتنع ثم دخل أشبونة وتطارح على طاغية البرتغال سبستيان فأجابه وذهب إلى خاله طاغية الإصبنيول فيليب المذكور آنفا وطلب منه الإعانة على ما هو بصدده فوعده بأن يعطيه من المراكب والعساكر ما يملك به العرائش لأنه كان يرى أنها تعدل سائر
____________________

مراسي المغرب ثم أمده بعشرين ألفا من عسكر الإصبنيول وكان سبستيان قد ساق معه اثني عشر ألفا من البرتغال وثلاثة آلاف من الطليان ومثلها من الألمان ومن متطوعة الإصبنيول وغيرهم عددا كثيرا وبعث إليه البابا صاحب رومة بأربعة آلاف أخرى وبألف وخمسمائة من الخيل واثني عشر مدفعا وجمع سبستيان نحو ألف مركب وجاء إلى قادس
ولما عزم على اقتحام بلاد المغرب تشفعت إليه جدته وأرباب دولته وشيوخ دينه في الرجوع فصم عنهم وكذلك خاله فيليب حذره عاقبة التوغل في أرض المغرب فصم على ذلك كله وجاء إلى قادس ومنها خرج إلى طنجة
وكان محمد بن عبد الله المسلوخ ينتظره هنالك فاجتمع به وزحفوا إلى بلاد المغرب وزحف إليهم السلطان عبد الملك في عساكر المسلمين وكانوا أربعين ألفا وزيادة ومدافعهم أربعة وثلاثين مدفعا وقواد الجيش أبو علي القوري والحسين العلج الجنوي ومحمد أبو طيبة وعلي بن موسى وأخوه أحمد بن موسى الذي كان عاملا على العرائش فجاء في جمعه إلى السلطان عبد الملك وانضم إليه ولما تقارب الجيشان جمع السلطان عبد الملك الناس وخطبهم ثم استدعى النصارى إلى القتال ونصب لهم علامته فأحجموا وكان قصدهم المطاولة وقصد السلطان عبد الملك المناجزة وذلك لأن محمد المسلوخ قد دس إليه من سمه
قال منويل ولما أحس عبد الملك بذلك وأنه لا محالة هالك بذل نفسه للقتال ليموت في الجهاد وكان المسلوخ يتربص كي يهلك عمه قبل اللقاء فتقع الفتنة في عسكر المسلمين لكن جيش النصارى لم تكن لهم مؤنة يطاولون بها فألجأهم ذلك إلى المناجزة ولما انتشبت الحرب هلك عبد الملك للحين
قال منويل وكان أمر هذا الرجل عجبا في الحزم والشجاعة حتى أنه لما مات مات وهو واضع سبابته على فمه كأنه يشير إلى جيشه أن يسكتوا عن الخوض في وفاته حتى يتم أمرهم ولا يضطربوا وكذلك كان فإنهم كتموا موته فانتصروا وظفروا بالنصارى ظفرا لا كفاء له فكانوا يذبحونهم مثل
____________________

الكباش ودهش النصارى وتكبكبت جموعهم وتراكمت أمتعتهم وصناديقهم وخيلهم وسلاحهم بلا ترتيب وزادهم دهشا أن بعض طوابيرهم كان ينادي صاحب صفارته وراءكم وراءكم قطعكم العدو ووقدت النار في بارود النصارى فنفط وانهزموا إلى وادي المخازن فتهافت جلهم فيه فهلكوا والباقي أسره المسلمون
وزعم أن سبستيان هلك تحته في ذلك اليوم أربعة أفراس وكان شابا حدثا وقال لأصحابه إن تروني تروني أمامكم وإن لم تروني فأنا في وسط العدو أقاتل عنكم قال وأبدأ وأعاد في ذلك اليوم إلى أن خر قتيلا وبقي مذكورا عند البرتغال يسمرون بأخباره وذكره شعراء الأوربا في أشعارهم ولا زالوا يذكرونه إلى الآن
وخلفه في ملكه الطاغية الريكي البرتغالي فهو الذي ولي بعده وافتدى جنازته من المسلمين ونقلها إلى سبتة فبقيت هنالك إلى أن هلك الطاغية الريكي وتولى على البرتغال طاغية الإصبنيول فيليب الثاني فصار ملك الدولتين معا وهو خال سبستيان أخو أمه فنقل جنازته من سبتة إلى أشبونة ثم أرخ منويل الوقعة بالتاريخ العربي والعجمي موافقا لما مر فهذا ما ذكره في هذه الوقعة
قال في النزهة توفي السلطان أبو مروان عبد الملك بن الشيخ في زوال اليوم المذكور وبايع الناس أخاه أبا العباس أحمد المنصور بالله كما سيأتي إن شاء الله
قال في درة الحجال فانظر لحكمة الله الواحد القهار أهلك ثلاثة ملوك يوم واحد وهم أبو مروان الشيخ وولد أخيه محمد بن عبد الله المسلوخ والطاغية سبستيان وأقام واحدا وهو أبو العباس المنصور اه
قلت وفي إهلاك الثلاثة وإقامة الواحد إشارة واضحة لإهلاك دين التثليث ونصر دين التوحيد في ذلك اليوم والله تعالى أعلم
ولما بلغت الهزيمة إلى الطاغية الأعظم أعني القائم بالأمر بعد سبستيان لأن التحقيق أنه كان الأعظم يومئذ لما مر بعث إلى المنصور بعد استقلاله
____________________

بالملك وعوده إلى فاس كما سيأتي يلتمس منه الفداء فيمن بقي بيده من الأسارى فأجابه إلى ذلك وحصل له بسببه أموال طائلة وذكر بعضهم أن الأسارى لما ذهبوا إلى بلادهم قال الطاغية لم لم تأخذوا تطاوين والعرائش والقصر قبل أن يصل ملكهم فقالوا له امتنع من ذلك الأمير الذي كان علينا فأمر بهم فأحرقوا جميعا
مضحكة قال في النزهة ذكر بعضهم أن النصارى لما وقعت عليهم الكائنة المذكورة وفنى من فنى منهم ورأى أساقفتهم قلة عددهم وخلاء بلادهم لكثرة من مات منهم أباحوا للعامة فاحشة الزنى ليكثر التناسل ويخلف ما هلك منهم ورأوا ذلك من نصرة دينهم وتقويم أود ملتهم أخزاهم الله اه
وقد وقفت على تاريخ لبعض مؤرخي الفرنج الإنجليزيين من أهل جزيرة مالطة فرأيته قد ألم بخبر هذه الوقعة وصرح بأنها كانت سبب هلاك البرتغال وتلاشي دولتهم وبطلان كرسي سلطنتهم حتى استضافهم إليه طاغية الإصبنيول بعد نحو سنتين وصيرهم من جملة رعيته ومن فصول كلامه بعد أن ذكر أن أكثر البرتغال قتلوا في ذلك اليوم ما نصه وكانت يعني الوقعة المذكورة وقعة هائلة ويوما مشؤوما وبالجملة فقد قتل في ذلك اليوم سائر أشراف البرتكيسيين ولم يتخلف منهم أحد فلما بطل كرسي سلطنتهم قام وقتئذ فيليبس الثاني ملك إصبانيا وتزوج ملكتهم وحكم على البلاد كلها اه كلامه إلا أنه ذكر أن السبب في استغاثة السلطان محمد بن عبد الله بالبرتغال هو تغلب الإصبنيوليين على مملكته وانتزاعها من يده وهو كذب أو غلط ولعله تصحف عليه لفظ الإصطنبوليين بالإصبنيوليين إذ قد تقدم أن السلطان أبا مروان إنما استولى على المغرب بجيش الترك المنفذ من قبل السلطان سليم العثماني والله أعلم
وقد ألم بهذه الوقعة أيضا لويز مارية في كتابه الموضوع في أخبار الجديدة لكنه لم يبسطها على عادته في السكوت عن ما يكون من الظهور في جانب المسلمين وإشاعة ما يكون من ذلك في جانب النصارى بل
____________________

والزيادة فيه ومع ذلك فقد قال في وصفها كلاما هذه ترجمته وقد كان مخبوءا لنا في مستقبل الأعصار العصر الذي لو وصفته كما وصفه غيري من المؤرخين لقلت هو العصر النحس البالغ في النحوسة الذي انتهت فيه مدة الصولة والظفر والنجاح وانقضت فيه أيام العناية من البرتغال وانطفأ مصباحهم بين الأجناس وزال رونقهم وذهبت النخوة والقوة منهم وخلفها الفشل وانقطع الرجاء واضمحل إبان الغنى والربح وذلك هو العصر الذي هلك فيه سبستيان في القصر الكبير من بلاد المغرب اه فهذا كلام هذا البرتغالي قد تحفظت عليه وأديت ترجمته كما هي ليعتبر به من يقف عليه والحق ما شهدت به الأعداء
ولما تمت للسلطان أبي العباس المنصور البيعة بوادي المخازن طالبه الجيش بأرزاقهم واستنجزوا أعطياتهم حسبما جرت به عادة من قبله معهم فطالبهم هو بخمس الغنيمة لأنهم جعلوها نهبى ولم يقتسموها على الوجه الشرعي كما سبق فصعب استخراجها منهم لعدم التعيين وجرأة الناس على الغلول فسامحهم فيها وسامحوه في عطائهم
ثم أمر المنصور بتوجيه كتب البشارات إلى الآفاق بهذا الفتح المبين فكتب إلى صاحب القسطنطينية العظمى وإلى سائر ممالك الإسلام المجاورين للمغرب يعرفهم بما أنعم الله به من إظهار الدين وهلاك عبدة الصليب واستئصال شوكتهم ورد كيدهم في نحرهم فوردت عليه الأرسال من سائر الأقطار مهنئين له بما فتح الله على يده حسبما نذكره بعد إن شاء الله بقية أخبار السلطان أبي مروان وسيرته
قال ابن القاضي كان سبب وفاة السلطان أبي مروان رحمه الله أنه سقي سما وذلك أن قائد الترك الذين كانوا معه واسمه رمضان العلج بعث إلى بعض قواده أن يتلقاه بكعك مسموم هدية للسلطان المذكور وقت مرورهم عليه وقصد بذلك قتله وذلك بعد أخذه به مدينة فاس ليثبت لهم الملك بها فلم يكمل الله مرادهم لما شهدوه من عظيم جيش المغرب فهذا كان سبب في موته رحمه الله اه ولما توفي حمل إلى مراكش فقبر بها وكانت مدة
____________________

خلافته أربع سنين ومن حجابه القائد رضوان العلج وكتابه محمد بن عيسى ومحمد بن عمر الشاوي وقضاته قضاة ولد أخيه
وكان يتزيا بزي الترك ويجري مجراهم في كثير من شؤونه وكان يتهم بالميل إلى الأحداث وربما كان يظهر ذلك وكان أخوه أبو العباس المنصور خليفته على فاس كما مر وكانت له فيه محبة تامة وكان يظهر أنه ولي عهده ويرشحه لذلك كثيرا حسبما أفصحت عنه رسائله التي كان يبعث بها إليه
ولنذكر ما كان في هذه المدة من الأحداث
ففي سنة ثمان وعشرين وتسعمائة كان الوباء بالمغرب كما قدمنا
وفي سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة نزل مطر غزير بمراكش حتى امتلأت منه الآبار وتهدمت الدور وصار الناس يؤرخون بعام الآبار
وفي سنة إحدى وستين وتسعمائة توفي الشيخ أبو محمد عبد الله بن ساسي من أولاد أبي السباع ودفن بزاويته على ضفة وادي تانسيفت من أعمال مراكش وقبره مزارة مشهورة وعليه بناء حفيل
وفي سنة ثلاث وستين وتسعمائة توفي الشيخ الإمام أبو محمد عبد الله ابن محمد الصنهاجي الطنجي المعروف بالهبطي وكانت وفاته في ذي القعدة من السنة المذكورة وكان رحمه الله من أهل الورع والدين والاتباع للسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن فوائده ما حكاه عنه في الدوحة قال سألت شيخنا الإمام أبا محمد عبد الله الهبطي عن الشيخ أبي محمد الغزواني وكان من أصحابه فقلت له يا سيدي ما لسائر المشايخ من أصحاب الشيخ الغزواني كأبي الحجاج التليدي وأبي البقاء اليالصوتي وأبي الحسن علي بن عثمان وغيرهم يصرحون بقبطانية الشيخ وينسبونك أنت إلى التقصير في حقه حيث لم تقل بما يقولونه فقال لي رضي الله عنه قد علمت معنى الشهادة في الشرع ما هي فقلت نعم فقال لي كيف لي أن أشهد لأحد بمقام معين وأنا لم أسلكه ولم أتحققه ولم يكشف لي عنه فإن فعلت فقد شهدت شهادة الزور فقلت له وأي شهادة تشهد في الشيخ
____________________

فقال لي أشهد أنه من العارفين بالله تعالى وأنه كان يجيب بالحال أكثر مما يجيب بالمقال انتهى قلت وهذا شأن أهل الدين والورع المحتاطين لدينهم لا يقدمون على أمر ولا يتفوهون به حتى يكونوا منه على بصيرة وتجد كثيرا ممن عقله وراء لسانه يتقولون على الله في غيبه ويخبطون خبط العشواء وينسبون المقامات والأحوال لمن ليس منها في قبيل ولا دبير نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا بمنه
وفي سنة أربع وستين وتسعمائة في يوم الأربعاء الثامن والعشرين من رمضان منها كسفت الشمس الكسوف الكلي العظيم
وفي سنة خمس وستين وتسعمائة كان بالمغرب وباء عظيم كسا سهله وجباله وأفنى كماته وأبطاله واتصل أمره إلى سنة ست وستين بعدها
وفي سنة إحدى وسبعين وتسعمائة توفي الشيخ أبو العباس أحمد بن موسى الجزولي ثم السملالي الشهير ببلاد السوس أخذ عن الشيخ أبي فارس عبد العزيز التباع والشيخ أبي العباس أحمد بن يوسف الراشدي ثم الملياني
وفي سنة ست وسبعين وتسعمائة ليلة عبد الأضحى منها توفي الشيخ أبو زيد عبد الرحمن بن عياد الصنهاجي ثم الفرجي الدكالي المعروف بالمجذوب الولي المشهور دفين مكناسة الزيتون كان مأوى سلفه بمدينة تيط قرب آزمور ثم رحل هو ووالده إلى مكناسة فمات بها
وفي سنة سبع وسبعين وتسعمائة بعد صلاة الجمعة من أول يوم من المحرم منها زلزلت الأرض زلزالا شديدا وفزع الناس لذلك وفي هذه السنة في الحادي والعشرين من ربيع الأول منها توفي الشيخ أبو محمد عبد الله بن حسين من شرفاء بني آمغار دفين تامصلوحت وقد تقدم ما جرى بينه وبين السلطان الغالب بالله
وفي سنة ثمان وسبعين وتسعمائة وذلك أواخر شوال منها الموافق لأواسط مارس العجمي حدث بالمغرب جراد كثير وفي أيام السلطان الغالب بالله ظهر نجم لم يكن معهودا ثم ظهرت في أيام ابنه محمد بن عبد الله أعلام حمر في الجو من الناحية الشرقية تبعتها في الأرض أجناد الترك التي
____________________

جاء بها السلطان أبو مروان من الجزائر كما مر وفي أيام السلطان أبي مروان المذكور ظهر الكوكب ذو الذنب الكبير في برج العقرب وطلع أياما ثم غاب وظهر بعده كوكب آخر ذو ذنب أصغر منه وعلى أثره كان خروج البرتغال من طنجة ووقعة وادي المخازن كما مر والله تعالى أعلم بغيبه الخبر عن دولة السلطان أبي العباس أحمد المنصور بالله السعدي المعروف بالذهبي وأوليته ونشأته
كانت ولادة السلطان أبى العباس أحمد المنصور بالله ابن السلطان أبي عبد الله الشيخ بفاس سنة ست وخمسين وتسعمائة وأمه الحرة مسعودة بنت الشيخ الأجل أبي العباس أحمد بن عبد الله الوزكيتي الوارززاتي وكانت من الصالحات الخيرات وستأتي بقية أخبارها
وذكر في المنتقى قال مرض المنصور في صغره مرضا شديدا حتى أيس منه فرأت أمه في النوم شخصا يقول لها أزيريه الشيخ أبا ميمونة فإنما أصابته عين فأزارته إياه فعوفي وكان أبوه المهدي ينبه على أنه واسطة عقد أولاده
قال في مناهل الصفا حدثني الشيخ المسن القائد أبو محمد مؤمن ابن الغازي العمري أن المنصور أقبل يوما في حياة أبيه وهو صبي والمجلس غاص بالأكابر فاندفع يخترق الصفوف قال فصاح بي المهدي إذ ذاك وأنا أصغر القوم فقال يا مؤمن ارفعه فيسنفعك أو ينفع عقبك فابتدرت حمله وكان كذلك فإن المنصور لما أفضت إليه الخلافة كان القائد مؤمن ابن الغازي عنده بالحظوة الرفيعة والمنزلة العالية
ونشأ المنصور رحمه الله في عفاف وصيانة وتعاط للعلم ومثافنة لأهله عليه وكانت مخايل الخلافة لائحة عليه من لدن عقدت عليه التمائم إلى أن تم أمره حدثنا الفقيه العالم سفير الخلفاء أبو محمد عبد الله بن محمد بن
____________________

محمد بن علي الجزولي الدرعي أنه اجتمع ببعض أهل المكاشفة بمصر فسأله عن السلطان أبي عبد الله الشيخ وأولاده قال فسميتهم له واقتصرت على الكبار منهم فلم أذكر المنصور لأنه كان أصغرهم سنا يومئذ فقال لي بقي منهم من لم تذكره فقلت له احمد فقال ذاك واسطة عقدهم ووجه صفقتهم فكان كذلك
وقال الشيخ أبو فارس عبد العزيز الفشتالي لما أخذ المهدي البيعة لولده السلطان الغالب بالله كما تقدم استقدمه من فاس وأوصاه بالمنصور جدا وقال له إن الفائدة فيه أو كما قال وهكذا كان ينبه على أنه واسطة عقد أولاده وكان المنصور رحمه الله يحدث أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وأنواره تشرق قال فوقع في نفسي أن أسأله عن نصيبي من الخلافة فكاشفني صلى الله عليه وسلم بما في خاطري وأجابني بما حقق لي نيلها ثم أشار لي بأصابعه الثلاثة الشريفة ضاما الإبهام منها إلى السبابة والوسطى وقال أمير المؤمنين اه
وقال الإمام أبو زيد عبد الرحمن بن محمد التامنارتي في كتابه الفوائد الجمة بإسناد علوم الأمة أخبرني الفقيه أبو العباس أحمد بن عبد الله الدغوغي صاحب الحسبة بتارودانت أنه رأى في منامه كأنه في حلقة يسرد فيها صحيح البخاري بموضع من دار الخلافة بها وأبو العباس المنصور يومئذ بها وذلك قبل ولايته قال فرأيت في طرة الكتاب هذا اللفظ ورى الزند فكنت أتأمل معناه فالتفت فإذا برجل انعزل ناحية على طنفسة فوقع في نفسي أن أسأله فأتيته بالكتاب وقلت له يا سيدي ما معنى هذه الكلمة التي في طرة هذا الكتاب فقال لي قل لمولاك أحمد أنا الذي أوريت زندك ما دمت على الحق فإن عدلت عنه فأنا بريء منك فقلت له ومن أنت يا سيدي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمض إلا قليل حتى ولي الخلافة وحمدت سيرته قال أبو زيد وناهيك بزند أوراه النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أن ولاية الإسلام لا تنعقد إلا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وقد اشتهرت المرائي بذلك
____________________


ويقرب من هذا ما ذكره صاحب ابتهاج القلوب في مناقب الشيخ المجذوب أن الشيخ الصالح أبا عبد الله الملقب بكدار ابن الشيخ أبي زكرياء يحيى بن علال المالكي البوخصيبي رأى النبي صلى الله عليه وسلم يوم فشكا إليه أولاد مطاع لما رآهم عليه من الفساد في الأرض فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يأتيهم أحمد فكان كذلك أتاهم عقب ذلك السلطان أبو العباس المنصور فأخذهم وفل جمعهم اه وأخبار المنصور من هذا النمط كثيرة
وكان رحمه الله طويل القامة ممتلئ الخدين واسع المنكبين تعلوه صفرة رقيقة أسود الشعر أدعج أكحل ضيق البلج براق الثنايا حسن الشكل جميل الوجه ظريف المنزع لطيف الشمائل
وكانت بيعته بعد الفراغ من قتال النصارى بوادي المخازن يوم الاثنين منسلخ جمادى الأولى سنة ست وثمانين وتسعمائة واجتمع عليها من حضر هناك من أهل الحل والعقد ثم لما قفل المنصور من غزوته تلك ودخل حضرة فاس يوم الخميس عاشر جمادى الآخرة من السنة المذكورة جددت له البيعة بها ووافق عليها من لم يحضرها يوم وادي المخازن ثم بعث إلى مراكش وغيرها من حواضر المغرب وبواديه فأذعن الكل للطاعة وسارعوا إلى الدخول فيما دخلت فيه الجماعة
قال الفشتالي لما كانت وقعة وادي المخازن ونصر الله دينه وكبت الكفر وأهله واستوسق الأمر للمنصور كتب إلى صاحب القسطنطينية العظمى وهو يومئذ السلطان مراد بن سليم العثماني وإلى سائر ممالك الإسلام المجاورين للمغرب يعرفهم بما أنعم الله به عليه من إظهار الدين وهلاك عبدة الصليب واستئصال شأفتهم فوردت عليه الأرسال من سائر الأقطار مهنئين له بما فتح الله على يده وكان أول من وفد عليه رسول صاحب الجزائر ثم تلته أرسال طاغية البرتغال وهو الريكي القائم بأمرهم بعد هلاك سبستيان وليس خاله وإنما خاله طاغية الإصبنيول فيليب الثاني الذي جمع المملكتين معا بعد هلاك الريكي المذكور وبعد وقعة وادي المخازن بثلاث سنين فقدموا بهدية عظيمة وضعوها يوم دخولهم إلى فاس على الكراريص والعجل فعجب الناس منها
____________________

عجبا بليغا وكان ذلك اليوم يوما مشهودا وكان من جملة ما فيها ثلاثمائة ألف دكات من ريال الفضة وأما الطرف النفيسة والأثاث الرفيع فشيء لا يحصى ثم وردت أرسال طاغية الإصبنيول صاحبة قشتالة بهدية عظيمة منها اليواقيت الكبار التي انتزعها الطاغية من تاج آبائه وصنيديق مملوء من الدر الفاخر وقضب الزمرد وغير ذلك وتكلم الناس فيما بين الهديتين أعني هدية البرتغالي وهدية الإصبنيولي أيهما أعظم ولم يهتد أهل العقل والمعرفة إلى مقدار التفاوت بينهما ثم قدمت أرسال السلطان مراد العثماني ومعهم هدية وهي سيف محلى لم ير مثله مضاء وصفاء متن ثم قدمت أرسال طاغية أفرانسة ومعهم هدية عظيمة ولم تزل الوفود مترادفة بباب المنصور والأرسال تصبح وتمسي على أعتاب تلك القصور إلى أن لم يبق أحد ممن تتشوف النفوس إليه وحينئذ اطمأنت بالمنصور الدار وطاب المقام وتم القرار
وفي جمادى الأولى سنة سبع وثمانين وتسعمائة مرض المنصور مرضا مخوفا وطال به حتى كادت الأمور تختل ثم تداركه الله على يد الحكيم الماهر أبي عبد الله محمد الطبيب ولما أبل من مرضه أحسن إلى الطبيب المذكور ونثر عليه خروجه من الخلع ما لا يحصى وكان يوم خروجه يوما مشهودا وفي ذلك يقول الفقيه الأديب أبو عبد الله محمد بن علي الهوزالي المعروف بالنابغة
( تردى أذى من سقمك البر والبحر ** وضجت لشكوى جسمك الشمس والبدر )
( وبات الهدى خوفا عليك مسهدا ** وأصبح مذعور الفؤاد الندى الغمر )
( فلما أعاد الله صحتك التي ** أفاق بها من غمه البدو والحضر )
( تراءت لنا الدنيا بزينة حسنها ** وعاد إلى إبانه ذلك البشر )
( وصار بك الإسلام في كل بلدة ** يهني ويدعي أن يطول لك العمر )
( وصحت لنا الآمال بعد اعتلالها ** وعادت إلى الإيناع أغصانها الخضر )
( ولا غرو إن صامت على سمط الندى ** إذا اغبر وجه الأرض واحتبس القطر )
( لبيت أبي العباس أنضت عجافها ** قديما فخافت أن يعاودها الضر )
( لئن صدئت بيض المعالي لقد غدت ** تسيء الكماة البيض واللدن السمر )
____________________


( بقيت لهذا الدين تحمي ذماره ** ويحميك رب العرش ما بقي الدهر ) عقد المنصور ولاية العهد لابنه محمد الشيخ المدعو المأمون
قال الفشتالي لما أبل المنصور من مرضه المذكور وعاد إلى حاله من الصحة أجمع رأي أعيان الدولة واتفقت كلمة كبرائها على أن يطلبوا منه تعيين من يلي الأمر بعده ويكون ولي عهده وكان المنصور مهيبا لا يقدر أحد على مواجهته بمثل هذا فاتفقوا على أن يكون البادئ لذلك القائد المؤمن بن الغازي العمري لما له من الإدلال على المنصور بطول الخدمة وسالف التربية فقال له القائد المذكور يا مولانا الله تعالى حفظ الإسلام بإبلالك من هذا المرض وعصم الدين بإبقائه عليك وقد بقي الناس في أيام سقمك في حيرة عظيمة ودخلهم من الدهش ما لا يخفى عليك فلو عينت لنا من أبنائك القساورة من تجتمع كلمة الإسلام عليه ويشار بالخلافة إ ليه لكان أولى وأليق بسياسة الملك وإن ابنك الأبر أبا عبد الله محمد المأمون حقيق بذلك وجدير بسلوك تلك المسالك لما فيه من خلال الخير وخصال السيادة زيادة على ما هو عليه من التيقظ في أموره والحزم في شؤونه وقد ظهرت للناس محاسن سيرته واطلعوا على جميل سريرته فاستحسن المنصور ذلك وأعجبه ما أشار عليه به فقال له سوف أستخير الله في ذلك فإن يكن من عند الله يمضه قلت هذا الذي حكاه الفشتالي على لسان القائد مؤمن في حق المأمون المذكور هو بخلاف الواقع كما ستقف عليه من أحوال المأمون بعد هذا إن شاء الله ولكن المؤرخين والشعراء يمدحون ويقدحون بحسب أغراضهم لا بحسب الواقع غالبا لا سيما إذا كان من يعنونه بذلك مخدوما لهم ومنعما عليهم فلا ينبغي لمن وقف على كلام هؤلاء الصنف منهم أن يعتمد عليه إلا بعد التثبت والتبصر والله تعالى الهادي إلى الصواب بمنه ثم لبث المنصور بعد هذه الإشارة أيام يستخير ربه في ذلك ويستشير من يعلم أهليته للمشورة من أهل العلم والصلاح فلما انقضت أيام الاستخارة وتواطأت الآراء على حسن تلك الإشارة جمع المنصور أعيان حاضرة مراكش وأعيان مدينة فاس
____________________

وغيرهم من أشياخ القبائل بوجوه الناس من أهل الحواضر والبوادي وأوصى بالعهد لولده المذكور أبي عبد الله محمد المأمون وذلك يوم الاثنين منسلخ شعبان سنة سبع وثمانين وتسعمائة
وكان المأمون إذ ذاك خليفة أبيه على فاس فلم يحضر هذه البيعة فبعث إليه المنصور بعد ذلك ليقدم من فاس ويبايع بحضرته ولم يقنعه ما كان عقد له من البيعة وهو غائب ولما بعث إليه خرج المنصور بعسكره إلى تانسيفت خارج مراكش ثاني عشر صفر سنة تسع وثمانين وتسعمائة ولم يزل بعسكره هناك متلوما ومنتظرا لقدوم المأمون إلى أن قدم غرة جمادى الثانية من السنة المذكورة فكانت ملاقاتهما من عجائب الزمان ولما اصطف جيش المنصور وجيش المأمون ترجل المأمون عن فرسه وتقدم حافي القدم فعفر وجهه بين يدي والده ثم قبل رجله والمنصور على فرسه واقفا بين الصفين فدعا له بخير وأظهر الفرح بمقدمه وكان المأمون قد عبأ جيشه تعبية لم ير مثلها ورتبهم ترتيبا حسنا في لباسهم وسائر أمورهم فسر المنصور بذلك وبعد أيام من بلوغه أمر به فأجلس في سرادقه الأعظم الذي لم يكن للملوك قبله مثله كما سيأتي وأمر أهل الحل والعقد فازدحموا على تقبيل يده واقتضيت منهم الأيمان بحضرته وقام الشعراء فأفصحوا عن وصف الحال وغمر المنصور الناس بالنوال وكان ذلك اليوم يوما مشهودا وبعد أيام منه أمر المنصور المأمون أن يرجع إلى حضرة فاس فرجع ودخل المنصور حضرته وتم غرضه الذي قصده ثورة داود بن عبد المؤمن بن محمد الشيخ والسبب في ذلك
قال الفشتالي لما وقعت البيعة للمأمون وتكامل أمرها ثار الرئيس الأجل أبو سليمان داود بن عبد المؤمن ابن السلطان محمد الشيخ وهو ابن أخي المنصور وفر إلى جبل سكسيوة وشق العصا ودعا إلى نفسه فانثالت عليه أوشاب من البربر وغيرهم ونجم أمره وأثرت في إذن الرعية جعجعته فبعث إليه المنصور قائده الزعيم أبا عبد الله محمد بن إبراهيم بن بجة فناوشه
____________________

القتال بجبل سكسيوة فهزمه وفر إلى جبل هوزالة فتحزبوا عليه وقويت بهم شوكته وأخذ يشن لهم الغارات على أهل درعة إلى أن ضاقوا به ذرعا فشكوا أمره إلى المنصور فبعث إليه قائده الذي ذكر فلم يزل في مقابلته ومقاتلته إلى أن شرده عن جبل هوزالة ففر داود منه إلى الصحراء واستقر به الرحيل بها عند عرب الودايا من بني معقل فلم يزل عندهم إلى أن هلك سنة ثمان وثمانين وتسعمائة وكفى المنصور أمره حدوث النفرة بين المنصور والسلطان مراد العثماني وتلافي المنصور لذلك
قد علمت ما كان من التجاء عبد الملك المعتصم وأحمد المنصور إلى السلطان سليمان العثماني وتطارحهما عليه حتى أمدهما بالجيش الذي كان سببا في تملكهما المغرب ولما صفا الأمر لعبد الملك أهمل جانب العثماني ولم يكاتبه بشيء ولا عرج عن ساحته ثم لما ملك المنصور وكتب إلى النواحي بخبر وقعة وادي المخازن كتب إلى السلطان مراد في جملتهم فبعث السلطان المذكور إلى المنصور بالهدية التي تقدم ذكرها وكان المنصور استقلها و أنف منها فتشاغل عن الوفد وتركهم مهملين بحضرته وتأخر عن جواب السلطان مراد فكان ذلك سببا للنفرة وكان وزير البحر للعثماني واسمه الرئيس علي علوج يبغض المنصور فلم يزل يسعى به عند سلطانه ويذكره ما كان من أبيه الشيخ من القدح في ولاية الترك والطعن عليهم وقال له في ذلك قد ضاع صنيعك في هذا الغادر وصنيع والدك من قبلك ولم يزل يفتل له في الذروة والغارب ويهون عليه أمر المغرب حتى أذن له في توجيه العمارة إليه ومنازلته والأخذ بآفاقه إلى أن يستأصل أمر المنصور ويخمد جمرته ويقال إن السلطان مرادا أمر وزيره المذكور أن يذهب بالعمارة إلى الجزائر فتكون هنالك ثم يتقدم بالعساكر في البر إلى المغرب فأخذ الوزير في التأهب لذلك واتصل الخبر بالمنصور على يد بعض قناصل
____________________

النجليز فارتحل إلى فاس من حينه وشحن الثغور وملأ المراسي وكان على أهبة وكمال استعداد وبعث أرساله إلى السلطان المذكور بهدية عظيمة تلافيا لما فرط واعتذارا عما سلف وكان من جملة أرساله القائد الأنجد أبو العباس أحمد بن ودة العمراني والكاتب الشهير أبو العباس أحمد بن يحيى الهوزالي فركبوا البحر من مرسى تطاوين قاصدين القسطنطينية العظمى وبينما هم في أثناء الطريق على ثبج البحر لقيهم الوزير علوج في أسطوله قاصدا ديار المغرب عازما على منازلة المنصور به فلما رآهم سقط في يده وأيقن بخيبة مسعاه فرام صدهما عما قصدا إليه وأيأسهما من تدارك الأمر وقال لهما إن الخرق قد اتسع على الراقع ولو كان لصاحبكم غرض في المسألة ما بقي أصحابنا بأبوابه كالكلاب والبادي أظلم فلم يزل الوزير علوج بالقائد ابن ودة إلى أن صرفه عن رأيه ورده معه وترك الهوزالي يبلغ الرسالة والهدية ظنا منه أن صغير السن لا يحسن مخاطبة الملوك العظام وابن ودة الذي كان عنده مظنة لكمال التدبير ومثافنة الملوك رده معه فلما انتهى الهوزالي إلى السلطان مراد ودخل عليه أظهر من نبله ولطف مخاطبته ما خلب به قلب السلطان المذكور واستل السخيمة من صدره واعتذر له عن تأخر المنصور عن الجواب بما لا يعود بوهن على مخدومه ولا يفيد غلبة خصمه فقبل السلطان مراد الاعتذار وتقبل الهدية بقبول حسن وكتب مع الهوزالي إلى الوزير علوج بالرجوع عن منازلة المنصور فرجع بها الهوزالي يطير سرورا ولم يغب عن علوج إلا نحو الشهر حتى قدم عليه بأمر الملك فقرع لها علوج سن الندم وأسف على تفريطه في الهوزالي وتركه وبعث السلطان مراد رسله مع الهوزالي إلى المنصور يلومه على التراخي في أمور الملوك فلما قدموا عليه أكرم وفادتهم وأحسن نزلهم وردهم مكرمين إلى مرسلهم وبعث معهم الفقيه الإمام قاضي الجماعة بحضرة مراكش أبا القاسم ابن علي الشاطبي والقائد الأنجد أبا زيد عبد الرحمن بن منصور الشيظمي المريدي فلما وردوا على خاقان الترك فرح بهم كل الفرح ورتب الشاطبي كلاما بليغا أعرب فيه عن فضل الدولتين وقرر فيه حق أهل البيت وأطرى
____________________

المنصور وحض فيه على اتحاد كلمة الإسلام وقرأ ذلك على السلطان مراد فاهتز لسماعه ثم بعد أيام أحسن إليهم وأجزل صلتهم وردهم مكرمين إلى مرسلهم
وقال صاحب خلاصة الأثر كان المنصور موادعا لسلاطين آل عثمان فيرسل إليهم بالهدايا في كل سنة وكانوا هم يرسلون إليه بالمكاتيب والخلع السنية حتى إن السلطان مراد بن سليم كتب إليه أثناء مكاتيبه ملك علي العهد أن لا أمد يدي إليك إلا للمصافحة وإن خاطري لا ينوي لك إلا الخير والمسامحة وكانت رسله دائما تأتي إلى القسطنطينية من جانب البحر ويمكثون زمانا طويلا ويتعهدون الوزراء ومن له قرب من الدولة من جملتهم الرئيس الأديب محمد الأمين الدفتري فقد ذكر صاحب خلاصة الأثر أن هذا الرئيس كان يجمع نفائس الكتب ويبعث بها إلى المنصور فبسبب ذلك كانت المراسلات بينهما غير منقطعة وقد ذكر صاحب خلاصة الأثر في ترجمة الرئيس المذكور بعض تلك المراسلات فانظره
ولما تكامل هذا الغرض وصح جسم الدولة من المرض ورجعت الأرسال في أحسن الأحوال عاد المنصور إلى مراكش وفي يوم خروجه من فاس خرج أعيان أهلها ومشيخة العلم بها وقرئ البخاري بين يديه سردا على عادة الخلفاء في ذلك وكان ذلك كله سنة تسع وثمانين وتسعمائة إيقاع المنصور بعرب الخلط والسبب في ذلك
قد قدمنا في أخبار الدولة المرينية ما كان لهؤلاء الخلط من الاعتزاز والدالة عليها بسبب ما كان لهم من الشوكة والمصاهرة مع ملوكها ولما أدبرت دولة بني مرين واستولى على ملكهم أبو عبد الله محمد الشيخ المهدي انحاشوا إليه وأظهروا الخدمة والنصيحة فلما جاء أبو حسون الوطاسي بجيش الترك حسبما شرحناه قبل أوقعوا الهزيمة على المهدي لأبي
____________________

حسون كما مر فلما غلب المهدي على المغرب وصفا له أمره خلعهم من الجندية ووظف عليهم الخراج ومحا اسمهم من ديوان الخدمة ونقل أعيانهم إلى مراكش واتخذهم رهائن عنده ولم يزل الأمر على ذلك إلى أيام المنصور فرأى جلادهم يوم وادي المخازن وحسن بلائهم فاختار النصف منهم ورده إلى الجندية وأبقى نصفهم الآخر في غمار الرعية ونقلهم إلى آزغار فاستوطنوه حينا من الدهر ثم عاثوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد ومدوا أيديهم إلى أولاد مطاع فنهبوهم وضايقوا بني حسن فكثرت الشكاية بهم إلى المنصور فضرب عليهم سبعين ألفا غرامة فلم يزدادوا إلا عتوا وشدة فأرسل إليهم ليبعثوا طائفة منهم إلى تيكورارين فامتنعوا من ذلك فحينئذ بعث إليهم القائد موسى بن أبي جمدي العمري فانتزع منهم الخيل وأبقاهم رجالة ثم حكم السيف في رقابهم واستأصل جمهورهم فمن ثم خضدت شوكتهم ولانت للغامز قناتهم استيلاء المنصور على بلاد الصحراء تيكورارين وتوات وغيرهما
لما استقر المنصور بمراكش مرجعه من فاس وأمن من هجوم الترك على المغرب طمحت نفسه إلى التغلب على بلاد تيكورارين وتوات من أرض الصحراء وما انضاف إلى ذلك من القرى والمداشر إذ كان أهل تلك البلاد قد انكفت عنهم أيدي الملوك ولم تسسهم الدول منذ أزمان ولا قادهم سلطان قاهر إلى ما يراد منهم فسنح للمنصور أن يجمع بهم الكلمة ويردهم إلى أمر الله فبعث إليهم القائد أبا عبد الله محمد بن بركة والقائد أبا العباس أحمد ابن الحداد العمري المعقلي في جيش كثيف فقطعوا إليهم القفر من مراكش وانتهوا إليهم على سبعين مرحلة منها فتقدموا إليهم أولا بالدعاء للطاعة والأعذار والأنذار فامتنعوا فنازلوهم وقاتلوهم وطالت الحرب بينهم ياما ثم كان الظهور لجيش المنصور فأوقعوا بهم وأثخنوا فيهم إلى أن أذعنوا للطاعة وصاروا في حزب الجماعة و أنهى خبر الفتح إلى المنصور
____________________

فسر بذلك سرورا عظيما وقال الشعراء في ذلك وعم الفرح بلاد المغرب وكان ذلك سنة تسعين وتسعمائة وبعد هذا تشوفت نفس المنصور إلى الاستيلاء على بلاد السودان فكان من أمرها ما نذكره إن شاء الله
اعلم أن هؤلاء السودان هم من نسل حام بن نوح عليه السلام باتفاق النسابين والمؤرخين ويجاور البربر بأرض المغرب منهم أمم كثيرة من أعظمها أهل مملكة غانة وهم المتصلون بالبحر المحيط من جهة الغرب على مصب النيل السوداني فيه وتتصل بهم من جهة الشرق أمة أخرى تعرف بصوصو بصادين أو سينين مهملتين مضمومتين ثم بعدها أمة أخرى يقال لها مالي ثم بعدها أمة أخرى تسمى كوكو ويقال كاغو ثم بعدها أمة أخرى تعرف بتكرور ويقال لهم أيضا سغاي ثم بعدها أمة أخرى تدعى كانم وهم أهل مملكة برنو المجاورة لإفريقية من جهة قبلتها ثم بعدها أرض النوبة المجاورة لبلاد مصر وهكذا إلى آخر الشرق أمم لا يحصيهم إلا خالقهم
فأما أهل مملكة غانة فقد كانوا في صدر الإسلام من أعظم أمم السودان أسلموا قديما وكان لهم ملك ضخم وكانت حاضرة ملكهم هي غانة وهي مدينتان على ضفتي النيل السوداني من أعظم مدن العالم وأكثرها عمرانا ذكرها صاحب نزهة المشتاق وصاحب المسالك والممالك وغيرهما
وقال الفقيه الأديب أبو العباس أحمد بن عبد المؤمن القيسي الشريشي في شرح المقامات الحريرية ما نصه غانة بلد من بلاد السودان وإليها ينتهي التجار يعني من المغرب والمدخل إليها من سجلماسة ومن سجلماسة إليها ذهابا مسيرة ثلاثة أشهر ومن غانة إلى سجلماسة إيابا مسيرة شهر ونصف ودون ذلك وسبب ذلك أن الرفاق تتجهز إليها من سجلماسة بالأمتعة والأثقال فتباع في غانة بالتبر فمن سافر إليها بثلاثين حملا يرجع منها بثلاثة أحمال أو بحملين واحد لركوبه وثان للماء بسبب المفازة التي في طريقها
____________________

حدثني غير واحد من تجارها أنهم يقطعون المفازة في ستة عشر يوما لا يرون فيها ماء إلا على ظهور الإبل فأثمان أحمال الثلاثين جملا يجتمع فيها من التبر ما يجعل في مزود واحد فيطوون المراحل للخفة قال وغانة بلد مملكة السودان وانتشر الإسلام في أهلها وبها مدارس للعلم وبها من تجار المغرب كثير يدخلون للتجارة فيصيبون الخصب والأمن وكثرة المتاجر فيشترون بها خدما للتسري ويقيمون بها عند أميرها في غاية الكرامة والإماء فيها قد جعل الله فيهن من الخصال الكريمة في خلقهن وخلقهن فوق المراد من ملاسة الأبدان وتفتق السواد وحسن العينين واعتدال الأنوف وبياض الأسنان وطيب الروائح اه
وقال ابن خلدون كان في غانة فيما يقال ملك ودولة لقوم من العلويين يعرفون ببني صالح
وقال صاحب نزهة المشتاق أنه صالح بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم قال ولا يعرف صالح هذا في ولد عبد الله بن حسن وقد ذهبت هذه الدولة لهذا العهد اه
ثم أن أهل غانة ضعف ملكهم وتلاشى أمرهم في المائة الخامسة واستفحل أمر الملثمين المجاورين لهم من جهة الشمال مما يلي البربر وزحف إليهم الأمير أبو بكر بن عمر اللمتوني فاتح المغرب ومستخلف يوسف بن تاشفين عليه حسبما مر ذلك في أخبارهم فلما رجع الأمير أبو بكر إلى الصحراء غزا بلاد السودان وفتح منها مسيرة ثلاثة أشهر واقتضى منهم الأتاوات وحمل الكثير منهم ممن لم يكن أسلم قبل ذلك على الإسلام فدا نوابه ثم اضمحل ملك أهل غانة بالكلية وتغلب عليهم أهل مملكة صوصو المجاورون لهم واستعبدوهم وصيروهم في جملتهم ثم إن أهل مالي كثروا أمم السودان في نواحيهم تلك واستطالوا على الأمم المجاورين لهم فغلبوا على صوصو وملكوا ما كان بأيديهم وبأيدي أهل غانة ثم افتتحوا بلاد كوكو وأضافوها إلى ملكهم وصارت دولة مالي متصلة فيما بين غانة في الغرب وأرض التكرور في الشرق واعتز سلطانهم وهابتهم أمم السودان ومن
____________________

هذه الدولة كان السلطان منسا موسى بن أبي بكر وأخوه منسا سليمان اللذان كان بينهما وبين السلطان أبي الحسن المريني من المهاداة والمواصلة ما تقدم ذكره وكان مع السلطان منسا موسى المذكور الأديب الشاعر أبو إسحاق الطوبجن الأندلسي الذي بنى له القبة المربعة العجيبة الصنعة البديعة النقش والتخريم التي أجازه عليها باثني عشر ألف مثقال من التبر وغير ذلك مما مر ذكره في أخبار الدولة المرينية وكان منها أيضا السلطان ماري زاطة الذي هادى السلطان أبا سالم المريني وأغرب عليه بالزرافة حسبما تقدم قالوا وكان هذا السلطان مسرفا مبذرا بحيث أفسد ملكهم وأتلف ذخيرتهم وكاد أمر سلطانهم يختل حتى لقد انتهى الحال به في سرفه وتبذيره أن باع حجر الذهب الذي كان من الذخائر الموروثة عندهم وهو حجر يزن عشرين قنطارا من الذهب العين منقولا من المعدن كذلك من غير علاج ولا تصفية بالنار فكانوا يرونه من أنفس الذخائر وأكبر الغرائب لندور مثله في المعدن فعرضه منسا زاطة على تجار مصر المترددين إلى بلده فاشتروه منه بأبخس ثمن ثم أصابته علة النوم وهو مرض يطرق أهل ذلك الإقليم كثيرا وخصوصا الرؤساء منهم بحيث يعتاده غشي النوم عامة زمانه حتى لا يكاد يفيق ولا يستيقظ إلا في القليل من الأوقات ويضر بصاحبه غاية ويتصل سقمه إلى أن يهلك ودامت هذه العلة بهذا السلطان سنتين ثم هلك منها سنة خمس وسبعين وسبعمائة ثم توارث بنوه الملك من بعده فكانوا في تراجع وانتقاص إلى أن انقرض أمرهم شأن غيرهم من الدول وظهرت دولة آل سكية من أهل مملكة كوكو ويقال كاغو
قال الإمام التكروري في كتابه نصيحة أهل السودان إن آل سكية أصلهم من صنهاجة وملكوا كثيرا من بلاد السودان وأول ملوكهم الحاج محمد سكية بضم السين وسكون الكاف بعدها ياء مفتوحة ثم هاء تأنيث وكان الحاج محمد المذكور رحل في أواخر المائة التاسعة إلى مصر والحجاز
____________________

بقصد حج بيت الله الحرام وزيارة قبر نبيه صلى الله عليه وسلم فلقي بمصر الخليفة العباسي إذ كان رسم الخلافة العباسة لا زال قائما بها يومئذ حتى محاه السلطان سليم العثماني أيام تغلبه على مصر سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة فلما اجتمع الحاج محمد سكية بالخليفة المذكور طلب منه أن يأذن له في إمارة بلاد السودان وأن يكون خليفته هناك ففوض إليه الخليفة العباسي النظر في أمر ذلك الإقليم وجعله نائبه على من وراءه من المسلمين فرجع الحاج محمد سكية إلى بلاده وقد بنى أمر رياسته على قواعد الشريعة وجرى على منهاج أهل السنة ولقي بمصر أيضا الإمام شيخ الإسلام حافظ الحفاظ جلال الدين السيوطي فأخذ عنه عقائده وتعلم منه الحلال والحرام وسمع عليه جملا من آداب الشريعة وأحكامها وانتفع بوصاياه ومواعظه فرجع إلى السودان ونصر السنة وأحيى طريق العدل وجرى على منهاج الخليفة العباسي في مقعده وملبسه وسائر أموره ومال إلى السيرة العربية وعدل عن سيرة العجم فصلحت الأحوال وبرئ جسد الرشاد من الداء العضال وكان الحاج محمد المذكور سهل الحجاب رقيق القلب خافض الجناح شديد التعظيم لأئمة الدين محبا للعلماء مكرما لهم يفسح لهم في المجلس ويوسع عليهم في العطاء ولم يكن في أيامه كلها بؤس ولا بأس بل كانت رعيته في خفض عيش وأمن سرب وفرض عليهم شيئا خفيفا من المغارم وظفه عليهم وزعم أنه ما فعل ذلك حتى استشار الإمام السيوطي شيخه ولم يزل على سيرته المذكورة إلى أن اخترمته المنية فقام بالأمر بعده ولده داود بن محمد فأحسن ما شاء وتبع طريقة أبيه إلى أن لحق بربه ومضى لسبيله فقام بالأمر بعده ولده إسحاق بن داود فعدل عن بعض سيرة أبيه ولم يكن في أمره بالذميم واستمر حاله على الانتظام إلى أن غزته جيوش المنصور فنقضت ملكه ونثرت سلكه وانقرض عليه أمر آل سكية بعد أن كان تحت طاعتهم مسيرة ستة أشهر من بلاد السودان وسنذكر كيفية ذلك
وأما مملكة التكرور وكانم فقال ابن خلكان ما نصه كانم بكسر النون جنس من السودان وهم بنو عم تكرور وكل واحدة من هاتين القبيلتين لا تنسب إلى أب ولا أم وإنما كانم اسم بلدة بنواحي غانة فسمي هذا الجنس
____________________

باسم هذه البلدة وتكرور اسم للأرض التي هم فيها وسمي جنسهم باسم أرضهم اه
قلت وكان من كانم الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الكانمي الأسود الشاعر وهو الذي دخل على يعقوب المنصور الموحدي فأنشده
( أزال حجابه عني وعيني ** تراه من المهابة في حجاب )
( وقربني تفضله ولكن ** بعدت مهابة عند اقترابي )
وأهل كانم هم أهل مملكة برنو المجاورة لإفريقية من جهة قبلتها كما قلنا وكانت لهم مع الدولة الحفصية في المائة السابعة وما بعدها مهاداة ومواصلة كما كان لأهل مالي مع بني مرين
قلت ومن أهل برنو الشيخ العارف بالله تعالى أبو محمد عبد الله البرنوي شيخ الولي العارف بالله تعالى أبي فارس عبد العزيز الدباغ الموضوع في مناقبه كتاب الذهب الإبريز
واتصل أمر أهل برنو على الانتظام إلى أن كان من أمرهم مع المنصور ما نذكره وكل هؤلاء الأمم كانوا على دين الإسلام قديما كما رأيت وكان فيهم العلماء والصلحاء والأدباء والشعراء كما علمته آنفا وتعلمه فيما بعد إن شاء الله تعالى
قال الشيخ أبو العباس أحمد بابا السوداني في تقييده المسمى بمعراج الصعود أن أهل السودان أسلموا طوعا بلا استيلاء أحد عليهم كأهل كنوا وكنتي وبرنو وسغاي ما سمعنا قط أن أحدا استولى عليهم قبل إسلامهم ومنهم من هم قدماء الإسلام كأهل مالي أسلموا في القرن الخامس أو قربه وكأهل برنو وسغاي اه وقد علمت أن أهل غانة تقدم إسلامهم على هذا التاريخ والله تعالى أعلم ولنرجع إلى ما كنا بصدده من أخبار المنصور فنقول
____________________

وصول هدية صاحب برنو إلى المنصور بحضرة فاس وما نشأ عن ذلك من بيعته له والتزام طاعته
كان المنصور رحمه الله مسعودا محظوظا كما أشرنا إليه سابقا وكان من سعادته ما هيأ الله له من مهاداة صاحب مملكة برنو ومخاطبته له حتى كان ذلك سببا في مبايعته له والدخول في طاعته وكان من خبر ذلك ما حكاه في مناهل الصفا قال وفي سنة تسعين وتسعمائة ورد على المنصور الخبر وهو بمدينة فاس بقدوم رسول صاحب مملكة برنو من ملوك السودان وجلب في هديته ما جرت عادتهم أن يجلبوه من فتيان العبيد والإماء وكساء السودان وطرفه وكان من ذلك عدد كثير يناهز المئين فوافى المنصور بعسكره على رأس الماء من ساحة فاس وكان يوم ملاقاته يوما مشهودا حسنا وأبهة وجلالة جلس نصره الله تعالى بالقبتين التوأمين المضروبتين أمام السياج المحيط بقبابه وهو آفراك واستوقف الموالي والمماليك سماطين من التوأمين إلى القبة العربية ثم منها إلى فسطاط الجلوس المعلوم بالديوان ثم منه إلى باب المعسكر القبلي وأتى بالرسول يخترق السماطين حتى نزل بالديوان وكان الملأ من أكابر الدولة وصدور المملكة جلوسا وكرسي المملكة وسرير الخلافة منصوبا به والمهابة قد أخرست الألسن وأخشعت القلوب والأبصار فجلس الرسول هنالك مليا ثم توجه به على سبيل الترقي إلى القبة العربية فجلس بها ثم جاء الإذن الكريم بإيصاله إلى مقر أمير المؤمنين بالتوأمتين فوقف بين يديه وتشرف بالنظر إلى طلعته السعيدة فأدى الرسالة وقضى فرض التهنئة وسنة الهدية وأعرب عن مقاصد مرسله واعترف للمملكة العظيمة بحقها وأظهر من الخضوع والتملق والاستكانة والخدمة والطواعية ما أوصاه به مرسله ثم توجه به إلى معسكر ولي العهد وتاج الإسلام وكافل الأمة بعد والده المولى الأمير أبي عبد الله محمد الشيخ المأمون بالله وكان لصق معسكر أمير المؤمنين برأس الماء فأشرف الرسول على دنيا أخرى وأبهة مدهشة ومحلة هائلة فوقف موقف الحيرة واستدرج إلى أن وصل لقباب ولي العهد ومضاربه وكان قد قعد له
____________________

بفسطاط جلوسه أفخم قعود ولما استؤذن عليه ووقف بين يديه هنأ وحيى وفدى وانصرف عنه إلى محل نزوله بالقصبة من فاس وأدر عليه من الإنعام والإكرام ما لم يكن له في حساب
وكان من أغراض الرسالة التي أنفذه بها سلطانه طلب المدد من أمير المؤمنين بالعساكر والأجناد وعدة البنادق ومدافع النار لمجاهدة من يليهم بقاصية السودان من الكفار وكان هذا الرسول قد وفد قبل على سلطان الترك بالإصطنبول السلطان مراد العثماني يطلب منه المدد لجهاز كفار السودان فأخفق سعيه ولم يحصل على طائل فوجهه في هذه النوبة إلى ملك المغرب يطلب منه المدد ولما قرئ كتابه على أمير المؤمنين اتفق أن وقع بينه وبين كلام الرسول اختلاف بين وتباين واضح فكان الذي دل عليه الكتاب خلاف ما دل عليه كلام الرسول جر إليهم ذلك توغلهم في الجهل والغباوة وعدم من يحسن الإعراب عن مقاصدهم من فرسان الإنشاء والكتابة لطموس معالم العلوم عندهم على الجملة وقارن ذلك ما كان من توجيه أمير المؤمنين عساكره لتدويخ قطري توات وتيكورارين وأمل أن يجعلهما ركابا لبلاد السودان والاستيلاء على ممالكها التي وجه إليها عساكره بعد ذلك فبلغت مملكة مالي عظيم السودان إلى أن وردت من نيلها على مائه مرحلة من ثغور المغرب فاغتنم المنصور لذلك اختلاف الرسول والرسالة وبنى عليه ما اعتد به على صاحب برنو ورجع الرسول إلى مرسله بعد مكافأته وتوجيه هدية من عتاق الخيل وأشرافها بكسي من ملابس الخلافة وأسباب أخر ولما بلغ الرسول وألقى المعذرة إلى سلطانه استأنف الهدية وأعرب إذ ذاك عن مراده ورد الرسول ثانية إلى باب أمير المؤمنين فوافاه بحضرته ودار خلافته من مراكش فأزال اللبس وبين الغرض وصرح بالمقصود فلما تحقق المنصور بقصده صدع له بالحق والدعاء إلى التي هي أقوم وطالبهم بالبيعة له والدخول في دعوته النبوية التي أوجب الله عليهم وعلى جميع العباد في أقطار البلاد الانقياد إليها وقرر لهم بلسان السنة الناطق والكتاب المنزل على جده الصادق أن الجهاد الذي ينتحلونه ويظهرون الميل إليه والرغبة فيه لا يتم لهم
____________________

فرضه ولا يكتب لهم علمه ما لم يستندوا في أمرهم إلى إذن من إمام الجماعة الذي اختص الله أمير المؤمنين بوصفه إذ هو الكافل لهذه الأمة ووارث تراث النبوة وقيضه الله لحماية بيضة الإسلام وخصه بالشرف القرشي الذي هو شرط في الخلافة بإجماع من علماء الإسلام وأئمة السنة الأعلام وألزمهم القيام في أقطارهم بدعوته ومجاهدة أعدائهم الكفار بكلمته وعلق لهم أيده الله الإمداد على البيعة والوفاء بهذا الشرط فالتزمه بالرسول وزعم أيضا عن سلطانه بالقبول والإجابة وطلب من السلطان نسخة يتوجه بها من صورة البيعة إذ ليس ببلدهم من يحسن الإنشاء ويوفي الغرض لئلا يخلو بشيء من الشروط التي شارطتهم عليها أمير المؤمنين فأنشأها كاتب الدولة أبو فارس عبد العزيز الفشتالي ونصها الحمد الله الذي أعلى لكلمة الحق منارا يسامي في مطالعها النجوم وأزاح بها عن شمس الهداية المنيرة غياهب الغباوة المدلهمة وسحائب الغواية المركوم وحي على الفلاح بها داعي التوفيق الذي نشر للنجاح كتابه الموقوت واستنجز للسعادة أجلها المعلوم وشرف هذا الموجود والعالم الموجود بالخلافة النبوية والإمامة الحسنية العلوية التي صرفت الوجوه إلى قبلتها المشروعة واستبان الحق بتبلج الصباح في مبايعتها والانقياد لدعوتها المسموعة ونسخ بدولتها الغراء دول الحيف التي هي بسيف النبوة المصلت مقطوعه وبلسان السنة مدفوعه وقوض بها مباني الادعاء التي هي على غير أساس الشرع الصحيح مدفوعه وفرق بكلمتها المجموعة على التوحيد فرق التثليث التي هي على مشاقة الله ورسوله تابعة ومتبوعة وخلع بظهورها على أعطاف الحنيفية السمحة رداء العز الفضفاض واستل بتأييدها للدين المحمدي سيف الأنفة والامتعاض وأشار للأعادي من بأسها المروع بلسان الحية النضناض وفجر للمؤمنين ينبوع رحمتها الجاري على حصا عدلها الرضراض ومهد بسيوفها المنتضاة الآفاق والأقطار تمهيدا أزال عن حكمه الاعتراض وجلا بأنوارها المتألقة سدف الجهالة التي ادلهم جوها وغيم وأسعد الوجود بيمنها الذي لبث في أكناف مجدها وخيم وقضى لهاب بتراحم الأرض ومن عليها إن شاء الله إلى عيسى ابن مريم و صلى الله عليه وسلم
____________________

الذي تعاضدت البراهين القاطعة على صدق رسالته البارعة ونهج الدين القويم طريقة الحق المثلى ومادته الشارعة وسوغ لمن آمن به مناهل الهدى النميرة الزلال وموارده العذبة ومشارعه نبي الرحمة وشفيع الأمة وعلى آله وأصحابه الكرام أئمة الهدى ومصابيح الظلام والدعاء لمولانا الإمام العلوي الهمام أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين نجل سيد المرسلين وخاتم النبيين وسليل الوصي والسبطين وبعد فإنه لما أذن الله في ليل الجهالة أن ينجاب وفي شمس الحق الوهاجة أن يرتفع عنها الحجاب وفي العز الخلق الجلباب أن يعود إلى الشباب وفي النجاح والاستقامة أن يفتح لهما الباب وفي الإمارة أن تستند إلى السنة والكتاب وتتعلق من الشرع بأسباب تدارك الله سبحانه الوجود وأعز العالم الموجود واستطارت الأنوار المضيئة للأغوار والنجود بطلوع شمس الخلافة النبوية والإمامة الهاشمية العلوية ففاضت على أديم البسيطة أنوارها وارتفع إلى حيث السها والفرقدين منارها وتبلج بالأصباح نهارها ولاحت في سماء المجد بدورها وأقمارها وكادت تنهب نجوم السماء أتباعها وأنصارها وانتشرت في الآفاق والأقطار على البعد والقرب آثارها وهزت عطف الزمان انتشاء مناقبها وأخبارها وفاض ببركتها على أكناف المعمور يمها الزاخر وتيارها خلافة ينتمي إلى النبوة عنصرها وتستنبط من رسالة الوحي أسطرها ويناط بعروتها الوثقى خنصرها وإمامة علي وليها والله نصيرها والسبط بدرها الذي حياه منبرها وسريرها والحمد لله الذي اصطفى من هذه الدوحة النبوية الشماء والشجرة الطيبة الهاشمية التي أصلها ثابت وفرعها في السماء إماما ألقى الله له في القلوب حبا جميلا ومولى جعله الله على مرضاته سبحانه علامة ودليلا وخليفة استرعاه فكان بحسن الرعي لخلقه وعباده كفيلا وانتضى من بأسه وبسالته لحماية حمى الشريعة حساما صقيلا مولانا أمير المؤمنين وخليفة الله في الأرضين وسليل خاتم النبيين ووارث الأنبياء والمرسلين المفترضة طاعته على الخلق أجمعين والممنون بإمامته المقدسة على العالمين بحر الندى والباس وعصمة الله للناس أمير المؤمنين المنصور بالله مولانا أبا العباس صلى الله عليه وسلم صلوات الله عليه وعلى آله الخلفاء الراشدين والأئمة
____________________

الطيبين الطاهرين وطيب بأنفاس المغفرة لحودهم أجمعين إمام تهتز لذكره أعطاف المنابر وتتقلد من شريف دعوته أبهى من نفيس الجواهر وتستضيء البلاد بإكليل شرفه الزاهر وتسكن العباد تحت ظل رحمته الوارف الوافر أبقى الله أيامه الغر بقاء يصحب النصر دوامه وخلد له ولأعقابه هذا الأمر الكريم إلى يوم القيامة ولما طلعت أيده الله على هذه الأصقاع الزنجية طلائع إمامته النبوية وخلافته ولاحت في سمائها شهب مناقبه المنيفة الدالة على فخامة شرفه وأنافته وتليت لمجده الآيات البينات التي تشهد له بتراث الرسالة وتقضي له على الإسلام وعلى الأنام بحكم الولاء والكفالة وأوضح الله سبحانه للناس من اعتقاد وجوب طاعته والاقتداء بإمامته والانقياد لدعوته وتقليد بيعته ما جاء به كتابه الحكيم ووردت به سنة نبيه الكريم كما قال صلى الله عليه وسلم ( لا تزال الخلافة في قريش ما بقي منهم اثنان ) وكما ورد في صحيح الخبر ( إن الخلافة في قريش والقضاء في الأنصار وفي الحبشة الأذان ) ويدل على هذا تعاضد الخبر والعيان فلا ناكر أن ليس في المعمور على هذا الشرط غيره أيده الله من ثان فنهض بدليل الشرع أنه إمام الجماعة حقا المستوفي شروطها والوارث للخلافة النبوية والحريص على بيضة الإسلام أن يحوطها وأن القائم بهذا الأمر على الإطلاق غيره دعي ومحاوله دون إذنه المشروع بدعي فتعين لذلك أن الرجوع إلى الحق فريضة واستبان بما تقرر وعلم أن إمارة لا تلاقي في الشروع محلها المشروع منبوذة مرفوضة وعروتها لذلك مفصومة ومنقوضة فانتدب لهذه الآثار صحيح الأخبار وصرف إلى رضى الله العناية ووقف من الشرائع المشروعة حيث مركز الراية ومنتهى الغية الرئيس أبو العلاء إدريس أكرمه الله انتداب من وقفت به مطية التوفيق على حضرة الإخلاص والتصديق وأخذت بزمامه السعادة إلى حيث الفوز برضا الله ورضا رسوله حقيق والتأييد صاحب ورفيق وروض الآمال أنيق وراح الراحة والاطمئنان عتيق إلى تقلد إمام بيعة الجماعة أمير المؤمنين المنصور بالله زاده الله تقديسا وتشريفا التي تؤسس إن شاء الله على تقوى من الله ورضوان وتشهد عقدها الكريم ملائكة الرحمن وآثر أسعده الله أن يؤدي
____________________

فرضها المعدود من فروض الأعيان وحكمها الذي توجه به خطاب الشرع العام إلى القاصي والدان وينشر سنتها المشروعة في صقعه وما يليه من الأصقاع والبقاع بالسودان تقلدا يستضيء إن شاء الله بأنواره ويستشرف به للعز المكين على مناره ويخمد به للجهل جذوة ناره وتنتظم به في اتباع الحق زمر أنصاره ويجتلي به صورة إنسانه ويستوجب من الله عوارف صنعه وإحسانه ويرهف به للعدو على العزمات حد سيفه وسنانه ويقرع به لرضا الله باب القبول ويتضاعف له ببركته العمل المقبول ويستنشق بمشهد عقده الكريم نواسم النبوة ويعود له به الزمان للشباب والفتوة ويرفع به منار الإمارة على قواعد الشرع الوثيقة ويعدل به في كل الأحوال عن المجاز إلى الحقيقة وتتسنى له به وهي المقصد الأسنى والخاتمة الحسنى الأسوة الحسنة بإمامي بني العباس السفاح والمنصور ويحيى سنتهما التي نقلها ثقات الأعلام والصدور في مبايعتهما الإمام الخليفة المهدي الأكبر سليل سيد المرسلين وجد مولانا أمير المؤمنين الذي رأى إمام دار الهجرة أنه بتراث الخلافة النبوية أولى وأحق وفي منصب الإمامة على شرطها أعرق وبسريرها ومنبرها أليق فتأكد للمنتدب أكرمه الله بهذه الآثار الشريفة والمناقب المنيفة العزم والقصد وأنجز له فيما أراده صادق الوعد وساعد نيته الصالحة فيه السعد فبايعه أعلى الله يده على الأمن والأمانة والعفاف والديانة والعدل الذي يشيد للمجد أركانه مبايعة شايعه على عقدها الكريم أكرمه الله أتباعه وجموعه وأشياعه بحكم الوفاق والاتفاق والمواثيق الشديدة الوثاق وبجميع الأيمان الصادقة الأيمان أعطوا بها صفقة أيديهم ورفع بها العقيرة مناديهم عارفين أن يد الله فيها فوق أيديهم وأمضوها على السمع والطاعة والانتظام في سلك الجماعة إمضاء يدينون به في السر والجهر واليسر والعسر والرخاء والشدة والأزمان المشتدة والتزموا شروطها طوعا واستوعبوها جنسا ونوعا بنيات منهم خالصة صادقة وعدة من الله لهم بالخير سابقة وسعادة بالحسنى لاحقة أبرموا عقدها وأحكموا وعدها وعهدها على حكم الكتاب والسنة والجماعة والأخذ بسنتها أعقابا من أعقاب وأحقابا أثر أحقاب إلى يوم القيامة
____________________

واقتراب الساعة لا يلحق عقدها الكريم فسخ ولا يعقبه بحول الله نسخ ولا يتطرق إليه نقض ولا نكث ولا يشوبه بشوائب الشبهات بحث وأجمع على هذا أسعده الله بالمواثيق المستفيضة والأيمان اللازمة المغلظة هو وأتباعه إجماعا شرعيا وحتموه على أنفسهم حتما مقضيا واعتقده اعتقادا أبديا وعرضوا على التزامه بمشهد عقده المبارك أفرادا وأزواجا وحدانا وأفواجا وأشهدوا على الوفاء به بأيمانهم الصادقة البرور ومواثيقهم المثلجة للصدور قائلين بالله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس العليم بالخفيات والخبير بالآجال والوفيات وبجميع الرسل الكرام والأنبياء وملائكة الرحمن في الأرض والسماء وعلى أنهم إن حادوا عن هذا السبيل وانقادوا لدعاء داعي التغيير والتبديل أو انحرفوا عن هذا المنهاج وسنته فهم براء من حول الله وقوته ومن دينه وعصمته ومستوجبون لعذابه وغضبه وسخطه ونقمته وبعداء من رحمته ومن شفاعة نبيه الكريم يوم القيامة لأمته وأنهم خالعون لربقة الإسلام وخارجون عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أعلنوا بهذا إعلانا تعضده النجوى وأدوه بشروطه الجارية على مذاهب الفتوى وأحكامه اللازمة لكلمة التقوى استرضاء لله وللخلافة النبوية والإمامة العلوية ورياضة للنفوس على بيعتها المباركة الميمونة النقيبة واستيفاء لشروطها وأقسامها الواجبة والمستحبة والمندوبة مستسلمين إلى الله بالقلوب الخاشعة ومتضرعين إلى بابه الكريم بالأدعية النافعة في أن يعرفهم خير هذا العقد الكريم والعهد الصميم بدأ وختاما وأن يمنحهم بركته التي تصحبهم حالا ودواما لا رب غيره ولا خير إلا خيره أشهد على نفسه بما فيه وعلى رعيته الرئيس أبو العلاء إدريس أسعده الله وأكرمه وبتاريخ المحرم الحرام من عام تسعين وتسعمائة من الهجرة النبوية انتهى
ولما كتبت هذه البيعة دفعت للرسول وأكرم وكافأه أمير المؤمنين على هدية سلطانه وتوجه إلى بلاده بجواب مرسله ولم يلبث أن رجعه سلطانه ثالثة ووجه معه هدية ورسالة وخاض القفر إلى دار الخلافة فوصل إلى بلاد تيكورارين وهناك اعترضته منيته فاعتل وهلك فأشخص أولو الأمر
____________________

الذين بتيكورارين الهدية مع رفقائه القادمين معه من عند سلطانه فوصلوا بها إلى حضرة أمير المؤمنين بمراكش وقدموا إليه رسالتهم وهديتهم فتقبلها بقبول حسن وتم السرور وعظم الحبور واستقامت للمنصور الأمور بعث المنصور ورسوله بالدعوة إلى آل سكية وكيفية ذلك
لما أدى الوفد الواردون على المنصور من السلطان أبي العلاء صاحب مملكة برنو ما قدموا لأجله ردهم المنصور إلى صاحبهم مكرمين وانتخب رسولا عارفا مجربا ممن لهم بصيرة بأحوال السودان فبعثه معهم عينا يأتيه بأخبار البلاد حتى كأنه يشاهدها وبعث معه رسالة إلى السلطان إسحاق بن داود من آل سكية صاحب مملكة كاغو من أرض السودان يأمره فيها أن يرتب على معدن الملح الذي بتغازي بين المغرب والسودان ومنه يحمل الملح إلى أقطار السودان وظيفا بأن يجعل كل من يحمل منه شيئا من الواردين عليه مثقالا من الذهب العين لكل حمل تستعين بذلك الخراج عساكر المسلمين على جهاد الكفار لأن ذلك بحر لا ساحل له
وكان المنصور لم يكاتبه في ذلك حتى أستفتى علماء إيالته وأشياخ الفتيا بها فأفتوه بما هو المنصوص للعلماء رضوان الله عليهم من أن النظر في المعادن مطلقا إنما هو للإمام لا لغيره وأنه ليس لأحد أن يتصرف في ذلك إلا عن إذن السلطان أو نائبه وبعث إليه المنصور بتلك الفتاوى مع الرسالة الموجه بها مع الرسول وكانت من إنشاء العلامة الأديب مفتي الحضرة المراكشية المولى أبي مالك عبد الواحد بن أحمد الشريف السجلماسي لأن كاتب الإنشاء أبا فارس عبد العزيز بن محمد الفشتالي كان مريضا يومئذ ولما فرغ الشريف المذكور من إنشائها بقي عليه الصدر فلم يدر كيف يقول في مخاطبة إسحاق سكية ولا كيف يمدحه وهل يتوغل في المدح أو يتوسط فكتب أبو مالك حين تحير في ذلك إلى المنصور بما نصه أيدكم الله ونصر
____________________

أعلامكم إن مخاطبة هذا الرجل الذي هو في مرتبة مماليك الحضرة المولوية أمر تلعثم فيه لساني ووقف عن خوض لجته بناني لأن النأي عن هذه المحجة قد مد بيني وبينها حجابا وأغلق في وجهي بابا فلا آمن من أن أقتحم الوقوع في تفريط أو إفراط وخير الأمور لو علمته الأوساط لكن لا سبيل إلى معرفته إلا بعد علم الطرفين والعبد محجوب عن ذلك دون مين فتركت أيدكم الله الصدر لمن هو به مني أقعد وتحاميت عقده لمن هو له أعقد أبي فارس عبد العزيز الذي فاضت عليه أنواركم وأضاءت له سبل هذا المخبر أقماركم وإلا قرعت هواتف لسان الحال سمعي بقول القائل
( يا باري القوس بريا ليس يحسنه ** لا تظلم القوس أعط القوس باريها )
ولما بلغت رسالة المنصور إلى السلطان إسحاق سكية واطلع عليها شق عليه ذلك وماطل في الجواب وحيث أبطأ الرسول فطن المنصور لما انطوى عليه سكية من عدم إجابته لما طلب من الوظيف على الملاحة فاشتد غضبه وعزم على توجيه العساكر إلى السودان فهذا هو الحامل له على قصد تلك البلاد وتدويخها ولما فتح تيكورارين وتوات قوي عزمه على ذلك وطمحت نفسه للاستيلاء على ما هنالك على ما نذكره إن شاء الله مفاوضات المنصور الملأ من أصحابه في غزو آل سكية وما دار بينهم في ذلك
قال الفشتالي رحمه الله لما رجعت أرسال المنصور إليه من عند إسحاق سكية وأعلموه بمقالته وامتناعه واحتجاجه بأنه أمير ناحية والمنصور أمير ناحية وأنه لا تجب طاعته عليه شاور المنصور أصحابه وجمع أعيان دولته والتقى أهل الرأي والمشورة فاجتمعوا وكان يوم اجتماعهم يوما مشهودا فقال لهم المنصور إني عزمت على منازلة أمير السودان صاحب كاغو
____________________

وبعث الجيوش إليهم لتجتمع كلمة المسلمين وتتحد الرعية ولأن بلاد السودان وافرة الخراج كثيرة المال يتقوى بها جيش الإسلام ويشتد ساعد كتيبته مع أن صاحب أمرهم والمتولي لسلطنتهم اليوم معزول عن الإمارة شرعا إذ ليس بقرشي ولا اجتمعت شروط السلطنة فيه العظمى فلم نثل المنصور ما في كنانته وأبدى ما في خبيئته وعرض ما في عيبته سكت الحاضرون ولم يراجعوا بشيء فقال لهم أسكتم استصوابا لرأيي أو ظهر لكم خلاف ما ظهر لي فأجاب كلهم بلسان واحد ورأي متفق إن ذلك رأي عن الصواب منحرف وأنه بمهامه عن الآراء السديدة ولا يخطر ببال السوقة فكيف بالملوك وذلك لأن بيننا وبين السودان مهامه فيحا تقصر فيها الخطا وتحار فيها لقطا وليس فيها ماء ولا كلأ فلا يتأتى السفر فيها ولا اعتساف شيء من طريقها مع كونها مخوفة مملوءة الجوانب ذعرا وأيضا فإن دولة المرابطين على ضخامتها ودولة الموحدين على عظمها ودولة المرينيين على قوتها لم تطمح همة واحد منهم لشيء من ذلك ولا تعرضوا لما هنالك وما ذاك إلا لما رأوا من صعوبة مسالكها وتعذر مداركها وحسبنا أن نقتفي أثر تلك الدول فإن المتأخر لا يكون أعقل من الأول فلما قضى أولئك الأقوام كلامهم وأبدوا له رأيهم وملامهم قال لهم المنصور إن كان هذا غاية ما استضعفتم به أمري وفيلتم به رأيي فليس فيه حجة ولا ما يخدش فيما عندي أما قولكم بيننا وبينها صحار مخوفة ومفاوز مهلكة لجدوبتها وعطشها فنحن نرى التجار على ضعفهم وقلة استعدادهم يشقون تلك الطرق في كل وقت ويخوضون في أحشائها مشاة وركبانا وجماعة ووحدانا ولم تنقطع قط ركاب التجار عنها وأنا أقوى أهبة منهم وللجيش همة ليست للقوافل وأما قولكم إن من كان قبلنا من الدول الطنانة لم تطمح أبصارهم لذلك فاعلموا أن المرابطين صرفوا عنايتهم لغزو الأندلس ومقابلة الإفرنج ومن بذلك الساحل من الأروام والموحدون اقتفوا سبيلهم في ذلك وزادوا بحرب ابن غانية والمرينيون كانت غالب وقائعهم مع بني عبد الواد بتلمسان ونحن اليوم قد انسد عنا باب الأندلس باستيلاء العدو الكافر عليها
____________________

جملة وانقطعت عنا حروب تلمسان باستيلاء الترك عليها ثم إن أهل تلك الدول لو أرادوا ما أردنا لصعب عليهم لأن جيوشهم كانت فرسانا رامحة ورماة ناشبة ولم يكن عندهم هذا البارود وعساكر النار المرهبة الصواعق وأهل السودان ليس عندهم الآن إلا الرماح والسيوف وهي لا تقاوم هذه المدافع المستحدثة فمقاتلتهم سهلة وحربهم أيسر من كل شيء وأيضا فإن بلاد السودان أنفع من إفريقية فالاشتغال بها أولى من منازلة الترك لأنه تعب كثير في نفع قليل فهذا جواب ما عرض لكم ولا يحملنكم ترك الملوك الأول ذلك على استبعاد القريب واستصعاب السهل فإنه كم ترك الأول للآخر وقد يفتح على المتأخر بما لم يفتح به على المتقدم فلما فرغ المنصور من خطابه وأبدى ما في وطابه استحسن الحاضرون جوابه واستملحوا إشارته واستجادوا رأيه وقالوا له قد طبقت المفضل وألهمت الصواب ولم تبق لأحد ما يقول وصدق من قال عقول الملوك ملوك العقول فانفصل الجمع على البعث إلى السودان ومناهضة أهله ومتابعة المنصور في رأيه عليه قلت وفي كلام المنصور أمران يحتاجان إلى مزيد بيان الأول ما قاله من أن الملثمين لم تكن لهم سلطنة على السودان يعني بهم الذين أقاموا بأرض المغرب ودبروا أمره مثل يوسف بن تاشفين وبنيه فلا يرد عليه أن الأمير أبا بكر بن عمر غزا السودان وفتح منه مسيرة ثلاثة أشهر لأن ذلك كان بعد رجوعه إلى الصحراء واستقراره بها وإعراضه عن ملك المغرب بالكلية كما مر الثاني ما قاله من أن البارود لم يكن في تلك الدول الفارطة يعني به لم يكن موجودا فيها بكثرة بحيث يستغني به الجيش عن غيره ساعة القتال فلا يرد عليه أن ظهوره كان في أوائل المائة السابعة لأول دولة بني مرين كما مر إذ ظهوره في تلك المدة كلا ظهور والله تعالى أعلم بحقائق الأمور
____________________

استجازة المنصور لعلماء مصر رضي الله عنهم وتلمذه لهم
قالوا ومن اعتناء المنصور رحمه الله أنه بعث إلى علماء مصر يستجيزهم رغبة في اتصال حبل السند واقتفاء لاحب ذلك الطريق الأسد وممن أجازه الإمام العارف بالله أبو عبد الله محمد ابن الشيخ أبي الحسن البكري رضي الله عنه ومن بعض فصول إجازته له قوله يمدح كتاب المنصور إليه ويثني عليه بالفصاحة والبلاغة ما نصه ولقد وصل إلى المثل العديم المثال المزري نظامه بعقود اللآل فإذا به السحر إلا أنه الحلال ولو ادعى أحد أن من معجزات أحمد صلى الله عليه وسلم أن يمد الله كراما كاتبين في زمان نجله أمير المؤمنين أحمد بكتاب كريم على أسلوب قويم يرسله إلى محب قديم من النبعة والصميم لم تكذب دعواه فما من خارق في الأمة إلا وهو من معجزاته صلى الله عليه وسلم دال على علاه وأما ما شرفني به من طلب الإجازة فالبيت والحديث له ولكن رب أب أرسل إلى ابنه على يد عبده عطاء فقبله وإليه بأمره حمله وحيث وقع الأمر فأمر مولانا حتم وطاعته غنم فمولانا مجاز من هذا العهد من جميع ما يجوز لهذا العبد بجميع ما يجوز له وعند روايته بشرطه المعتبر عند أهل الأمر وكذلك مجاز أهل العصر إجازة عام بعام ليكون أبناء الوقت جميعا على مائدة فضل مولانا وتحت ظلال ذلك الإنعام فإنه هو السبب في تحصيل ذلك المرام وكتب تحريرا في رابع عشرين ربيع الثاني سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة محمد بن أبي الحسن الصديقي سبط آل الحسن اه
وممن استجازه المنصور أيضا من علماء مصر الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن يحيى المصري الشهير ببدر الدين القرافي صاحب ذيل الديباج فأجازه إجازة عامة بسط فيها القول ثم ختمها بقوله
( أجزت لمن تفضل واستجازا ** وبادر لاقتنا خير وحازا )
( وأبرز في سلوك العلم حالا ** به من فضل مولانا يجازى )
( إمام كامل غوث البرايا ** أمير المؤمنين حوى مجازا )
____________________


( وذلك بعد تشريفي بأمر ** وقصد للإجازة فاستجازا )
( فبادرت امتثالا قدر وسعي ** ومقتفيا مناهج من أجازا )
( وقد أبديت حقا لا محالا ** بما صار الإمام به مجازا )
( بفاتحة وسنة خير هدى ** وسلسلة لمن حاز امتيازا )
( بدار الهجرة العليا إمام ** بما أبداه من فضل مجازا )
( وأرجو منه يهدي لي دعاء ** لما أرجوه من خير مجازا )
( بخاتمة تبلغني مراما ** بجنات أراها لي مفازا )
( وأشياخي يبلغهم رضاء ** ويواصلهم إلى خير يجازا ) تجديد المنصور ولاية العهد لابنه المأمون وما وقع في ذلك
قالوا وفي شوال سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة جدد المنصور البيعة لولده محمد الشيخ الملقب بالمأمون وأخذها له على إخوته خصوصا لأنهم كانوا في البيعة الأولى قبل البلوغ فأراد أن يستوثق له منهم بعد البلوغ حسما لمادة النزاع بينهم فارتحل المنصور من مراكش إلى تامسنا وبعث الباشا عزوز بن سعيد الوزكيتي ليأتيه بولي عهده المذكور من فاس فتوافى القصدان بتامسنا وباشر المنصور أخذ البيعة له بنفسه وحضر الأعيان وأهل الحل والعقد وأحضر المصحف الكريم الذي هو مصحف عقبة بن نافع الفهري رضي الله عنه وهو من ذخائر الخلفاء وأحضر الصحيحان للشيخين وقرئ ظهير البيعة فتولى قراءته الكاتب أبو فارس عبد العزيز الفشتالي وبجنبه القاضي أبو القاسم الشاطبي يفسر ما أشكل من لفظ الظهير
ولما أخذ البيعة أخر أولاده إلى غد يومها فكتبوا خطوطهم عقبها بالموافقة على ذلك والالتزام له ووقع في رسالة السلطان زيدان لأبي زكرياء ابن عبد المنعم الإمام بذكر هذه البيعة فقال إني حضرت بيعة محمد الشيخ صاحب المغرب سامحه الله وحضر أولاد السلطان فاستحلفهم له إلا أنا فإنه رضي الله عنه قال فلان لا يحلف لا يحتاج إليه فيما نأمره به ونفعله وعظم
____________________

ذلك على إخوتي وظهرت في وجوههم لأجله الكراهية اه
ولما فرغ المنصور من تجديد البيعة رأى أن يرشح كلا من أولاده للإمارة ويقسم بينهم البلاد حتى لا تبقى في نفوسهم إحن ولا تنطوي قلوبهم على ضغائن فعقد لأبي فارس شقيق المأمون على السوس وسائر عمائره وعقد لأبي الحسن على مكناسة وما والاها وعقد لزيدان على تادلا ثم عكس ذلك لأمر اقتضاه الحال فنقل زيدان إلى مكناسة ونقل أبا الحسن إلى تادلا ولم يزالوا على ذلك إلى أن كان من أمرهم ما نذكره في محله إن شاء الله ثورة الحاج قرقوش ببلاد غمارة ومقتله
قالوا وفي سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة ثار رجل يقال له الحاج قرقوش بجبال غمارة وبلاد الهبط وتسمى بأمير المؤمنين وكان في ابتداء أمره حائكا فتلبس بالزهد والصلاح واعتقدته العامة ثم استحال أمره إلى ما ذكرنا فأخذ وقتل وحمل رأسه إلى مراكش وانقطعت مادة فساده فلم تبكه أرض ولا سماء بناء المسجد الجامع بباب دكالة من حضرة مراكش حرسها الله
كانت الحرة مسعودة أم المنصور وهي بنت الشيخ الأجل أبي العباس أحمد بن عبد الله الوزكيتي الورززاتي من الصالحات حريصة على اقتناء المفاخر راغبة في فعل الخير قال في المنتقى وهي التي أنشأت المسجد الجامع بحومة باب دكالة داخل مدينة مراكش ووقفت عليه أوقافا عظيمة وكان ذلك سنة خمس وتسعين وتسعمائة قال وهي التي بنت جسر وادي أم الربيع وغير ذلك اه
____________________


قلت المرقوم على رخامة قبرها أنها بنت جسرين بلفظ التثنية وتزعم العامة أنها بنت المسجد المذكور كفارة لما انتهكته من حرمة رمضان وذلك أنها دخلت بستانا من بساتين قصورها وهي في حال الوحم فرأت به خوخا ورمانا فتناولتهما وأكلت منهما في نهار رمضان ثم ندمت على ما صدر منها وفعلت أفعالا كثيرة من باب البر رجاء أن يتجاوز الله عنها ومنها الجامع المذكور ولا زال النساء والصبيان يسجعون بقضيتها إلى الآن فيقولون عودة أكلت رمضان بالخوخ والرمان في أسجاع غير هذه ولفظ عودة مخفف من مسعودة على طريقة البربر في مثل هذا والله تعالى أعلم بعث المنصور ببيلة الرخام إلى جامع القرويين من فاس حرسها الله
قال ابن القاضي في المنتقى المقصور إن المنصور رحمه الله بعث الخصة العظيمة سنة ست وتسعين وتسعمائة إلى جامع القرويين من فاس مع كرسي من المرمر توضع عليه وزنهما معا مائة قنطار قال وهي الخصة التي تحت منار الجامع المذكور وقال ابن القاضي المذكور فيها نقش برقبتها
( إمام دار الهدى المنصور شيدني ** بحر المكارم من أبناء عدنان )
( حزت المفاخر بالمنصور أجمعها ** ومن علاه سنام المجد أرساني )
( من جاء يشكو الظما يوما وقبلني ** أغناه ما قد همى من صوب أجفاني )
( لا تنكرن وجود الدمع من فرح ** فالعين تدمع من أفراط سلوان )
( واشرب هنيئا من السلسال لا حرج ** معين دمع جرى من فيض خلجاني )
( فخر السلاطين من أبناء فاطمة ** أشاع صيتي إلى أطراف عمان )
( وقد جرت مقلتي تحكي سحائبها ** كف الخليفة من أبناء زيدان )
( لا زال للدين والدنيا يسوسهما ** ما هيجت عاشقا ورق بأفنان )
( إنشائي في زمن التاريخ وافقه ** للدين والأجر بحر الجود سواني )
____________________


وفي هذه السنة أعني سنة ست وتسعين وتسعمائة في ذي الحجة منها سافر المنصور إلى فاس وبينما هو في الطريق وافته البشرى بالفتك بنصارى سبتة وأن زعيم الفئة الجهادية وهو المقدم أبو العباس أحمد النقسيس التطواني كمن لهم مع جماعة من الفرسان في موضع فخرج النصارى بأولادهم وحشمهم فحال النقسيس بينهم وبين سبتة وأوقع بهم وكاد يفتحها وسر المنصور بهذا الخبر وأنشده في ذلك الكاتب أبو عبد الله محمد بن علي الفشتالي بيتين زجر له منهما الفال باستيلائه عليها وهما
( هذه سبتة تزف عروسا ** نحو ناديك في شباب قشيب )
( وهي بشرى وأنت كفؤ اللواتي ** كافأت بعلها بفتح قريب )
وفي سنة سبع وتسعين وتسعمائة في اليوم الثاني من ذي القعدة منها أخلى النصارى مدينة آصيلا حملهم الخوف من كتيبة المسلمين المرابطة هنالك على الفرار بأنفسهم فتركوها يبابا وذهبوا وفي ذلك يقول أبو العباس ابن القاضي
( يا أيها المنصور أبشر بالعلا ** فالله أبلغ في العدا المأمولا )
( أنضاكم سيفا لحتف عداته ** وبكم غدا سيف الردى مفلولا )
( وهزمتم الشرك المتين بعزمكم ** من غير سيف لم يرى مسلولا )
( وأذيتم كيد الخبيث بهمة ** وفتحتم دار العدا آصيلا )
( أكرم به من مالك بل صالح ** أضحى لبارود العداة خليلا )
( لا زال في أنف الهدى شمما وفي ** عين العلاء يشاكل التكحيلا )
وأشار بقوله لبارود العداة خليلا إلى ما صنعه النصارى دمرهم الله حين أرادوا الخروج من آصيلا فإنهم حفروا تحت قصبتها وملؤوا الحفرة بالبارود وأوقدوا فتيلا تبلغه ناره عند دخول المسلمين فيهلكون ففر نصراني منهم وأخبر المسلمين بذلك فنجاهم الله تعالى من مكيدة الوبال وكفى الله المؤمنين القتال وقال في ذلك أيضا الكاتب البارع أبو فارس عبد العزيز الفشتالي شعرا ذكره صاحب نشر المثاني فانظره
وكان في زمن المنصور رجال من بيوتات المغرب معروفون بالشجاعة
____________________

والنجدة في قتال العدو ومنهم أولاد النقسيس التطوانيون ومنهم أولاد أبي الليف من أهل بلاد الهبط قال في المرآة لما كان المقدم المجاهد الشهيد أبو عبد الله محمد بن الحسن أبو الليف من الشهامة والصرامة على ما كان عليه ومن شدة نكايته في العدو الكافر الطنجي وبعد أثره فيهم جرت أمور بينه وبين صاحب عمل القصر فسعى به إلى المنصور فأمر برحيله إلى فاس هو وعشيرته مغربين عن وطنهم كأنهم في سجن فأقاموا بفاس مدة لا أدري هل هي سنة أ م أكثر إلا أني كنت أراه عند الشيخ سنة ثمان وتسعين وتسعمائة وأنا إذ ذاك صغير ويعني بالشيخ والده أبا المحاسن رحمه الله قال فضاقت عليهم أنفسهم من الاغتراب فقال يوما المقدم عمر لأخيه كبيره المقدم محمد لو زرنا الشيخ اليوم وتبركنا به لعل الله يفرج عنا فإن الناس كثيرا ما يقصدونه في المهمات فقال له لا أتحرك فقد غلب اليأس فسار المقدم عمر وحده فلما وصل إلى الشيخ قال له قنطتم قال نعم يا سيدي فقال له الشيخ غدا يخلي سبيلكم إن شاء الله فرجع إلى أخيه وأخبره فلما كان من الغد بعث إليهم القاضي أبو محمد عبد الواحد الحميدي فلما أتوه قال لهم أبشروا بالسراح والرجوع إلى الوطن إن شاء الله فإنه قد قرئ الآن بين يدي السلطان بعض الغزوات التي ذكرها ابن النحاس وغناء أبطال المسلمين فيها فقال السلطان أو غيره ترى هل بقي في هذا الزمان من يماثلهم فقالوا قد بقي من يفعل فعلهم وها هم أولاد أبي الليف المغربون هنا يفعلون مثل ذلك فقال السلطان سرحوهم إلى بلادهم ليحموا ثغورهم ويجاهدوا في سبيل الله فرجعوا إلى بلادهم وفعلوا الأفاعيل في عدو الدين إلى أن استشهد المقدم محمد في ربيع الثاني سنة اثنتين وألف اه
____________________

غزو السودان وفتح مدينة كاغو ومقتل سلطانها إسحاق سكية رحمه الله
قد تقدم لنا ما كان من مفاوضة المنصور لحاشيته في غزو السودان واستقرار رأيهم على ذلك فبقي المنصور يقدم رجلا ويؤخر أخرى إلى أن كانت سنة سبع وتسعين وتسعمائة فقوي عزمه واشتغل بتجهيز آلة الحرب وما يحتاج إليه الجيش من آلة السفر ومهماته وأمر القواد أن يقوموا حصص القبائل وما يحتاجون إليه من إبل وخيل وبغال وإن من أتى بجمل ضعيف يعاقب واشتغل هو بتقويم آلة الحرب من المدافع والعجلات التي تحملها والبارود والرصاص والكور وتقويم الخشب واللوح والحديد للغلائط والسفن والفلك والمجاذيف والقلوع والبراميل والروايا لحمل الماء وألف النجارون ذلك في البر إلى أن تألف ثم خلعوه وشدوه أحمالا واستمر الحال إلى أن استوفى المنصور أمر الغزو في ثلاث سنين ثم أمر بإخراج المضارب والمباني لوادي تانسيفت فخرجت الأحمال والأثقال من مراكش في اليوم السادس عشر من ذي الحجة سنة ثمان وتسعين وتسعمائة ونزلت العساكر وضربت أبنيتها خيلا ورجلا وجملتها عشرون ألفا ومعهم من المعلمين البحرية والطبجية ألفان فالمجموع اثنان وعشرون ألفا وعقد المنصور على ذلك الجيش لمولاه الباشا جؤذر وشد أزره بجماعة من أعيان الدولة فاختار منهم من يعلم نجدته ويعرف كفايته وتخير من الإبل كل بازل وكوماء ومن الخيل كل عتيق وجرداء ثم نهضوا في زي عظيم وهيئة لم ير مثلها وذلك في محرم فاتح سنة تسع وتسعين وتسعمائة وكتب المنصور إلى قاضي تنبكتو الفقيه العلامة أبي حفص عمر ابن الشيخ محمود ابن عمراء قيت الصنهاجي يأمره بحض الناس على الطاعة ولزوم الجماعة
ولما نهضوا من تانسيفت جعلوا طريقهم على ثنية الكلاوي ثم على درعة ودخلوا القفر والفيافي فقطعوها في مائة مرحلة ولم يضع لهم عقال بعير ولا نقص منهم أحد فنزلوا على مدينة تنبكتو ثغر السودان فأراحوا بها أياما
____________________

ثم صاروا قاصدين دار إسحاق سكية ولما سمع بقدومهم احتشد أمم السودان وقبائلها وقبائل الملثمين المهادنين لهم وخرج من مدينة كاغو يجر الشوك والمدر يقال إنه جمع مائة ألف مقاتل وأربعة آلاف مقاتل
وقال الفشتالي ولم يقنع بالجيوش التي جمع حتى أضاف إليها أشياخ السحرة وأهل النفث في العقد وأرباب العزائم والسيمياء ظنا منه أن ذلك يغنيه شيئا وهيهات ويرحم الله أبا تمام إذ قال فيما يقرب من هذا الحال
( السيف أصدق إنباء من الكتب ** في حده الحد بين الجد واللعب )
( بيض الصفائح لا سود الصحائف في ** متونهن جلاء الشك والريب )
( والعلم في شهب الأرماح لامعة ** بين الخميسين لا في السبعة الشهب )
( أين الرواية بل أين النجوم وما ** صاغوه من زخرف فيها ومن كذب )
( تخرصا وأحاديثا ملفقة ** ليست بنبع إذا عدت ولا غرب )
ولما تقارب الجمعان عبأ الباشا جؤذر عساكره وتقدم للحرب فدارت بهم عساكر السودان من كل جهة وعقلوا أرجلهم مع الإبل وصبروا مع الضحى إلى العصر وكانت سلاحهم إنما هي الحرشان الصغار والرماح والسيوف ولم تكن عندهم هذه المدافع فلم تغن حرشانهم ورماحهم مع البارود شيئا ولما كان آخر النهار هبت ريح النصر وانهزم السودان فولوا الأدبار وحق عليهم البوار وحكمت في رقابهم سيوف جؤذر وجنده حتى كان السودان ينادون نحن مسلمون نحن إخوانكم في الدين والسيوف عاملة فيهم وجند جؤذر يقتلون ويسلبون في كل وجه وفر إسحاق في شرذمة من قومه ولم يدخل قلعة ملكه وتقدم جؤذر فدخلها واحتوى على ما فيها من الأموال والمتاع وكان ذلك منتصف جمادى الأولى من سنة تسع وتسعين وتسعمائة ويقال إن جؤذرا لم يدخل مدينة كاغو وإنما تحصن بها إسحاق فحاصره جؤذر فيها وكتب إلى المنصور بخبر الفتح وبعث إليه بهدية فيها عشرة آلاف مثقال ذهبا ومائتان من خيار الرقيق وغير ذلك وامتدت العساكر المنصورة في بلاد آل سكية تعيث وتفسد وتسبي وتغنم إلى أن راسل إسحاق الباشا جؤذرا في تقرير الصلح على مال معين يدفعه الآن وضريبة يؤديها كل سنة
____________________

فأجابه إلى ذلك على مشورة المنصور وإمضائه إياه ثم كتب إلى المنصور بذلك وكانت العساكر قد أصابتها الحمى ووخامة تلك الأرض فاتفق رأي الأمراء على الرجوع والإقامة بتنبكتو إلى أن يأتي جواب المنصور فرجعوا وأخذ جؤذر في إنشاء الغلائط والسفن وتركيبها ولما أكملها دفعها في النيل ولما بلغ المنصور خبر الصلح قام وقعد وقوم عسكرا خفيفا وبعث به مع مملوكه الآخر محمود باشا وهو أخو جؤذر وقلده أمر العساكر كلها وعزل جؤذرا عنها وأمر محمودا أن يبقيه معه وكتب إلى أمراء العسكر يعاتبهم يوبخهم على ما فعلوه مع إسحاق من الصلح ويؤكد عليهم في الرجوع إلى بلاده واتباعه حيثما توجه ولو عبر النيل إلى العدوة الأخرى وخرج محمود باشا فيمن عين له من العسكر في زمان الحر في وقت لا يقدر على الحركة فيه إلا القطا الكدري وقطع القفر في خمسين مرحلة أمر لم يسمع بمثله ونزل بالعساكر على ظاهر تنبكتو على رأس سنة الألف فأراح بها ثلاثا ثم شحن الغلائط والسفن والفلك بالرؤساء والملاحين ووجوه الجند فساروا في النيل وسار السواد الأعظم في البر إلى أن نزلوا على مدينة كاغو قاعدة ملك إسحاق سكية وكان إسحاق لما رجعت عنه العساكر إلى تنبكتو احتشد أمم السودان المجاورين له وتذامروا وأصفقوا معه على الموت فلما بلغه رجوع العساكر إلى كاغو قصدهم في جموعه ولما التقى الجمعان لم يكن إلا مقدار فواق ناقة حتى انهزم السودان من سماع رعد المدافع والمهاريس وارتفاع القنابل في الجو وهدير الطبول وتبعتهم العساكر يقتلون ويأسرون إلى أن غشيهم ظلم الليل ورجعوا بالغنائم والسبي فاستراحوا ثلاثا ثم أمر محمود أخاه جؤذرا أن يقيم بمدينة كاغو عامرا لها ويترك معه عددا من العسكر يكون ردءا لهم وسار هو في اتباع إسحاق إلى أن لحقه ببعض الجهات فأوقع به وقعة شنعاء وفر في فل من قومه فعبر النيل إلى العدوة الأخرى وتبعه محمود فعبر النيل بعساكره في السفن وسار خلفه إلى أن لحقه فأوقع به وقعة ثالثة احتوى فيها على ما معه من المال والحريم ودخل إسحاق القفر فهلك فيه ثم كانت لمحمود وقعة أخرى مع أخيه الذي كان ينازعه في
____________________

الملك فإنه قام بعد مهلك أخيه وجمع الجموع وزحف إلى محمود باشا فنهض إليه محمود فهزمه وقتله فيمن معه من جنده وأتباعه وتمهدت له البلاد واستولى عليها استيلاء كليا وكتب بخبر الفتح إلى المنصور
ولما بلغه هذا الفتح وصورته كان عنده ذلك اليوم عيدا من الأعياد أخرج فيه الصدقات وأعتق الرقاب وأقام مهرجانا عظيما بظاهر الحضرة خرج له عامة الناس للفرجة والنزهة وزينت الأسواق وأخرجت المدافع بالنفط وتسابقت الخيول وأطعم المنصور الناس عدة أيام ونظم الشعراء قصائدهم ورفعوا أمداحهم وأجازهم بما تحدث الناس به دهرا وكتب بخبر الفتح وصورته نسخ وجهت إلى جميع الآفاق وكان مما قيل في ذلك من الشعر ما أنشده الكاتب أبو فارس عبد العزيز الفشتالي فقال
( جيش الصباح على الدجا متدفق ** فبياض ذا السواد ذلك يمحق )
( وكأنه رايات عسكرك التي ** طلعت على السودان بيضا تخفق )
( لاحت وأفقهم ليال كله ** كعمود صبح في الدجا يتألق )
( نشرت لتطوي منه ليلا دامسا ** أضحى بسيفك ذي الفقار يمزق )
( أرسلتهن جوائحا وجوارحا ** في كل مخلبها غراب ينعق )
( وسرت فكان دليلهن إليهم ** مشحوذ عزمك والسنان الأزرق )
( لهي الليالي قد جلى أحلاكها ** نور النبوة من جبينك يشرق )
( صعقت بهن رعود نارك صعقة ** رجت لصيحتها العراق وجلق )
( سحقا لإسحاق الشقي وحزبه ** فلقد غدا بالسيف وهو مطوق )
( رام النجاة وكيف ذاك وخلفه ** من جيش جؤذرك الغضنفر فيلق )
( جيش أواخره ببابك سيله ** عرم وأوله بكاغو محدق )
( لم يشعروا إلا وأسوار الردى ** ضربت عليهم من قناك وخندق )
( كتب الإله على عداتك أنهم ** قنص لسهمك غربوا أو شرقوا )
( ضلت ملوك ساجلوك على العلا ** سفها وشأوك في العلا لا يلحق )
( أن يشبهوك ولا شبيه يرى لكم ** في الخلق أين من اللجين الزئبق )
( بشر ملوك الأرض أنك فاتح ** بالمشرفي على الولا ما غلقوا )
____________________


( وبقاصل لك ذي الفقار مفرق ** ما جمعوه وجامع ما فرقوا )
( دامت طيور السعد وهي غوارد ** بالمشتهى لك والمسرة تنطق )
( ما دام أصل علاك في صحف الثنا ** أصل الفخار وكل غيرك ملحق )
والمشتهى والمسرة بستانان للمنصور ورى بهما هذا الشاعر وسيأتي الكلام عليهما وكان محمود باشا لما استوسق له الأمر هنالك بعث بنصف جيشه إلى المنصور مع هدية عظيم فيها من الذخائر ما لا يحصى من ذلك ألف ومائتان من متخير الرقيق الجواري والغلمان وأربعون حملا من التبر وأربعة سروج ذهبا خالصا وأحمال كثيرة من اليانبور وقطوط الغالية وغير ذلك ولما وافت المنصور سر بذلك سرورا عظيما وأمر بعمل المفرحات في بلاد المغرب وبتزيين الأسواق غدوة وعشية ثلاثة أيام ووفدت عليه الوفود من كل ناحية مهنئين له بما منحه الله من الظفر والنصر وانتظمت الممالك السودانية في سلك طاعته ما بين البحر المحيط من أقصى المغرب إلى بلاد برنو المتاخمة لبلاد النوبة المتاخمة لصعيد مصر قال الفشتالي فكلمة المنصور نافدة فيما بين بلاد النوبة إلى البحر المحيط من ناحية المغرب وهذا ملك ضخم وسلطان فخم لم يكن لمن قبله والله يؤتي ملكه من يشاء ولما فتح الله عليه ممالك البلاد السودانية حمل إليه من التبر ما يعيى الحاسبين ويحير الناظرين حتى كان المنصور لا يعطي في الرواتب إلا النضار الصافي والدينار الوافي وكان ببابه كل يوم أربع عشرة مائة مطرقة لضرب الدينار الوافي دون ما هو معد لغير ذلك من صوغ الأقراط والحلى وشبه ذلك ولأجل هذا لقب بالذهبي لفيضان الذهب في أيامه والأمور كلها بيد الله
____________________

وفاة أم المنصور الحرة مسعودة الوزكيتية رحمها الله
كانت الحرة مسعودة هذه من الخيرات الصالحات وتقدم بعض مآثرها من بناء المسجد الجامع بباب دكالة وغيره وكانت وفاتها سحر يوم الثلاثاء السابع والعشرين من المحرم فاتح سنة ألف ومن المستفيض أنها ريئت بعد موتها فسئلت ما فعل الله بها فقالت غفر لي بسبب أني كنت ذات يوم جالسة لقضاء الحاجة فسمعت المؤذن شرع في الآذان فرددت على ثيابي إعظاما لذكر الله تعالى حتى فرغ المؤذن من آذانه فشكر الله لي ذلك فغفر لي
وفي سنة إحدى وألف أتي بالفيلة من بلاد السودان إلى المنصور وكان يوم دخولها لمراكش يوما مشهودا برز لرؤيتها كل من بالمدينة من رجال ونساء وشيوخ وصبيان ثم حملت إلى فاس في رمضان سنة سبع وألف قال في نشر المثاني كان دخول الفيل إلى فاس يوم الاثنين سادس عشر رمضان سنة سبع وألف وبعث المنصور مع الفيل إلى ولده المأمون بهدية سنية فيها تحف وأموال عريضة وخرج أهل فاس في ذلك اليوم للقاء الفيل بنحو مائة ألف نفس
قال بعضهم وبسبب دخول هذه الفيلة إلى المغرب ظهرت هذه العشبة الخبيثة المسماة بتابغ لأن أهل السودان الذين قدموا بالفيلة يسوسونها قدموا بها معهم يشربونها ويزعمون أن فيها منافع فشاعت منهم في بلاد درعة ومراكش وغيرهما من بقاع المغرب وتعارضت فيها فتاوى العلماء رضوان الله عليهم فمن قائل بالتحريم ومن قائل بالتحليل ومتوقف والعلم فيها عند الله سبحانه قال اليفرني
قلت من تأمل أدنى تأمل في قواعد الشريعة وآدابها علم يقينا أن تناول هذه العشبة حرام لأنها من الخبائث التي حرمها الله تعالى على هذه الأمة المطهرة وبذلك وصفها في الكتب السالفة إذ قال تعالى { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث }
____________________


وبسط هذا المقام إن تعلم أن الله تعالى اختار هذه الأمة من بين سائر الأمم قال تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس } واختار لها من الطاعات وأنواع العبادات ما هو أفضلها قال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } وأفضل تلك العبادات كلها الصلاة التي هي من الدين بمنزلة الرأس من سائر الجسد ثم إذا أمعنت النظر رأيت الشارع صلى الله عليه وسلم قد بالغ في الاحتياط لهذه العبادة الشريفة والاستعداد لها باستعمال كل طيب أمكن واجتناب كل خبيث أمكن فشرع أولا الطهارة الكبرى الشاملة لسائر البدن وحظر من مقاربة الصلاة وما هو في معناها حال الخلو عنها ثم شرع ثانيا الطهارة الصغرى المتعلقة بأطراف البدن زيادة في الاعتناء بها لأنها تبرز في غالب الأحوال فيعلق بها من الأقذار ما لا يعلق بغيرها وألزم المكلف استعمال هذه الطهارة عند عروض كل حدث مستقذر حتى الريح والسبب الداعي إلى خروجه ثم ندبه إلى استعمالها عند القيام إلى كل صلاة من الصلوات الخمس
ثم إنا إذا تأملنا أفعال هذه الطهارة وجدناها تشتمل على مبالغات كثيرة تستدعي غاية النظافة وتنفي كل قذر وإن قل فشرع الغسل في أعضاء الوضوء مكررا وشرع مسح شعر الرأس بالماء دفعا لما يعلق به من الغبار وشرع تتبع مسام الوجه بالغسل والتنظيم كالمضمضة والاستنشاق ثلاثا تطييبا للنكهة وشرع مسح الأذنين من ظاهرهما وباطنهما حتى الصماخين إزالة لما بداخلهما من تلك الفضلة مع أن الحي ودمعه وعرقه ولعابه ومخاطه كلها طاهرة أو ليس في هذا دليل واضح على أن الحكمة في هذا كله إنما هو المبالغة في النظافة وتطييب الرائحة والنكهة إذ بذلك يستحق العبد أن يتلبس بالعبادة ويدخل حضرة الرب وشرط للدخول فيها طهارة البدن والثوب والمكان من سائر المستقذرات حتى يكون على أكمل الحالات بعيدا عن القذر بكل وجه ثم لم يكتف الشارع بهذا حتى شرع السواك عند القيام إلى كل صلاة وقال ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ) كل ذلك المقصود منه طيب النكهة فانظر وتأمل اعتناء الشارع بتطييب رائحة
____________________

فم المؤمن ونكهته حتى في حق الصائم الذي ( خلوف فمه أطيب عند الله من ريح المسك ) هذا كله في حال الصلاة
وأما خارجها فقد علم من الشرع علما ضروريا أن العبد مطلوب بالمحافظة على هذه الحال والبقاء عليها سائر أوقاته متى قدر على ذلك وتيسر له ومن هذا المعنى ما حرم الله تعالى على هذه الأمة من تناول المستقذرات كالميتة والدم وسائر النجاسات إذ علة حرمة الأشياء وتناولها إما كونها مستقذرة كالنجاسات إجماعا وكالحشرات وما تعافه النفوس على مذهب الشافعي رضي الله عنه أو مضرة كالسم والطين ونحوهما مما يضر بالبدن أو ببعض الأعضاء منه أو محترمة إما لذاتها كالأدمي أو لكونها ملكا للغير وهو ظاهر فالشارع له غرض أكيد في اجتلاب الطيبات واجتناب ما يضادها من المستخبثات وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعملون في حوائطهم فإذا حضرت الجمعة أتوا إلى المسجد وأبدانهم سهكة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال عند كل جمعة ثم منع كل من تلبس برائحة كريهة كالثوم والبصل والكراث من حضورها وحبب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من دنيانا النساء والطيب وندب أمته إلى استعماله في المشاهد العامة مثل الجمع والأعياد ونحوها وخصال الفطرة إنما شرعت لهذا المعنى ففيها كفاية لمن تأملها قوال صلى الله عليه وسلم ( إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ) دفعا للسرف والخيلاء ولئلا يعلق به شيء من النجاسات والأقذار إلى غير هذا مما لو استقصي لطال ودل دلالة قطعية على أن المطلوب من العبد أن يكون نظيفا طيب الرائحة حسن البزة طاهر البدن والثوب مجانبا لكل خبيث مستقذر وهذه حالة أهل الجنة والعكس بالعكس وأنت لا تجد أخبث ولا أقذر من رائحة أفواه شربة الدخان ولا أنتن ولا أعفن من نكهات المستفين لغبار تابغ وهذا النتن من أقبح العيوب في نظر الشرع حتى أنه جعل الخيار لأحد الزوجين إذا كان صاحبه أبخر فإذا لا نشك أن استعمال هذه العشبة الخبيثة في الفم أو الأنف من أعظم المحظورات لأنها تصدم غرضا كبيرا من أغراض الشارع وتضاده وتنفيه
____________________

وأقول لو كان نتنها يعلق بعضو من الأعضاء غير الوجه لكان هين لكنه يعلق بالفم والأنف اللذين وضعهما الحكيم العلي في وسط الوجه الذي هو أشرف الأعضاء فأي مضمضة وأي استنشاق وأي سواك يزيل ذلك النتن الذي يرسخ في أنفاس أهلها وأفواههم وخياشيمهم رسوخا لا يماثله شيء
ولقد أفصح العامة عن شدة نتن هذه العشبة وصادفوا الصواب حيث قالوا إن فضلة الدخان المسماة بالقير تنجس النجاسة هذا إلى ما يتبع ذلك من المفاسد المتعددة من تغيير عقل متعاطيها حتى أنه إذا انقطعت عنه صار كالمجنون لا يبالي بما يصدر منه ومن دخول الشك في صيامه لأن بقايا ذلك الدخان أو ذلك الغبار قد يمكث في حلقه إلى طلوع الفجر وما بعده لأن جلهم إذا قرب الفجر والوا استعماله حتى يكون هو خاتمة سحورهم وبالجملة فلا يستعمل ذلك إلا من لا خلاق له ولا يكترث بمروءه ولا دين وهو قادح في الشهادة والإمامة والله تعالى الموفق بمنه نكبة الفقيه أبي العباس أحمد بابا السوداني وعشيرته من آل آقيت والسبب في ذلك
كان بنو آقيت التكروريون من أهل مدينة تنبكتو وممن لهم الوجاهة الكبيرة والرياسة الشهيرة ببلاد السودان دينا ودنيا بحيث تعددت فيهم العلماء والأئمة والقضاة وتوارثوا رياسة العلم مدة طويلة تقرب من مائتي سنة وكانوا من أهل اليسار والسؤدد والدين لا يبالون بالسلطان فمن دونه ولما فتح جيش المنصور بلاد السودان أبقاهم الباشا محمود على حالهم إلى أن كانت سنة اثنتين وألف فكان أهل السودان قد سئموا ملكة المغاربة وآنسوا منهم خلاف ما كانوا يعهدونه من سلطانهم الأول وكانت أذنهم مع ذلك صاغية لآل آقيت فتخوف المنصور منهم وربما وشي إليه بهم فكتب إلى عامله محمود بالقبض عليهم وتغريبهم إلى مراكش فقبض على جماعة كبيرة منهم كان فيها الفقيه العلامة أبو العباس أحمد بن أحمد بن أحمد ثلاثة أحامد ابن
____________________

عمر بن محمد آقيت المدعو بابا صاحب تكميل الديباج وغيره من التآليف وكان فيها أيضا الفقيه القاضي أبو حفص عمر بن محمود بن عمر ابن محمد آقيت وغيرهما وحملوا مصفدين في الحديد إلى مراكش ومعهم حريمهم وانتهبت ذخائرهم وكتبهم
قال في بذل المناصحة سمعت الشيخ أبا العباس أحمد بابا يقول أنا أقل عشيرتي كتبا وقد نهب لي ست عشرة مائة مجلد وكان القبض عليهم في أواخر المحرم سنة اثنتين وألف ووصلوا إلى مراكش في أول رمضان من السنة المذكورة واستقروا مع عيالهم في حكم الثقاف إلى أن انصرم أمد المحنة فسرحوا يوم الأحد الحادي والعشرين من رمضان سنة أربع وألف ففرحت قلوب المؤمنين بذلك
ولما دخل الفقيه أبو العباس على المنصور بعد تسريحه من السجن وجده يكلم الناس من وراء حجاب وبينه وبينهم كلة مسدولة على طريقة خلفاء بني العباس ومن يتشبه بهم فقال الشيخ إن الله تعالى يقول { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب } وأنت قد تشبهت برب الأرباب فإن كانت لك حاجة في الكلام فانزل إلينا وارفع عنا الحجاب فنزل المنصور ورفعت الأستار فقال له الشيخ أي حاجة لك في نهب متاعي وتضييع كتبي وتصفيدي من تنبكتو إلى هنا حتى سقطت عن ظهر الجمل واندقت ساقي فقال له المنصور أردنا أن تجتمع الكلمة وأنتم في بلادكم من أعيانها فإن أذعنتم أذعن غيركم فقال الشيخ أبو العباس فهلا جمعت الكلمة بترك تلمسان فإنهم أقرب إليك منا فقال المنصور قال النبي صلى الله عليه وسلم اتركوا الترك ما تركوكم فامتثلنا الحديث فقال أبو العباس ذاك زمان وبعده قال ابن عباس لا تتركوا الترك وإن تركوكم فسكت المنصور وانفض المجلس
ولما سرح الشيخ أبو العباس تصدر لنشر العلم وأهرع الناس إليه للأخذ عنه ولم يزل بمراكش إلى أن مات المنصور لأنه ما سرحهم حتى شرط عليهم السكنى بمراكش ولما توفي أذن ابنه زيدان لآل آقيت في الرجوع إلى بلادهم بعد أن مات جماعة منهم بمراكش وقد كان الشيخ أبو العباس يتشوق إلى
____________________

رؤية بلدته ويسكب العبرات عند ذكرها ولم ييأس من روح الله في العود إليها وله في ذلك شعر على طريقة الفقهاء ولما خرج من مراكش قاصدا بلده شيعه أعيان طلبتها فأخذ بعضهم بيده عند الوداع وقرأ قوله تعالى { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } على ما جرت به العادة من قراءتها عند وداع المسافر فيرجع سالما فانتزع الشيخ أبو العباس يده بسرعة وقال لا ردني الله إلى هذا المعاد ولا رجعني إلى هذه البلاد ثم لحق بتنبكتو فاستقر بها إلى أن مات سنة ست وثلاثين وألف رحمه الله تتمة قد تبين لك بما قصصناه عليك من أخبار السودان ما كان عليه أهل تلك البلاد من الأخذ بدين الإسلام من لدن قديم وأنهم من أحسن الأمم إسلاما وأقومهم دينا وأكثرهم للعلم وأهله تحصيلا ومحبة وهذا الأمر شائع في جل ممالكهم الموالية للمغرب كما علمت وبهذا يظهر لك شناعة ما عمت به البلوى ببلاد المغرب من لدن قديم من استرقاق أهل السودان مطلقا وجلب القطائع الكثيرة منهم في كل سنة وبيعهم في أسواق المغرب حاضرة وبادية يسمسرون بها كما تسمسر الدواب بل أفحش قد تمالأ الناس على ذلك وتوالت عليه أجيالهم حتى صار كثير من العامة يفهمون أن موجب الاسترقاق شرعا هو اسوداد اللون وكونه مجلوبا من تلك الناحية وهذا لعمر الله من أفحش المناكر وأعظمها في الدين إذ أهل السودان قوم مسلمون فلهم ما لنا وعليهم ما علينا ولو فرضنا أن فيهم من هو مشرك أو متدين بدين آخر غير الإسلام فالغالب عليهم اليوم وقبل اليوم بكثير إنما هو الإسلام والحكم للغالب ولو فرضنا أن لا غالب وإنما الكفر والإسلام هنالك متساويان فمن لنا بأن المجلوب منهم هو من صنف الكفار لا المسلمين والأصل في نوع الإنسان هو الحرية والخلو عن موجب الاسترقاق ومدعي خلاف الحرية مدع لخلاف الأصل ولا ثقة بخبر الجالبين لهم والبائعين لهم لما تقرر وعلم في الباعة مطلقا من الكذب عند بيع سلعهم وإطرائها بما ليس فيها وفي باعة
____________________

الرقيق خصوصا مما هو أكثر من ذلك كيف ونحن نرى أن الذين يجلبونهم أو يتجرون فيهم إنما هم من لا خلاق لهم ولا مروءة ولا دين والزمان كما علمت وأهله كما ترى ولا يعتمد أيضا على قول ذلك العبد نفسه أو الأمة نفسها كما نص عليه الفقهاء لاختلاف الأغراض والأحوال في ذلك فإن البائع لهم قد يضربهم حتى لا يقرون إلا بما لا يقدح في صحة بيعهم وقد يكون للعبد أو الأمة غرض في الخروج من ملك من هو بيده بأي وجه كان فيهون عليه أن يقر على نفسه بالرقية كي ينفذ بيعه عاجلا إلى غير ذلك من الأغراض وقد استفاض عن أهل العدل وغيرهم أن أهل السودان اليوم وقبل اليوم يغير بعضهم على بعض ويختطف بعضهم أبناء بعض ويسرقونهم من الأماكن النائية عن مداشرهم وعمرانهم وإن فعلهم ذلك كفعل أعراب المغرب في إغارة بعضهم على بعض واختطاف دوابهم ومواشيهم أو سرقتها والكل مسلمون وإنما الحامل لهم على ذلك قلة الديانة وعدم الوازع فكيف يسوغ للمحتاط لدينه أن يقدم على شراء ما هو من هذا القبيل وكيف يجوز له التسري بإناثهم وفي ذلك ما فيه من الإقدام على فرج مشكوك
وقد قال الشيخ أبو حامد الغزالي رضي الله عنه في كتاب الحلال والحرام من إحياء علوم الدين ما نصه اعلم أن كل من قدم إليك طعاما أو هدية أو أردت أن تشتري منه أو تتهب فليس لك أن تفتش عنه وتسأل وتقول هذا مما لا أتحقق حله فلا آخذه بل أفتش عنه وليس لك أيضا أن تترك البحث فتأخذ كل ما لا تتيقن تحريمه بالسؤال واجب مرة وحرام مرة ومندوب مرة ومكروه مرة فلا بد من تفصيله والقول الشافي فيه هو أن مظنة السؤال مواقع الريبة ثم أطال رضي الله عنه في تقرير ذلك وصرح بأن البائع إذا كان متهما على ترويج سلعته لا يعتمد على قوله فإذا كان هذا في الأموال فكيف باسترقاق الرقاب وملك الأبضاع الذين للشارع بهما مزيد اعتناء كما هو معلوم من الشرع وأصوله
وقد ذكر الشيخ أبو العباس أحمد بابا في تقييده الموضوع في هذه
____________________

المسألة المسمى بمعراج الصعود تفصيلا ختم به كلامه وذكر قبائل من كفار السودان مثل موشى وبعض فلان وغيرهم وقال إن كل من كان من هؤلاء القبائل فيجوز استرقاقه وكذلك ذكر ولي الدين ابن خلدون إن وراء النيل قوما من السودان يقال لهم لملم قال وهم كفار ويكتوون في وجوههم وأصداغهم قال وأهل غانة والتكرور يغيرون عليهم ويسبونهم ويبيعونهم للتجار فيجلبونهم إلى المغرب وهم عامة رقيقهم وليس وراءهم في الجنوب عمران يعتبر إلى آخر كلامه لكن هذا التفصيل الذي ذكره الشيخ أبو العباس إنما ينفع أهل تلك البلاد المجاورين لهم والمطلعين على المجلوب منهم ومن غيرهم فأما أهل المغرب الذين هم من وراء وراء وبينهم وبين أرض السودان مهامه فيح وقفار لا يعمرها إلا الريح فمن الذي يحقق لهم ذلك وقد قلنا إنه لا يجوز الاعتماد على قول الجالبين لهم وأيضا فمن لنا بأن أولئك القبائل لا زالوا على كفرهم إلى الآن على أن الناس اليوم لا يلتفتون إلى ذلك أصلا ومهما رأى أحدهم العبد أو الأمة يسمسر في السوق إلا ويقدم على شرائه غافلا عن هذا كله لا يسأل إلا عن عيوب بدنه لا فرق في ذلك بين أسود أو أبيض وغيرهما بل صار الفسقة اليوم وأهل الجراءة على الله يختطفون أولاد الأحرار من قبائل المغرب وقراه وأمصاره ويبيعونهم في الأسواق جهارا من غير نكير ولا امتعاض للدين وصار النصارى واليهود يشترونهم ويسترقونهم بمرأى منا ومسمع وذلك عقوبة من الله لنا لو اعتبرنا فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما دهينا به في ديننا
فالحاصل أنه لما كان الأصل في الناس هو الحرية كما قلنا وعلم تواترا أن أهل بلاد السودان الموالية لنا جلهم أو كلهم مسلمون واستفاض عن أهل العدل وغيرهم أنهم يغير بعضهم على بعض ويختطف بعضهم أبناء بعض ويبيعونهم ظلما وعدوانا ورأينا بالمشاهدة أن الجالبين لهم والمتجرين فيهم إنما هم من لا خلاق لهم ولا دين لهم لم يبق لنا توقف في أن الإقدام على شراء هذا الصنف محظور في الشرع والمقدم عليه مخاطر في دينه وأما
____________________

وضع يد الجالبين لهم عليهم فلا تكفي شرعا في جواز الإقدام على شرائهم منهم لضعف هذه العلامة بما أحتف بها من القرائن المكذبة لها وليستفت المرء قلبه فقد قال صلى الله عليه وسلم استفت قلبك وإن أفتوك فإنه متى رجع إلى قلبه في هذه المعضلة إلا ولا يقدر أن يحوم حول هذا الحمى بحال ثم تنزل عن هذا كله ونقول لو لم يكن في ذلك إلا الشبهة القوية وفساد الزمان ورقة ديانة أهله لكان في هذه الأمور الثلاثة مع ملاحظة سد الذريعة الذي هو أحد أصول الشريعة لا سيما عند الإمام مالك رضي الله عنه ما يقتضي وجوب التخلي عن ملابسة هذه المفسدة المزرية بالعرض والدين فنسأله سبحانه أن يوفق من ولاه أمر العباد لحسم مادة هذه الفساد فإن سبب الاسترقاق الشرعي الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح مفقود اليوم وهو السبي الناشئ عن الجهاد المقصود به إعلاء كلمة الله تعالى وسوق الناس إلى دينه الذي اصطفاه لعباده هذا هو ديننا الذي شرعه لنا نبينا صلى الله عليه وسلم وخلافه خلاف الدين وغيره غير المشروع والتوفيق إنما هو بيد الله { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } بناء قصر البديع بحضرة مراكش مرسها الله
قال في مناهل الصفا كان السبب الحامل للمنصور على بناء البديع وإنفاقه فيه جلائل الأموال ونفائس الذخائر هو أنه أراد أن تكون لأهل البيت به مأثرة وشفوف على دولة البرابر من المرابطين والموحدين ومن بعدهم فإن كلا من أهل تلك الدول أبقى بناء يحيا به ذكره ولم يكن لأهل البيت في ذلك المعنى شيء تزداد به حظوتهم مع أنهم أحق الناس بالمجد والسؤدد الأثيل فتصدى لبنائه بقصد تشريف أهل البيت لأن البناء كما قيل
( همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ** من بعدهم فبألسن البنيان )
( إن البناء إذا تعاظم شأنه ** أضحى يدل على عظيم الشأن )
قلت هذا اعتذار بارد كما لا يخفى
____________________


ولما أراد المنصور أن يشرع فيه أحضر أهل العلم ومن يتسم بالصلاح فتحينوا أوان الابتداء ووقت الشروع فيه فكان ابتداء الشروع في تأسيسه في شوال خامس الأشهر من خلافته سنة ست وثمانين وتسعمائة واتصل العمل فيه إلى سنة اثنتين وألف ولم يتخلل ذلك فترة وحشد له الصناع حتى من بلاد الإفرنجية فكان يجتمع كل يوم فيه من أرباب الصنائع ومهرة الحكماء خلق عظيم حتى كان ببابه سوق عظيم يقصده التجار ببضائعهم ونفائس أعلاقهم وجلب له الرخام من بلاد الروم فكان يشتريه منهم بالسكر وزنا بوزن على ما قيل
وكان المنصور قد اتخذ معاصر السكر ببلاد حاحة وشوشاوة وغيرهما حسبما ذكره الفشتالي رحمه الله في المناهل
وأما جبصه وجيره وباقي أنقاضه فإنها جمعت من كل جهة وحملت من كل ناحية حتى أنه وجدت بطاقة فيها أن فلانا دفع صاعا من جير حمله من تنبكتو وظف عليه في غمار الناس
وكان المنصور مع ذلك يحسن إلى الأجراء غاية الإحسان ويجزل صلة العارفين بالبناء ويوسع عليهم في العطاء ويقوم بمؤن أولادهم كي لا تتشوف نفوسهم وتتشعب أفكارهم
وهذا البديع دار مربعة الشكل وفي كل جهة منها قبة رائقة الهيئة وأحتف بها مصانع أخر من قباب وقصور ودور فعظم بذلك بناؤه وطالت مسافته ولا شك أن هذا البديع من أحسن المباني وأعجب المصانع يقصر عنه شعب بوان وينسى ذكر غمدان ويبخس الزهراء والزاهره ويزري بقباب الشام وأهرام القاهرة وفيه من الرخام المجزع والمرمر الأبيض والأسود ما يحير الفكر ويدهش النظر وكل رخامة طلي رأسها بالذهب الذائب وموه بالنضار الصافي وفرشت أرضه بالرخام العجيب النحت الصافي البشرة وجعل في أضعاف ذلك الزليج المتنوع التلوين حتى كأنه خمائل الزهر أو برد موشى من عمل صنعاء وتستر وأما سقوفه فتجسم فيها الذهب وطليت الجدرات به مع بديع النقش ورائق الرقم بخالص الجبص فتكاملت فيه المحاسن وأجرى بين قبابه
____________________

ماء غير آسن وبالجملة فإن هذا البديع كان من المباني المتناهية البهاء والإشراق المباهية لزوراء العراق ومن المصانع التي هي جنة الدنيا وفتنة المحيا ومنتهى الوصف وموقف السرور والقصف
( كل قصر بعد البديع يذم ** فيه طاب المجنى وطاب المشم )
( منظر رائق وماء نمير ** وثرى عاطر وقصم أشم )
( إن مراكشا به قد تباهت ** مفخرا فهي للعلا الدهر تسمو )
وبه من الأشعار المرقومة في الأستار والأبيات المنقوشة في الجهات على الخشب والزليج والجبص ما يسر الناظر ويروق المتأمل ويبهر العقول وعلى كل قبة ما يناسبها وفي بعض القباب مفاخرة على لسانها لمقابلتها وتتبع ذلك يطول لكن لا بأس أن نلم هنا بثمالة من ذلك الحوض ونخوض في بحار تلك البدائع بعض الخوض إذ في ذلك عبرة لمن اعتبر وترويح للقلوب بكيفية فعل الدهر بمن غبر فمن ذلك ما نقش خارج القبة الخمسينية لأن فيها خمسين ذراعا بالعمل من إنشاء الكاتب البليغ أبي فارس عبد العزيز الفشتالي على لسان القبة المذكورة
( سموت فخر البدر دوني وانحطا ** وأصبح قرص الشمس في أذني قرطا )
( وصغت من الإكليل تاجا لمفرقي ** ونيطت بي الجوزاء في عنقي سمطا )
( ولاحت بأطواقي الثريا كأنها ** نثير جمان قد تتبعته لقطا )
( وعديت عن زهر النجوم لأنني ** جعلت على كيوان رحلي منحطا )
( وأجريت من فيض السماحة والندى ** خليجا على نهر المجرة قد غطا )
( عقدت عليه الجسر للفخر فارتمت ** إليه وفود البحر تغرف ما أنطا )
( ينضنض ما بين الغروس كأنه ** وقد رقرقت حصباؤه حية رقطا )
( حواليه من دوح الرياض خرائد ** وغيد تجر من خمائلها مرطا )
( إذا أرسلت لدن الفروع وفتحت ** جنى الزهر لاح في ذوائبها وخطا )
( يرنحها مر النسيم إذا سرى ** كما مال نشوان تشرب اسفنطا )
( يشق رياضا جادها الجود والندى ** سواء لديها الغيث أسكب أم أبطا )
( وسالت بسلسال اللجين حياضه ** بحارا غدا عرض البسيط لها شطا )
____________________


( تطلع منها وسط وسطاه دمية ** هي الشمس لا تخشى كسوفا ولا غمطا )
( حكت وحباب الماء في جنباتها ** سنا البدر حل من نجوم السما وسطا )
( إذا غازلتها الشمس ألقى شعاعها ** على جسمها الفضي نهرا بها لطا )
( توسمت فيها من صفاء أديمها ** نقوشا كأن المسك ينقطها نقطا )
( إذا اتسقت بيض القباب قلادة ** فأنى لها في الحسن درتها الوسطا )
( تكنفني بيض الدمى فكأنها ** عذارى نضت عنها القلائد والريطا )
( قدود ولكن زادها الحسن عريها ** وأجمل في تنعيمها النحت والخرطا )
( سمت صعدا تيجانها فكسرت ** فوارير أفلاك السماء بها ضغطا )
( فيالك شأوا بالسعادة آهلا ** بأكنافه رحل العلا والهدى حطا )
( وكعة مجد شادها العز فانبرت ** تطوف بمعناها أماني الورى شوطا )
( ومسرح غزلان الصريم كناسها ** حنايا قباب لا الكتب ولا السقطا )
( فلكن به ما طاب لا الإثل والخمطا ** ووسدن فيه الوشي لا السدر والأرطا )
( ثراه من المسك الفتيت مدبر ** إذا مازجته السحب عاد بها خلطا )
( وإن باكرته نسمة ينسري بها ** إلى كل أنف عرف عنبره قسطا )
( أقرت له الزهراء والخلد وانثنت ** أواوين كسرى الفرس تغبطه غبطا )
( جناب رواق المجد فيه مطنب ** على خير من يعزى لخير الورى سبطا )
( إمام يسير الدهر تحت لوائه ** وترسي سفائن العلا حيثما حطا )
( وفتاح أقطار البلاد بفيلق ** يفلق هامات العدا بالظبي خبطا )
( تطلع من خرصاته الشهب فانثنت ** ذوائب أرض الزنج من ضوءها شمطا )
( كتائب نصران جرت لملمة ** جرت قبلها الأقدار تسبقها فرطا )
( إذا ما عقدن راية علوية ** جعلن ضمان الفتح في عقدها شرطا )
( فما للسما تلك الأهلة إنما ** سنابكها أبقت مثالا بها خطا )
( يطاوع أيدي المعلوات عنانها ** فيعتاض من قبض الزمان بها بسطا )
( يد لأمير المؤمنين بكفها ** زمام يقود الروم والفرس والقبطا )
( أدار جدارا للعلا وسرادقا ** يحوط جهات الأرض من رعيه حوطا )
وقال أيضا مما كتب بداخل القبة المذكورة
____________________


( جمال بدائعي سحر العيونا ** ورونق منظري بهر الجفونا )
( وقد حسنت بقوسي واستطارت ** سنا يغشى عيون الناظرينا )
( وأطلع سمكي الأعلى نجوما ** ثواقب لا تغور الدهر حينا )
( وجوى من دخان الند ألقى ** على أرضي الغياهب والدجونا )
( علوت دوائر الأفلاك سبعا ** لذاك الدهر ما ألفت سكونا )
( فصغت من الأهلة والحنايا ** أساور والخلاخل والبرينا )
( تكنفني حياض مائحات ** أمامي والشمائل واليمينا )
( يقيد حسنها الطرف انفساحا ** ويجري الفلك فيها والسفينا )
( تدافع نهرها نحوي فلما ** علاه البحر في غدا دفينا )
( وقد نشر الحباب على سماها ** لآلي تزدري العقد الثمينا )
( فخرت وحق لي لما اجتباني ** لمجلسه أمير المؤمنينا )
( هو المنصور حائز فصل سبق ** وباني المجد بنيانا مكينا )
( وليث وغى إذا زأر امتعاضا ** يروع زئيره هندا وصينا )
( إذا أمت كتائبه الأعادي ** بعثن برعبه جيشا كمينا )
( يدير عليهم من كل حرب ** تدقهم رحى أو منجنونا )
( إمام بالمغارب لاح شمسا ** بها الشرق اكتسى نورا مبينا )
( بقيت بذي القصور الغر بدرا ** تلوح بأفقهن مدى السنينا )
( تحف بكم عواكف عند بابي ** ملائكة كرام كاتبينا )
( لك البشرى أمير المؤمنين ادخلوها ** مع سلام آمنينا )
وقال أيضا مما كتب في بهوها بمرمر أسود في أبيض
( لله بهو عز منه نظير ** لما غدا كالروض وهو نضير )
( رصفت نقوش حلاه رصف قلائد ** قد نضدتها في النحور الحور )
( فكأنها والتبر سال خلالها ** وشي وفضة تربها كافور )
( وكأن أرض قراره ديباجة ** قد زان حسن طرازها تشجير )
( وإذا تصاعد نده نوأ ففي ** أنماطه نور به ممطور )
( شأو القصور قصورها عن وصفه ** سيان فيه خورنق وسدير )
____________________


( فإذا أجلت اللحظ في جنباته ** يرتد وهو بحسنه محسور )
( وكأن موج البركتين أمامه ** حركات سحب صافحته دبور )
( صفت بضفتها تماثل فضة ** ملك النفوس بحسنها تصوير )
( فتدير من صفو الزلال معللا ** يسري إلى الأرواح منه سرور )
( ما بين آساد يهيج زئيرها ** وأساود يعلو لهن صفير )
( ودحت من الأنهار أرض زجاجة ** وأضلها فلك يضيء منير )
( راقت فمن حصبائها وفواقع ** يطفو عليها اللؤلؤ المنثور )
( يا حسنه من مصنع فبهاؤه ** باهى نجوم الأفق وهي تنور )
( وكأنما زهر الرياض بجنبه ** حيث التفت كواكب وبدور )
( ولدسته الأسمى تخير رصفه ** فخر الورى وإمامها المنصور )
( ملك أناف على الفراقد رتبة ** وأقله فوق السماك سرير )
( قطب الخلافة تاج مفرق دولة ** رميت بجحفلها اللهام الكور )
( وجرى إلى أقصى العراق لرعبها ** جيش على جسر الفرات عبور )
( نجل النبي ابن الوصي سليل من ** حقن الدماء وعف وهو قدير )
( بحر الندى لكنه متموج ** سيف العلا لكنه مطرور )
( طود يخف لحلمه ووقاره ** ولجيشه يوم النزال ثبير )
( دامت معاليه ودام ومجده ** طوق على جيد العلا مزرور )
( وتعاهدته من الفتوح بشائر ** يغدو عليه بها مسا وبكور )
( ما زال منزل سعده يرتاده ** نصر يرف لواؤه المنشور )
( وجرت به مرحا جياد مسرة ** وأدار كأس الأنس فيه سمير )
وقال بعض الكتاب مما نقش في عضادتي باب القبة الخمسينية المذكورة
( يا ناظرا بالله قف وتأمل ** وانظر إلى الحسن البديع الأكمل )
( وإذا نظرت إلى الحقيقة فلتقل ** السر في السكان لا في المنزل )
وقال بعض الكتاب أيضا ما طرزت به الأستار المذهبة المحكمة الصنعة لتستر بها النواحي الأربعة من القبة الخمسينية وتسمى هذه الأستار عند أهل
____________________

المغرب بالحائطي ففي الجهة الأولى
( متع جفونك في بديع لباسي ** وأدر على حسني حميا الكاس )
( هذي الربا والروض من جرعائها ** لم تغتذي بالعارض البجاس )
( أنى لروض أن يروق بهاؤه ** مثلي وأن يجري على مقياسي )
( فالروض تغشاه السوام وإنما ** تأوي إلى كنفي ظباء كناس )
وفي الجهة الثانية
( من كل حسنا كالقضيب إذا انثنى ** تزري بغصن البانة المياس )
( ولقد نشرت على السماك ذوائبي ** ونظرت من شرز إلى الكناس )
( وجررت ذيلي بالمجرة عابثا ** فخرا بمخترعي أبي العباس )
( ما نيط مثلي في القباب ولا ازدهت ** بفتى سواه مراتب وكراس )
وفي الجهة الثالثة
( ملك تقاصرت الملوك لعزه ** ورماهم بالذل والإتعاس )
( غيث المواهب بحر كل فضيلة ** ليث الحروب مسعر الأوطاس )
( فرد المحاسن والمفاخر كلها ** قطب الجمال أخو الندى والباس )
( ملك إذا وافى البلاد تأرجت ** منه الوهاد بعاطر الأنفاس )
وفي الجهة الرابعة
( وإذا تطلع بدره من هالة ** يعشى سناه نواظر الجلاس )
( أيامه غرر تجلت كلها ** أبهى من الأعياد والأعراس )
( لا زال للمجد السني يشده ** ويقيم مبناه على الأساس )
( ما مال بالغصن النسيم وكللت ** درر الندى في جيده المياس )
وقال أبو فارس الفشتالي مما كتب على المصرية المطلة على الرياض المرتفعة على القبة الخضراء من بديع المنصور وكان أنشأها في جمادى الأولى من سنة خمس وتسعين وتسعمائة
( باكر لدي من السرور كؤوسا ** وأرض النديم أهله وشموسا )
( وأعرج على غرفي المنيف سماؤها ** تلق الفراقد في حماي جلوسا )
____________________


( وإذا طلعت بأوجها قمر العلا ** لا ترتضي غير النجوم جليسا )
( شرق القصور بريقها لما اجتلت ** مني على بسط الرياض عروسا )
( واعتضت بالمنصور أحمد ضيغما ** وردا تخير من بديعي خيسا )
( ملك أرى كل الملوك ممالكا ** لعلاه والدنيا عليه حبيسا )
( وهناك يا شرف الخلافة دولة ** تلقى برايتها طلائع عيسا )
وقال أيضا مما كتب في بعض المباني البديعية
( معاني الحسن تظهر في المغاني ** ظهور السحر في حدق الحسان )
( مشابه في صفات الحسن أضحت ** تمت بها المغاني للغواني )
( بكل عمود صبح من لجين ** تكون في استقامة خوط بان )
( مفصلة القدود مثلثات ** مواصلة العناق من التدان )
( تردت سابري الحسن يزري ** بحسن السابري الخسرواني )
( وتعطو الخيزرانة من حماها ** بسالفة القطيع البرهماني )
( لمجدك تنتمي لكن نماها ** إلى صنعاء ما صنع اليدان )
( يدين لك ابن ذي يزن ويعنو ** لهما غمدان في أرض اليماني )
( غدت حرما ولكن حل فيها ** لوفدكم الأمان مع الأماني )
( مبان بالخلافة آهلات ** بها يتلو الهدى السبع المثاني )
( هي الدنيا وساكنها إمام ** لأهل الأرض من قاص وداني )
( قصور ما لها في الأرض شبه ** وما في المجد للمنصور ثاني )
وقال مما نقش في بعض الأبواب
( هذي وفود السعد نحوي ترتمي ** وطلائع البشرى لبابي تنتمي )
( وسمت إلي عفاة عرفك مثل ما ** يسمو الحجيج إلى سقاية زمزم )
( حطت بمصراعي السعود بشائرا ** لاحت على الشرفات مثل الأنجم )
( وأوان صنعي أن تقول ولا تبل ** ببديع أحمد جنة المتنعم )
وقال الفشتالي لما عرضت عليه هذه الأبيات استحسنها إلا أنه كره لفظة جنة وتغير منها كثيرا وقال الوزير الأديب أبو الحسن علي بن منصور الشيظمي مما كتب على مباح قبة الزجاج
____________________


( إن شئت تاريخ إكمال البديع فقل ** إيوان أحمد إيوان السعادات )
وقال الوزير المذكور مما نقش على أحد أبواب البديع
( باب أتى كبراعة استهلال ** وكأنما القصر القصيد التالي )
( ولذاك سمي بالبديع وجاء بال ** إغراق والتجنيس والإيفال )
( وأتى التمام فقلت في تاريخه ** بيتا بلا عقد ولا إشكال )
( صرح على تقوى من الله انبنى ** في طالع للسعد والإقبال )
وقال أيضا في تمام البديع مهنئا
( يا مليكا ملكه فيمن ملك ** كطلوع الفجر من بعد الحلك )
( تم هذا القصر فاسكنه على ** حسن حال بدوام الملك لك )
وكان الفراغ من تمام البديع سنة اثنتين وألف وفي تاريخه يقول الوزير المذكور وهو مما نقش بباب الرخام أحد أبواب البديع
( الحسن لفظ وهذا القصر معناه ** ياما أميلح مرآه وأبهاه )
( فهو البديع الذي راقت بدائعه ** وطابق اسم له فيه مسماه )
( صرح أقيمت على التقوى قواعده ** ودل منه على التاريخ معناه )
( ولاح أيضا وعين الحفظ تكلاه ** تاريخه من تمام قل هو الله )
قال في نفح الطيب اخترع المنصور من المصانع ثلاثة أشياء فجاءت غريبة الشكل بديعة الحسن وهي البديع والسمرة والمشتهى وفيهما يقول المنصور موريا
( بستان حسنك أبدعت زهراته ** ولكم نهيت القلب عنه فما انتهى )
( وقوام غصنك بالمسرة ينثني ** يا حسن رمان به للمشتهى ) اه
قال اليفرني والذي ذكره صاحب كتاب البيان المغرب عن أخبار المغرب وهو الشيخ أبو عبد الله محمد بن عذاري الأندلسي حسبما رأيته في السفر الثاني منه أن أول من أنشأ المسرة التي بظاهر جنان الصالحة عبد المؤمن بن علي كبير الموحدين قال وهو بستان طوله ثلاثة أميال وعرضه قريب منها فيه كل فاكهة تشتهى وجلب إليه الماء من أغمات واستنبط له عيونا كثيرة
____________________


قال ابن اليسع وما خرجت أنا من مراكش في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة إلا وهذا البستان الذي غرسه عبد المؤمن يبلغ مبيع زيتونه وفواكهه ثلاثين ألف دينار مؤمنية على رخص الفاكهة بمراكش اه ولعل المنصور جدد معالم المسرة بعد اندراسها وأفاض سجال الحياة على ميت غراسها وكان المنصور يفتخر بالبديع كثيرا وينوه بقدره وفي ذلك يقول أبو فارس الفشتالي
( هذا البديع يعز شبه بدائع ** أبدعتهن به فجاء غريبا )
( أضنى الغزالة حسنه حسدا له ** أبدى عليها للأصيل شحوبا )
( وانقضت الزهر المنيرة إذ رأت ** زهر الرياض به ينور عجيبا )
( شيدتهن مصانعا وصنائعا ** أنجزن وعدك للعلا المرقوبا )
( وجريت في كل الفخار لغاية ** أدركتهن وما مسست لغوبا )
( فانعم بملكك دام فيه مؤبدا ** تجني به فنن النعيم رطيبا )
ولما أكمل المنصور البديع وفرغ من تنميق بردته وتطريز حلته صنع مهرجانا عظيما ودعا الأعيان والأكابر فقدم لهم من ضروب الأطعمة وصنوف الموائد وأفرغ عليهم من العطايا ومنحهم من الجوائز ما لم يعهد منه قبل ذلك وكان ممن دخل في غمار الناس رجل من البهاليل ممن كانت له شهرة بالصلاح في الوقت فقال له المنصور مباسطا كيف رأيت دارنا هذه يا فلان فقال له إذا هدمت كانت كدية كبيرة من التراب فوجم لها المنصور وتطير منها وتحكى هذه الحكاية عن غير المنصور فالله أعلم
قال اليفرني وقد ظهر مصداق ذلك على يد السلطان المظفر المولى إسماعيل بن الشريف فإنه أمر بهدمه سنة تسع عشرة ومائة وألف لموجب يطول شرحه فهدمت معالمه ومحيت مراسمه وفرق ما كان به من جموع الإنس وعاد حصيدا كأن لم يغن بالأمس حتى صار مرعى للكلاب والمواشي ووكرا للصدى والبوم وحق على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه ومن العجائب أنه لم يبق بلد من بلاد المغرب إلا ودخله شيء من أنقاض البديع ولقد تذكرت بهذا ما حكاه بعض مؤرخي الأندلس أن
____________________

الزاهرة التي بناها المنصور بن أبي عامر وهي من عجائب الدنيا مر عليها في أيام المنصور بعض أهل البصائر وهي في نهاية العمران والازدهاء بسكانها فقال يا دار فيك من كل دار فجعل الله منك في كل دار قال فضرب الدهر ضرباته وسلط عليها أيدي العدوان فهدمت وخربت وتفرقت محاسنها حتى نقل بعض أنقاضها إلى العراق
قال اليفرني ولما دخلت البديع مقفلي من الرحلة ورأيت ما هالني أنشدت أبياتا أنشدها الشيخ محيى الدين بن عربي في كتاب المسامرة لما دخل الزاهرة فوجدها متهدمة وهي
( ديار بأكناف الملاعب تلمع ** وما أن بها من ساكن فهي بلقع )
( ينوح عليها الطير من كل جانب ** فتصمت أحيانا وحينا ترجع )
( فخاطبت منها طائرا متفردا ** له شجن في القلب وهو مروع )
( فقلت على ماذا تنوح وتشتكي ** فقال على دهر مضى ليس يرجع )
وأنشدت ما أنشده ابن الآبار في تحفة القادم
( قلت يوما لدار قوم تفانوا ** أين سكانك الكرام علينا )
( فأجابت هنا أقاموا قليلا ** ثم ساروا ولست أعلم أينا )
ثم قال اليفرني رحمه الله
لطيفة تأملت لفظ البديع فوجدت عدد نقط حروفه بحساب الجمل مائة وسبعة عشر وهذا القدر هو الذي بقي فيه البديع قائما فإنه فرغ منه سنة اثنتين وألف وشرع في هدمه سنة تسع عشرة ومائة وألف فمدة عمره مائة وسبع عشرة سنة على عدد اسمه وذلك من غريب الاتفاق فسبحان من دقت حكمته وجلت قدرته وعمت رحمته لا إله إلا هو الحكيم العليم
____________________

ثورة الناصر ابن السلطان الغالب بالله ببلاد الريف ومقتله
كان الناصر هذا في حياة أبيه عبد الله الغالب بالله خليفته على تادلا ونواحيها ولما توفي أبوه المذكور وقام بالأمر أخوه المتوكل كما استوفينا خبره قبض على الناصر فاعتقله فلم يزل معتقلا عنده سائر أيامه إلى أن قدم المعتصم بجيش الترك وانتزع الملك من يد المتوكل كما مر فسرح الناصر من اعتقاله وأحسن إليه فلم يزل عنده في أرغد عيش إلى أن توفي المعتصم يوم وادي المخازن وأفضى الأمر إلى المنصور ففر الناصر إلى آصيلا وكانت للنصارى يومئذ ثم عبر البحر منها إلى الأندلس فكان عند طاغية قشتالة مدة طويلة إلى أن سرحه الطاغية إلى المغرب بقصد تفريق كلمة المسلمين وإحداث الشقاق بينهم فخرج الناصر بمليلية ونزل بها لثلاث مضت من شعبان سنة ثلاث وألف وتسامعت به الغوغاء والطغام من أهل تلك البلاد فأقبلوا إليه يزفون فكثرت جموعه وتوفرت جيوشه واهتز المغرب بأسره لذلك
وذكر اليفرني في الصفوة أن الفقيه أبا عبد الله محمد بن قاسم القصار كتب كتابا إلى الشيخ الصالح أبي عبد الله محمد بن علي بن ريسون من أهل بلاد غمارة وكان مسموع الكلمة بها يحضه على الاستمساك بدعوة المنصور وأن يلزم الطاغية له فوقع الكتاب في يد المنصور فعرف للشيخ القصار حقه ولما وفد عليه بعد ذلك وصله وولاه الفتوى والخطبة بجامع القرويين وتفرقة صدقة المساكين
ثم إن الناصر خرج من مليلية قاصدا تازا فدخلها واستولى عليها ونزعت إليه القبائل المجاورة لها كالبرانس وغيرهم فتألبوا عليه وتمالؤوا على إعزازه ونصره ولما دخل تازا طالب أهلها بالمكس وقال لهم إن النصارى يغرمون حتى على البيض ولما سمع المنصور بخبره أقلقه ذلك وتخوف منه غاية لأن الناصر اهتز المغرب لقيامه وتشوفت النفوس إليه لميل القلوب عن المنصور لشدة وطأته واعتسافه للرعية
قال في ابتهاج القلوب في ترجمة الولي الصالح أبي الحسن علي بن
____________________

منصور البوزيدي المعروف بأبي الشكاوي دفين شالة إنه كان سائرا يوما على بغلة ومعه أصحابه فقال لهم يا فقراء أتسمعون ما تقول بغلتي إنها تصيح بالنصر لمولاي الناصر وكذلك الشجر والحجر وإني أرى غير ذلك فكان الأمر كما قال اهتز لقيام الناصر كل شيء ثم قتل عن قريب ولم يتم له أمر اه
ثم إن المنصور بعث إليه جيشا وافرا فهزمهم الناصر واستفحل أمره وتمكن ناموسه من القلوب فأمر المنصور ولي عهده المأمون بمنازلته فخرج إليه من فاس في تعبية حسنة وهيئة تامة فلما التقى الجمعان كانت الدبرة على الناصر بالموضع المعروف بالحاجب ومر على وجهه فاحتل بالجاية بلدة من عمل بلاد الزبيب فلحق به ولي العهد فلم يزل في مقاتلته إلى أن قبض عليه فأزال رأسه وبعث به إلى مراكش وكان ذلك سنة خمس وألف وقيل سنة أربع وألف
قال في نشر المثاني كان مقتل الناصر وإدخاله مقطوع الرأس إلى فاس يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من رمضان سنة أربع وألف وهو الأصح
وذكر الشيخ أبو علي اليوسي في المحاضرات ما نصه حدثوا عن صلحاء تادلا أنه لما قام على السلطان أحمد المنصور ابن أخيه الناصر قال الشيخ أبو العباس أحمد بن أبي القاسم الصومعي إن الناصر يدخل تادلا يعني دخول الملك فلما بلغ الخبر إلى الشيخ أبي عبد الله محمد الشرقي التادلي قال مسكين بابا أحمد رأى رأس الناصر قد دخل تادلا فظنه الناصر يدخلها فكان الأمر كذلك فإنه هزم في نواحي تازا ثم قطع رأسه وحمل إلى مراكش فدخل تادلا في طريقه اه
ولما قتل الناصر سر المنصور بذلك وأتته الوفود للتهنئة وقال الشعراء في ذلك منهم الكاتب أبو عبد الله محمد بن عمر الشاوي قال
( تهنأ أمير المؤمنين فقد جرت ** بسطوتك الأقدار جري السوابق )
( أضاءت لك الأيام واحلولكت على ** عدوك وارتجت رؤوس الشواهق )
( وذاك الذي قد خيب الله سعده ** تردى فلم تنفعه نصرة مارق )
( فكان كما قد قيل لكن رأسه ** أتى سابقا والرجل ليست بسابق )
____________________


ضمن قول بعضهم في الوزير ابن الفرس وقد رآه مصلوبا منكوس الرأس
( لقد طمح المهر الجموح لغاية ** تقطع أعناق الجياد السوابق )
( جرى فجرت رجلاه لكن رأسه ** أتى سابقا والرجل ليست بسابق )
وكتب المنصور بخبر هذا الفتح إلى الآفاق
فمما كتبه للشيخين الإمامين أبي عبد الله محمد زين العابدين البكري وأبي عبد الله محمد بدر الدين القرافي رسالة يقول فيها ما نصه
من عبد ربه المجاهد في سبيله أحمد المنصور بالله أمير المؤمنين الحسني إلى الفاضل الذي اعتجر بالتقوى وهو زين العابدين وتحلى بحلى المعارف الربانية وتلك حلى العارفين والسالك الذي برز في الطريقة وسلك على المجاز الواضح إلى الحقيقة ففات شأو السابقين والعارف الذي تجرد عن رعونة الأهواء النفسانية فكان سلوكه على التجريد إلى حضرة الواصلين الشيخ العالم الحجة الوافي السيد بدر الدين القرافي والشيخ العارف الواصل السر الكامل سلالة العلماء سبط الفضلاء أبي عبد الله زين العابدين ابن الشيخ السامي المقام قطب المشايخ الأعلام فخر علماء الإسلام الشهير البركة في الأنام أبي عبد الله محمد بن أبي الحسن الصديقي أبقاكما الله وأرواحكما تتعطر برياحين الإنس في حضرة القدس وتتنسم النفحات الهابة من رياض المشاهدة إلى مدارج الإنس ومعارج النفس وسلام عليكما ورحمة الله تعالى وبركاته
وبعد حمد الله مفيض أنوار عناية أحمد على صاحبه الصديق مظهر كنوز المعارف الربانية جيلا بعد جيل من بيت عتيق و صلى الله عليه وسلم الذي اختار لمرافقته صاحبه في الغار والعريش والطريق والرضا عن آله أئمة الخلق وسيوف الحق وأصحابه الذين فاضت أنوار هدايتهم على الغرب والشرق وببركتهم انتسق لنا الفتح انتساق الأسلاك وبفضلهم يعلو سعدنا على الكفر علو القطب على دائرة الأفلاك فكتبنا هذا إليكم من حضرتنا مراكش حاطها الله وصنع الله لها مفعم السجال وواسع المجال
____________________

وعزمتها الماضية تبعث إلى العدا رسل الأوجال والأيام بعز صولتها ويمن دولتها بهذه المغارب باسمة الثغور مؤذنة باتصال أمرها العزيز بحول الله إلى أن تطوى ملاءة الدهر هذا وأنه اتصل بعلي مقامنا كتابكما الذي صدحت على أفنان البلاغة سواجعه وعذبت في موارد المحبة الصديقية مناهله ومشارعه ولطفت في كل معنى من المعاني أفانينه ومنازعه وتألفت على الإجادة في كل مقصد من المقاصد مواصله العذبة ومقاطعه وأينعت بأزهار العناية الربانية أباطحه الفيح وأجارعه ومعه المنظومات التي سحت بالحكم ديمها ورسا في البلاغة قدمها وربا في منبت المواهب الربانية يراعها الفصيح وقلمها وحل من نفوسنا موقعها العجيب محلا من دونه الثريا في مطلعها والبدر ليلة تمامه إعجابا بها وتنويها بمهديها وابتهاجا بالخوارق التي أطلق الله على لسان مبديها وإلى هذا فليحط علمكما بأن مقامنا تنفق فيه على الدوام إن شاء الله نفائس بضائعكم وتنمو فيه مع الأيام سعود مطالعكم وتسمو فيه على كل مقام مقاماتكم وتستوضح فيه على المحبة الصميمة أماراتكم الواضحة وعلاماتكم فعلى هذا تنعقد منكم الخناصر وتشتد الأواخي والأواصر بعز الله ومنه ثم مما نستطرد لكم ذكره على جهة البشرى وإهداء المسرة الكبرى إعلامكم أن عدو الدين طاغية قشتالة الذي هو اليوم العدو الكبير للإسلام وعميد ملل التثليث وعبدة الأصنام لما انس من تلقاء جنابنا نار العزم تلتهب منا التهابا وبحر الاحتفال تضطرب أمواجه الزاخرة بكل عدد وعدة اضطرابا وهممنا قد همت بتجديد الأسطول والاستكثار من المراكب المتكفلة للجهاد إن شاء الله بقضاء كل دين ممطول وعلم أن الحديث إليه يساق وإلى أرضه بالخسف والتدمير بحول الله يهفو كل لواء خفاق رام خذله الله مكافاتنا على ذلك بما أمل أن يفت به في عضدنا الأقوى وعزمنا الذي بعناية الله يزداد ويقوى فرمى بمخذول من أبناء أخينا عبد الله كان ربى لديه وطوحت به الطوائح منذ ثمانية عشر عاما إليه إلى مليلية إحدى الثغور المصاقبة لغرب ممالكنا الشريفة التي إلى كفالة ولدنا وولي عهدنا كافل الأمة من بعدنا الأمير الأجل الأرضى صارم العزم
____________________

المنتضى وحسام الدين الأمضى أبي عبد الله محمد الشيخ المأمون بالله وصل الله لرايته التأييد والظهور والعز الذي يستخدم الأيام والدهور فالتف عليه من اغتر بأباطيله الواهية البناء من أوباش العامة والغوغاء ومن قضى له من أجناد تلك الناحية بالشقاء جموع تكاثر الرمل وتفوت الحصا والنمل لاح بها للشقي خلب بارق أكذبته أمنيته إذ صدقته منيته فصمم نحوه ولدنا أعزه الله بجنود الله التي إليه وبعساكر تلك الممالك التي ألقينا زمام تدبيرها في يديه فما راع الشقي إلا انقضاضه عليه من الجو انقضاض الأجدل وتصميمه إليه بعزائم تدك الطود وتفلق الصخر والجندل فاستولى عليه بحمد الله للحين وعلى جموعه الأشقياء في يوم أغر محجل وساعة أنزل الله فيها على الخوارج المارقين العذاب المعجل فاستأصلتهم الشفار وحصدت هشيمهم المصوح ألسنة النار وقبض على الشقي في يوم كان شفاء للصدور ومنتزها لحملة السيوف وربات الخدور وأحرز الله تعالى فخر هذا الفتح العظيم والمن الجسيم لولدنا أعزه الله عز وجل في خاصة أجناده ونهض وحده بأعبائه ونحن على سرير ملكنا وادعون مطمئنون وأجنادنا في أوطارنا لاهون ومفتنون فلم يحتج إلى أنجاده من قبلنا ولا إمداده والعاقبة للمتقين والحمد لله حمد الشاكرين وعرفناكم لتأخذوا بحظكم من السرور بهذه البشرى التي سرت الإسلام وساءت بحمد الله عبدة الأوثان والأصنام وتعلموا مع ذلك ما عليه الأحوال اليوم بحول الله لدينا من خفق رايات العزم وشحذ آراء الجزم وأعمال عوامل الجزم إلى مجازاة عدو الدين إن شاء الله على فعلته التي عادت عليه أسفا ولهفا وإعادة ما كان أسلف من ذلك إن شاء الله بالمكيال الأوفى وقدمنا إليكم التعريف لتمدونا إن شاء الله بأدعيتكم الصالحة في أوقات الإجابة وتحرصوا على التماسها هنالك وبالحرمين الشريفين من كل ذي خضوع وإنابة أن يؤيدنا الله على عدو الدين بفضله وينجز لنا وعده الصادق في إظهار دين الحق على الدين كله ويسهل علينا بفضله ومعونته أسباب فتح الأندلس وتجديد رسوم الإيمان بها وإحياء أطلاله الدرس حتى ينطق لسان الدين في أرضها بكلمة
____________________

الله التي طالما سكت عنها نداؤه وخرس وشرق بريقه فغص وخنس فبيده الحول والقوة وعنايته العناية المرجوة ثم نوصيكم بحسن الوقوف مع أصحابنا فيما يشترى من الكتب العلمية برسم خزانتنا الكريمة الإمامية العلية ثم الإتحاف بديوان الشيخ والدكم التماسا لجميل بركاته وتمسكا بما سبق من الإجازة العامة في سائر منظوماته وموضوعاته ومروياته وهذا موجبه إليكم والسلام الأتم معاد عليكم ورحمه الله وبركاته في ربيع النبوي سنة خمس وألف اه وهذه الرسالة من إملاء المنصور على ما قيل
ومما كتب به أيضا بخط يده إلى سلطان مكة والمدينة والحجاز الشريف أبي المحاسن حسن بن أبي نمي بن بركات ما نصه
من عبد الله المجاهد في سبيله الإمام المنصور بالله أحمد أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين الشريف الحسني إلى الأصالة التي تبحبحت من ذؤابة هاشم في صميمها وتوغلت من غرفات حرمة الله بين زمزمها وحطيمها وتمتعت من عرارة نجد بانتشاق نفحاتها الأريجة وشميمها أصالة السلطان الأثيل الأثير الأسنى الأسمى الأزكى السلطان حسن بن أبي نمي أبقاكم الله والبيت ذو الأستار تتفيؤون ظلاله وتلثمون من الحجر الأسود الأسعد خاله وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد حمد الله الذي أعز هذه المثابة العلوية الإمامية النبوية العزيزة الأنصار السامية المحتد والنجار الساحبة أذيال عزها الوريف الظلال على أهل البيت السامي المقدار سكان الحمى والذين تبوءوا الدار و صلى الله عليه وسلم الذي أطلع شموس الهداية الساطعة الأنوار والرضا عن آله الذين تتضاءل لمجدهم السامي المنار الشموس والأقمار وعن أصحابه الذين استأصلوا شأفة الكفر بمواضي الشفار وصلة الدعاء لهذا المقام العلي الإمامي المنصوري الحسني بنصر تجني الفتوح من قضب رماحه وتجري الأقدار على وفق اقتراحه فكتابنا هذا إليكم من حضرة مراكش حاطها الله ووسع لها المجال في ميادين السجال والأيام بعز صولتها ويمن دولتها بهذه المغارب باسمة الثغور مؤذنة باتصال أمرها العزيز بحول الله إلى أن تطوى
____________________

ملاءة الدهور بعز الله وعنايته هذا وإن شيخ الركب المغربي وهو المرابط الخير الحاج محمد بن عبد القادر لما أزمع إلى المعاهد الشريفة الرحيل لتجديد رسم الطاعة الذي ليس بعاف ولا محيل وهب له من محارم الله نسيم يميل وآن للمطايا أن تعمل الوخد والذميل مد إلى علي مقامنا أكف الرغبة في كتاب كريم يتشرف بحمله ويتعرف منه السعادة بحول الله في مرتحله وحله يتضمن الإيصاء به إليكم في المورد والمصدر ومدة مقامه من جواركم بحرم الله تجاه البيت والمشعر فحملناه هذه العجالة لترعوا له إن شاء الله عنها الحق المعتبر وتولوه من جانبكم بما يصدق به الخبر وتدنوا له من آماله قطوف كل فنن مهتصر ومما نكلفكم النهوض لأجل حقوق الأخوة بأعبائه ونطالبكم لوشائج الرحم بالاعتناء بأدائه التماس الدعاء مع الأحيان تجاه البيت الحرام وعند الملتزم والمقام أن يؤيدنا الله على عدو الدين بفضله وينجز لنا وعده الصادق في إظهار دينه على الدين كله ويسهل علينا بفضله ومعونته أسباب فتح الأندلس وتجديد رسوم الإيمان بها وإحياء أطلاله الدرس حتى ينطق لسان الدين فيها بكلمات الله التي طالما سكت عنها نداؤه وخرس وشرق بريقه فغص وخنس فذلك دعاء لا يرد لأنه جرى من أهله في محله ومعاد السلام الأثم عليكم ورحمة الله وبركاته انتهى
وقوله حتى ينطق لسان الدين فيه تورية بابن الخطيب رحمه الله
قال الفشتالي كان ترتيب المنصور في الاحتفال بالمولد النبوي الكريم أنه إذا طلعت طلائع شهر ربيع الأول صرف الرقاع إلى الفقراء أرباب الذكر على رسم الصوفية والمؤذنين النعارين في الأسحار فيأتون من كل جهة ويحشرون من سائر حواضر المغرب ثم يأمر الشماعين بتطريز الشموع وإتقان صنعتها فيتبارى في ذلك مهرة الشماعين من كل ما يباري النحل في نسج أشكالها لطفا وإدماجا فيصوغون أنواعا من الشمع التي تحير النواظر ولا تذبل زهورها النواضر فإذا كان ليلة المولد تهيأ لحملها وزفاف كواعبها
____________________

الصحافون المحترفون بحمل خدور العرائس عند الزفاف فيتزينون لذلك ويكونون في أجمل شارة وأحسن منظر ويجتمع الناس من أطراف المدينة كلها لرؤيتها فيمكثون إلى حين يسكن حر الظهيرة وتجنح الشمس للغروب فيخرجون بها على رؤوسهم كالعذارى يرفلن في حلل الحسن وهي عدد كثير كالنحل فيتسابق الناس لرؤيتها وتمتد لها الأعناق وتبرز ذوات الخدور ويتبعها الأطبال والأبواق وأصحاب المعازف والملاهي حتى تستوي على منصات معدة لها بالإيوان الشريف فتصطف هنالك فإذا طلع الفجر خرج السلطان فصلى بالناس وقعد على أريكته وعليه حلة البياض شعار الدولة وأمامه تلك الشموع المختلفة الألوان من بيض كالدمى وحمر جليت في ملابس أرجوان وخضر سندسية واستحضر من أنواع الحسك والمباخر ما يلهي المحزون ويدهش الناظر ثم دخل الناس أفواجا على طبقاتهم فإذا استقر بهم المجلس تقدم الواعظ فسرد جملة من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وذكر مولده ورضاعه وما وقع في ذلك باختصار فإذا فرغ اندفع القوم في الأشعار المولديات فإذا فرغوا تقدم أهل الذكر المزمزمون بكلام الششتري وأشعار الصوفية ويتخلل ذلك نوبة المنشدين للبيتين فإذا فرغوا من ذلك كله قام شعراء الدولة فيتقدم قاضي الجماعة الشاطبي بلبل منابر الجمع والأعياد فينشد قصيدة يفتتحها بالتغزل والنسيب فإذا تم تخلص لمدح النبي صلى الله عليه وسلم ثم يختم بمدح المنصور والدعاء له ولولي عهده فإذا قضى نشيده تقدم الإمام المفتي المولى أبو مالك عبد الواحد الشريف فينشد قصيدته على ذلك المنوال فإذا فرغ تلاه الوزير أبو الحسن علي بن منصور الشيظمي ثم تلاه الكاتب أبو فارس عبد العزيز الفشتالي ويليه الكاتب محمد بن علي الفشتالي ويليه الأديب محمد بن علي الهوزالي النابغة ويليه الأديب الفقيه أبو الحسن علي بن أحمد المسفيوي فإذا طوى بساط القصائد نشر خوان الأطعمة والموائد فيبدأ بالأعيان على مراتبهم ثم يؤذن للمساكين فيدخلون جملة فإذا انقضت أيام المولد الشريف برزت صلات الشعراء على أقدارهم هكذا كان دأبه في جميع الموالد ولا يحصى ما يفرغ فيه من أنواع الإحسان
____________________

على الناس اه من كتاب مناهل الصفاء
وقال صاحب النفحة المسكية في السفارة التركية وهو العلامة المشارك أبو الحسن علي بن محمد التامجروتي حضرت المولد الشريف بعد القفول من بلاد الترك فاستدعى المنصور الناس لإيوانه السعيد واستدخلهم لقصره البديع المشيد المحتوي على قباب متقابلة عالية وقد مد فيها من فرش الحرير وصفت النمارق وتدلت الأستار والكلل والحجال المخوصة بالذهب على كل باب قبة وحنية سرير ودار على الحيطان حائطيات الحرير التي هي كأزهار الخمائل ما رئيت قط في عهد الأوائل وتلك القباب مرفوعة الجوانب على قواعد وأساطين من رخام مجزع مطلية الرؤوس بالذهب الذائب مفروش جلها بالمرمر الأبيض مخططا بالسواد يتخلل ذلك ماء عذب فيدخل الناس على طبقاتهم ويأخذ كل مرتبته من قضاة وعلماء وصلحاء ووزراء وقواد وكتاب وأصناف الأجناد فيخيل لكل منهم أنه في جنة النعيم والسلطان جالس في فاخر ملابسه تعلوه الهيبة والوقار وترمقه الأبصار بالتعظيم والإكبار ويجلس من عادته الجلوس ويقف على رأس السلطان الوصفان والعلوج وعليهم الأقبية المخوصة والمناطق المرصعة والحزم المذهبة مما يدهش الناظر وركز أمامهم الشمع الملون وأذن لعامة الناس فدخلوا من أصناف القبائل على أجناسها من الأجناد والطلبة وسكنت بعد حين الجلبة وأوتي بأنواع الطعام في القصاع المالقية والبلنسية المذهبة والأواني التركية والهندية وأوتي بالطسوس والأباريق وصب الماء على أيدي الناس ونصبت مباخر العنبر والعود وأبرزت صحائف الفضة والذهب وأغصان الريحان الغض فرش بها البساط ورش من ماء الورد والزهر وأنشدوا قصائد وتكلم المنشدون وأحسن إليهم السلطان ثم ختموا المجلس بالدعاء للأمير وإذا كان يوم السابع يكون ترتيب أبدع من الأول وهذه سيرته دائما اه
وهكذا كانت سيرته في شهر رمضان عند ختم صحيح البخاري وذلك أنه كان إذا دخل رمضان سرد القاضي وأعيان الفقهاء كل يوم سفرا من نسخة
____________________

البخاري وهي عندهم مجزأة على خمسة وثلاثين سفرا في كل يوم سفرا إلا يوم العيد وتاليه فإذا كان يوم سابع العيد ختم فيه صحيح البخاري وتهيأ له السلطان أحسن تهيؤ إلا أن العادة الجارية عندهم في ذلك أن القاضي يتولى السرد بنفسه فيسرد نحو الورقتين من أول السفر ويتفاوض مع الحاضرين في المسائل ويلقى من ظهر له بحث أو توجيه ما ظهر له ولا يزالون في المذاكرة فإذا تعالى النهار ختم المجلس وذهب القاضي بالسفر فيكمله سردا في بيته ومن الغد يبتدئ سفرا آخر وهكذا والسلطان في جميع ذلك جالس قريب من حاشية الحلقة قد عين لجلوسه موضع
قال الفشتالي وكان المنصور يعطي أموال لذوي الحاجات عند انقضاء رمضان ويقيم مهرجانا يوم عاشوراء لختان أولاد الضعفاء وكل من ختن منهم أعطي أذرعا من كتان وحصة من الدرهم وسهما من اللحم اه
وأما ترتيب جيش المنصور وعادته في أسفاره فسنذكرها في الفصل بعد هذا إن شاء الله ولنذكر بعض القصائد الميلادية التي أنشدت بمجالس المنصور حسبما تقدمت الإشارة إليه فمن ذلك قول القاضي أبي القاسم بن على الشاطبي رحمه الله
( ما بال طيفك لا يزور لماما ** وبمنحنى الأحشا ضربت خياما )
( أيعيش فيك عواذلي لسلوهم ** وأموت فيك صبابة وغراما )
( وتبيح نهرك سائلا من أدمعي ** أو ليس نهر السائلين حراما )
( ما ذقت ماء لماك في سنة الكرى ** إلا انتبهت فكان لي أحلاما )
( عرض إذا حدثت عن بان الحمى ** فحديث قلبي بالأوجاع هاما )
( أروى حديث الرقمتين مسلسلا ** عن دمع باكية الغمام سجاما )
( وتلق من جيب النسيم تحية ** أضحى الهوى بردا لها وسلاما )
( يا جيرة العلمين دعوة شيق ** للذيذ عيش بالغضا لو داما )
( فخذوا بجرعاء الحمى قلبي فقد ** ألف الإقامة بالحمى فأقاما )
( وخذوا بثار أهل نجدانهم ** سلبوا الفؤاد وأدنفوا الأجساما )
( في كل غرب دموع عيني مشرق ** لكواكب فيها أثرن ظلاما )
____________________


( صليت بنار الشوق ثم رثت إلى ** إنسانها في لجة قد عاما )
( وتسلسلت عبراتها شوقا لمن ** وقفت عليه صلاتها وسلاما )
( خير الأنام محمد الهادي الذي ** أردى الضلال وجب منه سناما )
( كنز العوالم سر طينة آدم ** ولحفظ ذاك السر جاء ختاما )
( وأجل أرسال الإله ومن به ** قد لاذ يونس حين خاض ظلاما )
( وتقاصرت عن فرده أعدادهم ** فلذا تقدم في الحساب إماما )
( أسرى إلى السبع الطباق فأقبلت ** زمر الملائك وفده إعظاما )
( في ليلة غصت بأملاك السما ** فتسير خلف ركابه وإماما )
( يا خير من بهر المعاند شأنه ** عجزا فغص بريقه إفحاما )
( أعيى جلالك أن يحيط بوصفه ** وصف البليغ وأخرس الأقلاما )
( صلى عليك الله ما زار الحيا ** روضا ففتح زهره الأكماما )
( ما لذتي في مدح غير مخلصا ** إلا بمدحي من بينك إماما )
( خير الورى وإمامها المنصور من ** في ظل دولته الأنام أناما )
( أضفى على الأرضين ظل مهابة ** فحمى بها حام العباد وساما )
( وسما على الدنيا عقاب تنوفة ** فانقض يفترس الأسود بهاما )
( قل للملوك هبوا لمالككم فدى ** وخذوا لأنفسكم لديه ذماما )
( هذا الذي يحيى البلاد بعدله ** ويعيدها نشرا وكن رماما )
( هذا الذي وعد الإله بأنه ** يطوي البلاد ويفتح الأهراما )
( يا مشبه المهدي في آرائه ** حزما وفي عزماته إقداما )
( أنت الذي ببنيه أبناء العلا ** أرسى البلاد ووطد الإسلاما )
( فكأنها من حولك الأشبال في ** غاب الوشيج تبوأت آجاما )
( وأمينها المأمون عضب سمامها ** علم أناف على الهضاب سناما )
( وأجل مضطلع تخيره الورى ** بعد الإمام فقدموه إماما )
( وحباه أحمد عهد أمة أحمد ** فوفى فكان لرعيه المعتاما )
( لا يعدون النصر سيفك أنه ** سيف يحوط الدين والإسلاما )
( خذها ينم على العبير مديحها ** ويفض عن مسك الختام ختاما )
وقال العلامة مفتي الحضرة أبو مالك المولى عبد الواحد بن أحمد
____________________

الشريف الفيلالي
( أرقت وشاقتني البروق اللوامع ** وذكرى خليط هيجتها المرابع )
( مرابع عفتها الروامس والسما ** تراق من الأشواق فيها المدامع )
( كأن لم تكن من قبل قدما أو أهلا ** إذ السلك منظوم وشملي جامع )
( تذكرني عهد الأجازع واللوى ** وأين اللوى مني وأين الأجازع )
( سحبنا بها ذيل الصبابة برهة ** وجفن الردى عنا وحاشاك هاجع )
( وقفت بها بالبزل والليل دامس ** أنازعها الشكوى بها وتنازع )
( أسائلها عن جيرة بان حيهم ** وضمت هواهم بعد ذاك الأضالع )
( فهل قدموا نحو العقيق صدورهم ** ولاح لهم برق من الغور لامع )
( يخبر عن دار الرسول وقربها ** عراص بها للوحي فاضت ينابع )
( ديار بها حل الحمى سيد الورى ** وهبت على الأشراك منها زعازع )
( عليك صلاة الله يا خير مرسل ** ويا خير من تثني عليه الأصابع )
( فلولاك هذا الكون ما زال معدما ** وأنت الذي يرجوه عاص وطائع )
( لك الفخر في الدارين والموقف الذي ** لأهواله كل النبيين جازع )
( فآدمهم والكل تحت لوائكم ** وليس لنا والله غيرك شافع )
( فجازاك رب العرش ما أنت أهله ** جزاء به يشجي المناوي المخادع )
( وجازى إماما قد نمته إليكم ** أصول وآباء كرام فوارع )
( سميك وابن السبط حقا ومن له ** عوارف في أعناقنا وصنائع )
( فدم للعلا يا ابن الخلائف مفردا ** إليك اشتراؤها وغيرك بائع )
( ودام ولي العهد بعدك صارما ** يخب إلى نيل العلا ويسارع )
( هو الآمن المأمون من كل فتنة ** لفيض الندى من راحتيه يدافع )
( ففيك أقول والنصوص شواهد ** أحاديث صحت ليس فيها منازع )
( بكم رأس هذا القرن جدد ديننا ** وفاضت بحور للعلوم هوامع )
أشار بهذا إلى ما أخرجه أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إن الله يبعث على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها )
وحمله بعض الأئمة على أن المجدد من الملوك وقيل من العلماء
____________________

وقيل من الأولياء والصواب الإطلاق
وقال الوزير القائد أبو الحسن علي بن منصور الشيظمي رحمه الله تعالى
( من بعد أهل قبا وأهل كداء ** شوقي يزيد وعز ذاك عزائي )
( ولي الشفاء بقربهم وهم جلا ** ما في الخواطر من صدى وصداء )
( لكنه بعد المزار فأين من ** تلك المعاهد ساكن الحمراء )
( بانوا وهاج الشوق ذكر ربوعهم ** ذات السنا والرند والأضواء )
( وشدا بهم حادي الركاب فكاد أن ** تدع القلوب جسومها بفضاء )
( يا سعد لو أن الزمان مساعدي ** ومجيب داعي البعد بعد ندائي )
( لركبت حرفا كالهلال منافرا ** للهمز إلا في المنادي النائي )
( ولجبت أحياء الفلا وطوبتها ** طي الملا بنجيبة فوداء )
( تختاض في جوف الظلام كأنها ** سري تولج في ضمير حجاء )
( وتخال في لجج السراب سفينة ** تجري القلوع بها بريح رخاء )
( هل أنزلن بها المخصب من منى ** وأزور بعد معاهد الزوراء )
( فأحط عنها الرحل ثم مخيما ** في ظل احمد بغيتي ومنائي )
( وامرغ الخدين ملتثما ترى ** وطئته رجلا خاتم النبئاء )
( محيى الهدى ماحي الضلالة والردا ** بالبيض والخطية السمراء )
( صلى عليه الله ما نسخ السخا ** لؤما وما أجلى الدجا ابن ذكاء )
( وعلى صحابته الكرام وآله ** أكرم بهم من سادة فضلاء )
( أكرم بوارث مجده وعلائه ** سبط الرسالة غرة الأبناء )
( خير الخلائف أحمد المنصور من ** حاز الكمال وشرط كل علاء )
( الصارم الهندي في يمنى الهدى ** والكوكب الوقاد في الظلماء )
( يا أيها الملك الذي بسيوفه ** حاط الهدى وبرأيه الوضاء )
( ذخر الإله لك الفتوح وصانها ** كالزهر في الأكمام والأوعاء )
( لا بد من فتح يروقك واضح ** كالصبح يدرأ في نحور عداء )
( وستملك الحرم الشريف وينتمي ** للوائك المنصور دون مراء )
____________________


( وترى الجهات وقد أتت منقادة ** بظبي بنيك السادة النجباء )
( وتقر عينا بالخليفة منهم ** وزر البرية عدة الأمراء )
( بمحمد المأمون خير من ارتقى ** درج الكمال ودب للعلياء )
( فرع سيحكي أصله ولقد حكى ** بمقاصد قد سددت ودهاء )
وقال الكاتب أبو فارس عبد العزيز بن محمد الفشتالي رحمه الله تعالى
( هم سلبوني الصبر والصبر من شأني ** وهم حرموا من لذة الغمض أجفاني )
( وهم أخفروا في مهجتي ذمم الهوى ** فلم يثنهم عن سفكها حبي الجاني )
( لئن أترعوا من قهوة البين أكؤسي ** فشوقهم أضحى سميري وندماني )
( وإن غادرتني بالعراء حمولهم ** كفى أن قلبي جاهد أثر أظعاني )
( قف العيس واسأل ربعهم أية مضوا ** أللجزع ساروا مدلجين أم البان )
( وهل باكروا بالسفح من جانب اللوا ** ملاعب آرام هناك وغزلان )
( وأين استقلوا هل بهضب تهامة ** أناخوا المطايا أم على كثب نعمان )
( وهل سال في بطن المسيل تشوقا ** نفوس ترامت للحمى قبل جثمان )
( وإذا زجروها بالعشي فهل ثنى ** أزمتها الحادي إلى شعب بوان )
( وهل عرسوا في دير عبدون أم سروا ** يؤم بهم رهبانهم دير نجران )
( سروا والدجى صبغ المطارف فانثنى ** بأحداجهم شتى صفات وألوان )
( وأدلج في الأسحار بيض قبابهم ** فلحن نجوما في معارج كثبان )
( لك الله من ركب يرى الأرض خطوة ** إذا زمها بدنا نواعم أبدان )
( أرحها مطايا قد تمشي بها الهوى ** تمشي الحميا في مفاصل نشوان )
( ويمم بها الوادي المقدس بالحمى ** به الماء صدا والكلا نبت سعدان )
( واهد حلول الحجر منه تحية ** تفاوح عرفا ذاكي الرند والبان )
( لقد نفحت من شيخ يثرب نفحة ** فهاجت مع الأسحار شوقي وأشجاني )
( وفتت منها الشرق في الغرب مسكة ** سحبت بها في أرض دارين أرداني )
( وأذكرني نجدا وطيب عراره ** نسيم الصبا من نحو طيبة حياني )
( أحن إلى تلك المعاهد إنها ** معاهد راحاتي وروحي وريحاني )
____________________


( وأهفو مع الأشواق للوطن الذي ** به صح لي أنسي الهني وسلواني )
( وأصبوا إلى أعلام مكة شائقا ** إذا لاح برق من شمام وشهلان )
( أهيل الحمى ديني على الدهر زورة ** أحث بها شوقا لكم عزمي الواني )
( متى يشتفي جفني القريح بنظرة ** يزج بها في نوركم عين إنساني )
( ومن لي بأن يدنوا لقاكم تعطفا ** ودهري عني دائما عطفه ثاني )
( سقى عهدهم بالخيف عهد تمده ** سوافح دمع من شؤوني هتان )
( وأنعم في شط العقيق أراكة ** بأفيائها ظل المنى والهوى داني )
( وحيا ربوعا بين مروة والصفا ** تحية مشتاق لها الدهر حيران )
( ربوعا بها تتلو الملائكة العلا ** أفانين وحي بين ذكر وقرآن )
( وأول أرض باكرت عرصاتها ** وطرزت البطحا سحائب إيمان )
( وعرس فيها للنبوة موكب ** هو البحر طام فوق هضب وغيطان )
( وأدى بها الروح الأمين رسالة ** أفادت بها البشرى مدائح عنوان )
( هنالك فض ختمها أشرف الورى ** وفخر نزار من معد بن عدنان )
( محمد خير العالمين بأسرها ** وسيد أهل الأرض الإنس والجان )
( ومن بشرت بالبعث من قبل كونه ** نوامس كهان وأخبار رهبان )
( وحكمة هذا الكون لولاه ما سمت ** سماء ولا غاضت طوافح طوفان )
( ولا زخرفت من جنة الخلد أربع ** تسبح فيها أدم حور وولدان )
( ولا طلعت شمس الهدى غب دجية ** تجهم من ديجورها ليل كفران )
( ولا لحقت بالمذنبين شفاعة ** يذود بها عنهم زباني نيران )
( له معجزات أخرست كل جاحد ** وسلت على المرتاب صارم برهان )
( له انشق قرص البدر شقين وارتوى ** بماء همي من كفه كل ظمآن )
( وأنطقت الأوثان نطقا تبرأت ** إلى الله فيه من زخارف ميان )
( دعا سرحة عجما فلبت وأقبلت ** تجر ذيول الزهر ما بين أفنان )
( وضاءت قصور الشام من نوره الذي ** على كل أفق نازح القطر أوداني )
( وقد بهج الأنوار بدعوته التي ** كست أوجه الغبراء بهجة نيسان )
( وأن كتاب الله أعظم آية ** بها افتضح المرتاب وابتأس الشاني )
____________________


( وعدى على شأو البليغ بيانه ** فهيهات منه سجع قس وسحبان )
( نبي الهدى من أطلع الحق أنجما ** محا نورها أسداف إفك وبهتان )
( بعزتها ذل الأكاسرة الألى ** هم سلبوا تيجانها آل ساسان )
( وأحرز للدين الحنيفي بالظبا ** تراث الملوك الصيد من عهد يونان )
( ونقع من سمر القنا السم قيصرا ** فجرعه منه مجاجة ثعبان )
( وأضحت ربوع الكفر والشرك بلقعا ** يناغي الصدا فيهن هاتف شيطان )
( وأصبحت السمحا تروق نضارة ** ووجه الهدى بادي الصباحة للراني )
( أيا خير أهل الأرض بيتا ومحتدا ** وأكرم كل الخلق عجم وعربان )
( فمن للقوافي أن تحيط بوصفكم ** ولو سجلت سبقا مدائح حسان )
( إليك بعثناها أماني أجدبت ** لتسقى بمزن من أياديك هتان )
( أجرني إذا أبدى الحساب جرائمي ** وأنقلت الأوزار كفة ميزاني )
( فأنت الذي لولا وسائل عزه ** لما فتحت أبواب عفو وغفران )
( عليك سلام الله ما هبت الصبا ** وماست على كثبانها ملد قضبان )
( وحمل في جيب الجنوب تحية ** يفوح بمسراها شذا كل تربان )
( إلى العمرين صاحبيك كليهما ** وتلوهما في الفضل صهرك عثمان )
( وحيي عليا عرفها وأريجها ** ووالي على سبطيك أوفر رضوان )
( إليك رسول الله صممت عزمة ** إذا أزمعت فالشحط والقرب سيان )
( وخاطبت مني القلب وهو مقلب ** على جمرة الأشواق فيك فلباني )
( فيا ليت شعري هل أزم قلائصي ** إليك بدارا أو أقلقل كيراني )
( وأطوي أديم الأرض نحوك راحلا ** نواجي المهاري في صحاصح فيعان )
( يرنحها فرط الحنين إلى الحمى ** إذا غرد الحادي بهن وغناني )
( وهل تمحون عني خطايا اقترفتها ** خطى لي في تلك البقاع وأوطان )
( وماذا عسى يثني عناني وإن لي ** بآلك جاها صهوة العز أمطاني )
( إذا صد عن زوارك الباس والعنا ** فجود ابنك المنصور أحمد أغناني )
( عمادي الذي أوطا السماكين أخمصي ** وأوفى على السبع الطباق فأدناني )
( متوج أملاك الزمان وإن سطا ** أحل سيوفا في معاقد تيجاني )
____________________


( وقاري أسود الغاب بالصيد مثلها ** إذا أضرب الخطى من فوق جدران )
( هز بر إذا زرا البلاد زئيره ** تضاءل في أخياسها أسد خفان )
( وإن اطلعت غيم القتام جيوشه ** وارزم في مركومه رعد نيران )
( صببن على أرض العداة صواعقا ** أسلن عليهم بحر خسف ورجفان )
( كتائب لو يعلون رضوى لصدعت ** صفاه الجياد الجرد تعدو بعقبان )
( عديد الحصا من كل أروع معلم ** وكل كمي بالرديني طعان )
( إذا جن ليل الحرب عنهم طلى العدا ** هدتهم إلى أوداجها شهب خرصان )
( من اللاء جرعن العدا غصص الردى ** وعفرن في وجه الثرى وجه بستان )
( وفتحن أقطار البلاد فأصبحت ** تؤدي الخراج الجزل أملاك سودان )
( إمام البرايا من على نجاره ** ومن عترة سادوا الورى آل زيدان )
( دعائم إيمان وأركان سؤدد ** ذووهم قد عرست فوق كيوان )
( هم العلويون الذين وجوههم ** بدور إذا ما احلولكت شهب أزمان )
( وهم آل بيت شيد الله ملكه ** على هضبة العلياء ثابت أركان )
( وفيهم أتى الذكر الحكيم وصرحت ** بفضلهم آيات ذكر وقرآن )
( فروع ابن عم المصطفى ووصيه ** فناهيك من فخرين قربى وقربان )
( ودوحة مجد معشب الروض بالعلا ** يجاد بأمواه الرسالة ريان )
( بمجدهم الأعلى الصريح تشرفت ** معد على العرباء عاد وقحطان )
( أولئك فخري إن فخرت على الورى ** ونافس بيتي في الولا بيت سلمان )
( إذا اقتسم المداح فضل فخارهم ** فقسمي بالمنصور ظاهر رجحان )
( إمام له في جبهة الدهر ميسم ** ومن عزه في مفرق الملك تاجان )
( سما فوق هامات النجوم بهمة ** يحوم بها فوق السموات نسران )
( وأطلع في أفق المعالي خلافة ** عليها وشاح من علاه وسمطان )
( إذا ما احتبى فوق الأسرة وارتدى ** على كبرياء الملك نخوة سلطان )
( توسمت لقمان الحجا وهو ناطق ** وشاهدت كسرى العدل في صدر إيوان )
____________________


( وإن هزه حر الثناء تدفقت ** أنامله عرفا تدفق خلجان )
( أيا ناظر الإسلام شم بارق المنا ** وباكر لروض في ذرا المجد فينان )
( قضى الله في علياك أن تملك الدنا ** وتفتحها ما بين سوس وسودان )
( وإنك تطوي الأرض غير مدافع ** فمن أرض سودان إلى أرض بغدان )
( وتملأها عدلا يرف لواؤه ** على الحرمين أو على رأس غمدان )
( فكم هنأت أرض العراق بك العلا ** ووافت بك البشرى لأطراف عمان )
( فلو شارفت شرق البلاد سيوفكم ** أتاك استلابا تاج كسرى وخاقان )
( ولو نشر الأملاك دهرك أصبحت ** عيالا على علياك أبناء مروان )
( وشايعك السفاح يقتاد طائعا ** برايته السوداء أهل خرسان )
( فما المجد إلا ما رفعت سماكه ** على عمدي سمر الطوال ومران )
( وهاتيك أبكار القوافي جلوتها ** تغازلهن الحور في دار رضوان )
( أتتك أمير المؤمنين كأنها ** لطائم مسك أو خمائل بستان )
( تعاظمن حسنا أن يقال شبيهها ** فرائد در أو قلائد عقيان )
( فلا زلت للدنيا تحوط جهاتها ** وللدين تحميه بملك سليمان )
( ولا زلت بالنصر العزيز مؤزرا ** تقاد لك الأملاك في زي عبدان )
انتهت القصيدة الفريدة
قال في نفح الطيب أخبرني ناظمها أنه أ راد بقوله ونافس بيتي في الولا بيت سلمان قبيلة سلمان التي منها لسان الدين ابن الخطيب إشارة إلى ولاء الكتابة للخلافة كما كان لسان الدين رحمه الله وفيه مع ذلك تورية بسلمان الفارسي رضي الله عنه انتهى
وهذه القصيدة على طولها من غرر القصائد ولذا لم يذكر في المنتقى من الأمداح المنصورية غيرها وقد أثنى عليها في نفح الطيب جدا وتتبع ما قيل في هذا الاحتفال وإقامة المولد العديم المثال من الأمداح يفضي إلى الطول وفي هذا القدر كفاية وبالله التوفيق
____________________

ذكر سيرة المنصور في ترتيب جيوشه وحالات أسفاره
قال الفشتالي كانت السيرة على عهد أبي عبد الله المهدي وولده الغالب بالله وابنه المتوكل سيرة العرب في الجيش والمأكل والملبس وغير ذلك ولما ولي المعتصم حمل الناس على السيرة العجمية وجنح إليها في سائر شؤونه لما رأى منها في بلاد الترك حيث كان بها فكره الناس ذلك وأنفوا منه وقوفا مع العوائد فلما جاء الله بالمنصور ألف بين سيرتي العرب والعجم واصطفى من العجم موالي رباهم بنعمته وأشملهم درور إحسانه منهم مصطفى باي ومعناه بلغة الترك قائد القواد ويختص به قائد الإصباحية وكان برسم حراسة الباب العالي ومنهم الباشا محمود وهو صاحب خزائن الدار بيده مفاتيح بيوت الأموال ومنهم القائد علوج قائد جيش العلوج والباشا جؤذر فاتح السودان وهو قائد جيش الأندلس وكان لأهل الأندلس جيش عظيم رماة وعمار قائد جيش السوس فهؤلاء أكابر العلوج وتليهم طائفة أخرى منها بختيار وبغا ثم إن جيش العجم من الأتراك والعلوج قسمه إلى أقسام منها البياك وهم أهل القلانس الصفرية المذهبة ذوات الأعراف من ريش النعام الملون يقفون سماطين أمام قبته أو فسطاطه والسلاق أهل القلانس الطويلة البيض المرسلة على المناكب ويناط بها من أعلى الجباه جعاب صفر مذهبة ويضيفون إليها وقت الحزام أجنحة طوالا يؤلفونها أيضا من ريش النعام الباقي على أصل خلقته ويركزونها في الجعاب المنوطة بالقلانس من أعلى الجباه ويرسلونها إلى وراء ويقف هؤلاء خلف البياك وبلبدروش وهم أهل اللقاقيف وهي رماح قصيرة غليظة العصى مغشاة بالحديد ومرصعة بالمسامير البيض ركبت عليها أسنة عظام وزجاج هائلة ينبت من ريشتي كل سنان منها أضلاع مستقيمة ويقف هؤلاء خلف السلاق والشنشرية وهم أهل الطعام وضعا ورفعا لا غير وقائدهم بختيار من سبي وادي المخازن والقبجية وهم أهل حفظ الأبواب وغلقها وفتحها وقائدهم مولود المشاوري وطائفة من هؤلاء تحرس ليلا
____________________

وتطوف على مسايف السور المحيط بالدار ومن وظيفة هؤلاء خدمة الكرسي والسرير اللذين يجلس عليهما السلطان بالإيوان وتعاهد أنماط الجلوس وكنسها والشواش وهم الذين يتولون ضبط الجيوش في المصاف في حرب أو سلم وإنهاء الكتب والرسائل للجهات بخير أو شر
قال الفشتالي وهذا مما زادت به دولته على سائر الدول فإذا خرج في يوم عيد أو ملاقاة أو تهنئة خرجوا متزينين وكل قائد يقف عند مبدأ انبعاث حبل جيشه تحت ألوية محفوفا بجيش من رؤساء جنده أهل الخيل وهم الذين يدعون عندهم بالبكباشات فاصلا بذلك بين جيشه وجيش من يردفه خلفه وهكذا يمتد إلى انبعاث الجيش من تلقاء أمير المؤمنين وكل يعرف مركزه ورتبته لا يتعداه إلى غيره بتقدم أو تأخر ولا يجد السبيل إلى ذلك لو أراده
قال الفشتالي والترتيب الذي جرى به العمل في عساكر النار أن يتقدم أولا جيش السوس ثم يردفه جيش شراكة وكل منهما ينقسم حبلين ثم يردفهما العسكران العظيمان عسكر الموالي من المعلوجي ومن انضاف إليهم وعسكرك الأندلس ومن لبس جلدتهم ودخل في زمرتهم وهذان يسيران صفين متساويين لاستواء مرتبتهما وعند العطاء تارة يتقدم هؤلاء وتارة هؤلاء غير أن الموالي يكونون في الميمنة لمزية الولاء وكلاهما يحظى بموالاة ركاب السلطان ويتقدم قائدهما محمود قائد الموالى وجؤذر قائد الأندلس وترفع على رأس كل منهما الرايات ويحفه عسكر من بكباشات ثم يتصل بهذين العسكرين الدخلة العظيمة المؤلفة من البياك والسلاق وبلبدروش فتسير الفرق الثلاث أمام المنصور صفوفا متساوية فأما البياك فيلون ركابه يحفون به يمينا وشمالا ويرفع بالبعض رماحه اليزنية المنصوبة أمامه ومنهم صاحب المظل المرفوع على رأسه كالغمامة يحمله حالة ركوبه أقربهم درجة لقائدهم أبرويز وإذا مشى المنصور إلى جامع المنصور من جهة قبور الأشراف أو للمشتهى وهو الروض المتصل بقصر البديع على رجليه حمله أبرويز بنفسه ثم يسير عن يمينهم وشمالهم السلاق ويسير عن
____________________

يمين هؤلاء وشمالهم بلبدروش أهل اللقاقيف وتتكيف من الجميع صورة تزرع الرعب في القلوب وتسير الجنائب فيما بين سماطي هذه الدخلة مجنوبة صفا صفا إلى ألوية عساكر النار ومنبعث حبالها الممدودة يقودها صنف يدعون السراجة ركبانا وكانت جنائب الخلفاء يقودها الرجل من الوزعة وهذا أكمل مزية وجيش الإصباحية الذي إلى نظر بيلارباي ينقسم كتيبتين عظيمتين تسير إحداهما ذات اليمين والأخرى ذات الشمال أمام الموكب الذي يرفع اللواء العظيم الأبيض المدعو باللواء المنصور علامة على شعار الدولة على رأس المنصور يسامته من خلفه وهناك ألوية كثيرة ذات ألوان مختلفة وأمامه الطبل العظيم الذي يسمع دويه من مسافة بعيدة ومن خلفه الطبول الأخر معها الغيطات واحدتها غيطة يتولى النفخ فيها قوم من العجم أساتيذ يتعلمونها فينفخون فيها فتنبعث منها أصوات وتلاحين لا تحرك الطباع ولا تبعثها على شيء دون الحرب فإنها تشجع الجبان وتقوي جأش الخائف حكمة فيلسوفية وهناك مزامير أخر وجعاب طوال صفرية على مقدار النفير تسمى الطرنباط مما أحدثه أيضا في دولته وزادت به دولته فخامة وضخامة ثم يردف هذه الألوية والآلات من خلف أمير المؤمنين موكبه العظيم فهذا ترتيب جيش المنصور انتهى باختصار من كتاب مناهل الصفا وليس اتخاذ المظل مما أحدثته الدولة السعدية كما زعم بعضهم بل كان ذلك موجودا في الدول القديمة شرقا وغربا
قال اليفرني وما ذكره الإمام الفشتالي من توافر أجناد المنصور وتكاثر جيوشه هو كذلك وقد أولعت العامة في ذلك بأخبار واهية وزعموا أن المنصور خرج مرة إلى الرميلة بظاهر مراكش ولم تعلم أصحابه بخروجه فحين علموا بخروجه تبعوه خفافا وثقالا فأمر بعد ما معه هنالك من الجيش فوجد ثمانين ألفا فقال يا سبحان الله قد خاطرنا بأنفسنا حيث ركبنا في هذا العدد يستقله ولا يخفى ما في هذا الكلام من الإفراط والذي ذكره الشيخ أبو العباس أحمد أفقاي الأندلسي في كتابه المسمى ب رحلة الشباب إلى لقاء الأحباب ما معناه قال إن جزيرة الأندلس التي استردادها من أيدي
____________________

الكفار سهل واسترجاعها منهم قريب لما دخلت مراكش في أيام المنصور وجدت عنده من الخيل نحوا من ستة وعشرين ألفا فلو تحركت همته لفتحها لاستولى عليها في الحين اه بالمعنى اه كلام اليفرني
وأما بيان حالة المنصور في السفر فقد قال شارح زهرة الشماريخ إن المنصور كان قليل الأسفار وإنما سافر إلى فاس مرتين لا غير وإنما كان متفرغا للذاته واستيفاء شهواته مدة خلافته قال اليفرني وبه يعلم أن ما شاع على الألسنة من أنه كان يمكث بفاس ستة أشهر وبمراكش مثلها ليس بصحيح والله أعلم
وكان المنصور إذا سافر استعد غاية الاستعداد وأحسن في التهيئة ما شاء قال صاحب النفحة المسكية كان له قصر من عود مسمر بمسامير ومخاطيف وحلق وصفائح مفضضة على هيئة عظيمة وقد أحدق بذلك كله سرادق كالسور من نسيج الكتان كأنه حديقة بستان وزخرفة بنيان وفي داخل القصر المذكور القباب الملونة بيضا وسودا وحمرا وخضرا كأنها أزاهير الرياض قد نقش ذلك أحسن النقش ومليء بأبهى الفرش وللسرادق الذي هو كالسور أبواب كأنها أبواب القصور المشيدة يدخل منها إلى دهاليز وتعاريج ثم ينتهي منها إلى القصر الذي فيه القباب وهذا القصر كأنه مدينة تنتقل بانتقاله وهو من الأبهات الملوكية التي لم يوجد مثلها عند الملوك الماضين اه
ومما يتعلق به ما حكاه أبو فارس الفشتالي في المناهل قال خرج المنصور يوم الاثنين عاشر شعبان سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة لزيارة أضرحة الصالحين بأغمات قال فتأخرت وراءه فلحقني المولى عبد الواحد بن أحمد الشريف وأنا في أخريات الناس فأنشده
( أبا فارس بان الخليط وودعوا ** )
فقلت
( وولوا وحسن الصبر مني شيعوا ** )
فقال
( وغرد حادي البين وانشقت العصا ** وكاد فؤادي للنوى يتقطع )
____________________


فقلت
( إلى الله أشكو فرقة منهم وقد ** تجرعت من كأس النوى ما تجرعوا )
ثم زدت
( لئن شرد السلوان عني بعدهم ** ففي صحبة المنصور أنسي أجمع )
ثم قال
( تدور عليه هالة لقبابه ** ومركزها قصر الخلافة يلمع )
فقلت
( سياج به بحر الندى متموج ** ومن أفقه شمس الإمامة تطلع )
وكان المنصور خرج لزيارة أغمات في شارة حسنة فلما بلغ أغمات مكث فيه يومين وفي الثالث نهض إلى زيارة الإمام أبي عبد الله الهزميري وعاج على ضريح الشيخ سيدي عبد الجليل ووقف عند الجبانة الكبرى فدعا ما تيسر وفرق أمولا على ذوي الحاجات على يد القاضي الشابطي والفقيه الأمين أبي الحسن علي بن سليمان الثاملي وكان معه الفقيه القاضي أبو مالك عبد الواحد بن أحمد الحميدي كان قد استقدمه من فاس برسم القراءة معه وكان الحميدي لوذعيا خفيف الروح وفي هذه السفرة صدرت منه الأبيات التي تبارى في معارضتها شعراء الدولة وقد ذكرها في النزهة فلتنظر هنالك
ومما يتعلق بأخبار الحميدي المذكور أن المنصور سافر مرة إلى تارودانت ومعه جماعة من الأعيان كالقاضي الحميدي وأبي العباس المنجور وغيرهما فخيم المنصور بباب تارودانت وضرب الناس أخبيتهم فمر رجل عليه أطمار بالية وهيئة رثة ويقال إن هذا الرجل هو أبو عثمان الهلالي الروداني فوطئ على طنب من أطناب خباء القاضي الحميدي فصاح القاضي من هذه البقرة التي قوضت على خيمتي متهكما بالرجل فألقى إليه الرجل قرطاسا فيه أبيات وقال البقرة من لا يجيب عن هذه ونص الأبيات
( إلى بابك العالي مسائل ترتقي ** تفطن لهن يا حميدي واصدق )
( فما الحكم في الأوزاغ هل ساغ أكلها ** وما الحكم في موتى المجانين فانطق )
____________________


( وهل جاز للمسبوق بعد تشهد ** دعاء إذا ما رام إكمال ما بقي )
( وما وزن ليس يا أديب وأصله ** وما جمع قلة لصاع فحقق )
( وما وزنه شمر ولاتن وائتنا ** بجمع سواء والمقيد أطلق )
( وبين لنا من في أعوذ بربنا ** من إبليس والتخمين في الكل فاتق )
فبدا للحميدي ما لم يكن يحتسب وتوقف عن الجواب فرفعت القضية إلى المنصور فاستغربها وقال هذا رجل من أهل البادية فضح قاضي قضاة الحواضر وأمر المنجور فأجاب عنها يقال بعد أربع سنين وبعد موت السائل ونص الجواب
( جوابك في الأولى إباحة أكلها ** بمذهبنا فأجزم بذاك وصدق )
( كذا ابن حبيب في الخشاش أباحه ** لمحتاجه مثل العقارب فاسبق )
( وقد قيل في الأوزاغ يحرم أكلها ** وذلك في الكافي ليوسف فاتق )
( ومستقذر يحكي المخالف منعه ** وأنكره التنبيه فافهم ودقق )
( ورجح ما يحكي المخالف بعض من ** له العزو للتحقيق لا للتشدق )
( وميت مجنون جرى خلف حكمه ** بعلم كلام لا تكن غير متق )
( وتحقيقها إن الجنون الذي طرا ** يصير كموت فصل الحق يعبق )
( فآونة بعد البلوغ طروه ** وحينا يرى قبل البلوغ فطبق )
( وآونة إثر الصلاح وقوعه ** وحينا بعصيان الكبيرة يلتقي )
( وحينا يدوم للممات وتارة ** يفيق فخذ حكم الجميع ووثق )
( ويندب للمسبوق دعوى تشهد ** وفاق إمام في المناجاة فارتق )
( وليس له فعل كقال وأصله ** بكسر لياء فاكسر العين ترتق )
( وجمعك صاعا في القليل بأصوع ** وأصؤع بهمز الواو فانهج ونمق )
( وإن شئت فاقلبه فيرجع آصعا ** لضابط تصريف فللعلم شوق )
( وصاع كعام عينه فرع ضمة ** وتحريكه فتح فزنه وحقق )
( وجمع سواء فالذي منه جامد ** يأسوية علم يقاس ففرق )
( ومشتقه وزن الخطايا قياسه ** سواسية ثقل فبالحق فانطق )
( ومقصد من في العوذ بدء لغاية ** فإبليس مبدأ العوذ عند الموفق )
____________________

انتقاض ولي العهد محمد الشيخ المأمون على أبيه المنصور وما آل إليه أمره في ذلك
كان المأمون كما تقدم ولي عهد أبيه المنصور وكان خليفته على فاس وأعمالها سائر مدة أبيه وكان للمنصور اعتناء تام به واهتمام بشأنه حتى قيل إن المنصور كان لا يختم على صندوق من صناديق المال إلا قال جعل الله فتحه على يد الشيخ رجاء أن يقوم بالأمر بعده فلم يساعد القدر وخرج الأمر كما قال القائل
( ما كل ما يتمنى المرء يدركه ** تجري الرياح بما لا تشتهي السفن )
فأساء المأمون السيرة وأضر بالرعية
قال اليفرني وكان فسيقا خبيث الطوية مولعا بالعبث بالصبيان مدمنا للخمر سفاكا للدماء غير مكترث بأمور الدين من الصلاة وشرائطها ولما ظهر فساده وبان للناس عواره نهاه وزير أبيه القائد أبو إسحاق إبراهيم السفياني عن سوء فعله فلم ينته واستمر على قبح سيرته فأعاد عليه اللوم فلح في مذهبه ولما أكثر عليه من التقريع سقاه السم فكان فيه حتف القائد المذكور ومما أنكر عليه أنه قبض على كاتب أبيه أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عيسى وهو مؤلف كتاب الممدود والمقصود من سناء السلطان المنصور ووظف عليه أموالا وابتزه ذخائره حتى كان مما أخذ منه ثمانون حسكة مذهبة ومائة تخت من الملف المختلف الألوان فلما كثرت قبائحه وترددت الشكايات لأبيه كتب إليه لينكف عن غيه وينزجر عن خبثه فما زاده التحذير إلا إغراء فلما رأى المنصور أنه لم يكترث بأمره ولم ينزجر عن قبائحه عزم على التوجه إلى فاس بقصد أن يمكر به ويؤدبه بما يكون رادعا له فسمع الشيخ بذلك فجمع عساكره وهيأ جنده ودفع المرتب لأصحابه وكان عدد جيشه فيما قيل اثنين وعشرين ألفا كلهم بكساوى الملف والحرير
____________________

على أحسن شارة وأكمل زي وعزم أنه إن بلغه خروج أبيه من مراكش أن يتوجه في أصحابه إلى تلمسان ويستجير بالترك فلما بلغ المنصور ما عزم عليه الشيخ من الذهاب إلى تلمسان تخلف عن الخروج من مراكش وكتب إلى الشيخ يلاطفه ويأمره أن لا يفعل وولاه سجلماسة ودرعة وتخلى له عن خراجهما وقال له قد سوغتكه ولا أطالبك فيه ومراده بذلك أن تسكن نفرته ويرجع إليه عقله فأظهر الشيخ امتثال الأمر وخرج يؤم سجلماسة فما انفصل عن فاس بشيء يسير حتى ندم ورجع إليها وعاد لما كان عاكفا عليه فبعث إليه المنصور أعيان مراكش وعلمائها فنصحوه ووعظوه وخوفوه سخط والده وحذروه عاقبة العقوق ولم يألوا جهدا في نصحه فوجوده مشغول القلب عن نصيحتهم مغمور الذهن بخلاف قولهم إلا أنه أظهر الرجوع عما كان عازما عليه من الفرار عن أبيه وأقصر في الظاهر عن بعض تلك المساوي فرجع الوفد إلى المنصور وقالوا له إنه قد تاب وحسنت حاله واطمأنت نفسه وأنه واقف عند الأمر والنهي فلم يطمئن المنصور لقولهم وقال لهم لعل هذا إطفاء لنار الشحناء وكذب لإصلاح الباطن وصممم على المكر بالشيخ فكتب إليه كتابا طويلا يلومه فيه على بعض الأشياء وفي ضمن ذلك تسكين خاطره حتى يبغته على حين غفلة ونص الكتاب
من عبد الله تعالى المجاهد في سبيله الإمام المنصور بالله أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد الشيخ الشريف الحسني أيد الله أوامره وظفر عساكره إلى ولدنا وولي عهدنا الأمير الأجل الأفضل الأكمل الأعز بابا الشيخ وصل الله كمالكم وسنى من خير الدارين آمالكم وسلام عليكم ورحمه الله أما بعد فكتابنا هذا إليكم من حضرة مراكش حاطها الله ولا جديد إلا ما عوده مولانا من الخير لله الحمد وله المنة هذا والذي أوجبه أسعدكم الله وكلاكم أنه بلغنا أنكم قد استخدمتم هناكم جماعة من أولاد طلحة كأولاد أخي علي بن محمد وأخي علي بن ملوك وغير هؤلاء وأنك قد فرضت لهم في أعطياتهم نحو خمسة آلاف وإلى هذا أي مصلحة ظهرت لك في استخدام هؤلاء القوم حتى تتحمل كلفة فرض هذه الفروض بل ما
____________________

في ذلك إلا الفساد البين لأن هذا الذي تعرضتم له لا يفي به المغرب ولا يقوم معه بكم شيء ومسألة هؤلاء أولاد طلحة إن كنت رأيت استخدامنا وأردت تقليدنا في ذلك واقتفاء سيرتنا فيه فاعلم أن بيننا وبينكم في هذه المسألة فرقا من وجوه منها إن مراكش ليست كفاس وإن خدمتهم هنا لبعدهم عن بلادهم ليست كخدمتهم هناك وأيضا هؤلاء الناس أنا أعرفهم وكنت في بلادهم وهذه الخدمة كانوا قد طلبوها مني وأنا هناك فوعدتهم إذ لا يمكنني وأنا ببلادهم إلا مساعفتهم فلما جاؤوا اليوم وطالبونا بالوعد لم يمكن إلا الوفاء لهم به فعليه شرطنا عليهم مراكش وسكناها وعلى هذا الشرط استخدمناهم ومع هذه الوجوه كلها والاعتبارات فقد ندمت والله على استخدامهم غاية الندامة وكنت في ذلك على خطأ إذا كان الأولى إن كنا حاسناهم وتركناهم في الخدمة وأما أنت ففي مندوحة عن هذا كله لأنه لا وعد لك سابق حتى يلزمك الوفاء به ويمكنك أن تحيلهم على إذننا ومشورتنا فنكفهم عنك بالشرط الذي شرطنا عليهم من الخدمة هنا بمراكش وسكناها وعلى هذا الشرط استخدمنا منهم من استخدمنا وإلى هذا فالذي نؤكد به عليك أن تنقصهم من الخدمة ولا تستخدم منهم حتى فارسا واحدا أصلا من الذين ذكرنا لك ومن غيرهم من كافة أولاد طلحة وأمرناك أن تتنصل لهم فينا وتقول لهم إن السلطان منعني من استخدامكم هنا وتقرأ عليهم كتابنا الواصل إليكم صحبة هذا لتتفادى منهم ولكن الجفاء مع هذا كله لا تظهره بل تحسن اللقاء بهم وتواليهم بإظهار البشر والقبول وباب الطمع تسده دونهم
والذي شق علينا أعظم من هذا كله واستنكرناه ولم نجد صبرا عليه هو ما وجدناهم قد اطلعوا عليه أعني أولاد طلحة علي بن محمد وغيره من أحوالكم وأخباركم وألفيناهم قد توصلوا من ذلك إلى ما لم يتوصل إليه أحد من كبار خدامكم أهل بلادنا وخواص أهل بساطنا لأن أهل بلادنا أحباء ما لهم بحث إلا في مصالح أنفسهم هؤلاء إنما ينتقدون ويبحثون عن الغرة وعورات المملكة فإذا بكم تتخذونهم بطانة وأصدقاء وتطالعونهم بأحوالكم
____________________

وأموركم مع أن القوم لا زالوا ببلاد العدو وبين أظهرهم وما يطلعون عليه تحتاج تقطع وتجزم بأن الترك قد اطلعوا عليه حتى كأنهم شاهدوه ووقفوا بأنفسهم عليه وأيضا لو كانوا أصدقاء ولا يريدون بنا إلا خيرا فالقوم عرب لا يتحفظون على ما يطلعون عليه ولا يفهمون ما يحسن إخفاؤه ولا إبداؤه ولا يتمالكون قولا ولا نطقا وبالجملة فقد أحرقتنا هذه المسألة وتفطرت لها أكبادنا وصارت قلوبنا منها مطعونة وما عندكم علم بأن الناس كانوا يتحفظون في أقل الأمور أن يطلع عليها الأجانب وإن كانوا أحب من كل محب وأقرب من كل قريب وهل ما عندكم علم بأنا أخانا بابا منصور كان عرض له غرض ضعيف جدا أراد أن يطلبه من أخينا بابا عبد الله وحضر في المجلس منصور بن المزوار فلم يرد بابا منصور لفطنته أن يذكر ذلك حتى يشاور من بإزائه لئلا يكون عيب في ذكر ذلك بمحضره فعليه شاور القائد دحو بن فرج كان بإزائه فقال له هذا رجل براني فلا تطلب شيئا قدامه على أن منصور بن المزوار هذا كان مع أسلافنا من أقرب ما إليهم من خواص الخدام أهل بساطنا محبة وقربا لأنه أسلف معهم خدمة عظيمة فقد كان عدوا للترك وبينه وبينهم أرواح وحضر مع أخينا باب حمو الحران جميع ما كان في تلك البلاد أيام استيلائه على المغرب الأوسط ثم مع بابا عبد القادر كذلك وشرب معهم الحلوة والمرة ولما جاء من تلمسان جاء بأولاده منها راحلا كما جاء منها بابا عبد الله بأولاده وكما جاء معهم خدامنا أهل تلك البلاد وما زال على الخدمة والوفاء حتى حصلت له يد عظيمة مع أسلافنا وناهيك بمن بلغ إلى أن قلدوه حاضرة تازا ثم بلاد الفحص التي لا تعطى كلتاهما إلا لأقرب الخدام الموثوق بمحبتهم وخدمتهم وقربهم ومع بلوغه إلى هذا المبلغ كله محبة وصداقة وهجرة وانقطاعا حتى انه في دخول صالح رئيس مدينة فاس رحل بأولاده مع السلطان إلى هنا كما فعل أهل هذه البلاد وحين دخلنا نحن من جهة الشرق لفاس رحلوا أيضا مع صاحب الجبل إلى مراكش ولا يعدوا أنفسهم من هذا الجانب أبدا في الحديث القديم ثم إن الناس استبعدوا أن يطلبوا أقل المسائل بمحضره وقالوا إنه
____________________

براني فضلا عن هؤلاء الذين ما زالوا إلى اليوم في بلاد العدو يباكرونه ويراوحونه فإذا بكم تنزلون معهم إلى أن تطالعوهم على أموركم ويتوصلوا إلى المعرفة بأحوالكم فما تمالكنا لهذه المسألة ولا وجدنا عليها صبرا ومن جملة الأمور التي غاظتنا وقلنا كيف يتوصل الرجل البراني إلى أمثال هذه الأمور أن علي بن محمد كان يتكلم يوما معنا وأخذ يثني عليكم في نجدتكم وصبركم عند الشدة وسخائكم عند الحاجة ثم قال إلا أن الخيل ليست عنده لا في الحركة الأولى ولا في الثانية لأن القبائل أهل الخيل امتنعوا من الحركة معه وهي التي غاظتني وقلت كيف يتوصل الرجل البراني إلى أمثال هذه الأمور حتى أننا ما وجدنا إلا الرد عليه وعكس ما عرفنا أنهم اعتقدوه وقلنا اللهم نسبة التقصير إليكم ولا اعتقادهم خلو البلاد من الخيل لأننا فهمنا منهم ذلك ولهذا أجبته وقلت له إن ولدنا لم يعطهم شيئا وأعطى من لا يستحق من ضعفاء القواد المعروفين بأكل المال وعدم المخزنية ولو أعطى تلك القبائل لحشرها عليه لأن أولاد مطاع عندهم من الخيل نحو الثلاثة آلاف وعند أولاد أبي عزيز نحو ألف ونصف وعند الغربية وعند أولاد عمران وعند عبدة وعند الشياظمة وعند أولاد أبي رأس وعند أحمر وعند المنابهة أهل سايس وعند المنابهة أصحاب عمر بن محمد عبو وجعلت أعدد له قبائل السوس وقبائل مراكش وأحصي له خيلهم بما بهته وقلت له لو أنصفهم لحرك منهم معه ستة عشر ألفا أو أكثر ويكون قد ملأ بهم تلك البلاد وسال عليها من سيل العرم لا في الحركة لأولى ولا في الثانية ولو وجه إليهم المحركين والرماة لأتوه أيضا بلا خلاص وإلى هذا نوصيكم على المحافظة من أولئك الناس ومن رفع الحجاب لهم عن أموركم والاطلاع على أحوالكم وعدم الغفلة عن أمثال هذا واعلم أن من جملة ما بلغنا أيضا أن الخلط رجعوا كلهم رماة على يد مصطفى باشا مع حديث عهدهم بالفساد والخلاف وكنا انتشبنا معهم بالعودات فإذا بهم اليوم بالمدافع وعدة النار وهل هذا يجوز عليكم حتى تسمحوا فيه مع أن هذه المسائل ليست بغائبة عنكم سمعتموها بالسماع فقط ولا طويلة عهد حتى
____________________

تنساها بالأمس شاهدت وباشرت ورأيت فما الذي أنساك فعلهم وما زال جرحهم الآن لم يبرأ لأن خروج القائد مؤمن الخارج الآن ما كان إلا إليهم والآن نؤكد عليك أن تنقصهم من الخدمة ولا تسمع لمصطفى في هذه المسألة وقد سمعنا أيضا أن قواد الفساد الذين عندكم من أولاد حسين قد صارت جملتهم من باب الخميس إلى دار الدبيبغ وكأنكم نسيتم أيضا ما عمل أولاد حسين بالأمس دون بعد من النهب وأضرموا من الفساد في البلاد حتى ينزلوا تلك المنازل وإلى هذا فساعة وصله إليكم تقبض على قواد الفساد هؤلاء خصوصا أحمد بن عبد الحق من أولاد يحيى بن غانم الذي كان أبوه حاجبا عند المريني فهو أصل الفساد ثم لا تترك لقبائلهم جناحا واحدا وزد للقائد مؤمن بن ملوك ألف رام ليستوفي لكم الغرض في هؤلاء وأمثالهم من كل ما تأمره به لأن بقاء الرماة هنالك ما فيه إلا الاشتغال بالفساد في المدينة فتحتاج أن تتولاهم بالقتل كل يوم باطلا فكان خروجهم إذ ذاك دفعا لمضرتهم وجلبا للمصالح بهم وحتى الكاتب اللائق بأمثالكم ورسائلكم لم يكن عندكم لأن كتبكم تأتي بخط سالم وهو غير عارف بالإنشاء وتارة بخط الكريني وهو جاهل مع أنك لما كنت خليفتنا وولي عهدنا كنت بصدد أن يكتب لك كل أحد لا صاحب الجزائر ولا صاحب تونس وحتى صاحب الترك وصاحب النصارى وكل من يكتب لنا من ملوك الأرض بصدد أن يكتب لك فتحتاج حينئذ إلى من يحسن الجواب عنك لكل من يكتب إليك ويكون أيضا ممن يوثق به في المحافظة على أسراركم وإلى هذا فلا بد من تعيين قائد المحلة وحاجب وكاتب سرك وصاحب مشورك وصاحب المظالم كما هنا هو عندنا السيد علي بن سليمان واعلم أن مما تحتاج أن ننبهك عليه مسألة القواد الذين يريدون أن يحملوك أثقال أولادهم مثل ما فعلت في أولاد القائد بركة وإخوتهم الذين استخدمتهم وجعلت لهم خمسمائة أوقية فنؤكد عليك أن لا تستخدم منهم أحدا فما أعطيناه سلا إلا ليرفع فيها أولاده وإخوته وكذلك
____________________

الحكم في أمثاله ممن أعطيناه عملا وقلدناه قيادة ومن جملة من نحذرك من استخدامهم في الرماية أهل الجبال من أهل الصحفة والدينار فلا تستخدموا منهم أحدا وإلا فاعلموا أنكم ما أردتم حينئذ أن يغرموا لكم ولا يعطوكم شيئا وإن أردتم الخدمة فهاهم أهل هذه البلاد مثل أهل السوس وأهل درعة وأهل مراكش فكل ما تستخدمون من هؤلاء فلا عليكم وإذا لم يكن من هؤلاء وكان ولابد من غيرهم فمن أهل فاس سكان الحاضرة وأما من عداهم فلا على أن الرماة أهل السوس ها هي عندنا كثيرة فكل ما تريد منهم عرفنا نبعثهم إليك ونضيفهم إلى خدمتك ونؤكد عليك أن تكتب بجواب هذه الأمور كلها فصلا فصلا مع المملوك الحامل لهذا الكتاب إن شاء الله ولابد ولابد وهذا موجبه إليكم والله يحرس بمنه علاكم والسلام وفي مهل جمادى الأولى من عام أحد عشر وألف اه
ثم لم يلبث المنصور أن بعث إلى ولده زيدان وكان خليفته على تادلا يأمره أن يرسل مائة من الفرسان على طريق تاقبلات وكل من وجوده قاصدا للغرب من ناحية مراكش يردونه وأرسل مولاه مسعود الدوري على طريق سلا يفعل مثل ذلك وخرج المنصور من مراكش في اثني عشر ألفا أوائل جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وألف وجد السير فلم يمض إلا أيام قلائل حتى نزل بالدوح موضع قريب من فاس والشيخ في جميع ذلك لا شعور له بخروج أبيه ولا بما هو عليه فبعث يوما عيونه يرصدون له من قدم من مراكش ويكشفون عن الخبر فما راعهم إلا الأباطح تسيل بأعناق الجياد وأفواه الشعاب تقذف بالجيوش من بطون الأودية والوهاد لأنهم كانوا قد عميت عليهم الأنباء بقطع المنصور للسابلة فرجعوا إلى الشيخ مسرعين والرعب يفت في أعضادهم ويطفئ جذوة عزائمهم فقصوا عليه ما دهمهم وأخبروه بما رأوا فعلم أنه محاط به فلم يمكنه إلا الفرار فركب من حينه وفر إلى زاوية الشيخ الصالح أبي الشتاء من بلاد فشتالة قرب نهر ورغة وكان الشيخ أبو الشتاء قد توفي قبل ذلك سنة سبع وتسعين وتسعمائة كما في
____________________

المرآة فنزل بالزاوية ومعه بطانته وأصحاب دخلته من الأحداث وقرناء السوء فبلغ خبره المنصور فبعث إليه الباشا جؤذرا مع القائد منصور النبيلي وحلف لهما بأغلظ الأيمان إن لم يأتياه به ليمكرن بهما ويجعلهما عبرة فذهبا إليه فامتنع من الدخول في يدهما وانعزل في أصحابه حتى ناوشوه القتال وتراموا بالنبال ثم قبضوا عليه وأتوا به إلى المنصور في خبر طويل فأمر به إلى مكناسة فسجن بها
ودخل المنصور دار الملك من حضرة فاس الجديد وشكر الله على ما أولاه من الظفر والنصر من غير إراقة دم وتصدق في ذلك بأموال عظيمة وكتب بذلك إلى ولده أبي فارس خليفته على مراكش يعلمه بما كيف الله له من الظفر والنصر ونص الكتاب
إلى ولدنا الأجل الأرضى الأكمل الأسعد الأصعد الأمجد الأسمى الأسنى بابا أبي فارس وصل الله كمالكم وسنى بمنه آمالكم وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فكتابنا هذا إليكم أسعدكم الله من محلتنا السعيدة بالمستقى ولا شيء إلا ما جرت به الأقدار وحكم به الفاعل المختار وما جاء به من عجائب الدهر الليل والنهار وهي قضية أخيكم التي ثارت إلي بها صروف الدهر من مكمني وطلعت علي من مأمني إلا أن الله تعالى بصنعه الجميل كفانا أولا ثم شفانا آخرا لله الحمد دائما والشكر واظبا وشرح ذلك أسعدكم الله ووقاكم السوء إن الحال كان انتهى في معالجة أمره الذي تجاوزنا في وجوه الخير إليه حد الاستقصا وأتينا في محاولة استصلاحه من أحوال السياسة المرجوة النجح بما لا يحصى إلى ما كنا سوغناه من ولاية سجلماسة بخراجها وخراج درعة وأبحنا له التوجه إليها بجملته وجمعه رجاء أن تسكن بالانتباذ إليهما نفرته وتطمئن نفسه ويثوب إليه قلبه الطائر ويراجعه أنسه الحائر فأظهر أولا التوجه إليهما ونهض مرتحلا عن فاس موريا بالقدوم عليهما ثم بدا له على الحين فكر راجعا إلى فاس ورجونا أن يكون قد ذهب عنه النفار والشماس وثاب لنفسه السكون والاستئناس فإذا به قد انطوى برجوعه على خلاف ما أظهر فأبدى ما أضمر فما كان إلا أن
____________________

طرأ عليه خبر نزولنا بالدوح فلم يتمالك أن أقلع ليلة الخميس خامس عشر شهر تاريخه إقلاعا أزعجه من الدار فريدا وطارت به النفرة إلى أن حل بزاوية الشيخ أبي الشتاء وحيدا فتلاحق به من جيش رماته اليكشارية ومتفرقة سماسرة الفتن وطلائع الشؤم والمحن جمع عظيم وعدد من كثرته لا يريم فبادرت حينئذ بتجهيز جؤذر باشا من غير إغفال في خمسمائة صبائحية ومعه القائد مؤمن بن ملوك في خمسمائة فارس ثم أردفناه ببعوث أخر تألبت إليه وتناثلت عليه تناهز الألفين ورماة بابا زيدان حفظه الله فأحدقت به من كل الجهات وملكوا عليه الفجاج والثنيات ونحن مع ذلك خلال هذه الأحوال لم نهمل مقابلة نفرته بالتسكين وما يخشن من أحواله بالتليين بإرسال المرابطين تجاهه بمواثيق تهنيه وعهود تؤنسه وتقرب أمانيه رجاء أن يثوب إليه ثائب استبصار أو يخطر له خاطر إقلاع عما هو عليه وإقصار وقرناء السوء المتلاحقون به من جيشه يقدحون للشر نارا ويزينون له عقوقا ونفارا فدهمتهم حينئذ عساكرنا المظفرة بالله في مصافهم دونه ودارت بين الفريقين حرب عظيمة فخمدت النار من وقت الظهر إلى العصر فأظهر الله تعالى فئة الحق على فئة الباطل وقضى بما جرى به القضاء المحتوم الحكم العادل وكتبناه إليكم وقد حصل في القبضة كما سبق به القضاء والقدر وجعل بمكان الاحتياط عليه من مكناسة فكانت مشيئة الله في ذلك من إحدى العجائب العبر وعرفناكم أسعدكم الله لتستشعروا صنع الله في هذه الداهية التي فجئت بها الأيام ودهمت والغاشية التي اعتكرت وادلهمت وتقدروا ما صنع الله في ذلك من حسن العاقبة حق قدره وتشكروه فهو الجدير بجميل حمد كل لسان وشكره ونسأله تعالى أن يجعلكم في حيز الكفاية وجانب الوقاية حتى لا تساؤوا بقريب مأمون ولا ببعيد مظنون وفي ليلة الثلاثاء الموفي عشرين من جمادى الأولى عام أحد عشر وألف اه
ثم إن أم الشيخ واسمها الخيزران بعثت إلى أعيان مراكش الذين قدموا مع المنصور ترغب إليهم في أن يشفعوا لولدها عند أبيه ويعتذروا عنه بما يزيل ما في باطنه عليه فتقدموا إلى المنصور وقالوا له إن الشيخ قد
____________________

صلحت حالته وتاب مما كان عازما عليه وأنه ندم على ما فرط منه فقال لهم اذهبوا إلى مكناسة واختبروا أمره كافيا وانظروا هل رجع عن أباطيله وتنصل من أضاليله فلما أتوه وجدوه أخبث مما تركوه وعاينوا منه من القبائح ما يقصر عن وصفه اللسان فلما جلسوا إليه في محبسه لم يسألهم إلا عن أصحاب بطانته وقرناء السوء من أهل غيه ولم يظهر الأسف إلا على تلك العصابة ورآهم أهل الإصابة
وكان من الأعيان الذين وجههم المنصور أولا وآخرا أولاد الشيخ أبي عمرو القسطلي وأولاد الشيخ أبي محمد عبد الله بن ساسي وأولاد الشيخ أبي زكرياء يحيى بن بكار وغيرهم فلما رجعوا إلى المنصور من مكناسة سألهم عن الخبر فنافق بعضهم وقال وجدناه تائبا نادما على ما صدر منه وتكلم بعض أولا د الشيخ ابن ساسي فقال لا والله لا داهنت في حق الله ولا واجهت الأمير بالخديعة إن ولدك لا نأذن لك أن تؤمره على اثنين ولا تحكمه على عيال الله فإنا وجدناه خبيث الطوية قبيح السريرة لم يندم على ما فرط منه فسكت الحاضرون ولم يتكلم أحد فقال لهم المنصور افتوني في أمر هذا الولد فلم يجبه أحد إلا باشاه عبد العزيز بن سعيد الوزكيتي فإنه قال له الرأي أن تقتله فإنه لا ينجبر أمره ولا يرجى صلاحه وقد رأيت ما صنع فلم يعجب المنصور ذلك وقال كيف أقتل ولدي ثم بعث إلى مكناسة يأمر بالتضييق على الشيخ والزيادة عليه في ذلك ثم خرج المنصور فنزل بمحلته في ظهر الزاوية قاصدا مراكش بعد أن استخلف ابنه زيدان على فاس وأعمالها وقد كان كتب إلى ولده أبي فارس خليفته على مراكش برسالة أجابه فيها عما كتب به إليه في شأن الوباء الذي ظهر بالسوس ومراكش هل يفر منه أم لا ونصها
من عبد الله تعالى المجاهد في سبيله الإمام الخليفة المنصور بالله أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين الشريف الحسني أيد الله بعزيز نصره أوامره وظفر عساكره وأسعد بمنه موارده ومصادره إلى ولدنا الأجل الأفضل الأكمل الأعز الأبر الأسعد الأمجد الأرضى بابا أبي فارس وصل الله تعالى عنايتكم
____________________

ووالى بمنه رعايتكم وسلام عليكم ورحمه الله أما بعد فكتابنا هذا إليكم من حضرتنا العالية بالله المدينة البيضاء حاطها الله عن الخير والعافية ونعم الله المتوافية لله الحمد وله المنة وأنه اتصل بعلي مقامنا كتابكم الأعز عشية يوم الثلاثاء فكتبنا إليكم صبيحة يوم الأربعاء ولولا أنه وصل يوم الديوان ما كنا نؤخر كتب الجواب لكم عن ساعة وصوله في اليوم بنفسه حرصا منا بذلك على المبادرة بوصوله إليكم في الحين وإلى هذا أسعدكم الله أن أول ما تبادرون به قبل كل شيء هو خروجكم إذا لاح لكم شيء من علامات الوباء ولو أقل القليل حتى بشخص واحد ويبقى في القصبة وصيفنا مسعود مع القائد محمد بن موسى بن أبي بكر وتتركوا مائة رام تثقون بها من رماتكم مع أصحاب السقيف وتتكلون على الله وتخرجون بالسلامة ثم لا تعملوا كعملنا في الاقتصار على الرميلة والتقلب بها بل لا تزيدوا إذا خرجتم على المقام أكثر من يومين ثم اطووا المراحل إلى أن تنزلوا بسلا وتدخلوها دخول هناء وعافية إن شاء الله وهناك يكون لقاؤنا بكم لقاء يمن وسعادة إن شاء الله ثم لا تغفلوا عن استعمال الترياق أسعدكم الله فلازموه وإذا استشعرتم منه حرارة وتخوفتموها فاستعملوا من الوزن الوصف المعروف منه ولا تهملوه وأما ولدك حفظه الله فلما كان من سن الشبيبة بحيث منعه الحال من المداومة على الترياق فها هي الشربة المعروفة النافعة لذلك قد تركناها كثيرة هناكم عند التونسي فيكون يستعملها هو والأبناء الصغار المحفوظون بالله حتى إذا أحس ببرد المعدة من أجلها تعطوه الترياق المرة والمرتين على قدر الحاجة فيعود إليها والله تعالى بمنه وبحرمة صفوة خلقه خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم يتولى حمايتكم جميعا ويحلكم من جميل كلاءته ورعايته حصنا منيعا وأن يعافي البلاد والعباد بمنه وفضله والسلعة أسعدكم الله تبادرون بإرسالها إلينا وكذلك القائد مسعود النبيلي تعزمون بإرساله إلى حيث أمرناه بالمقام من خنق الوادي بالسوس وطريق تاحظيشت واعلم أسعدكم الله ما قط أرضانا أن أمرها يتم وقبل عقلنا الكريم إن أهل درن يتجرون بسببها ولكن هذا سبب يكون حجة عليهم إن شاء الله وأنتم
____________________

تحاولون أسعدكم الله سلوك الناس على بويباون على العادة وتجهدوا في أن تكون إن شاء الله سابلة وأولائكم أعني أهل طريق تاحظيشت يسكت عنهم حتى نصل بخير وعافية لتلكم البلاد إن شاء الله ومسألة أيسي التي كتبت لكم من خنق الوادي على الزرع وأنه ما عندهم ما يكفيهم منه سوى شهر فلقد كنا كتبنا لكم أسعدكم الله على حمل الزرع إليهم على البحر فإن كان قد تيسر ذلك فيكون قد بلغ إليهم وإن لم يكن ذلك قد تيسر فلتأمر أيسي هذا بالتدبير على الزرع ولو بالشراء وألزموه عهدته وشددوا عليه في أمره وخالنا القائد حمو بن محمد الذي استأذنكم في الخروج عن ذلكم المرض من المحمدية فإذا تفاحش فلا عليه في الخروج ويلتحق بأهل تلك المحلة بخنق الوادي ويترك في القصبة أهل الأندلس مع قائدهم ومسألة مؤمن بن منصور مع هكسيمة التي ذكرتم أسعدكم الله إن مؤمنا قد تثاقل بدمنات بسبب مرض ألم به حتى جاء به شاوش وإن أخاه ذلكم المفسود بعث إليه يلتقي معه بتامصلوحت فعلى بركة الله والحاضر بصيرة وهذا موجبه إليكم والله يصل بمنه رعايتكم والسلام وفي يوم الأربعاء رابع عشر رمضان المعظم عام أحد عشر وألف عرفنا الله خيره وبركته وبعد أن كتبنا لكم هذا بلغنا كتابكم ونحن نجيبكم عما تحتاجون إلى الجواب عنه والبطاقة التي ترد عليكم من السوس من عند الحاكم أو ولد خالكم أو غيرهما لا تقرأ ولا تدخل دارا بل تعطى لكاتبكم هو يتولى قراءتها ويعرفكم مضمنها ولأجل إن كاتبكم يدخل مجلسكم ويلابس مقامكم حتى هو لا يفتحها إلا بعد أن تغمس في خل ثقيف وتنشر حتى تيبس وحينئذ يقرؤها ويعرفكم بمضمنها إذ ليس يأتيكم من السوس والله سبحانه أعلم ما يوجب الكتمان عن مثل كتابكم وقد طالعنا كتاب ولد خالكم أحمد بن محمد بن الصغير وصح عندنا من فحوى كلامه ما ذكرتم عنه من أنه أكثر من خبر الوباء ليجده ذريعة للخروج من السوس
____________________

والذي تأمرونه به أنكم تحذرونه من القدوم عليكم بمراكش وإن ذلك لا يرضينا منه وكيف يروم الخروج من موضع عيناه له من غير أمرنا لا سيما مع غيبتنا عن البلاد وأنه إن فعل ذلك لا محالة تسقط منزلته عندنا ثم لا يعود أبدا إليها إلا أن تفاحش المرض بتلكم الناحية فلا عليه في الخروج والتنقل قرب البلاد أو يلتحق بمحلة أصحابه الذين بخنق الوادي وأما ما ذكرتم عن محمد بن عبد الرحمن الوردي فقد طالعنا الجريدة التي جرد لكم وتصفحناها ورأينا أن جل ما يطلبه بها لا يمكن مع غيبتنا والذي نأمركم به في مسألته أنكم تحاولون في رده لموضعه فإنه بذلك الموضع أليق من أخيه بكثير وكل ما يمكنكم من أغراضه المسطرة فاقضوه له وما لا يمكن عدوه به عند قدومنا إن شاء الله وأما أمر أخي أحمد بن الحسن الذي عيناه لجباية درعة وذكرتم أنه غير لائق بها وأنكم استصغرتموه عن تلك العمالة فلا شك أنه كما ذكرتم ولكن إنما وقع الاختيار عليه لأمرين الأول الذمة لأنه بماله ولا نخشى إن شاء الله على مالنا الثاني إن خراج درعة سهل معلوم ولعله يكره هذه الولاية ويحب الجلوس بداره ويغري من يتكلم فيه عندكم فإن كان من ذكره لكم مثل مسعود أوتاودي فاتهمه وقد طالعنا في جريدتكم أنكم وجهتم مع زرع المعاصر مائة رام وهذا الذي ذكرتم ما نعلم أنا كتبنا لكم عليه قط وإنما كتبنا لكم على الزرع تحملونه في البحر برسم المحلة التي هناكم بخنق الوادي فإن كان هو هذا فنحن أردناه للمحلة وإن كان غيره فعرفنا بقضيته فإن زرع المعاصر إنما يلزم اليهود والنصارى المكثرين للمعاصر وفيها أيضا ما أخبركم به أحمد بن محمد بن موسى بخبر ما سقط من القنطرة وإنكم عنفتموه على عدم المبادرة وقد أشكل علينا الأمر لأنكم لم تعرفوا مقامنا بالساقط هل هو من القديم أو من هذا الإصلاح الذي أمرنا به فعرفنا لنكون على بصيرة من ذلك وفيها أيضا مسألة أولاد طلحة فدبروا عليهم إما من عند أيسي أو غيره حتى لا يرجعون إلينا شاكين وولد إبراهيم بن الحداد إلى الآن لم يصل وزمام الأسرى وصل وأما الدراقة التي ذكرتم فها السلتة المعدة لها عند صاحب بيت ثيابنا فوجه ليوسف العبد حتى تكلمه
____________________

ومره يخرجها من عنده وركبها في موضعها ولا تركب التي عندكم بل تمسكونها لأنفسكم واعلم أني تركت عند أولئك المعلمين أعني معلمي بركاضو سلاتي برسم ابنتنا العزيزة طاهرة صانها الله وكلاها وحيث يفرغون من الدراقة اجمعهم عليها كي نجد ذلك طالعا إن شاء الله فإنا قد أمرنا بنسج درارق تلكم السلاتي هذا والمراد أن تجد السلاتي قد فرغ منها إن شاء الله وقصر الخيل مع الحمام حرض المعلمين على المبادرة باشتغالهما بهما وحاول أن تسقفوا ذلك البلاط الذي يوالي سور القصبة من قصر الخيل والقبة التي فيه لنجده كاملا إن شاء الله عند قدومنا عليكم وحتى سواري الرخام ركبوها في تلك الجهة إذا سقفتم ولا تزالوا تعرفونا بما تزايد من الأشغال في الموضعين المذكورين وأوصيكم أعزكم الله أن تتفقدوا فرسنا الأحمر الصغير ولا تتركوهم يعطونه القصيل لئلا يكثر لحمه ويزداد ألمه بل انظر له من يركبه كل يوم بل لا تنزع السرج بالكلية عن ظهره بياض النهار كله أو أعطوه لصاحب المسرة يركبه في ذهابه وإيابه لداره والمسرة وأوصوه أن لا يركبه غيره ولا ينزل عن ظهره النهار كله وأوصيكم أيضا إذا ظهر المرض بتلكم الناحية وخرجتم خروج يمن وسلامة بحول الله وقوته أن لا تتركوا وراءكم بنت عمكم والدة ولدنا العزيز بابا عبد الملك حفظه الله وامر يوسف العبد أن يخرج لكم من عند صاحب بيت الثياب القدر المحتاج إليه من الترياق الجديد الذي كان بقبة المشور ويدخل على أيديكم لدارنا واستدعوا أم المال قهرمانة الدار وأعطها إياه برسم أهل دارنا وأمرها أن تعطيهم إياه في كل رابع من اليوم الذي يأكلونه فيه وهي أيضا تأكل منه والعبد يوسف أيضا يأكل منه وحتى صاحب السقيف أعطوه منه أعني مسعود بن مبارك والله سبحانه يرعاكم ويتولى حفظكم أنتم وأولادكم وقد استودعناكم الله الذي لا تضيع لديه الودائع وأنتم في أمان الله وحفظه والله سبحانه خليفتي عليكم أنتم في يمين الرحمن وكلتا يديه يمين والسلام الأتم
____________________

عائد عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ونسلم على ولدنا الأعز الأرضى بابا عبد الملك وعلى ابنتنا الرضية سيدة الملك ونحن في غاية الاشتياق والتوحش لها جمع الله بكم الشمل جميعا آمين بحرمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله خير آل والسلام اه
قال مؤلفه عفا الله عنه قد وقع في كلام المنصور رحمه الله أمران يحتاجان إلى التنبيه عليهما الأول إذنه لولده أبي فارس في الخروج من مراكش إذا ظهر بها أثر الوباء ولو شيئا يسيرا وهذا الأمر محظور في الشرع كما هو معلوم ومصرح به في الأحاديث والثاني أمره إياه أن لا يقرأ البطائق الواردة عليه من السوس وإنما يتولى قراءتها كاتبه بعد أن تغمس في الحل وهذا عمل من أعمال الفرنج ومن يسلك طريقهم في تحفظهم من الوباء المسمى عندهم بالكرنتينة وقد اتفق لي فيها كلام أذكره هنا تتميما للفائدة وذلك أنه لما كانت سنة ست وتسعين ومائتين وألف عرض لنا سفر إلى حضرة السلطان المولى أبي علي الحسن بن محمد الشريف أيده الله عز وجل بمراكش المحروسة بالله فخرجنا من سلا أواخر ربيع الأول من السنة المذكورة ومررنا في طريقنا على المحب القائد الأنبل أبي عبد الله محمد بن إدريس الجراري بثغر الجديدة وهو يومئذ متول لعملها فأجل قدومنا على عادته حفظه الله في محبة العلم ومن ينتمي إليه وحضر معنا عنده بعض فقهاء الوقت وكانت السنة سنة وباء فجرت المذاكرة فيما يستعمله النصارى في أمر الكرنتينة من حبس المسافرين وشذاذ الآفاق عن المرور بالسبل والدخول إلى الأمصار والقرى ومنع الناس من مرافقهم وأسباب معاشهم وحصل التوقف تلك الساعة في حكمها الشرعي ماذا يكون لو أجريت على قواعد الفقه ثم بعد ذلك بنحو ثلاثة أشهر وقفت على رحلة العلامة الشيخ رفاعة الطهطاوي المصري في أخبار باريز فرأيته ذكر في صدرها أنه وقعت المحاورة بين العلامة الشيخ أبي عبد الله محمد المناعي التونسي المالكي المدرس بجامع الزيتونة ومفتي الحنفية بها العلامة الشيخ أبي عبد الله محمد البيرم في إباحة الكرنتينة وحظرها فقال المالكي بحرمتها وألف في ذلك
____________________

رسالة واعتماده في الاستدلال فيها على أن الكرنتينة من جملة الفرار من القضاء وقال الحنفي بإباحتها واستدل على ذلك من الكتاب والسنة أيضا فلما وقفت على هذا الكلام تجدد لي النظر في حكم هذه الكرنتينة وظهر لي أن القول بإباحتها أو حرمتها منظور فيه إلى ما اشتملت عليه من مصلحة ومفسدة ولو مرسلة على ما هو المعروف من مذهب مالك رحمه الله ثم يوازن بينهما وأيتهما رجحت على الأخرى عمل عليها فإن استوتا كان درء المفسدة مقدما على جلب المصلحة كما هو معلوم في أصول الفقه ونحن إذا أمعنا النظر في هذه الكرنتينة وجدناها تشتمل على مصلحة وعلى مفسدة أما المصلحة فهي سلامة أهل البلد المستعملين لها من ضرر الوباء وهذه المصلحة كما ترى غير محققة بل ولا مظنونة لأنه ليست السلامة مقرونة بها كما يزعمون وأنه مهما استعملها أهل قطر أو بلد إلا ويسلمون لا دائما ولا غالبا بل الكثير أو الأكثر أنهم يستعملونها ويبالغون في إقامة قوانينها ثم يصيبهم ما فروا منه كما هو مشاهد ومن زعم أن السلامة مقرونة بهذا دائما أو غالبا فعليه البيان إذ البينة على المدعي فنتج من هذا أن مصلحة الكرنتينة مشكوكة أو معدومة وإذا كانت كذلك فلا يلتفت إليها شرعا بل ولا طبعا لأنها حينئذ من قبيل العبث وأما المفسدة فهي دنيوية ودينية أما الدنيوية فهي الإضرار بالتجار وسائر المسافرين إلى الأقطار بحبسهم وتسويقهم عن أغراضهم وتعطيل مرافقهم على أبلغ الوجوه وأقبحها كما هو معلوم وأما الدينية فهي تشويش عقائد عوام المؤمنين والقدح في توكلهم وإيهام أن ذلك دافع لقضاء الله تعالى وعاصم منه وناهيك بهما مفسدتين محققتين ترتكبان لشيء يكون أو لا يكون فإن العامة لقصور أفهامهم قد تذهب أوهامهم مع هذه الظواهر فيقفون معها ويقعون في ورطة ضعف الإيمان عياذا بالله فإن قلت هذا الكلام فيه ميل إلى سوء الظن بالعامة وهم جمهور الأمة قلت ليس فيه ميل إلى سوء الظن بهم وإنما فيه تقرير الخوف عليهم والاحتياط لهم حتى لا نتركهم هملا يفعلون ما شاؤوا أو يفعل بهم ما يضرهم في دينهم ودنياهم مع أن سد الذريعة قاعدة من قواعد الشرع لا سيما في المذهب
____________________

المالكي ولأمر ما جاءت الشريعة المطهرة ممتلئة من التحذيرات من مكامن هذه المفاسد ونحوها ورد الأسباب والمسببات كلها إلى الله تعالى مع ما في استعمال هذه الكرنتينة مع الاقتداء بالأعاجم والتزيي بزي الكفرة الضلال ورمقهم بعين التعظيم ونسبتهم إلى الإصابة والحكمة كما قد يصرح به الحمقى من العوام فأما إذا وافق قدر بالسلامة عند استعمالها فهي الفتنة والعياذ بالله فأي مفسدة أقبح من هذه فالحاصل أن الكرنتينة اشتملت على مفاسد كل منها محقق فتعين القول بحرمتها وجلب النصوص الشاهدة لذلك من الشريعة لا تعوز البصير وقد ذكر العلامة الحافظ القسطلاني في تفسير سورة النساء من الجامع الصحيح عند قوله تعالى { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم } ما نصه دل على وجوب الحذر من جميع المضار المظنونة ومن ثم علم أن العلاج بالدواء والاحتراز عن الوباء والتحرز عن الجلوس تحت الجدار المائل واجب اه وهو يقتضي بظاهره أن الاحتراز عن الوباء واجب بأي وجه كان ولا يخفى أنه يتعين تقييده بالوجه الذي ليس فيه مفسدة شرعية كعدم القدوم على الأرض التي بها الوباء ونحو ذلك مما وردت به السنة ولا تأباه قواعده الشريعة كبعض العلاجات المستعملة في إبانة المنقولة عن أئمة الطب أما بالوجه الذي يشتمل على مفسدة أو مفاسد كهذه الكرنتينة فلا هذا ما تحرر في هذه المسألة والله أعلم
ولما وقف على هذا الكلام أخونا في الله العلامة الأستاذ أبو محمد عبد الله بن الهاشمي ابن خضراء السلاوي وهو اليوم قاضي حضرة مراكش كتب إلي ما نصه وأما حكم الكرنتينه فهو ما ذكرتم من الحظر وبه أقول لما فيه من الفرار من القضاء مع المفاسد العظيمة التي لا تفي بها مصلحتها على فرض تحققها أو غلبة ظن حصولها سيما وقد انتفيا بعد التجربة المتكررة في الجهات المتعددة ولا يخالف في هذا الحكم إلا مكابر متبع للهوى فماذا بعد الحق إلا الضلال ثم جلب حفظه الله من النصوص ما يشهد لذلك تركناها اختصارا والله تعالى الموفق بمنه
____________________

وفاة المنصور رحمه الله
كان المنصور رحمه الله بعد فراغه من قضية ابنه المأمون قد عزم على الرجوع إلى مراكش فلما بلغه ظهور الوباء بتلك الناحية تربص إلى أن دخلت سنة اثنتي عشرة وألف فانتشر الوباء في بلاد الغرب أيضا فكان مصاب المنصور به على ما نذكره
قال صاحب الأصليت وهو الفقيه أبو العباس أحمد بن عبد الله السجلماسي المعروف بأبي محلي كنا نسمع أن السلطان المنصور إذا خرج من مراكش قاصدا مدينة فاس لا يرجع إلى مراكش وذاع هذا الخبر في الناس قبل نزوله فكان الأمر كذلك ثم لا أدري من أين للناس بذلك هل أنطقهم الله به أو عن علم تلقوه عن أربابه وكأنه الأشبه والله أعلم قال ومن هذا ما ذكره بعضهم أيضا لكن بعد الوقوع والنزول أن دخول رايات أبي العباس المنصور في حياته للسودان واستيلاءه على سلطانها سكية في دار إمارته كاغو مع تنبكتو وأعمالها كل ذلك من أمارات خروج الإمام المهدي الفاطمي وكذلك الوباء المنتشر في هذه الأعوام وكثرة الهرج والغلاء في سائر البلاد حتى الآن وبقي من إمارات خروجه فيما نسمع فتح وهران إما على يده أو بإذنه فيما يقوله من لا علم عنده بحقيقة الأمر اه
وكان ابتداء مرض المنصور بمحلته خارج فاس الجديد قرب سيدي عميرة يوم الأربعاء حادي عشر ربيع النبوي سنة اثنتي عشرة وألف ودخل إلى داره بالمدينة البيضاء عشية ذلك اليوم واحتل بها بعد الغروب وتوفي هنالك ليلة الاثنين الموالي لتاريخه ودفن بإزاء مقصورة الجامع الأعظم هنالك ضحوة يوم الاثنين المذكور وحضر جنازته ولده زيدان وقدم للصلاة مفتي فاس وخطيب جامع القرويين بها الفقيه أبو عبد الله محمد بن قاسم القصار
قال اليفرني كانت وفاة المنصور بالوباء وقال الشيخ أبو محمد عبد
____________________

الله بن يعقوب السملالي في شرحه لجامع شامل بهرام كان بالمغرب وباء استطال به من سنة سبع إلى سنة ست عشرة وألف وعم سهل المغرب وجبله حتى أفنى أكثر الخلق ومات به جمع من الأعيان وبه مات السلطان أبو العباس أحمد المنصور رحمه الله ونحوه ذكره صاحب الفوائد وغيره قال اليفرني وبه تعلم ما شاع على الألسنة من أن المنصور سمه ولده زيدان بإشارة من أمه الشبانية في باكور أوائل ظهوره وقطع عنه الأطباء إلى أن هلك وأن المنصور لما أحس بذلك قال استعجلتها يا زيدان لا هناك الله بها أو كلاما هذا معناه قالوا وبسبب ذلك لم تنصر لزيدان راية فإنه انهزم في زهاء سبع وعشرين معركة كله كذب لا أصل له لأن المنصور طعن بالوباء ولم يذكر أحد ممن يوثق به ما شاع على ألسنة العامة وأضرابهم من الطلبة اه ثم نقل المنصور رحمه الله بعد دفنه إلى مراكش فدفن بها في قبور الأشراف قبلي جامع المنصور من القصبة وقبره هنالك شهير عليه بناء حفيل ومما نقش على رخامة قبره هذه الأبيات
( هذا ضريح من غدت ** به المعالي تفتخر )
( أحمد منصور اللوا ** لكل مجد مبتكر )
( يا رحمة الله اسرعي ** بكل نعمى تستمر )
( وباكري الرمس بماء ** من رضاه منهمر )
( وطيبي ثراه من ** ندى كذكره العطر )
( وافق تاريخ الوفاة ** دون تفنيد ذكر )
( مقعد صدق داره ** عند مليك مقتدر )
____________________

بقية أخبار المنصور وبعض سيرته
كان المنصور رحمه الله حسن السياسة حازما يقظا مشاورا في مهمات الأمور وكان قد اتخذ يوم الأربعاء للمشورة وسماه يوم الديوان تجتمع فيه وجوه الدولة ويتطارحون فيه وجوه الرأي فيما ينوب من جلائل الأمور وعظيم النوازل وهنالك يظهر شكايته من لم يجد سبيلا للوصول إلى السلطان قالوا ومن حزمه انه كان متطلعا لأخبار النواحي بحاثا عنها غير متراخ في قراءة ما يرد عليه من رسائل عماله ولا يبطئ بالجواب ويقول كل شيء يقبل التأخير إلا مجاوبة العمال عن رسائلهم وكان الكتاب لا يفارقون مراكزهم إلا في أوقات مخصوصة
قال الفشتالي ولقد كنا بالباب يوما يعني معشر الكتاب قبل أن يخرج المنصور فورد النذير على الكاتب أبي عبد الله محمد بن علي الفشتالي بأن ولدا له في النزع فلم يملك نفسه أن ذهب إلى داره فخرج المنصور على أثره فسأل عنه فقيل إنه ذهب إلى داره فاستشاط غضبا وبعث إليه فجيء به مزعجا وما شككنا في عقوبته فلما مثل بين يديه قال له ما الذي ذهب بك فذكر له أمر ولده وأنه اشتد به المرض ولم ينجع فيه دواء طبيب فرق له وقال إن أمراض الصبيان قلما ينجع فيها إلا طب العجائز ولا كعجائز دارنا فابعث من يسألهن
ومن حزمه أنه اخترع أشكالا من الخط على عدد حروف المعجم وكان يكتب بها فيما يريد أن لا يطلع عليه أحد يمزج فيها الخط المتعارف فيصير الكتاب مغلقا فإذا سقط ووقع في يد عدو أو غيره لا يدري ما فيه ولا يعرف معنى ما اشتمل عليه فكان إذا جهز أحد أولاده ناوله خطا من تلك الخطوط يفك بها رسائله إليه ويكتب عنوانه كذلك
ومن ضبطه أنه تعلم الخط المشرقي فكان يكاتب به علماء المشرق كتابة كأحسن ما يوجد في خط المشارقة ومما وقع له في ذلك أنه بعث بطاقة
____________________

بخط يده على طريقة أهل المشرق لكاتبه أبي عبد الله بن عيسى يستدعي منه كتابا فبعثه ابن عيسى إليه وبعث معه بهذين البيتين
( سقتني كؤس السرور دهاقا ** خطوط أتتني في مهرق )
( رأت كف أحمد في الغرب بحرا ** فجاءت إليه من المشرق )
وكان المنصور على ما هو عليه من ضخامة الملك وسعة الخراج يوظف على الرعية أموالا طائلة يلزمهم بأدائها وزاد الأمر على ما كان عليه في عهد أبيه حسبما مر وكانت الرعية تشتكي ذلك منه ونالها إجحاف منه ومن عماله وكان غير متوقف في الدماء ولا هياب للوقيعة فيها قال اليفرني وتتبع ما وقع في ذلك يناقض المقصود من الإغضاء عن العورات والستر على الفضائح وقد ألمعنا لك بما يكون دالا على ما وراءه وذكر أن بعض عمال المنصور عدا على امرأة من دكالة فأخذ منها أموالا فقدمت المرأة على المنصور بمراكش تشكو له ما نالها من عامله فلم يشكها ولا كشف ظلامتها فخرجت إلى أولادها بالباب وقالت لهم انصرفوا فإني كنت أظن أن رأس العين صافية فإذا بها مكدرة فلذا تكدرت مصارفها
ويحكى أن الفقيه القاضي أبا مالك عبد الواحد الحميدي قد سافر في جمع من فقهاء فاس وأعيانها إلى مراكش بقصد العيد مع المنصور كما هي العادة فمروا في طريقهم على جماعة رجال ونساء قد سلكوا في سلسلة واحدة وفيهم امرأة أخذها الطلق وهي في كرب المخاض فرأوا من ذلك ما أهمهم وأحزنهم فبقي ذلك في نفس القاضي فلما جلس إلى المنصور ذكره له وأظهر الشكاية منه فسكت المنصور عن جوابه وهجره على ذلك أياما ثم إن القاضي تلطف في القول وأظهر التوبة مما صدر منه وعدها بادرة فقال له المنصور لولا ما رأيت ما أمكنك أن تجيء مع أصحابك مسيرة عشرة أيام في أمن ودعة فإن أهل المغرب مجانين مارستانهم هي السلاسل والأغلال
ولقد وفد القاضي المذكور على المنصور في بعض المواسم مع الفقهاء فلما انصرفوا من الحضرة جمعتهم الطريق بأرباب الموسيقى وأصحاب
____________________

الأغاني من أهل فاس وقد كانوا وفدوا أيضا على المنصور على سبيل العادة فأخرج بعضهم شبابة من الإبريز مرصعة أعطاه إياها المنصور وبعضهم قال أعطاني كذا وقال الآخر أجازني بكذا مما لم يعط مثله للقاضي وشيعته من الفقهاء فقال القاضي لئن بلغت فاسا لأردن أولادي إلى صنعة الموسيقى فإن صنعة العلم كاسدة ولولا أن الموسيقى هي العلم العزيز ما رجعنا مخفقين ورجع المغني بشبابة الإبريز فنقل إلى المنصور هذا الكلام فلذعه عليه بيسير من الملام
وذكر أبو زيد في الفوائد ما صورته عدا محمد الكبير خال المنصور على رجل بدرعة في ضيعة له فشكاه إلى المنصور فقال له كم تساوي ضيعتك قال سبعمائة أوقية قال خذها وقل لخالي الموعد بيني وبينك الموقف الذي لا أكون أنا فيه سلطان ولا أنت خال السلطان فرجع صاحب الضيعة وأبلغ إلى العامل كلام المنصور فأمسك برأسه ساعة ثم قال له الحق بضيعتك وغرم له كل ما أكل منها اه
وقال في المناهل كان للمنصور مصانع اخترعها ومآثر خلفها منها المعقلان الكبيران اللذان أنشأهما بفاس أحدهما خارج باب عجيسة والأخر قبالته بباب الفتوح وهذان المعقلان يعرفان عند العامة بالبستيون وهما من الإتقان بحيث لا يعرف قدرهما إلا من وقف عليهما وكان الشروع في بنائهما يوم الاثنين الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة تسعين وتسعمائة ومن ذلك الحصنان اللذان بناهما بثغر العرائش أحدهما يعرف بحصن الفتح وهما أيضا في نهاية الوتاقة والحسن ومن ذلك معاصر السكر فإنه أحدثها بمراكش وبلاد حاحة وشوشاوة قال الفشتالي وكان ابتدأ ذلك والده أبو عبد الله الشيخ فكثر السكر في أيامه بالبلاد المغربية حتى لم تكن له قيمة وقد تقدم أنه كان يشتري الرخام من النصارى بالسكر ومن مآثره النبيلة العظمي مع كرسيها من المرمر بجامع القرويين تحت منار الجامع المذكور وقد تقدم الخبر عنها وقال ابن القاضي في المنتقى المقصور إن اللباس المسمى بالمنصورية وهو لباس من الملف لم يكن مستعملا قبله وهو
____________________

أول من اخترعه وأضيف إليه فقيل المنصورية
وكان في مدة المنصور من الأحداث أنه
في سنة سبع وثمانين وتسعمائة وقع غلاء عظيم بالمغرب حتى عرف ذلك العام بعام البقول قال في المرآة لما انتهب الناس غنيمة وادي المخازن كان الناس يتوقعون مغبتها لاختلاط الأموال بالحرام فظهر أثر ذلك من غلاء وغيره وكنا نسمع أن البركة رفعت من الأموال من يومئذ وفي هذه السنة أيضا أصاب الناس في بعض فصولها سعال كثير قل من سلم منه وكان الرجل لا يزال يسعل إلى أن تفيض نفسه فسمى العامة تلك السنة سنة كحيكحة
وفي سنة إحدى وتسعين وتسعمائة توفي الشيخ العارف بالله تعالى الكبير الشأن أبو النعيم رضوان بن عبد الله الجنوي نسبة إلى جنوة من بلاد الفرنج كان أبوه نصرانيا وأمه يهودية وسبب إسلام والده ما حكاه أبو العباس الأندلسي في رحلته أنه كان له فرس ببلده جنوة فانطلق ليلا ودخل الكنيسة العظمى وراث فيها من غير أن يشعر بذلك أحد من السدنة ولا غيرهم ثم بادر بإخراج الفرس ولما أصبح أهل الكنيسة ورأوا الروث قالوا إن المسيح جاء البارحة على فرسه إلى الكنيسة وراث فيها فاهتز البلد لذلك وتنافس النصارى في شراء ذلك الروث حتى بيع قدر الذرة منه بمال جزيل فعلم أن النصارى على ضلال وهاجر إلى بلاد الإسلام فنزل برباط الفتح من أرض سلا فوجد هنالك امرأة يهودية فتزوج بها وولدت له الشيخ أبا النعيم فنشأ مثلا في العلم والولاية ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم وكان رضي الله عنه يقول خرجت من بين فرث ودم أخذ الطريقة عن أبي محمد الغزواني وقدم عليه مراكش ثم عاد إلى فاس فمات بها في السنة المذكورة ودفن خارج باب الفتوح
وفي سنة خمس وتسعين وتسعمائة توفي الشيخ العلامة الإمام أبو العباس أحمد بن علي المنجور كان متبحرا في العلوم خصوصا أصول الفقه أخذ عن اليسيتني وأبي زيد سقين العاصمي وأبي الحسن بن هارون وأبي مالك الوانشريسي وغيرهم
____________________


وفي سنة سبع وتسعين وتسعمائة توفي الشيخ أبو الشتاء الشباوي دفين جبل آمركو من بلاد فشتالة ويقال اسمه محمد بن موسى وكني بأبي الشتاء لأن الناس قحطوا ولجؤوا إليه فسقوا في الحين وهو من أصحاب الشيخ الغزواني ويقال ما لقيه إلا مرة بقبيلتهما الشاوية فعينه ومكنه فهام على وجهه وكان من أمره ما كان
وفي ثامن عشر ربيع الثاني سنة ثلاث وألف توفي القاضي أبو محمد عبد الواحد بن أحمد الحميدي ودفن بروضة الشيخ أبي زيد الهزميري خارج باب مصمودة من عدوة فاس الأندلس وقد تقدمت بعض أخباره
وفي سنة أربع وألف توفي الشيخ أبو الحسن علي بن منصور البوزيدي المعروف بأبي الشكاوي دفين شالة وبها كان سكناه أخذ عن الشيخ المجذوب وأبي الرواين المحجوب وغيرهما وأولاده ينتسبون إلى عيسى بن إدريس الحسني دفين آيت عتاب والله تعالى أعلم
وفي سنة ست وألف توفي الشيخ الرباني أبو عبد الله محمد بن مبارك الزعري دفين تاستاوت من مشاهير الأولياء كان أول نشأته بمكناسة الزيتون ثم خرج إلى البادية بعد أن صعبت عليه القراءة ورأى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له إنك لن تقرأ ولكنك شيخ فخرج إلى البادية وكان يظن أنه يكون من أشياخ القبائل حتى هبت عليه نفحة رحمانية فقدم مراكش وأخذ عن الشيخ أبي عمرو القسطلي ورجع إلى باديته فبنى مسجدا في الموضع الذي عين له شيخه لسكناه فيقال إنه لما قيل له جعلت محرابه منحرفا عن القبلة أشار بيده إلى جهة مكة فتزحزحت الجبال حتى شاهد الحاضرون مكة والله على كل شيء قدير وكان الشيخ أبو عبد الله محمد الشرقي معاصرا له فقيل له إن الشيخ ابن مبارك قال أهل زماننا محسوبون علينا فقال اشهدوا أنا من أهل زمان ابن مبارك وفي هذه السنة أيضا كان الطاعون العظيم بمراكش وغيرها بحيث عم تلول المغرب واستطال فيها ومات به جمع من الأعيان منهم الشيخ ابن مبارك المذكور
وفي سنة تسع وألف في جمادى الآخرة منها كان سيل عظيم بفاس ثم
____________________

في شعبان من السنة المذكورة كان سيل أعظم من الأول تهدمت منه الدور والحوانيت وتهدم سد الوادي بفاس على وثاقته وإحكامه وهذا السد هو الذي كان جدده السلطان أبو العباس أحمد الوطاسي ثم جدده المنصور في هذه المرة من أحباس القرويين
وفي سنة عشر وألف توفي الشيخ العارف بالله الرباني أبو عبد الله ويقال أبو عبد الله محمد فتحا الشرقي ابن الولي الصالح أبي القاسم الزعري الجابري ثم الرثمي هكذا نسبه صاحب المرآة وغيره ورفع أبو علي المعداني في كتابه الروض الفائح نسبه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم نقل عن حفيده العارف بالله تعالى أبي عبد الله محمد الصالح بن المعطي ما نصه إن الشيخ سيدي محمد الشرقي لم توجد هذه النسبة العمرية بخطه فيما عثرنا عليه أما بنو أخيه وبنوه وحفدته فقد وجدت بخط الثقة منهم وتواتر نقلها عنهم وكتبت في إجازاتهم وكذا في تمليكاتهم اه وهذا الشيخ أعني أبا عبد الله الشرقي كان من أكابر أهل وقته يقال إنه بلغ درجة القطبانية وتخرج به جماعة من الأولياء وبعث إليه المنصور جماعة يختبرونه فظهرت لهم كراماته واتفقت له مع الشيخ المنجور كرامة حملته على أن وفد عليه زائرا ومدحه بقصيدة ذكر بعضها اليفرني في الصفوة وله مع أبي المحاسن الفاسي مراسلات ومواصلات ووقع بينهما كلام طويل انظر ابتهاج القلوب أخذ رضي الله عنه عن والده عن الشيخ التباع واعتمد على الشيخ الكبير أبي عبد الله محمد بن عمرو المختاري من أحواز مكناسة وأخذ أيضا عن ابن مبارك الزعري
____________________

وأبي محمد بن ساسي وتوفي أوائل المحرم من السنة المذكورة ودفن بجعيدان وقبره شهير نفعنا الله به وبسائر أهل الله
تم الجزء الخامس ويليه الجزء السادس
وأوله الخبر عن دولة السلطان أبي المعالي زيدان بن أحمد المنصور رحمه الله تعالى
____________________

6
____________________

بسم الله الرحمن الرحيم الدولة السعدية القسم الثاني الخبر عن دولة السلطان أبي المعالي زيدان بن أحمد المنصور رحمه الله تعالى
لما توفي المنصور رحمه الله وفرغ الناس من دفنه اجتمع أهل الحل والعقد من أعيان فاس وكبرائها والجمهور من جيش المنصور على بيعة ولده زيدان وقالوا إن المنصور استخلفه في حياته ومات في حجره وكان ممن تصدى لذلك القاضيان قاضي الجماعة بفاس أبو القاسم بن أبي النعيم والقاضي أبو الحسن علي بن عمران السلاسي والأستاذ أبو عبد الله محمد الشاوي والشيخ النظار أبو عبد الله محمد بن قاسم القصار وغيرهم ويحكى أن القاضي ابن أبي النعيم قام في الناس خطيبا وقال أما بعد السلام عليكم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات اجتمع الناس على أبي بكر رضي الله عنه ونحن قد مات مولانا أحمد وهذا ولده مولانا زيدان أولى بالملك من إخوته فبايعه الحاضرون يوم الاثنين السادس عشر من ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وألف قالوا وكان زيدان لما توفي والده كتم موته وبعث
____________________

جماعة للقبض على أخيه الشيخ المسجون بمكناسة فمنعهم من ذلك الباشا جؤذر كبير جيش الأندلس وحمل الشيخ موثقا إلى مراكش حتى دفعه إلى أخيه أبي فارس وكان شقيقا له فلم يزل مسجونا عنده إلى أن كان من أمره ما يأتي كذا قال بعضهم وقال في شرح زهرة الشماريخ إن زيدان لما اشتغل بدفن والده احتال القائد أبو العباس أحمد بن منصور العلج فذهب بنصف المحلة إلى مراكش نازعا عن زيدان إلى أبي فارس ومر في طريقه بمكناسة فأخرج الشيخ من اعتقاله واحتمله معه إلى أبي فارس فسجنه فلم يزل مسجونا عنده إلى أن كان من أمره ما نذكره والله تعالى أعلم انحراف أهل مراكش عن طاعة زيدان وبيعتهم لأبي فارس وما نشأ عن ذلك من الفتنة
كان المنصور رحمه الله قد فرق عمالات المغرب على أولاده كما مر فاستعمل الشيخ على فاس والغرب وولاه عهده واستعمل زيدان على تادلا وأعمالها واستخلف عند نهوضه إلى فاس ابنه أبا فارس على مراكش وأعمالها وكان يكاتبه بما مر بعضه من الرسائل فلما اتصل بأهل مراكش وفاة المنصور وكتب إليهم أهل فاس بمبايعتهم لزيدان امتنعوا وبايعوا أبا فارس لكونه خليفة أبيه بدار ملكه التي هي مراكش ولأن جل الخاصة من حاشية أبيه كان يميل إلى أبي فارس لأن زيدان كان منتبذا عنهم بتادلا سائر أيام أبيه فلم يكن لهم به كثير إلمام ولا مزيد استئناس مع أنه كان جديرا بالأمر لعلمه وأدبه وكمال مروءته رحمه الله إلا أن السعد لم يساعده وقد قيل في المثل قديما قاتل بسعد وإلا فدع ولما شق أهل مراكش العصا على زيدان كثر في ذلك القيل والقال حتى صدرت فتوى من قاضي فاس ابن أبي النعيم ومفتيها أبي عبد الله القصار تتضمن التصريح بحديث ( إذا بويع خليفتين فاقتلوا الآخر منهما ) وكانت بيعة أبي فارس
____________________

بمراكش يوم الجمعة أواخر ربيع الأول من سنة اثنتي عشرة وألف وهو شقيق الشيخ المأمون أمهما أم ولد اسمها الجوهر ويقال الخيزران واسم أبي فارس هذا عبد الله وتلقب بالواثق بالله وكان أكولا عظيم البطن مصابا بمس الجن ويقال إنه لذلك ابتنى المسجد الجامع بجوار ضريح الشيخ أبي العباس السبتي وشيد منارة وشحن الخزانة التي بقبلي الجامع المذكور بمنتخب الكتب ونفيس الدفاتر كل ذلك رجاء أن تعود عليه بركة ذلك الشيخ بالبرء من تلك العلة وكان مع ذلك يميل إلى المروءة والرفق وحسن السيرة رحمه الله نهوض السلطان زيدان لحرب أبي فارس وانهزامه بأم الربيع ثم فراره إلى تلمسان
لما بايع أهل مراكش أبا فارس بن المنصور عزم زيدان على النهوض إليه فخرج من فاس يؤم بلاد الحوز واتصل الخبر بأبي فارس فجهز لقتاله جيشا كثيفا وأمر عليهم ولده عبد الملك إلى نظر الباشا جؤذر فقيل له إن زيدان رجل شجاع عارف بمكايد الحرب وخدعه وولدك عبد الملك لا يقدر على مقاومته فلو سرحت أخاك الشيخ لقتاله كان أقرب للرأي لأن أهل الغرب لا يقاتلونه لأنه كان خليفة عليهم مدة فهم آنس به من زيدان فأطلق أبو فارس أخاه المأمون من ثقاف السجن وأخذ عليه العهود والمواثيق على النصح والطاعة وعدم شق العصا ثم سرحه في ستمائة من جيش المتفرقة الذين كان المنصور جمعهم ليبعث بهم إلى كاغو من أعمال السودان وقال له ولأصحابه جدوا السير الليلة كي تصبحوا بمحلة جؤذر على وادي أم الربيع فلما انتهى الشيخ إلى المحلة المذكورة وعلم الناس به أهرعوا إليه واستبشروا بمقدمه ثم كانت الملاقاة بينه وبين السلطان زيدان بموضع يقال له حواتة عند أم الربيع ففر عن زيدان أكثر جيشه إلى المأمون وحنوا إلى
____________________

سالف عهده وقديم صحبته فانهزم زيدان لذلك ورجع أدراجه إلى فاس فتحصن بها
وكان أبو فارس قد تقدم إلى أصحابه في القبض على الشيخ متى وقعت الهزيمة على زيدان فلما فر زيدان انعزل الشيخ فيمن انضم إليه من جيش أهل الغرب وامتنع على أصحاب أبي فارس فلم يقدروا منه على شيء وانتعش أمره واشتدت شوكته ثم سار إلى فاس يقفو أثر السلطان زيدان
ولما اتصل بزيدان خبر مجيئه إليه راود أهل فاس على القيام معه في الحصار والذب عنه والوفاء بطاعته التي هي مقتضى بيعتهم التي أعطوا بها صفقتهم عن رضى منهم فامتنعوا عليه وقلبوا له ظهر المجن وأعلنوا بنصر الشيخ وبيعته لقديم صحبتهم له ولما آيس زيدان من نصرهم وقد أرهقه الشيخ في جموعه خرج من فاس بحشمه وثقله ناجيا بنفسه وتبعه جمع عظيم من أصحاب الشيخ فلم يقدروا منه على شيء وذهب إلى تلمسان فأقام بها إلى أن كان من أمره ما نذكره
وأما الشيخ فإنه لما وصل إلى فاس تلقاه أهلها ذكورا وإناثا وأظهروا الفرح بمقدمه فدخلها ودعا لنفسه فأجيب واستبد بملكها ثم أمر جيش أهل مراكش أن يرجعوا إلى بلادهم فانقلبوا إلى صاحبهم مخفقين
وكان الشيخ لما تم غرضه من الاستبداد بالأمر والانفراد بالسلطنة دعا بالشيخين الفقيهين قاضي الجماعة أبي القاسم بن أبي النعيم ومفتيها أبي عبد الله محمد بن قاسم القصار فلامهما على مبايعة زيدان وقولهما فيه وفي أخيه أبي فارس إن أولاد الإماء لا يتقدمون في الأمر على أولاد الحرائر وكان أبو فارس والشيخ ولدي أمه اسمها الخيزران كما مر وزيدان أمه حرة من الشبانات وعزم أن ينكل بهما ثم بعث بهما مع جيش مراكش إلى أخيه أبي فارس ليرى فيهما رأيه فأما الشيخ القصار فتوفي رحمه الله على مقربة من مراكش بزاوية الشيخ ابن ساسي وحمل إلى مراكش فدفن بقبة القاضي عياض
____________________

وذلك في أواسط سنة اثنتي عشرة وألف وأما القاضي أبو القاسم فاجتمع بأبي فارس فقبل عذره وصفح عنه ورده مكرما إلى فاس هكذا ذكره بعضهم وقيل إن الذي بعث بالشيخ القصار إلى مراكش هو السلطان زيدان على وجه يخالف هذا والله أعلم نهوض عبد الله بن الشيخ لحرب عمه أبي فارس واستيلاؤه على مراكش
ثم إن الشيخ المتغلب على فاس دعا بتجار أهلها فاستسلف منهم مالا كثيرا وأظهر من الظلم وسوء السيرة وخبث السريرة ما هو شهير به ثم تتبع قواد أبيه فنهب ذخائرهم واستصفى أموالهم وعذب من أخفى من ذلك شيئا منهم ثم جهز جيشا لقتال أخيه أبي فارس بمراكش وكان عدد الجيش نحو الثمانية آلاف وأمر عليه ولده عبد الله فسار بجيوشه فوجد أبا فارس بمحلته في موضع يقال له إكلميم ويقال في مرس الرماد فوقعت الهزيمة على أبي فارس وقتل نحو المائة من أصحابه ونهبت محلته وفر هو بنفسه إلى مسفيوة ودخل عبد الله بن الشيخ مراكش فأباحها لجيشه فنهبت دورها واستبيحت محارمها وا شتغل هو بالفساد ومن يشابه أباه فما ظلم حتى حكي أنه زنى بجواري جده المنصور واستمتع بحظاياه وأكل رمضان وشرب الخمر فيه جهارا وعكف على اللذات وألقى جلباب الحياء عن وجهه وكان دخوله مراكش في العشرين من شعبان سنة خمس عشرة وألف
____________________

مجيء السلطان زيدان إلى المغرب واستيلاؤه على مراكش وطرده عبد الله بن الشيخ عنها
كان السلطان زيدان لما فر من فاس إلى تلمسان كما مر أقام بها مدة وكان قد بعث إلى ترك الجزائر يستمدهم ويستعديهم على أخويه فأبطؤوا عليه وطال عليه انتظارهم فلما يئس منهم توجه إلى سجلماسة فدخلها من غير قتال ولا محاربة ثم انتقل عنها إلى درعة ومنها إلى السوس فكتب إليه أهل مراكش وقد ندموا على ما فرطوا فيه من أمره والدخول في طاعته أن يأتيهم ولو وحده فتوجه إليهم ودخل عليهم ليلا فلم يفجأ عبد الله بن الشيخ إلا نداء أهل مراكش بنصر السلطان زيدان وتحزبوا معه وتقدموا إلى قائدهم عبد الله آعراس الذي ولاه عليهم الشيخ فقتلوه وخرج عبد الله فارا بجموعه من أهل فاس والغرب فحاصرهم أهل مراكش بين الأسوار والجنات وقتلوا من أصحاب عبد الله بموضع يعرف بجنان بكار نحو الخمسة آلاف وخمسمائة وأمر زيدان بقتل كل من تخلف عن عبد الله من جيشه فأتى القتل على جميع من وجد بمراكش من جيش أهل فاس وذلك في أواخر سنة خمس عشرة وألف وفر عبد الله بن الشيخ ناجيا بنفسه حتى قدم على أبيه بفاس في أسوأ الحالات مفلول العساكر مهزوم الجموع معتاضا عن جيش النصر بجيش الدموع
____________________

عودة عبد الله بن الشيخ إلى مراكش واستيلاؤه عليها وطرده زيدان عنها
لما قدم عبد الله بن الشيخ على أبيه بفاس سليبا مهزوما قامت قيامته ورأى أن يهيئ عسكرا آخر ويجدد جمعا ثانيا فلم يجد لذلك طاقة لفراغ يده من المال وقلة جبايته واستحيى أن يستسلف من التجار لأنه كان استسلف منهم فلم يرد لهم شيئا ولما أعيته الحيلة رجع على قواده فقلب لهم ظهر المجن ونهب أموالهم واستلب ذخائرهم وصار يفرقها على التجار فاجتمع له من ذلك أموال عريضة فرقها في جيشه وتهيأ عبد الله للمسير إلى مراكش وكان أهل فاس قد غضبوا لمن قتل من إخوانهم بها ونادوا بأخذ ثأرهم حتى إن بعضهم خرج مع عبد الله من غير أخذ مرتب ولا جامكية فخرج عبد الله بجموع عديدة وجيوش حفيلة ولما بلغ خبره للسلطان زيدان بعث إليه العلج مصطفى باشا في جيوش كثيرة قال في شرح زهرة الشماريخ كان بعث مصطفى باشا وخروجه من مراكش في شعبان سنة ست عشرة وألف فالتقى الجمعان بموضع يقال له تافلفلت على طريق سلا فهزم مصطفى باشا وقتل من جيش مراكش نحو التسعة آلاف وبعث الشيخ جماعة من عدول فاس إلى موضع المعركة حتى أحصوا القتلى ثم توجه عبد الله إلى مراكش فبرز إليه أهلها في ستة وثلاثين ألف مقاتل والتقى الجمعان بموضع يقال له رأس العين فانهزم أهل مراكش وتقدم عبد الله بن الشيخ فاقتحمها بجيشه وفر زيدان إلى المعاقل المنيعة والجبال الشامخة فبقي منتقلا هنالك إلى أن كان من أمره ما نذكره
____________________

ثورة محمد بن عبد المؤمن ابن السلطان محمد الشيخ وانقراض أمره وعود زيدان إلى مراكش
لما دخل عبد الله بن الشيخ مراكش واستولى عليها فعل فيها أعظم من فعلته الأولى وهربت شرذمة من أهل مراكش إلى جبل جيليز واجتمع هنالك منهم عصابة من أهل النجدة والحمية واتفق رأيهم على أن يقدموا للخلافة محمد بن عبد المؤمن ابن السلطان محمد الشيخ وكان رجلا خيرا دينا صينا وقورا فبايعه أهل مراكش هنالك والتفوا عليه فخرج عبد الله بن الشيخ لقتال من بجبل جيليز والقبض على أميرهم المذكور ولما التقى الجمعان انهزم عبد الله وولى أصحابه الأدبار فخرج من مراكش مهزوما سادس شوال سنة ست عشرة وألف وترك محلته وأنفاضه وعدته وجل الجيش وأخذ على طريق تامسنا وامتحن أصحابه في ذهابهم حتى كان مد القمح عندهم بثلاثين أوقية والخبزة من نصف رطل بربع مثقال ولم يزل أصحابه ينتهبون ما مروا عليه من الخيام والعمود ويسبون البنات إلى أن وصلوا إلى فاس في الرابع والعشرين من شوال من السنة المذكورة
وأما محمد بن عبد المؤمن فإنه لما دخل مراكش واستولى عليها صفح عن الذين تخلفوا بها من أهل الغرب من جيش عبد الله بن الشيخ وأعطاهم الراتب فلم يعجب ذلك أهل مراكش ونقموا عليه إبقاءه عليهم وكانوا نحو الألف ونصف فكتبوا سرا إلى السلطان زيدان بالجبل فأتاهم وخيم نازلا بظاهر البلد فخرج محمد بن عبد المؤمن إلى لقائه فانهزم ابن عبد المؤمن ودخل السلطان زيدان مراكش واستولى عليها وصفح هو أيضا عن الفئة المتخلفة عن عبد الله بن الشيخ وذكر في شرح زهرة الشماريخ إن هذا الثائر بجبل جيليز اسمه أبو حسون من أولاد السلطان أبي العباس الأعرج والله أعلم ولعل هذا الصواب بدليل ما يأتي في رسالة زيدان إن شاء الله
____________________

خروج جالية الأندلس من غرناطة وأعمالها إلى بلاد المغرب وغيرها
قد قدمنا ما كان من استيلاء الطاغية صاحب قشتالة على غرناطة وأعمالها سنة سبع وتسعين وثمانمائة وإن أهل غرناطة التزموا طاعته والبقاء تحت حكمه على شروط اشترطوها عليه قد ذكرنا بعضها فيما سلف وأن عدو الدين قد نقض تلك الشروط عروة عروة وكان أهل الأندلس من أجل ذلك كثيرا ما يهاجرون من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام أثناء هذه المدة السالفة غير أن عامتهم كانوا قد تخلقوا بأخلاق العجم وأثر فيهم ذلك أثرا ظاهرا لطول صحبتهم لهم ونشأة أعقابهم بين أظهرهم فكانت تصدر منهم في بعض الأحيان مقالات قبيحة في حق ولاة المسلمين من أهل المغرب وعامتهم لا سيما إذا نالهم منهم بعض الظلم ولقد رأيت في كتاب المعيار وغيره سؤالات وفتاوى صدرت عن علماء المغرب في حق هؤلاء الصنف منهم وكان الملوك السعديون قد جمعوا منهم جندا كبيرا وبهم فتح المنصور إقليم السودان واستمر الحال على ذلك إلى أن كانت سنة ست عشرة وألف فهاجر جميع من لم يتنصر منهم إلى بلاد المغرب وغيرها
قال في نفح الطيب كان النصارى بالأندلس قد شددوا على المسلمين بها في التنصر حتى أنهم أحرقوا منهم كثيرا بسبب ذلك ومنعوهم من حمل السكين الصغير فضلا عن غيرها من الحديد وقاموا في بعض الجبال على النصارى مرارا ولم يقيض الله لهم ناصرا إلى أن كان إخراج النصارى إياهم أعوام سبعة عشرة وألف فخرجت ألوف بفاس وألوف أخر بتلمسان ووهران وخرج جمهورهم بتونس فتسلط عليهم الأعراب ومن لا يخشى الله تعالى في الطرقات ونهبوا أموالهم وهكذا كان ببلاد تلمسان وفاس ونجا القليل منهم من هذه المضرة وأما الذين خرجوا بنواحي تونس فسلم أكثرهم وهم لهذا العهد قد عمروا قراها الخالية وبلادها اه
____________________


وقال صاحب الخلاصة النقية في أمراء إفريقية ما نصه وفي سنة ست عشرة وألف قدمت الأمم الجالية من جزيرة الأندلس فأوسع لهم صاحب تونس عثمان داي كنفه وأباح لهم بناء القرى في مملكته فبنوا نحو العشرين قرية واغتبط بهم أهل الحضرة وتعلموا حرفهم وقلدوا ترفهم اه ثم قال في نفح الطيب وكذلك خرج طوائف منهم بتطاوين وسلا والجزائر ولما استخدم سلطان المغرب الأقصى منهم عسكرا جرارا وسكنوا سلا كان منهم من الجهاد في البحر ما هو مشهور الآن وحصنوا قلعة سلا وبنوا بها القصور والحمامات والدور وهم الآن بهذا الحال ووصل جماعة منهم إلى القسطنطينية العظمى وإلى مصر والشام وغيرها من بلاد الإسلام اه كلام نفح الطيب وقوله وحصنوا قلعة سلا يعني بها رباط الفتح إذ هي يومئذ مضافة إلى سلا ومعدودة منها والله تعالى أعلم استيلاء السلطان زيدان على فاس وفرار الشيخ بن المنصور عنها إلى العرائش ثم إلى طاغية الإصبنيول
كان الشيخ بن المنصور عفا الله عنه على ما تقدم من قبح السيرة والإساءة إلى الخاصة والعامة حتى ملته النفوس ورفضته القلوب وضاق أهل فاس بشؤمه ذرعا وكان قد بعث ابنه عبد الله مرة ثالثة إلى حرب السلطان زيدان بمراكش وأعمالها فخرج عبد الله من فاس آخر ذي الحجة سنة ست عشرة وألف فالتقى الجمعان بوادي بوركراك فكانت الهزيمة على عبد الله وفر في رهط من أصحابه وترك محلته بما فيها بيد السلطان زيدان فاستولى عليها وانضم إليه جيش عبد الله من أهل فاس وغيرهم ميلا إليه ورغبة في صحبته فعفا عنهم وتألفهم واستفحل أمر السلطان زيدان وتكلم به أهل فاس وسائر بلاد الغرب واتصل الخبر بالشيخ وعرف أن قلوب الناس عليه فخاف الفضيحة وأصبح غاديا في أهله وحشمه إلى ناحية العرائش فاحتل
____________________

بالقصر الكبير وهناك لحق به ابنه عبد الله مهزوما من وقعة بوركراك وانضم إليهما أبو فارس بن المنصور فإنه بعد فراره من مرس الرماد إلى مسفيوة أقام بها مدة ولما استولى السلطان زيدان على مراكش كما مر شدد في طلبه ففر إلى السوس ولما أعيت عليه المذاهب وزيدان في طلبه لحق بشقيقه الشيخ فكان معه إلى هذا التاريخ
ثم إن السلطان زيدان بعث كبير جيشه مصطفى باشا إلى فاس فانتهى إليها ونزل مخيما بظهر الزاوية ووجد لأصحاب الشيخ زروعا كثيرة فأرسل مصطفى باشا عليها جيشه فانتسفوها ودخلت فاس في طاعته ثم نهض إلى ناحية القصر الكبير ناويا القبض على الشيخ وحزبه واتصل بالشيخ خبره ففر إلى العرائش ومنها ركب البحر إلى طاغية الإصبنيول مستصرخا به على السلطان زيدان وحمل معه أمه الخيزران وبعض عياله وجماعة من قواده وبطانته وذلك في ذي القعدة سنة سبع عشرة وألف
وانتهى مصطفى باشا إلى القصر الكبير فقبض على من وجد به من أصحاب الشيخ وفر عبد الله وأبو فارس فنزلا بموضع يقال له سطح بني وارتين فبلغ خبرهما إلى السلطان زيدان فجاء حتى نزل قبالتهما بموضع يقال له آرورات ففر من كان معهما إلى السلطان زيدان ولما بقيا أوحش من وتد بقاع فرا إلى دار اليهودي ابن مشعل من بلاد بني يزناسن فأقاما بها
واختصر صاحب المرآة هذا الخبر فقال كان السلطان أبو المعالي زيدان بن المنصور التقى مع ابن أخيه عبد الله بن الشيخ صاحب فاس برؤوس الشعاب يوم الخميس السابع والعشرين من شوال سنة سبع عشرة وألف فانهزم عبد الله بن الشيخ وفر إلى محلة أبيه بالعرائش ثم رجع إلى جهة فاس وانتهى إلى دار ابن مشعل واستولى عمه السلطان زيدان على محلته وسار إلى فاس فدخلها وأقام بها اه
وفي دخلة السلطان زيدان هذه إلى فاس قبض على الفقيه القاضي أبي
____________________

الحسن علي بن عمران السلاسي رحمه الله قال اليفرني في الصفوة كان القاضي المذكور ممن أخذ عن الشيخ القصار وكان مع ذلك لما ولي القصار الفتوى والخطابة بجامع القرويين يسعى عند السلطان في تأخيره حتى أخر وولي هو مكانه مدة يسيرة ثم أعيد القصار وكانت بينهما شحناء عظيمة بسبب فتوى تنازعا فيها ثم أفضت الحال بالقاضي أبي الحسن إلى أن قبض عليه السلطان زيدان بسبب أنه عثر له على كتاب كتبه إلى بعض إخوته ينتقصه فيه ويوهن أمره فأوغر ذلك قلب السلطان عليه فسطا به وسجنه ونهب داره وأثاثه ثم سقاه سما على ما قيل فكان فيه حتفه وقد حكي هذا الخبر في موضع آخر من الصفوة مطولا فقال كان القاضي أبو الحسن علي بن عمران السلاسي شديد الانحراف عن الشيخ العارف بالله أبي زيد عبد الرحمن بن محمد الفاسي سيئ الاعتقاد فيه ولم يزل يسعى به ويكيده فاتفق أن اجتمع بالشيخ في بعض الليالي بعض من يتعاطى العلم فتكلموا في مسائل من صفات الله فنقل كلام الشيخ إلى القاضي على غير وجهه فأنكر ذلك وركب من حينه إلى السلطان زيدان وهو يومئذ بفاس منتهزا للفرصة فقال إن ههنا رجلا يعلم الناس البدع ويلقنهم آراء الفرق الضالة فقال له السلطان من هو قال فلان قال أخو سيدي يوسف قال نعم قال سمعنا أنه أعلم من أخيه ثم بعث السلطان إليه وهو مستشيط غضبا لخبر بلغه من ثورة بعض أقاربه عليه فجاء الشيخ أبو زيد ولم يخلع نعله حتى بلغ بساط السلطان فسلم عليه ومد يده فصافحه ثم تكلموا في المسألة فانقطع القاضي ولم يجد ما يقول إلا أن الناقل لم يحسن نقلها فقال له الشيخ فهلا تثبت وكان بعض علماء مراكش حاضرا فبالغ في عتاب القاضي وقيل للشيخ ما سبب الوحشة بينك وبين هؤلاء فقال لا شيء إلا الاستغناء عنهم فقالوا يا سيدي هذا وصف يوجب الحب فما انفصل الشيخ عن السلطان حتى اطلع على ما يوجب القبض على القاضي فقبض عليه ونهب داره في الحين فنزل الشيخ من فاس الجديد فلقي أثاث القاضي في الطريق جيء به منهوبا وبقي في السجن إلى أن مات مسموما رحمه الله وكان
____________________

الأديب الكاتب أبو عبد الله المكلاثي قد كتب إليه بأبيات يقول فيها ما نصه
( أما لهلال غاب عنا سفور ** فيجلى به خطب دجاه تثور )
( فصبرا لدهر رام يمنحك الأسى ** فأنت عظيم والعظيم صبور )
( سيظهر ما عهدته من جمالكم ** فللبدر من بعد الكسوف ظهور )
( وتحيى رسوم للمعالي تغيرت ** فللميت من بعد الممات نشور )
( أبا حسن إني على الحب لم أزل ** مقيما عليه ما أقام ثبير )
( ففي الفم ماء من بقايا ودادكم ** وذلك عندي سائغ ونمير )
( عليكم سلام الله ما هطل الحيا ** وغنت بأغصان الرياض طيور )
قال منشئها وقد أنشدتها بين يديه بمحبسه فبكى حتى ظننت أنه سيهلك ثم أفاق وقال { لله الأمر من قبل ومن بعد } الروم 4 فراجعني رضي الله عنه بأبيات يقول فيها
( تفتق عن زهر الربيع سطور ** فما هي إلا روضة وغدير )
( هزمت من الصدر الجريح همومه ** فأنت على جند الكلام أمير )
( محمد هل في العصر غيرك شاعر ** له معكم في الخافقين ظهور )
( فإني على صفو الوداد وإنني ** سأشدوا وقلبي بالهموم كسير )
( متى وعسى يثني الزمان عنانه ** بنهضة جد والزمان عثور )
( فتدرك آمال وتقضي مآرب ** وتحدث من بعد الأمور أمور )
( عليك سلام الله مني فإنني ** غريب بأقصى المغربين أسير )
وكانت وفاة القاضي المذكور رحمه الله في جامع المشور في مهل ربيع الثاني سنة ثمان عشرة وألف==

4.  الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى
أبو العباس أحمد بن خالد بن محمد الناصري
سنة الولادة 22/ذو الحجة/ 1250هـ /1835م/ سنة الوفاة

عود عبد الله بن الشيخ إلى فاس واستيلاؤه عليها ومقتل مصطفى باشا رحمه الله
لما دخل السلطان زيدان حضرة فاس واستولى عليها أقام بها إلى أن دخلت سنة ثمان عشرة وألف فاتصل به خبر قيام بعض الثوار عليه بناحية مراكش فنهض إليها مزعجا واستخلف على فاس مولاه مصطفى باشا ولما اتصل خبر نهوضه بعبد الله بن الشيخ وهو بدار ابن مشعل زحف إلى فاس فيمن انضم إليه فبرز إليه مصطفى باشا وضرب محلته بظاهر فاس من ناحية باب الفتوح قال في المرآة وعرض لأبي الحسن علي بن يوسف الأندلسي المعروف بالبيطار غرض من أمور العامة كان يتردد فيه إلى المحلة فركب إليها يوم الاثنين السابع عشر من ربيع الثاني سنة ثمان عشرة وألف فالتقى الجمعان يومئذ بين الظهرين فأجلت الحرب عن مقتل مصطفى باشا وفقد أبو الحسن ابن البيطار وقال في النزهة لما رحل زيدان إلى مراكش بسبب ما بلغه من قيام بعض الثوار عليه هنالك قدم عبد الله بن الشيخ وعمه أبو فارس إلى فاس فخرج مصطفى باشا لمقاتلتهما فعثر به فرسه وقتل وأخذت محلته بأسرها وهلك ما لا يحصى من الناس ووقع النهب حتى انتهب من البقر التي تحلب نحو ستة آلاف ودخل عبد الله بن الشيخ فاسا مع عمه أبي فارس وذلك سابع عشر ربيع الثاني سنة ثمان عشرة وألف
____________________

تلخيص خبر أبي فارس ومقتله رحمه الله تعالى
تقدم لنا أن أبا فارس بن المنصور بويع بمراكش وبعث أخاه الشيخ لقتال السلطان زيدان فنكث الشيخ عهده واستبد عليه ثم بعث إليه ابنه عبد الله فهزمه إلى مسفيوة ثم فر منها إلى السوس فأقام عند حاجب أبيه عبد العزيز بن سعيد الوزكيتي ثم لما بالغ زيدان في طلبه فر إلى أخيه الشيخ فلم يزل مع ابنه عبد الله بن الشيخ إلى أن قتل مصطفى باشا ودخل عبد الله فاسا فاستولى عليها كما ذكرناه آنفا فاتفق رأي قواد شراكة على قتل عبد الله وتولية عمه أبي فارس فبلغ ذلك عبد الله فدخل على عمه أبي فارس ليلا مع حاجبه حمو بن عمر فوجده على سجادته وجواريه حوله فأخرجهن وأمر بعمه فخنق وهو يضرب برجليه إلى أن مات وذلك في جمادى الأولى سنة ثمان عشرة وألف هذا هو الصواب لا ما في نشر المثاني على اضطرابه فأسف الناس عليه لأنه كان يرده عن المناكر ويزجره عن كثير من القبائح وذكر في المنتقى أبياتا من إنشاء الكاتب أبي محمد عبد القادر بن أحمد بن القاسم الفشتالي مما كتب تطريزا على نجاد الواثق بالله أبي فارس المذكور وهي
( أتيه وأزرى بكل نجاد ** يروق على حلة اللابس )
( إذا كنت يوم الوغى محملا ** لعضب حكى شعلة القابس )
( على عاتق الملك المرتضى ** سليل الوصي أبي فارس )
____________________

عودة السلطان زيدان إلى فاس واستيلاؤه عليها ثم إعراضه عنها سائر أيامه
لما سمع السلطان زيدان وهو بمراكش بمقتل مصطفى باشا نهض إلى فاس وجاء على طريق الجبل وكان نصارى الإصبنيول يومئذ قد نزلوا على العرائش وحاولوا الاستيلاء عليها وذلك بإذن الشيخ كما سيأتي وكان عبد الله بن الشيخ بفاس فسمع بنزول النصارى على العرائش فاستنفر الناس وحضهم على الجهاد فتهيؤوا لذلك وعزموا على النهوض إليها فما راعهم إلا السلطان زيدان قد أقبل من ناحية أدخسان وقد أنزل به محتله وتقدم إلى جهة فاس وضرب بأنفاضه فأنهزم الناس عن عبد الله ودخل شراكة فاسا فبعث زيدان قائده عبد الصمد لتسكين روعة أهل البلد وأمر المنادي أن ينادي بنصره فنزل المنادي إلى أن بلغ باب السلسلة فقام في وجهه بعض السياب من أهل العدوة وضربه فجرحه ورجع المنادي وبطل الأمر فبلغ الخبر السلطان زيدان فأمر بإطلاق السبيل في أهل فاس وتحكيم السيف فيهم ثم ندم فأمنهم وسكن روعتهم ونزل زيدان بوادي فاس فخرج الناس للقائه وهو غضبان عليهم وقد استولى على فاس وتمكن منها فأخذ يسب أعيانهم وهم بقتلهم ولكن الله سلم
ثم إن العرب اجتمعوا عند قنطرة المهدومة في نحو ثمانية آلاف فخرج إليهم زيدان ومعه عرب الشرق فانهزموا عنه ولم يبق معه إلا رهط يسير فرأى زيدان أمامه خيلا قليلة فقصدها فإذا فيها عبد الله بن الشيخ وقد رأى زيدان مقبلا إليه ففر مع أن زيدان إنما قصد الفرار إليه من غير علم له به فاستتب أمر زيدان وتراجع إليه أصحابه ومن الغد رجع إلى فاس فخرج إليه أهل فاس يهنئونه كبارا وصغارا فاتهمهم بأنهم يستهزئون به فأمر بهم فسلبوا رجالا ونساء فكان بعضهم ينظر إلى عورة بعض وكان عدد السلب نحو عشرة
____________________

آلاف كسوة ودخل أصحاب زيدان فاسا فنهبوها وفعلوا فيها الأفاعيل ثم أمر زيدان بتسكين الروعة والأمان وكان ذلك كله سادس رجب سنة تسع عشرة وألف فلما كان اليوم الحادي عشر من الشهر المذكور نزل عبد الله بن الشيخ برأس الماء فخرج إليه زيدان واقتتلوا فانهزم زيدان وقتل من أصحابه نحو الخمسمائة وفر إلى محلته التي ترك بأدخسان وكان ذلك آخر رجوع زيدان إلى فاس فإنه لما أعياه أمر الغرب أعرض عنه وصرف عنايته إلى ضبط ما خلف وادي أم الربيع إلى مراكش وأعمالها وتوارث بنوه سلطنته على ذلك النحو من بعده وبقي عبد الله بن الشيخ يقطع الأيام بفاس إلى أن هلك وقام بأمر فاس من بعده ثوارها وسيابها على ما نذكر وفي كتاب ابتهاج القلوب في أخبار الشيخ المجذوب ما صورته تكلم الشيخ سيدي كدار يوما في ملوك وقته فقال أما الشيخ معطي العرائش فإن أهل الله قد دقوا أوتاده هنالك حتى يموت فلم يتجاوز محله إلى أن قتل به حوز تطاوين كما سيأتي وأما زيدان فإنه لما أطلق السبيل في أهل فاس ضربه مولاي إدريس بركلة صيرته وراء أم الربيع فلم يتجاوزه بعد ذلك اه
____________________

استيلاء نصارى الإصبنيول على العرائش والسبب في ذلك
قد تقدم لنا ما كان من خبر الشيخ المأمون من أنه فر إلى العرائش ومنها ركب البحر إلى طاغية الإصبنيول مستصرخا به على أخيه السلطان زيدان فأبى الطاغية أن يمده فراوده الشيخ على أن يترك عنده أولاده وحشمه رهنا ويعينه بالمال والرجال حتى إذا ملك أمره بذل له ما شارطه عليه ولم يزل به إلى أن شرط عليه الطاغية أن يخلي له العرائش من المسلمين ويملكه إياها فقبل الشيخ ذلك والتزمه وخرج حتى نزل حجر باديس في ذي الحجة سنة ثمان عشرة وألف ثم تقدم فنزل ببلاد الريف
ولما سمع ذلك أهل فاس خافوا من شوكته وذهب جمع من علمائهم وأعيانهم كالقاضي أبي القاسم بن أبي النعيم والشريف أبي إسحاق إبراهيم الصقلي الحسيني وغيرهما لملاقاته وتهنئته بالقدوم فلما وصلوا إليه فرح بهم وأمر قبطان النصارى أن يخرج مدافعه وأنفاضه إرهابا وإظهارا لقوة النصارى الذين استنصر بهم ففعل حتى اصطكت الآذان وارتجت الجبال ونزل القبطان من السفينة للسلام على الأعيان فلما رأوه مقبلا أمرهم الشيخ بالقيام له فقاموا إليه أجمعون وجازوه خيرا على ما فعل مع الشيخ من الإحسان والنصرة وسلم هو عليهم بنزع قلنسوته على عادة النصارى وأنكر الناس على أولئك الأعيان قيامهم للكافر وضربوا بعصى الذل حتى أنهم في رجوعهم إلى فاس تعرض لهم عرب الحياينة فسلبوهم وأخذوا ما معهم وجردوهم من ملابسهم جميعا ما عدا القاضي ابن أبي النعيم فإنه عرف بزي القضاء فاحترموه
ثم إن الشيخ انتقل إلى القصر الكبير وهو قصر كتامة وقصر عبد الكريم فأقام به مدة وراود قواده ورؤساء جيشه أن يقفوا معه في تمكين النصارى من العرائش ليفي له الطاغية بما وعده من النصرة فامتنع الناس من إسعافه في
____________________

ذلك ولم يوافقه على غرضه إلا قائده الكرني فإنه ساعده على ذلك فبعثه الشيخ إليها وأمره أن يخليها ولا يدع بها أحدا من المسلمين فذهب الكرني المذكور وكلم أهلها في ذلك فامتنعوا من الجلاء عنها فقتل منهم جماعة وخرج الباقون وهم يبكون تخفق على رؤوسهم ألوية الصغار
ولما خرج منها المسلمون أقام بها القائد الكرني إلى أن دخلها النصارى واستولوا عليها في رابع رمضان سنة تسع عشرة وألف ووقع في قلوب المسلمين من الامتعاض لأخذ العرائش أمر عظيم وأنكروا ذلك أشد الإنكار وقام الشريف أبو العباس أحمد بن إدريس العمراني ودار على مجالس العلم بفاس ونادى بالجهاد والخروج لإغاثة المسلمين بالعرائش فانضاف إليه أقوام وعزموا على التوجه لذلك ففت في عضدهم قائدهم حمو المعروف بأبي دبيرة وصرف وجوهم عما قصدوه في حكاية طويلة
وكان الشيخ لما خاف الفضيحة وأنكار الخاصة والعامة عليه إعطاءه بلدا من بلاد الإسلام للكفار احتال في ذلك وكتب سؤالا إلى علماء فاس وغيرها يذكر لهم فيه أنه لما وغل في بلاد العدو الكافر واقتحمها كرها بأولاده وحشمه منعه النصارى من الخروج من بلادهم حتى يعطيهم ثغر العرائش وأنهم ما تركوه خرج بنفسه حتى ترك لهم أولاده رهنا على ذلك فهل يجوز له أن يفدي أولاده من أيدي الكفار بهذا الثغر أم لا فأجابوه بأن فداء المسلمين سيما أولاد أمير المؤمنين سيما أولاد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم
____________________

من يد العدو الكافر بإعطاء بلد من بلاد الإسلام له جائز وإنا موافقون على ذلك ووقع هذا الاستفتاء بعد أن وقع ما وقع وما أجاب من أجاب من العلماء عن ذلك إلا خوفا على نفسه وقد فر جماعة من تلك الفتوى كالإمام أبي عبد الله محمد الجنان صاحب الطرر على المختصر وكالإمام أبي العباس أحمد المقري مؤلف نفح الطيب فاختفيا مدة استبراء لدينهما حتى صدرت الفتوى من غيرهما وبسبب هذه الفتوى أيضا فر جماعة من علماء فاس إلى البادية كالشيخ أبي علي الحسن الزياتي شارح جمل ابن المجراد والحافظ أبي العباس أحمد بن يوسف الفاسي وغيرهما بقية أخبار الشيخ ومقتله رحمه الله وتجاوز عنه
ثم إن الشيخ ابن المنصور نزل بالفحص واجتمعت عليه لمة من أهل الذعارة والفساد على شاكلته فنهض بهم إلى تطاوين فاستولى عليها وأخرج منها كبيرها المقدم المجاهد أبا العباس أحمد النقسيس ولم يزل الشيخ يجول في بلاد الفحص ويعسف أهلها إلى أن ملته القلوب وتمالأ أشياخ الفحص على قتله لما رأوا من انحلال عقيدته ورقة ديانته وتمليكه ثغر الإسلام للكفار ففتك به المقدم أبو الليف في وسط محلته بموضع يعرف بفج الفرس وبقي صريعا مكشوف العورة أياما حتى خرج جماعة من أهل تطاوين فحملوه مع من قتل معه من أصحابه كالدبيريين وبعض أولاده ودفنوهم خارج تطاوين إلى حمل الشيخ إلى فاس الجديد مع أمه الخيزران فدفنا به وكان مقتله خامس رجب سنة اثنتين وعشرين وألف
____________________


وقال منويل إنه وصل إلى قرب تطاوين وبنى هنالك أفراكا وأقام ينتظر اجتماع الجيوش عليه ثم سكر ذات يوم على عادته وخرج إلى عين ماء هنالك فاستلقى قربها في نبات أخضر أعجبته خضرته فجاءه أناس من أهل تلك البلدة فعرفوه وشدخوا رأسه بصخرة فقتلوه ويقال إن قتله كان بإشارة الثائر أبي محلي الآتي ذكره وإنه كتب إلى المقدمين النقسيس وأبي الليف يحضهما على قتله فقتلوه وانتهبوا ماله وكان شيئا كثيرا ومن جملة ما نهب منه نحو المد من الياقوت وبقي من أثاثه نحو وسق سفينة كان قد تركه بطنجة فاستولى عليه نصاراها من البرتغال لما قتل وكان للشيخ عفا الله عنه مشاركة في العلم ويد في مبادئ الطب أخذ عن أشياخ الحضرتين وله شعر متقارب ومن كتابه الأديب المتفنن أبو العباس أحمد بن محمد الغرديس التغلبي وكان من أهل الإجادة والتبريز في صناعة الإنشاء قال الشيخ أبو محمد العربي الفاسي في شرحه لدلائل الخيرات عند قوله وكان لي جار نساخ ما نصه وقد كان الشيخ الكاتب الرئيس أبو العباس أحمد الغرديس شيخ كتاب الإنشاء بحضرة فاس رحمه الله استعار مني كتاب الأنباء في شرح الأسماء للإقليشي ثم مرض مرض موته فعدته فوجدت الكتاب عند رأسه ومعه كراريس منسوخة وأخرى معدة للنسخ فقال لي إني إذا وجدت راحة كتبت منه ما قدرت عليه فإذا غلبني ما بي أمسكت فقال له ولم تتكلف هذا فقال إني عصيت الله بهذه الأصابع ما لا أحصيه فرجوت أن يكون ما أعانيه على هذه الحال من نسخ هذا الكتاب خاتمة عملي وكفارة لذلك فكمل الله قصده وأتم الكتاب وتوفي من مرضه ذلك وقد طال به سنة عشرين والف اه ولهذا الكاتب يقول الشاعر
( تمتعت يا غرديس والدهر راقد ** وأنت بفاس وابن حيون واجد )
( بسعدك راحت خيزران لقبرها ** مصائب قوم عند قوم فوائد )
____________________

رياسة ولي الله تعالى أبي عبد الله سيدي محمد العياشي على الجهاد ومبدأ أمره في ذلك
هذا الرجل هو ولي الله تعالى المجاهد في سبيله أبو عبد الله محمد فتحا ابن أحمد المالكي الزياني المعروف بالعياشي ونسبته إلى بني مالك ابن زغبة الهلاليين وهم اليوم قبيلة من عرب الغرب كان رحمه الله مستوطنا مدينة سلا وكان من تلامذة الولي العارف بالله تعالى أبي محمد عبد الله بن حسون السلاسي دفين سلا
وكان ابتداء أمر أبي عبد الله أنه كان ملازما لشيخه المذكور من أقرب التلامذة إليه وأسرعهم إلى خدمته وأولهم دخولا عليه وآخرهم خروجا عنه وكان مع ذلك كثير الورع قليل الكلام مديما للصيام وقراءة القرآن فكان الشيخ ابن حسون ملتفتا إليه ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن شاعت مناقب الشيخ وكثر غاشيه فأهدى له يوما بعض أشياخ القبائل فرسا فأمر الشيخ بإسراجه وقال أين محمد العياشي فقال ها أنا ذا يا سيدي فقال الشيخ اركب بحول الله فرسك ودنياك وآخرتك فتفهقر تأدبا فحلف عليه ليركبن وحبس له الركاب بيده وقال له ارتحل عني إلى آزمور وانزل على أولاد أبي عزيز ولا بد لك من الرجوع إلى هذه البلاد وسيكون لك شأن عظيم فودعه أبو عبد الله ووضع الشيخ يده على رأسه وبكى ودعا له بخير فقصد ناحية آزمور ونزل حيث عين له شيخه المذكور وذلك لأول دولة السلطان زيدان سنة ثلاث عشرة وألف فلم يزل أبو عبد الله العياشي مثابرا على الجهاد شديد الشكيمة على العدو عارفا بوجوه المكايد الحربية بطلا شهما مقداما في مواطن الإحجام وقورا صموتا عن الكلام فطار بذلك في البلاد صيته وشاع بين الناس ذكره لما هو عليه من
____________________

التضييق على نصارى الجديدة وكانوا يومئذ قد أمر أمرهم ففرح بذلك قائد آزمور ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن توفي قائد الفحص والبلاد الآزمورية فسأل السلطان زيدان عمن يليق بتولية ذلك الثغر فقيل له سيدي محمد العياشي فكتب إليه بالتولية فقبل ونهض بأعباء ما حمل من ولاية الفحص وجهاده
وكانت له مع نصارى الجديدة وقائع وضيق عليهم حتى منعهم من الحرث والرعي فبعث النصارى إلى حاشية السلطان زيدان بالتحف ونفائس الهدايا ليعزلوا عنهم أبا عبد الله المذكور لمضايقته لهم فخوفوا السلطان زيدان عاقبته وحضوه على عزله وأظهروا له أنه مسموع الكلمة في تلك النواحي وأنه يخشى على الدولة منه وكان أبو عبد الله العياشي كلما بعث بالغنائم وما يفتح الله به عليه من الأسارى إلى مراكش ازدادت شهرته وتناقل الناس حديثه فوغر بذلك قلب زيدان وحنق عليه فبعث إليه قائده محمد السنوسي في أربعمائة فارس وأمره بالقبض عليه وقتله وألقى الله في قلب القائد المذكور الشفقة عليه لما يعلم من براءته مما قذف به فبعث إليه خفية أن أنج بنفسك فإنك مغدور فخرج أبو عبد الله العياشي في أربعين رجلا فرسانا ومشاة قاصدين سلا فاستقر بها سنة ثلاث وعشرين وألف ولما انتهى السنوسي إلى آزمور ولم يجد له أثرا أظهر العناية بالبحث عنه وعاقب شرذمة من أهل الفحص على إفلاته تعمية على السلطان وإقامة لعذره عنده فقبل السلطان زيدان ذلك والله غالب على أمره
____________________

ثورة الفقيه أبي العباس أحمد بن عبد الله السجلماسي المعروف بأبي محلي
قال في كتابه أصليت الخريت ما ملخصه كانت ولادتي سنة سبع وستين وتسعمائة بسجلماسة والذي تلقيته من أبي وكافة عمومتي أن أولاد أبي محلي من ذرية العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وأما جدنا الأشهر المكنى بأبي محلي فتح الميم والحاء وكسر اللام المشددة بعدها ياء تحتية ساكنة مع كبير شهرته لا علم لي الآن بسبب تكنيته بذلك ولا بتفاصيل أحواله بعد البحث عنه قال وبخطة القضاء اشتهر نسبنا فنعرف بأولاد القاضي وزاويتنا بزاوية القاضي ولم تزل بقية العلم في دورنا وخصوصا دار أبي اه
وقال صاحب البستان أبو محلي هذا اسمه أحمد بن عبد الله وينتسب إلى بني العباس ويعرفون في سجلماسة بأولاد ابن اليسع أهل زاوية القاضي انتهى قلت أما الانتساب إلى العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقد أنكر ابن خلدون وجود النسبة العباسية في المغرب قال في فصل اختلاط الأنساب وما بعده ما نصه ولم يعلم دخول أحد من العباسيين إلى المغرب لأنه كان منذ أول دولتهم على دعوة العلويين أعدائهم من الأدارسة والعبيديين فكيف يسقط العباسي إلى أحد من شيعة العلويين اه ثم قال أبو محلي في الكتاب المذكور فلما نشأت في حجر والدي بذل مجهوده في تعليمي وقد كانت أمي رأت وهي حامل بي وليا من أولياء الله تعالى أحد شيوخ التربية ببلدنا وهو الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله السجلماسي قد سقاها قدحا من لبن وأرجو الله صدق تأويلها بالعلم والدين وحق اليقين قال وكان خروجي لطلب العلم بفاس في حدود
____________________

الثمانين وتسعمائة وأنا يومئذ مراهق أو بالغ الحلم لا همة لي إلا في العلم فأقمت بفاس نحو خمس سنين إلى أن جاء النصارى إلى وادي المخازن فدهش الناس واستشرت أخا من الطلبة فدلني على الخروج إلى البادية حتى ينجلي نهار الأمن فخرجت إلى كريكرة فحفظت فيها الرسالة وقد كنت ما حصلت بفاس إلى النحو ثم رجعت إلى فاس بعد أن زال الدهش بهزيمة النصارى وولاية المنصور والنحو صنعتي وفي الفقه رغبتي
وقد كنت في الخرجة الأولى إلى البادية زرت قبر الشيخ أبي يعزى رضي الله عنه فطلبت الله عنده أن أكون من الراسخين في العلوم بأسرها وتوبة يتقبلها فما دار علي الحول إلا وأنا بزاوية الشيخ أبي عبد الله سيدي محمد بن مبارك الزعري لا عن قصد لكوني إذ ذاك مولعا بالعلم أما طريق الفقر فلا تخطر لي ببال لأن المعتمد يومئذ في فقراء الوقت أخلاق الضلال فكنت أشد الناس حذرا منهم إلى أن انكشف الستر فرأيت ما رأيت ووعيت فصاحبت شيخي الذي لولاه مع فضل الله لهلكت ولولا هدايته بإذن الله لضللت أعني أبا عبد الله مولاي محمد بن مبارك الزعري القبيل الجراري السبيل وهو رضي الله عنه من قبيلة عرب بالمغرب يقال لهم زعير بصيغة التصغير والنسب إليها زعرى على التكبير وهي قبيلة من عرب السوس بالمغرب الأقصى قال فبقيت في صحبة شيخي المذكور نحوا من ثمان عشرة سنة وما فارقته إلا عن أمره إذ هو الذي وجهني إلى بلدي سجلماسة من غير اختيار قائلا لي صلاحهم فيك ثم ناولني عصاه وبرنسه ونعله من غير طلب مني لشيء من ذلك وجعل في رأسي قلنسوة كالخرقة بيده اليمنى عند الوداع فلما استوطنت بلدي عن إذنه زرته منه إحدى عشرة مرة وفي الأخيرة منها وذلك بعد مقفلي من الحجة الأولى التي كانت سنة اثنتين بعد الألف دعا لي بقوله بلاك الله أكثر مما بلاني فتأولتها بإقبال الخلق كما ترى وقد صاح عندها صيحة عظيمة لم أر مثلها منه منذ
____________________

صحبته إذ عادته كانت الطمأنينة ولما توفي رحمه الله بقيت نحوا من ثلاث سنين عاطلا ثم تحلى النحر بدرر لطائفه الموعود بها فله الحمد على ما أسدى وله الشكر فيما أولى ثم ذكر بقية أشياخه كالشيخ أبي العباس المنجور والشيخ أبي العباس السوداني والشيخ سالم السنهوري وغيرهم ممن يطول ذكرهم قال ثم كملت الفائدة بعد المقفل من الحج فرجعت إلى الديار المغربية ونزلت بوادي الساورة ثم تحولت بجميع عيالي إلى الوادي المذكور هذا ملخص أوليته منقولا من كتابه المذكور
وقال الشيخ أبو العباس أحمد التواتي رحمه الله تعالى في رسالته التي سماها مقامة التحلي والتخلي من صحبة الشيخ أبي محلي وهي رسالة طويلة مسجعة قال كان الفقيه أبو محلي في أول أمره فقيها صرفا ثم انتحل طريقة التصوف مدة حتى وقع على بعض الأحوال الربانية ولاحت له مخايل الولاية فانحشر الناس لزيارته أفواجا وقصدوه فرادى وأزواجا وبعد صيته وكثرت أتباعه قال فلما سمعت بذلك ذهبت إليه وجلست عنده إلى أن وجدته يشير إلى نفسه بأنه المهدي المعلوم المبشر به في صحيح الأحاديث فتركته وراء ونبذته بالعراء اه
وقال الشيخ اليوسي في محاضراته وقد تكلم على الدعوى الفاطمية ما نصه وممن ابتلي بها قريبا أحمد بن عبد الله بن أبي محلي التستاوتي خاض في الطريق حتى حصل له نصيب من الذوق وألف فيها كتابا يدل على ذلك ثم نزغت به هذه النزغة فحدثونا أنه كان في أول أمره معاشرا لمحمد بن أبي بكر الدلائي وكان البلد إذ ذاك قد كثرت فيه المناكر وشاعت فقال ابن أبي محلي لابن أبي بكر ذات ليلة هل لك في أن نخرج غدا إلى الناس فنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر فلم يساعفه لما رأى من تعذر ذلك لفساد الوقت وتفاقم الشر فلما أصبحا خرجا فأما ابن أبي بكر فانطلق إلى ناحية النهر فغسل ثيابه وازال شعثه بالحلق وأقام صلاته وأوراده في أوقاتها
____________________

وأما ابن أبي محلي فتقدم لما هم به من الحسبة فوقع في شر وخصام أداه إلى فوات الصلاة عن الوقت ولم يحصل على طائل فلما اجتمعا بالليل قال له ابن أبي بكر أما أنا فقد قضيت مآربي وحفظت ديني وانقلبت في سلامة وصفاء ومن أتى منكرا فالله حسيبه أو نحو هذا من الكلام وأما أنت فانظر ما الذي وقعت فيه ثم لم ينته إلى أن ذهب إلى بلاد القبلة ودعا لنفسه وادعى أنه المهدي المنتظر وأنه بصدد الجهاد فاستخف قلوب العوام واتبعوه اه
وصار ابن أبي محلي يكاتب رؤساء القبائل وعظماء البلدان يأمرهم بالمعروف ويحضهم على الاستمساك بالسنة ويشيع أنه الفاطمي المنتظر وأن من تبعه فهو الفائز ومن تخلف عنه فموبق وربما كان يقول لأصحابه محرضا لهم على نصرته أنتم أفضل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لأنكم قمتم بنصر الحق في زمن الباطل وهم قاموا به في زمن الحق ونحو هذا من زخارف كلامه وإلى ذلك أشار الفقيه أبو زكرياء يحيى بن عبد المنعم الحاحي في بعض قصائده معرضا بأبي محلي المذكور فقال
( يا أمة المصطفى الهادي أليس لكم ** فيمن مضى أسوة من سائر العلما )
( نسيتم دين خير الخلق وافترقت ** آراؤكم فغدا الإسلام منقسما )
( أتحسبون بأن الله تارككم ** سدى وخلقكم قد تعلمون لما )
( ناشدتكم بالذي في العرض يجمعنا ** أما فطنتم ومالاه كمن فهما )
( بأن مغربكم قد عمه سخط ** من المهيمن يا لله معتصما )
( إن قيل للناس إن الهرج يوبقكم ** قالوا الفقيه فلان قبلنا اعتزما )
( لو لم يكن جاز ما أفتى الإمام به ** ولا أتاه ألا تبنوا الذي انهدما )
( ومن يقل قال خير الخلق قيل له ** ها صاحب الوقت يكفينا الذي علما )
( ونحن أفضل من صحب الرسول لنا ** أجر يضاعف في أجفارنا نظما )
( وزخرفوا ترهات القول فانفعلت ** لهم نفوس عوام رشدها عدما )
____________________

نهوض ابن أبي محلي إلى سجلماسة ودرعة واستيلاؤه عليها ثم على مراكش بعدهما
كان أبو العباس بن أبي محلي عفا الله عنه لما كثرت جموعه وانثال الناس عليه يصرح بوجوب القيام بتغيير المنكر الذي شاع في الناس ويقول إن أولاد المنصور قد تهالكوا في طلب الملك حتى فنى الناس فيما بينهم وانتهبت الأموال وانتهكت المحارم فيجب الضرب على أيديهم وكسر شوكتهم ولما بلغه ما فعل الشيخ من إجلاء المسلمين عن العرائش وبيعها للعدو الكافر استشاط غضبا وأظهر انه غضب لله لا لشيء سواه فخرج يؤم سجلماسة وكان خليفة زيدان عليها يومئذ يسمى الحاج المير فخرج عامل زيدان لمصادمته وهو في نحو أربعة آلاف وابن أبي محلي في نحو أربعمائة فلما التقى الجمعان كانت الدبرة على جيش زيدان وأشاع الناس أن الرصاص يقع على أصحاب أبي محلي باردا لا يضرهم ونفخ الشيطان في هذه الفرية فسكنت هيبته في القلوب وتمكن ناموسه منه ولما دخل سجلماسة أظهر العدل وغير المناكر فأحبته العامة وقدمت عليه وفود أهل تلمسان والراشدية يهنئونه وفيهم الفقيه العلامة أبو عثمان سعيد الجزائري المعروف بقدورة شارح السلم وهو من تلامذة ابن أبي محلي كما ذكره في الأصليت ولما بلغ خبر الهزيمة إلى زيدان وانتهى إليه فلها جهز إليه من مراكش جيشا وأمر عليه أخاه عبد الله بن المنصور المعروف بالزبدة فسمع به أبو محلي فسار إليه فكان اللقاء بينهما بدرعة فوقعت الهزيمة على عبد الله بن المنصور ومات من أصحابه نحو الثلاثة آلاف فقوي أمر ابن أبي محلي واشتدت شوكته وجمع بين سجلماسة ودرعة وكان القائد يونس الأيسي قد هرب من زيدان لأمر نقمه عليه وقصد إلى أبي محلي فجاء معه يقوده ويطلعه على عورات زيدان ويهون عليه أمره وما زال به إلى أن أتى به
____________________

إلى مراكش فبعث إليه زيدان جيشا كثيفا فهزمه أبو محلي وتقدم فدخل مراكش واستولى عليها وفر زيدان إلى ثغر آسفي وهم بركوب البحر إلى بر العدوة هكذا في النزهة
وذكر الوزير البرتغالي في كتابه الموضوع في أخبار الجديدة إن نصارى الجديدة بعثوا إلى السلطان زيدان بمائتين من مقاتلتهم إعانة له على عدوه من غير أن يطلب منهم ذلك فلما وصلوا إليه أنف من الاستعانة بهم على المسلمين لكنه أحسن إليهم وأطلق لهم بعض أسراهم وردهم مكرمين هذا كلامه والحق ما شهدت به الأعداء وذلك هو الظن بزيدان رحمه الله
ولما دخل أبو محلي قصر الخلافة بمراكش فعل فيه ما شاء وولد له هنالك مولود سماه زيدان ويقال إنه تزوج أم زيدان وبنى بها ودبت في رأسه نشوة الملك ونسي ما بنى عليه أمره من الحسبة والنسك
وفي المحاضرات للشيخ اليوسي رحمه الله ما صورته وزعموا أن إخوانه من الفقراء ذهبوا إليه حين استولى على مراكش برسم زيارته وتهنئته فلما كانوا بين يديه أخذوا يهنئونه ويفرحون له بما حاز من الملك وفيهم رجل ساكت لا يتكلم فقال له ما شأنك لا تتكلم وألح عليه في الكلام فقال الرجل أنت اليوم سلطان فإن أمنتني على أن أقول الحق قلته قال له أنت آمن فقل فقال إن الكرة التي يلعب بها الصبيان يتبعها المائتان وأكثر من خلفها وينكسر الناس وينجرحون وقد يموتون ويكثر الصياح والهول فإذا فتشت لم يوجد فيها إلا شراويط أي خرق باليه ملفوفة فلما سمع ابن أبي محلي هذا المثل وفهمه بكى وقال رمنا أن نجبر الدين فأتلفناه انتهى
____________________

استصراخ السلطان زيدان بأبي زكرياء يحيى بن عبد المنعم الحاحي ومقتل أبي محلي رحمه الله
لما التف الرعاع من العامة على أبي محلي وكثرت جموعه وعلم زيدان ضعفه عن مقاومته كتب إلى الفقيه أبي زكرياء يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد المنعم الحاحي ثم الداودي مستغيثا به ثم وفد عليه بنفسه وكان يحيى بزاوية أبيه من جبل درن وله شهرة عظيمة بالصقع السوسي وله أتباع فأتاه السلطان زيدان وقال له إن بيعتي في أعناقكم وأنا بين أظهركم فيجب عليكم الذب عني ومقاتلة من ناوأني فلبي أبو زكرياء دعوته وحشر الجيوش من كل جهة وخرج يؤم مراكش في ثامن رمضان سنة اثنتين وعشرين وألف
ولما انتهى إلى فم تانوت موضع على مرحلتين من مراكش كتب إليه أبو محلي بما نصه بسم الله الرحمن الرحيم من أحمد بن عبد الله إلى يحيى بن عبد الله أما بعد فقد بلغني أنك جندت وبندت وفي فم تانوت نزلت اهبط إلى الوطاء ينكشف بيننا الغطاء فالذئب ختال والأسد صوال والأيام لا تستقيم إلا بطعن القنا وضرب الحسام والسلام فأجابه يحيي بما نصه من يحيى بن عبد الله إلى أحمد بن عبد الله أما بعد فليست الأيام لي ولا لك إنما هي للملك العلام وقد أتيتك بأهل البنادق الأحرار من الشبانة ومن انتمى إليهم من بني جرار ومن أهل الشرور والبؤس من هشتوكة إلى بني كنسوس فالموعد بيني وبينك جيليز هنالك ينتقم الله من الظالم ويعز العزيز
ثم زحف يحيى إلى مراكش في جموعه فنزل بقرب جيليز جبل مطل على مراكش وبرز إليه أبو محلي والتحم القتال بينهما فكانت أول رصاصة في نحر أبي محلي فهلك مكانه وانذعرت جموعه ونهبت محلته واحتز
____________________

رأسه وعلق على سور مراكس فبقي معلقا هنالك مع رؤوس جماعة من أصحابه نحوا من اثنتي عشرة سنة وحملت جثته فدفنت بروضة الشيخ أبي العباس السبتي تحت المكتب المعلق هنالك عند المسجد الجامع وزعم أصحابه أنه لم يمت ولكنه تغيب
قال اليفرني وحدثني من أثق به من أهل وادي الساورة أن فيهم إلى الآن من هو على هذا الاعتقاد
وذكر الشيخ اليوسي في المحاضرات أن أبا محلي كان ذات يوم عند أستاذه ابن مبارك فورد عليه وارد حال فتحرك وجعل يقول أنا سلطان أنا سلطان فقال له الأستاذ يا أحمد هب أنك تكون سلطانا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ووقع في يوم آخر للفقراء سماع فتحرك أبو محلي وجعل يقول أنا سلطان أنا سلطان فتحرك فقيرا آخر وجعل يقول ثلاث سنين غير ربع ثلاث سنين غير ربع قال وهذه هي مدة ملكه اه
ويذكر انه لما طاف بالبيت في وجهته الحجازية سمع وهو يقول يا رب إنك قلت وقولك الحق { وتلك الأيام نداولها بين الناس } آل عمران 140 فاجعل لي يا رب دولة بينهم قالوا ولم يسأل حسن العاقبة فرزق الدولة وآل به الأمر إلى ما أبرمته يد القدرة وكان أبو محلي رحمه الله فقيها محصلا له قلم بليغ ونفس عال وله تآليف منها الوضاح والقسطاس والأصليت والهودج ومنجنيق الصخور في الرد على أهل الفجور وجواب الخروبي عن رسالته الشهيرة لأبي عمرو القسطلي وغير ذلك وقد وقعت بينه وبين يحيى بن عبد الله مراسلات ومهاجيات نظما ونثرا كقوله
( أيحيى الخسيس النذل مالك تدعي ** بزور شعارا للفحول الأوائل )
( كدعواك في بيت النبوة نسبة ** وأنت دنيء من أخس القبائل )
( ووجهك وجه القرد قبح صورة ** ورأسك رأس الديك بين المزابل )
____________________

ويزعمون أن يحيى كان معاشرا لأبي محلي أيام الطلب بالمدرسة بفاس قال اليفرني وحدثني صاحبنا القاضي أبو زيد السكتاني أنه وقف على تأليف كبير مشتمل على ما وقع بين يحيى وأبي محلي من الشعر في غرض الهجاء وغيره
وقد رمز تاريخ ثورة أبي محلي ووفاته الشيخ الفقيه أبو العباس أحمد المريدي المراكشي فقال قام طيشا ومات كبشا ولا يخفى ما فيه بعد إفادة التاريخ من حسن التلميح وبديع التورية ولما قتل ابن أبي محلي دخل يحيى مراكش واستقر بدار الخلافة منها وألقى بها عصا تسياره ورام أن يتخذها دار قراره فكتب إليه السلطان زيدان يقول أما بعد فإنا كنت إنما جئت لنصرتي وكف يد ذلك الثائر عني فقد أبلغت المراد وشفيت الفؤاد وإن كنت إنما رمت أن تجر النار لقرصك وتجعل الملك من قنصك فأقر الله عينك به والسلام فتجهز يحيى للعود إلى وطنه وأظهر العفة عن الملك وأنه إنما جاء ليدافع عن السلطان الذي بيعته في عنقه وانقلب إلى بلاده ورجع زيدان إلى مراكش فاستقر بدار ملكه وقد قيل إن يحيى رام الملك وأن أجناده من البربر لم يساعدوه في قصة طويلة والله أعلم
____________________

بقية أخبار أبي زكرياء يحيى بن عبد المنعم الحاحي وما دار بينه وبين السلطان زيدان رحمه الله
هو يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد المنعم الحاحي الداودي المناني وكان جده سعيد واحد وقته علما ودينا وهو الذي أحيا الله به السنة بالسوس وانتعش به الإسلام فيه وتوفي سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة فخلفه ولده أبو محمد عبد الله وجرى على نهجه وسبيله بل كان بعض الناس يفضله على أبيه وتوفي سنة اثنتي عشرة وألف ودفن بزداغة من جبل درن حيث كانت زاويته ولما مات جلس ولده أبو زكرياء يحيى موضعه وانتهج سبيله وكان فقيها مشاركا رحل إلى فاس وأخذ عن شيوخها كالمنجور وغيره وعن الشيخ العارف بالله أبي العباس أحمد الحسني على ما وجد بخطه السوساني الشهير بأدفال دفين درعة وهو معتمده أخذ عنه كثيرا من الفنون وأجازه في علوم الحديث إجازة عامة وكان يحيى شاعرا محسنا وكانت له شهرة عظيمة بالصلاح وله أتباع كوالده وجده وتوجهت إلى زيارته الهمم وركبت إليه النجائب إلا أنه وقع له قريب مما وقع لأبي محلي فتصدى للملك وخاض في أمور السلطنة فتكدر مشربه وقد قال بعض العلماء إن الرياسة إذا دخلت قلب رجل لا تقصر عن إذهاب رأسه ولذلك قال صاحب الفوائد في حقه إنه قام لجمع
____________________

الكلمة والنظر في مصالح الأمة فاستمر به علاج ذلك إلى أن توفي ولم يتم له أمر وكان يراسل السلطان زيدان ويكثر عليه ويجير عليه من استجار به ويروم إلى مناصحته ابتغاء ويحسو من ذلك حسوا في ارتغاء وكان زيدان يتحمل منه أمرا عظيما فمما كتب به يحيى إليه ما نصه من يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد المنعم كان الله له بجميل لطفه آمين اللهم إنا نحمدك على كل حال ونشكرك يا ولي المؤمنين على دفع اللاواء والمحال و صلى الله عليه وسلم ونستوهبك يا مولانا جميل لطفك وجزيل فضلك في المقام والترحال عائذين بوجهك الكريم من مؤاخذتنا بسوء أعمالنا يا شديد المحال هذا وسلام الله الأتم ورضوانه الأعم ورحمته وبركاته على المولى الإمام العلم المقدام العلوي الهمام كيف أنتم وكيف أحوالكم مع هذا الزمان الذي شمر عن ساقه لسلب الأديان وألح في اقتضاء هواه على كل مديان فإنا لله ولا حول ولا قوة إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل وبعد فالباعث به إليكم في هذه البطاقة أمور ثلاثة مدارها على قوله صلى الله عليه وسلم ( الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولخاصة المسلمين وعامتهم ) فالأول بيان سبب الركون إلى جانبكم والثاني الحامل على دفع مناويكم والثالث ملازمة نصحكم وتذكيركم والضجر مما يصدر منكم ومن أعوانكم للرعية أما الأول فله أسباب كثيرة منها مراعاة الجناب النبوي الكريم في أهل بيته ورضي الله عن أبي بكر الصديق القائل ارقبوا محمدا في أهل بيته والقائل لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي
( يا أهل بيت رسول الله حبكم ** فرض من الله في القرآن أنزله )
( يكفيكم من عظيم المجد أنكم ** من لم يصل عليكم لا صلاة له )
ومنها نصح خاصة المسلمين الذي هو الدعاء بالهداية لهم ورد القلوب النافرة إليهم و نصحهم بقدر الإمكان مشافهة ومراسلة ومكاتبة وقد
____________________

بذلنا الجهد في الجميع أخلص الله القصد في الجميع وأما الثاني فلما جرى القدر بتغلب ذلك الإنسان المتسلط على النفس والحريم والأموال وأدخل بتأويلاته البعيدة عن الصواب ما ليس في المذهب وتعدى خصوص الولاة إلى سائر الرعية فاضلها ومفضولها ومد مع ذلك يد الوعيد المؤكد بالإيمان إلينا في الأنفس والأموال فناشدناه كما تقرر في فتاوى الأئمة رضي الله عنهم حيث توفرت فيه فصول الصائل كلها بشاهد العيان فكان الأمر كما قدر الله تعالى { لله الأمر من قبل ومن بعد } الروم 4 وأما الثالث فالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فسورة والعصر قائمة البرهان في كل أوان وعصر وقال تعالى في قضية كليمه { رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين } القصص 17 وقد استشهد به بعض العلماء في بري قلم لكاتب بعض الأمراء المتقدمين وحسبنا الله ونعم الوكيل وقوله جل من قائل { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } المائدة 2 وأما السنة فالحديث الأول قوله صلى الله عليه وسلم ( المعين شريك ) وقوله ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) وقد كنا مقتصرين على التغيير باللسان والقلم لكون التغيير العملي إليكم حتى جذبتمونا إليه ودللتمونا بارتكاب أصعب مرام عليه وقوله ( من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله ) وقد قال المواق في شرحه على المختصر من أعان على عزل إنسان وتولية غيره ولم يأمن سفك دم مسلم فهو شريك في دمه إن سفك ثم أتى بالحديث المتقدم استعظاما لذلك الأمر الفظيع فإنا لله وإنا إليه راجعون على أنا انخدعنا بالله حتى كنا نأمن بالقطع سفك الدماء إذ ذاك حيث كتبت إلينا مرارا وأمنت وأرسلت وكنت أتخوف من هذا الواقع اليوم بآزمور وآسفي ومراكش والغرب ولذلك كنت ألححت عليكم في تقرير العهد حتى أتاني القائد عبد الصادق بمصحف ذكر انه لسلطان تلمسان في جرم صغير وقال لي أمرني السلطان أن أحلف لك فيه نيابة عنه على بقائه
____________________

على العهد فيما بينك وبينه من تأمين كل من أمنته وإمضاء كل ما رأيته صلاحا للأمة ثم لم أكتف حتى أتى القاضي فكتبت إلي معه إن كل ما رأيت فيه الصلاح للأمة أمضيته وأنك آمنت كل من أمنته ثم بعد استقرارك في دارك كتبت إلي كتابا إنك باق على ما تعاهدنا معك عليه من الأمور كلها على معيار الشريعة فما راعني إلا وقد أخفرت في ذمة الله وأماني الذي عقدته للناس فمن مأسور ومقيد ومطلوب بمال ومطرود عن بلد وأخبار آخر ترد علينا من جهة السواحل وأن الناس تباع فيها للعدو دمره الله ولم نر من اهتبل بذلك ممن قلدتموه أمور الثغور فلم ندر هل بلغك ذلك فتسقط عنا ملامة الشرع أو لم يبلغك فأعلمنا الله لتطمئن قلوبنا فإني أكاتبك في ذلك فلا أرى جوابا فقضيت والله من الأمر عجبا فإن عددت ما من الله به عليك من رجوعك إلى سرير ملكك واجتماعك بسربك آمنا من قبيل النعم فقيده بما تقيد به كما في كريم علمك وإن رأيته بنظر آخر فإن لله ما في السموات وما في الأرض وأما الإجماع فلم نر من العلماء من نهى عن نصح خاصة المسلمين وتنبيههم على ما يصلح بهم وبالرعية بل عدوه من الدين للحديث الأول وغيره وأما استشعرناه من امتعاضكم من عدم الأنة القول في مكاتبتنا لكم فما خاطبناكم قط رعيا لذلك ولو بنصف ما خاطب به الأئمة الأول أهل زمانهم اتكالا على مطالعتكم لكتبهم وعلمكم بما لم نعلمه من ذلك ولم نروه ويكفيكم نصح الفضيل وسفيان وإمامنا مالك رضي الله عنهم لمعاصريهم من الولاة ومنهم من بكى وانتفع ومنهم من غشي عليه وتوجع ومنهم من ندم واسترجع إلى غير ما ذكرنا على اختلاف الأعصار وتنوع الدول والأقطار فبذلك اقتدينا وبما كان عليه أشياخنا وأسلافنا لكم ولأسلافكم عملنا كالفقيه شيخ والدنا رحمه الله سيدي عبد الله الهبطي لجدكم المرحوم بكرم الله فطمعت بنجح النصح ونفعه دنيا وأخرى فهذا أصل قضيتنا معكم وهلم جرا والذكرى تنفع المؤمنين على كل الأحوال والحمد لله على كل حال و صلى الله عليه وسلم وبتاريخ أواخر ربيع النبوي الأنور كتبه عن إذنه رضي الله عنه
____________________

عبد ربه محمد بن الحسن بن أبي القاسم لطف الله به بمنه اه فأجابه السلطان زيدان رحمه الله بما نصه
بسم الله الرحمن الرحيم
و صلى الله عليه وسلم
من عبد ربه تعالى المقترف المعترف زيدان بن أحمد بن محمد بن محمد بن محمد إلى السيد أبي زكرياء يحيى بن السيد أبي محمد عبد الله ابن سعيد أعاننا الله وإياكم على اتباع الحق ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فقد ورد علينا كتابكم ففضضنا ختامه ووقفنا على سائر فصوله ثم إننا إن جاوبناكم على ما يقتضيه المقام الخطابي ربما غيركم ذلك وأدى إلى المباغضة والمشاحنة فيحكى عن عثمان رضي الله عنه أنه بعث إلى علي رضي الله عنه وأحضره عنده وألقى إليه ما كان يجده من أولاد الصحابة الذين اعصوصبوا بأهل الردة الذين كان رجوعهم إلى الإسلام على يد الصديق رضي الله عنه وهو في كل ذلك لا يجيبه فقال له عثمان رضي الله عنه ما أسكتك فقال يا أمير المؤمنين إن تكلمت فلا أقول إلا ما تكره وإن سكت فليس لك عندي إلا ما تحب ولكن لما لم أجد بدا من الجواب أرى أن أقدم لك مقدمة قبل الجواب فلتعلم أن الحجاج لما ولاه عبد الملك العراق وكان من سيرته ما يغني اشتهاره عن تسطيره هنا فتأول ابن الأشعث الخروج عليه وتابعه على ذلك جماعة من التابعين كسعيد بن جبير وأمثاله من أولاد الصحابة رضي الله عنهم ولما قوي عزمهم على ذلك استدعوا الحسن البصري لذلك فقال لا أفعل فإنني أرى الحجاج عقوبة من الله فنفزع إلى الدعاء أولى قال بعض فضلاء العجم يؤخذ من هذا أن الخروج على السلطان من الكبائر وجواز المقام تحت ولاية الظلم والجور وقد علمت ما كان من أمر عبد الرحمن بن الأشعث وسعيد وأمثاله وعلمت قضية أهل الحرة لما أوقع بهم جند يزيد بن معاوية بالحرم الشريف ولما بلغه الخبر أنشد
____________________


( ليت أشياخي ببدر شهدوا ** جزع الخزرج من وقع الأسل )
وشاع ذلك عنه وذاع وكان على عهد أكابر الصحابة وأولادهم ولا تعرض أحد منهم لنكير عليه ولا تصدى لقيام ولا خاطبه بملام وأما ما يرجع إلى جواب الكتاب فأما ما حكيت عن الصديق رضي الله عنه في أهل البيت والأحاديث الواردة فيهم وأنه يجب تعظيمهم واحترامهم وتبجيلهم لأجل النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان يجب عليكم تعظيمهم فإن تعظيمهم يجب على أولى وأولى عملا بقوله تعالى { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } الشورى 23 وأجرى الله تعالى عادته أنه ما تصدى أحد لعداوة هذا البيت النبوي إلا كبه الله لوجهه وأما ما أوردتم من الأحاديث في النصح فإني والله أحب أن تنصحني سرا وعلانية مع زيادة شكري عليه وأراها منك مودة وأعدها محبة ولكني أفعل ما أقدر عليه لأن الله سبحانه يقول { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } البقرة 286 ولهذا قال أكثر العلماء في صدور تصانيفهم ولم آل جهدا في كذا لأن النفوس الشريفة العالية لا تترك من فعل الخير والجد في اكتسابه إلا ما عز تناوله عليها وصعب اكتسابه
وأما ما ذكرتم من أمر أبي محلي وسيرته وما كان تسلط عليه أما ما كان من استنهاضكم إليه المرة بعد المرة وتكررت في ذلك إليكم الرسل حتى أجبت إليه فلا نحتاج فيه إلى إقامة حجة غير كونه خرج عن الجماعة وقد قال صلى الله عليه وسلم ( من أراد أن يشق عصاكم فاقتلوه كائنا من كان ) وإلا فلو دخل الملك من بابه وبايعه أهل الحل والعقد وأخذ ذلك بوسائط مثل بيعة جدنا المرحوم التي تضافرت عليها علماء المغرب وأهل الدين المشاهير فلو كان وصل إلى ذلك بمثل هذه الوسائط لم يجب حربه ولا القيام عليه بما ذكرتم لأن السلطان لا ينعزل بالفسق والجور وإلا فإن الصحابة في زمن يزيد بن معاوية لا يحصى عددهم وما تصدى أحد للقيام عليه ولا قال بعزله وإلا فإنهم لا يقيمون على الضلالة ولو نشروا بالمناشير وأما أبو محلي فبمجرد قيامه يجب عليك وعلى غيرك إعانتنا عليه لأنك في بيعتنا وهي لازمة لك فالطاعة واجبة عليك واعلم أيضا أن والدك أفضل منك بدليل { آباؤكم وأبناؤكم }
____________________

من أبنائكم إلى يوم القيامة ) وكان عمنا مولاي عبد الملك رحمه الله وسامحه على ما كان عليه واشتهر به إعلانا وكان والدك في دولته وبيعته ووفد عليه ولم يستنكف من ذلك ولا ظهر منه ما يخالف السلطنة ولا أنكر ولا عرض بما يسوء سلطان الوقت ولا سمع ذلك منه فإن كان راضيا بفعله فهو مثله وإن لم يرض فما وجه سكوته والوفادة عليه وقد تحققت وعلمت أن ولاية أحمد ابن موسى الجزولي كادت تكون قطعية واشتهر أمره عند الخاص والعام حتى أطبق أهل المغرب على ولايته وقد كان على عهد مولاي عبد الله برد الله صريحه وكان المولى المذكور على ما كان عليه واشتهر عنه وما برح الشيخ المذكور يدعو له ولدولته بالبقاء ويظهر حبه وكان المولى المذكور يعزل ويولي ويقتل وكان قد شرد منه إلى زاوية الشيخ المذكور المرابط الأندلسي وولد آضاك وأمثالهم وكان الشيخ المذكور يقدم للشفاعة فيشفع ولا يتعقب ولا يبحث عما وراء ذلك باق على عهده ومودته وكان المولى المذكور بعث لابن حسين بسد داره فما فتحها حتى أمره ولا استعظم أحد ذلك ولا أكثر فيه ولا جعله سببا لفتح الفتنة وكان قواد المذكور مثل وزيره ابن شقراء وعبد الكريم بن الشيخ وعبد الكريم بن مؤمن العلج والهبطي والزرهوني وعبد الصادق بن ملوك وغيرهم ممن لم يحضرني ذكرهم لبعد عصرهم قد انغمسوا في شرب الخمور واتخاذ القيان وبسط الحرير وغير ذلك من آلات الفضة والذهب وكان في عصره أحمد بن موسى المذكور وابن حسين ومحمد الشرقي وأبو عمرو القسطلي ومحمد بن إبراهيم التامنارتي والشيظمي وغير هؤلاء من المشايخ وأهل الدين الذين لا يسع من يدعي هذه الطريقة التقدم عليهم ولا اكتساب الفضيلة دونهم فأحسنوا السيرة ولا تعرضوا للسلطنة ولا سمع منهم ما يقدح في ولادة الأمر وقادة الأجناد ممن ذكر الذين كان الملك يدور عليهم ويرجع في تدبيره إليهم ومثل من ذكر من الأولياء كان علامة الزمان وواحد وقته شيخ مشايخ إفريقية وبعض أهل المغرب عبد العزيز القسنطيني الشيخ المتكلم الصوفي صاحب الآيات البينات قد كان من سكان تونس وكان ملوك تونس ومن انضاف إليهم على الفساد الذي لا ينحصر
____________________

واشتهر أمرهم حتى عرفوا به في المشارق والمغارب ولم يبرح الشيخ المذكور من بينهم ولا تصدى لتغيير المنكر والأمر بالمعروف حتى قبضه الله إليه
وأما ما ذكرتم من أن من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله هذه حجة عليك لا علينا لأني ما سعيت في قتل أحد يعلم الله ولا قتل من قتل إلا بأمر القضاة وأهل العلم إن كان واعلم أنه إذا كان هذا يكون وعيدا في قتل الواحد فما بالك بمن يريد فتح باب الفتنة حتى لا يقف القتل على المئين والآلاف ونهب الأموال وكشف الحريم إلى غير ذلك أما تعلم أن فتنة أبي محلي قد هلك بسببها من النفوس والأموال ما لا يحصى عدده ولا يستوفى نهايته كاتب وكان كل ذلك على رقبته لأنه هو المتسبب الأول الفاتح أبواب الفتنة لأنه كان يقتل كل من انتمى إلينا حتى قتل بسببه في يوم واحد بمكان واحد خمسمائة قتيل ولولا أبو محلي ما قتلوا وأعظم في حرمة النفوس من هذا الذي قلت قوله تعالى { كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا } المائدة 32
وليس في قول المواق ما يحتج به على السلطان وإنما هو في أصحاب الخطط على الترتيب الذي كان على عهده مثل أصحاب الشرط كصاحب الشرطة الذي ينفذ أحكام القاضي وصاحب شرطة السوق الذي ينفذ الأحكام عن قاضي الحضرة وغير ذلك من الولايات
وولاية أبي محلي لا تعد ولاية حتى يعتبر عزله وما عند المواق وغيره وقفنا عليه وعرفناه وتلقيناه عن الأشياخ الجلة وعرفنا ما عند الشافعية والحنفية ودرسناه المرة بعد المرة ولست ممن ينطبق عليه قوله ( أشقى الناس عالم لم ينفعه الله بعلمه ) ولكن لماذا تحتج بقول المواق لغرضك وتجعله حجة ولم تجبنا نحن فيما كتبنا إليك به في يونس اليوسي وقلنا لك
____________________

صلى الله عليه وسلم ( الحرم لا يجير عاصيا ) قال الأبي وهذا يحتج به على أهل الزوايا وأضربت عن الجواب وليس ذلك من أدب الجدل ولكن أخبرنا عن الوجه الذي منعت به يونس اليوسي من الشرع فإن متاعنا عنده وإماء أهلنا في داره إلى يوم الوقعة وترتب في ذمته للمسلمين من الأموال والدماء ما علمت فإن كنت ممن يريد العدل فهلا عدلت فيه فحينئذ نعلم أنك لا تريح جهته ولا تذهب بك النفس مذهبها لا جرم حينئذ نكون عند ما تريد ومع هذا لما أمسكنا زوجته وكتبت لنا فيها سرحناها ساعة وصول خطابك من غير توقف فلو كنت عناديا لعبثت بها عبثه هو بإماء أهلي وأهل داري على أني ما رددت شفاعتك منذ عرفتك بعثت لي إبراهيم بن يعزى فسرحناه لغرضك على أنه ترتب في ذمته ما ينيف على خمسين ألف أوقية وذلك المال إنما يقال له بيت مال المسلمين وإنما كان يجب تخليده في السجن وأهل الحصن أخرجناهم منه عن آخرهم وأنفذتم كتابكم بردهم فأمرنا بردهم عن آخرهم وابن يعقوب أوزال حاكم البلد وشبه الخليفة تركناه على دارنا وحرك من غير إذننا ولا مشورتنا وبعثنا مكانه فأنفذت الكتاب فيه فرد لمكانه ما هو الأمر الذي سافرت كتبك فيه ولا أسرعنا فيه خفافا وأما مسألة أهل آزمور فلما جاء كتابكم عزلنا صاحبه وسرحنا من كان عنده ورددنا الخيل وقضية الحناشة الناس في شأنهم بالاجتهاد وقضية العرب اعلم أن العرب قد أفسدوا الأرض واستطالوا سواء هذه البلاد والغرب والذي يليق بهم ما أفتى به سحنون في عرب إفريقية والمغرب ولو طالبناهم بمجرد العشر مدة هذه الفتنة في المغرب لأتى ذلك على أموالهم والناس قد خرجوا عن أطوارهم وأحبوا الفتن طلبا للراحة وانظر كتاب الإفادة كذا للقاضي واستطالتهم فيه عليه في قضية شرعية مشروحة في رسمها القديم على أنهم أضعف الناس قلوبا انظر ما صدر منهم فما بالك بالعرب الذين خرجوا عن الطاعة وتساوى الشيخ والصغير في ذلك فإن كنت تصغي لمقالاتهم وإسعاف شهواتهم والتعرض للسلطان دونهم فهذا نفس خراب العالم وطالع كتاب صاحبنا من عند الرحامنة وما صدر منهم لخديمكم ورأيت أن أقدم
____________________

لك مقدمة أمام هذا وإن كانت أدبية قيل لابن الرومي وهو علي بن العباس لم لم تقل كقول ابن المعتز
( كان آذريوننا والشمس فيه عاليه ** مداهن من ذهب فيها بقايا غاليه )
فأجاب بأن قال لا يقدر أن يقول هو في مثل قولي في وصف الرقاقة
( ما أنس لا أنس خبازا مررت به ** يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر )
( ما بين رؤيتها في كفه كرة ** وبين رؤيتها فوراء كالقمر )
( إلا بمقدار ما تنداح دائرة ** في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر )
وقال كل منا وصف أواني بيته ورب البيت أعلم بما فيه وأهل مكة أدرى بشعابها والصيرفي أعرف بنقد الدينار وقصة الخضر والكليم صلوات الله على نبينا وعليهم فيها كفاية لمن يعتبر في خرقه السفينة وقتله الغلام وإقامته الجدار والكليم يرد عليه في كل ذلك حتى أنبأه الله بسر ما لم يعلم على أن علم الخضر في علم موسى كحلقة ملقاة في فلاة هكذا قال بعض العلماء وقال بعضهم كل منهم على علم خصه الله تعالى به ومن هنا جوز ابن عربي الحاتمي في بعض كتبه وأحسب أن ذلك في الفصوص أن الولي الذي يتخذه الله ويصطفيه بمحبته يطلعه على علم لم يطلع عليه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فقال مشيرا إلى نفسه أطلعني الله على علم لم يطلع عليه آدم فمن دونه
واعلم أن السلطنة لها أسرار لا بد منها وسياسة ينكر ظاهرها ولكن نرجع إلى غرضك ومرادك أخبرنا كيف تحب أن يسلك الناس في العرب فإن كنت تحب أن يسلك الناس فيهم مسلك مولاي عبد الله فالزمان غير الزمان والأسعار قد طلعت وبلغت النهاية والله تعالى قد بعث أنبياءه وأنزل كتبه بحسب ما يقتضيه الزمان وهذا يعرفه من خالط الشرائع والكتب المنزلة وأخذ العلم من أفواه الرجال وأدبته مجالس العلم ونحن نلخص لكم الكلام
____________________

على بعض ما أورد الناس في الخارج أما ما بنوا عليه فرضه في صدر الإسلام والدول العظام فلا نطيل بذكره لشهرته وأما في المغرب خصوصا فأول من فرضه عبد المؤمن بن علي وجعله على أقطاع الأرض بناء على أن المغرب فتح عنوة وإليه ذهب بعض العلماء ومنهم من يقول إن السهل فتح عنوة والجبل فتح صلحا فإذا تقرر هذا وعلمت أن أهل ذلك العصر قد بادوا واندثروا وبقي السهل كله إرثا لبيت المال تعين أن يكون الخراج فيه على ما يرضي صاحب الأرض وهو السلطان والجبل تتعذر معرفة ما كان الصلح عليه ولا سبيل إلى الوقوف عليه فيرجع فيه إلى الاجتهاد وقد اجتهد سلفنا الكرام رضوان الله عليهم في فرضه لأول الدولة الشريفة على حسب وفق أئمة السنة ومشايخ أهل العلم والدين في ذلك العهد فجرى الأمر على السنن القويم إلى أن هبت عواصف الفتنة لأيام ابن عمنا صاحب الجبل وإدالة مولانا الإمام وصنوه المرحوم على حواضر المغرب وسهله عند الزحف بالأتراك وامتدت به الفتنة في الجبل إلى أن هلك مع النصارى في الغزوة الشهيرة وجاء الله من مولانا المقدس بالجبل العاصم للإسلام من طوفان الأهوال فقدر رضي الله عنه الأشياء حق قدرها ورأى أن المغرب غب تلك الفتن قد فغر فمه لالتهامه عدوان عظيمان الترك وعدو الدين الطاغية فاضطر رحمه الله إلى الاستكثار من الأجناد لمقاومة العدو والذب عن الدين وحماية ثغور الإسلام فدعا تضاعف الأجناد إلى تضاعف العطاء وتضاعف العطاء إلى تضاعف الخراج وتضاعف الخراج إلى الإجحاف بالرعية والإجحاف بالرعية أمر يستنكف رضي الله عنه من ارتكابه ولا يرضاه في سيرة عدله طول أيامه فلم يمكن له حينئذ إلا أن أمعن النظر رحمه الله في أصل الخراج فوجد بين السعر الذي بنى عليه في قيمة الزرع والسمن والكبش الذي تعطيه الرعية منذ زمن الفرض وبين سعر الوقت أضعافا فحينئذ تحرى رحمه الله العدل فخير الرعية بين دفع كل شيء بوجهه ودفع ما يساويه بسعر الوقت فاختاروا السعر مخافة أن يطلع إلى ما هو أكثر
____________________

فأجابهم إليه رضي الله عنه وعرف الناس الحق فلم ينكره أحد من أهل الدين ولا من أهل السياسة ليت شعري لو طلبنا نحن الرعية بسعر الوقت الذي طلع اليوم إلى أضعاف مضاعفة ماذا تقولون وقد انتقدتم علينا ما هو أخف من ذلك والحاصل راجعوا رضي الله عنكم ما عند الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية في ضرب الخراج فقد استوفى الكلام في ذلك
وأما ما تقضيه من العجب لتعطل أجوبتنا عنك فنحن نراجع أقل منك ولكن كتابك آكد مبناه على قصة أهل آزمور فأنفذنا من أخرج الذي كان به وأقصاه عنه وشرد من كان عنده فتوقف الجواب حتى رجع الخديم فحينئذ أجبناكم بما وصلكم وتعجيل الأجوبة وبطؤها فاعلم أن الذي يقتضي ذلك أمور منها أن يكون الأمر الذي ورد الخطاب فيه منكم ما سمعت به ولا بلغني فنتوجه للبحث عنه والفحص عن أسبابه فربما أوجب ذلك البطء بحسب الأماكن والبلدان فيكون جوابنا على أساس وبيان وإن كان عندنا خبر ما ورد فيه خطابكم فالجواب لا يتأخر وقد وقع هذا منا غير مرة وكون تعطيله منشأه ما من الله به علينا من رجوعنا إلى سرير ملكنا واجتماعنا بسربنا آمنين اعلم أن أهل هذا المغرب لما تمالؤوا علي وخرجت إلى المشرق والتقيت بالترك والأروام وجالسوني وجالستهم وخاطبوني وخاطبتهم فمنهم مشافهة ومنهم مراسلة وكنت أيام مقامي في أرضهم كمقامي على سرير ملكي لأن كبيرهم وصغيرهم ورئيسهم ومرؤوسهم كان ينتجع فضلي ويمد كفه رغبة في نعمتي وواسيت الجميع عطاء مترفا مع قلة الزاد والذخيرة وترفعت عن مواساة الأماثل والأكابر من العجم والعرب ولا ركنت لأحد بل تجودت بما قدرت عليه من الأخبية حتى جعلت محلة برماتها وخيلها فترامت علي العجم بالرغبة وبسطوا أكف الضراعة في المقام عندهم والدخول في جملتهم وعرضوا علي الإقطاعات السنية والبلادات الملوكية بلطف مقال وأدب خطاب حتى قال لي القبطان مراد رئيس المجاهدين وما مثلك يكون مع العرب ها نحن نخدمك بأموالنا وأنفسنا وبمالنا من السفن حيث أردت وأحببت وما انفصلت عنهم حتى
____________________

كتبت لهم بخطي إني احمل أهلي وحاشيتي وأرجع إليهم إلا إن تمكن لي الدخول في الملك والغلبة على البلاد أو بعضها وقفلت من عندهم ولم يتعلق بثوب عفافي ما يشينه معهم ولا مع العرب ولا كان لأحد علي منة ولا نعمة إلا فضل الله سبحانه وكان فضل الله علينا عظيما
ثم إني دخلت سجلماسة على رغم أنف أهلها وواليها ومنها دخلت السوس وجعلت ولي الله العارف به أبا محمد عبد الله بن المبارك واسطة بيني وبين أخي حتى اجتمعت بأهلي ومالي ثم بعث إلي الترك بأحد بلكباشات اسمه مصطفى صولجي إلى السوس راغبين في إنجاز الوعد وجنحت للمسير إليهم فرأيت الأهل والأتباع قد عظم الأمر عليهم واستعظموا الخروج فأسعفت رغبتهم في المقام بالمغرب وشيعت الرسول قافلا إلى قومه من سجلماسة عند الدخول الثاني لها ومغالبة أهلها عليها وعززته برسول من عندي إليهم بتحف وأموال ورد بها عليهم مع رسولهم ثم إني اقتحمت مراكش على أهل فاس على كثرة عددهم وعددهم وقلتي ففتح الله ثم خرجت إلى السوس مرة أخرى وأوقعت بولد مولاي أحمد الشريف وجموع مراكش وقد تعصبوا عليه لأنهم شيعة جده ففضضته على رغمهم ونازلته بالسهل والحزن حتى أمكن الله منه وحكم بيني وبينه ثم نجم الغوى أبو محلي وغلبت على الرأي وقد قال من هو أفضل مني مولانا علي كرم الله وجهه لا رأي لمن لا يطاع ودخل هذه البلاد وخرجت أنا إلى السوس ريثما تجتمع قبائلنا في المكان الذي كان اجتماعهم فيه إلى أن بلغتهم وقصد إليهم أبو محلي فقاتلوه ورحل عنهم بعد أن أثخنوا فيه بالقتل ثم وافيتهم فكان الحرب بيننا سجالا فهل سمعتم خلال هذه الأحوال أني احتجت إلى أحد فيما قل أو جل وهذا كله بحيث لا يخفى عليك اللهم أن تعدوا الوفادة التي وفدنا عليك من قبيل الاضطرار والاحتياج فلا أدري على أني ما قصدتك لطلب دنيا لأني كنت أسمع ما أنت عليه من متانة الدين والصلاح والإقبال على طاعة الله والتمسك بسنة رسول الله
____________________

صلى الله عليه وسلم ولا غرو أن من كان هذا وصفه كان جديرا بأن يقصد للدعاء ولإصلاح القلب ولا شك أننا نزلنا دارك وحللنا بمكانك ولما وقع الاجتماع بك جرت المذاكرة في أبي محلي وغيره حتى كتبت الكتاب الذي علمنا عليه وها هو بخط يدك فإن نسينا بعض ما فيه ولا فعلنا فأخبرنا به نستدركه وهذه مراكش التي ذكرتم قد كنت فيها ما ذكرتم ووقفت على عبد المؤمن بن ساسي وعدته مرة أخرى في مرضه وهل قصدته لطلب دنيا أو عرفته لأجلها ومحمد بن أبي عمرو لما وقفت على المدرسة التي من بناء مولاي عبد الله وقفت عليه في داره وكل ذلك إنما نفعله تأكيدا للمحبة وزيادة في المعرفة بالله ولو علمت أن ذلك يعد عيبا ويظن أنه نوع من الاحتياج ما كنت والله لأقف على أحد ولو أنه يملكني الدنيا بحذافيرها لأن الخير والشر بيد الفاعل المختار فهو أولى بالاضطرار إليه وأما سربي فما تروع قط حتى يأمن وأما من كان بالدار التي ذكرتم فإنما هم أهلي ومتروك أعمامي وهذه الدار التي ذكرتم فها نحن ننتقل عنها إلى بعض البلاد الغربية البحرية كما قلت لك ذلك مشافهة ساعة قلت لي ينبغي للأشراف بناء بالجبل لوقت ما وحكيت ذلك عن والدك وأما ما أخبركم به القاضي أيام ورودي إلى السوس وقت بلغني كتابكم الذي نصه قد اجتمعت أناس وفسدت النيات وتعينت المطامع وأردنا تدبيركم لأن الملوك أهل التدبير والمراد رجوعنا لأوكارنا من غير وصمة تلحق الجانبين فكلما حمل فهو عني والتزمته إلى الآن إلا ما طرأ علينا فيه النسيان فذكرونا به فإنا لا نخرج عنه وأما يمين المصحف وأني حلفت فيه للقائد عبد الصادق فلا والله ما حلفت فيه ولا أحلف لأحد إلى لقاء الله أما علمت أني حضرت بيعة الشيخ المأمون صاحب الغرب سامحه الله وحضر أولاد السلطان واستحلفهم له إلا أنا رضي الله عنه فإنه قال فلان لا يحلف لا يحتاج إليه فيما نأمره به ونفعله وعظم ذلك على إخوتي وظهرت في وجوههم لأجله الكراهية ولكن الذي قلت لعبد الصادق أحلف للمرابط فإني أوفى لك به ولا زلت على ذلك لأن
____________________

الذي كنت تقول في ذلك الوقت أخاف أن تقع في أهل مراكش والأكابر ونحوهم مثل حكومة عبد القادر ونحوها أما أهل مراكش فما تعرضنا لأحد منهم حتى تركنا متاعنا لأجلكم كولد المولوع وغيره وهذا الميدان والشقراء فابعث من رضيت ينادي فيهم من له حق علينا ننصفه منه ومن خدامي أيضا وإن كنت سمعت قضية منصور العكاري فالعكاري نزل أهلنا في خيمته عند وقعة رأس العين فلما أرادوا الطلوع إلى الجبل تركوا أكثر مالهم في خيمته مع بعض الخدم خوفا من غائلة البربر لما كان وقع منهم لأهل بابا أبي فارس فأخذ سماطا من ذهب يزيد على ستين ألف أوقية وكان أيام أبي حسون معه وفي جملته حتى مات القائم فبذل حجته بإنجازه عشرين ألفا والباقي حتى يؤديه على سعة وطلب منا أن يتعمل ويتولى بعض الخطط لينتفع ويجمع بعض ذلك فصرفناه حتى إذا جاء أبو محلي ووقع ما وقع طالبناه بمتاعنا وهو لا يسعه إنكاره وهكذا عبد الكريم الذي في زاويتك بنفسه يعلم أن إخوته أخذوا لي سلعة في وسط حلتهم وأنا بين بيوتهم تزيد على خمسين ألفا وأخذوا الإبل وها نحن سكتنا عنهم ولا طالبناهم بها وأيضا قال لك انظر ما فعل بإخوتي وصرت تكاتبنا وأنت لا علم عندك بأصل المسألة وأما الأموال فإن الله سبحانه قد وسع علينا من فضله وعندنا ما يكفي الخامس والسادس من الولد وعرفنا الناس وعرفونا وعاملناهم وعاملونا ولو أردت خمسمائة ألف مثقال من أصحاب أفلا منك أو من أصحاب الإنجليز وكتبت إليهم في ذلك ما تأنوا في بعثه ولا لاذوا فيه بمعذرة وقد كفانا الله به والحمد لله على ذلك
واعلم أن الظن فيك جميل ولولا ذلك ما أعطيتك خمسة آلاف مثقال وسمحت بالمال الذي حمل إليكم ابن عبد الواسع أولا وسلعة السفن أخيرا وبهذا كله تستدل على صفاء السريرة وصالح النية والله سبحانه يعلم ذلك وأما الامتعاض من عدم الأنة القول وحسن الخطاب فكما قال تعالى { وقولوا للناس حسنا } البقرة 83 وإنك لم تبلغ ولو نصف ما خاطب به
____________________

الأئمة رضوان الله عليهم أهل زمانهم اتكالا على علمنا به وحسبي نصح الفضيل ابن عياض وسفيان ومالك رضوان الله عليهم فهذه المسألة حسبي في الجواب منك انتهى ما وقفنا عليه من هذه الرسالة وهي دالة على براعة الرجل فقها وأدبا وكمال مروءة وعلو همة رحمه الله وغفر ذنوبه استيلاء نصارى الإصبنيول على المعمورة ونهوض أبي عبد الله العياشي لجهادهم وانتفاض أندلس سلا على السلطان زيدان رحمه الله
قد قدمنا في أخبار الوطاسيين ما كان من استيلاء البرتغال على المعمورة المسماة اليوم بالمهدية ومقامهم بها سنين قلائل ثم جلائهم عنها ثم لما استولى الإصبنيول خذله الله في هذه المدة على العرائش كما مر طمحت نفسه إلى الاستيلاء على غيرها وتعزيزها بأختها فرأى أن المهدية أقرب إليها فبعث إليها الطاغية فيليبس الثالث من جزيرة قادس تسعين مركبا حربية فانتهوا إليها واستولوا عليها من غير قتال لفرار المسلمين الذين كانوا بها عنها هكذا في تواريخ الفرنج
وقال شارح الزهرة كان نزول النصارى بمرسى الحلق سنة اثنتين وعشرين وألف وقيل سنة ثلاث وعشرين بعدها وقيل غير ذلك وكان عدو الله الإصبنيول أراد أن يضمها إلى العرائش لينضبط له ما بينهما من السواحل وتتقوى عساكره بهما فخيب الله ظنه ولقي من أهل الإسلام عرق القربة وكان أبو عبد الله العياشي بعد رجوعه من آزمور وسلامته من اغتيال قائد زيدان دخل سلا في نحو أربعين رجلا وزار ضريح شيخه أبي محمد بن حسون وبات عنده فجاءه أهل سلا وذكروا له ما هم فيه من الخوف من نصارى المعمورة وأن مسارحهم قد امتدت إلى الغابة وأن النصارى ألفان من الرماة سوى الفرسان فأمرهم بالتهيؤ إليهم
وفي نشر المثاني ما نصه وفي أواخر جمادى الثانية سنة ثلاث
____________________

وعشرين وألف أخذ النصارى المهدية فكتب أهل سلا إلى السلطان زيدان فبعث إليهم أبا عبد الله العياشي الذي كان مقدما بوكالته على الجهاد بدكالة وهو يقتضي أن مجيء العياشي إلى سلا كان بإذن السلطان لا فرارا منه والأول أصح اللهم إلا أن يكون مجيئه فارا كان بعد هذا التاريخ والله أعلم
وأمر أبو عبد الله العياشي أهل سلا بالتهيؤ للغزو واتخاذ العدة فلم يجد عندهم إلا نحو المائتين منها وكانت السنون والفتن قد أضعفتها فحضهم على الزيادة والاستكثار منها فكان مبلغ عدتهم بما زادوه زهاء أربعمائة ثم نهض بهم إلى المعمورة فصادف بها من النصارى غرة فكانت بينه وبينهم حرب قربها إلى أن غربت الشمس فقتل من النصارى زهاء أربعمائة ومن المسلمين مائتان وسبعون وهذه أول غزوة أوقعها في أرض الغرب بعد صدوره من ثغر آزمور ومنها أقصرت النصارى عن الخروج إلى الغابة وضاق بهم الحال
ثم إن السلطان زيدان لما بلغه اجتماع الناس على سيدي محمد العياشي بسلا وسلامته من غدرة قائده السنوسي بعث إلى قائده على عسكر الأندلس بقصبة سلا المعروف بالزعروري وأمره باغتياله والقبض عليه ففاوض الزعروري أشياخ الأندلس في ذلك فاتفق رأيهم على أن يكون مع العياشي جماعة منهم عينا عليه وطليعة على نيته واستخبارا لما هو عازم عليه وما هو طالب له فلازمه بعضهم وشعر العياشي بذلك فانقبض عن الجهاد ولزم بيته
ثم إن الله أوقع النفرة بين السلطان زيدان وبين أهل الأندلس وذلك أن السلطان المذكور كان قد بعث قبل ذلك إلى القائد الزعروري أن يجهز إلى درعة أربعمائة من أندلس سلا فجهزهم إليها وطالت غيبتهم بها ففر أكثرهم ونفرت قلوبهم عن الزعروري وسلطانه فكان زيدان يبعث إلى أهل الأندلس بسلا بتجديد البعث إلى درعة فيأبون الانقياد إليه في ذلك وكرهوه وأزمعوا على خلع طاعته ثم وشوا إليه بقائده الزعروري فبعث زيدان
____________________

بالقبض عليه فقبض عليه ونهب أهل الأندلس داره وكتبوا إلى السلطان بذلك مظهرين طاعته مكيدة ونفاقا فبعث إليهم مولاه وقائده المملوك عجيبا فمكث بين أظهرهم مدة فلم يعبؤوا به وصاروا يهزؤون به ثم عدوا عليه فقتلوه فظهر منهم شق العصا على السلطان زيدان وأظلم الجو بينه وبينهم وبقي أهل سلا فوضى لا والي عليهم وكثر النهب وامتدت أيدي اللصوص إلى المال والحريم وسيدي محمد العياشي ساكت لا يتكلم واستمر الحال على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكره بعد هذا إن شاء الله انعطاف إلى خبر عبد الله بن الشيخ بفاس والثوار القائمين بها وما تخلل ذلك
قد قدمنا ما كان من قدوم السلطان زيدان إلى فاس أواسط سنة تسع عشرة وألف واستيلائه عليها ثم خروجه عنها وإعراضه عنها وعن أعمالها إلى آخر دولته وكان عبد الله بن الشيخ حياة أبيه الشيخ تحت أمره يصغي إليه ولا يقطع أمرا دونه وقيل إنه خرج عن طاعته سنة عشرين وألف ولما قتل أبوه ببلاد الهبط كما مر استبد عبد الله هذا بفاس وما انضاف إليها على وهن وفشل ريح وكان غالب جنده من شراقة وشراقة هؤلاء هم عرب بادية تلمسان وما انضاف إليها وسموا بذلك لأنهم في ناحية الشرق من المغرب الأقصى فأهل تلمسان وأعمالها يسمون أهل المغرب الأقصى مغاربة وأهل المغرب الأقصى يسمون أهل تلمسان وأعمالها مشارقة لكن العامة يلحنون في هذه النسبة فيقولون شراقة فكان غالب جند عبد الله من هؤلاء العرب ومن انضم إليهم فهم حماته وأنصاره وبهم كان يعتصم حتى أعطاهم أجنة الناس ودورهم فكان الرجل من أهل فاس يأتي بستانه فيجد الأعرابي بخيمته في وسطه فيقول له أعطانيه السلطان
ومدوا أيديهم إلى حريم الناس ونهبوا الأسواق وجاهروا بالفساد وأظهروا السكر في الطرقات واقتحموا على الناس دورهم حتى أن امرأة كانت تطبخ خليعا وولدها رضيع عندها فاقتحم عليها الدار أحد شراقة فهربت
____________________

المرأة وأغلقت عليها مشربة لها فلم يقدر لها على شيء فراودها على النزول فأبت فقال لها إن لم تنزلي رميت الولد في الطنجير فتمادت على الامتناع فرمى به فيه فما هو إلا أن رأت ولدها في وسط الطنجير صاحت وألقت بنفسها عليه فاندقت رقبتها وماتت فغاظ الناس ذلك وأعظموه
وقام رجل منهم يقال له أبو الربيع سليمان بن محمد الشريف الزرهوني محتسبا على شراقة واعصوصب عليه كثير من العامة وقاموا بنصرته فقتل شراقة والتلمسانيين بفاس حيث وجدوا وحكم السيف في رقابهم ونفاهم عن فاس وحماها من إذايتهم وطهرها من رجسهم فاستحسن الناس أمره وأذعنوا إليه
قال في المرآة وفي يوم الجمعة الحادي والعشرين من ربيع الأول يعني سنة عشرين وألف ثار بفاس الشريف أبو الربيع سليمان بن محمد الزرهوني وعضده الفقيه أبو عبد الله محمد اللمطي المعروف بالمربوع وتبعهما أهل فاس بأجمعهم وأخرجوا من كان بها من جيش السلطان وقتلوا كثيرا منهم وجرت في ذلك خطوب آلت بعد سنين إلى انقطاع الملك بفاس وبقي الناس فوضى إلى الآن اه كلام المرآة
وكان ابتداء أمر شراقة واشتداد شوكتهم سنة ست عشرة و ألف كانوا إدالة على أهل فاس نازلين بقصبة الطالعة وبقصبة أخرى وببعض الفنادق وقرب باب المسافرين إلى أن قام عليهم الشريف أبو الربيع في التاريخ المتقدم وكان عبد الله بن الشيخ يوم ثورة أبي الربيع وفتكه بشراقة غائبا في سلا فلما بلغه الخبر قدم ورام أن يصلح بين أهل فاس وبين شراقة وراودهم على ذلك فقالوا لا لا فسميت تلك السنة سنة لا لا ثم أمر أبو الربيع أهل فاس بشراء العدة والتهيؤ لقتال شراقة وخرج إليهم فاقتتلوا خارج باب الجيسة فانهزمت شراقة واستتب أمر أبي الربيع وسكنت أحوال المدينة وأمن الناس أمانا لم يعهد من زمان السلطان الغالب بالله
وفي يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الثانية سنة عشرين وألف كانت
____________________

وقعة المترب موضع خارج باب الفتوح وسببها أن أهل فاس استغاث بهم الملالقة واستصرخوهم على شراقة مكيدة وحيلة فخرجوا في يوم شديد الريح وكمن لهم شراقة بخولان وأغاروا عليهم بغتة فانهزم الناس وقتل من أهل فاس نحو الألفين
وفي نشر المثاني سبعمائة فقط قال وجلهم هلك بالعطش وغلقت الأبواب واضطربت المدينة وهاج الشر بسبب ذلك مدة ثم خرج أهل فاس مرة أخرى لقتال عبد الله بن الشيخ فهزموه وأسروه وبقي في أيديهم فعفوا عن قتله وأطلقوه وذهبوا خلفه حتى دخل داره من فاس الجديد
ولما قتل أبوه الشيخ سنة اثنتين وعشرين كما مر واتصل خبر مقتله بابنه عبد الله عزم على الأخذ بثأره من قاتليه أولاد أبي الليف وأزمع المسير إليهم ووافقه على ذلك الشريف أبو الربيع والفقيه المربوع وأصحابهما وامتنعت العامة من الذهاب معهم لأن الشيخ لم تبق له في نفوس المسلمين مودة حيث باع العرائش للنصارى فاجتمعت العامة بجامع القرويين وقالوا لا نقبل سليمان ولا المربوع وحاصوا حيصة حمر الوحش واتخذوا رؤساء آخرين فوقع بسبب ذلك شر عظيم أدى إلى قتل الشريف مولاي إدريس بن أحمد الجوطي العمراني التونسي وسبب ذلك أن منادي أبي الربيع مر ينادي في السوق باستنفار الناس مع عبد الله بن الشيخ فقام إليه الشريف مولاي إدريس وضربه بعصا وسبه فأقبل أبو الربيع ومن معه واقتحموا على مولاي إدريس دار القيطون وقتلوه على خصتها ولما كان صباح القبر من الغد قام ولد مولاي إدريس وشكا هضيمته لعلماء فاس فأمروه بالصبر ثم التف عليه أهل العدوة وقصدوا دار أبي الربيع وناوشوه الحرب فرجعوا مفلولين وقتل بعضهم والأمر لله وحده ووقع الغلاء حتى بيع القمح بأوقيتين وربع للمد وكثرت الأموات حتى أن صاحب المارستان أحصى من الأموات من عيد الأضحى من سنة اثنتين وعشرين وألف إلى ربيع النبوي من السنة بعدها أربعة آلاف وستمائة وخربت أطراف المدينة وخلت المداسر ولم
____________________

يبق بلمطة إلا الوحوش وكثر النهب في القوافل
ولما كان المحرم فاتح سنة ست وعشرين وألف قبض الشريف أبو الربيع على أربعة من كبار شراقة ثم قتلهم فوجم لها اللمطيون وخاف الناس على المدينة وتوقعوا الشر وعظم الرعب في القلوب حتى وقعت بسبب ذلك الهزيمة في كل مسجد من مساجد الخطبة بفاس وذلك أنه كان إمام جامع القرويين ذات يوم يخطب والناس في صحن المسجد فوقع شؤبوب من المطر غزير فابتدر من في الصحن الدخول إلى تحت السقف فظن الناس أن أبا الربيع قد قصده شراقة فانهزموا وخرجوا من المسجد لا يلوي أحد على أحد فبلغ الخبر إلى أهل جامع الأندلس فاقتدوا بهم وبلغ الخبر إلى أهل الطالعة فكان كذلك وتتابعت الهزائم بالمساجد
وفي يوم السبت الخامس من صفر سنة ست وعشرين وألف قتل الشريف أبو الربيع غدرا في جنازة رجل لمطي خرج إليها فقتله الفقيه المربوع وقتل أباه وأبناء عمه وستة من أصحابه ودفن مع والده بمسجد الجرف ولما قتل أبو الربيع بقيت فاس في يد المربوع واعصوصب عليه اللمطيون واشتدت شوكته ثم قدم جمع من عشيرة أبي الربيع من زرهون وحاولوا الفتك بالمربوع ففطن بهم ووقع بينه وبينهم قتال هلك فيه نحو مائة وثلاثين رجلا وسلم المربوع منها
وقال صاحب معتمد الراوي لما قتل أبو الربيع الزرهوني قام أخوه مولاي أحمد يطلب بثأره وساق معه نحو أربعمائة من الزراهنة واقتحم بهم فاس وقاتلوا الفقيه المربوع وشيعته من اللمطيين فالتف أهل فاس على المربوع وقاتلوا معه الشريف يدا واحدة فانهزم الشريف وقتل جل من معه وكاد يقبض عليه باليد ففر إلى روضة سيدي أحمد الشاوي ومعه نحو الثمانين من أصحابه فتبعهم الفقيه المربوع في جمع عظيم من اللمطيين واقتحم عليهم الروضة ففر الزراهنة إلى بيوت دار الشيخ فهجم عليهم المربوع بجنده وقتلهم أجمعين ثم إن المربوع واللمطيين جاؤوا برجل يقال له عبد الرحمن الخنادقي كان يتعبد بزرهون فاستقدموه في جمادى الأولى سنة سبع
____________________

وعشرين وألف وراموا أن يملكوه ويجتمعوا عليه فأنزلوه مع أصحابه في روضة الشيخ أبي الحسن علي بن حرزهم واتصل الخبر بالقائد أحمد بن عميرة وزير عبد الله بن الشيخ فأتى وفتك بأصحاب الرجل المذكور ولجأ هو إلى ضريح الشيخ ابن حرزهم فرموه من طاق هنالك فقتلوه وسقط ميتا على القبر وبطل أمره
ولما سئم أهل فاس من الفتن وكثرة الحصار وضاق بهم الحال من غارات الأعراب ذهبوا إلى عبد الله بن الشيخ بفاس الجديد ونصروه وأظهروا المحبة له ففرح بهم غاية وتحالفت العامة والخاصة على نصره والإذعان إليه فصفح عنهم وعفا لهم عما سلف وبعث وزيره إلى المربوع بالأمان فلم يأمن وخاف على نفسه وصمم مع اللمطيين على قتال عبد الله وتهيؤوا له حتى لم تصل الصلوات الخمس بالقرويين ثم إن القائد حمو بن عمرو وزير عبد الله أمر بأن ينادى بأمان اللمطيين ففر اللمطيون عن المربوع حينئذ حتى لم يبق معه إلا قليل ثم بعث إليه عبد الله بسبحته وخاتمه أمانا فلم يأمن وفر ليلا إلى بني حسن فأخذه شيخهم سرحان وأتى به إلى عبد الله فعفا عنه وعادت دولة عبد الله إلى شبابها واستتب أمره وتمهدت له البلاد وذلك في جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وألف فجمع الجيوش وبعث بعض جنده لحصار تطاوين وبعضهم لقبض الأعشار وبعث وزيره حمو بن عمرو مع المربوع لأرجين موضع من جبال الزبيب فغدر المربوع بالوزير وقتله اعتمادا على كلام سمعه من عبد الله فغضب عبد ا لله وأسرها في نفسه ثم في يوم الاثنين ثالث ربيع النبوي سنة ثمان وعشرين وألف قتل المربوع اللمطي ونهبت داره
وقال في نشر المثاني قتله عبد الله بن الشيخ وعلقه على البرج الجديد خارج باب السبع ثم أنزله ولعبت عليه خيله ثم بعد أيام وظف عبد الله على اللطميين ثمانين ألفا فثقل عليهم أمرها فهربوا في كل وجه فأسقط عنهم نصفها والله تعالى أعلم
____________________

ثورة محمد بن الشيخ المعروف بزغودة على أخيه عبد الله بن الشيخ وما وقع في ذلك
قال في شرح زهرة الشماريخ لما رأى أهل بلاد الهبط ما وقع من افتراق الكلمة وتوقد الفتن بايعوا محمد بن الشيخ المعروف بزغودة على ضريح الشيخ عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه وكان الذي قام بدعوته الشريف أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن عيسى بن عبد الرحمن الإدريسي المحمدي اليونسي المعروف بابن ريسون وهي أم جده علي نزيل تاصروت وبايعوه على الكتاب والسنة وعلى إحياء الحق وإماتة الباطل فلما بلغ خبره أخاه عبد الله خرج لقتاله فالتقى الجمعان بوادي الطين واقتتلوا فانهزم عبد الله وتقدم محمد إلى فاس فدخلها واستولى عليها في شعبان سنة ثمان وعشرين وألف وقبض على بعض عمال عبد الله فقتلهم واستصفى أموالهم
وفي آخر شعبان المذكور وقعت الحرب بينهما بمكناسة فانهزم محمد ودخل عبد الله فاسا في مهل رمضان من السنة وأظهر العفو عن الخاص والعام ثم قتل أهل فاس قائده ابن شعيب وأخذوا حذرهم من عبد الله ثم وقع قتال بين أهل الطالعة وأهل فاس الجديد ودام أياما عديدة حتى اصطلحوا لتاسع رجب من سنة تسع وعشرين وألف ثم إن عبد الله خرج لقتال أخيه محمد فوقعت المعركة بينهما بوادي بهت فانهزم محمد وفر شريدا إلى أن قتله ابن عمه كما سيأتي إن شاء الله
وفي يوم الجمعة خامس ذي القعدة من سنة اثنتين وثلاثين وألف قتل الفقيه العالم القاضي أبو القاسم بن أبي النعيم بعد أن نزل من صلاة الجمعة
____________________

بفاس الجديد فقتلته اللصوص بباب المدرسة العنانية وفي نشر المثاني قتله اللمطيون بالزربطانة لأنهم اتهموه بالميل إلى عبد الله بن الشيخ فوقع بسبب قتله شر عظيم بين أهل العدوتين من فاس
ولم يزل عبد الله في معالجة أهل فاس فتارة يميلون إليه وتارة ينحرفون عنه لفساد سيرته وقبح طويته حتى كان قائده مامي العلج ينهب الدور جهارا ويعطي عبد الله كل يوم على ذلك عشرة آلاف مما ينهب من الناس من غير جريمة ولا ذنب
وقام عليه بمكناسة أيضا رجل يقال له الشريف آمغار وقام عليه بتطاوين المقدم أبو العباس أحمد النقسيس ولم يبق في يده إلا فاس الجديد وأما فاس القديم فتارة وتارة كما ذكرنا آنفا لأنه استولى عليها الشريف أبو الربيع والفقيه المربوع ولما قتلا كما ذكرناه آنفا قام بفاس محمد بن سليمان اللمطي المدعو الأقرع وعلي بن عبد الرحمن فقتل ابن سليمان
وقام أحمد بن الأشهب مع ابن عبد الرحمن المذكور فوقعت فتن وحروب ثم قام الحاج على سوسان وابن يعلى وتولى أيضا يزرور ومسعود ابن عبد الله وغيرهم من الثوار
وكانت فاس أيام هؤلاء على فرق وشيع لا يأمن التاجر على نفسه إلا إن استجار بأحد من هؤلاء ووقع من الفتن ما أظلم به جو فاس ونتن أفقها العاطر الأنفاس وخلا أكثر المدينة واستولى عليها الخراب ودام الشر بين أهل العدوتين حتى كادت فاس تضمحل ويعفو رسمها
وحدث غير واحد من الثقات أنه لما دامت الحرب بين أهل العدوتين ولم يكن لأهل الأندلس غلبة على اللمطيين قال الشيخ أبو زيد عبد الرحمن ابن محمد الفاسي لا يغلب أحد اللمطيين ما داموا مواظبين على قراءة الحزب الكبير للإمام الشاذلي رضي الله عنه وكانت طائفة من اللمطيين يقرؤونه كل صباح بزاوية سيدي رضوان الجنوي من عدوة اللمطيين فسمع ذلك أهل عدوة الأندلس فاحتالوا على إبطال قراءة ذلك الحزب بأن بعثوا
____________________

أحدا فاحتال على أولئك الذين يقرؤونه فاستضافهم فباتوا عنده جميعا في منزله فلما طلع الفجر أو كاد زعم أن مفتاح الدار قد سقط منه وتلف ولم يزل يعاني فتحها إلى أن طلعت الشمس فخرجوا ولم يقرأوا الحزب ذلك اليوم وأخبر أهل الأندلس بذلك فحملوا على أهل عدوة اللمطيين فهزموهم وتحكموا فيهم مع أنهم كانوا لم يجدوا إليهم سبيلا قبل ذلك ببركة حزب الشاذلي رضي الله عنه
وذكر بعضهم أن سبب هذه الفترة ما حكي أن عبد الله بن الشيخ عزم على التنكيل بأهل فاس في بعض غلباته عليهم أيام خروجهم عليه فاستشفعوا إليه بالصالحين المجذوبين سيدي جلول بن الحاج وسيدي مسعود الشراط وكان من الملامتية فلما وقفا بين يديه قال أما وجد أهل فاس شفيعا غير هؤلاء الخراءين في ثيابهما فغضب سيدي جلول وقال والله لا تصرف فيها يعني فاسا أحد أربعين سنة وانصرفا فيقال إن عبد الله بن الشيخ انقلبت معدته فخرج غائطه من فمه أياما إلى أن أتى بالشيخين فاسترضاهما فكان أمر فاس كما قال سيدي جلول لم يطأطئ رؤوس أعيانها سلطان إلى أن جاء الله بالمولى الرشيد بن الشريف السجلماسي رحمه الله كما سيأتي وإنما كان يتصرف فيها رؤساء أهل فاس الذين يسمونهم السياب قال اليفرني وهذه حكاية صحيحة سمعتها من غير واحد بفاس ملخصها ما ذكرنا
ولم يزل عبد الله في محاربة أهل فاس القديم من سنة عشرين وألف إلى أن توفي يوم الاثنين الثالث والعشرين من شعبان سنة اثنتين وثلاثين وألف بسبب مرض اعتراه من إسرافه في الخمر وإدمانه عليه وكان لا يفارقه ليلا ولا نهارا ويتعاطاه سرا وجهارا
قال في شرح زهرة الشماريخ ولما توفي عبد الله ولي بعده أخوه عبد الملك في شعبان سنة اثنتين وثلاثين وألف ولم يزل مقتصرا على ما كان قد صفا لأخيه إلى أن توفي في ذي الحجة سنة ست وثلاثين وألف
____________________


ومن آثار عبد الله بن الشيخ القبة التي على الخصة الكائنة أسفل المنارة التي بوسط صحن جامع القرويين فإنه لم يكن في القديم إلا الخصة المقابلة لها شرقي الجامع المذكور غريبة
قال اليفرني حدثني شيخنا الفقيه أبو الحسن علي بن أحمد قال كان شيخ شيوخنا الفقيه الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد ميارة يقول إن أحمد ابن الأشهب الذي تقدم ذكره قبل في الثوار أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قال والحديث بذلك مذكور في كتاب الجامع الكبير للحافظ جلال الدين السيوطي رحمه الله اه وقتل ولد ابن الأشهب رابع جمادى الأولى سنة خمس وأربعين وألف فتك به علي بن سعد في جامع القرويين وهو في صلاة العصر وقامت بسبب ذلك حرب بين أهل الأندلس واللمطيين وانتهبت السلع التي بسوق القيسارية وسوق العطارين وبنى اللمطيون الدرب الذي بباب العطارين واستمرت الحرب نحو ثمانية أيام ثم اصطلحوا ثورة أبي زكرياء بن عبد المنعم بالسوس ومغالبته لأبي حسون السملالي المعروف بأبي دميعة على تارودانت
كان الفقيه أبو زكرياء يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد المنعم الحاحي لما رجع من مراكش إلى السوس حسبما مر بدا له في طلب الملك وجمع الكلمة لما رأى من افتراقها في حواضر المغرب وبواديه
وكان المرابط أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن الولي الصالح أبي العباس أحمد بن موسى السملالي ويقال له أيضا أبو حسون قد ظهر بالصقع السوسي عند فشل ريح السلطان زيدان به واستولى على تارودانت وأعمالها
فلما ثار الفقيه أبو زكرياء سار إلى تارودانت فتغلب عليها وملكها من يد أبي حسون المذكور وبعد أن وقع بينه وبينه معارك ومقاتلات كبيرة وكان
____________________

القاضي بتارودانت يومئذ الفقيه العالم أبو مهدي عيسى بن عبد الرحمن السكتاني وكان أبو زكريا قد استشاره فيما عزم عليه فلم يوافقه على ذلك ولم يساعده على مراده لما فيه من الخروج على السلطان بلا موجب فغضب عليه الفقيه أبو زكرياء حتى أمر بقتله غيله فيما قيل فخرج القاضي من المدينة خائفا يترقب وذهب إلى مراكش فاستقر بها وعصمه الله منه وكتب إلى أبي زكرياء برسالة يعظه فيها وينهاه عن الخروج على السلطان ونصها
بسم الله الرحمن الرحيم و صلى الله عليه وسلم
يقول الفقير الشديد الحاجة إلى رحمة مولاه الغني به عمن سواه السائل منه التوفيق واللطف في ظعنه ومأواه كاتبه عيسى بن عبد الرحمن السكتاني عفا الله عنه وسمح له الحمد لله الذي جعل الصدع بالحق وظيفة الأنبياء وأورثه بعدهم من خلقه فريق العلماء و صلى الله عليه وسلم على من أكد أمر الصلح وقال ( الدين النصيحة ) فقيل لمن يا رسول الله فقال ( لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) والرضا على آله وصحبه الذين سلكوا سبيله وانتهجوا من المناهج طريقه وعن التابعين وتابع التابعين لهم إلى وقوع القصاص بين الخليقة وبعد فإني لما قفلت بحمد الله بسلامة وعافية إلى جبلي وجدت أهلي وأولادي مستوحشين من البادية وإن كانت محل سلفي ومقر تلادي بعد أن ألفوا الحواضر وطبعوا على طباعها فكانوا أحق بها وكنت في غاية الضيق والتأسف لما حل بالأولاد فتذكرت قول بعض فقهاء الأندلس ممن نابه مثل ما نابني وأصابه مثل ما أصابني
( أليس من القبيح مقام مثلي ** بدار الخسف منكسف الجمال )
( أخالط أهل سائمة وسرح ** وأرتع بين راعية الجمال )
فأجلت فكري وإن كان الكل بقدر الله وإرادته فرأيت أن ذلك وفي القضاء لطف أمر أنتجه كما لا يخفى على ذي بصيرة ما حل بالمغرب من
____________________

افتراق الكلمة وتلاعب شياطين الإنس والجن بذوي العقول منهم فصاروا أحزابا وفرقا فاتبعت كل طائفة من هواها ما كانت تعبد حتى إذا عرض لعاقل أو عرض عليه منهم الإقلاع بادره الشياطين فسدوا عليه بابه وأروه بإغوائهم وزينوا له أن ذلك يشينه لدى العامة ويوجب له السقوط من أعين الناس مع أنه لا يعده من السقوط إلا { الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس } الناس 6 - 4 وأين يغيب عن الموفق أن السقوط من عين الله هو الطامة الكبرى وأين غاب عنه أن العبرة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا بكلام الهمج الرعاع ممن لا يزال الشيطان يلعب به آخذا بزمامه ساكنا على قلبه ولسانه وأين يغيب عنه من كتاب الله { فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى } النازعات 37 - 41 فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون هذه مصيبة عظيمة نزلت بمغربنا فافترق ملأهم وقتلت سرواتهم وانتهبت أموالهم وهتكت حرمهم ومزقت أعراضهم وفسدت أديانهم واختلت وبدت عن التوفيق آراؤهم وكادت تطمع بل طمعت فيهم أعداؤهم اللهم يا ذا الطول والامتنان يا حنان يا منان يا ذا الجلال والإكرام تداركنا بألطافك الخفية في ديننا ودنيانا يا خالق الأرض والسماء
فإن قلت ما ذكرته من أن خروجك من الحواضر إلى البوادي هو نتيجة افتراق الكلمة كما فعله من يقتدي به من الصحابة رضي الله عنهم فتبدى صحيح وما دليلك على التلاعب قلت ما خرجه أئمة الصحاح من منع الخروج على الأئمة وأن الواجب في حق من رأى منهم ما يكره الصبر والاحتساب إذ غائلة الجور وإن تفاحش أقل بكثير من غائلة الخروج الذي يترتب عليه فساد المهج والأموال والأعراض والأديان وهتك الحرم ولهذا صبر على الحجاج من علماء الصحابة والتابعين من صبر حتى لقوا الله تعالى سالمي الأديان وبعبادته مغتنمي الزمان وتذكر فما بالعهد من قدم بالمرابط أبي محلي كان في قطره عالي الصيت يقصد ويتبرك به ويعتقد فيه أنه من قطب زمانه وبلغ به الحال إلى أن سولت له نفسه أو سول لها أنه يصلح به
____________________

ما لم يصلح بغيره من أهل الزمان فقام وأعانه عليه قوم آخرون حتى ملأ الدنيا صياحا ودعاوى وعياطا وأكاذيب لا يشهد لها عقل ولا نقل فتمرد على المسلمين حتى لم يسلموا من لسانه ويده فقتل ونهب وسب واغتاب وحمل نفسه ما لا تطيقه فاستهوته شياطين الإنس والجن والنفس والهوى ثم بعد ذلك كله لم يحصل من سعيه على طائل وآفته الغفلة عن الكتاب والسنة والرضا عن النفس حتى أنه حكمها فصارت تلعب به إلى أن فاه وادعى بدعاوى استبيح بها ما كان معصوما من دمه وهلكت بسببه بعده نفوس وأموال وغير ذلك أيشك من ارتاض بالكتاب والسنة ونظر بعين الشريعة إن فعله ذلك مما حمله عليه من تجب مخالفته من الشيطان والنفس والهوى وربما اسحسن فعله ذلك من شيعته من ابتلي به أو قلده تقليدا رديا في فعله فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين وإلى الآن كانوا يستصوبون فعله ويستحسنون قوله مع أنه بمعزل عن الكتاب والسنة
فإن قلت وهذه طائفة الفقراء ما بين متعصب متحزب ومتحيل متصيد ومتسور على ما استأثر به الباري من الغيوب مرتكب للآثام مصر على العيوب قلت وهذه طائفة الفقراء فيها جل ما تقدم وزيادات تضيق عن الإحاطة بها السطور والطروس قد بددتها والعياذ بالله الفتن وشردها ما تخوفته من المحن بانت العلوم واضمحلت الفهوم وتعطلت الرسوم فلا منطوق يذكر ولا مفهوم
( هذا الزمان الذي كنا نحاذره ** في قول كعب وفي قول ابن مسعود )
وقلت وهذا الشيخ أبو زكرياء وهو الذي يساق إلى نصحه الحديث كنا نستسقي به ونستشفي وكانت تشد إليه الرحال ولا يأنف من إتيانه النساء والرجال قد أتته من أقطار مغربنا الوفود ودانت له الذئاب والأسود وكان يعلم الجهال ويهدي الضلال ويطعم الجائع ويكسو العريان ويعين ذا الحاجة ويغيث اللهفان وهي سبيل يا لها من سبيل وطريقة ما أحسنها من طريقة ثم صارت تلك الجموع وكان أمر الله قدرا مقدورا أيدي سبا
____________________

وتلاشت شذر مدر ما لها من نبا
أيها الشيخ أكرمك الله بتسديده أو تجد في الوجود ملكا أعظم من ذلك الملك فتطلبه أو سلطانا يوازيه أو يقاربه فتحاوله أين خفي عليك الشيء وهو ضروري أم أين ضلت عنك النصوص من الكتاب والسنة وأنت منقولي معقولي { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق } الحديد 16 { لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم } غافر 10 و ( إن أبغض الكلام إلى الله أن يقول الرجل للرجل اتق الله فيقول عليك نفسك ) وهو طرف من حديث خرجه النسائي وقد وعظتك وذكرتك إن نفعت الذكرى قال جل من قائل { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } الذرايات 55
( فقلت من التعجب ليت شعري ** أأيقاظ أمية أم نيام )
فإن قال شيطان من شياطين الإنس أو الجن هذا ما أريد به وجه الله قلت الله الموعد إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وإن خطر هذا وهجس بقلب الشيخ أكرمه الله والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم قلت أدل دليل على أني قصدت محض النصيحة هو أنه استنصحني على دفاع أبي محلي فنصحته وقلت له إن هذا لا تستقيم معه الديانة فكأنه ما قبل فانفصلت عنه وهو يقول استخر لي الله فكاتبته بأن لا يفعل ثم لما نزل وكان على باب الغزو من تارودانت خلوت به فقلت له إذ ذاك إن الناس يقولون كذا وكذا وعرفته إذ ذاك بما عرفته من أبناء الزمان فجمعنا في رملة إلى الآن أتخيل حرها وتبرأ من كل ما يقال وما زلت على المنع إلى أن جاءت كراريس من قبل أبي محلي فتأملتها فوجدتها مشتملة على كفريات في جزئيات فيحنئذ شرح الله صدري لإباحة دفاعه
ثم وإن قلت ذلك فنفسي آمرة ولا أقول في نفسي ما كان يقوله سحنون في قضية ابن أبي الجواد مالي وله الشرع قتله ولو قلت أو غششت لغششت في قضية ذلك الرجل وزينت لك قتاله أولا لأن ذلك هو مقتضى التعصب للأمير وإذا لم أتعصب إذ ذاك فكيف أستسهله الآن فتعين
____________________

أني نصحت لكم أن قبلتم وإلا فكما قال تعالى عن نبي من أنبيائه { ولكن لا تحبون الناصحين } الأعراف 79 أنشدك الله الذي بإذنه تقوم السماوات والأرض أما قلت لك بعد رجوعي العام الأول من مراكش بل الذي قبله إن العذر لا يحسن وصرحت ولوحت بأن شق العصا لا يحل غيرة مرة وما كفاني القول الدال على ذلك إلى أن زدت الفعل بالخروج من مدينة لا أبغضها كما قال
( فوالله ما فارقتها عن قلي لها ** وإني بشطي جانبيها لعارف )
ورضيت بالبادية مع جفائها فرارا من الفتن وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم ( يوشك أن يكون خير مال الرجل غنما يتبع به سعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ) ثم بعد فعلى هذا كله نصحت فلم أفلح وخانوا فأفلحوا وعدوا علي من القبائح طاعتي للأئمة مع أنك يوم جاء إلى دارك قلت لهم هذا أميركم ونحن لا نشك أنك من المعتبرين في مغربنا وأن بيعتك لأحد لازمة لنا وكذلك حين ذهبت إلى مراكش في وقعة أبي محلي قد أراد أهل مراكش فأبيت وأبحت البلاد لخدم الأمير وقلت لهم إنه الأمير وفهمه الناس عنك بلسان الحال وبلسان المقال ونصروه بمرأى منك ومسمع أفتشك بعد أن كان منك هذا أنك مبايع وأنت قدوة وإذا كان هذا فأي حجة لك على الأمير ولا على المأمورين فمن زين لك قتاله فقد غشك إذ هو مسلم وابن مسلمين
فإن قلت موافقتي مشروطة بشروط لم يوف لي بها قلت هب أنه لم يوف لك أفتستبيح قتاله لأجل ذلك والرسول صلى الله عليه وسلم يقول ( إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار ) الحديث فبالله أيها الشيخ ما تقول في هذا الحديث وأنظاره وما تقول فيما انتهب أو عسى أن ينتهب من أموال الناس وأخذ بغير حق وأنفق في سبيل الطاغوت والرسول صلى الله عليه وسلم يقول ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس ) أو ما تستحي من ربك يوم تسأل عن النقير والقطمير ولست ممن خفي عليه ذلك كله فتعذر عند
____________________

المخلوقين أو ما علمت أن كثيرا من العوام يعتقد جواز ذلك إذ رآك ارتكبته فتكون قد سننت هذه السنة وضل بسبب ذلك كثير من الناس أو ما خشيت دعوة المظلوم التي ما بينها وبين الله حجاب أو ما كنت تعير من يرتكب مثل ذلك من الولاة وتتأسف عليه ( لا تعير أخاك المؤمن ) الحديث
( لا تنه عن خلق وتأتي مثله ** عار عليك إذا فعلت عظيم )
أما انتبهت لما وقع لأهل درعة من النهب والسلب واسترقاق الأحرار وهتك الحرم ( إن دماءكم وأعراضكم عليكم حرام ) الحديث وقد أتانا السؤال من قبل الشيخ عن صنيع سكتانة ذلك ولم يستطع إذ ذاك من نظر بنور العلم أن يقول لهم في وزر نظرا إلى ما آل إليه الحال في أهل درعة مع أن جلهم حملة القرآن وعامتهم بله ( وأكثر أهل الجنة البله ) أفيليق بحق الصلحاء أن يسلط عليهم من لا يرحمهم ( ولا تنزع الرحمة إلا من قلب شقي ) ( إنما يرحم الله من عباده الرحماء ) ( من لا يرحم لا يرحم ) ( ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) أو نسيت أنه يقتص للجماء من القرناء وأن الظلم الذي لا يتركه الله ظلم الناس بعضهم لبعض أفي علمك أن حسناتك تفي بما عليك من التبعات أو أنه لا تباعة لأحد عليك ولو كنت بدريا لاحتمل أن يقال في شأنك ما قاله صلى الله عليه وسلم لعمر ( وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر ) فقال ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم ( والظلم ظلمات يوم القيامة ) أو تستطيع أن تقتحم ظلمات الصراط وأنت مسؤول عن القيراط وحتى أهل تارودانت بلغنا أنه لم يغن في شأنهم الترويع بل بلغ بهم الحال والجور إلى التقريع فاتق الله أيها الشيخ ولا تكن كمن إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم هذا ما يتعلق ببعض حقوق الناس على العموم ويتعلق بحق كاتبه على الخصوص إنك أخذت عليه أن يؤدي الطاعة للأمير ويرعى ما هو من شيم المؤمنين من حسن العهد والتبري من الغدر وشق العصا بعد أن بذل وسعه في نصحك ونصح الأمير وحاول بكليته على جمع الكلمة وتعب في ذلك
____________________

واقتحم فيه عقبات لا يقطعها إلا بازل ولا سبيل إليها لمن يكون في دينه وعمله مثلي ممن هو نازل
( لعمر أبيك ما نسب المعلى ** إلى كرم وفي الدنيا كريم )
( ولكن البلاد إذا اقشعرت ** وصوح نبتها رعى الهشيم )
( إذا غاب ملاح السفينة فارتمت ** بها الريح هوجا دبرتها الضفادع )
ولكن ليس من شرط النصيحة كمال الناصح كما أنه ليس من شرط تغيير المنكر عدم ارتكاب المغير ما غير لأن هذه طاعة وتلك أخرى والتوفيق بيد الله سبحانه نعم بلغني مع ذلك وجزم لي به أنك مع بذل النصح لك وللأمير أصلح الله الجميع وأصلح ذات بينهم أخذت علي بالرصد في قفولي لصبيتي والرجوع إليهم رعاية لما يجب ويندب من حقوقهم وهل هذا إلا حكم الهوى والشيطان أعندك ما تستبيح به ذلك مع أني والحمد لله أينما كنت لا أسعى إلا في مصلحة جهد الاستطاعة أو بث نصيحة حين لا أرى من يبثها أو إغاثة ملهوف حين تجب إغاثته { لئن بسطت إلي يدك لتقتلني } المائده 28 الآية ولكن الله عز وجل يقول { ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله } فاطر 43 وفي التوراة من حفر حفرة فليوسعها ولا تحفرن بئرا تريد بها أخا فأين وجدت ما يسوغ لك ارتكاب مثل هذا قولا أو فعل أو إشارة أو تصريحا أو تلويحا وأي جريمة توازي هذه الجريمة أو كبيرة من الآثام أكبر منها والله الموعد { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } الشعراء 227 هذا والسعاية المصحوبة بسؤالي عن دفاع سكتانه أين تجدون ما يوجب إباحتها أين غاب عنكم إنها من الكبائر وأين غاب عنكم قوله صلى الله عليه وسلم ( إن الرجل ليتكلم بكلمة يهوي بها في النار سبعين خريفا ) أهذا من أخلاق المؤمنين والصالحين وأنت من بيت الصلاح ما كان جدك يرضى مثل هذا { ما كان أبوك امرأ سوء } مريم 28 وهذا والله أعلم نتيجة قرناء السوء ولا تصحب من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله وإلى هذا ينتهي حق الصحبة أعني بذل النصح إن الله يسأل عن صحبة ساعة
____________________

ونحن صحبناك واعتقدناك ونصحناك ووعظناك ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ) فنصرناك بالرد إلى الجادة أين أنت من مولانا الحسن بن علي إذ تخلى عن الأمر لابن عمه معاوية مع أنه هاشمي علوي فاطمي إحدى ريحانتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعاوية أموي يجمعهما عبد مناف فتخلى عن الإمارة مع أنه إمام وابن إمام وأصلح الله به وهو سيد بين فئتين عظيمتين من المسلمين بعد أن كان يلقب بأمير المؤمنين فقال له بعض أصحابه إذ سلم عليه يا عار المؤمنين فلم يكترث بذلك وقال النار أشد من العار ألهمنا الله وإياكم رشد أنفسنا وجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه انتهى
ولم يزل الفقيه أبو زكرياء مصمما على طلب جمع الكلمة إلى أن اخترمته المنية قال صاحب الفوائد ما صورته قام الشيخ أبو زكرياء بجمع الكلمة والنظر في مصالح الأمة واستمر به علاج ذلك إلى أن توفي ولم يتم له أمر انتهى وكانت وفاته ليلة الخميس سادس جمادى الثانية من سنة خمس وثلاثين وألف بقصبة تارودانت وحمل من الغد إلى رباط والده فدفن بجنبه رحمه الله
____________________

بقية أخبار السلطان زيدان وذكر وفاته رحمه الله
قد ذكر المؤرخ لويز البرتغالي في كتابه الموضوع في أخبار الجديدة شيئا من أخبار السلطان زيدان رحمه الله فقال كان السلطان زيدان صاحب مراكش مسالما لنا كافا عن حربنا وكانت القبائل تفتات عليه في غزونا فكانت غاراتهم لا تنقطع عنا وكان هو أيضا معهم في شدة ومكابدة من أجل اعوجاجهم عليه ثم ذكر أن من جملة من غزاهم في دولته السيد سعيد الدكالي قلت وأظنه والد السيد إسماعيل صاحب الزاوية المشهورة ببلاد دكالة قال فنهض سعيد بحال وغيرة وامتعاض للإسلام وسار إلى الجبل الأخضر وغيره فجمع الجموع نحو اثني عشر ألفا وزحف بهم إلى الجديدة ووافقه على ذلك قائد آزمور وبعض أشياخ الشاوية وكانوا في نحو مائتين وخمسين من الخيل وارتاع النصارى منهم وخافوا خوفا شديدا وأمرهم قائدهم بالجد في حراسة الأسوار والأنقاب وأن يسدوا باب الجديدة ولا يفتحوا منه إلا خوخته وحاصرهم المسلمون ثلاثا ثم قضى الله بوفاة السيد سعيد فافترق ذلك الجمع قال لويز مات أسفا على ما فاته من الفتك بالنصارى كما يحب
وفي سنة أربع وثلاثين وألف خرج السلطان زيدان من مراكش وقصد ناحية آزمور ولما انتهى إلى الموضع المعروف بأم كرس من بلاد دكالة حمل إليه نصارى الجديدة هدية نفيسة ثم قدم ثغر آزمور في نحو أربعين ألفا من الخيل على ما زعم لويز ودخل البلد وأخرج أهل آزمور عدة مدافع من البارود فرحا به ولما سمع نصارى الجديدة بذلك أخرجوا مدافعهم أيضا فرحا بالسلطان وأدبا معه
____________________


وفي سنة ست وثلاثين وألف ثار على السلطان زيدان الفقير إبراهيم كانوت هكذا سماه لويز ولم أدر من هو قال وفي خامس عشر من دجنبر من السنة تواقف جيش الثائر المذكور مع جيش السلطان للحرب ببلاد دكالة وكان جيش السلطان يومئذ ألفا وخمسمائة فقط وجعل على مقدمته ابنه عبد الملك فانهزم إبراهيم وقتل وقتل جماعة كثيرة من أصحابه وقبض على ولده فبعثه السلطان مع عدد وافر من رؤوس أصحابه إلى مراكش وأخرج نصارى الجديدة المدافع أيضا فرحا بهذا الخبر فبعث إليهم السلطان زيدان بفرس أحمر لقائدهم إكراما له وكتب إليهم بكتاب تاريخه سادس رمضان سنة ست وثلاثين وألف مكافأة لهم على أدبهم معه انتهى كلام لويز وقال اليفرني رحمه الله كان السلطان زيدان من لدن مات أبوه المنصور وبويع هو بفاس في محاربة مع إخوته وأبنائهم ومقاتلة مع القائمين عليه من الثوار الذين تقدم ذكر بعضهم ولم يخل قط في سنة من سني دولته من هزيمة عليه أو وقيعة بأصحابه ووقعت بينه وبين إخوته معارك يشيب لها الوليد وكان ذلك سبب خلاء المغرب وخصوصا مدينة مراكش ومما عد عن نحس زيدان واستدل به على فشل ريحه أنه في بعض الوقائع بعث كاتبه عبد العزيز بن محمد التغلبي بعشرة قناطير من الذهب إلى صاحب القسطنطينية العظمى وطلب منه أن يمده ببعض أجناده كما فعل مع عمه عبد الملك الغازي فجهز له السلطان العثماني اثني عشر ألفا من جيش الترك وركبوا البحر فلما توسطوه غرقوا جميعا ولم ينج منهم إلا غراب واحد فيه شرذمة قليلة
وقال منويل إن قراصين الإصبنيول غنمت في بعض الأيام مركبا للسلطان زيدان فيه أثاث نفيسة من جملتها ثلاثة آلاف سفر من كتب الدين والأدب والفلسفة وغير ذلك
قال اليفرني وكان زيدان غير متوقف في الدماء ولا مبال بالعظائم قلت وهو مخالف لما ذكره زيدان في رسالته التي خاطب بها أبا زكرياء
____________________

المتقدمة من أنه ما سعى في قتل أحد إلا بفتوى أهل العلم والظن بزيدان أنه ما قال ذلك إلا عن صدق وإلا فمن البعيد أن يفخر على خصمه ويدلي بشيء هو متصف بضده
وكان زيدان فقيها مشاركا متضلعا في العلوم وله تفسير على القرآن العظيم اعتمد فيه على ابن عطية والزمخشري
قال اليفرني وكان كثير المراء والجدال كما وقع له مع الشيخ أبي العباس الصومعي قلت الذي وقع له مع الصومعي هو أنه لما ألف كتابه الموضوع في مناقب الشيخ أبي يعزى رضي الله عنه وسماه المعزى بضم الميم وفتح الزاي بصيغة اسم المفعول من الرباعي عارضه زيدان وهو يومئذ بتادلا واليا عليها من قبل أبيه بأنه لم يسمع الرباعي من هذه المادة وإنما قالت العرب عزاه يعزوه ثلاثيا فأصر أبو العباس رحمه الله على رأيه إلى أن لطمه زيدان على وجهه بالنعل فشكاه إلى المنصور فقال له لو لطمك وهو المخطئ لعاقبته أما إذا كان الصواب معه فلا
قلت كان زيدان يومئذ في عنفوان الشبيبة فصدر منه ما صدر
( فإن يك عامر قد قال جهلا ** فإن منظمة الجهل الشباب )
ومع ذلك فما كان من حقه أن يفعل وأظن أن انتكاس رايته سائر أيامه إنما هو أثر من آثار تلك اللطمة فإن لله تعالى غيرة على المنتسبين إلى جنابه العظيم وإن كانوا مقصرين فنسأله سبحانه أن يجنبنا موارد الشقاء ويسلك بنا مسالك الرفق في القضاء وللسلطان زيدان شعر لا بأس به منه قوله
( فتنتنا سوالف وخدود ** وعيون مدعجات رقود )
( ووجوه تبارك الله فيها ** وشعور على المناكب سود )
( أهلكتنا الملاح وهي ظباء ** وخضعنا لها ونحن أسود )
وقوله
( مررت بقبر هامد وسط روضة ** عليه من النوار مثل النمارق )
____________________


( فقلت لمن هذا فقالوا بذلة ** ترحم عليه إنه قبر عاشق )
وكانت وفاته رحمه الله في المحرم فاتح سنة سبع وثلاثين وألف ودفن بجانب قبر أبيه من قبور الأشراف قبلي جامع المنصور من قصبة مراكش ومما نقش على رخامة قبره قول القائل
( هذا ضريح من به ** تفتخر المفاخر )
( حامي حمى الدين ** بكل ذابل وباتر )
( لا زال صوب رحمة ** الله عليه ماطر )
( أرخ وفاة من غدا ** جارا لرب غافر )
( زيدان سبط أحمد ** مبتكر المآثر )
( أجل من خاض الوغا ** وللأعادي قاهر )
( ومن شذا رضوانه ** نفحة كل عاطر )
( بمقعد الصدق علا ** أبو المعالي الناصر )
ووزراؤه الباشا محمود ويحيى آجانا الوريكي وغيرهما وكتابه عبد العزيز الفشتالي كاتب أبيه وعبد العزيز بن محمد التغلبي وغيرهما وقضاته أبو عبد الله الرجراجي وغيره وترك عدة أولاد منهم عبد الملك والوليد ومحمد الشيخ وهؤلاء ولوا الأمر بعده وأحمد وغيرهم رحم الله الجميع الخبر عن دولة السلطان أبي مروان عبد الملك بن زيدان رحمه الله
لما توفي السلطان زيدان رحمه الله في التاريخ المتقدم بويع بعده ابنه عبد الملك ولما تمت له البيعة ثار عليه أخواه الوليد وأحمد فوقعت بينه وبينهما معارك وحروب إلى أن هزمهما واستولى على ما كان بيدهما من العدة والذخيرة وفر أحمد إلى بلاد الغرب فدخل حضرة فاس يوم الجمعة الخامس والعشرين من صفر بعد وفاة أبيه بستة وأربعين يوما فاتسم بسمة
____________________

السلطان وضرب سكته وفي ثالث عشر شوال من السنة عدا على ابن عمه محمد بن الشيخ المعروف بزغودة فقتله غدرا بالقصبة ولما كان الحادي عشر من ذي الحجة سنة سبع وثلاثين وألف أخذ أحمد المذكور وسجن بفاس الجديد على يد قائدهم عبو وباها وبقي مسجونا سبع سنين ثم خرج من السجن مستخفيا بين نساء في سابع رجب سنة أربع وأربعين وألف وأعلن العامة بنصره ولم يتم له أمر ثم توفي قتيلا في الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وألف رمي برصاصة من بعض العامة فكان منها حتفه وذلك بفاس الجديد ولم يتم له أمر ظهور أبي عبد الله العياشي بسلا ومبايعة أكابر عصره له على الجهاد والقيام بالحق
قد تقدم لنا انتقاض أندلس سلا على السلطان زيدان وقتلهم مولاه عجيبا فبقيت سلا فوضى لا والي بها فكثر النهب وامتدت أيدي اللصوص إلى المال والحريم وسيدي محمد العياشي ساكت لا يتكلم وكثرت الشكايات من التجار والمسافرين بمخافة السبل وقطع الطرقات فأهرع الناس إلى أبي عبد الله المذكور من كل جانب وكثرت وفوده وأشرقت في الجو السلاوي أنواره فشمر عن ساعد الجد وأظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ولما طالبه الناس بالتقدم عليهم والنظر في مصالح المسلمين وأمور جهادهم مع عدوهم أمر أشياخ القبائل وأعيانها من عرب وبربر ورؤساء الأمصار أن يضعوا خطوطهم في ظهير بأنهم رضوه وقدموه على أنفسهم والتزموا طاعته وأن أي قبيلة خرجت عن أمره كانوا معه يدا واحدة على مقاتلتها حتى تفيء إلى أمر الله فأعطوا بذلك خطوطهم في ظهير وأنهم رضوه وقدموه على أنفسهم ووافق على ذلك قضاة الوقت وفقهاؤه من تامسنا إلى تازا
____________________


وكان الحامل له على طلب ذلك منهم أنه بلغه عن بعض طلبة الوقت أنه قال لا يحل الجهاد إلا مع الأمير ففعل ذلك خروجا من تلك الدعوى الواهية وإلا فقد كتب له علماء الوقت كالإمام أبي محمد عبد الواحد بن عاشر والإمام أبي إسحاق إبراهيم الكلالي بضم الكاف المعقودة والإمام أبي عبد الله محمد العربي الفاسي وغيرهم بأن مقاتلة العدو الكافر لا تتوقف على وجود السلطان وإنما جماعة المسلمين تقوم مقامه ولما كمل أمره وبايعه الناس على إعلاء كلمة الله ورد الظلم عن ضعفاء الأمة ضاق الأمر على عرب المغرب لاعتيادهم الفساد وعدم الوازع ومحبتهم الخلاف والفتنة فنكث بيعته جماعة منهم
وكان من نكث الناصر بن الزبير في لمة من شراقة فقاتلهم أبو عبد الله حتى ظفر بهم ثم عفا عنهم ونكث أيضا الطاغي بالتاء بدل الطاء في لسانهم مع جموعه أولاد سجير فغلبهم وعفا عنهم وكذلك عرب الحياينة طغوا على أهل فاس وعاثوا خلال تلك البلاد بإغراء ولد السلطان زيدان فقاتلهم أبو عبد الله فكانت الدبرة عليهم وتاب على يده جماعة من رؤساء شراقة الذين كانوا مع الحياينة وكانت عاقبة كل من بغى عليه خسرا
وكان أهل سلا قد لقوا من نصارى المعمورة مضرة وشدة فلما اجتمعت الكلمة على أبي عبد الله العياشي ورد الله كيد من نكث في نحره كان أول ما بدأ به أنه تهيأ للخروج إلى حلق المعمورة واستعد لقتاله ومنازلة من فيه من النصارى طمعا في فتحه فيتقوى المسلمون بذخائره وكان المسلمون قد حاصروه قبل ذلك فلم يقدروا منه على شيء وصعب عليهم أمره وكان أبو عبد الله إذا أراد الله أن يظفره بغنيمة رأى في منامه أنه يسوق خنازير أو نحوها ولما سار بجموعه إلى الحلق ونزل عليه رأى قطعتين من
____________________

الخنازير معها عنوز فكان من قضاء الله وصنعه أنه في صبيحة تلك الليلة قدمت أغربة من سفن النصارى بقصد الدخول إلى الحلق فضيق عليهم رماة المسلمين الذين بالخندق فأرادوا أن ينحرفوا إلى البحر فردهم البحر إلى ساحل الرمل هنالك فتمكن المسلمون منهم وقتلوا وسبوا ووجدوا في الأغربة زهاء ثلاثمائة أسير من المسلمين فأعتقهم الله وأسر يومئذ من النصارى أكثر من ثلاثمائة وقتل منهم أكثر من مائتين وظفر المسلمون بقبطان من عظمائهم ففدى به الرئيس طابق رئيس أهل الجزائر وكان عندهم محبوسا في قفص من حديد
واستقامت الأمور لأبي عبد الله العياشي بسلا وبنى داره داخل باب المعلقة منها وبنى برجين على ساحل مرسي العدوتين من ناحية سلا وهما المعروفان اليوم بالبساتين
ثم كانت غزوة الحلق الكبرى وكان من خبرها أن جيش أهل فاس خرجوا بقصد الجهاد فنزلوا بموضع يعرف بعين السبع وكمنوا فيه ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع خرج النصارى إلى تلك الجهات على غرة فظفر بهم المسلمون وكان النصارى لما خرج جيش أهل فاس أعلمهم بذلك مسلم عندهم مرتد فأعطوه سلعا وجاء بها إلى سلا بقصد بيعها والتجسس لهم على الخبر فأخذ وقتل وعميت عليهم الأنباء إذ كانوا ينتظرون من يرد عليهم فيخبرهم ولما أبطأ عليهم خرجوا فلم يشعروا إلا بالخيل قد أحاطت بهم وقتل منهم نحو الستمائة ولم ينج إلا القليل حتى لم يبت في الحلق تلك الليلة إلا نحو أربعين رجلا منهم وغنم المسلمون منهم أربعمائة من العدة ولم يحضر أبو عبد الله العياشي في هذه الوقعة لأنه كان قد ذهب إلى طنجة حنقا على يوم المسامير لأن النصارى خذلهم الله كانوا قد صنعوا نوعا من المسمار بثلاثة رؤوس تنزل على الأرض والرابع يبقى مرفوعا وثبوا ذلك في مجالات القتال مكيدة عظيمة تتضرر منها الفرسان والرجالة فلما رجع وأعلم بضعف من بقي بالحلق بعث إلى أهل الأندلس بسلا يصنعون له السلالم كي يصعد بها إلى من بقي في الحلق فيستأصلهم فتثاقلوا عن صنعها غشا
____________________

للإسلام ومناواة لأبي عبد الله حتى جاء المدد لأهل الحلق وكانت تلك الرابطة بين أهل الأندلس والنصارى متوارثة من لدن كانوا بأرضهم فكانوا آنس بهم من أهل المغرب فلما أتى أبو عبد الله بالسلالم لم تغن بعد شيئا ومن هنالك استحكمت البغضاء بينه وبين أهل الأندلس وكان أهل الأندلس قد أعلموا النصارى بأن محلة أبي عبد الله النازلة لمحاصرة الحلق ليست لها إقامة فبلغ ذلك أبا عبد الله فأقام عليهم الحجة وشاور العلماء في قتالهم فأفتى أبو عبد الله العربي الفاسي وغيره بجواز مقاتلتهم لأنهم حادوا الله ورسوله ووالوا الكفار ونصحوهم ولأنهم تصرفوا في مال المسلمين ومنعوهم من الراتب وقطعوا البيع والشراء عن الناس وخصوا به أنفسهم وصادقوا النصارى وأمدوهم بالطعام والسلاح وكان سيدي عبد الواحد بن عاشر لم يجب عن هذه القضية حتى رأى بعينه حين قدم إلى سلا بقصد المرابطة فرأى أهل الأندلس يحملون الطعام إلى النصارى ويعلمونهم بعورة المسلمين فأفتى حينئذ بجواز مقاتلتهم فقاتلهم أبو عبد الله وحكم السيف في رقاب هم أياما إلى أن أخمد بدعتهم وجمع الكلمة بهم
ولما وقعت غزوة الحلق الكبرى قدمت الوفود على أبي عبد الله بقصد التهنئة بما منحه الله من الظفر فحض الناس على استئصال شافة من بقي بالحلق من النصارى وعير العرب بترك الكفار في بلادهم وكان ممن حضر من العرب جماعة من الخلط وبني مالك والتاغي والدخيسي وغيرهم فقال لهم أبو عبد الله والله والله والله إن لم تأخذكم النصارى لتأخذنكم البربر فقالوا يا سيدي كيف يكون هذا وأنت فينا فقال لهم اسكتوا أنتم الذين تقطعون رأسي فكان كذلك وهذا من كراماته رضي الله عنه ثم صرف عزمه إلى التضييق على نصارى العرائش وشن الغارات عليهم فتقدم في جمع من المسلمين وكمن بالغابة نحوا من سبعة أيام فخرجوا على حين غفلة فمكن الله من رقابهم وكان في مدة كمونه بالغابة أخذ حناشا من عرب طليق يقال له ابن عبود والحناش في لسان عامة أهل المغرب هو الجاسوس فأراد عبد الله قتله فقال له اسبقني وأنا تائب إلى الله وأنا أنفع المسلمين
____________________

إن شاء الله فتركه فذهب إلى النصارى وكان موثوقا به عندهم حتى كانوا يؤدون إليه الراتب فقال لهم إن أحياء العرب وحللها قد نزلوا بوادي العرائش فلو أغرتم عليهم لغنمتموهم فخرجوا فمكن الله منهم وطحنهم المسلمون في ساعة واحدة طحت الحصيد ولم ينج منهم إلا الشريد وكان ابن عبود قد بقي بأيديهم فأخذوه ومثلوا به ونزعوا أسنانه وأرادوا قتله لولا أنه رفعهم إلى شرعهم وكان عدد من قتل من النصارى نحو ألف وكانت هذه الوقعة سنة أربعين وألف بقية أخبار السلطان عبد الملك بن زيدان ووفاته
قال اليفرني كان عبد الملك بن زيدان فاسد السيرة مطموس البصيرة وبلغ من قلة ديانته أنه تزايد له مولود فأظهر أنه أراد أن يحتفل لسابعه فبعث إلى نساء أعيان مراكش ونساء خدامه أن يحضرن وصعد هو إلى منارة في داره فنظر إلى النساء وهن منتشرات قد وضعن ثيابهن فأيتهن أعجبته بعث إليها وكان مدمنا على شرب الخمر إلى أن قتله العلوج بمراكش وهو سكران يوم الأحد سادس عشر شعبان سنة أربعين وألف ودفن إلى جانب قبر أبيه
وبسط منويل خبر مقتله فقال لما ثار الوليد على أخيه عبد الملك وعادت الكرة عليه بقي متنقلا في البلاد ثم رغب إلى أخيه حتى رده إلى مراكش فأخذ الوليد يستميل رؤساء الدولة ووجوهها وتجارها ويعدهم بالإحسان حتى وافقوه على الفتك بأخيه فترصدوه حتى غفل البوابون ودخلوا عليه قبته وهو متكئ على طنفسة فرموه برصاصة وتناولوه بالخناجر المسماة عند المغاربة بالكميات وقامت الهيعة بالمشور والقصبة فخاف الوليد على نفسه من بعض قواد الجند فأخرج جنازة أخيه إلى المشور حتى شاهده الناس ميتا فسكنوا وانقطع أملهم وبايعوه انتهى قال اليفرني ومما رأيته منقوشا على رخامة قبره هذان البيتان
____________________


( لا تقنطن فإن الله منان ** وعنده للورى عفو وغفران )
( إن كان عندك إهمال ومعصية ** فعند ربك أفضال وإحسان )
ومن وزرائه محمد باشا العلج ويحيى آجانا الوريكي وجؤذر وغيرهم وقاضيه الفقيه أبو مهدي عيسى بن عبد الرحمن السكتاني قاضي مراكش ومفتيه أبو العباس أحمد السملالي رحم الله الجميع الخبر عن دولة السلطان أبي يزيد الوليد بن زيدان رحمه الله
لما قتل السلطان عبد الملك بن زيدان في التاريخ المتقدم بويع أخوه الوليد بن زيدان فلم يزل مقتصرا على ما كان لأخيه وأبيه من قبله لم يجاوز سلطانه مراكش وأعمالها وعظمت الفتن بفاس حتى عطلت الجمعة والتراويح من جامع القرويين مدة ولم يصل به ليلة القدر إلا رجل واحد من شدة الهول والحروب التي كانت بين أهل المدينة
واقتسم المغرب في أيام أولاد زيدان طوائف فكان حاله كحال الأندلس أيام طوائفها كما ذكرنا ونذكر بعد إن شاء الله ظهور أبي حسون السملالي المعروف بأبي دميعة بالسوس ثم استيلاؤه على درعة وسجلماسة وأعمالها
هذا الرجل هو أبو الحسن ويقال أبو حسون علي بن محمد بن محمد بن الولي الصالح أبي العباس أحمد بن موسى السملالي وكان بدء أمره أنه لما ضعف أمر السلطان زيدان بالصقع السوسي وفشل ريحه فيه نبغ هو فدعا لنفسه وجر نار الرياسة إلى قرصه وتألبت عليه البرابرة من بسائط جزولة وجبالها والتفت عليه غالب القبائل السوسية فاستولى على تارودانت وأعمالها إلى أن أخرجه عنها الفقيه أبو زكرياء بن عبد المنعم بعد حروب
____________________

وفتن عظيمة حسبما مرت الإشارة إليه
ولما توفي أبو زكرياء في التاريخ المتقدم صفا لأبي حسون قطر السوس ونفذ فيه أمره وسمعت كلمته ثم بعد مهلك زيدان مد يده إلى درعة فاستولى عليها ثم استولى سجلماسة ونواحيها فاستحكم أمره وتقوى عضده
ولم يزل أمره نافذا في سجلماسة إلى أن ثار عليه الأسد الهصور المولى محمد بن الشريف فأخرجه من سجلماسة بعد حروب يشيب لها الوليد ثم أخرجه من درعة أيضا على ما نذكره بعد وقد وقفت على سؤال رفع من جانب أبي حسون إلى القاضي أبي مهدي السكتاني في شأن مدينة إيليغ دار رياسته ومقر عزه يستفتيه في إحداث كنيسة اليهود بها هل يجوز أم لا وفيه مع ذلك بعض الكشف عن حال هذه المدينة فلنذكره ونصه
الحمد لله الذي ارتضى للإسلام دينا وأنزل به على خيرة خلقه كتابا مبينا الفقيه الأجل العلامة الأحفل القاضي الأعدل خاتمة المحققين ومعتمد الموثقين أبا مهدي عيسى بن عبد الرحمن السكتاني وفقه الله لما يرضيه وأعانه على ما هو متوليه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فقد تقرر عند سيدنا أمر هذه الحضرة العلية العلوية إيليغ أدم بهجتها كما رفع كغيرها من الحواضر درجتها وأنها محدثة فتوفرت ببركة بانيها عمارتها ومبانيها فاتخذها مسكنا أهل السهول والحزون وجمعت لطيب تربتها بين الضب والنون فنزلها برسم الاستيطان أو شاب من أهل الذمة بإذن مختطها
____________________

الإمام العالي الهمة فاختطوا بها عن إذنه منازلهم وبنوا بفنائها كنيستهم وصيروها متعبدهم فاتفق والحديث شجون أن جرى ببعض أندية علمائها ومحضر جمع من نبهاء البلدة وفقهائها كلام أفضى بهم إلى ذكر الكنيسة المذكورة والمجادلة في محصل الحكم الشرعي فيها في الدواوين المسطورة فأفتى بعضهم بوجوب هدمها لأنها محدثة ببلاد الإسلام ولما في تركها من المفاسد العظام وأنها لا تترك لهم متعبدا وجزم الكلام وقال هذا محصل ما ذكره في مثل هذه القضية الأعلام وأفتى فريق بجواز إبقائها وأنه لا ينبغي تقويض بنائها ولا التعرض لهم في إحداثها إذ على مثل هذا من دينهم الفاسد أقروا وأعطوا الذمة فأعطوا الجزية صاغرين ولم يرد منع اجتماع دينين إلا في جزيرة العرب وكم من بلد إسلامي محدث مشحون بالعلماء أحدثت فيه ولم يقولوا بمنعه وتواطؤهم على تركها كالنص والدليل على جواز إحداثها وإبقائها بعده واستمر الحجاج وكثر اللجاج ولم يقنع كل فريق بما أبداه الآخر من الاحتجاج فعطلت لذلك إلى أن تفرقوا فيها بعلمكم النافع بين العذب والأجاج بفتوى تبين صحيح الأقوال من سقيمها وتفصل بين ليلى وغريمها ولولا محل النازلة من الدين ما رفعت إليكم فلذلك وجب الجواب عنها عليكم مع مسألة أخرى وهي أنهم طلبوا أن تترك لهم بقعة يوارون فيها جيف موتاهم لأن مسافة ما بينهم وبين أفران التي هي مقبرة قديمة لهم بعيدة هل يساعفون أم لا والله يبقيكم ومجدكم محروس وظل من استزلكم مكنوس والسلام عليكم
الجواب
الحمد لله وعلى فقهاء بلادنا السوسية حرسها الله وأكرمهم باتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام ورحمة الله وبركاته أما بعد فقد وقف كاتبه عفا الله عنه على نازلة أهل الذمة النازلين بإيليغ مختط أولاد السيد البركة قطب بلادنا سيدي أحمد بن موسى نفعنا الله ببركاته وبارك في ذريته وسددهم لما فيه رضاه آمين ولما وقفت عليها وتأملتها فرأيت أن الصواب فيها الفتوى بمنع
____________________

إحداث أهل الذمة الكنائس فيها وبهدم ما بنى فيها بعد إحداثه لأن إيليغ من بلاد الإسلام ولا فيه شبهة لأهل الذمة الطارين عليه لا باعتبار الفتح العنوي ولا باعتبار الصلحي على الخلاف في المغرب باعتبار فتحه وحاصل أمرها خفاء الحال فيها وإذا كان الأمر هكذا فالحكم أنها ملك لمدعيها الحائز لها والأراضي أقسام أرض إسلام لا يجوز إحداث الكنائس بها باتفاق ثم إن وقع شيء من ذلك هدم وأرض إيليغ من هذا القسم فإن ملكوا الأرض التي بنوا فيها الكنيسة بوجه من وجوه التملك كالعطية وجب هدمها ونقضها ويكون لهم ما يسوغ من المنافع وإن كان بناء الكنيسة شرطا ردت العطية وفسخ البيع إن كان به لأنه في معنى التحبيس على الكنيسة والحاصل أن وجه دخول اليهود إيليغ معلوم وأن بلده ملك للإسلام فبناء اليهود فيها الكنائس معصية وتمكينهم منه إعانة عليها وهذا لا يخفى وأما الجواز والإفتاء به في النازلة فبمعزل عن الصواب والاستدلال على الجواز بحواضر المغرب وسكوت علمائها وموافقة أمرائها لا يتم لأن أصل تمكينهم من الكنائس مجهول إذ يحتمل أمورا منها أنه يحتمل أن يكون بعهد كان لهم في غير تلك البلاد من إقرارهم على بلد يسكنونه مع بقائهم على متعبداتهم ثم نقلوا لمصلحة اقتضت ذلك أو أرجح ولأن البلاد تقدم فيها اليهود وغيرهم من أهل الصلح والحاصل أن وجه دخولهم مجهول في هذه البلاد بخلاف إيليغ ونازلة إيليغ معلومة الدخول فبينهما بون فقياس إحداهما على الأخرى لا يصح وبالله التوفيق وكتب عيسى بن عبد الرحمن وفقه الله آمين
ولما علم المرابط بالحكم أمر بهدمها ومنع اليهود مما أرادوه
____________________

بقية أخبار السلطان الوليد ابن زيدان ووفاته رحمه الله
قال في شرح الزهرة كان الوليد بن زيدان متظاهرا بالديانة لين الجانب حتى رضيته الخاصة والعامة وكان مولعا بالسماع لا ينفك عنه ليلا ولا نهارا إلا أنه كان يقتل الأشراف من إخوته وبني عمه حتى أفنى أكثرهم وكان مع ذلك محبا في العلماء مائلا إليهم بكليته متواضعا لهم وله ألف القائد أبو الحسن علي بن الطيب منظومته المشهورة في الفواكه الصيفية والخريفية وألف القاضي أبو مهدي السكتاني شرح صغرى الصغرى للسنوسي برسمه والقصبة المعروفة بالوليدية على ساحل البحر المحيط فيما بين آسفي وتيط هي منسوبة إليه وأظنها من بنائه والله أعلم
وأما وفاته فسببها أن جنده من العلوج طالبوه بمرتبهم وأعطياتهم على العادة وقالوا له أعطنا ما نأكل فقال لهم على طريق التهكم كلوا قشر النارنج بالمسرة فغضبوا لذلك وكمن له أربعة منهم فقتلوه غدرا يوم الخميس الرابع عشر من رمضان المعظم سنة خمس وأربعين وألف
وقال منويل لما ولي الوليد قتل أخاه إسماعيل واثنين من أولاد أخيه عبد الملك وسبعة من بني عمه ولم يترك إلا أخاه الشيخ بن زيدان استصغارا له إذ كان سنه يومئذ إحدى عشرة سنة وكانت أمه تخاف عليه من الوليد فكانت تحرسه منه حراسة شديدة وألقى الله محبته في قلب سائر نساء القصر لما رأين من هلاك الأعياص وعرضه الملك للزوال وكن حازمات يقمن مقام الرجال حتى إن بعضهن كانت لها طبنجات في حزامها دائما تحرس الشيخ من أخيه الوليد
ثم إن رؤساء الدولة سئموا ملكته فاتفقوا مع نساء القصر على قتله
____________________

وكان الوليد عازما على قتل أخيه الشيخ أيضا فاحتال بأن صنع ذات ليلة صنيعا عظيما وطعاما كثيرا دعا إليه وجوه الدولة وأعيان مراكش وكان أخوه الشيخ عنده في الدار لا يتركه يخرج بحال وعزم أنه إذا اشتغل نساء القصر بأمر الطعام ونحوه خالف إليه وقتله فكان من قدر الله أن العلوج قد عزموا في تلك الليلة على اغتيال الوليد فكمنوا له في الحجرة التي كان الشيخ محبوسا فيها ثم لما جاء الوقت واجتمع الناس في القبة التي أعدها لهم الوليد قام ودخل إلى الحجرة التي فيها الشيخ للفتك به فوجد الأعلاج كامنين له هناك فلما رآهم فزع وقال ما لكم فرموه بالرصاص ثم تناولوه بالخناجر حتى فاظ انتهى الخبر عن دولة السلطان أبي عبد الله محمد الشيخ بن زيدان رحمه الله
لما قتل السلطان الوليد في التاريخ المتقدم اختلف الناس فيمن يقدمونه للولاية عليهم ثم أجمع رأيهم على مبايعة أخيه محمد الشيخ وإلقاء القيادة إليه فأخرجوه من السجن وكان أخوه الوليد قد سجنه إذ كان يتخوف منه الخروج عليه فبويع بمراكش يوم الجمعة الخامس عشر من رمضان سنة خمس وأربعين وألف ولما بويع سار في الناس سيرة حميدة وألان الجانب للكافة وكان متواضع في نفسه صفوحا عن الهفوات متوقفا عن سفك الدماء مائلا إلى الراحة والدعاء متظاهرا بالخير ومحبة الصالحين وهو الذي بنا على قبر الشيخ أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الدلائي بزاويته قبة حافلة البناء رائقة الصنعة إلا أنه كان مكنوس الراية مهزوم الجيش وبسبب ذلك لم يصف له مما كان بيد أبيه وإخوته إلا مراكش وبعض أعمالها
____________________


وقد ثار عليه رجل من هشتوكة خارج باب الخميس من مراكش وقاسى في محاربته تعبا شديدا ولم يزل يناوشه القتال إلى أن كانت له عليه الكرة ففرق جمعه ثم خرجت عليه أيضا قبيلة الشياظمة فقصدهم وكانت الملاقاة بينه وبينهم عند جبل الحديد فانهزم هزيمة شنعاء ثم حدث بينه وبين أهل زاوية الدلائي ما نذكره بعد إن شاء الله
ومما ذكره منويل من أخباره أنه كان محسنا لسائر رعيته وكان حاله على الضد من جور أخيه الوليد وعسفه قال وسرح الفرايلية الذين كانوا في سجن مراكش وأعطاهم الكنيسة التي بالسجينة منها وخالفت عليه سلا وأعمالها انتهى بقية أخبار أبي عبد الله العياشي بسلا والثغور وما يتبع ذلك
كان أمر أبي عبد الله العياشي بسلا وسائر بلاد المغرب على ما وصفناه قبل من جهاد العدو والتضييق عليه والمصابرة له والإبلاغ في نكايته فانتعش به الإسلام وازدهرت الأيام ودخلت في طاعته القبائل والأمصار من تامسنا إلى تازا كما قلنا لا سيما فاس وأعلامها فإنهم قد شايعوه وتابعوه على ما كان بصدده من الجهاد والرباط وحصل لهم بصحبته وولايته أتم اغتباط ولم يزل في نحر العدو إلى أن أمن سرب المسلمين وحق القول على الكافرين
____________________

وفادة أعلام فاس وأشرافها على أبي عبد الله العياشي بسلا
هذه الوفادة قد ذكرها الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن أحمد ميارة الفاسي في فاتحة شرحه الصغير على المرشد المعين
قال في نشر المثاني وسببها ما وقع من الحرب بين أهل فاس وبين الحياينة وشراقة على قنطرة وادي سبو وقتل فيها من أهل فاس خمسة وأربعون رجلا فخرج شرفاء فاس وفقهاؤها إلى سلا مستغيثين بأبي عبد الله العياشي قال وكان الذي أغرى الحياينة بفاس هو أحمد بن زيدان التفوا عليه وقاموا بدعوته ووصلوا أيديهم بشراقة وفعلوا بفاس وأهلها الأفاعيل حتى اختطفوا في بعض الأيام نساءهم من الجنات وباعوهن في القبائل وفعلوا بهن ما لا يجوز قال الشيخ ميارة قد من علي ذو العظمة والجلال الكريم المتفضل المتعال بزيارة الولي الصالح العالم العامل السائح قطب الزمان وكهف الأمان المجاهد في سبيل رب العالمين المرابط في الثغور مدة عمره لحياطة المسلمين ذي الكرامات الشهيرة العديدة والفتوحات العظيمة الحميدة من لا شبيه له في عصره وما قرب منه ولا نظير ولا معين له على نصرة الإسلام ولا نصير إلا الله الذي تفضل به علينا وأقره بمنه وجوده بين أظهرنا فهو كما قيل
( حلف الزمان ليأتين بمثله ** حنثت يمينك يا زمان فكفر )
البركة القدوة المجاب الدعوة أبي عبد الله سيدي محمد بن أحمد العياشي أبقى الله بركته وعظم حرمته وبلغه من خير الدارين أمنيته وأطال للمسلمين عمره وقواه وجعل الجنة نزله ومأواه مع جماعة من أعيان السادة من الشرفاء والفقهاء القادة وذلك أواسط ذي الحجة الحرام متم سبعة وأربعين وألف عام وهو رزقنا الله رضاه بثغر سلا أمنها الله من كل مكروه وبلا فاجتمعت إذ ذاك بنجله السعيد الموفق الرشيد العالم الهمام
____________________

حجة الله في الإسلام ذي العقل الراجح والهدي الواضح عهود من الآباء توارثتها الأبناء المتواضع الخاشع صاحب القلم البارع سيدي وسندي أبي محمد عبد الله سلمه الله من كل مكروه ووقاه فحضني حفظه الله على اختصار الشرح المذكور يعني شرحه الكبير على المرشد المعين بعد أن طالع جله وسر به كل السرور وحث علي في تقديم ذلك على جميع الأمور فلما قفلت من وجهتي شرعت في ذلك تاركا للتسويف طالبا من المولى سبحانه السلامة من الخطأ والتحريف انتهى المقصود منه
قال في نشر المثاني إن أبا عبد الله العياشي قدم فاسا ونظر في أمرها وغزا عرب الحياينة مرارا وأثخن فيهم حتى خضعوا للطاعة إيقاع أبي عبد الله العياشي بنصارى الجديدة
سبب هذه الغزوة كما ذكره الفقيه العلامة قاضي تامسنا أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد الغنامي الشاوي المعروف بسيدي رحو الغنامي أن نصارى الجديدة عقدوا المهادنة مع أهل آزمور مدة فكان من عزة النصارى وذلة المسلمين في تلك المدة ما تنفطر منه الأكباد وتخر له الأطواد فمن ذلك أن زوجة قبطانهم خرجت ذات يوم في محفتها ومعها صواحباتها إلى أن وصلت حلة العرب فتلقاها أهل الحلة بالزغاريت والفرح وصنعوا لها من الأطعمة وحملوا لها من هدايا الدجاج والحليب والبيض شيئا كثيرا فظلت عندهم في فرح عظيم ولما كان الليل رجعت ووقع لها أيضا أنها أمرت القبطان زوجها أن يخرج بجيشه ويبعث إلى قائد آزمور أن يخرج بجيش المسلمين فيلعبوا فيما بينهم وهي تنظر إليهم بقصد الفرجة والنزهة فكان كذلك فجعلوا يلعبون وهي تتفرج فيهم فما كان بأسرع من أن حمل نصراني على مسلم فقتله فكلم قائد المسلمين القبطان وأخبره بما وقع فقال له القبطان فما يضركم إن مات شهيدا يهزأ بالمسلمين ويسخر منهم قال
____________________

وكان الولي الصالح العابد الناسك الزاهد المجاهد رافع لواء الإسلام ومحيي منهاج النبي صلى الله عليه وسلم سيدي محمد العياشي كلما سمع شيئا من ذلك تغير وبات لا يلتذ بطعام ولا منام وهو يفكر كيف تكون الحيلة في زوال المعرة عن المسلمين بتلك الجهة وغسل أعراضهم من وسخ الإهانة وهو مع ذلك يخاف من العيون الذين يرصدونه من صاحب مراكش وقائد آزمور ومن قبطان الجديدة إذ كان ما خلف وادي أم الربيع إلى مراكش باقيا في دعوة السلطان لم يدخل في دعوة أبي عبد الله المذكور فمكث كذلك ثلاث سنين ولما رأى أن الأمر لا يزيد إلا شدة أوعز إلى بعض أولاد ذؤيب من أولاد أبي عزيز أن يجلبوا إلى النصارى شيئا من القمح خفية وأن يكون ذلك شيئا فشيئا حتى تطمئن نفوسهم ويذوقوا حلاوته ويوهمهم النصح والمحبة فلما حصل ذلك جاءه جماعة منهم وأخبروه الخبر وأطلعوه على غرة النصارى خذلهم الله فعزم على قصد الجديدة ثم بدا له في تقديم غزو العرائش ثم يأتي الجديدة بغتة ففعل رحمه الله وكان ذلك أوائل صفر سنة تسع وأربعين وألف
ثم عزم على قصد الجديدة فذكروا له أن وادي أم الربيع في نهاية المد والامتلاء فلم ينته عن ذلك وسار حتى بلغ الوادي المذكور على مشرع أبي الأعوان فوجده ممتلئا جدا لا يكاد يدخله أحد إلا غرق فقال لأصحابه وسائر من معه توكلوا على الله واجتهدوا في الدعاء ثم اقتحم الوادي بفرسه وتبعه الناس فعبروا جميعا ولم يتأذ منهم أحد وكان الماء يصل إلى قريب من ركب خيلهم مع أن مد ذلك الوادي حين امتلائه لا يدرك له قعر عند الناس كما هو شهير وهذه كرامة عظيمة وقعت له رضي الله عنه وكان القاضي أبو زيد الغنامي حاضرا لها وشاهدها ولم يقع مثل هذا فيما علمناه إلا للصحابة رضي الله عنهم مثل ما وقع لسعد بن أبي وقاص في عبوره دجلة لفتح المدائن ومثل ما وقع للعلاء بن الحضرمي في فتح بعض بلاد فارس وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
____________________


ولما وصل أبو عبد الله إلى الجديدة وجد طائفة من أولاد أبي عزيز قد نذروا به ولجؤوا إلى القبطان خوفا منه أن يوقع بهم لأجل مهادنتهم للكفار واتصالهم بهم فخرج القبطان في خيله وكان سيدي محمد كامنا بإزاء الجديدة بالغابة التي كانت هناك وقد زالت اليوم فلما انفصل القبطان بجيشه عن الجديدة حمل عليهم أبو عبد الله فقطعهم عنها ففروا إلى جهة البحر فأوقع بهم فهلكوا ولم ينج منهم إلا سبعة وعشرون رجلا فتغير صاحب مراكش من ذلك وأنكر ما صنع أبو عبد الله وكذا أنكره قاضيه الفقيه أبو مهدي السكتاني
وقد ذكر لويز مارية خبر هذه الوقعة فقال إن طائفة من المسلمين قدموا على قائد البرتغال بالجديدة وقالوا له إنا قد جئناك من عند المولى محمد بن الشريف يطلب منك تعينه بجماعة من عسكرك على بعض عدوه فأسعفهم بذلك وكان شابا غرا لم يجرب الأمور فنهاه بعض كبار عسكره وحذره عاقبة الغدر فأبى وعزم على الخروج مع أولئك المسلمين وتقاعد عنه عسكره فقال لهم إني أخرج وحدي وذهب ليخرج وحده فتبعوه حينئذ وكانوا مائة وأربعين فارسا فلما انفصلوا عن الجديدة بمسافة وجدوا خيلا كثيرة كامنة لهم فلم يشعروا حتى أحاطت بهم نصف دائرة منهم فما كلموهم حتى كملت الدائرة عليهم وصاروا مركزها فحينئذ التفت قائد العسكر إلى ذلك الرجل الذي نهاه عن الخروج وقال له ما الحيلة فأجابه بأن الحيلة القتال حتى نموت ثم أنشد له شعرا مضمنه إني أشرت عليك وأنت أعظم جاها مني فلم تسمع والآن نقتل معا وتختلط دماؤنا حتى لا يتميزان ولا يعرف دم الشريف من الوضيع والحاصل أن المسلمين أوقعوا بهم حتى لم يرجع منهم إلى الجديدة إلا ثلاثة وأسر منهم خمسة عشر أحياء والباقي أتى عليه القتل وقامت بالجديدة مناحة عظيمة لم يتقدم مثلها وسجن الأسارى بسلا سنين في بعض دهاليزها حتى افتداهم سلطانهم خوان الذي جمع مملكتهم من يد الإصبنيول انتهى
____________________


ولما قدم سيدي محمد العياشي من هذه الغزوة سار إلى فاس للنظر في أمرها لما هاج من الحرب بين أهلها وذلك أن رجلا منهم يقال له ابن الزين عدا على رجل آخر يقال له أحمد عميرة فرماه برصاصة من علية مسجد فوق سويقة ابن صافي فقتله وهاجت الحرب بفاس بين أهل عدوة الأندلس وكان المقتول رئيسهم وبين اللمطيين فقدم سيدي محمد العياشي فاسا في آخر جمادى سنة خمسين وألف فأصلح بينهم وأقاد من قاتل عميرة كبير الأندلسيين وبالجملة فغزوات سيدي محمد العياشي رحمه الله كثيرة وذبه عن الإسلام وحمايته للدين مما هو شهير عند الخاص والعام
وفي هذه الغزوة يقول الكاتب الأديب أبو عبد الله محمد بن أحمد الكلاني مادحا لسيدي محمد العياشي ومشيرا إلى الكرامة التي وقعت له في عبور النهر
( حديث العلا عنكم يسير به الركب ** وينقله في صحفه الشرق والغرب )
( وحبكم فرض على كل مسلم ** تنال به الزلفى من الله والقرب )
( فأنت رفيع من أصول رفيعة ** نجوم الدياجي في الأنام لها سرب )
( سمي رسول الله ناصر دينه ** تجلى بكم عن أفقه الشك والريب )
( ولم أر بحرا جاوز البحر قبلكم ** تجود لمستجد أنامله السحب )
( وما يستوي البحران عندي فإن ذا ** أجاج لعمري في المذاق وذا عذب )
وكان رحمه الله عازما على أخذ العرائش فحال بينه وبينها انصرام الأجل وكذلك كان ملحا على أخذ طنجة فلم تساعده الأقدار
____________________

مقتل أبي عبد الله العياشي رحمه الله والسبب فيه
قدمنا أن أهل الأندلس بسلا تحزبوا على أبي عبد الله العياشي ورموه عن قوس واحدة وأنه كان قد اطلع على خبثهم ونصحهم للكفر وأهله وأنه استفتى العلماء فيهم فأفتوه بإباحة قتال من هذه صفته فأطلق فيهم السبيل أياما فقتل من وجد منهم وهرب أكثرهم فهربت طائفة منهم إلى مراكش وهربت طائفة إلى الجزائر وأخرى إلى النصارى وفرقة إلى زاوية الدلاء فجاء أهل الدلاء يشفعون في أهل الأندلس فأبى أبو عبد الله أن يقبل فيهم الشفاعة وقال إن الرأي في استئصال شأفتهم فلما رأى أهل الدلاء امتناعه ورد شفاعتهم غضبوا لذلك وأجمعوا على حربه ومن قبل ما كانت القوارص تسري منهم إليه يدل على ذلك الرسالة التي كتب بها الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الدلائي إلى أبي عبد الله العياشي ونصها الحمد لله الحليم العفو الرؤوف المنزه عن صفات من وصف بها مؤف و صلى الله عليه وسلم مدينة العلم المسورة بسور السماحة والحلم وعلى ساداتنا آله وصحبه وكل من انتظم في سلك أتباعهم من أهل حزبه هذا وإن المجلى بنور طلعته ظلم الظلم والفساد المحلي خزائن المعالي بموجبات النفاق على حين الكساد المستوطن حبه بسويداء الفؤاد من ألقت إليه المكارم أزمة الانقياد وصلحت به بحمد الله العباد والبلاد حوطة الإسلام وحمايته وخديم الدين المحمدي وكفايته سيدي محمد بن أحمد العياشي المحمود الأوصاف بشهادة من يعد من أهل الإنصاف زاده الله من المكارم أعلاها ومن نفائس درر المجد أغلاها وتوجه بتاج الكرامة والرضى وأمده بدائم مدده السرمدي حتى يرضى وسلم جنابه القدسي العلمي العملي المرابطي المجاهدي من جميع البلايا وأتحفه من تحفه الفاضلة الوهبية بأعلى المزايا وأهدى إليه من طيب بركاته ورحماته ما يرضاه دينه العلمي لحماته قد شهدنا على أنفسنا بالإقرار بفضله علينا وأن ما يسره يسرنا وما
____________________

يضره يضرنا علم ذلك منا يقينا من له معنا أدنى مخالطة بحيث لا يمكنه أن يدفع ذلك بنوع من المغالطة وإن الضار بالعين ضار بإنسانها لكن النفوس الإنسانية محل لخطاها ونسيانها ومن أقمناه لديكم مقام الخادم والولد قد ساءنا منه ما ساءكم مما عنه ورد وطلبنا من جميل أوصافكم معاملته بالصفح والجميل فلن يزال الإنسان إلا من عصمه الله يستمال أو يميل ولولا الحرارة ما عرف الظل ولولا الوابل لقيل النهاية في الطل وما عرف العفو لولا الإساءة ولا يقال صبر المرء إلا فيما ساءه وما عرفنا صاحبه إلا محبا لجانب كل من للدين ينتسب فإن خرج عن نظركم فقد أتاه الغلط من لا يحتسب انتهى
وكان الشيخ ابن أبي بكر رحمه الله يطيل الثناء على أبي عبد الله العياشي ويذيع محاسنه وكان يقول في دعائه اللهم أجز عنا سيدي محمد العياشي أفضل المجازاة وكافه أحسن المكافأة واجعل مكافأتك له كشف الحجب عن قلبه حتى تكون أقرب إليه منه اللهم لا تحرمه توجهه إليك وانقطاعه لخدمتك اللهم نفس كربته وكمل رغبته وأجب دعوته وسدد رميته واردد له الكرة على من عداه في الحق إنك على كل شيء قدير انتهى
فهذا حال الشيخ ابن أبي بكر رحمه الله مع أبي عبد الله العياشي ثم قدر الله أن حدث بين أولاده وبين العياشي من النفرة ما أفضى إلى المقاتلة وذلك بسبب رده شفاعتهم في أهل الأندلس وأمور أخر فأجمعوا على حربه كما قلنا فخرج إليهم أبو عبد الله العياشي فأوقع بهم وهزم جموعهم وفتك بالعرب الذين كانوا مع التاغي فتفرقت الجموع وتبرأ التابع من المتبوع
ثم ذهب أبو عبد الله العياشي إلى طنجة بقصد الجهاد فلما قفل من غزوه وجد البربر من أهل الدلاء قد وصلوا إلى أطراف أزغار ومعهم التاغي والدخيسي وأهل حزبهم من الكدادرة وغيرهم وعزموا على مصادمة أبي عبد الله فأراد أن يغض الطرف عنهم ويصرف عنانه عن جهتهم فلم يزل أصحابه
____________________

به إلى أن برز لمقاتلتهم فلما التقى الجمعان كانت الدبرة على أبي عبد الله العياشي وقتل فرسه تحته فرجع إلى بلاد الخلط وكان رؤساء الخلط أكثرهم في حزب التاغي وعلى رأي الكدادرة فرجعت البربر إلى أوطانهم وبقي أبو عبد الله العياشي عند الخلط أياما ثم غدروا به فقتلوه بموضع يسمى عين القصب واحتزوا رأسه وحمله بعضهم إلى سلا وكأنه حمله إلى أهل الأندلس إذ هم أعداؤه بها قال في شرح المثاني ودفنت جثته بإزاء روضة أبي الشتاء رضي الله عنه
ومن كراماته المتواترة أنهم لما حملوا الرأس سمعوه ليلا وهو يقرأ القرآن جهارا حتى علمه جميع من حضر فردوه إلى مكانه وتاب بسببه جماعة من الناس وأما القبة المنسوبة إليه بقبيلة أولاد أبي عزيز من بلاد دكالة فالظاهر أنها متخذة على بعض معاهده التي كان يأوي إليها أيام كونه بالقبيلة المذكورة في ابتداء أمره كما مر وليس هناك قبر له على الصحيح
ولما قتل أبو عبد الله العياشي فرح النصارى بمقتله غاية الفرح وأعطوا البشارة على ذلك وعملوا المفرحات ثلاثة أيام وكان مقتله رحمه الله تاسع عشر المحرم سنة إحدى وخمسين وألف وقد رمزوا لتاريخ وفاته بقولهم مات زرب الإسلام بإسقاط ألف الوصل وحدث رجل أنه كان بالإسكندرية فرأى النصارى يومئذ يفرحون ويخرجون أنفاضهم فسألهم فقالوا له قتل سانطو بالمغرب وفي الرحلة لأبي سالم العياشي قال أخبرني الشيخ محمد الفزاري بمكة قال كان بالمدينة المشرفة رجل مغربي من أهل القصر في السنة التي قتل فيها الولي الصالح المجاهد سيدي محمد بن أحمد العياشي قال فجاءني ذات يوم وقال لي إني رأيت في النوم أختي ورأيت رجلا جالسا مقطوع اليد تسيل دما فقلت له من أنت قال الإسلام قطعت يدي بسلا قال فلما أخبرني قلت له الذي يظهر لي من رؤياك أن الرجل الصالح المجاهد الذي كان بسلا قد قتل قال وبعد ذلك في آخر السنة قدم حجاج المغرب فأخبرونا بموته
____________________


وقد رثي رحمه الله بقصائد كثيرة منها قصيدة الأديب البليغ أبي العباس أحمد الدغوغي التي ذكرها في النزهة ويحكى أنه وجد مقيدا بخط أبي عبد الله العياشي المذكور أن جملة ما قتله من الكفار في غزواته سبعة آلاف وستمائة وسبعون ونيف ومما مدحه به العلامة الإمام الشهير أبو محمد عبد الواحد بن عاشر قوله
( يا حادي الأظعان في الرياشي ** أبلغ سلامي فخرنا العياشي )
( من نوره بدا وفضله غدا ** تحدو به الركبان والمواشي )
( طود الهدى عين الندى فرد الورى ** فريد وقته الإمام الخاشي )
( لله سيف صارم وقاصم ** ظهر العدا كبيرهم والناشي )
( يتركهم عند اللقا رهن الشقا ** صرعى على الأرض كما الكباشي )
( يا مسلمين تهنيكم حياتكم ** ما عاش فيكم سيدي العياشي )
( أنام لا شك الأنام الكل في ** ظل الأمان لين الفراش )
( يا عاذلي في حبه عذلك دع ** ولا تحدثني حديث الواشي )
( إني امرء بالحسن مفتون وعن ** جميع لوم لائمي عاشي )
( هديتي إلى الكرام أبرزت ** سلامها للسامعين فاشي )
وثناء الناس عليه كثير فقد أثنى عليه الشيخ ميارة كما مر وأبو عبد الله محمد العربي الفاسي وابن أبي بكر الدلائي وغيرهم
وكان رحمه الله مجاب الدعوة ما دعا الله في شيء إلا استجيب له شوهد ذلك منه مرارا ومن أدعيته المحفوظة عنه اللهم إني أسألك باسمك السريع المجيب الذي خزنت فيه فواتح رحمتك وخواتم إرادتك وسرعة إجابتك يا سريع لمن قصده يا قريب ممن سأله يا مجيب من دعاه أسرع لي بقضاء حاجتي وبلوغ إرادتي يا سميع يا مجيب يا سريع يا قريب آمين آمين آمين يا رب العالمين
وكان فقيها مشاركا في الفنون وله أتباع ظهرت عليهم بركاته ولاح عليهم سره ومن أتباعه الشيخ أبو الوفاء إسماعيل بن سعيد الدكالي
____________________

القاسمي صاحب الزاوية المشهورة ببلاد دكالة ومن أتباعه أيضا المقدم المجاهد أبو العباس الخضر غيلان الجرفطي وقد ذكر ذلك الشيخ أبو عبد الله محمد بن ناصر الدرعي في رسالة كتب بها إلى المجاهد المذكور يقول فيها ما نصه من عبيد الله تعالى محمد بن ناصر كان الله له إلى الفارس القائم بنصر دين الله البائع نفسه في إعلاء كلمة الله الخضر غيلان سلام عليك ورحمة الله وبركاته وإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإني احبك في الله وإن لساني لهج بالتضرع إلى الله تعالى في نصرك على الكافرين منذ خرج النجليز والباعث على إعلامك بهذا أمران أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم ( إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه ) والثاني استنهاض همتك للجد فيما أنت بصدده من الجهاد وعدم الالتفات إلى ما تورط فيه غيرك من الاغترار بالفاني فأنت ما دمت في هذا على طريق صالحة وعباد الله الصالحون كلهم معك ورحم الله صاحبك الذي أسس لك هذه الطريق الصالحة ورباك عليها أعني أمير المؤمنين نور البلاد المغربية سيدي محمد العياشي جزاه الله عنا وإياك عن المسلمين خيرا فهو سيدنا وسيد غيرنا الذي ندين الله بمحبته ويجب علينا وعلى المسلمين تعظيمه وتعظيم من هو منه بسبيل ثم قال الشيخ ابن ناصر رحمه الله بعد كلام ما نصه وتستوصي بآل سيدنا وسيد المسلمين في زمانه كافة خيرا سيدي محمد العياشي فهو عزك وبتعظيمهم قوام أمرك وهذا من نصيحتي إليك التي هي من نتيجة محبتنا لك فعاملهم بالوفاء ولا تؤاخذهم بالجفاء انتهى المقصود منه
ولولد سيدي محمد العياشي وهو الفقيه العلامة سيدي عبد الله أرجوزة نظم فيها أهل بدر وتوسل بهم إلى الله تعالى في هلاك الذين تمالؤوا على قتل أبيه فلم تمض إلا مدة يسيرة حتى دارت عليهم دائرة السوء ولم ينج منهم أحد
وفي البستان إن أبا عبد الله محمد الحاج الدلائي دخل بلاد الغرب وذلك بعد مقتل أبي عبد الله العياشي فلقيه ولده سيدي عبد الله
____________________

المذكور بجموع الغرب بوادي الطين فوقعت الحرب في قبائل وانتهبت حللهم ومواشيهم انتهى وكان ذلك في أوائل ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وألف
ولسيدي عبد الله ابن سيدي محمد العياشي في بعض زياراته لأبيه قوله
( أتينا إليك وأنفسنا ** تكاد من الخوف منك تذوب )
( ولم ندر أين هواك الذي ** تحب فتنحو إليه القلوب )
( أقمنا فخفنا وجئنا فخفنا ** فمن خوفنا قد دهتنا خطوب )
( فها نحن من خوفنا منك حيرى ** وها نحن من خوفنا منك شيب )
قال اليرفني في الصفوة وأخبرني حافده العلامة قاضي القضاة أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد العياشي أن جده سيدي عبد الله المذكور كان قد أصابه مرض أعيى الأطباء علاجه فلما طال عليه أمره رغب منهم أن يحملوه إلى ضريح الشيخ سيدي الحاج أحمد بن عاشر بسلا فلما وقف على الضريح أنشد ارتجالا
( أقول لدائي إذ تفاقم أمره ** وعز الدوا من كل من هو ناصري )
( إلا فانصرف بالله عني إنني ** أنا اليوم جار للولي ابن عاشر )
قال فكأنما نشط من عقال وانقشع عنه سحاب ذلك الضرر في الحال وكانت وفاة سيدي عبد الله المذكور ليلة عرفة سنة ثلاث وسبعين وألف ودفن بجوار الولي الأشهر الشيخ أبي سلهام من بلاد الغرب وبنيت عليه قبة صغيرة وأخبار العياشيين ومحاسنهم كثيرة وبيتهم بيت خير وصلاح رحمهم الله ونفعنا بهم آمين
____________________

ظهور أهل زاوية الدلاء وأوليتهم بجبال تادلا وما يتبع ذلك
أما نسبتهم فهم من برابرة مجاط بطن من صنهاجة حسبما ذكره ابن خلدون وغيره وكان مبدأ أمر أهل زاوية الدلاء أن جدهم الولي الأشهر سيدي أبا بكر بن محمد وهوا لمعروف بحمي بن سعيد بن أحمد بن عمر بن يسري المجاطي كان ممن أخذ عن الشيخ الصالح أبي عمرو القسطلي دفين مراكش وسكن الدلاء واتخذ هنالك زاوية فجاء ولده الولي الأظهر أبو عبد الله محمد بن أبي بكر فكمل من الفضائل ما بقي وأبدى من الأسرار ما خفي فتناقل الركبان حديث هذه الزاوية وقصدها الناس من كل ناحية إلى أن كان من أولاد الرجلين ما نذكره
وأخذ الشيخ محمد فتحا بن أبي بكر عن الشيخ أبي عبد الله محمد الشرقي فحصل له من الحظوة والوجاهة فوق ما كان لسائر من عاصره وكان أعلام الوقت كالحافظ أبي العباس المقري والحافظ أبي العباس بن يوسف الفاسي والإمام أبي محمد بن عاشر والفقيه العلامة أبي عبد الله محمد ميارة وغيرهم يقصدون زيارته والتبرك به ويراجعونه في عويص المسائل العلمية وكان رحمه الله عالما حافظا دراكا متوسعا في علمي التفسير والحديث وعلم الكلام حسن المشاركة فيها وفي غيرها وكانت وفاته سنة ست وأربعين وألف
قال اليفرني وحدثني غير واحد من أشياخنا أنه لما دنت وفاته جمع أولاده وعشيرته وقال لهم { إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده } البقرة 249 وأنا أقول لكم ولا ومن اغترف غرفة بيده يشير بذلك إلى ما تجاذبوه من أمر الرياسة بعده وذلك من مكاشفاته رضي الله عنه وقد اعترض عليه بعض الطلبة في قوله وأنا أقول بأنه سوء أدب لمقابلة كلام الله بكلامه وأجاب عنه
____________________

حافده وهو الفقيه العلامة الشهير أبو عبد الله محمد بن أحمد بن المسناوي بن محمد بن أبي بكر برسالة مستقلة
ولما توفي خلف من الأولاد عدة فكان أكبرهم أبو عبد الله محمد الملقب بالحاج لأنه حج مع أبيه ووحده مرارا ويقال إنه خطب الناس يوم عرفة على ظهر الجبل لأمر اقتضاه الحال ولم يكن ذلك لأحد من أهل المغرب قبله وفي أيامه تكامل أمر أهل الدلاء وشاع ذكرهم
وكان للزاوية في أيامه وأيام أبيه صيت عظيم وكان بها من معاطاة العلوم والدؤوب على درسها وإقرائها وقراءتها ليلا ونهارا ما تخرج به جماعة من صدور العلماء وأعيانهم كالشيخ اليوسي وأضرابه حتى كانت إليها الرحلة في المغرب لا يعدوها الطالب ولا يأمل سواها الراغب
وتمهد الأمر بها لأبي عبد الله محمد الحاج وأولاده وإخوانه وبني عمه إلى أن تملك مدينة فاس ومدينة مكناسة وأحوازهما وكافة القطر التادلي
قال في نشر المثاني وفي سنة ست وأربعين وألف كان قيام محمد الحاج الدلائي على الشيخ ابن زيدان قلت ولعل المكاتبة الآتي بيانها بعد إنما كانت في هذا التاريخ
وقال في البستان وفي سنة خمسين وألف زحف محمد الحاج الدلائي بعساكر البربر إلى مكناسة فاستولى عليها ثم زاد إلى فاس فاعترضه أبو عبد الله العياشي بجموع أهل الغرب ووقعت الحرب بينهما فانهزم العياشي وسار محمد الحاج لحصار فاس فرجع العياشي وأعاد حربا ثانية فانهزم محمد الحاج وعاد إلى بلاده وفي سنة إحدى وخمسين وألف بعد موت العياشي نزل محمد الحاج على فاس وحاصرها ستة أشهر وقطع عنها المواد وجميع المرافق إلى أن لحقهم الجهد وارتفعت الأسعار فدخلوا تحت
____________________

حكمه ولما قام اجتمعت عليه برابرة ملوية وأذعنوا له واعصوصبوا عليه وقد كانت بينه وبين السلطان محمد الشيخ بن زيدان وقعة أبي عقبة فانهزم فيها السلطان المذكور وانتشر جمعه وذلك في سنة ثمان وأربعين وألف ومن ثم قطع النظر عما وراء وادي العبيد ذكر ما وقع بين السلطان محمد الشيخ بن زيدان وبين أهل زاوية الدلاء من المراسلات والمعاتبات
قال في النزهة وفي أيام السلطان محمد الشيخ بن زيدان قويت شوكة أهل الدلاء وانتشرت كلمتهم في بلاد الغرب وضعف الشيخ عن مقاومتهم وعجز عن مقارعتهم وبعث إليهم قاضيه العلامة الفقيه أبا عبد الله محمد المزوار المراكشي يطلب منهم ترك الشنآن والرجوع إلى اجتماع الكلمة ويحتج عليهم بأن أباهم الولي الصالح سيدي محمد بن أبي بكر كان قد بايع أخاه الوليد بن زيدان والتزم طاعته وأنهم أولى الناس باقتفاء طريقته واتباع منهاجه فلما بلغهم القاضي المذكور وأدى الرسالة ونثل ما في العيبة وبين قصده اعتذروا إليه بمسائل وتعللوا بوجوه
قال اليفرني وقد وقفت على رسالة كتب بها السلطان محمد الشيخ المذكور إليهم بعد رجوع القاضي من السفارة وهذا نص القدر المحتاج إليه منها بعد الخطبة ولنصرف عنان الغرض لمن عيناه لمسنون العتاب
____________________

والمفترض من هم لدقائق المجاز ضابطون وفي حقائق الجواز خابطون أهل وطن الدلاء لمن هو لورود الشراب محتاج السيد أبو القاسم بن إبراهيم والسيد أبو عمرو والسيد محمد الحاج ومن لنشر صحف الإنصاف منهم مطابق كالسيد المسناوي والسيد عبد الخالق ولا زائد إلا قصد إيقاظكم من الغفوة التي طال كطلوع الشمس من المغرب ليلها وامتد كأرض المحشر فرسخها وميلها هل هذا منكم استخفاف بحضرة الخلائف أو تعام وتصام عما يجب على الرعايا من لازم الوظائف هذا من العار الماحي لصحف المناقب ولا يلوي بمن توخاه إلا للمهيع الذي لا تحمد لمنتجعه العواقب وخصوصا مثلكم الذي شق عصا الشقاق وشرع يمد أيدي الأطماع في استخلاص قبائل الآفاق وكنتم لا تدرون لباس القمصان ولا الشواشي إلى أن جسركم على وطء الغرب فأخذكم معه المعتر محمد العياشي فنبذتم موائد الضيوف وتقلدتم بلا حياء السيوف وأعانكم اضطراب القبائل مع وقوع الجوع ومن مضى إلى أي قطر تعذر عليه الرجوع إلى أن أمكنتم من أزمتها الرعايا وكل عنيد من رباط تازا إلى وادي العبيد فاستحليتم سكر الجبايات من الأبريز والفضة إلى أن جمعتم منه ما لا ينحصر في عد بواسطة القرافي والمنتصر من غير أن تنفقوه على إقامة جند ولا انتفع به إلا أشياع المومسات وشياطين الفساد والشر ولم ترقبوا مكر من رفعكم من غمار عموم البرابر وأقعدكم في القباب على الأسرة وفي بيوت الله على الكراسي والمنابر عويتم علينا معشر الثوار كالذئاب من كل عراء وشعبة لتكون عزيمة نهوضنا إليكم معطلة صعبة وأن لا ندري أين تميل النفوس ألتلك الصحارى أم إلى إيليغ السوس وهذا المغرب لا يخلو ملآن من نواميس كل كاهن ومدع قرقار تمسي فيه البومة خاملة وتصبح بالمخلب والمنقار ومعادين الهمز واللمز والمجون هم أهل الزوايا والديارات والفنادق والأسواق والسجون لكن من صفعته يمينه لا يبكي ومن ألقى
____________________

بيده إلى التهلكة لا يشكي أهملناكم وأمهلناكم لعوائدكم من العبادة والطعام فطلعتم لنا في الحلوق عظاما ورعام لم تعلم الفقراء إلا بحرمة جاه الدخيل على صلح أو زواج أو لسماح البخيل وحتى الآن دعوناكم لعقد البيعة الواجبة لنا على كل من أطاع أو عصى من وجدة إلى حدود السوس الأقصى فنزهد لكم فيما يقوم بحق تلك الزاوية وأهلها بشرط أن تفيقوا من سنة الغفلة وجهلها وإن أمسكتم أقدام الانقياد عن سلوك سبيل السداد وقبول سوله فأذنوا بحرب من الله ورسوله فقد شيعنا لكم فقيهنا وقاضينا أبا عبد الله محمد المزوار فصددتموه أرهب صد وانقلب من المحاورة مردودا أقبح رد لو لم نبال بكم بالفكر والذكر ما صرفنا فيما سلف وصيفنا الأمين مباركا السوسي فشيد ضريح السيد محمد بن أبي بكر فدنستم خالص عرضه فإنه كان لكم علينا بريدا وبصيرة بما انطوت عليه منكم غرة السريرة فقص علينا دون أن نفحصه إن عين الجحش فراره ولا يسعنا أن تدعكم مع أشراف سجلماسة وبني موسى تلعبون بنا كهر الغالية في القفص لا يعطي غناء غلته إلا بوخز المسال التي تكلفه الرقص وحاصل الغرض تأدية البيعة كما عقدها أبوكم الأبر الجواد المرحوم الفاضل المجيد لأخينا الأرضى مولاي الوليد لتنتظم كلمة الإسلام في الأقطار إذ لو فعلتم لاقتفى أثركم جموع المنتجعين والأمصار وإن عظمت عليكم مفارقة تقبيل الرأس واليد والركبة فانتظروا صبيحة طلوعي عليكم طلوع الفجر على غسق الليل بخضرم خضرم من الرماة والخيل ونؤم بعدكم دولة الأشراف الصحراوية ونلوي على زاوية الساحل إلى أن تعود الإيالة الشيخية علوية عالية بالصيت والذكر أو تهوي إلى حضيض بني سعد بن بكر انتهى
وكان جواب أهل زاوية الدلاء عن هذه الرسالة ما حاصله باختصار ولا زائد بعد حمد الله إلا أن مسطوركم الأحرش لما ورد ساحتنا سلب الأذهان والعقول فلا جارحة إلا ولها حصة من الطين فكادت الحبالى
____________________

تسقط المشايم فضلا عن الجنين فياله من صوت زجر لا ينسى علينا طول السنين أسمعتنا غرائب لم تمر مرارتها على أهل الدهر الآتي والغابر لو صدح بها على جبانة لنهض أهل المقابر حتى سمتنا بالخسف في أسواق المذلة والهوان وما نحن الأعز وركن لكل من طرقته وصمة أو عمه وأنت تعمل بتدبير وإشارة الأعلاج المجبولين على طبائع الخداع والغش وتبني على قواعد ما لكم بها من عرين ولا عش ومن الدليل الشاهد والبرهان فتكهم بأخيك مع مشاورة النسوان على غيب من الجند والديوان فلا تدعهم يخدعونك وهم سلبوا روح جدك السمي من غمد الجسد وحملوا هامته في مخلاة من مسد وايم الله لئن داموا لك في الغرب بطانة لطلقوا عليك ثلاثا أوطانه وأما نحن فبيعة والدنا رحمه الله لم تزل لنا في الأعناق ولا ينبغي أن تعاد فتكرر كالظهير لمن تحرر وأيضا منعنا من تجديدها انسلال البربر عن ساحتنا فتكون أقوى سبب لفضيحتنا وأجلها هذا الأجدل الذي لا تؤده سموم الليالي ولا حرارة قيظ المصيف مولانا محمد بن مولانا الشريف عقاب أشهب على قنة كل عقبة لم يقنعه عد المال دون حسم الرقبة وربما غرتنا غفلة فيشن الغارة على شعوب شعاب ملوية أو ينشر جيوشه على رباط تازا بالرايات والألوية سيما وجناحاه ذوو النفوس النفيسة وبربر صنهاجة وعرب دخيسة بزاة النزوات بالحلة والمحال والغزوات والعياشي كما تعلمون كانت همه هجرته أولا لملة أهل الشرك ثم مد خطا العزم إلى درجة الملك وأما وصيفكم الأمين مبارك السوسي فحيث أناخ علينا ككل الإقامة لاختطاط ضريح الوالدين رحمهما الله قمنا بوظيف حقه الظاهر والباطن حيث اختبر بعين الحقيقة أرجاء أغوار المواطن ولا شك أن حال مطالعته هي التي أرخصت لنا في سوق خواطركم الأسعار إلى أن نصبتم لنا بعد الرضا حبائل الأذعار الجالية للعار وجد قبائلنا متبددة على ضم حبوب الصيف وأعيانهم مغتدين على الخيول بدون رمح ولا مدفع ولا سيف فخالهم على غرة غنيمة باردة وما علم أنهم أغوال الغيل صادرة وواردة فإن كانت معاينته
____________________

هي التي أطمعتك أن يعودوا بعد العز نوائب فما درى أن منه كان الخاوي الخائب من ركب الخيل لنفسه دون راتب المخزن لا ترضى همته أن يهان فيحزن وقاضيك السيد محمد المزوار حيث عاين وفود الأقاليم منتشرة كالجراد على الأزقة والأدراب دون من لازم خدمة الأبواب تحقق عيانا أن انتظام شمل المالك والمملوك لا يكون إلا على عظماء الملوك فقص عليكم وعلى من حضر ما اعتقد وسمع ونظر وحتى الآن إن قصدتم الغرب أو حصن فاس لا تنالكم من جانبنا مساءة ولا بأس فبعد أن يكون لكم في المدينة البيضاء الجديدة والقديمة قرار يكون لنا بعد ذلك حكم الاختيار بين أن نؤمن لك أو نترك لك الديار أو نستصرخ بمن هو مثلك شريف حقيقي وسلطان له شغف أكثر منك في ضبط الأوطان فنقابل إذ ذاك القصورة بالساط ونلقي بطانة من شاط لأسنان الأمشاط أيهما للغرب غلب نؤدي له على الرغم ما طلب وإن قنعت بحوز الحمراء من مراش ورفضت عنك معاناة الهراش والتناوش فدعنا ومراعاة من تجارته الرئاسة وهمته اشتراء نفيس السياسة ضرغام غاب سجلماسة وأما صاحب إيليغ السوس فما مراده ومراد ذويه إلا غنيمة سلامة الأعراض وتجارة سلب النفوس وفيما تلوناه عليك من القصص كفاية فلئن غادرتنا مستترين في حرمة الاحترام والوقار فنعم وإن زاحمتنا بمنكب الهوان يدافعك عنا من ادعى أنه زعم وإن طرقنا مناخ عزمك على عبور وادي العبيد أو أم الربيع فهناك يجمع الله بين من يشتري ويبيع والسلام وكتب عن إذن جمهور إخوته عبد الله المسناوي بن محمد بن أبي بكر الدلائي في يوم الأحد الثاني والعشرين من رجب انتهى
ولما رأى السلطان محمد الشيخ بن زيدان تعاصي أهل زاوية الدلاء عليه واستحكام أمر الغرب لهم وتقويهم بالعدد والعدد صرف عنانه عن مقارعتهم ومال إلى مسالمتهم وقطع النظر عما في أيديهم والأمر كله لله
____________________

ذكر ما دار بين السلطان محمد الشيخ ابن زيدان وبين الأمير المولى محمد بن الشريف رحمهما الله تعالى
كانت المكاتبات والمرسلات تقع بين السلطان محمد الشيخ بن زيدان السعدي وبين الأمير المولى محمد بن الشريف السلجماسي فمن ذلك رسالة بعث بها السلطان المذكور إلى الأمير المذكور فكان من فصولها أن قال له وبلغني أنك تعلن في النوادي من الحواضر والبوادي إن جرثومة انتمائنا لبني سعد بن بكر بن هوازن مع أنها في بني نزار بن معد وافية المكاييل ثقيلة الموازن وأننا من تيدسي أحد القصور بوادي درعة ومنها أنبت الله أصلنا فأزهر غصنه وأثمر فرعه فلئن كان غرضك حط منطقة قدرنا من اللبب فهذا من العلى عليك عار وأن تحاول محونا من صحيفة النسب فتلك دعوى لا تغلي أو ترخص أسواق الأسعار وقد صرفنا إليك نسخة من مناهج الصفاء في أخبار الشرفاء ليطلع عليها أنظارك من الملوك فيزول ما بالخاطر من إشراك الشكوك
فأجابه المولى محمد بن الشريف عن هذا الفصل بأن قال له وعتابكم أننا عزوناكم لبني سعد بن بكر بن هوازن بن منصور وناشرون لذلك في الحلل والمدن والقصور تالله ما فهنا بذلك عن معايرة لكم ولا جهل ولا بأن نضيفكم لمن لا عشيرة له ولا أهل بل اعتمدنا في ذلك بحمد الله على ما نقله الثقات المؤرخون لأخبار الناس من علماء مراكش وتلمسان وفاس ولقد أمعن الكل التأمل بالذكر والفكر فما وجدكم إلا من بني سعد بن بكر ولا معول على كتاب المنصور من الفشاتلة ولا ابن القاضي المكناسي ولا ابن عسكر الشريف الشفشاوني وسواهم إذ الكل أهل بساطكم ومحل مزاحكم وانبساطكم ولقد بلغتنا نسخة مناهل الصفا فلم نجد فيها موردا عذب وصفا وكفى دليلا بالباطن والظاهر قول الثقة مولانا عبد الله بن
____________________

طاهر ومع هذا فلم نعتمد دفعكم عن شرف النسب ولا رفعكم على ما وسمكم الله به من زينة الحسب انتهى الغرض من هذه الرسالة وأشار بقوله قول الثقة مولانا عبد الله بن طاهر إلى ما اتفق له مع المنصور حين جالسه على المائدة وقال له المنصور أين اجتمعنا فقال له ابن طاهر على هذا الخوان والحكاية قد مرت في صدر هذه الدولة السعدية
ومما كتب به السلطان محمد الشيخ بن زيدان للأمير المذكور أيضا وذلك حين غلب المولى محمد على فاس وملكها فكتب إليه السلطان المذكور يحذره من عائلة أهل الغرب وغدرهم برسالة من إنشاء وزيره القائد أبي عبد الله محمد بن يحيى آجانا وفي آخرها قصيدة من إنشاء القائد المذكور وهي
( يا شبل مولانا الشريف محمدا ** شمس السعادة والهلال الأكمل )
( ملأت مهابتك الكبيرة مغربا ** فزهت بمشرقة أصبهان وموصل )
( صقر الصياصي على الأعادي صائل ** طورا يغير وفي الملاحم سيتل )
( أنيابه البيض الحداد صوارم ** وبكل ظفر منه أبتر مقصل )
( فجناحك الجرد العتاق وإن نظرت ** إلى تلمسان يطيش الشمال )
( هابتك ثوار الأقالم عنوة ** والوحش فهي يغص منها المنهل )
( قد طبت إن عرقت عروقك في الوغا ** خلت العنابر ديف فيها المندل )
( يا مالكا سعدت به أوطانه ** فيما مضى وزها به المستقبل )
( نادى بك النصر العزيز لمغرب ** ولكم على فاس الجديد الكلكل )
( فاحذر كما حذر الغراب ولا تكن ** كالبط يطفو عن مطاه القوقل )
( واعدل تفوز ولا تواخي طامعا ** ترد العداة وتعم عنك العذل )
( لا تصد من جبل البرابر واصطبر ** حتى يهون على الجواسيس مدخل )
( لا تأمن الأعراب في أقوالها ** واقمع فضاضة من يجور ويختل )
( وعليك بالغارات في أوطانها ** بكتائب تسبي الأناث وتقتل )
( واغضض ولا تردي تجار مدائن ** يبقى عليك الستر دأبا يسبل )
____________________


( لا تتخذ من حصن فاس صاحبا ** أو حاكما يصل الأمور ويفصل )
( كالبغل عادته الفرار وإن غدا ** في مربط فمتى استغرك يركل )
( لا تنقلن إلى الصحارى ذخائرا ** فيقول أهل الغرب حتما يرحل )
( واضرب لبيت الملك أوتاد الدها ** تزداد صيتا في القلوب وتقبل )
( ألف وفود الغرب واعرف قدرها ** وقروم كل قبيلة لا تجهل )
( وابسط يديك على العيال هنيئة ** وإذا غرست عروق عدل تنقل )
( هذي وصايا قد أضعنا حقوقها ** في آخر مما نحاه الأول )
( فمتى نشد إلى المعالي رحالنا ** يأباه نصر والمقادير تخذل )
( فرضينا متبعين أحكام القضا ** والله يحكم ما يريد ويعدل )
فأجابه المولى محمد بن الشريف في سنة تسع وخمسين وألف بقصيدة ختم بها جوابه من إنشاء الفقيه أبي عبد الله محمد بن سودة الفاسي ونصها
( أمحمد الشيخ بن زيدان الرضا ** فخر الخلائف والهمام الأكمل )
( فلقد أجبتك عما قد كاتبتني ** نظما ونثرا كي ترى ما يمثل )
( إني أبث لكم وصايا جمة ** إن أنت للنصح المصرح تقبل )
( فإلى متى طول الرقاد أما ترى ** أضعان ملكك كل يوم ترحل )
( والدهر ينتف في رياش جناحكم ** ويدنسن من الصفا ما تغسل )
( ما من مليك ذاق لذة راحة ** إلا تجلى له الهوان فيسفل )
( أحرى الذي كثرت شقا ثواره ** يعوي عليه لكل عاد معقل )
( تحتال تخدعه بكل حباله ** حتى يصاد كما يصاد النعثل )
( فاستيقظن من الخمار ومن رعى ** في أرض آساد الشرى لا يغفل )
( وانفض غبار الذل واخلع ثوبه ** يزداد وجهك بهجة ويهلل )
( ضيعت ملكك في الرخا وتركته ** للخزي في دار الهوان يذلل )
( وركنت للظل الوريف وغادة ** يزهو البديع بها إذا ما ترفل )
( وإذا أردت دوام هيبة همة ** وتدوم في ستر عليكم يسبل )
( دع عنك في الحمرا مروق سفرجل ** ومدربلا بالزعفران يفلفل )
( واركب مطايا الصافنات إلى الوغا ** أما تحوز مزية أو تقتل )
____________________


( واقرع طبولا للرعاة وفي الوغا ** يجبي إلى الحرب العوان الجحفل )
( وخض القفار وهز رمحا وادرع ** واثن العنان وفي يمينك منصل )
( خاطر بنفسك في الفيافي جائلا ** تردي العدو وكل ليل منزل )
( واصطد نهارك بالسلاق وبعدها ** عقبانها وكذاك صقر اجدل )
( وقد الجيوش كما الوحوش ولا تدع ** من يعص أمرك وازجرنه فيفعل )
( جنب آجانا الجبن في تدبيره ** واصحب شجاعا للذخائر يبذل )
( لا تجمعن من العلوج بطانة ** فطباعها الغدر البليغ الأعجل )
( أما الشبانة فاحذرن من غيها ** لا بد تغدر بالأخير وتخذل )
( ترجو عواقب دولة لنفوسها ** وتود من وافى جنابك يجفل )
( يعطف عليك الدهر بعد نفوره ** فتعود أيام السعود وتقبل )
( ما ذاق زيدان أبوك حلاوة ** من ملكه حتى غذاه الحنظل )
( فإذا امتثلت صواب صدق وصيتي ** يصغي الزمان لكم ويصفو المنهل )
واعلم أن هذه الرسائل والأشعار التي أثبتناها هنا نازلة كما ترى عن درجة البلاغة وعادمة لما تستحقه من فن الوزن ونقد الصناعة ولكن لما كان الكتاب كتاب تاريخ وأخبار لا كتاب أدب وأشعار لم نبال بذلك إذ كان المقصود منها ما تضمنته من بيان الأحوال والإفصاح عنها على أصح منوال فإن هذه الرسائل هي عماد التاريخ وملاكه ونازلة منه بالمحل الذي نزلت من الدار أسلاكه فلذا أكثرنا منها في هذا الكتاب والله تعالى الملهم للصواب
____________________

وفاة السلطان محمد الشيخ بن زيدان رحمه الله
كانت وفاة السلطان محمد الشيخ بن زيدان رحمه الله سنة أربع وستين وألف وفي نشر المثاني أنه توفي قتيلا سنة ثلاث وستين وألف ودفن بقبور الأشراف من قصبة مراكش في روضة أبيه وعشيرته ومما نقش على رخامة قبره قول القائل
( لبدر سموات المعالي أفول ** وفي ذا الضريح كان منه نزول )
( محمد الشيخ بن زيدان غاله ** حمام فحزن العالمين طويل )
( إمام الأنام ذو المآثر فعله ** له غرة في الصالحات جميل )
( حباه إله العرش رحمى تخصه ** بما هو في الفردوس منه كفيل )
وزراؤه يحيى آجانا وولده محمد وغيرهما وقضاته أبو مهدي عيسى بن عبد الرحمن السكتاني وأبو عبد الله محمد المزوار رحم الله الجميع الخبر عن دولة السلطان أبي العباس أحمد بن محمد الشيخ بن زيدان رحمه الله
لما توفي السلطان محمد الشيخ في التاريخ المتقدم بويع ابنه أبو العباس أحمد والعامة يقولون مولاي العباس بدون لفظ الكنية وقام مقام أبيه في جميع ما كان بيده إلا أن حي الشبانات وهم أخواله قويت شوكتهم في أيامه وغلظ أمرهم عليه ووثبوا على الملك وراموا الاستبداد به فضايقوه وحاصروه بمراكش أشهرا
ولما رأت أمه أن الأمر لا يزيد إلا شدة كلمته في أن يذهب إلى أخواله ويأخذ بقلوبهم ويزيل ما في نفوسهم عليه فذهب إليهم فلما تمكنوا منه قتلوه غيلة وأقبلوا إلى مراكش مسرعين وبايعوا فيها لأميرهم عبد الكريم بن
____________________

أبي بكر الشباني ثم الحريزي كما سيأتي
وكان مقتل السلطان أبي العباس رحمه الله سنة تسع وستين وألف كذا في النزهة والذي في نشر المثاني أنه قتل سنة خمس وستين وألف والله أعلم بغيبه
قال اليفرني رحمه الله وقد أذكرتني هذه الفعلة قول المولى محمد بن الشريف في قصيدته السابقة
( أما الشبانة فاحذرن من غيها ** لا بد تغدر بالأخير وتخذل )
فإن الأمر وقع كما قال مع أن المولى محمد بن الشريف كتب بالقصيدة المذكورة للسلطان محمد الشيخ في سنة تسع وخمسين وألف وغدر الشبانات للسلطان أبي العباس كان سنة تسع وستين وألف ولعل المولى محمد بن الشريف تلقى ذلك من بعض أهل الكشف أو نحوهم فإن كلامه كثيرا ما يقع فيه مثل هذا وبمهلك السلطان أبي العباس رحمه الله انقرضت دولة السعديين من آل زيدان وانهار جرفها وانطوى بساطها وسبحان من لا يبيد ملكه ولا يزول سلطانه لا إله إلا هو العزيز الحكيم الخبر عن دولة الشبانات بمراكش وأعمالها وما آل إليه أمرها من دثورها واضمحلالها
لما قتل السلطان أبو العباس أحمد بن محمد الشيخ بن زيدان في التاريخ المتقدم ثار كبير حي الشبانات بمراكش من عرب معقل وهو الرئيس عبد الكريم بن القائد أبي بكر الشباني ثم الحريزي وحريز فخذ منها هي النبعة والصميم فيها وعبد الكريم هذا يعرف عند العامة بكروم الحاج فدخل مراكش ودعا الناس إلى بيعته فبايعوه بها سنة تسع وستين وألف وانتظمت له مملكة مراكش ونواحيها وسار في الناس سيرة حميدة وكان
____________________

في أيامه الغلاء المؤرخ بعام سبعين وألف وهو غلاء مفرط بلغ الناس فيه غاية الضرر حتى أكلوا الجيف ولم يزل مستقيم الرأي بمراكش إلى أن توفي بها سنة تسع وسبعين وألف قبل أن يدخلها المولى الرشيد بن الشريف بأربعين يوما
وقال منويل لما بايع أهل مراكش عبد الكريم الشباني خالفت عليه آسفي وأعمالها فغزاهم ثم رجع مفلولا إلى مراكش وكانت المجاعة المشهورة عقب ذلك ثم قتله بعض أجناده دخل عليه فطعنه برمح فأتلفه ثم قبض على القاتل وقتل أيضا في الحين ولما توفي بايع الناس ولده أبا بكر ابن عبد الكريم فبقي إلى أن قدم المولى الرشيد وتقبض عليه وعلى عشيرته فقتلهم ثم تتبع الشبانات فأفناهم قتلا وأخرج عبد الكريم من قبره فأحرقه بالنار وانقرضت دولة الشبانات والبقاء لله وحده
ولنذكر ما كان في هذه المدة من الأحداث فنقول
في سنة ثلاث عشرة وألف في ثاني عشر محرم منها توفي الولي الكبير أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الحسن الخالدي السلاسي المعروف بابن حسون نسبة إلى جده الحسن المذكور وهذا الشيخ هو دفين سلا الشهير بها أصله من سلاس مدشر على مرحلة من فاس ثم انتقل إلى سلا وسبب انتقاله إليها أنه كان بين أهل سلاس حروب ومقاتلات فكان الشيخ أبو محمد عبد الله إذا غلب أهل مدشره فرح وإذا انهزموا حزن ففكر في نفسه وقال محبة الغلبة تستدعي محبة الشر للمسلمين وعلي عهد الله لا جلست في موضع أفرق فيه بين المسلمين وأبغي الشر لهم فارتحل إلى سلا ولما استقر بها أتاه جماعة من عشيرته يراودونه على الرجوع إلى بلادهم وحثوا عليه في ذلك فأخذ قدحا وملأه من ماء البحر ووضعه ثم قال لهم ما بال ماء البحر يضرب بعضه بعضا وتتلاطم أمواجه وما لهذا الماء الذي منه في القدح ساكن فقالوا له لأنه لم يبق في البحر فقال لهم الغربة تصفي
____________________

وتسكن فعلموا مراده وانصرفوا آيسين قلت وفي انتقاله من سلاس إلى سلا إشارة لطيفة وهي أن لفظ سلاس باعتبار تفكيكه سلو موصول بحرف السين وهو حرف ذو قرون ثلاثة متشعبة فيؤخذ منه بطريق الإشارة أنه سلو موصول بكدر بخلاف لفظ سلا فإنه سلو محض وقد قدمنا في أخبار ابن الخطيب رحمه الله أن مدينة سلا كانت مقصدا للعبادة وأهل الخلوة والانفراد من لدن قديم أخذ الشيخ ابن حسون عن أبي محمد الهبطي عن أبي محمد الغزواني عن التباع عن الجزولي رضي الله عنهم وكان صاحب أحوال تهدى إليه الثياب الرفيعة فيأمر بها فتلقى في بيت مسدود فتبقى فبه حتى يأكلها السوس وتضيع وكان كل يوم يصبح على بابه أرباب الآلات بالطبول والأبواق يضربون عليه النوبة وغير ذلك وقد تكلم عليه الشيخ اليوسي في المحاضرات وحمله محملا جميلا وكرامات ابن حسون كثيرة شهيرة نفعنا الله به وبأمثاله
وفي السنة المذكورة في ربيع الأول منها توفي الشيخ العارف بالله تعالى العلام الرباني أبو المحاسن يوسف بن محمد الفاسي جد السادة الفاسيين وأخباره ومناقبه شهيرة قد تكفل ببسطها كتاب مرآة المحاسن لابنه العلامة أبي عبد الله محمد العربي الفاسي الموضوع لهذا القصد بالخصوص
وفي سنة أربع عشرة وألف كان الغلاء العظيم بفاس قال صاحب الممتع في ترجمة الشيخ أبي عبد الله محمد بن حكيم بالأندلسي أنه اعتراه ذات يوم حال فجاء إلى بعض أفران فاس وجعل يقول لصاحب الفرن أغلق فرنك أغلق فرنك ويصيح به فإذا بالغلاء العظيم حدث عقب ذلك وهو غلاء سنة أربع عشرة وألف فتعطل ذلك الفرن وغيره من أفران المدينة وكان يمر بالطرقات فيقول الناس يأكلون عن أولادهم ويكرر ذلك على جهة الإنكار فجاء الغلاء المذكور فكان الناس يأكلون في الأسواق عن أولادهم ولم يكن يعهد الأكل بالأسواق قبل ذلك
____________________


وفي سنة خمس عشرة وألف في ثاني جمادى منها جاء بفاس سيل عظيم حتى غمر دور عمل الفخارين وذهب ببعض أنادر الزرع وحمل أمة من باب الفتوح فماتت
وفي سنة اثنتين وعشرين وألف حدث الشر بفاس ووقع الغلاء حتى بيع القمح بأوقيتين وربع للمد وكثرت الموتى حتى أن صاحب المارستان أحصى من الموتى من عيد الأضحى من سنة اثنتين وعشرين وألف إلى ربيع النبوي من السنة بعدها أربعة آلاف وستمائة وخربت أطراف فاس وخلت المداشر ولم يبق بلمطة سوى الوحوش
وفي سنة ثلاث وثلاثين وألف وذلك عند فجر يوم السبت الثاني والعشرين من رجب منها حدثت زلزلة عظيمة بفاس ذكر صاحب الممتع في ترجمة أبي عبد الله بن حكيم المذكور آنفا أنه كان قبل الزلزلة المذكورة يصيح المردومات المردومات فإذا بالزلزلة حدثت قال فما بقيت دار من دور فاس غالبا إلا دخلتها الفؤس
وفي خامس شعبان من السنة المذكورة نزل برد عظيم قدر بيض الدجاج وأكبر وأصغر ورئي حجر عظيم منها نزل على خيمة فخرقها وفر أهلها عنها وبقي لم يذب نحو ثلاثة أيام
وفي سنة ست وثلاثين وألف توفي الإمام العارف بالله تعالى أبو زيد عبد الرحمن بن محمد الفاسي المعروف بالعارف بالله وهو أخو أبي المحاسن المذكور آنفا ومناقبه شهيرة أيضا
وفي السنة المذكورة كان الغلاء بفاس والمغرب
وفي سنة أربعين وألف عشية يوم الخميس ثالث ذي الحجة منها توفي الشيخ الإمام العلامة الهمام أبو محمد عبد الواحد بن أحمد بن علي بن عاشر الأنصاري نسبا الأندلسي أصلا الفاسي منشأ ودارا الفقيه المشهور كان رحمه الله له الباع الطويل في المشاركة في العلوم مع غاية التحرير والتحقيق وله التأليف الحسان التي أغنى فيها عن الخبر والعيان وكان ورعا سنيا وكان لا
____________________

يتخذ القراء على جنائز أقاربه ويقول يمنعني من ذلك أنهم يفسدون قراءة القرآن وقراءتهم تلك عذر في التخلف عن الجنائز
وفي سنة اثنتين وخمسين وألف توفي الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد العربي بن أبي المحاسن يوسف الفاسي وكان رحمه الله متفننا عالما له عناية كبيرة بتحصيل المسائل وتفييدها والاطلاع على غريبها وشريدها وهو صاحب مرآة المحاسن وكان جوالا في بوادي المغرب وحواضره حتى أدته خاتمة المطاف إلى مدينة تطاوين فألقى بها عصا التسيار إلى أن توفي في السنة المذكورة ثم نقل إلى فاس بعد سنتين فوجد طريا رحمه الله
وفي سنة ستين وألف كان بالمغرب رخاء مفرط وبلغ صاع البر بمدينة سلا مثقالا وكاد ينعدم بالكلية وهو غلاء لم يعهد مثله وانتشر الفساد في البلاد وحل بالمغرب وباء كبير حتى كان الناس يموتون في كل طريق رجالا ونساء نسأل الله العافية
وفي سنة سبعين وألف كان الغلاء المفرط بالمغرب لا سيما بمراكش وهذه السنة هي المعروفة عند العامة بسنة كروم الحاج لا زالوا يضربون المثل بغلائها إلى اليوم والله تعالى يحفظ المسلمين ويحلهم من كنفه في حصن حصين آمين
تم الجزء السادس ويليه الجزء السابع
وأوله الخبر عن دولة الإشراف السجلماسيين من آل علي الشريف وذكر نسبهم وأوليتهم
____________________

كتاب الاستقصا ج (1)
____________________
1- إدخال مكتبة الزهرا

3
____________________

بسم الله الرحمن الرحيم الدولة العلوية الخبر عن دولة الأشراف السجلماسيين من ال علي الشريف وذكر نسبهم وأوليتهم
اعلم أن نسب هذه الدولة الشريفة العلوية من أصرح الأنساب وسببها المتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم من أمتن الأسباب وأول ملوكها كما سيأتي هو المولى محمد بن الشريف بن علي الشريف المراكشي بن محمد بن علي بن يوسف بن علي الشريف السجلماسي ابن الحسن بن محمد بن حسن الداخل ابن قاسم بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن أبي محمد بن عرفة بن الحسن بن أبي بكر بن علي بن الحسن بن أحمد بن إسماعيل بن قاسم بن محمد النفس الزكية ابن عبد الله الكامل ابن الحسن المثنى ابن الحسن السبط ابن علي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا ذكر هذا النسب الذي هو حقيق بأن يسمى سلسلة الذهب جماعة من العلماء كالشيخ أبي العباس أحمد بن أبي القاسم الصومعي والشيخ أبي عبد الله محمد العربي بن يوسف الفاسي والعلامة الشريف أبي محمد عبد السلام القادري في كتابه الدر السني فيما بفاس من النسب الحسني وغيرهم
وقد تقدم في أخبار السعديين أن الصواب أن يزاد في عمود هذا النسب الشريف بعد قاسم الآخر ما نصه ابن الحسن بن محمد بن عبد الله الأشتر بن محمد النفس الزكية إلى اخر ما مر
قال أبو عبد الله الفاسي في المراة إن الشرفاء الذين لا يشك في
____________________

شرفهم بالمغرب كثيرون كالجوطيين من الحسينيين الإدريسيين وكشرفاء تافيلالت من الحسينيين أيضا المحمديين وكالصقليين والعراقيين وكلاهما من الحسينيين بالياء الساكنة بين السين والنون فإن شرف جميعهم لا يختلف فيه اثنان من أهل بلادهم ومن يعرفهم من غيرهم ا هـ
وعن شيخ الجماعة الإمام أبي محمد عبد القادر الفاسي رحمه الله أنه قسم شرفاء المغرب بحسب القوة والضعف إلى خمسة أقسام ومثل للقسم الأول المتفق على صحته بأصناف منهم هؤلاء السادة السجلماسيون وقال الشيخ أبو علي اليوسي رحمه الله شرف السادة السجلماسيين مقطوع بصحته كالشمس الضاحية في رابعة النهار وعن الشيخ أبي العباس أحمد بن عبد الله بن معن الأندلسي أنه كان يقول ما ولي المغرب بعد الأدارسة أصح نسبا من شرفاء تافيلالت
وبالجملة فإن شرف هؤلاء السادة السجلماسيين مما لا نزاع في صراحته ولا خلاف في صحته عند أهل المغرب قاطبة بحيث جاوز حد التواتر بمرات رضي الله عنهم ونفعنا بهم وبأسلافهم امين دخول المولى حسن بن قاسم إلى المغرب واستيطانه بسجلماسة والسبب في ذلك
قالوا إن أصل سلف هؤلاء السادة رضي الله عنهم من ينبع النخل من أرض الحجاز قالوا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقطع جدهم علي بن أبي طالب أرض ينبع فاستقرت ذريته به وتناسلت إلى هذا العهد وكان أول من دخل منهم المغرب المولى حسن بن قاسم فحكي عن الفقيه العالم أبي عبد الله محمد بن سعيد المرغيثي صاحب الرجز المسمى بالمقنع قال أخبرني الشيخ الإمام المولى أبو محمد عبد الله بن علي بن طاهر الحسني أن جده الداخل إلى المغرب هو المولى حسن بن قاسم قال وكان دخوله
____________________


إليه في أواخر المائة السابعة وكان يومئذ من أبناء الستين ونحو ذلك وتوفي رحمه الله قبل انقضاء المائة المذكورة ا هـ
وخبر ابن طاهر هذا هو أصح ما ينقل في كيفية الدخول ووقته وذكر بعضهم عنه أن دخوله كان سنة أربع وستين وستمائة وقال الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن هلال أن دخوله كان في أوائل الدولة المرينية ذكر ذلك في منسكه فعلى هذا يكون دخوله في دولة السلطان يعقوب بن عبد الحق المريني وقد أشرنا إلى ذلك في محله فيما سلف وقال العلامة أبو سالم العياشي في رحلته إن المولى حسن بن قاسم دخل المغرب في المائة السابعة وكان سكناه من ينبع النخل بمدشر يعرف بمدشر بني إبراهيم فهؤلاء كلهم اتفقوا على أن الدخول كان في المائة السابعة وهو الصحيح الصواب إن شاء الله وزعم بعضهم أن ذلك كان في المائة السادسة وهو بعيد
واختلفوا في السبب الداعي إلى دخول هذا السيد إلى المغرب فذكر صاحب كتاب الأنوار السنية فيما بسجلماسة من النسبة الحسنية أن سبب دخوله أن ركب الحاج المغربي كان يتوارد على الأشراف هنالك وكان شيخ الركب في بعض القدمات رجلا من أهل سجلماسة يظن أنه السيد أبو إبراهيم فلما حج اجتمع بالموسم بالسيد حسن المذكور وكانت سجلماسة وأعمالها يومئذ شاغرة من سكنى الأشراف فلم يزل أبو إبراهيم يحسن للمولى حسن موطن المغرب والسكنى بسجلماسة حتى استماله فأجمع السير مع الركب وقدم به أبو إبراهيم فاستوطن ببلدهم سجلماسة وقال حافده المولى أبو محمد عبد الله بن علي بن طاهر فيما قيد عنه وكان الذين أتوا به من أهل سجلماسة أولاد البشير وأولاد المنزاري وأولاد المعتصم وأولاد ابن عاقلة وصاهره منهم أولاد المنزاري ا هـ
وذكر صاحب الأرجوزة أن الشيخ أبا إبراهيم الذي جاء به من ذرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال بعضهم إن أهل سجلماسة لم تكن
____________________


تصلح الثمار ببلدهم فذهبوا إلى الحجاز بقصد أن يأتوا برجل من أهل البيت تبركا به فأتوا بالمولى حسن المذكور فحقق الله رجاءهم وأصلح ثمارهم حتى عادت بلادهم هي هجر المغرب وقال غيره إن سبب إتيانهم به أن الأشراف من آل إدريس رضي الله عنه كانوا قد تفرقوا ببلاد المغرب وانتشر نظامهم واستولى عليهم القتل والصغار من أمراء مكناسة وغيرهم فقل الشرف بالمغرب وأنكره كثير من أهله حقنا لدمائهم فلما طلع نجم الدولة المرينية بالمغرب أكبروا الأشراف ورفعوا أقدارهم واحترموهم ولم يكن ببلد سجلماسة أحد من آل البيت الكريم فأجمع رأي كبرائهم وأعيانهم أن يأتوا بمن يتبركون به من أهل ذلك النسب الشريف فقيل إن الذهب يطلب من معدنه والياقوت يجلب من موطنه إن بلاد الحجاز هي مقر الأشراف ولذلك الجوهر النفيس من أجل الأصداف فذهبوا إلى الحجاز وجاؤوا بالمولى حسن على ما ذكرنا فأشرقت شمس البيت النبوي على سجلماسة وأضاءت أرجاؤها وظللتها من الشجرة الطيبة ظلالها وأفياؤها حتى قيل إن مقبرة أهل سجلماسة هي بقيع المغرب وكفاها هذا شرفا وفخرا ومزية وذخرا وذكر بعضهم أن أهل سجلماسة لما طلبوا من المولى قاسم بن محمد أن يبعث معهم أحد أولاده وكان يومئذ أكبر شرفاء الحجاز ديانة ووجاهة اختبر من أولاده من يصلح لذلك وكان له على ما قيل ثمانية من الولد فكان يسأل الواحد منهم بعد الواحد ويقول له من فعل معك الخير فما تفعل معه أنت فيقول الخير ومن فعل معك الشر فيقول الشر فيقول اجلس إلى أن انتهى إلى المولى حسن الداخل فقال له كما قال لإخوته فقال من فعل معي الشر أفعل معه الخير قال فيعود ذلك بالشر قال فأعود له بالخير إلى أن يغلب خيري على شره فاستنار وجه المولى قاسم وداخلته أريحية هاشمية ودعا له بالبركة فيه وفي عقبه فأجاب الله دعوته
وكان المولى حسن الداخل رجلا صالحا ناسكا له مشاركة في العلوم خصوصا علم البيان فإنه كانت له فيه اليد الطولى ولما استقر بسجلماسة
____________________


واطمأنت به الدار زوجه الشيخ أبو إبراهيم ابنته وسكن على ما قيل بموضع يقال له المصلح ولما توفي تنازع أهل سجلماسة في موضع دفنه حتى كادت نار الحرب تشب بينهم فأجمع رأيهم أن يدفنوه بمحل وسط هم فيه سواء فمسحوا أرض سجلماسة بالحبال وقسموها أرباعا ودفنوه بمكان سوي يتوسط جميع النواحي ولم يحفظ تاريخ وفاته وما استنبطه اليفرني في ذلك فمبني على غير أساس والله تعالى أعلم ذكر ذرية المولى حسن بن قاسم وتناسلها بالمغرب والإلمام بشيء من مناقب المولى علي الشريف
لما توفي المولى حسن بن قاسم رحمه الله لم يخلف إلا ولدا واحدا وهو المولى محمد ثم خلف المولى محمد هذا ولدا واحدا ايضا وهو المولى الحسن يسمى باسم جده وهو المدفون حول المدينة الكبرى بإزاء الشيخ أبي عبد الله الخراز من أرض سجلماسة وخلف المولى الحسن المذكور ولدين أحدهما المولى عبد الرحمن المكنى بأبي البركات وهو أكبرهما ومن ذريته أولاد أبي حميد بالتصغير القاطنون بوادي الرتب بالقصر الجديد على مرحلة من سجلماسة ومنهم أيضا الشرفاء النازلون ببني زروال وثانيهما المولى علي المعروف بالشريف ومنه تفرعت فروع المحمديين وتكاثرت وكان رحمه الله رجلا صالحا مجاب الدعوة كثير الأوقاف والصدقات حاجا مجاهدا ذا همة سنية وأحوال مرضية
رحل في بعض الأوقات إلى فاس واستوطنها مدة طويلة وكان سكناه منها بالحومة المعروفة بجزاء ابن عامر من عدوة القرويين وترك هنالك دارا ثم أقام مدة بقرية صفر وخلف بها عقارا وآثارا هي بها إلى الآن وأقام مدة أخرى ببلد جرس التي على مرحلتين ونصف من سجلماسة وترك بها مثل ذلك ودخل عدوة الأندلس برسم الجهاد مرارا وأقام بها مدة طويلة ثم عاد إلى سجلماسة فكاتبه أهل الأندلس يطلبون منه العود إليهم ويحضونه على
____________________


الاعتناء بأمور الجهاد ويشكون إليه ضعف أهل الأندلس عن مقاومة العدو وأنها شاغرة ممن تجتمع عليه القلوب وقد كانوا راودوه وهو مقيم عندهم على أن يبايعوه ويملكوه عليهم والتزموا له الطاعة والنصرة فرغب عن ذلك ورعا وزهدا وعزوفا عن الدنيا وزهراتها قال اليفرني رحمه الله وقد وقفت على رسائل عديدة بعث بها إليه علماء غرناطة يحضونه على الجواز إليهم واستنفار المجاهدين إلى حماية بيضتهم ويذكرون له أن كافة أهل غرناطة من علمائها وصلحائها ورؤسائها قد وظفوا على أنفسهم من خالص أموالهم دون توظيف سلطان عليهم أموالا كثيرة برسم الغزاة الذين يردون معه من المغرب وحلوه في بعض تلك الرسائل بما نصه إلى الهمام الضرغام قطب دائرة فرسان الإسلام الشجاع المقدام الهصور الفاتك الوقور الناسك طليعة جيش الجهاد وعين أعيان الأنجاد المؤيد بالفتح في هذه البلاد المسارع إلى مرضاة رب العباد مولانا أبي الحسن علي الشريف اه نص التحلية وكتبوا مع ذلك إلى علماء فاس يلتمسون منهم أن يحضوا المولى عليا على العبور إلى العدوة فكتب إليه أعلام فاس بمثل ذلك وحثوه على المسارعة إلى إغاثتهم وذكروا له فضل الجهاد وأنه من أفضل أعمال البر وكان من موجبات تخلفه عن إغاثة أهل غرناطة أنه كان قد عزم على الذهاب إلى الحج فقالوا له في بعض تلك الرسائل وعوضوا هذه الوجهة الحجية التي أجمع رأيكم عليها وتوفر عزمكم لديها بالعبور إلى الجهاد فإن الجهاد أصلحكم الله في حق أهل المغرب أفضل من الحج كما أفتى به الإمام ابن رشد رحمه الله حين سئل عن ذلك وقد بسط الكلام عليه في أجوبته ووجه ما ذهب إليه من ذلك اه وكان ممن كتب إليه من علماء غرناطة جماعة منهم الفقيه أبو عبد الله محمد بن سراج شيخ المواق وقاضي الجماعة بها ومن شيوخ فاس الذين كتبوا إليه الفقيه أبو عبد الله العكرمي شيخ شيوخ الإمام ابن غازي وأبو العباس أحمد بن محمد بن ماواس وأبو زيد عبد الرحمن الرقعي صاحب الرجز المشهور وغيرهم
____________________


ومما ضمنه أهل الأندلس في رسائلهم القصيدة الآتية في مدح المولى علي وصاحبه الفاضل أبي عبد الله محمد بن إبراهيم العمري وحثهما على إجابتهم وهي من إنشاء الفقيه أبي فارس بن الربيع الغرناطي يقول فيها
( أيا راكبا يطوي المفاوز والقفرا ** رشدت ولقيت السلامة والخيرا )
( ترحل وجد السير يوما وليلة ** وسافر تجدها في مطالعها زهرا )
( تحمل رعاك الله مني إلى الحما ** تحية مشتاق تهيجه الذكرا )
( وأم ديار الحي من سجلماسة ** فتلك ديار تجمع العز والفخرا )
( وسلم على تلك الديار وأهلها ** سلام محب لم يطق عنهم صبرا )
( فعندي لهم حب جرى في مفاصلي ** ومازج مني العظم والدم والشعرا )
( فتلك بقاع الدين والخير والهدى ** فكم من تقي في سماها سما بدرا )
( هم القوم لا يشقى بهم جلساؤهم ** يضوع عبير الزهر من بينهم نشرا )
( وقل يا أهيل القبلة السادة الأولى ** إذا ما دعوا في حادث أسرعوا النفرا )
( وخص سليل الهاشمي ابن صهره ** علي الذي يعلو على زحل قدرا )
( أبا الحسن المولى الشريف الذي به ** على الغرب شمس النصر طبقت الصحرا )
( ولاحت بآفاق القلوب عجائب ** بها سلب الألباب تحسبها سحرا )
( هو الصقر مهما اهتز كل مجلجل ** هزبر إذا ما انشب الناب والظفرا )
( هو الغوث إن دارت رحى الحرب للقا ** وغيث إذ ما المزن ما أرسلت قطرا )
( أغار على الأعلاج فاجتاح جمعهم ** وجد لهم قتلا وشددهم أسرا )
( بطنجة قد طاب الممات لزمرة ** بنصرتها ترجو من الملك الأجرا )
( دعاها بأقصى السوس قوم فأسرجوا ** من الصافنات الجرد لم يأخذوا الحذرا )
( فهبت ركاب القوم والشمس أشرقت ** وأرهق جيش الله أعداءه خسرا )
( ولا عجب أن الألى هو منهم ** ليوث الشرى قد أوسعوا مرحبا شرا )
( أجر جارك اللهفان من غمراته ** أبا حسن وانصر جزيرتك الخضرا )
( وناد أبا عبد الإله خليلكم ** به تجلب السراء في حادث الضرا )
( سليل أبي إسحاق أكرم به أبا ** لقد خلف الفرع الزكي الرضي البرا )
( أليس الذي لبى نداء أهل طنجة ** وجمع أهل الغرب من حينه طرا )
____________________


( وأوقع بالكفار أي وقيعة ** فمن لم يمت بالسيف ما له ذعرا )
( وأصبح ثغر الدين أشنب باسما ** وأرهق وجه الكفر من حزن قترا )
( ونال من الله السعادة والرضى ** وجنات عدن في المعاد له ذخرا )
( وقل أيها العدل الذي اتخذ التقى ** شعارا وسامى في منازلها الشعرا )
( أرى كل ما في الغرب أصبح قانطا ** لأندلس يرجو بطلعتكم نصرا )
( وغرناطة الغراء نادتكما أقبلا ** وبالراية البيضاء كي تنصر الحمرا )
( فساكنها وقف عليكم رجاؤه ** كبيرهم والطفل والكاعب العذرا )
( فجئنا بمن في أرضكم حاميا لهم ** رجالا وفرسانا غطارفة غرا )
( حماة أباة الضيم من كل ماجد ** كريم يباري الغيث والسيل والبحرا )
( فدونكما الكفار تعني طغاتها ** وتشبع من قتلاهم الوحش والطيرا )
( لقد طمع الكفار ملك رقابنا ** وإهلاكهم في أرضنا الحرث والثمرا )
( منازلنا من كل حصن وقرية ** تناديكما غوثا لخطب أتى أمرا )
( فكم من ضعيف لا حراك بجسمه ** وشيخ بها أربى على مائة عشرا )
( وبيض وسمر من أوانس كالدمى ** وصبية مهد لا تع النفع والضرا )
( ومنبر جمع للخطابة والدعا ** ومسجد دين للصلاة وللإقرا )
( وكرسي علم مقعد لمهذب ** تصدر يملي ما يضيء لنا الصدرا )
( وأجداث أبناء الصحابة فوقها ** وكل ولي أشعث لابس طمرا )
( تناديكما غوثا من الله سرعة ** فقد كاد أن يستأصل الكفر ذا البرا )
( فحثوا لنا بالسير بعدا وقربة ** أجيراننا من كيد من أضمر الجؤرا )
( وعزما بأخرى مثل تلك التي مضت ** ليبصر هذا الفنش مثلكم كبرا )
( وأنتم بحمد الله تدرون ما أتى ** عن المصطفى في الغزو من خبر خبرا )
( فلله ما أسنى وددت لو أننى ** قتلت فأحيى ثم أقتل مذ مرا )
( وما في كتاب الله من آية أتت ** كشمس الضحى في الصحو سافرة غرا )
( خذاها بحمد الله عذرا جبينها ** يضوع شذى تهدي لمغناكما عطرا )
( وتبلغ عني للكرام تحية ** من أندلس للغرب قد عبروا البحرا )
( فعونا رجال الله عونا لعدوة ** أحاطت بها البأساء واشتدت الضرا )
____________________


( فأنتم لنا الجند القوي ونحوكم ** تشوفنا فاستجلوا نحونا السيرا )
( ونثني على خير البرية ذي الهدى ** محمد المبعوث بالملة اليسرا )
( وآل وصحب ثم تال لنهجهم ** ومن لذوي الإسلام قد قصد النصرا )
وبهذه الرسائل العذبة الألفاظ المستوقفة الألحاظ يعلم أن المولى عليا الشريف رحمه الله كان مشهورا في عصره متقدما على كافة أهل مصره وأنه كان ملحوظا بالإجلال عندهم والإكبار وأن هذه الدار العالية البناء والأسوار معظمة من لدن قديم مشهود لها بالخير والتقديم وأظن أن وقعة طنجة المشار إليها في هذه القصيدة هي وقعة سنة إحدى وأربعين وثمانمائة وقد تقدمت الإشارة إليها في محلها
وقد كان للمولى علي المذكور جهاد في ناحية أكدج من بلاد السودان ورزق الظفر والفتح كما ذكره مبسوطا في النزهة فلينظر هناك
وذكر صاحب كتاب الأنوار السنية أن المولى عليا مكث أربع عشرة سنة لا يولد له ثم ولد له بعد ذلك ولدان أحدهما المولى محمد بفتح الميم والثاني أبو المحاسن يوسف وهو أصغرهما أما المولى محمد فخلف أربعة أولاد وهم السيد الحسن والسيد عبد الله والسيد علي والسيد قاسم وهم على هذا الترتيب في السن ويقال لسائرهم أولاد محمد نسبة إلى هذا الجد وفروعهم كثيرة يطول تتبعها وأما المولى يوسف فإنه ولي زاوية أبيه واجمع الناس على أنه المتأهل لها دون غيره لرزانته ووفور عقله فتولاها بعد نزاع ورسم توليته لها لم يزل موجودا عند بعض حفدته وكان ذلك كله في دولة بني مرين
وقال صاحب كتاب الأنوار وقد قيل إنه لم يكن له ولد حتى بلغ ثمانين سنة فولد له تسعة من الولد خمسة منهم أشقاء وأمهم حليمة من ذرية بعض المرابطين بسجلماسة وهم السيد علي وهو جد الملوك أبقى الله فضلهم والسيد أحمد والسيد عبد الواحد والسيد الطيب والسيد عبد
____________________


الواحد المكنى بأبي الغيث جد الأشراف البلغيثيين وإنما كني بذلك لكثرة ما نزل من الغيث عند ولادته وكان الناس قبله في جدب شديد وهم على هذا الترتيب في السن وأربعة أشقاء أمهم طاهرة من ذرية بعض المرابطين أيضا وهم السيد الحسن بالتكبير والسيد الحسين بالتصغير والسيد عبد الرحمن والسيد محمد ومن منازل هؤلاء الأشقاء اليوم الموضع المعروف بأخنوس
وتفصيل أنساب هؤلاء الأولاد الثمانية يطول فلنقتصر على ذكر المولى علي المثنى لأنه الغرض المقصود فنقول ولد للمولى علي المذكور ثلاثة من الولد وهم السيد محمد والسيد محرز والسيد هاشم جد الأشراف المرانيين أهل زاوية اللمراني وكلهم قد عقبوا فأما المولى محمد فولد له المولى علي الشريف المراكشي وهو المثلث مع عدة أولاد سواه والمولى علي هو جد الملوك أيضا وتوفي بمراكش وبنى عليه حافده أمير المؤمنين المولى الرشيد قبة بديعة تلقاء ضريح القاضي عياض رحمه الله وولد للمولى علي الشريف المذكور تسعة من الولد المولى الشريف اسما وكانت ولادته سنة سبع وتسعين وتسعمائة وهو جد الملوك والمولى الحفيد والمولى حجاج والمولى محرز والمولى حرون والمولى فضيل والمولى أبو زكرياء والمولى مبارك والمولى سعيد فهؤلاء هو أولاد المولى علي الشريف وكان المولى الشريف أفضلهم وأشرفهم وله رحمه الله عدة أولاد كلهم نجوم زاهرة ذوو همم باهرة منهم المولى محمد بفتح الميم وهو أكبرهم والمولى الرشيد والمولى إسماعيل وهؤلاء الثلاثة ولوا الأمر بالمغرب على هذا الترتيب ومنهم المولى الحران وسيأتي والمولى محرز والمولى يوسف والمولى أحمد والمولى الكبير والمولى حمادة والمولى عباس والمولى سعيد والمولى هاشم والمولى علي والمولى مهدي وهو شقيق إسماعيل من بينهم هذا ما تيسر ذكره من نسب هذه الدولة الشريفة ذات الظلال الوريفة وبالله التوفيق
____________________

الخبر عن رياسة المولى الشريف بن علي وما دار بينه وبين أبي حسون السملالي المعروف بأبي دميعة
قد قدمنا أن ظهور أبي حسون السملالي كان في أيام السلطان زيدان بن المنصور السعدي وأنه استولى على القطر السوسي أولا ثم تناول درعة وسجلماسة ثانيا قالوا وكان استيلاؤه على سجلماسة سنة إحدى وأربعين وألف باستدعاء المولى الشريف بن علي له واستصراخه إياه على بني الزبير أهل حصن تابوعصامت أعدائه كذا في البستان فقدمها أبو حسون واستولى عليها وولى عليها عاملا من قبله ورجع إلى مقره من أرض السوس
وقال اليفرني في النزهة كان أبو الأملاك المولى الشريف بن علي وجيها عند أهل سجلماسة وسائر المغرب يقصدونه في المهمات ويستشفعون به في الأزمات ويهرعون إليه فيما جل وقل قال وكان قد مر ذات يوم وهو صبي على الإمام المولى أبي محمد عبد الله بن علي بن طاهر الحسني فسأل عنه إذ لم يكن يعرفه قبل ذلك فقيل له هو ابن المولى علي الشريف ففرح به أبو محمد ومسح على ظهره وقال ماذا يخرج من هذا الظهر من الملوك والسلاطين فعلم الناس أن ذلك كائن لا محالة لما يعلمون من صحة كشف أبي محمد وصدق فراسته فكان المولى الشريف بعد أن كبر وولد له الأولاد يشيع أن هذا الأمر لا بد أن يصير إلى بيته ويكون لهم شأن عظيم اعتمادا على فراسة أبي محمد بن طاهر رحمه الله
ثم كان بين المولى الشريف المذكور وبين أهل تابوعصامت وهي حصن منيع من حصون سجلماسة عداوة تامة فاستصرخ عليهم أبا حسون السملالي صاحب السوس لصداقة كانت بينهما واستصرخ أهل تابوعصامت أهل زاوية الدلاء فأغاث كل منهما من استصرخه والتقى العسكران معا بسجلماسة لكنهما انفصلا على غير قتال حقنا لدماء المسلمين وكان ذلك سنة ثلاث وأربعين وألف ولما رأى أهل تابوعصامت ما بين المولى
____________________


الشريف وأبي حسون من الصداقة والوصلة مالوا بكليتهم إلى أبي حسون وخدموه بأنفسهم وأولادهم وأظهروا له النصح وصدق المحبة طمعا في استفساده على المولى الشريف إذ كان ظاهرا عليهم به فلم يزالوا يسعون في ذلك إلى أن أظلم الجو بينهما واستحكمت العداوة وتوفرت دواعيها ولما رأى ابنه المولى محمد بن الشريف ذلك اهتبل الغرة في أهل تابوعصامت وخرج ليلا في نحو مائتين من الخيل مظهرا أنه قاصد لبعض النواحي ثم كبسهم على حين غفلة وتسور عليهم حصنهم فما راع أهل تابوعصامت إلا المولى محمد في جماعة قد وضعوا السيف فيهم وحكموه في رقابهم فلم يكن عندهم دفاع واستمكن منهم واستولى على ذخائرهم وشفى صدر أبيه مما كان يجده عليهم ولما انتهى الخبر بذلك إلى أبي حسون حمى أنفه واشتد غضبه وكتب إلى عامله بسجلماسة واسمه أبو بكر يأمره أن يحتال على المولى الشريف حتى يقبض عليه ويبعث إليه به حبيسا فامتثل أمره وتقبض على المولى الشريف غدرا بأن تمارض ثم استدعاه لعيادته والتبرك به ثم قبض عليه وبعث به إلى السوس فاعتقله أبو حسون في قلعة هنالك مدة إلى أن افتكه ولده المولى محمد بمال جزيل وعاد المولى الشريف إلى سجلماسة في خبر طويل وكان ذلك كله في حدود سنة سبع وأربعين وألف
قال في البستان وأعطى أبو حسون المولى الشريف وهو معتقل عنده جارية مولدة من سبي المغافرة كانت تخدمه قال وهي أم المولى إسماعيل وأخيه المولى مهدي اه
ولست أدري ما مراده بهذا فإن كانت الجارية نسيبة في المغافرة فهي حرة فيكون المولى الشريف قد وطئها بعقد النكاح وهذا هو الذي يغلب على الظن بدليل أن السلطان الأعظم المولى إسماعيل رحمه الله لما عزم على جمع جيش الودايا قال لهم أنتم أخوالي إشارة إلى هذا الصهر كما سيأتي وإن كانت مملوكة لهم ثم صارت إلى أبي حسون فالوط ء حينئذ كان
____________________


بملك اليمين والله تعالى أعلم وصاحب البستان كثيرا ما يجازف في النقل ويتساهل فيه فلا ينبغي أن يعتمد على ما ينفرد به من ذلك وبالله التوفيق الخبر عن إمارة المولى محمد بن الشريف وبيعته بسجلماسة والسبب في ذلك
لما قبض أبو حسون على المولى الشريف وسجنه عنده كان ولده المولى محمد بفتح الميم مجمعا على إهلاك من بقي من أهل تابوعصامت واستئصال شأفتهم وكان قد تقوى عضده بعض الشيء بما أخذ من أموالهم في الوقعة السالفة فاتخذ بعد تغريب أبيه إلى السوس جيشا لا بأس به وانضم إليه جمع من أهل سجلماسة وأعمالها وذلك سنة خمس وأربعين وألف وكان أصحاب أبي حسون قد أساؤوا السيرة بسجلماسة ونصبوا حبالة الطمع في الناس حتى ملتهم القلوب وزرعوا بغض الملكة السوسية في قلوب الخاصة والعامة ومن عسفهم أنهم كانوا قد ضربوا الخراج بسجلماسة وأعمالها على كل شيء حتى على من يجدونه في الشمس زمن الشتاء وفي الظل زمن الصيف وضيقوا على الناس حتى ازدرتهم العيون وملتهم النفوس فلما قام المولى محمد واجتمع عليه من ذكرناه آنفا دعاهم إلى الإيقاع بأهل السوس فأجابوه ووجد فيهم داعية لذلك فاعصوصبوا عليه وصرفوا عزمهم إلى محو دعوة أبي حسون من بلادهم فثاروا بعماله للحين وأخرجوهم عنها صاغرين بعد قتال شديد ثم أجمع رأيهم على بيعة المولى محمد فبايعوه سنة خمسين وألف في حياة أبيه ووافق على بيعته أهل الحل والعقد بسجلماسة فاستتب أمره واستحكمت بيعته ووافقه المقدر وساعده السعد وافتتح من ملك المغرب بابه وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه
____________________

استيلاء المولى محمد بن الشريف على درعه وطرده أبا حسون السملالي عنها
لما تمت البيعة للمولى محمد بن الشريف وجمع الله سبحانه شمله بأبيه كما مر شمر لمضايقة أبي حسون السملالي وأهل السوس ببلاد درعه إذ كانت تحت ولايته كما قلنا فنهض إليه في جمع كثيف ووقعت بينهما حروب فظيعة يشيب لها الوليد ثم انقشع سحاب تلك الفتنة عن انتصار المولى محمد وانهزام أبي حسون وفراره إلى مسقط رأسه من أرض السوس فاستولى المولى محمد على درعه وأعمالها واتسعت إيالته وتوفرت جموعه وعظمت جبايته وطار في بلاد المغرب صيته وكان من أمره ما نذكره وقعة القاعة بين المولى محمد بن الشريف وأهل زاوية الدلاء وما نشأ عنها
لما صفا للمولى محمد بن الشريف قطر سجلماسة ودرعه حدثته نفسه بالاستيلاء على الغرب إذ هو يومئذ مقر الرياسة ومتبوأ الخلافة فما دام لم يحصل عليه استيلاء فالملك عرضة للزوال وصاحبه ناسج على غير منوال وكان الرئيس أبو عبد الله محمد الحاج الدلائي يومئذ مستوليا على فاس ومكناسة وأعمالهما وامتدت ولايته بعد مهلك أبي عبد الله العياشي إلى سلا وأعمالها فلما ظهر المولى محمد بالصحراء واستفحل أمره وقويت شوكته خاف محمد الحاج منه الوثوب على فاس فعاجله بالحرب وعبر إلية نهر ملوية وكان الدلائي أشد قوة من الشريف وأكثر جمعا فضايقه بإقليم الصحراء وقصد سجلماسة مرارا وكانت بينهما أثناء ذلك وقعة القاعة ضحى يوم السبت الثاني عشر من ربيع النبوي سنة ست وخمسين وألف فكانت الهزيمة فيها على الشريف وتقدم الدلائي إلى سجلماسة فافتتحها واستولى عليها وفعلت البربر فيها الأفاعيل العظيمة
____________________


ثم انبرم الصلح بينهما على أن ما حازت الصحراء إلى جبل بني عياش فهو للمولى محمد وما دون ذلك إلى ناحية الغرب فهو لأهل الدلاء ثم استثنى أهل الدلاء خمسة مواضع أخر كانت في إيالة المولى محمد فجعلوها لهم وهي الشيخ مغفر في أولاد عيسى والسيد الطيب في قصر السوق وأحمد بن علي في قصر بني عثمان وقصر حليمة في وطن غريس وآسرير في فركلة فهذه الأماكن الخمسة شرطوا على المولى محمد أن لا يحرك لهم منها ساكنا
وانبرم الصلح على ذلك ورجع أهل الدلاء في جموعهم فما كان غير بعيد حتى أطلع المولى محمد على ما أوجب الفتك بالشيخ مغفر وبعض من شرطوا عليه بقاءه ففتك بهم واصطلم نعمتهم فبلغ ذلك أهل الدلاء فجمعوا جموعهم ونهضوا إلى سجلماسة عازمين على استئصال المولى محمد وشيعته وأن لا يدعوا له قليلا ولا كثيرا وكتبوا إليه كتابا يتهددونه فيه ورموه بالغدر وأنه ناكث ومقسم حانث وأغلظوا له في الكلام وأفحشوا عليه في الملام
فأجابهم المولى محمد برسالة يقول فيها إلى السيد محمد الملقب بالحاج ابن السيد محمد بن أبي بكر بن سيري الوجاري الزموري ومن شمله رداء الديوان من الأبناء والإخوان سلام على جلهم سلام استحباب وسنة فقد كتبناه إليكم من سجلماسة كتب الله لها من شركم أنفع التمائم وألبسها من الظفر بكم أرفع العمائم وبعد السلام فإن نيران هذه الفتن التي أضرمتموها بعد خمودها لستم لها بأهل إذ لم يعرفكم أهل المغرب إلا بإطعام قصاع العصائد وهجو بعضكم لبعض بما لا يسمع من بشيع القصائد أما العلوم فقد أقررنا لكم فيها إنصافا بالتسليم لو قصدتم بها العمل وأجر التعليم وايم الله لئن نظم فينا الديان يوما من الدهر شمل الديوان لتعاينن أنت أو بنوك ما يحبه لنا البنون والإخوان ولقد حدث
____________________


السادة أهل البصيرة أن ستدور عليكم منا الدائرة المبيرة أتطمعون في النجاة بعد ترويعكم الشرفاء والشريفات والعابدين والعابدات فشمروا إن شئتم عن ساعد الجد للصلح واغتنموا السلم ما دام يساعدكم وقت النجح فإن الحرب نار والتخلف عنها بعد إيقادها شنار والله يعلم أن هذه المراودة ليست بجزع ولا وجل منكم وما نشبهكم عند الهراش إلا بما يطيش حول المصابيح من الفراش بل المراد الأكيد نشر رداء التبري ليلا تجأرون متى أنشبنا فيكم مخالب التجري وما قذفتم به أعراضنا من خسة القدر وأننا قساة لا نصغي لقبول العذر فأنتم تنهون عن الفحشاء وقد ملأتم منها الأجشاء وإن زجرتم عنها قلتم كلا وحاشا لكن من نتج نسلا نسب إليه ومن خاف من شيء يسلط عليه وأما ما احتوى عليه بساط الغرب ما بين بربر وعرب فقد طمعنا من الله كونه في القبضة عندما تمكن إليه النهضة إن لم أكنه بالذات والديوان فبالأبناء والإخوان كعوائد الدول يشيد الأخير منها ما أسسه الأول وانظر ما يكون لخاطركم به اطمئنان فنساعدكم عليه الآن فلله دره من دغوغي أشاع عارك بأبيات أنشدناها مولاي محمد بن مبارك
( واعلم بأنك من دجاجل مغرب ** فبعيسى صولة نصره ستموت )
( أنتم عكاكز خلفتكم عاهر ** وأبو يسير جدكم جالوت )
( شبانكم مرد وكل كهولكم ** قرنان صنعة شيخكم ديوث )
( ضجرت لدولتكم سموات العلى ** واستثقلتها الأرض والبهموت )
وما أنت في الحقيقة إلا قرد من القرود والقراد اللاصق في كل كلب مجرود وما حرصتم به من الصلح بين الملوك مكيدة فقد سبقكم بها السلطان أبو حمو رحمه الله وحتى الآن رغبتم في الخير فهو مطلبي ومغناطيس طبي وإن عشقتم الغير فجوابي لكم قول المتنبي
( ولا كتب إلا المشرفية والقنا ** ولا رسل إلا الخميس العرمرم )
____________________

استيلاء المولى محمد بن الشريف على فاس ثم رجوعه عنها
كان محمد الحاج الدلائي مستوليا على فاس بعد سيدي محمد العياشي كما قلنا وكان أهل فاس يمرضون في طاعته تارة ويستقيمون أخرى فولى عليهم قائده أبا بكر الثاملي وأنزله بدار الإمارة من فاس الجديد فاتفق أن وقعت بينه وبين أهل فاس القديم حرب فحاصرهم وقطع عنهم الماء فكتب أهل فاس إلى المولى محمد بن الشريف يستصرخونه ويضمنون له الطاعة والنصرة بما شاء من عدد وعدة متى قدم عليهم واحتل بين أظهرهم ووافقهم على ذلك عرب الغرب من الخلط وغيرهم فاغتنمها المولى محمد منهم وأقبل مسرعا حتى اقتحم دار الإمارة بفاس الجديد منسلخ جمادي الثانية سنة ستين وألف وقبض على أبي بكر الثاملي فسجنه وبايعه أهل البلدين فاس القديم وفاس الجديد معا واتفقوا على نصرته والقيام بأمره وكتبت له البيعة بفاس سابع رجب فأقام عندهم نحو أربعين يوما
واتصل الخبر بمحمد الحاج فجهز إليه جيشا كثيفا فبرز إليهم المولى محمد ودافعهم يوما أو بعض يوم فضعف عنهم وانهزم بظهرالرمكة خارج فاس يوم الثلاثاء عاشر شعبان سنة تسع وخمسين وألف فأسلم فاسا وانكفأ راجعا إلى سجلماسة ودخل أهل فاس الذين كانوا معه مدينتهم فأغلقوها عليهم
وحاصرهم الثاملي وأصحابه وقطع عنهم الماء وجرت خطوب هلك فيها جماعة من أعيان فاس منهم عبد الكريم اللايريني الأندلسي ومحمد بن سليمان وغيرهما وكان ذلك أواخر صفر سنة إحدى وستين وألف ثم راجعوا طاعة أهل الدلاء فولى عليهم الحاج ولده أحمد ولما استقر بفاس طالب أهلها بإخراج الجناة ورؤوس الفتنة من ضريح المولى إدريس رضي الله عنه فتعصب لهم الشريف أبو الحسن علي بن إدريس الجوطي وقام دونهم ثم عجز واختفى حتى أخرج بالأمان إلى زاوية أهل المخفية
____________________


ومنها خرج عن فاس بالكلية وسكنت الفتنة وكان ذلك في رمضان سنة إحدى وستين وألف
واستمر أحمد الدلائي أميرا على فاس إلى أن توفي في عشرين من ربيع الأول سنة أربع وستين وألف وخلفه أخوه محمد ومات سنة سبعين وألف رحم الله الجميع ثم وثب على فاس الجديد أبو عبد الله الدريدي فاستولى عليه استيلاء المولى محمد الشريف على وجدة وشنه الغارات على تلمسان وأعمالها وما نشأ عن ذلك
لما أيس المولى محمد بن الشريف من فاس والمغرب صرف عزمه لتمهيد عمائر الصحراء وبلاد الشرق فسار يتقرى الحلل والمداشر والقرى إلى أن بلغ بسيط آنكاد فبايعته الأحلاف وهو العمارنة والمنبات من عرب معقل وبايعته سقونة منهم أيضا فسار بهم إلى بني يزناسن وكانوا يومئذ في ولاية الترك فأغار عليهم وانتهب أموالهم وامتلأت أيد العرب من مواشيهم ثم انثنى إلى وجدة وكان أهلها يومئذ حزبين بعضهم قائم بدعوة الترك وبعضهم خارج عنها فانحاز الخارجون إلى المولى محمد فأغزاهم بشيعة الترك فانتهبوهم وشردوهم عن البلد وصفت وجدة له فاستولى عليها وكان ذلك أعوام الستين وألف ثم دلته العرب على أولاد زكرى وأولاد علي وبني سنوس المجاورين لهم فشن عليهم الغارات وانتهبهم فدخلوا في طاعته ثم سار إلى ناحية ندرومة فشن الغارة على مضغرة وقديمة وطرارة وولهاصة ورجع إلى وجدة فأقام بها مدة ثم توجه إلى تلمسان فأغار على سرحها وسرح القرى المجاورة لها واكتسح بسائطها فبرز إليه أهلها ومعهم عسكر الترك الذي كان بالقصبة فأوقع بهم وقتل منهم عددا كثيرا ورجع عوده على بدئه إلى وجدة فشتى بها
____________________


ولما انصرم فصل الشتاء خرج على طريق الصحراء فأغار على الجعافرة وانتهب أموالهم وقدم عليه هنالك محمود شيخ حميان من بني يزيد بن زغبة وهم اليوم في عداد بني عامر بن زغبة فقدم عليه محمود المذكور في قبيلته مبايعا له ومتمسكا بطاعته وقدمت عليه أيضا دخيسة ففرح بهم وأكرمهم ودلوه على الأغواط وعين ماضي والغاسول فنهب تلك القرى وأستولى على أموالها وفرت أمامه عرب الحارث وسويد وحصين من بني مالك بن زغبة فنزلوا بجبل راشد متحصنين به فرجع عنهم
واضطربت أحوال المغرب الأوسط واشرأبت رعاياه إلى الانتفاض على الترك وأخذ باي معسكر يخندق على نفسه وبعث إلى صاحب الجزائر المسمى عندهم بالدولة يخبره بما لحق الرعايا من عيث صاحب سجلماسة فأخرج صاحب الجزائر عساكره وهيأ مدافعه واستعد لحرب المولى محمد وقدم نائبه بالعساكر إلى تلمسان فلما سمع به المولى محمد استمر راجعا إلى وجدة وفرق العرب الذين كانوا مجتمعين عليه ووعدهم لفصل الربيع القابل
ثم قفل إلى سجلماسة بعد ما شب نيران الحرب في الإيالة التركية ونسفها نسفا وضرب أولها بأخرها
ولما وصل عسكر الترك إلى تلمسان وأخبروا برجوع المولى محمد إلى تافيلالت سقط في أيديهم ووجدوا البلاد خالية وكل الرعايا قد أجفلت عن أوطانها وتحصنوا بالجبال ولم يأتهم أحد بمؤنة ولا خراج وانحرف عنهم أهل تلمسان أيضا وكانوا قد ركنوا إلى المولى محمد وخاطبوه فرأى الترك أنهم قد شوركوا في بلادهم وزوحموا في سلطانهم فرجعوا إلى الجزائر
وكان من أمرهم ما نذكره الآن
____________________

مراسلة عثمان باشا صاحب الجزائر للمولى محمد بن الشريف وما دار بينهما في ذلك
لما رجع عسكر الترك إلى الجزائر وأخبروا صاحبها عثمان باشا الدولة بحال الرعايا وما نالها من صاحب سجلماسة جمع أهل ديوانه وأرباب مشورته وتفاوضوا في أمر المولى محمد وكيف التخلص من سطوته فلم يروا أجدى لهم من أن يبعثوا إليه برسالة مع اثنين من أعيان الجزائر وعلمائها واثنين من كبار الترك ورؤسائها لأنهم كانوا لا يتمكنون من حربه لو أرادوا ذلك لأنه يغير ويظفر وينتهب ثم يصحر فلا يمكنهم التعلق بأذياله ولا قطع فراسخه وأمياله فبعثوا إليه برسالة من إملاء الكاتب أبي الصون المحجوب الحضري مع الوفد المشار إليه يقول فيها
الحمد لله الذي وصى ولا رخص في مدافعه اللص والصائل شريفا أو مشروفا ونص وهو الصادق سبحانه على فصم عرى أصله المتأصل مجهولا أو معروفا وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم وعلى آله تيجان العز وبراقع الجباه والخياشم وصحابته صوارم الصولة الحاسمة من الكفر الطلي والغلاصم بالرماح العاملة والسيوف القواصم ولا زائد بعد حمد الله إلا مقصد خطاب الشريف الجليل القدر الصادق اللهجة والصدر من رتق الله به فتوق وطنه وحمى به من أحزاب الأباطيل أنجاد أرضه وأغوار عطنه حافد مولانا علي وسيدتنا البتول وولد مولانا الشريف بن مولانا علي السيتل الصؤل سلام عليكم ما رصعت الجفان سموت البحور ولمعت الجواهر الحسان على بياض النحور ورحمة الله تعالى وبركاته ما أساغت محض الحلال ذكاته وبعد فقد كاتبناكم من مغني غنيمة المقيم والظاعن والزائر رباط الجريد مدينة ثغر الجزائر صان الله من البر والبحر عرضها وأمن من زعازع العواصف والقواصف أرضها إلماعا لكم معادن الرياسة وفرسان القيافة والعيافة
____________________


والفراسة فضلا عن سماء صحا من الغيم والقتام جوه وضحى نشرت عليه الوديقة وشيا ففشا ضوءه بأن شؤون المملكة لم يتوان عن مكنون علمكم أمرها ولا أعوز عزائمكم زيدها وعمرها وذلك أن الوهاب سبحانه منحكم هيبة وهمة في الجود والحلم والحماسة واختار لكم عنوان عنايتها في غاب الصون سجلماسة لكن فاتكم سر رأي التدبير وأركبتم حزمكم جموع الجهل والتبذير مع أن ذلك في الحقيقة دأب كل مؤسس لدولة لا يجمعها إلا بجنايات الجولة والصولة فخرقت على الإيالة العثمانية جلباب صونها الجديد من وجدة الأبلق إلى حدود الجريد فشوشت علينا أخلاق أخلاط الأعراب إلى أن تعوقوا علينا في أرفق الآراب وشننت الغارة الشعواء على بني يعقوب فحسمت رسمهم على العقيب والعرقوب وغادرت جماهرهم تسعى على عيالهم الزياني والموزونة في أسواق مستغانم وديار مازونه وجررت ذيل المذلة على أطراف الغاسول والأغواط فالتقطتهم بطانتك التقاط سباع الطير الوطواط وقادك الجاهل الجهم محمود حيمان لعين ماضي و الصوانع وبني يطفيان فراحت رياح وسويد ينفض كل بطل منهم غباره وطينه على طود راشد وبليد قسطينة ولا كادنا إلا ما هتكتم من ستر السر على مرسى أبي الربيع السيد سليمان مع أنكم أولى من يراعي حرمته وتوقيره ويدافع عنه وعمن سواه ويرفد فقيره وتنسبون العجم للجهل وأنهم جفاة وأجلاف ثم صرتم بدلا وأخلاف خرج جيش قصبتنا بتلمسان بما لديهم من الرماة والفرسان فهزمتموهم بقرار وقتلتموهم قتل مذلة واحتقار فقلنا هذا أقل جزاء كل كلب حقير عقور يعرض عرضه لصولة الأسد الهصور ولا وافت الآفته في الغالب إلا الحضر مع شيع في الأجنة تجني الجنى والخضر كان أولاد طلحة وهداج وخراج يؤدون لهذه المثابة ما ثقل وخف من الخراج ولا يفوتنا من ملازمها وبر ولا شعر ولا صوف ولا سقب ولا جدي ولا خروف إلى أن طلعت علينا غرة شمسك السعيدة
____________________


فعادت كل شيعة قريبة عنا بعيدة وأعانك افتراق الجفاة من أهل وجدة وأن نصيبك الأوفر منهم أهل جدة ونجدة ولولاك ما ثار علينا أهل تلمسان وأنكروا ما لنا عليهم من قديم الحنانة والإحسان وردوا عليك الساحة والبساط ومرغوبهم أن تزفر علينا بسطوة الثعبان والساط مع علمنا اليقيني أن شجرتنا لا تضعضع بزعازع حيان ولا تندرس ولو انهارت عليها جبال جيان وأن الحجر لا يدق بالطوب والخاطف لا يطأ أوطية الخطوب كذلك في المثل جندك خلال الصدر والورود لا يصبرون لصواعق البارود ولا تنجح حجة الدروع والذوابل إلا في سوق شن الغارات على حلل القبائل وأما أسوار الجحافل وأدوار الكتائب فلا يصدمها فيهدمها إلا سيول الخيول والرماة الرواتب وزنت صولتك لبني عامر لذاذة النفار لكنف الكافر وداخل الوسواس والسوس جبال طرارة ومضغرة وبني سنوس والرعايا تود أن يحتفل لبنها في ضروعها لتختزن في تبن الخداع سنبل زروعها وإن قبلت منهم الأقوال والأفعال تعل طباعها على الدولة فتصير كالأغوال وإياك إياك والغرر لما عثرت عليه في كتاب البوني وأوراق السيوطي وعلى بادي وابن الحاج ورسالة أهل سبتة لعبد الحق بن أبي سعيد المريني بأنك المخصوص بصعود تلك الأدراج ذلك منك بعيد الوصول لا تدركه بالمسرة ولا بقبائع النصول وإن أوتاد الروم والترك تتقوض من أرض الغرب ولا يبقى من ينازعكم فيها بحرب ولا ضرب ليس لك في غنيمة إدراكه طمع ولا سبيل لتبديد ما نظمه حازمنا وجمع وقد غرتك أضغاث الأحلام وأغواك ضباب الغيب فأصبح ظنك منه في غياهب الأظلام فإن حرمت به فأنت لا شك حانث وإن كان منكم يقينا فرابع أو ثالث أولكم ثائر والثاني مقتف له سائر والثالث لكما أمير نائر إما عادل أو جائر ولا تمدن باع المخاطرة إلى أوطاننا فتخشى مخالب سطوة سلطاننا أما الشجاعة الغريزة فقد علمنا أن لك منها بالمهيمن أوفر نصيب وممن ضرب فيها فأصاب
____________________


الغرض بسهم مصيب لكن غاية كفاية الشجاع إذا حمي الوطيس الدفاع سيما في هذا الحين التي أبخستها عند الخلاص صناعة البارود والرصاص وجسرك علينا كونك عقابا على فرع شجر أو يعسوب نحل احتل صدع حجر لو رأيت ملوك آحاد أمصار البر والبحر لعلمت أنك محجوب ومحجور في حق ذلك الحجر وتحققت أن بين الأمراء مداراة ومراعاة وأن أحوال الدول أيام وساعات كل أحد يخاف على صدع فخاره ويطلق بخوره تحت نتن بخاره وما مرادنا إلا أمان العرب في المواضع ليطيب لها جولان الانتقال في المشتاة والمرابع ويجلب إليهم الغني والعديم ما يحصل له فيه ربح من الكساء والحناء والأديم فإن تعلقت همتك بالإمارة فعليك بالمدن التي حجرها عليك همج البرابر فصار يدعى لها بها على المنابر فشد لها حيازيمك لتذوق حلاوة الملك المعجونة بمرهم النجاة أو الهلك دع عنك وطن الرمال والعجاج ومخاطرة النفس في الفدافد والفجاج فناشدناك جدك من الأب والأم وما لك فيه من أخ وخال وعم إلا ما تجنبت ساحات تلمسان ولا زاحمتها بجموع رماة ولا فرسان وإن اشتهت الأعراب غارات بعضها على بعض فموعدها ما نأى عنا من مطلق الأرض وخمسنا أبدا على الغالب لتعلموا أن رأيهم عن معاني الصواب غائب إذ كلهم ذوو جفاء ونفار ويعمهم عند الدول ما يعم الكفار ليبقى بيننا وبينكم الستر المديد على الدوام ونلغي كلام الوشاة من الأقوام وقد شيعنا نحوكم أربعة صحاب تسر بمجالستهم الخواطر والرحاب الفقيه الوجيه السيد عبدالله النفزي والفقيه الأبر السيد الحاج محمد بن علي الحضري المزغنائي واثنين من أركان ديواننا وقواعد إيواننا أتراك سيوط وغاية غرضنا جميل الجواب بما هو أصفى وأصدق خطاب والله تعالى يوفقنا لأحمد طريق ويحشرنا مع جدك في خير فريق آمين والسلام وكتب في منتصف رجب الفرد الحرام عام أربعة وستين وألف اه
____________________


ولما وصلت الرسل إلى المولى محمد وقرأ الكتاب اغتاظ مما تضمنه من العتاب فأحضر الرسل وعاتبهم على قول مرسلهم وتحامله عليه فقالوا له نحن أتيناك سفراء برسالة باشا الجزائر فاكتب لنا الجواب ولا تقابلنا بعتاب فقال صدقتم فكتب إليهم بكتاب يقول في أوله وبعد فقد كتبناه إليكم من غرة جبين الصحارى وصرة أمصار المغارب والبراري مغني سجلماسة التي هي قاعدة العرب والبربر المسماة في القديم كنز البركة حالتي السكون والحركة ومضى في كتابه إلى أن ختمه ولم يجبهم إلى ما أرادوا
ولما رجعوا برسالته إلى صاحب الجزائر قرأها بمحضر أرباب الديوان ثم ردهم في الحين دون كتاب ولما قدموا على المولى محمد ثانية قالوا له إنه لم يكن لنا علم بما في الكتاب ولو اكتفينا به ما رجعنا إليك نحن جئناك لتعمل معنا شريعة جدك وتقف عند حدك فما كان جدك يحارب المسلمين ولا يأمر بنهب المستضعفين فإن كان غرضك في الجهاد فرابط على الكفار الذين هم معك في وسط البلاد وإن كان غرضك في الاستيلاء على دولة آل عثمان فابرز إليها واستعن بالرحيم الرحمن فلا يكن عليك في ذلك ملام فهذا ما جئنا له والسلام وأما إيقاد نار الفتنة بين العباد فليس من شيم أهل البيت الأمجاد ولا يخفى عليك أن ما تفعله حرام لا يجوز في مذهب من مذاهب المسلمين ولا قانون من قوانين الأعجام وهذان فقيهان من علماء الجزائر قد جاءا إليك حتى يسمعا منك ما تقوله ويحكم الله بيننا وبينك ورسوله فقد تعطلت تجارتنا وأجفلت عن وطننا رعيتنا فما جوابك عند الله في هذا الذي تفعله في بلادنا وأنت ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يعجزنا أن نفعله نحن في بلادكم ورعيتكم على أننا محمولون على الظلم والجور عندكم لكن تأبى ذلك همة سلطاننا
فلما سمع المولى محمد كلامهم أثر فيه وعظهم وداخلته القشعريرة
____________________


وعلاه سلطان الحق فأذعن له وقال والله ما أوقعنا في هذا المحذور إلا شياطين العرب انتصروا بنا على أعدائهم وأوقعونا في معصية الله وأبلغناهم غرضهم فلا حول ولا قوة إلا بالله وإني أعاهد الله تعالى لا أعرض بعد هذا اليوم لبلادكم ولا لرعيتكم بسوء وإني أعطيكم ذمة الله وذمة رسوله لا قطعت وادي تافنا إلى ناحيتكم إلا فيما يرضي الله ورسوله وكتب لهم بذلك عهدا إلى صاحب الجزائر وقنع بما فتح الله عليه من سجلماسة ودرعة وأعمالهما ولم يعد يغزو الشرق ولا توجه إليه بعد ذلك إلى أن خرج عليه أخوه المولى الرشيد فكان من أمره معه ما نذكر بعد إن شاء الله ثورة المقدم أبي العباس الخضر غيلان الجرفطي ببلاد الهبط
كان أبو العباس الخضر غيلان الجرفطي من أصحاب أبي عبد الله العياشي وكان مقدما على الغزاة ببلاد الهبط ولما قتل العياشي في التاريخ المتقدم استقل هو برياسة تلك الجهة واستمرت حاله إلى ثلاث وستين وألف فثار بالفحص وزحف إلى قصر كتامة فبرز إليه أهله فاقتتلوا مليا ثم انهزموا واتبعهم الخضر فاقتحم القصر عنوة وقتل جماعة وافرة من أعيانه وفر الكثير منهم إلى فاس منهم أولاد الفقيه عبد الله القنطري من أعيان القصر وبقي الخضر متغلبا على تلك الناحية
وفي ذي الحجة سنة تسع وستين وألف خرج من فاس المرابط الرئيس أبو سلهام بن كدار واتصل بالخضر غيلان وصار في جملته وكان أبو سلهام المذكور ممن ظاهر الدلائيين على سيدي محمد العياشي فبقي ذلك في قلب الخضر غيلان حتى قبض على أبي سلهام المذكور واعتقله بآصيلا ثم سرحه بعد حين قاله في نشر المثاني
____________________

وفاة المولى الشريف بن علي رحمه الله
كان المولى الشريف بن علي بسجلماسة وأعمالها على ما وصفناه قبل من الوجاهة والرئاسة والسيادة ممتثل الأمر متبوع العقب منذ نشأ ثم بايعه أهل سجلماسة سنة إحدى وأربعين وألف ونازعه بنو الزبير أصحاب تابوعصامت وبذلك استصرخ عليهم أبا حسون السملالي حتى ملك سجلماسة كما مر ولما تخلص من نكبة السوس وعاد إلى سجلماسة وجد ابنه المولى محمدا قد قام بالأمر بعده فتخلى له عنه وقطع بقية عمره فيما يرضي الله تعالى إلى أن أتاه اليقين ثالث عشر رمضان سنة تسع وستين وألف بسجلماسة مسقط رأسه ومقر عزه ومنبت أشباله ومدرج ملوكه وأقياله وجددت البيعة للمولى محمد ففارقه أخوه المولى الرشيد فخرج إلى الجبال فبقي متنقلا في أحيائها إلى أن كان من أمره ما نذكره إغارة المولى محمد بن الشريف على عرب الحياينة من أعمال فاس وما يتبع ذلك
لما كان آخر سنة ثلاث وسبعين وألف أغار المولى محمد بن الشريف على زرع الحياينة بأحواز فاس فانتسفه وأفسده ووقعت عقب ذلك مجاعة عظيمة أكل الناس فيها الجيف والدواب والآدمي وخلت الدور وعطلت المساجد وخرج أهل فاس يستغيثون بأهل الدلاء وكان الشريف أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن علي بن طاهر الحسني قد قدم فاسا بقصد أن يبايعه أهلها فلم يجيبوه وقيل بل نصره بعضهم وخرج إلى عرب الحياينة فذهب بهم إلى قتال المولى محمد بن الشريف فلم يلقه
وفي أوائل سنة أربع وسبعين وألف حاز طاغية النجليز طنجة من يد البرتغال قال في البستان لضعفهم عن مقاومة المسلمين يومئذ بسبب أن
____________________


المسلمين غزوهم في هذه الأيام فقتلوا منهم ستمائة مقاتل ثم غزوهم فقتلوا منهم أربعمائة أخرى وقال منويل القشتيلي في كتابه الموضوع في أخبار المغرب الأقصى سبب ذلك أن طاغية البرتغال وهو إخوان السادس يقال بالخاء والجيم أراد تأكيد المحبة بينه وبين طاغية النجليز وهو كارلوس الثاني فزوجه أخته وجهزها إليه بمفاتيح طنجة فبقيت بيده اثنين وعشرين سنة ثم تخلى عنها للمسلمين ا هـ قيام المولى الرشيد بن الشريف على أخيه المولى محمد ومقتل الأخ المذكور رحمه الله
قد قدمنا ما كان من فرار المولى الرشيد عن أخيه المولى محمد يوم وفاة أبيهما رحمه الله فذهب المولى الرشيد يومئذ إلى تدغة فأقام بها مدة ثم سار إلى دمنات فأقام بها مدة أيضا ثم أتى زاوية أهل الدلاء فأقام عندهم ما شاء الله فيقال إن بعض أهل الزاوية أشار عليه بالخروج منها خوفا عليه من الفتك به لأن الدلائيين كانوا يزعمون فيما عندهم من العلم أن خلاء زاويتهم يكون على يده فقبل المولى الرشيد إشارته ثم خرج إلى جبل آصرو فأقام به برهة من الدهر ثم توجه إلى فاس ومعه نفر قليل فبات بظاهر فاس الجديد فأكرم رئيسها أبو عبد الله الدريدي ضيافته ومن الغد ارتحل عنها إلى تازا ثم إلى عرب الأحلاف
قال في النزهة إلى أن أدته خاتمة المطاف إلى قصبة اليهودي ابن مشعل وكان لهذا اليهودي أموال طائلة وذخائر نفسية ولع على المسلمين صولة وكان لهذا اليهودي أموال طائلة وذخائر نفيسة وله على المسلمين صولة واستهانة بالدين وأهله فلم يزل المولى الرشيد يفكر في كيفية اغتيال اليهودي المذكور إلى أن أمكنه الله منه في خبر طويل فقتله واستولى على أمواله وذخائره وفرقها فيمن تبعه وانضاف إليه من عرب آنكاد وغيرهم فقوي عضده وكثر جمعه ا ه
____________________



وقال صاحب نشر المثاني إن المولى الرشيد لما رحل عن فاس قدم على الشيخ أبي عبد الله اللواتي بأحواز تازا وكان الشيخ المذكور ينتحل طريقة الفقر ويعظم أهل البيت فبالغ في إكرامه فبينما هو مقيم عنده إذ رأى ذات يوم رجلا ذا هيئة من مماليك وأتباع وخيل وهو يصطاد كهيئة الملوك فسأل عنه فقيل له هذا ابن مشعل من يهود تازا فانصرف المولى الرشيد وجعل مدية في فمه وجاء إلى الشيخ اللواتي فلما رآه الشيخ على تلك الحال أعظم ذلك وقال له المال والرقبة لك يا سيدي فما الذي دهاك قال تأمر جماعة من عشيرتك يسيرون معي حتى أفتك بهذا اليهودي غيرة على الدين فقال قد فعلت لا يتخلف عنك منهم أحد فاختار المولى الرشيد منهم جماعة وواعدهم على تبييت اليهودي واقتحام داره عليه وكان اليهودي قد اتخذ دارا بالبيداء على نحو مرحلة من تازا في جهة الشرق فلما كانت ليلة الموعد تقدم المولى الرشيد إلى دار ابن مشعل في صورة ضيف فأضافه ابن مشعل ولما انتصف الليل أحاط أصحابه بالدار وكبس المولى الرشيد اليهودي في بعض خلواته فقتله وأدخل الرجال فاستولى على دار ابن مشعل بعد الفتك بأصحابه وحراسه وعثر فيها على أموال كثيرة وذخائر نفيسة وقيل وهو الشائع عند بني يزناسن أن ابن مشعل المذكور كان مقيما بين أظهرهم قد اتخذ حصنا ببعض جبالهم وهم محدقون به فجاءهم المولى الرشيد ولم يزل يلاطفهم في شأن اليهودي حتى أثر كلامه فيهم ونما إلى اليهودي بعض ذلك وأنهم مسلموه فنزل إلى المولى الرشيد بهدية نفيسة يسترضيه بها فلم يكن بأسرع من أن قبض عليه وقتله وتقدم إلى الدار فاستولى عليها واستخرج ما فيها من الأموال فالله أعلم أي ذلك كان
ثم إن المولى الرشيد دعا لنفسه أعراب الشرق وجمع كلمتهم ونزل وجدة واتصل ذلك كله بأخيه المولى محمد صاحب سجلماسة فتخوف منه
____________________


لما يعلم من صرامته وشهامته فنهض لقتاله والقبض عليه فلما التقى الجمعان ببسيط آنكاد كانت أول رصاصة في نحر المولى محمد فكان فيها حتفه وذلك يوم الجمعة التاسع من المحرم سنة خمس وسبعين وألف ودفن بدار ابن مشعل فأسف المولى الرشيد لقتله وأظهر الحزن عليه وتولى تجهيزه بنفسه فحمله إلى بني يزناسن ووراه هنالك في رمسه رحمه الله وغفر له
وكان المولى محمد شجاعا مقداما لا يبالي بالعظائم ولا يخطر بباله خوف الرجال ولا يدري ما هي النكبات والأوجال وتقدم وصف أهل الدلاء له بقولهم الأجدل الذي لا تؤده هموم الليالي ولا حرارة قيظ المصيف عقاب أشهب على قنة كل عقبة لا يقنعه المال دون حسم الرقبة وشجاعته شهيرة وكان مع ذلك قويا في بدنه أيدا في أعضائه وجسمه لا يقاوم في الصراع ولا يزاول في الدفاع
حكي أنه في بعض أيام حصاره لتابوعصامت جعل يده في بعض ثقب الحصن وصعد عليها ما لا يحصى من الناس حتى كأنها خشبة منصوبة ولبنة مضروبة وكان سخيا جدا حتى أنه أعطى الأديب الشهير المتقدم في صناعة الشعر المعرب والملحون أبا عثمان سعيدا التلمساني صاحب القصيدة العقيقية وغيرها نحوا من خمسة وعشرين رطلا من خالص الذهب جائزة له على بعض أمداحه فيه وحكاياته في هذا المعنى شهيرة
ولما قتل رحمه الله قام بسجلماسة ولده المولى محمد الصغير مقامه لكن لم يتم له أمر وسيأتي بعض خبره إن شاء الله
____________________

الخبر عن دولة أمير المؤمنين المولى الرشيد بن الشريف رحمه الله
لما قتل المولى محمد بن الشريف رحمه الله في التاريخ المتقدم وانحشرت جموعه كلها إلى أخيه المولى الرشيد فبايعوه البيعة العامة ودخل في طاعته الأحلاف وبنو يزناسن وغيرهم وبعث إلى أهل تلك النواحي كلها من العرب والبربر يدعوهم إلى الطاعة واجتماع الكلمة فقدمت عليه وفودهم بالهدايا وكتب من كان مع اخيه في ديوان جيشه وكساهم وأعطاهم الخيل والسلاح وعظم أمره وعلا كعبه ثم احتاج إلى المال وكان قد أخذ ولد اليهودي ابن مشعل يوم قتل أباه فجاءت أمه تطلب فداءه فتفرس فيها وماطلها به ثم قال لا أسرحه حتى تدليني على مال زوجك أو أقتله فأنعمت له بذلك وركب معها إلى القصبة فدلته على خزانة في بيت فنقب عنها فلقي فيها خوابي مملوءة ذهبا وفضة فاستخرجها وارتاش بتلك الأموال وفرق منها على من معه من العرب والبربر وسائر الأجناد فحسنت حاله وحالهم وعد ذلك من سعادته ولما قضى إربه ورتب جنده بعث رسله إلى الآفاق بالأعذار والإنذار والوعود والوعيد لأهل الطاعة والعصيان ثم سار على أثرهم قاصدا فتح المغرب الذي كان قد تعذر على أخيه من قبله فنزل على وادي ملوية وأقام به أياما للاستراحة وانتظار من يأتيه من أهل تلك النواحي مثل جاوت والريف وغيرهما فلم يأته أحد والله غالب على أمره
____________________

فتح مدينة تازا ثم سجلماسة وما تخلل ذلك
لما أقام المولى الرشيد رحمه الله على ملوية ولم يأته من أهل المغرب أحد تقدم إلى تازا فاقتحمها بعد محاربة طويلة وبايعه أهلها والقبائل التي حولها ولما اتصل خبر ذلك بأهل فاس اجتمعوا مع جيرانهم من عرب الحياينة والبهاليل وأهل صفر وغيرهم وتحالفوا على حرب المولى الرشيد وعدم بيعته بحال ظنا منهم أنه يفعل بهم ما فعله أخوه المولى محمد بالحياينة من النهب والقتل وأمر رؤساء فاس عامتها بشراء الخيل والعدة والإكثار منها ووظفوا على كل دار مكحلة ومن لم توجد عنده مكحلة منهم يعاقب فاشتروا من ذلك فوق الكفاية وخرجوا إلى باب الفتوح لعرض الخيل والسلاح وعملوا اللعب المسمى بالميز واجتمعوا أيضا مع الحياينة وأكدوا الحلف على حرب المولى الرشيد ولما بلغه خبرهم وما هم عليه أعرض عنهم وعدل إلى سجلماسة وكان ذلك منه صوابا في الرأي إذ قدم الأسهل فالأسهل وتناول الأخف فالأخف
ولما أناخ على سجلماسة حاصرها نحو تسعة أشهر إلى أن فر عنها ابن أخيه المولى محمد الصغير المنتزى بعد أبيه كما مر فخرج منها ليلا ودخلها المولى الرشيد واستولى عليها وسد فرجها ورتب حاميتها ومهد أطرافها ورجع إلى تازا فاحتل بها ولكل أجل كتاب
____________________

حصار مدينة فاس ثم فتحها والإيقاع بثوارها
لما قفل المولى الرشيد رحمه الله من سجلماسة إلى تازا أقام بها أياما فاتفق أهل فاس مع أحلافهم من الحياينة أن يغيروا عليه بمستقره منها ويبدأوه بالحرب قبل أن يبدأهم ليكون ذلك كاسرا من شوكته وفاتا في عضده فتأهبوا للحرب وخرجوا في شوال سنة خمس وسبعين وألف ولما قابلوا محلته افترقت كلمتهم ورجعوا منهزمين من غير قتال فتبعهم المولى الرشيد إلى قنطرة نهر سبو خارج فاس ثم رجع عنهم فبعثوا إليه في الصلح فلم يتم بينه وبينهم صلح إلى أن ملك أطراف المغرب كله وكان ذلك من حسن تدبيره وترتيبه الأمور
ثم دخلت سنة ست وسبعين وألف ففي صفر منها زحف إلى فاس وحاصرها وقاتلها ثلاثة أيام فأصابته رصاصة في طرف أذنه ورجع سالما ثم عاد إلى حصارها مرة أخرى في ربيع الأول من السنة المذكورة فقتل ونهب ورجع إلى تازا لأنه لم يأت بقصد فتحها ثم توجه إلى الريف بقصد الرئيس أبي محمد عبد الله آعراس الثائر به فكانت بينهما وقعات وحاصره في بعض حصونه إلى أن قبض عليه في رمضان من السنة فعفا عنه واستبقاه وكر راجعا إلى فاس فنزل عليها في أواخر ذي القعدة من السنة وقاتلها قتالا شديدا إلى ثالث ذي الحجة فاقتحم فاسا الجديد من أعلى السور من ناحية الملاح وفر أميرها يومئذ أبو عبد الله الدريدي وهذا الدريدي كان في جملة من إخوانه بني دريد بن أثبج الهلاليين وكانوا في ديوان السعديين ولما بايع أهل فاس الرئيس أبا عبد الله محمد الحاج الدلائي كان الدريدي هذا في عسكره فلما فشلت ريح أهل الدلاء بالمغرب نزع عنهم واستبد بفاس الجديد وحالف أهل فاس القديم على حرب الدلائيين ثالث جمادى الثانية سنة أربع وسبعين وألف وقد كان أحمد بن صالح الليريني رئيس أهل عدوة الأندلس قد خطب ابنة الدريدي لولده صالح بن أحمد فزوجه إياها والتحم
____________________


ما بينهما فكان الدريدي يشن الغارات على قبائل البربر الذين بأحواز مكناسة وغيرها ويأتي بالنهب والطبل يقرع عليه إلى أن يدخل دار الإمارة واستمر على ذلك إلى أن اقتحم عليه المولى الرشيد فاسا كما قلنا ففر إلى منجاته وقال في النزهة بل قتله المولى الرشيد وسكن هيعة فاس الجديد ومن الغد زحف إلى فاس القديمة فحاصرها وقاتلها فضعفوا عن مقاومته وفر رئيس اللمطيين ابن الصغير وولده ليلا إلى بستيون باب الجيسة ولما طلع الفجر فر أيضا رئيس عدوة الأندلس أحمد بن صالح فرأى أهل فاس أن أمرهم قد ضعف وكلمتهم قد افترقت فخرجوا إلى المولى الرشيد وبايعوه واجتمعت كلمتهم عليه فبعث في طلب ابن صالح فوجد بحوز المدينة فجيء به وسجن بباب دار ابن شقراء لفاس الجديد ثم قتل وقتل معه عدة من أصحابه ثم قبض على ابن الصغير وولده وبعد سبعة أيام أمر السلطان بقتلهما فقتلا واستقام أمر فاس وصلحت أحوالها قال في النزهة افتتح أمير المؤمنين المولى الرشيد فاسا القديمة فحكم السيف في رؤسائها وأفناهم قتلا فتمهدت البلاد واجتمعت الكلمة وكان دخوله حضرة فاس القديمة صبيحة يوم الاثنين أوائل ذي الحجة سنة ست وسبعين وألف وبويع بها يومه ذلك ولما تمت له البيعة أفاض المال على علمائها وغمرهم بجزيل العطاء وبسط على أهلها جناح الشفقة والرحمة وأظهر إحياء السنة ونصر الشريعة فحل من قلوبهم بالمكان الأرفع وتمكنت محبته من قلوب الخاصة والعامة ا هـ
وولي قضاء فاس السيد حمدون المزوار ثم خرج إلى بلاد الغرب فقصد الخضر غيلان الثائر ببلاد الهبط وكان بقصر كتامة فزحف إليه المولى الرشيد فانهزم الخضر إلى آصيلا ورجع المولى الرشيد عنه إلى فاس أوائل ربيع الأول سنة سبع وسبعين وألف فكتبت له البيعة بفاس وقرئت بين يديه قبل زوال يوم السبت الثامن عشر من ربيع الأول المذكور ثم في شهر ربيع
____________________


الثاني من السنة غزا المولى الرشيد أحواز مكناسة وقصد آيت واللال من البربر شيعة محمد الحاج الدلائي فأوقع بهم ورجع عوده على بدئه وبعد رجوعه نزل محمد الحاج بجموع البربر قرب وادي فاس بأبي مزورة من أحواز فاس فقاتله المولى الرشيد ثلاثا ورجع كل إلى وطنه ثم خرج المولى الرشيد إلى تازا وأعمالها حادي عشر رجب ففقدها ورجع إلى فاس في شوال من السنة المذكورة ثم عزل العقيد قائد مكناسة ثم خرج ثاني يوم النحر من السنة إلى بني زروال فأوقع بالشريف النابغ فيهم وبعث به محبوسا إلى فاس فدخلها ثاني محرم سنة ثمان وسبعين وألف ثم مال المولى الرشيد إلى تطاوين فقبض على رئيسها أبي العباس النقسيس في جماعة من حزبه وقدم بهم إلى فاس فسحبهم بها أوائل ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وألف إلى أن كان من أمرهم ما نذكره فتح زاوية الدلائي وتغريب أهلها إلى فاس وتلمسان وما يتبع ذلك
لما كانت ضحوة يوم الخميس الثاني عشر من ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وألف خرج أمير المؤمنين المولى الرشيد رحمه الله غازيا زاوية أهل الدلاء وكان قد أسند الفتوى إلى الفقيه أبي عبد الله محمد بن أحمد الفاسي فلقي جموع الدلائيين وعليهما ولد محمد الحاج ببطن الرمان من فازاز فانتشبت الحرب بين الفريقين مليا ثم انهزم الدلائيون ورجعوا يقفون أثرهم إلى الزاوية قال الشيخ اليوسي رحمه الله في محاضراته كان الرئيس أبو عبد الله محمد الحاج الدلائي قد ملك الغرب بسنين عديدة واتسع هو وأولاده وإخوته وبنو عمه في الدنيا فلما قام السلطان المولى الرشيد بن الشريف ولقي جموعهم ببطن الرمان ففضها دخلنا على الرئيس أبي عبد الله المذكور وكان لم يحضر المعركة لعجزه وكبر سنه يومئذ فدخل عليه أولاده وإخوته وأظهروا له عجزا شديدا وضيقا عظيما فلما رأى منهم ذلك
____________________


قال لهم ما هذا إن قال لكم حسبكم فحسبكم يريد الله تعالى قال اليوسي وهذا كلام عجيب وإليه يساق الحديث والمعنى إن قال الله تعالى لكم حسبكم من الدنيا فكفوا راضين مسلمين اه وكان استيلاء المولى الرشيد على الزاوية في ثامن المحرم سنة تسع وسبعين وألف ولما خرج إليه أهلها عفا عنهم ولم يرق منهم دما ولا كشف لهم سترا حلما وكرما منه رحمه الله قال في النزهة لما وقعت الهزيمة على أهل الدلاء دخل المولى الرشيد الزاوية وأمر بمحمد الحاج وأولاده وأقاربه أن يحملوا إلى فاس ويسكنوا بها فحملوا إليها واستوطنوها مدة ثم أمر أن يذهب بهم إلى تلمسان فغربوا إليها وسكنوها مدة
وحدثوا أن محمدا الحاج رحمه الله لما دخل تلمسان قال كنت وجدت في بعض كتب الحدثان أني أدخل تلمسان فظننت أني أدخلها دخول الملوك فدخلتها كما ترون ولم يزل بها إلى أن توفي فاتح سنة اثنتين وثمانين وألف ودفن عند ضريح الإمام السنوسي رضي الله عنه ولما توفي المولى الرشيد رجع أولاده وأقاربه إلى فاس فاستوطنوها بإذن من السلطان المظفر المولى إسماعيل ولما دخل المولى الرشيد الزاوية غير محاسنها وفرق جموعها وطمس معالمها وصارت حصيدا كأن لم تغن بالأمس بعد أن كانت مشرقة إشراق الشمس فمحت الحوادث ضياءها وقلصت ظلالها وأفياءها وطالما أشرقت بأبي بكر وبنيه وابتهجت وفاحت من شذاهم وتأرجت ارتحل عنها فرسان الأقلام الذين ينجاب بوجوههم الظلام وبانت عنها ربات الخدور وأقامت بها أتافي القدور ولقد كان أهلها يعفون آثار الرياح فعفت آثارهم وذهبت الليالي بأشخاصهم وأبقت أخبارهم فثل ذلك العرش وعدا الدهر حين أمن من الأرش ولم يدفع الرمح ولا الحسام ولم تنفع تلك المنن الجسام فسحقا لدنيا ما رعت لهم حقوقا ولا أبقت لهم شروقا وهي الأيام لا تقي من تجنيها ولا تبقي على مواليها ومدانيها
____________________


أذهبت آثار جلق وأخمدت نار المحلق وذللت عزة ابن شداد وهدت القصر ذي الشرفات من سنداد وكل يلقى معجله ومؤجله ويبلغ الكتاب يوما أجله ولقد أحسن ربي نعمتهم المقر بإحسانهم ومنتهم شيخ مشايخ المغرب على الإطلاق الإمام الذي وقع على علمه وعمله الاتفاق أبو علي الحسن بن مسعود اليوسي رحمه الله في رائيته التي رثى بها الزاوية المذكورة وبكى أيامها يقول في مطلعها
( أكلف جفن العين أن ينثر الدرا ** فيأبى ويعتاض العقيق بها خمرا )
وهي طويلة شهيرة قلت ولم يصرح فيها بأسمائهم مراعاة لجانب السلطان وذلك هو الواجب والمناسب فرحم الله الشيخ اليوسي ما كان أعرفه بمقتضيات الأحوال فتح مراكش ومقتل الأمير أبي بكر الشباني وشيعته
لما فرغ المولى الرشيد رحمه الله من أمر الزاوية توجه إلى مراكش في الثاني والعشرين من صفر من السنة أعني سنة تسع وسبعين وألف فاستولى عليها وقتل رئيسها أبا بكر بن عبد الكريم الشباني وجماعة من أهل بيته
وقال في النزهة لما بلغ أبا بكر الشباني وقومه مسير المولى الرشيد إليهم خرجوا فارين بأنفسهم من مراكش إلى شواهق الجبال لما خامر قلوبهم من رعبه فدخل المولى الرشيد مراكش وأفنى من وجد بها من الشبانات وقبض على أبي بكر وبني عمه فعرضهم على السيف واستنزل تلك الفئة الشريدة من الصياصي وأخذ منهم بالأقدام والنواصي وأخرج عبد الكريم من قبره فأحرقه بالنار
ولما فتح مراكش قام بها نحو شهر ثم رجع إلى فاس فدخلها يوم الجمعة السابع والعشرين من ربيع الثاني من السنة المذكورة وفي هذه السنة خرج المولى محمد الصغير من تافيلالت في شيعته وخلى سبيل البلد وفيها
____________________


أيضا ركب الخضر غيلان البحر إلى الجزائر وخلى سبيل آصيلا ولما رجع المولى الرشيد إلى فاس عزل أبا عبد الله الفاسي عن الفتوى وعزل الفقيه المزوار عن قضائها منسلخ جمادى الثانية من السنة وولى القضاء الفقيه أبا عبد الله محمد بن الحسن المجاصي والخطابة بجامع القرويين الفقيه أبا عبد الله محمدا البوعناني وفي منتصف رجب من السنة المذكورة غزا المولى الرشيد بلاد الشاوية ورجع إلى فاس في سابع رمضان العام فعفا عن بعض أهل الدلاء وبقي الآخرون بضريح الشيخ أبي الحسن علي بن حرزهم إلى تمام السنة فعفا عن الجميع وردهم إلى بلادهم إلا ما كان من محمد الحاج وبنيه فإنهم غربوا إلى تلمسان ومات هو هنالك ولما ولي الأمر المولى إسماعيل وقعت الشفاعة في الأولاد فرجعوا إلى فاس كما مر
وفي يوم السبت سابع عشر ذي الحجة من السنة غزا المولى الرشيد آيت عياش من برابر صنهاجة وفيها أمر بضرب السكة الرشيدية وأقرض تجار فاس وغيرها اثنين وخمسين ألف مثقال بقصد التجارة إلى أن ردوها بعد سنة
وفي هذه السنة أيضا حاز طاغية الإصبنيول مدينة سبته من يد البرتغال في سبيل مشارطة وقعت بينهم في مدينة أشبونة واستمرت في يد الإصبنيول إلى الآن بناء قنطرة وادي سبو خارج فاس
وفي يوم السبت الرابع عشر من ذي القعدة سنة تسع وسبعين وألف أمر المولى الرشيد ببناء قنطرة نهر سبو الأقواس الأربعة خارج فاس فأخذوا في تهيئة الأسباب وحفر الأساس وفي منتصف جمادى الثانية سنة ثمانين وألف شرعوا في البناء بالآجر والجير فكملت على أحسن حال
ولما تكلم الشيخ اليوسي في المحاضرات على الحديث الصحيح إن
____________________


أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى بملك الأملاك قال ما نصه ومن البشيع الواقع في زماننا في الأوصاف أنه لما بنى السلطان المولى الرشيد بن الشريف جسر نهر سبو صنع بعضهم يعني القاضي أبا عبد الله المجاصي أبياتا كتبت فيه برسم الأعلام أولها
( صاغ الخليفة ذا المجاز ** ملك الحقيقة لا المجاز )
قال فحمله اقتناص هذه السجعة والتغالي في المدح والاهتبال بالاسترضاء على أن جعل ممدوحه ملكا حقيقيا لا مجازيا وإنما ذلك هو الله وحده وكل ملك دونه مجاز الممدوح وغيره اه
وفي هذه السنة وذلك يوم الاثنين الثاني والعشرين من رجب خرج المولى الرشيد غازيا الأبيض فقبض على أولاد أخي الأبيض ولما وصل إلى تازا أمر بقتلهم فقتلوا ثم مرض مرضا شديدا أشرف منه على الموت فأمر بتسريح المساجين وإخراج الصدقات فعافاه الله
وفي منتصف ذي القعدة من السنة أمر بإعمال وليمة العرس لأخيه المولى إسماعيل بدار ابن شقراء من حضرة فاس الجديد قال اليفرني احتفل المولى الرشيد في ذلك العرس بما لم يعهد مثله اه وكانت العروس من بنات الملوك السعديين وفي شوال من السنة جدد قنطرة الرصيف بفاس والله أعلم فتح تارودانت وإيليغ وسائر السوس
قد قدمنا أن أبا حسون السملالي كان مستوليا على بلاد السوس فاستمر حاله على ذلك إلى أن توفي سنة سبعين وألف وكان رحمه الله لين الجانب محمود السيرة موصوفا بالعفة متوقفا في الدماء ولما هلك خلفه ولده أبو عبد الله محمد بن أبي حسون فلما كانت سنة إحدى وثمانين وألف غزا المولى الرشيد رحمه الله بلاد السوس فاستولى على
____________________


تارودانت رابع صفر من السنة وأوقع بهستوكة فقتل منهم أكثر من ألف وخمسمائة وأوقع بأهل الساحل فقتل منهم أكثر من أربعة آلاف وأوقع بأهل قلعة إيليغ دار ملك أبي حسون فاستولى عليها في مهل ربيع الأول من السنة وقتل منهم بسفح الجبل أكثر من ألفين وصفا أمر السوس للمولى الرشيد
وفي هذه السنة أيضا في سابع ربيع الأول منها قتل المولى إسماعيل وكان نائبا عن أخيه بفاس ستين رجلا من أولاد جامع وكانوا يقطعون الطريق فقتلهم وصلبهم على سور البرج الجديد وفيها في جمادى الأخيرة منها أمر المولى الرشيد بضرب فلوس النحاس المستديرة وكانت قبل مربعة وهي الأشقوبية وجعل أربعة وعشرين في الموزونة وكانت قبل ثمانية وأربعين ورجع إلى فاس في ثالث رجب من السنة وفي أول شعبان منها شرع في بناء مدرسة الشراطين بدار الباشا عزوز من فاس وكان قد أمر ببناء مدرسة عظيمة بإزاء مسجد أبي عبد الله محمد بن صالح من حضرة مراكش والله لا يضيع أجر من أحسن عملا تأليف جيش شراقة وأوليتهم وشرح لقبهم
قد قدمنا في أخبار السعديين أن لفظ شراقة في الأصل لقب لعرب بادية تلمسان ومن انضاف إليهم وسموا بذلك لأنهم في جهة الشرق عن المغرب الأقصى فأهل تلمسان مثلا يسمون أهل المغرب الأقصى مغاربة وأهل المغرب الأقصى يسمون أهل تلمسان مشارقة إلا أن العامة يلحنون في هذه النسبة فيقولون شراقة بتخفيف الراء وإيقاف المعقودة وقد كان للسعديين جند من هؤلاء العرب كما مر
ولما جاء الله بدولة أمير المؤمنين المولى الرشيد رحمه الله واجتمع عليه من عرب آنكاد وغيرهم ما قدمنا ذكره نزع إليه من أهل تلك البلاد عدة قبائل
____________________


بعضها من العرب وبعضها من البربر أنفا من ولاية الترك فقبلهم فمن العرب أشجع وبنو عامر ومن البربر مديونة وهوارة وبنو سنوس فأمر رحمه الله ببناء القصبة الجديدة بفاس بديار لمتون وعرصة ابن صالح وبذل لأصحابه وقواده ألف مثقال لبناء سورها وأمرهم ببناء الدور فيها وأعطى شراقة هؤلاء ألف دينار لبناء قصبة الخميس بعد أن كان أنزلهم أولا بأحواز فاس فحصل منهم الضرر لأهل المدينة وشكوهم فأمرهم بالانتقال بحلتهم إلى بلاد صدينة وفشتالة بين النهرين سبو وورغه وأقطعهم تلك الأرض وعزل عزابهم وأمرهم ببناء بيوتهم على حدة ثم أعطاهم ألف دينار لبناء سور القصبة كما قلنا وجعلهم قبيلة واحدة فلم تتميز الآن عربهم من بربرهم ثم خرج المولى الرشيد رابع رمضان من السنة لزيارة الشيخ أبي يعزى رضي الله عنه ومنه ذهب إلى سلا فزار صلحاءها وعاد إلى فاس فدخلها منسلخ رمضان المذكور
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وألف في صفر منها بعث خيلا للجهاد على طنجة وفي منتصف جمادى الأولى بعث خيلا أخرى إلى السوس وعليهم أبو محمد عبد الله آعراس ثم خرج إلى الصيد بتافرطاست فبلغه هنالك خبر ثورة ابن أخيه المولى محمد بن محمد بمراكش فرجع إلى فاس فدخلها يوم السبت حادي عشر رمضان ثم خرج منها عصر يومه ذلك فلقيه ابن أخيه بفزارة مقبوضا عليه بيد أصحابه فبعث به إلى تافيلالت وسار هو إلى مراكش وبعث قائده زيدان العامري إلى فاس في ذي القعدة ليأتيه بالجيش لغزو السوس فأتاه أهل السوس طائعين ولم يبق للحركة محل بعد أن كانت الأخبية قد أخرجت إلى وادي فاس وضربت به فاستقرت قواعد الملك للمولى الرشيد وتمهدت أمور الدولة والله غالب على أمره
____________________

وفاة أمير المؤمنين المولى الرشيد رحمه الله
كان أمير المؤمنين المولى الرشيد رحمه الله في هذه المدة مقيما بمراكش كما قلنا إلى أن كان عيد الأضحى من سنة اثنتين وثمانين وألف فلما كان ثاني يوم النحر وهو يوم الخميس ركب فرسا له وأجراه فجمح به في بستان المسرة ولم يملك عنانه فأصابه فرع شجرة نارنج فهشم رأسه وقيل دخل في أذنه وكانت فيه منيته رحمه الله ودفن بمراكش بالقصبة منها ثم نقل إلى ضريح الشيخ أبي الحسن علي بن حرزهم بفاس لوصية منه بذلك ومات رحمه الله وسنه اثنتان وأربعون سنة لأنه ولد سنة أربعين وألف ورثاه بعضهم بقوله
( وما شج ذات الغصن رأس إمامنا ** لسوء له خدن المحبة جاحد )
( ولكنه قد غار من لين قده ** وإن من الأشجار ما هو حاسد )
قلت لا يخفى أن مثل هذا الشعر لا يحسن أن تمدح به الملوك فإنه بالغزل أشبه منه بالرثاء وكان قد وقع بين المولى الرشيد رحمه الله وبين شيخ الوقت الإمام أبي عبد الله محمد بن ناصر الدرعي رضي الله عنه مكاتبات توعده أمير المؤمنين في بعضها فمات عقب ذلك وكفى الشيخ المذكور أمره
ومن مآثره رحمه الله أنه لما مر في بعض حركاته بالموضع المعروف بالشط من بلاد الظهراء أمر بحفر آبار شتى فهي الآن تدعى بآبار السلطان إضافة له يستقي منها ركب الحجيج في ذهابه وإيابه فهي إن شاء الله في ميزان حسناته وكان رحمه الله محبا في جانب العلماء مؤثرا لأغراضهم مولعا بمجالستهم محسنا إليهم حيث ما كانوا
ومن نوادره معهم ما حكي أن العلامة أبا عبد الله محمد المرابط بن محمد بن أبي بكر الدلائي حضر يوما بمجلس السلطان المذكور وذلك بعد
____________________


الإيقاع بزاويتهم وتغريبهم إلى فاس فأنشد السلطان معرضا بالفقيه المذكور قول أبي الطيب المتنبي
( ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ** عدوا له ما من صداقته بد )
ففهم أبو عبد الله المرابط إشارته فقال أيد الله أمير المؤمنين إن من سعادة المرء أن يكون خصمه عاقلا فاستحسن الحاضرون حسن بديهته ولطف منزعه
ومن تواضع المولى الرشيد رحمه الله مع أهل العلم ما حكاه صاحب الجيش من أنه بعث إلى بعض علماء عصره ليقرأ معه بعض الكتب فامتنع ذلك العالم وقال كما قال الإمام مالك رضي الله عنه العلم يؤتى ولا يأتي قال فكان المولى الرشيد رحمه الله يتردد لمنزل ذلك العالم للقراءة عليه وقد ذكر صاحب نشر المثاني أنه كان يحضر مجلس الشيخ اليوسي بالقرويين ا هـ وهذه لعمري منقبة فخيمة ومأثره جسيمة فرحم الله تلك الهمم التي كانت تعرف للعلم حقه وتقدر قدره قالوا وكان رحمه الله جوادا سخيا رحل الناس إليه من المشرق فما دونه وقصده بعض طلبة ثغر الجزائر فامتدحه ببيتين وهما
( فاض بحر الفرات في كل قطر ** من ندى راحتيك عذبا فراتا )
( غرق الناس فيه والتمس الفقر ** خلاصا فلم يجده فماتا )
فوصله بألفين وخمسين دينارا
قال اليفرني وشأوه رحمه الله في السخاء لا يلحق والحكايات عنه بذلك شهيرة وفي أيامه كثر العلم واعتز أهله وظهرت عليهم أبهته وكانت أيامه أيام سكون ودعة ورخاء عظيم حتى قيل إنه في اليوم الذي بويع فيه بفاس كان القمح في أول النهار بخمس أواق للمد وصار في آخره بنصف أوقية فتيمن الناس بولايته وأغتبطوا بها والله تعالى أعلم
____________________

الخبر عن دولة أمير المؤمنين المظفر بالله أبي النصر المولى إسماعيل بن الشريف رحمه الله
لما توفي المولى الرشيد رحمه الله في التاريخ المقدم وكان أخوه المولى إسماعيل بمكناسة الزيتون خليفة على بلاد الغرب فبلغه خبر موته فاجتمع الناس عليه وبايعوه واتفقت كلمتهم عليه ثم قدم عليه أعيان فاس وأعلامها وأشرافها ببيعتهم وقدم عليه أهل بلاد الغرب من الحواضر والبوادي كذلك بهداياهم وبيعاتهم إلا مراكش وأعمالها فإنه لم يأت منها أحد فجلس رحمه الله للوفود إلى أن فرغ من شأنهم ورتب أموره بمكناسة وعزم على السكنى بها إذ كان لا يبغي بها بدلا حيث أعجبه ماؤها وهواؤها هكذا في البستان
وقال أبو عبد الله اليفرني في النزهة ونحوه في نشر المثاني لما توفي المولى الرشيد رحمه الله اتصل خبر وفاته بالمولى إسماعيل وهو يومئذ خليفته بفاس الجديد ليلة الأربعاء السادس عشر من ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين وألف فبويع رحمه الله وحضر بيعته أعيان المغرب وصلحاؤه بحيث لم ينازع في أنه أحق بها وأهلها أحد ممن يشار إليه زاد في الظل الظليل ووافق على بيعته أهل الحل والعقد من العلماء والأشراف كالشيخ أبي محمد عبد القادر بن علي الفاسي والشيخ أبي علي اليوسي وأبي عبد الله محمد بن علي الفيلالي وأبي العباس أحمد بن سعيد المكيلدي وأبي عبد الله محمد بن عبد القادر الفاسي وأخيه أبي زيد صاحب نظم العمل والقاضي أبي مدين وغيرهم من بقية الأعيان وكانت بيعته في السنة الثانية من يوم الأربعاء السادس عشر من ذي الحجة المذكور آنفا ووافق ذلك اليوم الثالث من شهر إبريل العجمي
وكان سنه يوم بويع ستا وعشرين سنة لأن ولادته كانت عام وقعة
____________________


القاعة وهي مؤرخة بخط من يوثق به سنة ست وخمسين وألف ولما تمت بيعته نهض بأعباء الخلافة وضبط الأمور وأحسن السيرة ثورة المولى أبي العباس أحمد بن محرز بن الشريف وما كان من أمره
لما توفي المولى الرشيد رحمه الله واتصل خبر وفاته بأهل سجلماسة وغيرها أقبل ابن أخيه المولى أبو العباس أحمد بمن محرز مبادرا إلى مراكش طالبا للأمر وداعيا إلى نفسه والتفت عليه طوائف من عرب السوس وغيرهم وغلب على تلك النواحي ونشبت أهل مراكش بلامع برقه وبذلك تقاعدوا عن الوفادة على أمير المؤمنين المولى إسماعيل رحمه الله
ولما صح عنده خبر ابن محرز وذلك في آخر ذي الحجة من السنة نهض إلى مراكش فوصل إليها وبرز إليه أهلها فيمن انضم إليهم من قبائل أحوازها وقاتلوه فانتصر عليهم وهزمهم ودخل مراكش عنوة يوم الجمعة سابع صفر سنة ثلاث وثمانين وألف فعفا عن أهلها وأجفل ابن محرز وشيعته الى حيث نجوا
ولما احتل المولى إسماعيل بمراكش أمر بنقل شلو أخيه المولى الرشيد في تابوته إلى فاس ليدفن بضريح الشيخ ابن حرزهم كما مر ثم قفل السلطان إلى مكناسة منسلخ ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين وألف
____________________

انتقاض أهل فاس وقتلهم القائد زيدان وإعلانهم بدعوة ابن محرز وما نشأ عن ذلك من محاصرة السلطان لهم
لما قفل أمير المؤمنين المولى إسماعيل إلى مكناسة أخذ في ترتيب أمور دولته وفرق الراتب على الجند وكان عازما على غزو بلاد الصحراء فلم يرعه إلا الخبر بأن أهل فاس قد انتقضوا وقتلوا قائد الجيش زيدان بن عبيد العامري وكان مقتله ليلة الجمعة ثاني جمادى الأولى من السنة فزحف السلطان إليهم وحاصرهم واستمر القتال بينه وبينهم أياما ثم بعثوا إلى المولى أحمد بن محرز ليأتيهم فيجتمعوا عليه فقدم دبدو وأنزل على ملوية وبعث إليهم رسوله يعلمهم بمجيئه فأعلنوا بنصره وذلك يوم الخميس العشرين من جمادى الثانية من السنة وفي منسلخ الشهر المذكور بعثوا عشرة من الخيل للقائه بتازا ثم أصبح عليهم رسول الخضر غيلان يعلمهم بأنه قد قدم من ثغر الجزائر في البحر وأنه نزل بتطاوين مع رؤسائها أولاد النقسيس فتشعبت الآراء وتعددت أسباب الهراش وتكاثرت الظباء على خداش وهاجت فتنة بفاس قتل فيها نفر من أولاد الثائر المتقدم أبي الربيع سليمان الزرهوني على يد مولاي أحمد بن إدريس من شرفاء دار القيطون ثم قتل بعض شيعة الزرهوني مولاي حفيد بن إدريس أخا الشريف المذكور وكان ما كان مما لست أذكره
ولما اتصل خبر ابن محرز بالمولى إسماعيل نهض إليه في جنوده قاصدا تازا فحاصرهم بها أشهرا ففر عنها ابن محرز ودخل الصحراء ولما علم السلطان بفراره عدل إلى ناحية الهبط بقصد الخضر غيلان فحاربه إلى أن ظفر به وقتله يوم الأحد العشرين من جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وألف وعاد إلى فاس الجديد أواسط جمادى الثانية من السنة وحاصر أهل فاس وطاولهم ولم يحدث معهم حربا إلى أن أذعنوا إلى الطاعة وراجعوا بصائرهم ففتحوا البلد وخرجوا إلى السلطان تائبين فعفا عنهم وذلك في سابع عشر
____________________

رجب سنة أربع وثمانين وألف فكانت مدة انتقاضهم أربعة عشر شهرا وثمانية عشر يوما ذاقوا فيها وبال أمرهم ثم ولى عليهم القائد أبا العباس أحمد التلمساني وعلى فاس الجديد الوزير أبا زيد عبد الرحمن المنزاري وسار إلى مكناسة ثم عاد بالقرب إلا أن هذين الواليين قد جارا في الحكومة وعاثا في البلدين بضرب الأبشار ونهب الأموال وغير ذلك والله لايظلم مثقال ذرة وعزل أيضا عن خطابة القرويين الفقيه أبا عبد الله البوعناني وولاها القاضي أبا عبد الله المجاصي وذلك في أخر رجب من السنة والله أعلم تجديد أمير المؤمنين المولى إسماعيل بناء مكناسة الزيتون واتخاذه إياها دار ملكه
كانت مدينة مكناسة الزيتون من الأمصار القديمة بأرض المغرب بناها البربر قبل الإسلام ولما جاءت دولة الموحدين حاصروا مكناسة سبع سنين ثم افتتحوها عنوة أواسط المائه السادسة وخربوها ثم بنوا مكناسة الجديدة المسماة بتاكرارت ومعناها المحلة واعتنى بها بنو مرين من بعدهم فبنوا قصبتها وشيدوا بها المساجد والمدارس والزوايا والربط وكانت يومئذ هي كرسي الوزارة كما أن حضرة فاس الجديد هي كرسي الإمارة واختصت مكناسة بطيب التربة وعذوبة الماء وصحة الهواء وسلامة المختزن من التعفين وغير ذلك وقد وصفها ابن الخطيب في مواضع من كتبه مثل النفاضة والمقامات وغيرهما واثنى عليها نظما ونثرا وأنشد قول ابن عبدون من أهلها فيها
( إن تفتخر فاس بما في طيها ** وبأنها في زيها حسناء )
( يكفيك من مكناسة أرجاؤها ** والأطيبان هواؤها والماء )
فلما كانت بهذه المثابة كان أمير المؤمنين المولى إسماعيل رحمه الله لا
____________________


يبغي بها بدلا فلما فرغ من أمر فاس رجع إليها وشرع في بناء قصور بها بعد أن هدم ما يلي القصبة من الدور وأمر أربابها بحمل أنقاضها وبنى لهم سورا على الجانب الغربي وأمر ببناء دورهم به وهدم الجانب الشرقي كله من المدينة وزاده في القصبة القديمة ولم يبق أمامه إلا الفضاء فجعل ذلك كله قصبة وبنى سور المدينة وأفردها عن القصبة وأطلق أيدي الصناع في البناء ومداومة العمل وجلبهم من جميع حواضر المغرب ولما لم يقنعه ذلك فرض العملة على القبائل مناوبة فصارت كل قبيلة من قبائل المغرب تبعث عددا معلوما من الرجال والبهائم في كل شهر وفرض الصناع وأهل الحرف على الحواضر فصار أهل كل مصر يبعثون من البنائين والنجارين وغيرهم عددا معلوما كذلك وأسس المسجد الأعظم بداخل القصبة مجاورا لقصر النصر الذي كان أسسه في دولة أخيه المولى الرشيد رحمه الله ثم أسس الدار الكبرى التي بجوار الشيخ المجذوب واستمر البناء والغرس بمكناسة سنين كما سيأتي التنبيه على ذلك في مجلسه إن شاء الله مجيء المولى أحمد بن محرز إلى مراكش واستيلاؤه عليها ونهوض السلطان إلى محاصرته بها
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وألف فيها ورد الخبر على السلطان المولى إسماعيل وهو بمكناسة بدخول ابن أخيه المولى أحمد بن محرز مراكش واستيلائه عليها وكان السلطان يومئذ متوجها إلى آنكاد لما بلغه من عيث العرب الذين به وقطعهم الطريق فلم يثنه ذلك عنهم بل سار إليهم وأوقع بسقونة منهم وقتل خلقا كثيرا ونهب ورجع مؤيدا منصورا ثم استعد لحرب ابن محرز وخرج في العساكر على طريق تادلا فكان اللقاء بينهما على أبي عقبة من وادي العبيد فاقتتلوا وانهزم ابن محرز وقتل كبير جيشه
____________________


حيدة الطويري ورجع أدراجه إلى مراكش فتبعه السلطان المولى إسماعيل وألقى بكلكله على مراكش أوائل سنة ست وثمانين وألف ونما إليه أن بعض أهل محلته قد أضمروا الغدر منهم الشيخ عمر البطوئي وولده وعبد الله آعراس وإخوته هؤلاء كانوا أمراء عسكره فحنقهم وأتلف نفوسهم وبعث إلى من بقي منهم بفاس فقبض عليهم وقتلوا وحيزت دورهم وأموالهم
واستمر السلطان محاصرا لمراكش إلى ربيع الثاني من سنة سبع وثمانين وألف فشدد في الحصار وازدلف إليها في جنوده فوقع قتال عظيم مات فيه من الفريقين ما لا يحصى وانحجر ابن محرز داخل البلد وبقي يقاتل من أعلى الأسوار ثم تمادى الحصار إلى ثاني ربيع الثاني من سنة ثمان وثمانين وألف فاشتد الأمر على ابن محرز وضاق ذرعا فخرج فارا عن مراكش ناجيا فيما أبقته الحرب من جموعه ودخل السلطان المولى إسماعيل المدينة عنوة فاستباحها وقتل سبعة من رؤسائها وكحل ثلاثين منهم وهدأت الفتنة وذهبت أيام المحنة والله غالب على أمره تأليف جيش الودايا وبيان فرقهم وأوليتهم
هذا الجيش من أمثل جيوش هذه الدولة الشريفة أبقى الله فضلها وبسط على البلاد والعباد يمنها وعدلها وهو ينقسم إلى ثلاثة أرحاء رحى أهل السنوس ورحى المغافرة ورحى الودايا ويطلق على الجميع ودايا تغليبا فأما أهل السوس فمنهم أولاد جرار وأولاد مطاع وزرارة والشبانات وكلهم من عرب معقل وكانوا في القديم جندا للدولة السعدية وكان ملوكها يستنفرونهم للغزو بحللهم لاعتيادهم ذلك أيام كونهم بالصحراء ثم أنزلوهم ببسيط ازغار مراغمة لعرب جشم من الخلط وسفيان وغيرهم إذ كانت
____________________


الخلط شيعة بني مرين وأصهارهم كما مر فلما جاءت الدولة السعدية بقوا منحرفين عنها وكلما طرقها خلل ثاروا عليها وخرجوا عن طاعتها فقيض لهم السلطان محمد الشيخ السعدي هؤلاء القبائل من معقل وزاحمهم بهم في بلادهم وشغلهم بهم فكانت تكون بينهم الحروب فتارة تنتصف معقل من جشم وتارة العكس حتى أوقع المنصور السعدي بالخلط وقيعته الشهيرة وأسقطهم من الجندية فنقل أولاد مطاع إلى زبيدة قرب تادلا
ولما أشرفت الدولة السعدية على الهرم استطالت الشبانات عليها بما كان لهم من الخؤلة على أولاد السلطان زيدان فاستبدت فرقة منهم بمراكش كما مر وثارت أخرى بفاس الجديد مع أبي عبد الله الدريدي المتغلب بها حسبما سلف إلى أن نقل أمير المؤمنين المولى إسماعيل رحمه الله جميعهم إلى وجدة كما سيأتي ثم خلطهم بعد بإخوانهم من المغافرة والودايا وصير الجميع جيشا واحدا فهذه أولية أهل السوس
وأما المغافرة فسيأتي بيان كيفية اتصالهم بالمولى إسماعيل ومصاهرتهم له
وأما الودايا فكان السبب في جمعهم واستعمالهم في الجندية أنه لما فتح المولى إسماعيل رحمه الله مدينة مراكش الفتح الثاني وأجفل ابن محرز عنها أقام بها أياما ثم خرج إلى الصيد بالبسيط المعروف بالبحيرة من أحواز مراكش فرأى أعرابيا يرعى غنما له وبيده شفرة يقطع بها السدر ويضعه لغنمه لتأكل ورقة فقال للوزعة علي بأبي الشفرة فأسرعوا إليه وجاؤوا به إلى أن أوقفوه بين يديه فسأله فانتسب له إلى ودي كغني قبيلة من عرب معقل بالصحراء وأخبره بأنهم دخلوا من بلاد القبلة بسبب جدب أصابهم قال دخلنا السوس بنجع كبير فافترقنا وذهبت كل طائفة منا إلى قبيلة فنزلت عليها ونحن نزول مع الشبانات فقال له المولى إسماعيل رحمه الله أنتم أخوالي وسمعتم بخبري ولم تأتوني والآن أنت صاحبي وإذا رجعت بغنمك
____________________


إلى خيمتك فاقدم علي إلى مراكش وأوصى به من يوصله إليه ثم بعد أيام قدم أبو الشفرة على السلطان فكساه وحمله وبعث معه خيلا يجمع بها إخوانه من قبائل الحوز فجمع من وجد منهم وجاء بهم إلى السلطان فأثبتهم في الديوان وكساهم وحملهم ثم نقلهم بحلتهم إلى مكناسة الزيتون دار الملك ومقر الخلافة
ثم دخل نجع آخر بعدهم فأثبتهم في الديوان أيضا وبالغ في إكرامهم والإحسان إليهم وعين لسكناهم من مكناسة المحل المعروف بالرياض بجوار قصبتها وأمرهم ببناء الدور وأعطى أعيانهم ورؤساءهم النوائب وهي الزوايا التي لا تغرم مع القبائل ثم قدم نجع ثالث جاؤوا من جهة القبلة فأثبتهم كإخوانهم الذين قدموا قبلهم وسلك بهم مسلكهم
ولما نقل رحمه الله زرارة والشبانات الذين كانوا بفاس الجديد مع الدريدي بعث بهم إليها أيضا ليجتمعوا مع إخوانهم ثم قسم الودايا الذين بالرياض قسمين فبعث نصفهم إلى فاس الجديد وعمره بهم وولى عليهم القائد أبا عبد الله محمد بن عطية منهم وأبقى النصف الآخر بالرياض من مكناسة وولى عليهم القائد أبا الحسن عليا المدعو بأبي الشفرة فكانا يتداولان القسمين مرة هذا ومرة هذا ثم استقر الأمر على أن صار أبو الشفرة بفاس وابن عطية بالرياض
وأما خبر الخلط فإنه لما أوقع بهم المنصور السعدي تفرقوا في القبائل شذر مذر وصاروا عيالا على غيرهم ولما أشرفت الدولة السعدية على الهرم اجتمعوا ورجعوا إلى أزغاز فغلبوا عليه وعفوا وكثروا وتمولوا وأكثروا من الخيل والسلاح إلى أن جاء الله بالمولى إسماعيل رحمه الله فانتزع منهم خيلهم وسلاحهم كغيرهم من قبائل المغرب وضرب عليهم المغارم واستمروا على ذلك إلى أيام السلطان المرحوم المولى محمد بن عبد الله فظهروا في دولته وكانوا يعكسون معه في حروب ويغرمون ما وجب عليهم
____________________


من الزكوات والأعشار وكذلك مع ابنه المولى سليمان وابن ابنه المولى عبد الرحمن بن هشام رحم الله الجميع بمنه وهم اليوم في عداد القبائل الغارمة وكذا قبائل الحوز الذين هم من عرب معقل كلهم غارمة والله تعالى المتولي لأمور العباد لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه انتقاض البربر شيعة الدلائيين والتفافهم على أحمد بن عبد الله منهم وإيقاع السلطان بهم
لما كان أمير المؤمنين المولى إسماعيل رحمه الله مقيما بمراكش بعد فرار المولى أحمد بن محرز عنها بلغه اجتماع البربر الصنهاجيين على أحمد بن عبد الله الدلائي وعيثهم فيمن جاورهم من قبائل العرب من تادلا إلى سايس فبعث رحمه الله عسكرا إلى تادلا إعانة لأهلها على البربر فهزمتهم البربر وقتلوا يخلف وانتهبوا واستولوا على تادلا ثم بعث إليهم عسكرا آخر فيه ثلاثة آلاف من الخيل وعقد عليه ليخلف فهزمهم البربر وقتلوا يخلف وانتهبوا معسكره ثم أعقبهما بعسكر ثالث فوقع به ما وقع بالأولين هذا كله والسلطان مقيم بمراكش يرصد ابن محرز الذي بالسوس ثم بلغه قيام أخيه المولى حمادة بالصحراء وحربه لأخيه المولى محرز الثائر بها أيضا وهو والد المولى أحمد صاحب السوس فقدم السلطان رحمه الله الأهم ورجع إلى حرب البربر بتادلا خوفا من اتساع خرقهم على الدولة وهناك لقيه أخوه المولى الحران جاء مستصرخا له على أخيه المولى حمادة ثم تقدم السلطان رحمه الله إلى البربر فأوقع بهم وقعة شنعاء واستلحمهم وقطع منهم سبعمائة رأس بعث بها إلى فاس مع عبد الله بن حمدون الروسي وفي نشر المثاني أنه قتل من البربر يومئذ ثلاثة آلاف فزينت المدينة وأخرجت المدافع وكان يوما مشهودا ولما انقضت الوقعة فر المولى الحران من
____________________


المحلة إلى الصحراء ورجع السلطان إلى مكناسة فدخلها في أواسط شوال سنة ثمان وثمانين وألف
وفي هذه الأيام ولي قضاء فاس الفقيه الورع أبا عبد الله محمد العربي بردلة بعد عزل القاضي أبي عبد الله المجاصي وولي مظالمها وجبايتها عبد الله الروسي وولي مواريثها أباه حمدون وأمر بقتل أهل تطاوين الذين كانوا بسجن فاس وهم عشرون فضربت أعناقهم ورفعت على الأسوار ثم جيء بالمولى الحران من الصحراء مقيدا مغلولا فلما قابله من عليه وأطلقه وأعطاه خيلا وأقطعه مداشر بالصحراء يتعيش بها وسرحه إلى حال سبيله عود الكلام إلى بناء حضرة مكناسة الزيتون
واستمر السلطان المولى إسماعيل رحمه الله بمكناسة قائما على بناء حضرتها بنفسه وكلما أكمل قصرا أسس غيره ولما ضاق مسجد القصبة بالناس أسس الجامع الأخضر أعظم منه وجعل له بابين بابا إلى القصبة وبابا إلى المدينة وجعل رحمه الله لهذه القصبة عشرين بابا عادية في غاية السعة والارتفاع مقبوة من أعلاها وفوق كل باب منها برج عظيم عليه من المدافع النحاسية العظيمة الأجرام والمهاريس الحربية الهائلة الأشكال ما يقضي منه العجب وجعل في هذه القصبة بركة عظيمة تسير فيها الفلك والزوارق المتخذة للنزهة والأنبساط وجعل بها هريا عظيما لاختزان الطعام من قمح وغيره مقبو القنانيط يسع زرع أهل المغرب وجعل بجواره سواقي للماء في غاية المعمق مقبوا عليها وجعل في أعلاها برجا عظيما مستدير الشكل لوضع المدافع الموجهة إلى كل جهة وجعل بها إصطبلا عظيما لربط خيله وبغاله مسيرة فرسخ في مثله مسقف الجوانب بالبرشلة على أساطين وأقواس عظيمة في كل قوس مربط فرس وبين الفرس والفرس عشرون شبرا يقال إنه كان مربوطا بهذا الإصطبل اثني عشر ألف فرس مع كل فرس سائس من
____________________

المسلمين وخادم من أسرى النصارى يتولى خدمته وفي هذا الإصطبل سانية من الماء دائرة عليه مقبوة الظهر وأمام كل فرس منها ثقب كالمعدة لشربه وفي وسط هذا الإصطبل قباب معدة لوضع سروج الخيل على أشكال مختلفة وفيه أيضا هري عظيم مربع الشكل مقبو الأعلى على أساطين عظيمة وأقواس هائلة لوضع سلاح الفرسان أصحاب الخيل وينفذ إليه الضوء من شبابيك في جوانبه الأربعة كل شباك ينيف وزنه على قنطار من حديد وفوق هذا الهري من أعلاه قصر يقال له المنصور ولا يقصر ارتفاعه من مائة ذراع خمسون في الأسفل وخمسون في الأعلى وفيه عشرون قبة في كل قبة طاق عليه شباك من حديد يشرف منه أهل القبة على بسيط مكناسة من الجبل إلى الجبل وكل قبة مسقفة بالبرشلة والقرمود وغير ذلك ثم أربع قباب منها متقابلة سعة كل واحدة منها سبعون شبرا في مثلها وباقي العشرين أربعون ويجاور هذا الإصطبل بستان على قدر طوله فيه من شجر الزيتون وأنواع الفواكه كل غريب طوله فرسخ وعرضه ميلان ويتخلل هذه القصور التي في داخل القلعة بشوارع مستطيلة متسعة وأبواب عظيمة فاصلة بين كل ناحية وبين الأخرى ورحاب عظيمة مربعة معدة لعمارة المشور في كل جانب إلى غير ذلك مما لا يحيط به الوصف
قال صاحب البستان وقد شاهدنا آثار الأقدمين بالمشرق والمغرب وبلاد الترك والروم فما رأينا مثل ذلك في دولهم ولا شاهدناه في آثارهم بل لو اجتمعت آثار دول ملوك الإسلام لرجح بها ما بناه السلطان الأعظم المولى إسماعيل رحمه الله في قلعة مكناسة دار ملكه ولم تزل تلك البناءات على طول الدهر قائمة كالجبال لم تخلفها عواصف الرياح ولا كثرة الأمطار والثلوج ولا آفات الزلازل التي تخرب المباني العظام والهياكل الجسام قال ومن يوم مات المولى إسماعيل والملوك من بنيه وحفدته يخربون تلك القصور على قدر وسعهم وبحسب طاقتهم ويبنون بأنقاضها من خشب وزليج
____________________


ورخام ولبن وقرمود ومعدن وغير ذلك إلى وقتنا هذا وبنيت من أنقاضها مساجد ومدارس ورباطات بكل بلد من بلدان المغرب وما أتوا على نصفها هذه مدة من مائة سنة وأما الجدرات فلا زالت ماثلة كالجبال الشوامخ وكل من شاهد تلك الآثار من سفراء الترك والروم يعجب من عظمته ويقول ليس هذا من عمل بني آدم ولا يقوم به مال ا هـ تأليف جيش عبيد البخاري وذكر أوليتهم وشرح تسميتهم
هذا الجيش من أعظم جيوش هذه الدولة السعيدة كما تقف عليه وكان السبب في جمعه ما وجد مفصلا في كناش كاتب الدولة الإسماعيلية ووزيرها الأعظم الفقيه الأديب أبي العباس أحمد اليحمدي رحمه الله قال لما استولى السلطان المولى إسماعيل بن الشريف على مراكش ودخلها أول مرة كان يكتب عسكره من القبائل الأحرار حسبما مر حتى أتاه الكاتب أبو حفص عمر بن قاسم المراكشي المدعو عليليش وبيتهم بيت رياسة من قديم وكان والده كاتبا مع المنصور السعدي ومع أولاده من بعده فتعلق أبو حفص هذا بخدمة السلطان المولى إسماعيل وأطلعه على دفتر فيه أسماء العبيد الذين كانوا في عسكر المنصور فسأله السلطان رحمه الله هل بقي منهم أحد قال نعم كثير منهم ومن أولادهم وهم متفرقون بمراكش وأحوازها وبقبائل الدير ولو أمرني مولانا بجمعهم لجمعتهم فولاه أمرهم وكتب له إلى قواد القبائل يأمرهم بشد عضده وإعانته على ما هو بصدده فأخذ عليليش يبحث عنهم بمراكش وينقر عن أنسابهم إلى أن جمع من بها منهم ثم خرج إلى الدير فجمع من وجد به ثم سار إلى قبائل الحوز فاستقصى من فيها حتى لم يترك بتلك القبائل كلها أسود سواء كان مملوكا أو حرطانيا أو حرا أسود واتسع الخرق وعسر الرتق فجمع في سنة واحدة ثلاثة آلاف
____________________


رأس منهم المتزوج والعزب ثم كتبهم في دفتر وبعث به إلى السلطان بمكناسة فتصفحه السلطان وأعجبه ذلك فكتب إليه يأمره بشراء الإماء للأعزاب منهم ويدفع أثمان المماليك منهم إلى ملاكهم ويكسوهم من أعشار مراكش ويأتيه بهم إلى مكناسة فاجتهد عليليش في ذلك واشترى من الإماء ماقدر عليه وجمع من الحرطانيات عددا إلى أن استوفى الغرض وكساهم وألزم القبائل بحملهم إلى الحضرة فحملوا من قبيلة إلى أخرى إلى أن وصلوا مكناسة فأعطاهم السلطان السلاح وولى عليهم قوادهم وبعث إليهم إلى الموضع المعروف بالمحلة من مشرع الرملة من أعمال سلا
ثم بعث السلطان كاتبه أبا عبد الله محمد بن العياشي المكناسي إلى قبائل الغرب وبني حسن وأمره بجمع العبيد الذين بها فمن لا ملك لأحد عليه يأخذه مجانا ومن كان مملوكا لأحد فليعط صاحبه ثمنه ويحوزه منه فخرج ابن العياشي وطاف في تلك القبائل واستقصى كل أسود بها وكان السلطان قد كتب أيضا إلى عماله بالأمصار بأن يشتروا له العبيد والإماء من فاس ومكناسة وغيرهما من حواضر المغرب عشرة مثاقيل للعبد وعشرة مثاقيل للأمة فاستوعبوا ما وجدوا حتى لم يبق عند أحد عبد ولا أمة فاجتمع مما اشتراه العمال ثلاثة آلاف أخرى فكساهم السلطان وسلحهم وبعث بهم إلى المحلة بعد أن عين لهم قوادهم ثم أن ابن العياشي قدم بدفتر فيه ألفان من العبيد فيهم المتزوج والعزب فكتب السلطان إلى القائد أبي الحسن علي بن عبد الله الريفي صاحب بلاد الهبط أن يشتري للأعزاب منهم الإماء ويكسوهم ويعطيهم السلاح من تطاوين ويعين لهم قوادهم ويبعث بهم إلى المحلة فصار المجموع ثمانية آلاف وهذا العدد هو الذي نزل أولا بها
ثم ألزم السلطان قبائل تامسنا ودكالة أن يأتوا بعبيد المخزن الذين عندهم فلم يسعهم إلا الامتثال فجمعوا كل عبد في بلادهم وزادوا بالشراء من عندهم وأعطوهم الخيل والسلاح وكسوهم وبعثوا بهم إليه فمن تامسنا
____________________


ألفان ومن دكالة ألفان فأنزلهم السلطان بوجه عروس من أحواز مكناسة إلى أن بنى قصبة آدخسان فأنزل عبيد دكالة بها وأنزل عبيد تامسنا بزاوية أهل الدلاء
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وألف فيها غزا السلطان المولى إسماعيل صحراء السوس فبلغ آقاوطاطا وتيشيت وشنكيط وتخوم السودان فقدمت عليه وفود العرب هنالك من أهل الساحل والقبلة ومن دليم وبربوش والمغافرة وودي ومطاع وجرار وغيرهم من قبائل معقل وأدوا طاعتهم وكان في ذلك الوفد الشيخ بكار المغفري والد الحرة خناثى أم السلطان المولى عبد الله بن إسماعيل فأهدى الشيخ المذكور إلى السلطان ابنته خناثى المذكورة وكانت ذات جمال وفقه وأدب فتزوجها السلطان رحمه الله وبنى بها وجلب في هذه الغزوة من تلك الأقاليم ألفين من الحراطين بأولادهم فكساهم بمراكش وسلحهم وولى عليهم وبعث بهم إلى المحلة وقفل هو إلى حضرته من مكناسة فكان عدد ما جمع من العسكر البخاري أربعة عشر ألفا عشرة آلاف منها بمشرع الرملة وأربعة آلاف بآدخسان وما والاها من بلاد البربر ثم عفوا وتناسلوا وكثروا حتى ما مات المولى إسماعيل إلا وقد بلغ عددهم مائة وخمسين ألفا كما سيأتي إن شاء الله
واعلم أنه قد وقع في هذه الأخبار لفظ الحرطاني ومعناه في عرف أهل المغرب العتيق وأصله الحر الثاني كأن الحر الأصلي حر أول وهذا العتيق حر ثان ثم كثر استعماله على الألسنة فقيل الحرطاني على ضرب من التخفيف
وأما سبب تسمية هذا الجيش بعبيد البخاري فإن المولى إسماعيل رحمه الله لما جمعهم وظفر بمراده بعصبيتهم واستغنى بهم عن الانتصار بالقبائل بعضهم على بعض حمد الله تعالى وأثنى عليه وجمع أعيانهم وأحضر نسخة من صحيح البخاري وقال لهم أنا وانتم عبيد لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه المجموع في هذا الكتاب فكل ما أمر به نفعله وكل
____________________


ما نهى عنه نتركه وعليه نقاتل فعاهدوه على ذلك وأمر بالاحتفاظ بتلك النسخة وأمرهم أن يحملوها حال ركوبهم ويقدموها أمام حروبهم كتابوت بني إسرائيل وما زال الأمر على ذلك إلى هذا العهد فلهذا قيل لهم عبيد البخاري
قال في البستان كان مآل هذا العسكر البخاري مع أولاد أمير المؤمنين المولى إسماعيل رحمه الله مثل مآل الترك مع أولاد المعتصم بن الرشيد العباسي في كونهم استبدوا عليهم وصاروا يولون ويعزلون ويقتلون ويستحيون إلى ان تم أمر الله فيهم وتلاشى جمعهم وتفرقوا في البلاد شذر مذر وما أحياهم إلا السلطان المرحوم المولى محمد بن عبد الله ولما عفوا وكثروا خرجوا عليه بابنه المولى يزيد وفعلوا فعلتهم التي فعلوها من قبل حسبما تسمعه بعد إن شاء الله غزو أمير المؤمنين المولى إسماعيل بلاد الشرق وانعقاد الصلح بينه وبين دولة الترك أهل الجزائر
ثم غزا أمير المؤمنين المولى إسماعيل رحمه الله بلاد الشرق فترك تلمسان عن يساره وأصحر في ناحية القبلة فقدمت عليه هنالك وفود العرب من ذوي منيع ودخيسه وحميان والمهاية والعمور وأولاد جرير وسقونه وبني عامر والحشم فسار بهم إلى أن نزل القويعة على رأس وادي شلف المسمى اليوم بوادي صا وكان رائده إليها والدال له عليها هم بنو عامر بن زغبة فخرج جيش الترك مع ثغر الجزائر بقضهم وقضيضهم ومدافعهم ومهاريسهم ونزلوا على وادي شلف قبالة السلطان رحمه الله ولما كان وقت العشاء أرعدوا مدافعهم ليدهشوا العرب الذين مع السلطان فكان الأمر كذلك فإنه لما انتصف اليل انسل بنو عامر من محلة السلطان وأصبحت الأرض منهم بلاقع ولما أصبح بقية العرب وعلموا بفرار بني عامر انهزموا دون قتال ولم يبق مع السلطان إلا عسكره الذي جاء به من المغرب فكان ذلك سبب تأخره عن حرب الترك وقفو له إلى حضرته وكاتبه الترك في أن يتخلى لهم
____________________


عن بلادهم ويقف عند حد أسلافه ومن كان قبلهم من ملوك الدولة السعدية فإنهم ما زاحموهم قط في بلادهم وبعثوا إليه بكتاب أخيه المولى محمد بن الشريف الذي كان بعث به إليهم مع رسلهم حسبما تقدم وبكتاب أخيه المولى الرشيد الذي فيه الحد بينه وبينهم فوقع الصلح على ذلك الحد الذي هو وادي تافنا
ولما قفل السلطان رحمه الله ومن في طريقه بمدينة وجدة أمر ببنائها وتجديد ما تثلم منها ثم قفل إلى فاس ثم منها إلى الحضرة بمكناسة الزيتون وكان ذلك كله سنة تسع وثمانين وألف خروج الإخوة الثلاثة من أولاد المولى الشريف ابن علي بالصحراء وما كان من أمرهم
وفي أواخر رمضان سنة تسع وثمانين وألف بلغ السلطان رحمه الله وهو بمكناسة خروج إخوته الثلاثة المولى الحران والمولى هاشم والمولى أحمد بني الشريف بن علي مع ثلاثة آخرين من بني عمهم وأنهم تدرجوا إلى آيت عطاء من قبائل البربر فنهض إليهم السلطان رحمه الله بالعساكر وسلك طريق سجلماسة فكان اللقاء بجبل ساغرو في عشرين من ذي الحجة من السنة فالتقى جيش السلطان وجيش الخارجين وجلهم آيت عطاء فاقتتلوا وكان الظفر للسلطان بعد أن هلك من جيشه ثم من رماه فاس بالخصوص نحو أربعمائة دون من عداهم وهلك قائد العسكر موسى بن يوسف وانهزم الإخوة وأبعدوا المفر إلى الصحراء
وكان في تلك السنة وباء عظيم قد انتشر في بلاد المغرب فرجع السلطان على طريق الفايجة فأصابه ثلج عظيم بثنية الكلاوي من جبل درن أهلك الناس وأتلف متاعهم وأخبيتهم وما تخلصوا منه إلا بمشقة فادحة
ولما نزلت العساكر بزاوية الشيخ أبي العزم سيدي رحال الكوش مدوا
____________________


أيديهم إلى أموال الناس وزروعهم بالنهب لما مسهم من ضرر الجوع فشكا الناس ذلك إلى السلطان فأمر بقتل كل من وجد خارج المحلة فقتل في ذلك اليوم من الجيش نحو الثلاثمائة ثم أمر بجر الوزير أبي زيد عبد الرحمن المنزري لأمر نقمه عليه وقتل أصحابه بالرصاص فجر الوزير المذكور إلى فاس ومكناسة ولم يصل إليهما إلا بعض شلوه فطرح على المزبلة ووصل السلطان إلى مكناسة فاحتل بدار ملكه واقتعد أريكة عزه
ثم دخلت سنة تسعين وألف ففي المحرم منها وقع الوباء بفاس وأعمالها فأمر السلطان العبيد أن يردوا الناس عن مكناسة فكانوا يتعرضون لهم في الطرقات بناحية سبو وسايس يردونهم عن مكناسة وكل من يأتي من ناحية القصر وفاس يقتلونه فانقطعت السبل وتعذرت المرافق
وفي أواخر المحرم من هذه السنة أوقع جيش المسلمين بنصارى طنجة فقتلوا منهم نحو ثلاثمائة وخمسين وانتزعوا منهم قصبة بأربعة أبراج واستشهد من المسلمين نحو الخمسين رحمهم الله نقل زرارة والشبانات إلى وجدة وبناء القلاع بالتخوم وما تخلل ذلك
وفي هذه السنة التي هي سنة تسعين وألف أمر أمير المؤمنين المولى إسماعيل رحمه الله بنقل عرب زرارة والشبانات قوم كروم الحاج من الحوز إلى وجدة لما كانوا عليه من الظلم والفساد في تلك البلاد فأنزلهم بوجدة ثغر المغرب وكتبهم في الديوان وولى عليهم أبا البقاء العياشي بن الزويعر الزراري وتقدم إليه في التضييق على بني يزناسن إذ كانوا يومئذ منحرفين عن الدولة ومتمسكين بدعوة الترك فكان زرارة والشبانات يغيرون عليهم ويمنعونهم من الحرث ببسيط آنكاد وأمر السلطان رحمه الله أن تبنى عليهم قلعة من ناحية الساحل قرينة وجدة بالموضع المعروف برفادة وأمر القائد
____________________


العياشي أن ينزل بها خمسمائة فارس من إخوانه يمنعونهم النزول ببسيط تريفة والارتفاق به من حرث وغيره ثم أمر رحمه الله أن تبنى قلعة أخرى بطرف بلادهم بالعيون وينزل بها القائد المذكور خمسمائة أخرى من إخوانه أيضا وأمر أن تبنى قلعة ثالثة بطرف بلادهم على ملوية وينزل بها خمسمائة فارس كذلك وجعل للقائد العياشي المذكور النظر في القلاع الثلاث وهو بوجدة في ألف فارس فكانوا في الدفتر ألفين وخمسمائة
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وألف ففي جمادى الثانية منها خرج السلطان من الحضرة في الجنود قاصدا بني يزناسن الذين تمادوا على العصيان فاقتحم عليهم جبلهم واعتسف بروعهم وانتسف زروعهم وضروعهم وحرق قراهم وقتل رجالهم وسبى ذراريهم فطلبوا الأمان فأمن بقيتهم على أن يدفعوا الخيل والسلاح التي عندهم فدفعوها من غير توقف وقاموا بدعوته جبرا عليهم ثم نزل بسيط آنكاد وحضر عنده قبائل الأحلاف وسقونه فأرجلهم من خيولهم وجردهم من سلاحهم وانتزعها منهم وألزم أشياخهم أن يجمعوا له ما بقي بحلتهم منها ففعلوا ثم فعل بالمهاية وحميان كذلك وانكفأ راجعا إلى المغرب
ولما نزل وادي صا أمر ببناء قلعة تاوريرت التي بناها السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق المريني فجددها وأنزل فيها مائة فارس من عبيده بعيالهم وأولادهم ولما نزل بوادي مسون أمر أن تبنى به قلعة أخرى بجوار القديمة وأنزل فيها مائة فارس من العبيد كذلك ثم أنزل بتازا ألفين وخمسمائة من خيل العبيد بعيالهم وولى عليهم منصور بن الرامي وجعل نظر القلاع التي بتازا ووادي صا للقائد منصور المذكور وعين لكل قبيلة من قبائل تلك البلاد قلعتها التي تدفع بها زكواتها وأعشارها لمؤنة العبيد وعلف خيولهم وهم حراس الطريق فمن وقع في أرضه شيء عوقب عليه قائد تلك القلعة ولما وصل السلطان إلى الكور أمر أن تبنى به قلعة أيضا وأنزل بها
____________________


مائة فارس من عبيده بعيالهم
ولما انتهى إلى فاس أنزل بقصبة الخميس التي بنى سورها المولى الرشيد خمسمائة من الخيل بعيالهم من شراقة العرب والبربر الذين قدموا مع المولى الرشيد رحمه الله حسبما تقدمت الإشارة إليه
ثم أمر رحمه الله ببناء قلعة بالمهدومة وأخرى بالجديدة من أعمال مكناسة وأنزل بكل واحدة مائة من خيل العبيد بعيالهم لحراسة الطرقات وبكل قلعة فندق لمبيت القوافل وأبناء السبيل ثم دخل السلطان رحمه الله حضرته مؤيدا منصورا وذلك في خامس شعبان سنة إحدى وتسعين وألف فتح المهدية ومحاربة ابن محرز بالسوس وما تخلل ذلك
قد تقدم لنا ما كان من استيلاء جنس الإصبنيول على المعمورة المسماة بالمهدية في حدود العشرين بعد الألف وما كان بينهم وبين أبي عبد الله العياشي وأهل سلا من الحروب واستمروا بها إلى أن كانت سنة اثنتين وتسعين وألف فافتتحها جيش السلطان المولى إسماعيل رحمه الله
قال في النزهة ومن محاسن الدولة الإسماعيلية تنقية المغرب من نجاسة الكفر ورد كيد العدو عنه قال وقد فتح السلطان المولى إسماعيل عدة مدن من يد النصارى كانت من مفاسد المغرب ولم يهنأ للمسلمين معهم قرار من ذلك المعمورة فإنه رحمه الله قد افتتحها عنوة بعد أن حاصرها مدة وكان فتحها يوم الخميس رابع عشر ربيع الثاني سنة اثنتين وتسعين وألف وأسر بها نحو الثلاثمائة من الكفار ا هـ وقال في نشر المثاني كان فتح المهدية عنوة عند صلاة الجمعة خامس عشر ربيع الثاني من السنة قيل بقتال وقيل بدون قتال وإنما أخذت بقطع الماء عنها وجيء بالنصارى الذين كانوا بها أسارى ولم يصب أحد من المسلمين
وقال في البستان وفي سنة اثنتين وتسعين وألف ورد الخبر على
____________________


السلطان إسماعيل بأن ابن أخيه المولى أحمد بن محرز الذي بالسوس قد استولى على بلاد آيت زينب وقويت شوكته فأمر السلطان رحمه الله بتفريق الراتب وتجهيز العساكر إليه من فاس وتوجهت في ثامن ربيع الأول من السنة ثم بلغه أن العسكر المحاصر للمهدية قد أشرف على فتحها وتوقفوا على حضوره فنهض رحمه الله إليهم حتى حضر الفتح وأخرج رئيس النصارى فأمنه وأمن أصحابه وكانوا ثلاثمائة وستة أنفس وأما الغنيمة فقد أحرزها المجاهدون من أهل الفحص والريف الذين كانوا مرابطين عليها مع القائد عمر بن حدو البطوئي ورجع السلطان إلى مكناسة بعد أن أنزل بالمهدية طائفة من عبيد السوس لعمارتها وسد فرجتها وحضر هذا الفتح جماعة من متطوعة أهل سلا منهم الولي الصالح أبو العباس سيدي أحمد حجي من صلحائها المشهورين بها واعلم أن السور العادي الذي اليوم بالمهدية هو من بناء البرتغال أيام استيلائهم عليها في دولة الوطاسيين كما مر
ولما فرغ المجاهدون من أمر المهدية ارتحلوا مع أميرهم عمر بن حدو فأصابه الوباء فمات في الطريق وتولى رئاسة المجاهدين أخوه القائد أحمد بن حدو تقسمها هو والقائد أبو الحسن علي بن عبد الله الريفي وكان أولاد الريفي هؤلاء من الشهرة في الجهاد والمكانة في الشجاعة ومكائد الحرب بمنزلة أولاد النقسيس وأولاد أبي الليف وأضرابهم رحم الله الجميع
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وألف فيها غزا السلطان بلاد الشرق فنهب بني عامر ورجع إلى مكناسة وأمر بإخراج أهل الذمة من المدينة وبنى لهم حارة خارجها بالموضع المعروف ببريمة وكلف أهل تافيلالت الذين بفاس بالرحيل إلى مكناسة والسكنى بحارة اليهود القديمة التي أخليت فلم يزل أهل تافيلالت يذهبون أرسالا ويسكنونها بالكراء حتى ضاقت بهم
ثم بلغه أن الترك قد خرجوا بعسكرهم واستولوا على بني يزناسن وعلى
____________________


دار ابن مشعل وأنهم قد مدوا يد الوفاق إلى ابن محرز وراسلوه وراسلهم وانبرم كلامهم معه على حرب السلطان وبلغه مثل ذلك من نائبه بمراكش فكتب إليه أن يحتاط في حراسة مراكش ويأخذ بالحزم في ذلك ويقيم في نحر ابن محرز إلى أن يرجع السلطان من غزو تلمسان ثم خرج رحمه الله بالعساكر لمصادمة الترك فوجدهم قد رجعوا إلى بلادهم لما بلغهم من خروج النصارى بشرشال فساروا إليهم وفتكوا فيهم فتكة بكرا وردوهم على أعقابهم صاغرين ورجع السلطان رحمه الله من وجهته وقد دخلت سنة أربع وتسعين وألف فسار على تفئته إلى مراكش فأراح بها ثم نهض منها إلى السوس فالتقى بابن أخيه المولى أحمد بن محرز في أواخر ربيع الثاني من السنة وقامت الحرب بينهما على ساق واستمر القتال نحوا من خمسة وعشرين يوما هلك فيها من الفريقين ما لا يحصى ودخل ابن محرز تارودانت فتحصن بها وكان الوقت وقت غلاء فضاق الأمر على أهل الحركة فجعلوا يهربون وكثر فيهم السجن والضرب والرد إليها في الحين ثم كان بينهما حرب أخرى هلك فيها خلق كثير نحو ألفين وجرح السلطان وجرح ابن محرز أيضا وذلك في أواسط جمادى الآخرة من السنة واستمر الحال على ذلك إلى رمضان من السنة
قال أبو عبد الله أكنسوس حدثني بعض الثقات أن السلطان المولى إسماعيل رحمه الله لما أعياه أمر ابن أخيه المذكور أصبح ذات يوم دهشا كئيبا فقال لوزيره الفقيه أبي العباس اليحمدي إني رأيت في هذه الليلة رؤيا أحزنتني إلى الغاية فقال وما هي يا مولانا وعسى أن تكون خيرا قال رأيت كأن هذه الجنود التي معنا ما بقي منها أحد ولم يبق إلا أنا وأنت مختفيين في غار مظلم فسجد الوزير اليحمدي شكرا لله تعالى وأطال السجود ثم رفع رأسه وقال أبشر يا مولانا فقد نصرنا الله على هذا الرجل فقال له السلطان ومن أين لك ذلك فقال له من قوله تعالى { ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } التوبة 40
____________________


قال عليه الصلاة والسلام فما ظنك باثنين الله ثالثهما فسر السلطان بذلك غاية السرور وانسرى عنه ما كان يجده من الغم وعلم أن رؤياه بشارة من الله تعالى له وعلى أثر ذلك وقع الصلح بينهما في رمضان ورجع السلطان إلى حضرته فدخلها في أواخر ذي القعدة من السنة المذكورة امتحان القضاة والسبب فيه
قال العلامة القادري في الأزهار الندية وفي هذه السنة أعني سنة أربع وتسعين وألف أمر السلطان بالقبض على جميع القضاة وامتحنوا ووصفوا بالجهل وسجنوا في مشور فاس الجديد حتى يتعلموا ما لابد منه من أحكام ما هم مدفوعون إليه ثم أخرجوا أيام المولد الكريم إلى مكناسة فهددوا بها أيضا حتى أمر بحبس بعضهم أو قبله ثم أطلقوا معزولين اه قال أكنسوس ولعل المراد بهم قضاة البوادي ومن في معناهم قلت ولم أر في الأزهار شيئا من هذا ولعله في نسخة الأصل لأنهم ذكروا أنهما نسختان إحداهما مختصرة من الأخرى والله أعلم غزو البربر وبناء القلاع بإزاء معاقلهم
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وألف فيها خرج السلطان في العساكر إلى جبال فزاز لحرب صنهاجة من البربر الذين هنالك فلما سمعوا بخروج السلطان انهزموا إلى ملوية فدخل السلطان بلادهم واختط قلعة بعين اللوح بسفح جبلهم ثم نزل بعين آصرو فأمر ببناء قلعة هنالك بسفح الجبل أيضا ثم تبع آثارهم إلى أن دخلوا جبل العياشي وتربص رحمه الله بملوية إلى أن دخل فصل الشتاء وكان قصده بذلك التربص إتمام سور القلعتين ولما عزم على الرجوع أنزل بقلعة آصرو ألف فارس وبقلعة عين اللوح خمسمائة فارس فأخذوا بمخنقهم واستراح الناس من عيثهم ببسيط سائس ولما منعوا
____________________


من السهل وانقطعت عنهم الميرة وقلت الأقوات خشعوا ونزل وفدهم فقدموا مكناسة على السلطان تائبين فأمنهم على شرط دفع الخيل والسلاح والاشتغال بالحرث والنتاج فدفعوها عن يد وهم صاغرون وهؤلاء هم آيت ادراسن فأعطاهم السلطان رحمه الله عشرين ألفا من الغنم ألزمهم برعايتها وحفظها وأسقط عنهم الوظائف فصلحت أحوالهم وصاروا في كل عام يدفعون صوفها وسمنها ويزيدهم الغنم إلى أن بلغ عددها ستين ألفا وقلت شوكتهم وذهب بأسهم فتح طنجة
قد تقدم لنا أن طنجة صارت إلى جنس النجليز من يد البرتغال واستمرت بيده إلى سنة خمس وتسعين وألف فعقد السلطان المولى إسماعيل رحمه الله للقائد أبي الحسن علي بن عبد الله الريفي على جيش المجاهدين ووجهه لحصار طنجة فضيقوا على من بها من النصارى وطاولوهم إلى أن ركبوا سفنهم وهربوا في البحر وتركوها خاوية على عروشها وذلك في ربيع الأول سنة خمس وتسعين وألف قاله في النزهة وقال في البستان لما ضاق الأمر على النصارى الذين بطنجة وطال عليهم الحصار خربوها وهدموا أسوارها وأبراجها وركبوا سفنهم وتركوها فدخلها المسلمون من غير طعن ولا ضرب وشرع قائد المجاهدين علي بن عبد الله الريفي في بناء ما تهدم من أسوارها ومساجدها في فاتح جمادى الأولى من السنة قلت وأعقاب هذا القائد لا زالوا اليوم بطنجة وكثيرا ما تكون فيهم الرياسة هنالك
ثم اتفق أن نشب بقرب ساحلها مركب قرصاني جاء مددا لأهل سبتة فيه أموال وبضائع فحارب المسلمون أهله عليه واحتووا على ما فيه وألزم السلطان قبيلة غمارة بجر مدافعه النحاسية إلى مكناسة وأرسل الرماة من أهل فاس لجرها أيضا فأتوا بها لأربعين يوما والله غالب على أمره
____________________

غزو البربر ثانيا وبناء القلاع في نحورهم
ثم دخلت سنة ست وتسعين وألف فيها خرج السلطان غازيا بلاد ملوية وجعل طريقه على مدينة صفرو ففرت قبائل البربر إلى رؤوس الجبال وهم آيت يوسي وشغروسن وأيوب وعلاهم وقادم وحيون ومديونة فأمر السلطان ببناء قلعة بآعليل وأخرى على وادي كيكو من أسفله وأخرى على وادي سكورة وأخرى على وادي تاشواكت ثم خرج السلطان بملوية ففرت القبائل المذكورة إلى جبل العياشي وتفرقوا في شعابه فأمر ببناء قلعة بدار الطمع وقلعة بتاببوست وقلعة بقصر بني مطير وقلعة بوطواط وقلعة بالقصابي وأقام على نهر ملوية يبث السرايا ويشن الغارات على البربر قريبا من سنة والعمل مستمر في بناء القلاع إلى أن أكملت أسوارها وأنزل رحمه الله بكل قلعة أربعمائة من خيل العبيد بعيالهم وجاءته وفود البربر تائبين طائعين فأمنهم على شرط دفع الخيل والسلاح فدفعوها وصفا له رحمه الله هذا الربع الشرقي من جبل درن والله ولي التوفيق بمنه مقتل المولى أحمد بن محرز وفتح تارودانت وما يتصل بذلك
وفي هذه السنة أعني سنة ست وتسعين وألف بلغ السلطان المولى إسماعيل رحمه الله وهو بمكناسة أن أخاه المولى الحران وابن أخيه المولى أحمد بن محرز قد دخلا قصبة تارودانت واستحوذا على تلك الجهات فنهض إليهما ووالى السيرحتى أناخ بكلكله على تارودانت وحاصرهما بها أياما فاتفق أن ابن محرز خرج ذات يوم في جماعة من عبيده لزيارة بعض الأولياء فلقيه جماعة من زرارة أصحاب السلطان فلم يعرفوه وظنوا أنه بعض قواد ابن محرز فشدوا عليه فماصعهم هنيئة ثم قتلوه فإذا هو ابن محرز
____________________


ولما اتصل الخبر بالسلطان خرج حتى وقف عليه فعرفه وأمر بتجهيزه ودفنه فدفن مع الغرناطي أحد قواد الجيش وكان قد قتل ذلك اليوم وكان مقتل المولى أحمد رحمه الله في أواسط ذي القعدة سنة ست وتسعين وألف بعد تشغيبه على السلطان أربع عشرة سنة ثم بعد أيام خرج أهل تارودانت ليلا إلى قبر المولى أحمد فنبشوه ونبشوا قبر الغرناطي لأنه كان قد التبس عليهم به فاستخرجوهما معا حتى عرفوا المولى أحمد فحملوه في تابوته وتركوا الغرناطي على شفير قبره واستمر المولى الحران محصورا بتارودانت والحرب قائمة على ساق إلى أن دخلت سنة سبع وتسعين وألف فكانت حرب هلك فيها نحو الستمائة نفس من الجند منهم القائد زيتون والباشا حمدان وغيرهما ثم كانت حرب أخرى أعظم من الأولى ثم ثالثة كذلك هلك فيها القائد أبو زيد عبد الرحمن الروسي وتولى مكانه ابن الغرناطي واستمر الحال بها إلى جمادى الأولى من سنة ثمان وتسعين وألف فاقتحم السلطان تارودانت عنوة بالسيف واستباحها واستولى عليها وفر المولى الحران إلى حيث أمن على نفسه
ولما اتصل خبر الفتح بأهل فاس عينوا وفدا من كبرائهم وأشرافهم وغلمائهم فقدموا على السلطان بقصد التهنئة يقدمهم ولده المولى محمد بن إسماعيل فأكرم وفادتهم وخرج أولاد النقسيس من سبتة وكانوا قد لجؤوا إليها بعد مقتل الخضر غيلان فقدموا على السلطان بعسكره من تارودانت فأمر بردهم إلى تطاوين وقتلهم بها وأمر بقتل من كان منهم مسجونا بفاس فقتلوا أجمعون رحمهم الله ثم دخلت سنة تسع وتسعين وألف فيها قفل السلطان من السوس فدخل دار ملكه مكناسة واستقر بها وبعث إلى عامل فاس أن يخرج من بها من أهل الريف إلى تارودانت بقصد عمارتها والسكنى بها وفي خامس جمادى الأولى من السنة استدعى السلطان فقهاء فاس لحضور ختم التفسير عند قاضيه أبي عبد الله المجاصي فحضروا وأكرمهم ووصلهم
____________________

غزو برابرة فازاز وبناء قلعة آدخسان
لما تهيأ السلطان رحمه الله لغزو أهل جبل فازاز نهض إليهم وصعد الجبل من الناحية الغربية فأول من قدم عليه من برابرته بالطاعة زمور وبنو حكم فولى عليهم رئيسهم بايشي القبلي فاستصفى منهم الخيل والسلاح ثم تجاوزهما إلى المال فاستصفاه أيضا وجمع ذلك كله وقدم به على السلطان وهو ببسيط آدخسان فقدمه إليه فأنكر السلطان عليه ذلك وقال له ما حملك على ما فعلت ولم آمرك به فقال له يا مولانا إن كان غرضك في صلاحهم وفلاحهم فهو الذي فعلت لك ولهم وإن سرت معهم بغير هذا أتعبوك وأتعبوا أنفسهم وإنما طهرتهم من الحرام ليشتغلوا باكتساب الحلال فإنه ينمو ويزكو فاستحسن السلطان قوله وأمضى فعله وأقام رحمه الله بآدخسان يحارب آيت ومالو سنة كاملة حتى بنى قلعة آدخسان الجديدة بمحل القديمة التي كان بناها أمير المسلمين يوسف بن تاشفين رحمه الله وخربت ولما دخل فصل الشتاء أنزل بالقصبة ألفا وخمسمائة فارس من عبيد أهل دكالة الذين كانوا بوجه عروس نقلهم إليها بأولادهم وأنزل بزاوية أهل الدلاء ألفا وخمسمائة فارس من عبيد الشاوية الذين كانوا بوجه عروس أيضا نقلهم بعيالهم وأمرهم بحصار البربر ومنعهم من النزول للمرعى والحرث ونحوهما ثم قفل إلى مكناسة قال صاحب البستان وهو أبو القاسم الصياني وفي هذه المرة نقل معه جدنا الفقيه الأستاذ ابا الحسن علي بن إبراهيم بأولاده إلى مكناسة وسبب ذلك أنه لما نزل بآدخسان واجتمع عليه الأشراف الذين باركوا قال لهم دلوني على رجل صاحب فقه ودين يؤمني في الصلوات فقالوا له ليس بهذا الجبل أتقى من سيدي علي بن إبراهيم فأتوا به فكان إمامه في المحلة ولما قفل أخذه معه قال فهذا سبب انتقال جدنا من آركو إلى الحضر اه
____________________

بيان تربية أولاد عبيد الديوان وكيفية تأديبهم
قد قدمنا أن جمهور عبيد البخاري كانوا بالمحلة من مشرع الرملة وأنهم تناسلوا بها وكثروا إلى الغاية فلما كانت سنة مائة وألف أمر السلطان رحمه الله أولئك العبيد أن يأتوه بأبنائهم وبناتهم من عشر سنين فما فوق فلما قدموا عليه فرق البنات على عريفات داره كل طائفة في قصر للتربية والتأديب وفرق الأولاد على البنائين والنجارين وسائر أهل الحرف للعمل والخدمة وسوق الحمير والتدرب على ركوبها حتى إذا أكملوا سنة نقلهم إلى سوق البغال الحاملة للآجر والزليج والقرمود والخشب ونحو ذلك حتى إذا أكملوا سنة نقلهم إلى خدمة المركز وضرب ألواح الطابية حتى إذا أكملوا سنة نقلهم إلى المرتبة الأولى في الجندية فكساهم ودفع إليهم السلاح يتدربون به على الجندية وطرقها حتى إذا أكملوا سنة دفع إليهم الخيل يركبونها أعراء بلا سروج ويجرونها في الميدان للتمرس بها والتدرب على ركوبها حتى إذا أكملوا سنة وملكوا رؤوسها دفع إليهم السروج فيركبونها بها ويتعلمون الكر والفر والثقافة في المطاعنة والمراماة على صهواتها حتى إذا أكملوا سنة بعد ذلك صاروا في عداد الجند المقاتلة فيخرج لهم السلطان البنات اللاتي قدمن معهم ويزوج كل واحد من الأولاد واحدة من البنات ويعطي الرجل عشرة مثاقيل مهر زوجته ويعطي المرأة خمسة مثاقيل شورتها ويولي عليهم واحدا من آبائهم الكبار ويعطي ذلك القائد ما يبني به داره وما يبني به أخصاص أصحابه وهي المعروفة عندنا بالنواويل ويبعث بهم إلى المحلة بعد أن يكتبوا في ديوان العسكر واستمر الحال هكذا ففي كل سنة يأتي من المحلة عدد صغير ويتوجه إليها من عند السلطان عدد كبير من سنة مائة وألف إلى أن توفي السلطان رحمه الله في التاريخ الآتي فبلغ عدد هذا العسكر البخاري مائة ألف وخمسين ألفا منها ثمانون ألفا مفرقة في قلاع المغرب لعمارتها وحراسة طرقها وسبعون ألفا بالمحلة وعدد القلاع التي بناها المولى إسماعيل رحمه الله بالمغرب ست وسبعون قلعة لا زالت
____________________


قائمة العين والأثر بآفاق المغرب يعرفها الخاص والعام إلى الآن هكذا وجد في كناش كاتب الدولتين الرشيدية والإسماعيلية الفقيه أبي الربيع سليمان بن عبد القادر الزرهوني المتوفى بتارودانت سنة ثمان وثلاثين ومائة وألف وكان عنده دفتر العسكر كله سواء السواد الأعظم والمتفرق في قلاع المغرب
قال صاحب البستان وأين هذا مما نقله المؤرخون على وجه الغرابة من أن الخليفة المعتصم بن رشيد رحمهما الله بلغ عدد مماليكه الذين اشتراهم والذين جلبهم من بلاد الترك ثمانية عشر ألفا قال وهذا العدد الذي جمعه أمير المؤمنين المولى إسماعيل رحمه الله من العبيد لو خاض به البحر إلى الأندلس وكانت تلك القلاع سفنا ومراكب جهادية لاستولى عليها والتوفيق من الله اه قلت وهو لعمري كلام مقبول لكن الإنسان مجبور في قالب مختار وتصاريف الأمور جارية بيد الله لا بيد غيره وما ترك من الجهل شيئا من أراد أن يظهر في الوقت غير ما أظهره الله فيه
وقال الشاعر
( لا يعرف الشوق إلا من يكابده ** ولا الصبابة إلا من يعانيها )
وقال الآخر
( لا تعذل المشتاق في أشواقه ** حتى يكون حشاك في أحشائه )
وقال
( واذا ما خلا الجبان بأرض ** طلب الطعن وحده والنزالا )
ومن أمثال العامة القاعد على الجرف محسن للسباحة هذا كله بالنظر إلى الحقيقة فأما الشريعة فقد قال تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } الأنفال 60 الآية وعلى كل حال فلا يسوغ للإنسان أن يهمل الاستعداد المأمور به شرعا ويكل الأمر إلى القدر وإلا فيكون مخطئا مخالفا للشرع والطبع قال صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي ترك ناقته مرسلة أعقلها وتوكل وقال الشاعر
____________________


( على المرء أن يسعى لما فيه نفعه ** وليس عليه أن يساعده الدهر )
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والتوفيق واللطف فيما جرت به المقادير يانعم المولى ونعم النصير فتح العرائش
وفي هذه السنة أعني سنة مائة وألف في آخر شوال منها سار القائد أبو العباس أحمد بن حدو البطوئي في جماعة من المجاهدين لحصار العرائش وكان الإصبنيول خذله الله قد استولى عليها على يد الشيخ بن المنصور السعدي كما مر فنزل القائد أبو العباس المذكور عليها وضيق على الكفار الذين بها وحاصرهم نحوا من ثلاثة أشهر ونصف كذا في النزهة وقال المؤرخ منويل إن مدة الحصار كانت خمسة أشهر قال وكان طاغية الفرنسيس وهو لويز الرابع عشر قد أعان المولى إسماعيل على فتح العرائش وحاصرها بحرا بخمس فراقط وقطع عنها المادة مدة ثم أقلع عنها ثم بعد ذلك كان الفتح قال في النزهة فتحها المسلمون بعد معاناة شديدة وذلك أنهم حفروا المينات تحت خندق سورها الموالي للمرسى وملؤوها بارودا ثم أوقدوها بالنار فنفطت وسقط جانب من السور فاقتحم المسلمون منه وتسلقوا إلى ما كان من النصارى على الأسوار فوقعت ملحمة عظيمة وفر باقيهم إلى حصن القبيبات الذي بناه المنصور السعدي واعتصموا به يوما وليلة فخامر قلوبهم الجزع وطلبوا الأمان فأمنهم القائد أبو العباس المذكور على حكم السلطان فنزلوا عليه فأخذوا أسارى بأجمعهم ولم يعتق منهم إلا أميرهم وحده وتم الفتح وذلك يوم الأربعاء الثامن عشر من المحرم سنة إحدى ومائة وألف وما في البستان وقلده صاحب الجيش أن نصارى العرائش اعتصموا بحصن القبيبات سنة كاملة خطأ لا يعول عليه
وكان عدد نصارى العرائش قبل الاستيلاء عليهم ثلاثة آلاف ومائتين
____________________


ولما ظفر بهم المسلمون أسروا منهم نحو ألفين وقتلوا منهم اثنتي عشرة مائة ووجد بها من البارود والعدة ما لا يحصى كثرة فمن المدافع نحو مائة وثمانين منها اثنان وعشرون من النحاس والباقي من الحديد ومنها مدفع يسمى الغصاب طوله خمسة وثلاثون قدما بالحساب ووزن كرته خمسة وثلاثون رطلا بحيث حلق عليه بقرب خزانته أربعة رجال كذا سمع من المشاهدين لذلك بعد السؤال كذا في النزهة قال منويل في كتابه إن النصارى ما أسلموا أنفسهم حتى شرطوا شروطا معتبرة لكن السلطان نكث اه قلت حكى أبو القاسم العميري في فهرسته ما حاصله أن نصارى العرائش ادعوا أن الفتح المذكور إنما كان صلحا وتأمينا لا عنوة ثم لما طال النزاع في ذلك أمر السلطان قاضي حضرته المكناسية أبا عبد الله محمد المعروف بأبي مدين ببيان الحكم في ذلك فأجاب جوابا طويلا حرر فيه حكم الشريعة المحمدية بما لاغاية فوقه وحكم على أولئك النصارى بالأسر وقد ذكر ذلك بتمامه في الفهرسة المذكورة فلينظر هنالك وأمر السلطان رحمه الله بإشخاص أولئك النصارى إلى مكناسة الزيتون وكانوا ألفا وثمانمائة على ما في البستان فكان يستخدمهم مع غيرهم من المساجين والأسرى في بناء قصوره بالنهار ويبيتون ليلا في الدهليز وهو في عرف المغاربة هري تحت الأرض وأسكن السلطان رحمه الله أهل الريف العرائش وأمر قائدهم أن يبني بها مسجدين وحماما ويبني داره بقلعتها وفي فتح العرائش أنشد الخطيب البليغ أديب فاس ومفتيها أبو محمد عبد الواحد بن محمد الشريف البوعناني فقال
( ألا أبشر فهذا الفتح نور ** قد انتظمت بعزكم الأمور )
( وطير السعد نادى حيث غنى ** قد انشرحت بفتحكم الصدور )
( وضوء النصر ساعده التهاني ** ونور الفخر نحوكم يدور )
( وقد وافتكم الخيرات طرا ** وطاب العيش واتصل السرور )
( حميتم بيضة الإسلام لما ** بعين الحق قد حرس الثغور )
____________________


( وجاهدتم وقاتلتم فأنتم ** لدين الله أقمار تنير )
( وأطلعتم صوارمكم نجوما ** لدى هيجاء صاحبها كفور )
( فأنت البدر يوم السلم حسنا ** في يوم الوغا الأسد الهصور )
( وفي ثغر العرائش قد تبدى ** لقد ركم على الشعرى الظهور )
( لقد كان الملوك فساوموها ** وراموها وبان لها نفور )
( فلما جاءها انقادت وقالت ** إليك بحق مولانا المصير )
( ملكت قياد عزتها بذل ** فما أغنى الحصار ولا العبور )
( قهرتم بأبطال ضخام ** على الهيجاء كلهم جسور )
( فكم رأس من الكفار أمسى ** قطيع الرأس مجرورا يخور )
( وكم نحر قلادته رماح ** وسن الرمح مركزه النحور )
( وكم أسرى وكم قتلى بأرض ** وكم جرحى دماؤهم تفور )
( تمر بها الطيور فتنتقيها ** وبات الذئب وهو لها شكور )
( وأضحى الناس كلهم نشاوى ** على طرب وما شربت خمور )
( فبشراكم بهذا الفتح نور ** وبشراكم بما من الغفور )
( به زادت مآثركم علوا ** وقد عظمت به لكم الأجور )
( ألا يا معشر الكفار هذا ** يبددكم وليس له فتور )
( ألا يا أهل سبتة قد أتاكم ** بسيف الله سلطان وقور )
( إذا ما جاء سبتة في عشي ** تناديه إذا كان البكور )
( ووهران تنادي كل يوم ** متى يأتي الإمام متى يزور )
( متى يأتي ويفتحها سريعا ** ويلحق أهلها منه ثبور )
( فيهزمهم ويقتلهم ويسبي ** وسيف الحق في يده ينور )
( أيا مولاي قم وانهض وشمر ** لأندلس فأنت لها الأمير )
( وجاهدهم وحاربهم وفرق ** جموعهم فربكم النصير )
( ولا يمنع بفضل الله منها ** كما قد قيل بر أو بحور )
( لسان الحال ينشد كل يوم ** ومعنى الحال تفهمه الصدور )
( بقرطبة تنال المجد طرا ** ويأتي العز والملك الكبير )
____________________


( وذلكم بعون الله سهل ** ومن بركاتكم أمر يسير )
( أيا مولاي إسماعيل هذا ** عبيدكم الضعيف المستجير )
( يناديكم بناديكم ويدعو ** دعاء لا تعييه الدهور )
( فيارب البرية ياإلهي ** ويا رحمن يا نعم المجير )
( أثب هذا الأمير بكل خير ** ولا تجعل تجارته تبور )
( وأبق الملك فيه وفي بنيه ** ولو كرهت زيود أو عمور )
( ونحن رعية نرجو هناء ** وبالسلطان تنتظم الأمور )
( عليكم من عبيدكم سلام ** مدى الدنيا يضمخه العبير )
( يعم جنابكم ما قال صب ** ألا أبشر فهذا الفتح نور )
وقال في ذلك الفقيه العالم الورع الشيهر أبو محمد عبد السلام بن حمدون جسوس رحمه الله
( رفعت منازل سبتة أقوالها ** تشكو إليكم بالذي قد هالها )
( مع بادس وبريجة فتعطفوا ** وتنبهوا كي تسمعوا تساءلها )
( يابن النبي الهاشمي محمد ** قل يا أمير المؤمنين أنا لها )
( فلقد قضيتم للعرائش حاجة ** مع طنجة فاقضوا لذي آمالها )
( عار عليكم أن تكون أسيرة ** بجواركم وجنودكم تغزى لها )
( إن لم تكونوا آخذين بثأرها ** من ذا يفك من الوثاق حبالها )
( لا تسمعن من جاهل ومثبط ** ومصعب من جهله أحوالها )
( إن الذين تقدموا قد جاهدوا ** بنفوسهم وبمالهم أمثالها )
( فتملكوا أملاكها وديارها ** وتقسموا أموالها ورجالها )
( فابعث لها أهل الشجاعة عاجلا ** حتى تراهم نازلين جبالها )
( وأمدهم بمؤونة ومعونة ** كيفما تقطع بالعدا أوصالها )
( وارفع لهذا الغرب رأسا إنه ** في الضعف ما دام العدا أنزالها )
( أبقاك ربي للخلافة عدة ** تقفو الشريعة مؤثرا أفعالها )
( واقبل هدية من أتى بنصيحة ** يبغي الثواب ولا تقل من قالها )
وقال في ذلك الشريف الأديب أبو محمد عبد السلام بن الطيب القادري
____________________


( علا عرش دين الله من كل العرائش ** وهد بنصر الله قصر العرائش )
وهي طويلة انظرها في نشر المثاني إن شئت ثم في الثاني والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة نهى السلطان عن لبس النعال السود ونادى في سائر أمصار المغرب وأمر بلبس النعال الصفر مكانها لما قيل من أن الناس اتخذوا النعال السود منذ استولى النصارى على العرائش على يد المأمون السعدي كما تقدم وفي أوائل ذي الحجة من هذه السنة قتل السلطان ثلاثة وستين رجلا من الطائفة المسمون بالعكاكزة فتح آصيلا
ولما فرغ المجاهدون من أمر العرائش عمدوا إلى مدينة آصيلا فنزلوا عليها وحاصروا النصارى الذين بها سنة كاملة وأظنهم الإصبنيول إلى أن بلغ بهم الحصار كل مبلغ فطلبوا الأمان فأمنوهم على حكم السلطان ولما لم يطمئنوا لذلك ركبوا من الليل سفنهم ونجوا إلى بلادهم ودخل المسلمون المدينة فملكوها وذلك سنة اثنتين ومائة وألف وعمرها أهل الريف أيضا وبنى بها قائدهم مسجدين ومدرسة وحماما وبنى داره بقلعتها والله أعلم حصار سبتة
ثم سار المجاهدون بعد الفراغ من آصيلا إلى سبتة فنزلوا عليها وحاصروها واستأنفوا الجد في مقاتلتها وامدهم السلطان بعسكر من عبيده وأمر قبائل الجبل أن تعين كل قبيلة حصتها للمرابطة على سبتة وكذلك أمر أهل فاس أن يبعثوا بحصتهم إليها فكان عدد المرابطين عليها خمسة وعشرين ألفا وتقدم السلطان إليهم في الجد والاجتهاد فكان القتال لا ينقطع عنها صباحا ومساء وطال الأمد حتى أن السلطان رحمه الله اتهم القواد
____________________


الذين كانوا على حصارها بعدم النصح في افتتاحها لئلا يبعث بهم بعدها إلى حصار البريجة فيبعدوا عن بلادهم مع أنهم قد سئموا كثرة الأسفار ومشقات الحروب واستمر الحال إلى أن مات القائد أبو الحسن علي بن عبد الله الريفي وولى بعده ابنه القائد أبو العباس أحمد بن علي والقتال لا زال والحال ما حال وفي كل سنة يتعاقب الغزاة عليها والسلطان مشتغل بتمهيد المغرب ومقاتلة برابرة جبل فازاز وغيرهم ولم يهيىء الله فتحها على يديه ودار القائد أحمد بن علي ومسجده اللذان بناهما بإزاء سبتة أيام الحصار لا زالا قائمي العين والأثر إلى اليوم وحكى الغزال في رحلته أنه رأى بأحد أبواب سبتة خرقا قديما لم يصلح فسأل أهلها عنه فقالوا إنه من أثر الرمي الذي كان يرميه الجيش الإسماعيلي وهو أثر كرة خرقت الباب ونفذت إلى داخل البلد وتركناه على حاله ليعتبر به من يأتي بعدنا ويزداد احتياطا وحزما أو كلاما هذا معناه والله تعالى أعلم غزو السلطان المولى إسماعيل برابرة فازاز وإيقاعه بهم
كان السلطان المولى إسماعيل رحمه الله في هذه المدة مشتغلا بتمهيد المغرب واستنزال أممه من معاقلهم إلى أن فتح أقطاره كلها وبنى قلاعها ورتب حاميتها ولم يبق له بالمغرب كله إلا قنة جبل فازاز الذي فيه آيت ومالو وآيت يف المال وآيت يسرى فعزم على النهوض إليه وافتضاض عذرته
ولما أراد الخروج إليهم استخلف على فاس الجديد كبير أولاده المولى أبا العلاء محرزا وبعث إلى مراكش ابنه المولى أبا اليمن المأمون وترك بمكناسة ابنه المولى محمد المدعو زيدان وكان فارس أولاده الموجودين يومئذ
ولما ولي المأمون على مراكش أمر برئيس الحضرة وإمام الكتاب الفقيه أبا العباس أحمد اليحمدي أن يعطيه التقليد ويوصيه بما تنبغي الوصاية به
____________________


وكان المولى المأمون منحرفا عن الوزير المذكور فمشى إليه على كره منه وحاز منه التقليد واستمع لوصيته امتثالا لأمر والده ثم عاد إليه وقال يا مولانا إن اليحمدي ينقصك ويزعم أنه الذي علمك دينك في كلام آخر فقال له السلطان رحمه الله والله إن كان قد قال ذلك إنه لصادق فإنه الذي علمني ديني وعرفني بربي نقل هذه الحكاية صاحب البستان وصاحب الجيش وكلاهما قال إنه سمعها من السلطان المرحوم المولى سليمان بن محمد رحمه الله وهي منقبة فخيمة للمولى إسماعيل في الخضوع للحق والاعتراف به رحم الله الجميع
ثم دخلت سنة ثلاث ومائة وألف والسلطان عازم على النهوض إلى فازاز وبعث مع ذلك بالراتب والعدة إلى أهل فاس وأمرهم بالنهوض إلى الترك مع ولده المولى زيدان فخرجوا في رمضان من السنة وبعد العيد أخذ السلطان في الاستعداد للنهوض إلى فازاز ثم بدا له فخرج في أثر المولى زيدان فلحق بأطراف المغرب الأوسط وأبرم الصلح مع الترك ورجع إلى الحضرة هكذا ساق صاحب البستان هذا الخبر والذي رأيته في نشر المثاني هو ما نصه قد اختار السلطان المولى إسماعيل الفقيه أبا عبد الله محمد الطيب الفاسي لعقد المهادنة مع الترك في حدود سنة ثلاث ومائة وألف بعد وقعة المشارع معهم لعلمه وفصاحته وبيته فذهب نحو الجزائر صحبة ولد السلطان وهو مولاي عبد الملك ومعهم الكاتب أبو عبد الله المدعو الوزير وغيرهم من وجوه الدولة الإسماعيلية فلما قاربوا الجزائر خرج صاحبها في جنده وقتل ونهب حتى انتهى الخبر إلى فاس بأنهم قتلوا أجمع وصادف ذلك يوم عاشوراء فحزن الناس لذلك وأمسكوا عن الإنفاق حتى بقي ما عهد أن يشتري في ذلك اليوم ملقى لما عرا الناس من الغم ثم جاء الخبر بأنهم قادمون بعافية وأنهم وصلوا إلى تازا ففرح الناس واستأنفوا الإنفاق كيوم عاشوراء ومات بايشي القبلي فولى السلطان علي زمور وبني حكم ولده أبا الحسن علي بن يشي
ثم دخلت سنة أربع ومائة وألف وفيها تهيأ السلطان للنهوض إلى البربر
____________________


أهل فازاز فاستنفر القبائل وحشد الجيوش واستعد الاستعداد التام بالمدافع والمهاريس والمجانيق وسائر آلات الحصار فنزل رحمه الله في جند العبيد ببسيط آدخسان ورتب على البرابر العساكر من كل جهة فبعث الباشا مساهلا في خمسة وعشرين ألفا من الرماة طلع بها من تادلا على وادي العبيد حتى نزل خلف آيت يسري وبعث علي بن بركات مع آيت يمو وآيت أدراسن فنزلوا بتغالين وبعث علي بن يشي مع زمور وبني حكم وأمره أن ينزل بعين شوعة وبعث إلى أهل تدغة وفركلة وغريس والصباح أن يقدموا بجموعهم على علي بن يشي وبعث إليه مع ذلك بعسكر الطبجية بالمدافع والمهاريس وسائر آلات الحرب وبعث نصارى العرائش يجرونها على طريق آعليل ثم على قصر بني مطير إلى أن اجتمعوا بعلي بن يشي على عين شوعة
وضرب السلطان لأمراء الجنود لإنشاب الحرب موعدا معلوما وقال لهم إذا كان وقت العشاء من ليلة كذا فليأخذ الطبجية في إخراج المدافع والمهاريس بالكور والبنب طول ليلتهم ليحصل للبربر الدهش فإذا أصبحتم فليقدم كل قائد من ناحيته ولينشب الحرب ليكون القتال في ساعة واحدة من جميع الجهات ففعلوا ما أشار به عليهم
ولما كانت الليلة المعينة لم يرع البربر إلا رعود المدافع والمهاريس تصعق في الجو ونيرانها تنقدح في ظلمات الليل وأصداء الجبال تتجاوب من كل ناحية فقامت عليهم القيامة وظنوا أن الأرض قد زالت بهم فقوضوا أبنيتهم وحملوا عيالاتهم للفرار وصاروا لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ولما أصبحوا زحف إليهم السلطان من ناحيته وزحفت إليهم العساكر من باقي الجهات واشتد القتال فانهزموا وتفرقوا في الشعاب والأودية شذر مدر وصار كل من قصد منهم ثنية أو منفذا وجد العساكر مقبلة منها والمدافع مصوبة نحوها فحل بهم القضاء وتصرف فيهم البلاء كيف شاء فقتلت رجالهم وسبيت نساؤهم وأولادهم ونهب أثاثهم وحيزت مواشيهم وأنعامهم واستلبت خيلهم وسلاحهم واستحر القتل والنهب فيهم
____________________


ثلاثة أيام والعساكر تلتقطهم من الأودية والشعاب وتستخرجهم من الكهوف والغيران وأمر السلطان قواده مساهلا وعلي بن يشي وعلي بن بركات بجمع رؤوس القتلى وجمع الخيل والسلاح ويوافوه به لآدخسان فجمعوا ما عثروا عليه من ذلك فكان عدد الرؤوس ينيف على اثني عشر ألفا وعدد الخيل الفحول ينيف على عشرة آلاف وعدد المكاحل ينيف على ثلاثين ألفا وبالاستيلاء على هؤلاء البربر كمل للسلطان المولى إسماعيل رحمه الله فتح المغرب واستولى عليه كله ولم يبق به عرق ينبض وكتب في الديوان من آيت يمور ألف فارس أنزلهم مع علي بن بركات بقلعة تغالين وأنزل محلتهم على رأس منزل آيت ومالو ولم يترك لقبيلة من قبائل المغرب خيلا ولا سلاحا وإنما كانت الخيل والسلاح عند العبيد والودايا وآيت يمور وأهل الريف المجاهدين بسبتة
قال أبو عبد الله أكنسوس رحمه الله وكان المولى إسماعيل رحمه الله ارتكب أخف الضررين وأدنى المفسدتين في إضعاف قبائل المسلمين بسلب الخيل والسلاح مع أن المطلوب هو تقويتهم بذلك لمقابلة العدو الكافر قال تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } الانفال 60 الآية ورأى المولى إسماعيل أنه لما أعد ذلك العسكر القوي الشديد قام عن المسلمين بواجب وكفاهم كل مؤنة وأراحهم من كلفة القيام بالخيل والسلاح مع أن الفساد الذي يظهر منهم عند ملك الخيل والسلاح أعظم وذلك بقطع الطرقات ونهب الأموال وخلع اليد من الطاعة قال وهذا القدر الذي اعتذرنا به عن السلطان ظاهر غاية الظهور ولعله خفي على الشيخ اليوسي حتى كتب إليه برسالته المشهورة ا هـ
قلت ما فعله السلطان المولى إسماعيل رحمه الله من ذلك ظاهر المصلحة لا يخفى على أحد وجد استحسانه ولا يتوهم عاقل أن أهل فازاز ومن في معناهم يتخذون الخيل والسلاح للجهاد يوما ما فلا يحتاج السلطان رحمه الله في مثل ذلك إلى الاعتذار وقوله أن ذلك الاعتذار خفي على اليوسي ليس على ما ينبغي لأن الشيخ اليوسي رحمه الله ما تكلم مع
____________________


السلطان في أمر أولئك القبائل ومن في معناهم وإنما كلامه معه في أمور ثلاثة الأول في جباية المال من وجهه وصرفه في وجهه الثاني في إقامة رسم الجهاد وشحن الثغور كلها بالمقاتلة والسلاح الثالث في الأنتصاف من الظالم للمظلوم وكف اليد العادية عن الرعية
ونص هذه الرسالة الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين قطب المجد ومركزه ومحاز الفخر ومأرزه وأساس الشرف الباذخ ومنبعه ومناط الفضل الشامخ ومجمعه السلطان الأعظم الأجل الآفخم مولانا إسماعيل ابن مولانا الشريف لا زالت أعلامه منصورة وأيامه على العز واليمن مقصورة سلام على سيدنا ورحمة الله وبركاته هذا ولا زائد عندنا سوى المحبة لسيدنا وغاية التعظيم والإجلال والدعاء لسيدنا بصالح الأحوال وذلك بعض ما أوجبته يده المبسوطة علينا بالبر والإحسان والفضل والامتنان والتوقير والاحترام والإنعام والإكرام مع ما له علينا وعلى غيرنا من الحقوق التي أوجبتها منزلته السلطانية ومثابته الطوقية الفاطمية فكتبنا هذه البطاقة وهي في الوقت منتهى الطاقة وكنا كثيرا ما نرى من سيدنا التشوق إلى الموعظة والنصح والرغبة في استفتاح أبواب الربح والنجح فأردنا أن نرسل إلى سيدنا ما أن وفق إلى النهوض إليه رجونا له ربح الدنيا والآخرة والارتقاء إلى الدرجات الفاخرة ورجونا وإن لم نكن أهلا لأن نعظ أن يكون سيدنا أهلا لأن يتعظ وأن يحتمي من جميع المذام ويحتفظ فليعلم سيدنا أن الأرض وما فيها ملك لله تعالى لا شريك له والناس عبيد الله سبحانه وإماء له وسيدنا واحد من العبيد وقد ملكه الله عبيده ابتلاء وامتحانا فإن قام عليهم بالعدل والرحمة والإنصاف والإصلاح فهو خليفة الله في أرضه وظل الله على عبيده وله الدرجة العالية عند الله تعالى وإن قام بالجور والعنف والكبرياء والطغيان والإفساد فهو متجاسر على مولاه في ملكته ومتسلط ومتكبر في الأرض بغير الحق ومتعرض لعقوبة مولاه الشديدة وسخطه ولا يخفى على سيدنا حال من تسلط على رعيته يروم تملكهم بغير إذنه كيف يفعل به يوم يتمكن منه ثم
____________________


نقول إن على السلطان حقوقا كثيرة لا تفي بها البطاقة ولنقتصر منها على ثلاثة هي أمهاتها الأول جمع المال من حق وتفريقه في حق الثاني إقامة الجهاد لإعلاء كلمة الله وفي معناه تعمير الثغور بما تحتاج إليه من عدد وعدة الثالث الانتصاف من الظالم للمظلوم وفي معناه كف اليد العادية عليهم منهم ومن غيرهم وهذه الثلاثة كلها قد اختلت في دولة سيدنا فوجب علينا تنبيهه لئلا يعتذر بعدم الاطلاع والغفلة فإن تنبه وفعل فقد فاز وذلك صلاح الوقت وصلاح أهله وسبوغ النعمة وشمول الرحمة وإلا فقد أدينا الذي علينا أما الأمر الأول فليعلم سيدنا أن المال الذي يجبى من الرعية قد أعد للمصالح التي ينتظم بها الدين وتصلح الدنيا من أهل البيت والعلماء والقضاة والأئمة والمجاهدين والأجناد والمساجد والقناطر وغير ذلك من المصالح ومثال هؤلاء كأيتام لهم ديون قد عجزوا عن قبضها إلا بوكيل ومثال الرعية مثل المديان والسلطان هو الوكيل فإن استوفى الوكيل الدين بلا زيادة ولا نقصان وأداه إلى اليتامى يحسب ما يجب لكل فقد برىء من اللوم ولم تبق عليه تباعة للمديان ولا لليتيم وحصل له أجران أجر القبض وأجر الدفع وإن هو زاد على الدين الواجب بغير رضى المديان فهو ظالم له أو نقص اليتيم من حقه الواجب له فهو ظالم له وكذا إن استوفى الديون وأمسكها ولم يدفعها لأربابها فهو ظالم فلينظر سيدنا فإن جباة مملكته قد جروا ذيول الظلم على الرعية فأكلوا اللحم وشربوا الدم وامتشوا العظم وامتصوا المخ ولم يتركوا للناس دينا ولا دنيا أما الدنيا فقد أخذوها وأما الدين فقد فتنوهم عنه وهذا شيء شهدناه لاشيء ظنناه ثم إن أرباب الحقوق قد ضاعوا ولم تصل إليهم حقوقهم فعلى السلطان أن يتفقد الجباة ويكف أيديهم عن الظلم ولا يغتر بكل من يزين له الوقت فإن كثيرا من الدائرين به طلاب الدنيا لا يتقون الله تعالى ولا يتحفظون من المداهنة والنفاق والكذب وفي أفضل منهم قال جده أمير المؤمنين مولانا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه المغرور من غررتموه اه وأن يتفقد المصالح ويبسط يد الفضل على خواص الناس من أهل الفضل والدين والخير ليكتسب محبتهم وثناءهم ونصرهم كما قيل
____________________


( أفاتكم النعماء مني ثلاثة ** يدي ولساني والضمير المحجبا )
وقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ولا يهملهم فيتمنوا غيره ويتطلبوا دولة أخرى كما قيل
( إذا لم يكن للمرء في دولة امرىء ** نصيب ولا حظ تمنى زوالها )
( وما ذاك من بغض لها غير أنه ** يريد سواها فهو يهوى انتقالها )
وليعلم سيدنا أن السلطان إذا أخذ أموال العامة ونثرها في الخاصة وشيد بها المصالح فالعامة يذعنون ويعلمون أنه سلطان وتطيب قلوبهم بما يرون من إنفاق أموالهم في مصالحهم وإلا فالعكس وأيضا السلطان متعرض للسهام الراشقة من دعوة المظلومين من الرعية فإذا أحسن إلى الخاصة دعوا له بالخير والسلامة والبقاء فيقابل دعاء بدعاء والله الموفق وأما الأمر الثاني فقد ضاع أيضا وذلك أنه لم يتأت في الوقت إلا عمارة الثغور وسيدنا قد غفل عنها فقد ضعفت اليوم غاية وقد حضرت بمدينة تطاوين أيام مولانا الرشيد رحمه الله فكانوا إذا سمعوا الصريخ تهتز الأرض خيلا ورماة وقد بلغني اليوم أنهم سمعوا صريخا من جانب البحر ذات يوم فخرجوا يسعون على أرجلهم بأيديهم العصي والمقاليع وهذا وهن في الدين وغرر على المسلمين وإنما جاءهم الضعف من المغارم الثقيلة وتكليفهم الحركات وإعطاء العدة كسائر الناس فعلى سيدنا أن يتفقد السواحل كلها من قلعية إلى ماسة ويحرضهم على الجهاد والحراسة بعد أن يحسن إليهم ويعفيهم مما يكلف به غيرهم ويترك لهم خيلهم وعدتهم ويزيدهم ما يحتاجون إليه فهم حماة بيضة الإسلام ويتحرى فيمن يوليه تلك النواحي أن يكون أشد الناس رغبة في الجهاد ونجدة في المضايق وغيرة على الإسلام ولا يولي فيها من همته ملء بطنه والاتكاء على أريكته والله الموفق
وأما الأمر الثالث فقد اختل أيضا لأن المشعبين للانتصاف بين الناس في البلدان وهم العمال وخدامهم هم المشتغلون بظلم الناس فكيف يزيل
____________________


الظلم من يفعله ومن ذهب يشتكي سبقوه إلى الباب فزادوا عليه فلا يقدر أحد أن يشتكي فليتق الله سيدنا وليتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب وليجهد في العدل فإنه قوام الملك وصلاح الدين والدنيا قال تعالى { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي } الآية وقال تعالى { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } الحج 40 ثم ذكر تعالى المنصورين وشروط النصر فقال { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر } الحج 41 فضمن تعالى للملوك النصر وشرط عليهم هذه الأمور الأربعة فمتى اختل عليهم أمر الرعية وتسلط عليهم من يفسد عليهم الدولة فليعلموا أن ذلك من إخلالهم بهذه الأمور فكان عليهم الرجوع إلى الله تعالى وتفقد ما أمرهم به ورعاية ما استرعاهم إياه وقد اتفقت حكماء العرب والعجم على أن الجور لا يثبت معه الملك ولا يستقيم وأن العدل يستقيم معه الملك ولو مع الكفر وقد عاش الملوك من الكفرة المئين من السنين في الملك المنتظم والكلمة المسموعة والراحة من كل منغص لما كانوا عليه من العدل في الرعية استصلاحا لدنياهم فكيف بمن يرجو صلاح الدنيا والدين قال بعض الحكماء الملك بناء والجند أساسه وإذا ضعف الأساس سقط البناء فلا سلطان إلا بجند ولا جند إلا بمال ولا مال إلا بجباية ولا جباية إلا بعمارة ولا عمارة إلا بالعدل فالعدل أساس الجميع وقد صنع أرسطوطاليس الحكيم للملك الإسكندر الشكل المستند عنه وكتب عليه العالم بستان سياجه الدولة الدولة سلطان تعضده السنة السنة سياسة يسوسها الملك راع يعضده الجيش الجيش أعوان يكفلهم المال المال رزق يجمعه الرعية الرعية عبيد يقودهم العدل العدل مألوف وبه صلاح العالم العالم بستان إلى آخره وقال صلى الله عليه وسلم كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته وقال
____________________


صلى الله عليه وسلم إن رجالا يخوضون في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة أو كما قال وقال صلى الله عليه وسلم ما من وال يلي ولاية إلا جاء يوم القيامة ويداه مغلولتان فأما عدل يفكه وأما جور يوبقه وعن مولانا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال رأيت عمر على قتب يعدو به بعيره بالأبطح فقلت يا أمير المؤمنين أين تسير فقال بعيره من إبل الصدقة شرد أطلبه فقلت أذللت الخلفاء من بعدك فقال لا تلمني فوالذي بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق لو أن عناقا ضلت بشاطىء الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة إنه لا حرمة لوال ضيع المسلمين ولا لفاسق روع المؤمنين وقد رأى رضي الله عنه شيخا يهوديا يسأل على الأبواب فقال ما أنصفناك أخذنا منك الجزية ما دمت شابا ثم ضيعناك اليوم وأمر أن يجري عليه قوته من بيت المال وليعلم سيدنا أن أول العدل أن يعدل في نفسه فلا يأخذ لنفسه من المال إلا بحق وليسأل العلماء عما يأخذ وما يعطي وما يأتي وما يذر وقد كان بنو إسرائيل يكون فيهم الأمير على يد نبي فالنبي يأمر والأمير ينفذ لا غير ولما كانت هذه الأمة المرحومة انقطعت منها النبوة بنبيها خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم فلم يبق إلا العلماء يقتدى بهم قال صلى الله عليه وسلم علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل فكان حقا على هذه الأمة أن يتبعوا العلماء ويتصرفوا على أيديهم أخذا وعطاء وقد توفي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر رضي الله عنه وكان قبل ذلك يبيع ويشتري في السوق على عياله فلما بويع أخذ ماله الذي للتجارة وذهب للسوق على عادته حتى رده علماء الصحابة وقالوا إنك في شغل بأمر الخلافة عن السوق وفرضوا له ما يكفيه مع عياله وجعلوا المال على يد أمين فكان هو وغيره فيه سواء يأخذ منه بما اقتضته الشريعة لنفسه ولغيره وهكذا سيرة الخلفاء الراشدين من بعده فعلى سيدنا أن يقتدي بهؤلاء الفضلاء ولا يقتدي بأهل الأهواء وليسأل من معه من الفقهاء الثقات كسيدي محمد بن الحسن وسيدي أحمد ابن سعيد وغيرهما من العلماء العاملين الذين يتقون الله ولا يخافون في الله
____________________


لومة لائم فما أمروه به مما ذكرناه ومما لم نذكره فعله وما نهوه عنه انتهى هذه طريقة النجاة إن شاء الله تعالى نسأل الله تعالى أن يرزق سيدنا توفيقا وتسديدا وإرشادا وتأييدا وأن يصلح بوجوده البلاد والعباد وأن يحسم بسيفه أهل الزيغ والعناد آمين والحمد لله رب العالمين
ولما فرغ السلطان رحمه الله من وقعة فازاز وآيت ومالو دعا علي بن يشي وعقد له على عشرة آلاف من الخيل وقال له لا أرى وجهك إلا إذا أغرت على كروان وأتيتني منهم بعدد هذه الرؤوس التي هنا لأنهم كانوا بوادي زيز يعيثون في طريق سجلماسة وينهبون الرفاق فسار علي بن يشي حتى صبحهم وهم عارون فنهب حللهم ومواشيهم وقتل منهم العدد الكثير ثم نادى في تلك القبائل كلها من أتى برأس كرواني فله عشرة مثاقيل فصار كل من انحاز إليه أحد منهم يقطع رأسه ويأتي به إليه واستمر البحث عنهم في المدر والوبر إلى أن قضى من جماجمهم الوطر ولما اجتمعت عنده أعطى كل من أتى برأس مثقالا واحدا وجاء إلى السلطان باثني عشر ألف رأس كما اقترح عليه وفق ما اجتمع منها بآدخسان فشكر له فعله وولاه على قبائل العرب والبربر
ودخلت سنة خمس ومائة وألف فلم يكن فيها شيء يذكر
ثم دخلت سنة ست ومائة وألف ففي ربيع منه خرج المولى زيدان ابن السلطان بالعساكر قاصدا ناحية تلمسان بعد أن قتل النائب بفاس أبا العباس أحمد السلاوي فقاتل الترك ونهب ورجع
ثم دخل سنة سبع ومائة وألف فلم يكن فيها شيء يذكر
ثم دخلت سنة ثمان ومائة وألف ففي يوم عرفة منها قدم عشرة رجال من إصطنبول ومعهم كتاب من السلطان مصطفى بن محمد العثماني صاحب القسطنطينية العظمى إلى السلطان المولى إسماعيل يندبه إلى الصلح مع أهل الجزائر فانتدب رحمه الله وامتثل
____________________

أمر السلطان المولى إسماعيل علماء فاس بالكتابة على ديوان العبيد وامتناعهم منها وما نشأ عن ذلك
وفي ذي القعدة من هذه السنة أعني سنة ثمان ومائة وألف ورد كتاب من حضرة السلطان على القاضي والعلماء بفاس يعاتبهم ويوبخهم على عدم موافقتهم على تمليك العبيد المثبتين في الديوان ثم ورد كتاب آخر من السلطان يمدح العامة ويذم العلماء ويأمر بعزل القاضي والشهود كذا في البستان
قال أبو عبد الله أكنسوس هذا الكلام الذي نقله صاحب البستان عن السلطان المولى إسماعيل رحمه الله فيه نظر فإنه كلام مجمل وقضية جمع العبيد مذكورة مفصلة في الكناش الكبير الإسماعيلي وفيه تمييز المماليك الأرقاء الذين اشتروا بالثمن على الوجه الشرعي بخطوط العدول وهؤلاء لا كلام فيهم وأما غيرهم من أهل الديوان المجلوبون من القبائل العديدة فإن السلطان لم يدع فيهم الملكية وإنما الكلام في جبرهم على الجندية ووجه السلطان إلى علماء المشرق والمغرب السؤالات عن ذلك فكتبوا إليه الأجوبة المتضمنة للجواز بخطوطهم وكل ذلك في الكناش المذكور مبسوطا وهو شيء كثير وحاشى الله مقام السلطان المولى إسماعيل رحمه الله أن يدعى تملك الأحرار وقد تقدم كلام الشيخ اليوسي وبيان ما أنكر على السلطان ولو كان ما ذكر الصياني متصفا به السلطان المذكور لكان ذلك أول ما ينكره اليوسي ولا يسعه السكوت عليه مع أنه أنكر ما هو أقل من ذلك وأخف بمراتب نعم في الكناش طوائف معروفة متميزة ثبت عند السلطان المذكور أنهم كانوا أرقاء للمنصور السعدي فلما انقرضت الدولة السعدية تفرقوا في الأقطار وهم الذين تقدم الكلام عليهم في دفتر عليليش وقد وقع البحث عن رقيتهم وسئل أهل الأسنان من كل قبيلة فعينوا الرقيق من غيره فثبت ذلك كله عند السلطان ومع ذلك لم يدخلهم في الأرقاء الخلص الذين اشتروا بالثمن بل ميزهم على حدة فكان ذلك الجند عنده على
____________________


ثلاث مراتب المرتبة الأولى خالص الرقية المرتبة الثانية خالص الحرية المرتبة الثالثة واسطة بينهما اه والله تعالى أعلم تفريق المولى إسماعيل رحمه الله أعمال المغرب على أولاده وما نشأ عن ذلك
لما كانت سنة إحدى عشرة ومائة وألف فرق السلطان المولى إسماعيل رحمه الله أعمال المغرب على أولاده فعقد لابنه المولى أحمد على تادلا وأنزله بقصبتها ورتب معه ثلاثة آلاف من العبيد حامية بها وأمره أن يزيد في تلك القصبة فبنى قصبة جديدة وبنى بها قصره وبنى مسجدا أعظم من مسجد أبيه بالقصبة الأولى واستقر بها
وعقد لابنه المولى عبد الملك على درعة وأعمالها وانزله بقصبتها ورتب معه ثلاثة آلاف من الخيل
وعقد لابنه المولى محمد المدعو بالعالم على إقليم السوس ورتب معه ألف فارس
وعقد لابنه المأمون الكبير الذي كان بمراكش على سجلماسة وأعمالها نقله من مراكش إليها وأنزله بقصبته التي بناها له بتيزيمي ورتب معه خمسمائة من الخيل وبعد سنتين توفي الملك المأمون فولى السلطان مكانه ابنه المولى يوسف
وعقد لابنه المولى زيدان على بلاد الشرق فكان يغير على رعايا الترك إلى أن شردهم عن نواحي تلمسان وانتهى في بعض أيام غاراته إلى مدينة معسكر فاقتحمها وانتهب دار أميرها عثمان باي وأخذ ما فيها من الفرش والخرثى والأدام وغير ذلك لمغيب عثمان عنها في بعض غزواته فانتهز المولى زيدان فيها الفرصة فكان ذلك سبب عزله عن الشرى وتوليه أخيه المولى حفيد مكانه لأن السلطان رحمه الله لم يرض فعله ونهبه لدار الباي
____________________


للصلح الذي كان انعقد بينه وبين السلطان مصطفى العثماني كما مر
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائة وألف فيها غزا السلطان بلاد الشرق وحارب الترك بها لانتقاض الصلح الذي كان بينه وبينهم بسبب غارات المولى زيدان المتقدمة ولما قفل السلطان من وجهه هذه هلك من جنده أثناء الطريق عدد كبير من العطش فمن أهل فاس بالخصوص أربعون نفسا سوى من هلك من غيرهم وفي هذه السنة قتل القائد عبد الخالق بن عبد الله الروسي صاحب فاس عبدا من عبيد دار السلطان دخل عليه بغير إذنه فقتله فبعث السلطان ولده المولى حفيدا من مكناسة إلى فاس ليأتيه به فاستشفع إليه عبد الخالق بالعلماء والأشراف فلم يقيده المولى حفيد وذهب به مسرحا فلما دخل على السلطان بمكناسة عفا عنه ورجع إلى فاس سالما
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائة وألف فيها استدعى السلطان عبد الخالق الروسي من فاس فلما قدم عليه قتله وبعث ابنه المولى زيدان إلى فاس وبعث معه حمدون بن عبد الله الروسي واليا عليها بدلا من أخيه المقتول والله أعلم تنازع أولاد السلطان وثورة المولى محمد العالم منهم بالسوس ومقتله
لما دخلت سنة أربع عشرة ومائة وألف وصل المولى عبد الملك بن السلطان صاحب درعة إلى ضريح المولى إدريس الأكبر بزرهون مهزوما لاستيلاء أخيه المولى أبي النصر على درعة وتغلبه على تلك النواحي فبعث السلطان ولده المولى الشريف إلى درعة واليا عليها فثار المولى محمد العالم ببلاد السوس ودعا لنفسه وزحف إلى مراكش فحاصرها في رمضان من السنة المذكورة وفي العشرين من شوال اقتحمها عنوة بالسيف فقتل
____________________


ونهب ولما اتصل خبره بالسلطان بعث ولده المولى زيدان في العساكر لقتاله فقدم مراكش فصادف المولى محمدا قد خرج عنها وعاد إلى تارودانت ولما احتل المولى زيدان بمراكش عاثت عساكره فيها ثم تبع أخاه المولى محمدا العالم إلى السوس فنزل على تارودانت واتصلت الحرب بينهما إلى أن دخلت سنة خمس عشرة ومائة وألف وفيها قدم المولى حفيد حضرة فاس الجديد ووظف على أهل فاس مغرما ثقيلا وجاء الزعيم واليا عليها ثم عزل وولى مكانه أبو علي الروسي فقتل أناسا وصلبهم وفي متم شوال من السنة المذكورة مات المولى حفيد بفاس الجديد هذا كله والحرب قائمة بين المولى زيدان والمولى محمد العالم
ثم دخلت سنة ست عشرة ومائة وألف ففي ثالث صفر منها ورد أمر السلطان على فاس بأن تعطى كل عتبة عظم سرج ولا يحرر من ذلك أحد كائنا من كان
وفي الحادي والعشرين من صفر المذكور ورد الخبر باستيلاء المولى زيدان على تارودانت وقبضه على أخيه المولى محمد العالم بعد محاربته له ثلاث سنين هلك فيها أمم وقواد ورؤساء وأعيان يطول ذكرهم ولما دخلها المولى زيدان عنوة قتل جميع من بها حتى النساء والصبيان هكذا في البستان وفي رابع ربيع الأول من السنة وصل المولى محمد العالم مقبوضا عليه إلى وادي بهت فبعث السلطان من قطع يده ورجله من خلاف بعقبة بهت ولما وصل إلى مكناسة خامس عشر الشهر المذكور هلك رحمه الله
قال أبو عبد الله أكنسوس لما توفي المولى محمد العالم صلى عليه القاضي أبو عبد الله محمد العربي بردلة فنقم عليه ذلك بعض الحسدة وأوغر قلب السلطان عليه وقال له إنه يبغضك ولولا شدة بغضه لك ما نازع إلى الصلاة على عدوك الذي ثار عليك ورام نزع الملك من يدك فكتب السلطان إلى القاضي بردلة يتهدده ويوبخه فأجابه القاضي بأن صلاته نظيرة صلاة الحسن البصري على الحجاج بن يوسف فلما ليم على ذلك قال استحييت من الله تعالى أن أستعظم ذنب الحجاج في جنب كرم الله الغفور الرحيم
____________________


على أنني ما صليت عليه بغير إذن بل خرج الإذن من الدار المولوية وبلغ ذلك مبلغ الشهرة التي لم يبق معها شك وذلك على لسان مترجم ينسب الأمر إلى الجانب المولوي فلا افتيات بعد ذلك بل الواجب هو القيام بذلك ولو بغير إذن إجلالا وتعظيما لجانب مولانا نصره الله ولما قال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في قضية الحديبيه امح لفظة رسول الله قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه والله لا أمحوه أبدا فتعارض وجوب امتثال أمر الرسول بالمحو ووجوب الإجلال لمقامه الأرفع فرجح رضي الله عنه وجوب الإجلال ثم الصحيح أن الحدود كفارات ففي الصحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له اه باختصار
قال أكنسوس وكانت هذه القضية من الفتن العظيمة بالمغرب عمت أهل القطر السوسي وخصت أعيان غيرهم من العلماء الذين كانوا يخالطون المولى محمد العالم لولا لطف الله تعالى فإن الشيخ أبا عبد الله المسناوي الدلائي كان من أخص الناس بالمولى محمد فوشى به إلى السلطان وقيل له إنه من شدة اتصاله به لا يغيب عنه عزمه على القيام عليك فهو إذا موافق له على ذلك فبادر بعض أصحاب السلطان ممن كان يجنح للمسناوي بالاعتذار عنه بأنه كان ينهاه عن القيام وأنشد للمسناوي في ذلك
( مهلا فإن لكل شيء غاية ** والدهر يعكس حيلة المحتال )
( فالبدر ليس يلوح ساطع نوره ** والشمس فاهرة السنا في الحال )
( فإذا توارت بالحجاب فعند ذا ** يبدو بدو تعزز وجمال )
فوقع ذلك من السلطان وتحقق براءة الشيخ رحم الله الجميع قال أكنسوس وقولنا عمت أهل القطر السوسي لأن ظهوره التام إنما كان هنالك ولأن جل من ينتسب إلى العلم والصلاح منهم كانوا معه موافقين له ومؤيدين فعله اه قال في نشر المثاني كان المولى محمد العالم ماهرا في فنون شتى كالنحو والبيان والمنطق والكلام والأصول وكان ينفعل للشعر وتأخذه
____________________


أريحية الأدب وكتب له أخوه مولاي الشريف في صدر كتاب بعث به إليه ما خاطب به سيف الدولة بن حمدان أخاه ناصر الدولة
( رضيت لك العليا وإن كنت أهلها ** وقلت لهم بيني وبين أخي فرق )
( أما كنت ترضى أن أكون مصليا ** إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق )
فاقترح المولى محمد على الشيخ أبي عبد الله المسناوي أن ينوب عنه في الجواب لأنه كان في جملة الوافدين عليه حينئذ فقال رحمه الله
( بلى قد رضيت أن تكون مجليا ** ويتلو نداكم في العلا من له السبق )
( ومالي لا أرضى لك المجد كله ** وأنت شقيق النفس إن عرف الحق )
( ولكن ذوو الضغن انتحوا ذات بيننا ** فغادرنا إفسادهم وبها رفق )
وفي هذا التاريخ أعني سنة سبع عشرة ومائة وألف انتزع النجليز جبل طارق من يد الإصبنيول حاصره ثلاثة أيام برا وبحرا في جند يسير فملكه لاشتغال الإصبنيول يومئذ عنه بأمر الفتنة التي حدثت في ملكه ولما ملكه النجليز عظم ذلك على أجناس الفرنج خصوصا الإصبنيول والفرنسيس ورأوا أن النجليز قد ملك عليهم باب أوروبا ولذا حاصروه مرارا فلم يحصلوا منه على طائل واستمر في يده إلى الآن
ولما دخلت سنة تسع عشرة ومائة وألف ورد الخبر بموت المولى زيدان ابن السلطان بتارودانت وحمل في تابوت إلى مكناسة فدفن ليلا إلى جانب أخيه المولى محمد العالم
وفي هذه السنة أمر السلطان بهدم قصر البديع الذي بناه المنصور السعدي بقصبة مراكش وقد تقدم الكلام عليه قال اليفرني في النزهة ومن العجائب أنه لم يبق بلد من بلاد المغرب إلا ودخله شيء من أنقاض البديع اه
ثم دخلت سنة عشرين ومائة وألف فيها افتتح الترك مدينة وهران وكانت بيد الإصبنيول مدة فردها الله على المسلمين يومئذ وفيها أمر السلطان بقراءة حديث الإنصات يوم الجمعة عند خروج الخطيب وجلوسه على المنبر
____________________

محنة الفقيه أبي محمد عبد السلام ابن حمدون بسوس رحمه الله
قد تقدم لنا ما كان من أمر السلطان المولى إسماعيل رحمه الله لعلماء عصره بالكتابة على ديوان العبيد وامتناعهم من ذلك ولما كانت سنة عشرين ومائة وألف تجددت المحنة وألزم الرئيس أبو محمد عبد الله الروسي فقهاء فاس أن يكتبوا على الديوان المذكور فمن كتب نجا ومن أبى قبض عليه ثم قبض على أولاد جسوس واستلب أموالهم وأجلس فقيههم الشيخ أبا محمد عبد السلام بن حمدون جسوس بالسوق مقيدا يتطلب الفداء ثم حمل مسجونا إلى مكناسة
ودخلت سنة إحدى وعشرين ومائة وألف فعفا السلطان عن الفقيه المذكور وسرحه وبعث به إلى فاس ليزعج الحراطين الذين بها إلى مكناسة فقدم وأزعجهم في ربيع الأول من السنة المذكورة ثم كان عاقبة الفقيه المذكور أن قتله القائد أبو علي الحسن بن عبد الخالق الروسي فمن الناس من يقول إن ذلك كان بأمر السلطان ومنهم من يقول بغير أمره اه وقد وقفت على تقييد بخط شيخنا الفقيه أبي عبد الله محمد بن عبد العزيز محبوبة السلاوي رحمه الله وكان واعية يقول فيه إن امتحان الفقيه أبي محمد جسوس كان من أجل امتناعه من الموافقة على ديوان الحراطين الذي اخترعه عليليش المراكشي للسلطان الجليل المولى إسماعيل رحمه الله حسبما هو مشهور فهجاه بعض السفهاء وهجا فاسا من أجله وحقد عليه السلطان فاستصفى عامة أمواله وأجرى عليه أنواع العذاب وبيعت دوره وأصوله وكتبه وجميع ما يملك هو وأولاده ونساؤه ثم صار يطاف به في الأسواق وينادى عليه من يفدي هذا الأسير والناس ترمي عليه بالدراهم والحلى وغير ذلك من النفائس أياما كثيرة فيذهب الموكلون به بما يرمى عليه حيث ذهبوا بأمواله وبقي على ذلك قريبا من سنة فكان في ذلك محنة عظيمة له ولعامة المسلمين وخاصتهم ولما دنا وقت شهادته رحمه الله وقد أيس من
____________________

نفسه كتب بخطه رقعة وأذاعها في الناس يقول فيها ما نصه الحمد لله يشهد الواضع اسمه عقبه على نفسه ويشهد الله تعالى وملائكته وجميع خلقه أني ما امتنعت من الموافقة على تمليك من ملك من العبيد إلا لأني لم أجد له وجها ولا مسلكا ولا رخصة في الشرع وأني إن وافقت عليه طوعا أو كرها فقد خنت الله ورسوله والشرع وخفت من الخلود في النار بسببه وأيضا فإني نظرت في أخبار الأئمة المتقدمين حين أكرهوا على ما لم يظهر لهم وجهه في الشرع فرأيتهم ما آثروا أموالهم ولا أبدانهم على دينهم خوفا منهم على تغيير الشرع واغترار الخلق بهم ومن ظن بي غير ذلك وافترى على ما لم أقله وما لم أفعله فالله الموعد بيني وبينه وحسبنا الله ونعم الوكيل والسلام وكتب عبد السلام بن حمدون جسوس غفر الله ذنبه وستر في الدارين عيبه صبيحة يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الثاني سنة إحدى وعشرين ومائة وألف اه
ثم بعد ذلك بيومين أمر أبو علي الروسي بقتله فقتل رحمه الله خنقا بعد أن توضأ وصلى ما شاء الله ودعا قرب السحر من ليلة الخميس الخامس والعشرين من ربيع الثاني من السنة المذكورة ودفن ليلا على يد القائد أبي علي الروسي انتهى ما وجدناه مقيدا
واعلم أن قضية الفقيه أبي محمد رحمه الله من القضايا الفظيعة في الإسلام والأسباب التي أثارتها أولا وأكدتها ثانيا حتى نفذ أمر الله فيما قضاه وقدره في أزله بعضها ظاهر وبعضها خفي الله أعلم بحقيقته غير أن المعروف من حال الفقيه المذكور هو الصلابة في الدين والورع التام وناهيك بشهادته هذه دليلا على ذلك وقضيته قد تعارضت فيها الأنقال ودخلها التعصب فلا يوقف منها على تحقيق وغفران الله وراء الجميع فإنه تعالى أهل التقوى وأهل المغفرة قال أبو عبد الله أكنسوس وقد جرى ذكر قضية الفقيه أبو محمد عبد السلام هذا بمجلس السلطان المرحوم المولى سليمان ابن محمد فقال ما قتله مولانا إسماعيل وإنما قتله أهل فاس قال ولم يمكنا أن نسأله عن حقيقة ذلك اه وفي شعبان من السنة المذكورة عزل
____________________


السلطان أبا علي الروسي عن فاس وولي مكانه حمدون الروسي ثم بعد مدة يسيرة أخر حمدون وأعيد أبو علي وفيها قدم عبد الله الروسي ومعه أمر السلطان ببيع أصول المجاورين بالمشرق يعني بالحرمين الشريفين ثورة المولى أبي النصر ابن السلطان بالسوس ومقتله رحمه الله
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف فيها ثار أبو النصر ابن السلطان المولى إسماعيل ببلاد السوس وخب في الفتنة ووضع
وفي سنة أربع وعشرين ومائة وألف سرح السلطان كاتبه الخياط بن منصور من السجن وولاه درعة
وفي سنة خمس وعشرين بعدها قتل السلطان الخياط المذكور وأخاه عبد الرحمن وفيها ورد الخبر على السلطان بأن أولاد دليم من عرب السوس قد قتلوا ولده المولى أبا النصر الثائر بها
وفي سنة ست وعشرين ومائة وألف قتل السلطان القائد أبا الدشيش وثلاثة من القواد معه وسبعة عشر من العبيد بمشرع الرملة وفي جمادى الأولى من سنة سبع وعشرين ومائة وألف توفيت الحرة عائشة مباركة زوج السلطان وهي أم ولده المولى أبي الحسن علي الآتي ذكره
وفي سنة تسع وعشرين ومائة وألف سافر ولد السلطان وهو المولى أبو مروان بن إسماعيل إلى الحجاز بقصد الحج وفي رمضان منها بعث والي وجدة إلى الحضرة مائة رأس من رؤوس بني يزناسن
وفي سنة ثلاثين ومائة وألف ورد كتاب من السلطان إلى فاس يتضمن تحرير أهل فاس من الكلف كلها ثم ورد عقبه كتاب آخر يوبخهم فيه ويخيرهم بين أن يكونوا جيشا أو نائبه فقال رجل منهم يدعى ولد الصحراوي إنما يكون الكلام أمام السلطان فقتل وأصبح مصلوبا فبلغ ذلك السلطان فقبض على أبي علي الروسي وأصحابه وولي على فاس
____________________


حمدون الروسي ثم بعد ذلك عمد حمدون الروسي إلى عبد الخالق بن يوسف فقتله فقبض السلطان عليه وعلى أخيه مسعود وولي على فاس حمو قصارة ثم بعد أيام قدم أبو علي الروسي واليا على فاس وفي هذه السنة ورد الخبر بموت المولى أبي مروان بالمشرق وفيها عزل السلطان أولاده عن الأعمال كلها ولم يترك إلا ولي العهد المولى أحمد بتادلا ثم بعث ولده المولى عبد الملك إلى مراكش وولاه قطر السوس واستقامت الأمور وسكنت الرعية وهدأت البلاد واشتغل السلطان ببناء قصوره وغرس بساتينه والبلاد في أمن وعافية تخرج المرأة والذمي من وجدة إلى وادي نول فلا يجدان من يسألهما من أين ولا إلى أين مع الرجاء المفرط فلا قيمة للقمح ولا للماشية والعمال تجبي الأموال والرعايا تدفع بلا كلفة وصار أهل المغرب كفلاحي مصر يعملون ويدفعون في كل جمعة أو شهر أو سنة ومن نتج فرسا رباه حتى إذا بلغ أن يركب دفعه إلى العامل وعشرة مثاقيل معه ثمن سرجه هذا إذا كان المنتوج ذكرا فإذا كان أنثى ترك له ويدفع للعامل مثقالا واحدا ولم يبق في هذه المدة بأرض المغرب سارق ولا قاطع طريق ومن ظهر عليه شيء من ذلك وفر في القبائل قبض عليه بكل قبيلة مر عليها أو قرية ظهر بها فلا تقله أرض حتى يؤتى به أينما كان وكلما بات مجهول حال بحلة أو قرية ثقف بها إلى أن يعرف حاله ومن تركه ولم يحتط في أمره أخذ بما اجترحه وأدى ما سرقه أو اقترفه من قتل أو غيره
وكانت أيامه رحمه الله غزيرة الأمطار كثيرة البركة في الحراثة والتجارة وغيرهما من أنواع المعاش مع الأمن والخصب والرخاء المحتد بحيث لم يقع غلاء طول أيامه إلا مرة واحدة فبلغ القمح في أيامه ست أواق للمد والشعير ثلاث أواق للمد ورأس الضأن ثلاث أواق ورأس البقر من المثقال إلى المثقالين سائر أيام الرخاء والسمن والعسل رطلان بالموزونة والزيت أربعة أرطال بالموزونة هكذا نقله صاحب البستان وهو مخالف لما سيأتي في الحوادث من أن الجدب والغلاء قد بلغا مبلغهما أعوام التسعين وألف ولعل ما ذكره صاحب البستان كان في آخر دولة السلطان المذكور
____________________

حسبما هي عادة الله تعالى في مثل ذلك غالبا والله تعالى أعلم بناء ضريحي الإمامين إدريس الأكبر والأصغر رضي الله عنهما
لما كانت سنة اثنتين وثلاثين ومائة وألف أمر السلطان رحمه الله بهدم قبة ضريح المولى إدريس الأكبر رضي الله عنه بزاوية زرهون وشراء الأصول المجاورة له من جهاته الأربع وهدمها وزيادتها فيه فهدمت القبة وجميع ما حولها وأعيدت على هيئة بديعة واستمر البناء والعمل في المشهد الشريف إلى أن تم سنة أربع وثلاثين ومائة وألف هكذا في البستان وغيره وقال في نشر المثاني وفي سنة اثنتين وثلاثين ومائة وألف أمر السلطان المظفر المولى إسماعيل بتجديد بناء مقام مولانا إدريس الأصغر باني فاس حيث ضريحه بها وأمر ببناء قبته التي هي عليه الآن بما اشتملت عليه من المحاسن التي يعز وجودها وأمر بتوسعة صحن المسجد على ما هو عليه اليوم من الهيئة التي لا نظير لها بفاس وتم تسقيف القبة في آخر ذي الحجة من العام المذكور ثم أمر رحمه الله بإقامة الجمعة فيه فهي تقام فيه من يومئذ جعل الله ذلك في ميزان الآمر به والمتولي له آمين
وفي سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف مات القائد عبد الله الروسي بمكناسة وفيها غضب السلطان على أهل فاس وبعث إليهم حمدون الروسي وأخاه أبا علي وأمرهم بمصادرتهم وقبض المال منهم فبعثوا علماءهم وأشرافهم للشفاعة فلم يقبل وشرعوا في دفع المال حتى لم يعرف له عدد ولم يسلم من الغرامة أحد وتغيب الناس في تلك المدة وخلت المدينة من ذوي اليسار
وفي هذه السنة أيضا في المحرم منها خرج عسكر الإصبنيول من سبتة على حين غفلة من المسلمين فضربوا في محلتهم واستولوا عليها وعلى خباء القائد أبي الحسن علي بن عبد الله الريفي ونهبوا وقتلوا وسلبوا
____________________


وحازوا شبارات المسلمين وعساتهم وحازوا قصبة آفراك واستشهد من المسلمين نحو ألف ورجعوا عودهم على بدئهم إلى سبته ومنها ركبوا البحر إلى جزيرتهم ولم يبق بسبتة إلا سكانها ثم كانت الكرة للمسلمين عليهم بعدها فبقي بأيدي المسلمين منهم نحو ثلاثة آلاف
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة وألف ففي المحرم منها مات الباشا غازي بن شقراء صاحب مراكش بوجدة وفي صفر منها مات باعزيز بن صدوف صاحب تارودانت وفيها انتقل المولى عبد الملك بن السلطان إلى تارودانت فاستقر بها إلى أن كان من أمره ما نذكره عند التعرض لدولته إن شاء الله وفاة أمير المؤمنين المولى إسماعيل رحمه الله
كانت أيام أمير المؤمنين المولى إسماعيل رحمه الله على ما ذكرنا من الأمن والعافية وتمام الضبط حتى لم يبق لأهل الذعارة والفساد محل يأوون إليه ويعتصمون به ولم تقلهم أرض ولا أظلتهم سماء سائر أيامه فقد كان خليفة ونائبا عن أخيه المولى الرشيد سبع سنين وسلطانا وملكا مستقلا سبعا وخمسين سنة حتى كان جهلة الأعراب يعتقدون أنه لا يموت ويقال إن البعض من أولاده كانوا يستبطئون موته ويعبرون عنه بالحي الدائم وهذه المدة التي استوفاها المولى إسماعيل في الملك والسلطان لم يستوفها أحد من خلفاء الإسلام وملوكه سوى المستنصر العبيدي صاحب مصر فإنه أقام في الخلافة ستين سنة لكن لا سواء فإن المولى إسماعيل رحمه الله استوفى مدة الخلافة بثمرتها وتملاها بكمال لذتها لأنه وليها في إبان اقتداره عليها واضطلاعه بها بعد سن العشرين كما مر لا في مدة النيابة ولا في مدة الاستقلال ولم يكن عليه استبداد لأحد ولا نغص عليه دولته منغص سوى ما كان من ثورة ابن محرز وابنه المولى محمد العالم ومن سلك سننهم من القرابة وكلهم كان يشغب في الأطراف لم يحصل منهم
____________________


كبير ضرر للدولة بخلاف المستنصر العبيدي فإنه ولي وهو ابن سبع سنين فكان في صدر دولته تحت الاستبداد وحدث في أيامه الغلاء العظيم
قال ابن خلكان وهو غلاء لم يعهد مثله بمصر منذ زمان يوسف عليه الصلاة والسلام واستمر سبع سنين أكل الناس فيها بعضهم بعضا وبيع رغيف واحد بخمسين دينارا وكان المستنصر في هذه الشدة يركب وحده وكل من معه من الخواص مترجلون ليس لهم دواب يركبونها وكانوا إذا مشوا يتساقطون في الطرقات من الجوع إلى غير ذلك فلذا قلنا لا يستوي حال ملك المولى إسماعيل وملك المستنصر رحمهما الله
ولما كانت سنة تسع وثلاثين ومائة وألف مرض أمير المؤمنين المولى إسماعيل مرض موته قال في نشر المثاني كان ابتداء مرضه في ثاني يوم من جمادى الأولى من السنة المذكورة ولما أحس بالضعف بعث إلى ولده المولى أحمد صاحب تادلا يستقدمه فقدم عليه وأقام ثلاثا ثم اخترمته المنية رحمه الله يوم السبت الثامن والعشرين من رجب سنة تسع وثلاثين ومائة وألف وتولى غسله الفقيه أبو العباس أحمد بن أبي القاسم العميري وصلى عليه الفقيه العلامة أبو علي الحسن بن رحال المعداني ودفن بضريح الشيخ المجذوب رضي الله عنه من حضرة مكناسة
قال في البستان كان السلطان المولى إسماعيل قد عهد بالأمر إلى ولده المولى أحمد المذكور وكان يعبر عنه بولي العهد وأنكر أكنسوس أن يكون السلطان المذكور قد عهد لأحد من أولاده قال كما أخبرنا بذلك السلطان العالم المولى سليمان بن محمد رحمه الله مرارا وكان يحكى في ذلك خبرا وهو أن المولى إسماعيل لما أيقن بالموت دعا وزيره وعالم حضرته الكاتب أبا العباس اليحمدي وقال له إني في آخر يوم من أيام الدنيا فأحببت أن تشير علي بمن أقلده هذا الأمر من ولدي لأنك أعرف بأحوالهم مني فقال له يا مولانا لقد كلفتني أمرا عظيما وأنا أقول الحق أنه لا ولد لك تقلده أمر المسلمين كان لك ثلاثة المولى محرز والمولى المأمون والمولى محمد فقبضهم الله إليه فقال له السلطان جزاك الله خيرا وودعه
____________________

وانصرف ولم يعهد لأحد وإنما العبيد كانوا يقدمون من شاؤوا ويؤخرون من شاؤوا وكان المولى سليمان رحمه الله يحكي ذلك عندما يعرض له ذكر أولاده هو والله أعلم بقية أخبار المولى إسماعيل رحمه الله ومآثره وسيرته
قال اليفرني في النزهة لم يزل أمير المؤمنين إسماعيل رحمه الله في مقارعة أعدائه إلى أن دوخ بلاد المغرب كلها واستولى على سهلها ووعرها واستولى على تخوم السودان وانتهى منها إلى ما وراء النيل وانتشرت دولته في عمائرها وبلغ من ذلك ما لم يبلغه المنصور السعدي وامتدت مملكته في جهة الشرق إلى بسكرة من بلاد الجريد ونواحي تلمسان والله أعلم حيث يجعل رسالاته اه وقال في البستان كان للمولى إسماعيل من الولد على ما تواتر به الخبر خمسمائة ولد ذكر ومن البنات مثل ذلك أو قريب منه قال والذي عقب من أولاده على ما رأيناه عيانا في دفتر السلطان المولى محمد بن عبد الله إذ كان يصلهم في كل سنة وكان يبعثني لتفرقة الصلة عليهم بسجلماسة مائة دار وخمس دور كلها لأولاده لصلبه وأما الذين لم يعقبوا أو عقبوا وأنقطع نسلهم فليسوا في الدفتر وأما الحفدة والأسباط فكان عددهم في أيام السلطان المولى محمد بن عبد الله ألفا وخمسمائة وستين وقد زادوا اليوم في دولة السلطان المولى سليمان بن محمد ولم يزل يصلهم إلى الآن على ما في دفتر والده ومن زاد يزاد له قال وأما ما أدركناه من أولاد المولى إسماعيل لصلبه في دولة السلطان المولى محمد فثمانية وعشرون رجلا نعرفهم بالاسم والعين ومن بناته لصلبه مثل ذلك قد أنزلهن السلطان بقصر حمو بن بكة ورتب لهن المؤنة والكسوة والصلة في كل سنة وأنزل معهن الحوافد اللاتي لا أزواج لهن وكل واحدة من هذه الدور المائة
____________________

والخمس التي بسجلماسة لواحد من أولاد صلبه لأنه كان رحمه الله إذا رأى أحدا من أولاده الذين لم يرد إقامتهم معه بالمغرب قد بلغ أرسله إلى سجلماسة وبني له بها قصرا أو دارا وأعطاه نخلا وأرضا للحراسة والفلاحة ومماليك يقومون له بخدمة أصله وحراثة أرضه في الشتاء والصيف ويعطي كل واحد من ذلك على قدر مرتبته عنده ومنزلة أمه منه فتناسلت أولادهم ونمت فروعهم ووفر الله جمعهم وحفظ نظامهم وكان رحمه الله سديد النظر في نقل أولاده بأمهاتهم من مكناسة إلى تافيلالت مع بني عمهم من الأشراف ليتدربوا على معيشتها التي تدوم لهم فكان ذلك صونا لهم من نكبات الدهر وفضيحة الخصاصة بعد موته وزوال النعمة وانزواء رداء الملك الساتر لهم بين العامة فنجحوا وأفلحوا بخلاف إخوانهم الذين ربوا بمكناسة واستمروا بها إلى أن توفي والدهم وألفوا عوائدهم ومرنوا على شهواتهم فإنهم لم ينم لهم نسل كإخوانهم الذين بالصحراء هذا ما يتعلق بنسل السلطان المولى إسماعيل
وأما مبانيه بقلعة مكناسة وقصوره ومساجده ومدارسه وبساتينه فشيء فوق المعهود بحيث تعجز عنه الدول القديمة والحادثة من الفرس واليونان والروم والعرب والترك فلا يلحق ضخامة مصانعه ما شيده الأكاسرة بالمدائن ولا الفراعنة بمصر ولا ملوك الروم برومة والقسطنطينية ولا اليونان بأنطاكية والإسكندرية ولا ملوك الإسلام ودولة العظام كبني أمية بدمشق وبني العباس ببغداد والعبيديين بإفريقيا ومصر والمرابطين والموحدين وبني مرين والسعديين بالمغرب وما بديع المنصور بقصر من قصوره ولا بستان المسرة بأحد بساتينه فقد كان عنده بجنان حمرية مائة ألف قعدة من شجر الزيتون وحبسه كله على الحرمين الشريفين ومرت عليه بعد وفاته العصور وأيام الفترة والفتن والناس يحتطبونه فلم يظهر فيه أثر من ذلك ولما بويع السلطان المولى محمد بن عبد الله أحياه وأجرى الماء إليه وأمر بإحصاء ما بقي من شجرة فوجدوه ستين ألفا فكان رحمه الله يبعث بثمن غلته إلى الحرمين تنفيذا لمراد جده وكذا ابنه المولى سليمان رحمه الله
____________________


قال صاحب البستان ولقد شاهدت الكثير من آثار الدول فما رأيت أثرا أعظم من آثاره ولا بناء أضخم من بنائه ولا أكثر عددا من قصوره لأن هؤلاء الدول كان من اعتنى منهم بأمر البناء غاية أمره أن يبني قصرا ويتأنق في تشييده وتنجيده وهذا السلطان لم يقتصر على قصر ولا على عشرة ولا عشرين بل جعل مباني العالم كلها في بطن تلك القلعة المكناسية كما قيل كل الصيد في جوف الفرأ هذا كلام صاحب البستان رحمه الله ثم قال
وكان في سجونه من الأسارى خمسة وعشرون ألفا ونيفا كانوا يعملون في بناء قصوره منهم الرخامون والنقاشون والنجارون والحدادون والمنجمون والمهندسون والأطباء ولم تسمح نفسه قط بفداء أسير
وكان في سجونه من أهل الجرائم كالقاتل والمحارب والسارق نحو الثلاثين ألفا تظل في العمل مع أسرى الكفار ويبيتون في السجون والأهراء تحت الأرض ومن مات منهم دفن في البناء حتى لم يبق بالمغرب من أهل الفساد عرق ينبض ومما مدح به المولى إسماعيل رحمه الله قول الفقيه الأديب أبي عبد الله محمد بن عبد الله الجزولي من قصيدة له
( مولاي إسماعيل يا شمس الورى ** يا من جميع الكائنات فدى له )
( ما أنت إلا سيف حق منتضى ** الله من دون البرية سله )
( من لا يرى لك طاعة فالله قد ** أعماه عن طرق الهدى وأضله )
ولنذكر ما سلف في هذه المدة من الأحداث
ففي سنة إحدى وسبعين وألف توفي الشيخ أبو عبد الله سيدي محمد المفضل بن الشيخ أبي العباس أحمد المرسي ابن الشيخ الأكبر أبي عبد الله سيدي محمد الشرقي كان رحمه الله صالحا خيرا من فضلاء عصره حافظا للقرآن بالسبع قد اشتهر قدره في الناس كثيرا وكان يفر من ذلك وإذا سأله أحد أن يتخذه شيخا يقول نحن إخوة في الله والدرهم الكامل ينفق منه أخذ القراءات عن الفقيه الأستاذ أبي عبد الرحمن بن القاضي وكتب له الإجازة بذلك وكان له نصيب من العلوم سوى القراءات وانتسب في
____________________


الطريق للولي الصالح أبي عبد الله محمد الحفيان الرتبي السجلماسي من أصحاب الشيخ أبي عبيد الشرقي وتخرج عليه نجباء من طلبة القراءات وكان رحمه الله كثير الطعام بزاوية جده أبي عبيد الشرقي ثم انتقل الى ناحية سلا فسكن بأحوازها وبقي هنالك إلى أن مات في التاريخ المذكور فحمل إلى المدينة المذكورة ودفن بطالعتها قرب المسجد الأعظم وقبره اليوم مزارة عظيمة وكان له كلام كثير على طريق العروبي الملحون خاطب به الرئيس محمد الحاج الدلائي حين مشت الوشاة بينهما فوقعت من أجل ذلك بينهما مكاتبات ومعاتبات رحمهما الله
وفي سنة اثنتين وسبعين وألف توفي الشيخ الرباني أبو إسحاق إبراهيم ابن احمد بن عبد الله بن حسين المصلوحي دفين تامصلوحت من أعمال مراكش وقد تقدم التنبيه على وفاة جده أبي محمد عبد الله بن حسين المذكور وكانت له شهرة عظيمة وكان ابتداء أمره أنه تلمذ له طائفة من الفقراء بمراكش واجتمع عليه ناس فأنكر ذلك السلطان زيدان بن المنصور وأمر بالقبض عليه فخرج إلى قبيلة سكتانة حيث ضريحه اليوم فاستقر بها إلى أن توفي وكان يقول لا يأتينا إلا من أمنه الله لأن مقامنا هذا مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا وكان يقول دارنا دار سر لا دار علم وكان إذا دخل شهر المحرم ترك حلق الشعر والزينة فإذا ليم على ذلك قال ما فعلنا هذا الا امتعاضا لقتل الحسين رضي الله عنه وأسفا على ما وقع به وكان يعمل السماع ويجتمع أصحابه على الحضرة على الكيفية المعهودة وربما تواجد فدخل معهم وكانت له مشاركة في العلوم أخذ عن الشيخ المنجور وأبي محمد بن طاهر الحسني وأبي مهدي السكتاني وغيرهم وتوفي في التاريخ المتقدم عن سن عالية يقال أناف على المائة وبنيت عليه قبة حافلة وقبره اليوم مزارة عظيمة
وفي أواخر سنة ثلاث وسبعين وألف مع السنة التي بعدها حدثت مجاعة عظيمة بالمغرب لا سيما فاس وأعمالها أكل الناس فيها الجيف والدواب والآدمي وخلت الدور وعطلت المساجد ثم تدارك الله عباده بلطفه
____________________


وفي سنة خمس وسبعين وألف في عاشر رمضان منها وقعت زلزلة عظيمة بفاس وغيرها من بلاد المغرب قال الفقيه أبو العباس أحمد بن عبد الهادي الشريف السجلماسي وقعت الزلزلة في التاريخ المذكور ونحن بمجلس البخاري عند شيخ الجماعة الإمام أبي محمد عبد القادر الفاسي رحمه الله فقام كل من بالمجلس حتى الشيخ ظنا منا أن السقف يسقط علينا لأن خشبه صوتت وخرج سرعان الناس يلتمسون الخبر فأخبر بها كل من كان راقدا أو جالسا حتى النائم انتبه ومن كان ماشيا لم يشعر بها فسئل الشيخ عن ذلك وهل هو كما تزعم العامة من أن الثور الذي عليه الدنيا أو الحوت يتحرك فأجاب بأن ذلك باطل لا أصل له وتلا قوله تعالى { وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } الاسراء 59 وقال أيضا ذكر بعض الحكماء أن ذلك يقع في اختناق الريح في جوف الأرض
وفي يوم الأثنين الثامن والعشرين من رجب سنة سبع وسبعين وألف توفي البهلول المتبرك به سيدي قاسم بن أحمد بوعسرية المعروف بابن اللوشة دفين ضفة وادي أرضم من بلاد آزغار ولم يتزوج قط فلم يكن له عقب هكذا في نشر المثاني ولعله تصحيف والصواب ما يأتي من أنه توفي سنة سبع وتسعين بمثناة بمهملتين والله أعلم
وفي سنة خمس وثمانين وألف توفي شيخ السنة وإمام الطريقة أبو عبد الله سيدي محمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن الحسين بن ناصر بن عمرو الدرعي ثم الأغلاني الشهير بابن ناصر نسبة إلى جده المذكور في النسب قال تلميذه الشيخ أبو علي اليوسي في فهرسته كان الشيخ رضي الله عنه مشاركا في فنون من العلم كالفقه والعربية والكلام والتفسير والحديث والتصوف عابدا ناسكا ورعا زاهدا عارفا قائما بالطريقة شاربا من عين الحقيقة وكان رضي الله عنه مع إكبابه على علوم القوم وانتهاجه منهج الطريقة لا يخل بعلم الظاهر تدريسا وتأليفا وتقييدا وضبطا فنفع الله به الفريقين وصحبه الناس شرقا وغربا فانتفع به الخلق قائما بالتعليم والتربية للمريدين بقوله وفعله والترقية بهمته عن همة عالية وحالة مرضية وعلم
____________________


صحيح وبصيرة ونورانية مع التمكن والرسوخ فكان إذا تكلم انتقش كلامه في القلب وإذا وعظ وضع الهناء مواضع النقب ثم أطال الشيخ اليوسي في ترجمته وذكر له كرامات عديدة وقد أفصح عن حاله ووصفه في قصيدته الدالية المشهورة الموضوعة في مدحه وأتى فيها من الإجلال لهذا الشيخ والتعظيم بما كان سبب ربحه ولهذا الشيخ شيوخ وأتباع معروفون في كتب الأئمة الذين تعرضوا لبيان ذلك وطريقته المتصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم معروفة أيضا وكان والده سيدي محمد بن أحمد من أكابر الأولياء كثير الأوراد لا يفتر لسانه عن الأذكار حسبما نقله غير واحد والله تعالى أعلم
قال مؤلفه عفى الله عنه وهذا الشيخ هو جدنا وإليه ننتسب فأنا أحمد بن خالد بن حماد بن محمد الكبير بن أحمد بن محمد الصغير بفتح الميم ابن محمد بن ناصر الشيخ المذكور نفعنا الله به وأفاض علينا من مدده ومدد أمثاله وأسلافنا ينتسبون بعد الشيخ المذكور إلى سيدنا جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنه ولست الآن من ذلك على تحقيق ولعلنا نحققه في موضع آخر إن شاء الله
وفي حدود التسعين وألف كان انحباس المطر والغلاء قال الشريف أبو عبد الله محمد الطيب القادري في الأزهار الندية أن القمح قد بلغ في هذه المدة إلى أربعين أوقية للمد بسبب تأخر المطر والمد صاع ونصف وصلى الناس صلاة الاستسقاء فأول إمام خطب فيها القاضي أبو عبد الله محمد العربي بردلة وكررها ثلاث مرات فنزل مطر يسير لم يكف ثم أعيدت الصلاة رابعة فكان الخطيب فيها الفقيه أبو عبد الله محمد البوعناني ثم أعيدت خامسة والخطيب القاضي بردلة ثم أعيدت سادسة والخطيب أبو عبد الله محمد المرابط الدلائي وفيها بلغ القمح ستين أوقية وهو غلاء لم يسمع بمثله ثم أعيدت الصلاة سابعة والخطيب أبو عبد الله البوعناني ثم أعيدت ثامنة والخطيب الشيخ الولي الزاهد أبو عبد الله محمد العربي الفشتالي وفي عشية غده نزل المطر مع رعد وبرق ففرح المسلمون وأكثروا من حمد الله
____________________


تعالى ثم أعيدت الصلاة تاسعة والخطيب القاضي بردلة وخرج يومئذ في جملة الناس شيخ الإسلام وبركة الأمة الإمام أبو محمد سيدي عبد القادر الفاسي راكبا على حمار جاعلا الأشراف من أهل البيت الطاهر أمامه مستشفعا بهم إلى الله تعالى فنزل عند الرجوع مطر قليل ومن الغد نزل المطر الغزير الكافي النافع فانحطت الأسعار ونزل القمح إلى خمس وثلاثين أوقية بعدما كررت الصلاة تسع مرات وكانت الصلاة التاسعة يوم الاثنين خامس المحرم فاتح سنة إحدى وتسعين وألف
وفي سنة تسع وثمانين وألف في ليلة الجمعة الثاني عشر من شعبان منها توفي الشيخ المولى أبو محمد عبد الله الشريف الوزاني الشهير وكان عمره يوم توفي خمسا وثمانين سنة وتوفي ولده الشيخ المولى أبو عبد الله محمد وقت العشاء ليلة الجمعة الثامن والعشرين من المحرم سنة عشرين ومائة وألف وعمره يومئذ ثمانون سنة وتوفي ابنه الشيخ القطب المولى التهامي ابن محمد طلوع شمس يوم الاثنين فاتح المحرم من سنة سبع وعشرين ومائة وألف وعمره ست وستون سنة وتوفي الشيخ مولاي الطيب ابن محمد يوم الأحد وقت طلوع الفجر ثامن عشر ربيع الثاني سنة إحدى وثمانين ومائة وألف وعمره نيف وثمانون سنة وتوفي ابنه الشيخ مولاي أحمد ضحوة يوم السبت الثامن عشر من صفر سنة ست وتسعين ومائة وألف وتوفي ابنه الشيخ مولاي علي بن أحمد يوم الثلاثاء آخر يوم من ربيع الأول سنة ست وعشرين ومائتين وألف وتوفي ابنه الشيخ سيدي الحاج العربي بن علي يوم الأربعاء فاتح سنة سبع وستين ومائتين وألف وقد أتينا بوفاة هؤلاء السادة الوازانيين مجموعة هنا لما في ذلك من المناسبة والتقريب ويتصل نسبهم بالمولى يملح بن مشيش أخي المولى عبد السلام بن مشيش ثم بالمولى إدريس بن إدريس رضي الله عنهم وأماتنا على محبتهم وحشرنا في زمرتهم
وفي سنة تسعين وألف وقع الوباء العظيم بالمغرب فكان عبيد السلطان يردون الواردين من الآفاق على مكناسة الزيتون كما مر
____________________


وفي سنة إحدى وتسعين وألف بعد ظهر الأربعاء الثامن من رمضان منها توفي شيخ الجماعة بفاس والمغرب الإمام الكبير العالم الشهير الشيخ أبو محمد عبد القادر بن علي بن يوسف الفاسي ولا يحتاج مثله رضي الله عنه إلى تعريف فإن مآثره أشهر من قفا نبك قالوا ومع غزارة علمه وانتفاع أهل المغارب الثلاثة به لم ينضد لجمع كتاب مخصوص ولا شرح متن من المتون وإنما كانت تصدر عنه أجوبة يسأل عنها فيجيب ويجيد وجمعها بعض أصحابه فجاءت في مجلد
وفي سنة خمس وتسعين وألف توفي الولي الصالح أبو محمد عبد الله العوني دفين سلا من أصحاب الشيخ سيدي محمد المفضل
وفي سنة ست وتسعين وألف توفي الشيخ العلامة المشارك أبو زيد عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي صاحب نظم عمل فاس و الأفنوم في مبادىء العلوم وغيرهما من التآليف الحسان
وفي سنة سبع وتسعين وألف توفي الشيخ العارف بالله تعالى ذو الأحوال الربانية والمواهب العرفانية أبو القاسم بن أحمد الوشة السفياني المعروف بأبي عسرية لأنه كان يعمل بشماله أكثر من يمينه كان من المولهين في ذات الله تعالى ومن أهل الأحوال والشطحات يقال إنه حمل وهو صبي إلى الشيخ أبي عبيد الشرقي فبرك عليه ودعا بقرب من ماء فصبت عليه وقال لولا أنا بردنا هذا الصبي لأحرقته الأنوار ولذا كان يهتف بأبي عبيد كثيرا وينادي باسمه وينسب جميع ما يظهر على يده له
وفي سنة إحدى مائة وألف أمر السلطان الناس بأن لا يلبسوا النعال السود ولا يلبسها إلا اليهود وتقدم التنبيه على ذلك عقب فتح العرائش
وفي سنة اثنتين ومائة وألف توفي الشيخ الإمام على الأعلام أخر علماء المغرب على الإطلاق الذي وقع على علمه وصلاحه الاتفاق أبو علي الحسن بن مسعود اليوسي نسبة إلى آيت يوسي قبيلة من برابر ملوية وأصله اليوسي كان رضي الله عنه غزالي وقته علما وتحقيقا وزهدا وورعا قال في
____________________


فهرسته كانت قراءتي كلها أو جلها فتحا ربانيا ورزقت ولله الحمد قريحة وقادة فكنت بأدنى سماع ينفعني الله فقد أسمع بعض الكتاب فيفتح الله علي في جميعه فتحا ظاهرا وأبلغ فيه ما لم يبلغه من سمعته منه ورب كتاب لم أسمعه أصلا غير أن سماع البعض في كل فن صار مبدأ للفتح وتتميما لحكمة الله في سنة الأخذ عن المشايخ ولا تستوحش مما ذكرناه ظنا منك أن الربح أبدا يكون على قدر رأس المال كلا فقد يبلغ الدرهم الواحد ألف مثقال وما ذلك على الله بعزيز
وكان معظم قراءته بالزاوية الدلائية لم يزل مقيما بها عاكفا على بث العلم ونشره إلى أن استولى عليها المولى الرشيد بن الشريف فنقله إلى فاس فأقام بها مدة ثم خرج إلى البادية فاستوطن بقبيلته إلى أن مات رحمه الله وكان رضي الله عنه متضلعا من العلوم العقلية والنقلية حتى قال في تأليفه المسمى بالقول الفصل في الفرق بين الخاصة والفصل أنه بلغ درجة الشيخ سعد الدين التفتازاني والسيد الجرجاني وأضرابهما وسأله يوما سائل بمجلس درسه فقال له اسمع ما لا تسمعه من إنسان ولا تجده محررا في ديوان ولا تراه مسطرا ببنان وإنما هو من مواهب الرحمن ولما دخل مراكش تصدر بها لإقراء علم التفسير بجامع الأشراف فمكث في تفسير الفاتحة قريبا من ثلاثة أشهر وهو يبدي كل يوم أسلوبا غريبا وتحقيقا عجيبا فعجب الناس من غزارة مادته مع أنه ربما بات في ضريح بعض الأولياء والناس معه فلا يطالع كتابا ولا يراجع مؤلفا فإذا أصبح وجلس على الكرسي أطلق لسانه بما يبهر العقول وكان الشعر عنده أسهل من النفس وشعره كله حكم وأمثال كشعر العرب القدماء وقصيدته الدالية في شيخه ابن ناصر دالة على امتداد باعه ورسوخ قدمه في المعارف الفنون ولله در الإمام أبي سالم العياشي إذ قال
( من فاته الحسن البصري يصحبه ** فليصحب الحسن اليوسي يكفيه )
وبالجملة فهو آخر العلماء الراسخين بل خاتمة الفحول من الرجال المحققين حتى كان بعض الشيوخ يقول هو المجدد على رأس هذه المائة
____________________


لما اجتمع فيه من العلم والعمل بحيث صار إمام وقته وعابد زمانه رحمه الله ورضي عنه
وفي سنة ثلاث ومائة وألف في ليلة الأربعاء السابع من شهر ربيع الأول منها توفي الولي الصالح أبو العباس سيدي أحمد حجي قال الشيخ أبو العباس سيدي أحمد بن عبد القادر التستاوتي في حقه ما نصه رجل خير صالح ولقد اجتمعت به بمكناسة سنة ست وتسعين وألف فما رأيت منه إلا خيرا اه ولما توفي خلفه ولده ووارث سره وضجيعه في قبره الولي الصالح سيدي أبو محمد عبد الله حجي المعروف بالجزار وضريحهما مزارة شهيرة بسلا
وفي سنة تسع أو عشر ومائة وألف توفي الفقيه العدل النوازلي الفارض الحاسب أبو الحسن علي بن محمد المعروف بأبي شعرة السلاوي ودفن قريب ضريح الشيخ ابن عاشر رضي الله عنه
وفي سنة خمس عشرة ومائة وألف توفي الإمام الفقيه الأديب الناظم الناثر أبو القاسم بن الحسين الغريسي ثم السلاوي المعروف بأبي زائدة وذلك في جمادى الأولى من السنة ودفن قرب ضريح الشيخ ابن عاشر رضي الله عنه
وفي سنة ثمان عشرة ومائة وألف في ضحى يوم الأربعاء الثامن والعشرين من المحرم منها كسفت الشمس كسوفا كليا وسمي ذلك العام عام الظليماء
وفي سنة تسع عشرة ومائة وألف توفي الشيخ الإمام العلامة الهمام ذو التصانيف المفيدة في كل فن الحجة المتبرك به حيا وميتا أبو سرحان سيدي مسعود جموع الفاسي ثم السلاوي وذلك يوم الثلاثاء سابع جمادى الأولى من السنة ودفن بزاوية الشيخ سيدي أحمد حجي داخل مدينة سلا
وفي سنة عشرين ومائة وألف توفي الولي الصالح العابد الناصح أبو العباس أحمد بن عبد الله معن الأندلسي نزيل المخفية من فاس حرسها الله
____________________


وفي هذه السنة أيضا كان إحداث قراءة المسمع الحديث المتضمن لأمر الناس بالإنصاف وقوله أنصتوا رحمكم الله ثلاثا عند خروج الإمام يوم الجمعة من المقصورة وجلوسه على المنبر
وفي سنة أثنتين وعشرين ومائة وألف وذلك وقت عصر الثلاثاء الثاني والعشرين من صفر منها توفي الولي الصالح سيدي أبو محمد عبد الله بن سيدي أحمد حجي المعروف بالجزار ودفن بإزاء قبر أبيه كما مر
وفي يوم الأربعاء العشرين من ربيع الثاني من السنة المذكورة توفي الفقيه العلامة أبو عبد الله محمد بن الأمين الحاج محمد الصبيحي السلاوي ورثاه الشيخ أبو العباس سيدي أحمد بن عبد القادر التستاوتي بقوله
( جزعنا وإن كنا على العلم أنه ** إذا ما أراد الله أمرا تعجلا )
( لفقد الإمام المجتبى العالم الرضي ** الصبيح ومن في وقته قد تنبلا )
( وإلا فمختار الإله اختيارنا ** ونرجو له خيرا عميما مكملا )
ورثاه أيضا صديقه الملاطف الشيخ أبو العباس أحمد بن عاشر الحافي السلاوي رحم الله الجميع
وفي سنة سبع وعشرين ومائة وألف ليلة الأربعاء فاتح رجب منها توفي الولي الصالح العالم العامل العارف الشهير الشيخ أبو العباس أحمد بن عبد القادر التستاوتي من كبار أصحاب الشيخ ابن ناصر ومن حفدة الشيخ أبي عبد الله محمد بن مبارك الزعري المتقدم الذكر ومآثر هذا الشيخ أشهر من أن تذكر وزواياه عميمة النفع والبركة بالمغرب وكانت وفاته بمكناسة الزيتون وضريحه بها شهير عند روضة الشيخ سيدي عبد الله بن حامد رضي الله عنهم ونفعنا بهم
وفي سنة تسع وعشرين ومائة وألف في الثامن عشر من ربيع الأول منها توفي الشيخ القدوة الإمام السني أبو العباس سيدي أحمد بن محمد بن ناصر الدرعي وهو ولد الشيخ ابن ناصر المتقدم وخليفته ووارث سره وفضله رضي الله عنه أشهر من أن ينبه عليه ومن ذلك ما حكاه الشيخ أبو علي الحسن بن
____________________

محمد المعداني في كتابه الروض اليانع الفائح في مناقب الشيخ أبي عبد الله الصالح قال حدث بعض العلماء الأجلة أنه لما دخل الشيخ أبو العباس أحمد بن ناصر الدرعي المدينة المشرفة في حجته الأخيرة جلس تجاه الحجرة النبوية والناس يزدحمون عليه لأخذ العهد وتلقين الأوراد وهو منبسط لذلك فقلت في نفسي إن هذا الرجل مغرور راض عن نفسه كيف يتصدى في هذا المكان الذي تخضع فيه الملوك وجميع الإنس والجن والملائكة وإذا طلعت الشمس اختفى السراج قال فكاشفني بما في نفسي والتفت إلي وقال والله ما جلست لما ترون حتى أمرني النبي صلى الله عليه وسلم وما أذعنت له حتى هددت بالسلب قال فسقطت على يديه أقبلها وقلت له يا سيدي أنا تائب إلى الله تعالى فدعا لي وانصرفت ومما حكاه صاحب الكتاب المذكور قال حدث الرجل الصالح البركة الفقيه الناصح سيدي محمد بن إبراهيم المجاصي قال كان السلطان المولى إسماعيل بن الشريف رحمه الله قد استدعى الشيخ سيدي أحمد بن ناصر وكان به حنق عظيم عليه وعزم إذا وصل إليه أن يفعل به مكروها لا تدرى حقيقته غير أن الأمر شديد فجاء إلى الشيخ جماعة من العلماء الأعلام واصحابه الملازمين له وقد تخوفوا عليه وعلى أنفسهم غاية فكلموا الشيخ في ذلك واستفهموه ليعلموا ما عنده من عادة الله تعالى مع أوليائه من النصرة لهم والذب عنهم فلم يسمعوا منه كلمة ثم راجعوه في ذلك حتى هابوه وسكتوا عنه وقدم الشيخ المذكور على السلطان فلما انتهى إلى قصبة آكراي قرب مكناسة الزيتون إذا برجل مجاطي يقال له الحاج عمرو لقيه هنالك فلما رآه الشيخ نزل عن فرسه ليسلم عليه فقال الشيخ ما الخبر يا ولدي فقال الرجل ما الخبر يا سيدي والله لوددت أن سيدي لم يصل إلى هنا ولم يخرج من داره يعني أن الأمر عظيم فقال له الشيخ رضي الله عنه بلسان العناية الربانية ولا ما يشوش إذا كان في رقبتك شبر وأشار بيده فاعمل فيها ذراعا ومد ذراعه ففرح العلماء الذين معه وكل من حضر بتلك المقالة وتيقنوا الأمن على الشيخ وعلى أنفسهم لما يعلمون من عادة الله الكريمة معه فكان الأمر كما قال فإن السلطان جاء إليه
____________________


بنفسه وهو في روضة الشيخ أبي عثمان سعيد بن أبي بكر وتلقاه بالقبول والتعظيم والتبجيل والتكريم وصافحه بيده وجلس معه في داخل القبة ساعة ولما خرج السلطان رحمه الله من عنده جعل ينادي بلسانه في أصحابه ويقول زوروا سيدي أحمد بن ناصر يا الناس زوروا سيدي أحمد بن ناصر يا الناس ويكررها من صميم قلبه قال سيدي محمد بن إبراهيم فلما انصرف السلطان من عند الشيخ رضي الله عنه جئت إليه وقلت له يا سيدي إنا نخاف أن ينزلنا السلطان بضريح الشيخ سيدي عبد الرحمن المجذوب ويطول بنا المقام فقال لي لا نبقى إلا هنا وبعد غد ننصرف إلى بلادنا إن شاء الله فكان الأمر كما قال بعد أن جاء الأمور من السلطان يأمره بالنزول بضريح الشيخ المجذوب فقال لا أنزل إلا هنا فبقي في موضعه ثم بعث إليه السلطان يأمره بالتوجه إلى بلاده معظما مكرما اه
وفي سنة تسع وعشرين ومائة وألف في ليلة عيد الفطر منها توفي الفقيه العالم القاضي أبو العباس أحمد ابن العلامة أبي الحسن علي المراكشي وصلي عليه من الغد ودفن بالموضع المسمى بالعلو من رباط الفتح
وفي سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف في ليلة الأحد ثامن عشر المحرم منها توفي الشيخ الصالح أبو علي الحسن بن عبد الله العايدي السجيري ودفن بزاوية من حومة السويقة من سلا وفرغ من بناء قبته في رجب من السنة بعدها
وفي سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف يوم الاثنين خامس عشر رجب منها توفي الفقيه العلامة خاتمة المحققين وآخر قضاة العدل بفاس الشيخ أبو عبد الله محمد العربي بن أحمد بردلة الفاسي وفي التاريخ المذكور توفي الشيخ العلامة المتبرك به أبو العباس أحمد بن سليمان ذو التآليف العديدة في الحساب وغيره بحضرة مراكش رحمه الله
وفي سنة ثمان وثلاثين ومائة وألف كانت جائحة الجراد بالعدوتين سلا ورباط الفتح وأعمالهما وخلفه قمله السمي في لسان المغاربة بآمرد فكان
____________________


كالسيل العام لم يترك ورقة خضراء إلا أكلها وكان ذلك في شوال من السنة المذكورة
وفي سنة تسع وثلاثين ومائة ألف يوم الاربعاء ثاني عشر صفر منها توفي الشيخ العارف بالله تعالى سيدي محمد الصالح ابن الشيخ العارف بالله تعالى سيدي محمد المعطي ابن سيدي عبد الخالق ابن سيدي عبد القادر ابن الشيخ الأكبر سيدي محمد الشرقي ومناقبه قد تكفل بها كتاب الروض الفائح في مناقب الشيخ أبي عبد الله الصالح لأبي علي المعداني وفي هذه السنة ضحى يوم السبت ثامن ذي القعدة منها توفي الفقيه العلامة المحقق سيدي أبو بكر ابن علي الفرجي المراكشي ثم السلاوي واحتفل الناس لجنازته وازدحموا على نعشه حتى كادوا يقتتلون عليه ودفن قرب داره بزاوية سيدي مغيث من طالعة سلا حرسها الله الخبر عن الدولة الأولى لأمير المؤمنين المولى أبي العباس أحمد بن إسماعيل المعروف بالذهبي رحمه الله
لما توفي أمير المؤمنين المولى إسماعيل رحمه الله في التاريخ المتقدم اجتمع قواد العسكر البخاري وقواد الودايا وأعيان الدولة وكتابها وقضاتها وبايعوا المولى أبا العباس أحمد بن إسماعيل المعروف بالذهبي لبسط يده بالعطاء قال أكنسوس بايعوه بإشارة العبيد الشبيهة بالجبر ولم يكن ذلك عن عهد من أبيه وكتبوا بيعته إلى الآفاق ولما اتصل بأهل فاس خبر موت السلطان كان أول من بدؤوا به أن قتلوا قائدهم أبا علي الروسي ثم بايعوا السلطان المولى أحمد وكتبوا بيعتهم وتوجه بها أعيانهم إلى مكناسة فدخلوا على السلطان المولى أحمد وأدوا البيعة والطاعة فقبلهم ولم يظهر لهم سوء بما ارتكبوه من قتل قائدهم بل أعطى العلماء والأشراف جائزة البيعة وولى القائد المحجوب العلج وردهم مكرمين
ثم قدم عليه قواد القبائل والأمصار وأعيانها من أهل الحواضر والبوادي
____________________


مبايعين ومؤدين الطاعة فجلس للوفود وأجاز كلا على قدر مرتبته وردهم إلى بلادهم وتفرغ لشأنه فأفتح عمله بقتل عمال أبيه وأركان دولته فقتل علي بن يشي القبلي أمير البربر وثنى بأحمد بن علي أمير الأعمال الفاسية وما أتصل بها من بلاد الهبط والصحيح أن أحمد بن علي المذكور كان عند بيعة المولى أحمد في السجن فدس إليه علي بن يشي من ذبحه فيه فسلط الله عليه السلطان فقتله وكان جزاؤه من جنس عمله وقتل السلطان أيضا الباشا ابن الأشقر ومرجان الكبير قائد عبيد الدار وصاحب بيوت الأموال وكان لنظره ألفان ومائتان من المفاتي كلها موزعة على أبواب القصور وكل واحد من هؤلاء الخصيان له عبدان وثلاثة وأكثر يخدمونه
واعلم أن المولى أحمد رحمه الله كان مستبدا عليه في كثير من الأحوال يشير العبيد عليه فيفعل وما قتل من قتل من رؤساء الدولة إلا بإشارتهم وقتل جماعة من القواد والكتاب سوى من تقدم وطاف على بيوت الأموال ومخازن السلاح والكسى فأمر بإخراج ذلك وتفرقته على العبيد وقواد الجيش وأعطى من ذلك فوق الكفاية وعم العلماء والأشراف والطلبة بالنوال وخص أفرادا من العسكر بألوف فاغتبط الناس به وحمدوه رحمه الله إغارة القائد أبي العباس أحمد بن علي الريفي على تطاوين وما دار بينه وبين الفقيه أبي حفص عمر الوقاش
كان القائد المجاهد أبو العباس أحمد بن علي الريفي يلي رئاسة المجاهدين هم وأبوه من قبله بالثغور الهبطية أيام السلطان المولى إسماعيل رحمه الله وكانت له ولأبيه اليد البيضاء في فتح طنجة والعرائش وغيرهما حسبما سلف بعضه فكانت له بذلك وجاهة كبيرة في الدولة خصوصا ببلاد الهبط وكان بتطاوين يومئذ الفقيه الأديب أبو حفص عمر الوقاش من بيوتاتها وأهل الرياسة بها كان أولا كاتبا مع السلطان المولى إسماعيل رحمه الله وكانت له المنزلة العالية عنده ثم لما ضعف عن الخدمة السلطانية بكبر سنه
____________________


ولاه على تطاوين وأعمالها فحدثت بينه وبين القائد أبي العباس الريفي منافسة أوجبتها المجاورة والمعاصرة فكان يبلغ كل واحد منهما عن صاحبه ما يحفظه واستمر الحال على ذلك إلى أن توفي السلطان المولى إسماعيل رحمه الله وأفضى الأمر إلى ابنه المولى أحمد فضيع الحزم وأهمل أمر الجند حتى سقطت هيبة السلطان من قلوب الولاة في النواحي فانتهز أبو العباس الريفي الفرصة في أهل تطاوين وزحف إليها في جيش كثيف ودخلها على حين غفلة من أهلها وحاول الفتك فيهم فبرز إليه الفقيه أبو حفص الوقاش في أهل تطاوين وحاربه فانتصر عليه وأوقع به وقعة أعظم مما كان أضمر له وقتل من إخوانه عددا كثيرا ونجا القائد أبو العباس بجريعة الذقن
ولما اتفق للفقيه أبي حفص هذا الفتح الذي لم يكن له في حساب استخفه النشاط وغلبت عليه حلاوة الظفر حتى طمع في الملك وفاه من ذلك بما كان ينبغي له ولكل عاقل كتمانه فقال قصيدته المشهورة ينعي فيها على أهل الريف فعلتهم وينتقص دولتهم ويفتخر على أهل فاس فمن دونهم ويخبر عن نفسه بما يؤول إليه أمره فأزرى بأدبه على كبر سنه مع أنه كان من أهل الأدب البارع والعلم والرياسة والقصيدة المشار إليها هي قوله
( بلغت من العليا ما كنت أرتجي ** وأيامنا طابت وغنى بها الطير )
( ونادى البشير مفصحا ومصرحا ** هلم أباحفص فأنت لها الصدر )
( نهضت مجيبا للندا راقصا به ** وما راعني إذ ذاك زيد ولا عمرو )
( شرعت بحمد الله للملك طالبا ** وقلت وللمولى المحامد والشكر )
( أنا عمر المعروف إن كنت جاهلي ** فسل تجد التقديم عندي ولا فخر )
( أنا عمر الموصوف بالبأس والندى ** أنا عمر المذكور في ورد الجفر )
( ظهرت لأحيي الدين بعد اندراسه ** فطوبى لمن أمسى يساق له الأمر )
( ولم يبق ملك يستتب بغربنا ** فعندي انتهى العلم المبرح والسر )
( أنا عمر المشهور في كل غارة ** أنا البطل المقدام والعالم الحبر )
( ضبطت بلادي وانتدبت لغيرها ** وعما قليل يعظم الجاه والقدر )
( وجئت بعدل للإمامين تابعا ** أنا الثالث المذكور بعدهما وتر )
____________________


يعني أنه ثالث العمرين وقد كان يصرح بذلك ثم قال
( ففرطوط والرحمون والكوط عصبتي ** وراغون كنزي والصغير به القهر )
( أولئك أنصاري وأرباب دولتي ** وأهلي وأصهاري هم الأنجم الزهر )
( وقد دام بالديمان مجدي وسؤددي ** وفخري في الأقطار باد كما الفجر )
( هلالي بدا لما هلالي أجابني ** وغيلان إذ لبى به عظم الوفر )
( ودولة أهل الريف حتما تمزقت ** فلم يبق بالتحقيق عندي لها جبر )
( أذقناهم لما أتوا شر بأسنا ** فأبوا سراعا والصوارم والسمر )
( تطير الأكف والسواعد منهم ** هنيئا فحق للأنام بنا البشر )
( بخفي حنين آب عنا كبيرهم ** وما فاته منا نكال ولا خسر )
( فمن ذا يضاهيني ومالي وافر ** وذكري مغمور به البر والبحر )
إلى غير هذا مما لا غرض لنا في جلبه وقد أجابه الفقيه أبو عبد الله محمد بن بجة الريفي ثم العرائشي بقصيدة يقول فيها
( في صفحة الدهر قد خطت لنا عبر ** منها ادعاء الحمار أنه بشر )
( من مر عنه الصبا وما رأى عجبا ** خبره بعجاب دهره الكبر )
وهي طويلة إلا أن قائلها لم يحكم صناعة الشعر فلذا تركناها
ولما اتصل خبر هذه الوقعة بأمير المؤمنين المولى أحمد رحمه الله أغضى عن الفريقين ودخل داره وعكف على ملذاته وترك الناس وشأنهم وثار ببلاد الغرب والقصر وأعماله فساد كبير بين القبائل وأصحاب المخزن وهلك في ذلك بشر كثير وسقطت هيبة الخلافة وانحل نظام الدولة بالمرة لا سيما مع ما دهاها من قتل رجالها القائمين بأمورها وكان ذلك منتهى مراد العبيد فقد كان علي بن يشي أمير الأمراء ورئيس البربر وغيرهم وكان أحمد بن علي أمير جبال مرموشة وبني وراين وعرب الحياينة وبرابرة غياثة والجبال فكان رديف علي بن يشي ومباريه في نصح الدولة وجباية الأموال وكان ابن الأشقر أمير الزراهنة وعلى يديه أعشار القبائل كلها من أهل الغرب وبني حسن وغيرهم رديفا للأولين وكان القائد مرجان صاحب بيوت
____________________


الأموال وبيده دفتر الدخل والخرج عارفا بقدر مما يدفعه العمال كل سنة فلما أتى عليهم القتل رحمهم الله خف على الرعية ما كانوا يحملونه من ثقل وطأتهم واستراحوا ممن كان يحول بينهم وبين الفساد وبزجرهم عن القبيح خصوصا البربر فإنهم كانوا في أقماع النحاس فخرجوا منها بمهلك علي بن يشي وأخذوا في اشتراء الخيل واقتناء السلاح وعادت هيف إلى أديانها وتبعهم على ذلك غيرهم من قبائل العرب فكأنما كانوا على ميعاد وامتدت أيدي النهب في الطرقات وكثرت الشكايات بباب السلطان فما وجدت الناس من يشكيهم هذا حال مكناسة وأعمالها فأما فاس فقد كفى الودايا أمرها ونابوا عن البربر في العيث بأطرافها وعظم الخطب واشتد الأمر
ثم دخلت سنة أربعين ومائة وألف ففي المحرم منها أغار الودايا على سوق الخميس من فاس فنهبوا وقتلوا وقبضوا على طائفة من أهل فاس فأودعوهم السجن بفاس الجديد فبعث أهل فاس جماعة من أشرافهم إلى السلطان بمكناسة يشكون إليه ما نالهم من جور الودايا فلما وصلوا إليها وثب عليهم محمد بن علي بن يشي قبل أن يجتمعوا بالسلطان فسجنهم أيضا فلما اتصل بأهل فاس ما جرى على إخوانهم بمكناسة أخذهم ما قدم وما حدث فأغلقوا عليهم أبواب مدينتهم وشمروا لحرب الودايا فكتب الودايا إلى السلطان يعلمونه بأن أهل فاس قد شقوا العصا وخرجوا عن الطاعة فسرب السلطان إليهم العساكر بكل صارم وذابل وتفاقم الأمر واختلط الحابل بالنابل وركبت المدافع والمهاريس والمجانيق لحصار فاس واستمر القتال إلى أن بعث السلطان أخاه المولى المستضيء في جماعة من أشراف مكناسة ومعهم أشراف فاس الذين سجنهم محمد بن علي بن يشي لتلافي الأمر وعقد الصلح بين الودايا وأهل فاس فانعقد الصلح ونهض عسكر السلطان إلى مكناسة فما ساروا يوما أو يومين حتى انتقض ذلك الصلح وغدا الودايا على حصار فاس ورميها بالكور والبنب واستمر الحال على ذلك إلى أن قدم من
____________________


جانب السلطان القائد أبو عمران موسى الجراري ساعيا في الصلح فاجتمع أهل فاس وفاوضهم في ذلك فأذعنوا وبعثوا معه جماعة من الأعيان والعلماء والأشراف يفدون على السلطان ليتم لهم ذلك بعد أن أخذوا جماعة من أصحاب أبي عمران توثقا بإخوانهم ولما قدم أولئك الوفد مكناسة منعوا من الدخول على السلطان ورجعوا إلى فاس مخفقين واستمر الأمر على حاله إلى أن كاتبهم عبيد الديوان يطلبون منهم موافقتهم على عزل السلطان المولى أحمد وتولية أخيه المولى عبد الملك صاحب السوس فأجابوهم إلى ذلك وطاروا به كل مطير وأكرموا وفدهم وحالفوهم على الوفاء ورجع العبيد إلى مكناسة شاكرين ففاوضوا من بها من قواد الجند وتذاكروا فيما وقع فيه الناس من الفساد وانقطاع السبل وتعذر الأسباب وتحققوا بما أتوه من سوء التدبير في تقديم المولى أحمد لكونه كان ضعيف المنة غير مطلع بأعباء الخلافة فأجمعوا على عزله واستبدال غيره به ولما تم أمرهم على ذلك بعثوا إلى أخيه المولى عبد الملك جريدة من الخيل وكتبوا إليه كتابا يستحثونه للقدوم وأعلموه بما أجمع عليه رأيهم فأجاب وأقبل مسرعا نحو مكناسة ولما انتهى إلى وادي بهت واتصل خبره بالعبيد دخلوا على السلطان المولى أحمد وقبضوا عليه وأخرجوه من دار الملك مخلوعا وسجنوه بداره التي كان يسكن بها قبل البيعة خارج القصبة وكان ذلك في شعبان سنة أربعين ومائة وألف الخبر عن دولة أمير المؤمنين المولى أبي مروان عبد الملك بن إسماعيل رحمه الله
لما خلع السلطان المولى أحمد رحمه الله وسجن خارج القصبة كما مر اجتمع من الغد الجيش كله وركبوا لملاقاة المولى أبي مروان عبد الملك بن إسماعيل فأجتمعوا به خارج مكناسة وأدوا واجب الطاعة والتفوا عليه ودخلوا به الحصرة في زي الملك وأهبة السلطان ثم حضر أعيان الدولة وأمراؤها
____________________


وقضاتها وعلماؤها وأشرافها فبايعوه وكتب بيعته إلى الآفاق ومن الغد قدم عليه أعيان فاس من العلماء والأشراف وغيرهم ببيعتهم فدخلوا عليه وبايعوه ثم قدمت عليه الوفود للتهنئة من حواضر المغرب وبواديه فجلس لملاقاتهم وقابلهم بما يجب من البشر إلى أن قرع من شأنهم وتفقد أخاه المولى أحمد المخلوع فأمر به إلى فاس كي يسجن بها ثم بدا له فأمر بتوجيهه إلى سجلماسة
قال في الأزهار الندية لما بعث السلطان المولى أبو مروان بأخيه المولى أحمد المخلوع إلى تافيلالت كتب إلى عامله بها أن يسمل عينيه بفور بلوغه فنما ذلك إلى المولى أحمد ففر إلى زاوية الشيخ أبي عثمان سيدي سعيد آحنصال وكان مقدم الزاوية يومئذ السيد يوسف ابن الشيخ سعيد المذكور وكان يتكلم في الحدثان فقال للمولى أحمد إنك سترجع إلى الملك فكان كما قال ورجا الناس أن يكون السلطان المولى أبو مروان كأبيه وأن يسير فيهم بسيرته ويسد مسده فخاب الظن وأخفق المسعى
( وابن اللبون إذا ما لز في قرن ** لم يستطع صولة البزل القناعيس )
وأمسك الله يده عن العطاء فلم يسمح للعسكر ولا للوفود بدرهم فكان ذلك من أكبر الأسباب في اختلاف أمره وتفسخ دولته فطلب العسكر البخاري منه جائزة البيعة على العادة فبعث اليهم بأربعة آلاف مثقال وكان راتبهم على عهد السلطان المولى إسماعيل رحمه الله مائة ألف مثقال ولما بويع السلطان المولى أحمد زادهم في الراتب خمسين ألفا فلما وصلت إليهم جائزة المولى أبي مروان سقط في أيديهم وعلموا أنهم لم يصنعوا شيئا في بيعته وتناجوا بعزله وأضمروا ذلك وتحينوا وقت الفرصة فيه فنما إليه ذلك عنهم فأخذ حذره وصار يكاتب قبائل العرب ويعدهم ويمنيهم ويحضهم على اجتماع كلمتهم كي ينفعوه يوما ما ظنا منه أنهم يقاومون
____________________


العبيد ثم كتب إلى البربر أيضا يغريهم بالعبيد وأغرى العبيد بالبربر وقال لهم في جملة من ذلك إنه لا يستقيم لنا أمر إلا بعد الإيقاع بهؤلاء البربر وشغلهم بالاستعداد لغزوهم وكتب إلى أهل فاس يأمرهم أن يبعثوا رماتهم إلى حضرته لغزو البربر وأخذ في التضريب بين العسكر والبربر واطلع العبيد على خسئته فحاصوا عنه حيصة حمر الوحش وأصفقوا على عزله ورد أخيه المولى أحمد لملكه لسخائه وبسط يده وكذبوا فإن المولى أبا مروان رحمه الله كان أنسب حالا بالخلافة من أخيه المولى أحمد لنجدته وحزمه وكان قد عزم على تطهير الحضرة وبساط الدولة من افتيات العبيد وتحكمهم على أعياصها إلا أنه لم يحكم التدبير في ذلك فعاجلوه قبل أن يعاجلهم
ولما تحقق المولى أبو مروان بما عزم عليه العبيد من خلعه بعث إليهم الشيخ البركة مولاي الطيب بن محمد الوزاني واعظا ومذكرا فأتاهم ووعظهم ووعدهم الخير إن أقلعوا ونهاهم عن الخروج على السلطان واتباع سبيل السلطان وخوفهم في ذلك من سخط الله فما زادهم إلا نفورا ثم بعثوا بجريدة من الخيل إلى سجلماسة ليأتوا بالمولى أحمد وفي أثناء ذلك ركب العبيد من الديوان وأغاروا على مكناسة فاكتسحوا سرحها ثم اقتحموا المدينة فنهبوها واستباحوا حرماتها وقتلوا من ظفروا به من أعيانها ثم دخلوا دار الملك للقبض على السلطان المولى أبي مروان فلم يجدوه لأنه لما سمع بما فعله العبيد بمكناسة ركب في جماعة من أصحابه وفر إلى فاس فدخل حرم المولى إدريس رضي الله عنه واستجار به وبعث إلى أهل فاس فاستجار بهم فوعدوه الدفاع عنه والقيام بأمره
ولما علم العبيد بموضع المولى أبي مروان من فاس وما وعده به أهلها حبسوا رماتهم الذين كانوا قد قدموا مكناسة بقصد غزو البربر كما تقدمت الإشارة إليه وثقفوهم حتى يقدم السلطان المولى أحمد من سجلماسة ويرى فيهم وفي أخيه رأيه وكان ذلك في ذي الحجة سنة أربعين ومائة وألف
____________________

الخبر عن الدولة الثانية لأمير المؤمنين المولى أبي العباس أحمد الذهبي رحمه الله
لما راسل العبيد المولى أحمد بنا إسماعيل بسجلماسة وأعلموه بما عزموا عليه من عزل أخيه ورد الملك إليه بادر بالقدوم إلى مكناسة فدخلها في التاريخ المتقدم وحضر أعيان الدولة من القواد والقضاة والكتاب وبايعوه البيعة الثانية وكتبوا بذلك إلى الآفاق ثم دخل دار الملك وفرق الأموال والكسى في العسكر والعلماء الأشراف وبالغ في ذلك تفصيا مما نقمه العبيد على أخيه وكان فعل أخيه أقرب إلى الصواب لو سلك الوسط وأحكم أمره ورتبه ترتيب ذو الحزم ولكن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن حصار أمير المؤمنين المولى أحمد لفاس والسبب في ذلك
لما بويع المولى أحمد البيعة الثانية قدم عليه الوفود من القبائل والأمصار فأكرم وفادتهم وتخلف عنه أهل فاس فلم يقدم عليه أحد منهم لأنه لما قدم من سجلماسة وأعلم بمكان أخيه منهم وبمكان رماتهم المثقفين بمكناسة أمر بسجنهم والتضييق عليهم فأوجسوا منه شرا وحذروه ولأنهم كانوا قد ارتكبوا العظيمة أولا في قتل أبي علي الروسي ونهب داره وماله ومال المخزن الذي كان تحت يده فكانوا يتوقعون سطوة السلطان المولى أحمد بهم أول ما بويع ثم لم يلتفت إليهم لشغله بنفسه فلما عادت الدولة إليه ارتابوا به وحادوا عن طاعته وتقدموا إلى المولى عبد الملك وجددوا له البيعة وأعلنوا بنصره والقيام بأمره ثم ورد عليهم كتاب السلطان المولى أحمد يأمرهم أن يسلموا إليه أخاه ويدخلوا فيما دخل فيه الناس أو يأذنوا بحربه فجهروا بالخلاف وأغلقوا الأبواب ووطنوا أنفسهم على الحصار ثم بعث إليهم
____________________


السلطان القائد اليديني قائد الرماة المسجونين بمكناسة وأمره أن يعرض عليهم الدخول في الطاعة ويسرح لهم إخوانهم المسجونين وحمله كتابا إليهم يتضمن ذلك وغيره فلما فرغ القائد المذكور من قراءة كتاب السلطان عليهم وثبوا عليه فقتلوه ثم جروه برجله وصلبوه على التوته التي بحومة الصفارين ثم وثبوا على الحاج الخياط عديل فقتلوه على باب داره وخرج الشريف أبو محمد عبد الله بن إدريس الإدريسي في كتيبة من الخيل والرماة إلى زواغة فأغار على سرح الودايا واستاق من البقر والغنم شيئا كثيرا فدخل به فاسا وبيع بأبخس ثمن وتوزعته الأيدي فبيعت البقرة بست موزونات والشاة بموزونة على ما قيل وهاجت الحرب بين أهل فاس والودايا ثم نهض السلطان المولى أحمد فاتح محرم من سنة إحدى وأربعين ومائة وألف في عسكر العبيد وودايا مكناسة فزحف إلى فاس ونزل عليها ثاني يومه ونصب عليها المدافع والمهاريس وآلات الحصار وانشلى العسكر على بساتينها وبحائرها فانتسفوا ثمارها واجتاحوا غللها وأمر الطبجية بموالاة الكور والبنب والحجارة عليها ليلا ونهارا ففعلوا ودام ذلك إلى أن عمها الخراب وتهدم الكثير من دورها وهلك عدد وافر من رجالها بعضهم في القتال وبعضهم بالهدم والحجارة واستمر الحصار نحو خمسة أشهر فضاق بهم الحال وضعفوا عن القتال وقلت الأقوات وارتفعت الأسعار فأذعنوا للطاعة وصالحوا المولى أحمد على إسلام أخيه المولى عبد الملك إليه وتمكينه منه على الأمان فبعث السلطان المولى أحمد إلى أخيه المولى عبد الملك يخيره بين التغريب إلى سجلماسة والمقام بالحرم الإدريسي فاختار المقام بالحرم
ثم إن السلطان تقدم إلى أهل فاس في أن لا يجتمع أحد منهم بأخيه ولا يجالسه ولا يكلمه ولا يبيع من أحد من أصحابه شيئا ولا يشتري منه ومن فعل شيئا من ذلك فإنه يعاقب فلما رأى المولى عبد الملك ما عامله به أخوه من التضييق بعث ولده إلى العبيد يطلب منهم أن يؤمنوه ويخرج معهم إلى
____________________


حيث شاؤوا فقدم عليه الباشا سالم الدكالي في خمسين من القواد وعاهدوه بالحرم الإدريسي أن لا يصيبه مكروه فخرجوا به حتى قدموا به على أخيه فلما مثل بين يديه أمر به أن يحمل إلى مكناسة مقبوضا عليه فوصل إلى مكناسة وسجن بدار الباشا مساهل ثم رحل السلطان المولى أحمد عن فاس قافلا إلى مكناسة وعند حلوله بها مرض مرض موته ولما أحس من نفسه بالموت أمر بخنق أخيه المولى عبد الملك فخنق ليلة الثلاثاء أول يوم من شعبان ثم توفي السلطان المولى أحمد يوم السبت رابع شعبان المذكور سنة إحدى وأربعين ومائة وألف فكان بين وفاتهما ثلاثة أيام رحمهما الله
واعلم أن ما ذكرناه من هذه الأخبار هو الذي عند صاحب البستان وقلده أبو عبد الله أكنسوس حذو النعل بالنعل ورأيت بخط جدنا من قبل الأم وهو الفقيه الأستاذ أبو عبد الله محمد بن قاسم الإدريسي اليحيوي الجباري عرف بابن زروق وكان حيا في هذه المدة ما نصه
بويع المولى أحمد بن إسماعيل المعروف بالذهبي يوم وفاة والده رحمه الله بعد أن ثار بالمغرب والقصر وحوزه فساد كبير بين القبائل وأصحاب المخزن وهلك في ذلك بشر كثير وبعد مكثه في الملك سنة واحدة وثمانية أشهر خلع وبويع أخوه المولى عبد الملك في الآخر من رجب سنة إحدى وأربعين ومائة وألف وهو بالسوس الأقصى بمدينة تارودانت ثم ورد على دار المملكة بالحضرة المكناسية ليلة السابع والعشرين من رمضان المعظم من السنة المذكورة ثم ثار عليه أخوه المولى أحمد المخلوع في عاشر المحرم فاتح سنة اثنتين وأربعين ومائة وألف واقتحم عليه دار الملك من مكناسة عنوة ووقع فساد كبير بالمدينة المذكورة وهلك بشر كثير في الحرب ومنهم من قتل صبرا وفر المولى عبد الملك ناجيا بنفسه إلى فاس ثم حاصره بها المولى أحمد نحوا من أربعة أشهر حتى خرج إليه على الأمان فأمر بسجنه بمكناسة ثم قتل المولى عبد الملك صبرا مخنوقا في أواخر رجب المذكور أيضا اه كلامه والله تعالى أعلم بحقيقة الأمر
____________________


قالوا وكان المولى أحمد رحمه الله أشبه الناس بالأمين بن الرشيد العباسي في زيه ولهوه وإكبابه على شهواته وتضييع الحزم والجد حتى فسدت الأحوال وتراكمت الأهوال وذكر معاصروه أنه لم يكن شهد حربا قط قبل خلافته وكان مع ذلك جوادا متلافا فآلت به الأمور إلى ما ذكرنا ولله الأمر من قبل ومن بعد الخبر عن دولة أمير المؤمنين المولى عبد الله بن إسماعيل رحمه الله
كان المولى عبد الله بن إسماعيل وهو ولده الحرة خناثي بنت بكر المغفري أيام خلافة أخيه المولى أحمد منحاشا إلى أخيه المولى عبد الملك ومقيما معه ببلاد السوس فلما خلع المولى أحمد وبويع المولى عبد الملك وقدم مكناسة قدم المولى عبد الله في ركابه واستمر مقيما بها إلى أن ثار العبيد بالمولى عبد الملك وفر إلى الحرم الإدريسي فخرج المولى عبد الله من مكناسة إلى سجلماسة وأقام بداره بها إلى أن توفي السلطان المولى أحمد في التاريخ المتقدم فاجتمع أعيان الدولة من العبيد والودايا وسائر القواد والرؤساء واتفقوا على بيعة المولى عبد الله بن إسماعيل وهو يومئذ بسجلماسة فنادوا باسمه وأعلنوا بنصره في المحلة ومكناسة وبعثوا جريدة من الخيل لتأتي به وكتبوا مع ذلك إلى أهل فاس يعزونهم عمن هلك من إخوانهم أيام الحصار ويحضونهم على الموافقة على بيعة المولى عبد الله بن إسماعيل
ولما وصل الكتاب إلى فاس قرىء على منبر جامع القرويين فأجابوا بالموافقة إن حضر ولما وصلت الخيل إلى المولى عبد الله وأعلموه بما اتفق عليه الناس في شأنه أقبل مسرعا حتى نزل بظاهر فاس بالموضع المسمى بالمهراس فخرج أعيان فاس من العلماء والأشراف وغيرهم لملاقاته فسلموا عليه واستبشروا بقدومه فسر بهم والآن لهم القول ووعدهم بالجميل
____________________


وأعلمهم بأنه من الغد دخل لحضرتهم لزيارة المولى إدريس رضي الله عنه فرجعوا مسرورين مغتبطين ومن الغد أخذوا زينتهم ولبسوا أسلحتهم ونشروا ألويتهم وخرجوا لميعاده فركب السلطان فرسه وركب معه خاصته وأهل موكبه وفي جملتهم حمدون الروسي عدو أهل فاس وتقدم السلطان فدخل على باب الفتوح وتوسط المدينة فرأى بعض سماسرة الفتن من أولاد ابن يوسف حمدون الروسي وكان قد قتل أباهم حسبما مر فصمدوا إليه فلما رآهم تنحى عنهم قليلا فتبعوه فعلم أنهم عزموا على اغتياله فركض فرسه إلى السلطان وهو على قنطرة الرصيف وأخبره خبر أولاد ابن يوسف وخص وعم بالإرجاف في حق أهل فاس فعدل السلطان عن قصده ورجع على طريق جامع الحوت ثم على جزاء ابن عامر وخرج على باب الحديد إلى فاس الجديد ولم يزر ولم يعلم الناس موجب الرجوع عن الزيارة إلى أن شاع الخبر بذلك فمشى علماء فاس وأشرافها إلى السلطان ورفعوا إليه بيعتهم واعتذر إليه بعض الفقهاء بأن ما وقع في جانب حمدون إنما هو من بعض السفهاء فأعرض السلطان عن ذلك وصم عن سماعه
وكانت البيعة التي رفعها أهل فاس من إنشاء الفقيه العالم الوجيه أبي العلاء إدريس بن المهدي المشاط المنافي نسبة إلى عبد مناف بن قصي وهذا الفقيه هو الذي كان السلطان المولى إسماعيل رحمه الله بعثه قاضيا على تادلا مع ابنه المولى أحمد الذهبي حين ولاه عليها كما مر ونصها
الحمد لله الذي جعل العدل صلاحا للملك والرعية والعباد كما جعل الجور هلاكا للحرث والماشية والبلاد وسدد العادل بعنايته وأعد للجائر ما هو معلوم له يوم المعاد وجعل المقسطين على منابر من نور يوم القيامة كما جعل القاسطين في العذاب والحسرات والأنكاد فأسعد الملوك يوم القيامة من سلك مع الرعية سبيل السداد وأصلح ما أظهره الجائر في الأرض من الفساد نحمده أن تفضل علينا بإمام عادل ونشكره إن حكم فينا من لا يصغي في الحق لقول عاذل فولى علينا الخليفة من نسل الشفيع يوم التناد
____________________


ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا يسأل عما يفعل يؤتى الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء في أي وقت شاء وأراد ونشهد أن سيدنا ونبينا ومولانا محمدا عبده ورسوله الشفيع في أمته يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولا يقبل من القاسطين فداء بطريف ولا تلاد صلى الله عليه وسلم الذين أظهروا الشريعة ومحوا الظلم محمو المداد أما بعد حمد الله الذي أمر بطاعة أولي الأمر ووعد من نصر دينه بالظفر والنصر فقال عليه السلام ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم قال من أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهو جميع فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان وفي صحيح مسلم أيضا عنه صلى الله عليه وسلم قال من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد وأراد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كره من أميره شيئا فليصبر فإن من خرج عن السلطان شبرا مات ميتة جاهلية وفيه أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابن عقبة لعلك لا تلقاني بعد اليوم فعليك بتقوى الله تعالى والسمع والطاعة للأمير وإن عبدا حبشيا
واتفق أئمة الدين على أن نصب الإمام واجب على المسلمين وإن كان من فروض الكفاية كما أن القيام بذلك من الواجبات كما دلت عليه نصوص الأحاديث والآيات وقال الشاعر
( لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ** ولا سراة إذا جهالهم سادوا )
ولما كان من أمر الله سبحانه ما أراده وقدره فقبض إليه خليفته وأقبره دهش المسلمون وخافوا من توالي الشرور والفتن فتوجهوا إليه سبحانه في أن يغمد عنهم السيوف وطلبوا من فضله المعهود أن يصرف عنهم ضروب المحن والحتوف فأجاب الكريم الدعوات ونفس الهموم والكربات ونشر
____________________


رحمته وأزاح نقمته فصارت القلوب ناعمة بعد بؤسها والوجوه ضاحكة بعد عبوسها والشرور والفتن قد أدبرت وأعلام الأمن والعافية قد أقبلت فوفق الله جيوش المسلمين للأعمال المرضية والهمم لما فيه صلاح الدنيا والدين والراعي والرعية فاقتضى نظرهم السديد ورأيهم الموفق الرشيد بيعة من في أفق السعادة قد طلع وظهر في سماء المعالي بدره وارتفع الإمام الهمام العلوي الهاشمي العدل في الأحكام الموصوف بالكرم والشجاعة والشهامة والحزم والنجدة والزعامة المتواضع لله المتوكل في جميع أموره على الله أمير المؤمنين مولانا عبد الله بن الشريف الجليل الماجد الأصيل أمير المؤمنين مولانا إسماعيل ابن مولانا الشريف فبايعوه أعزه الله على كتاب الله وسنة الرسول وإقامة العدل الذي هو غاية المأمول بيعة التزمتها القلوب والألسنة وسعت إليها الأقدام والرؤوس خاضعة مذعنة لا يخرجون له من طاعة ولاينحرفون عن مهيع الجماعة أشهدوا على أنفسهم عالم الطويات المطلع على جميع الخفيات قائلين إننا بايعناك وقلدناك لتسير فينا بالعدل والرفق والوفاء والصدق وتحكم بيننا بالحق كما قال تعالى لنبيه في محكم وحيه { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق } ص 26 وقال تعالى وقوله الحق { ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما } الفتح 10 وقال تعالى { ولا تكن للخائنين خصيما } النساء 105 وهذه الرعية تطلب من ربها أن يعين مالكها ويساعده ويقذف الرعب في قلب من يريد أن يعانده وأن يفتح عليه ما عسر على غيره ويمده بعزيز نصره إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير وبيده القوة والحول نعم المولى ونعم النصير شهد بذلك على نفسه ومن معه العبد الفقير المذنب الحقير ممليها وكاتبها إدريس بن المهدي المشاط بمحضر فلان وفلان وجمهور الفقهاء والأعيان في يوم الاثنين سابع رمضان سنة إحدى وأربعين ومائة وألف
ثم سافر السلطان في الحين إلى مكناسة كما نذكره
____________________

حدوث النفرة بين أمير المؤمنين المولى عبد الله وأهل فاس والسبب في ذلك
قد قدمنا ما كان من وسوسة حمدون الروسي للسلطان المولى عبد الله في جانب أهل فاس واعتذار بعض الفقهاء لدى السلطان عن ذلك ثم إن السلطان أمر أهل فاس ببعث طائفة منهم تكون معه على العادة فعينوا الخمسمائة التي كانت تغزو مع الملوك قبله فذهبت معه إلى مكناسة
ولما استقر بالحضرة قدم عليه أعيان الديوان وعمال القبائل ووفود الحواضر والبوادي ففرق المال ولم يحرم أحدا سوى أهل فاس فإنه لم يعطهم شيئا ثم حضر عيد الفطر فقدمت وفود الأمصار ليشهدوا العيد مع السلطان على العادة وقدم وفد فاس لهذا الغرض وحضروا صلاة العيد مع السلطان بالمصلى ولما قدم الناس هداياهم بعد رجوع السلطان إلى منزله قدم أهل فاس هديتهم على العادة فأعطى الناس وحرمهم ثانيا
قلت ولست أشك في أن شيطانا من شياطين الإنس كان موكلا بهذا السلطان يغريه بأهل فاس ويوغر صدره عليهم ويفسد ما بينه وبينهم وإلا فكيف تقتضي السياسة أن يعمد ملك كبير إلى أخص رعيته ولبها وصميمها فيفسد ضمائرها عليه ويزرع بغضه في قلوبها وهب أنهم أساؤوا الأدب أليس التغافل مطلوبا في مثل هذا ما أمكن لا سيما في حق السلطان وقد كان المنافقون يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيحلم عنهم وقال له بعض أصحابه ألا نقتلهم فقال له صلى الله عليه وسلم كيف يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ومن الحكم المأثورة قولهم التعامي يدفع شرا كثيرا وقال الشاعر
( ليس الغني بسيد في قومه ** لكن سيد قومه المتغابي )
____________________


ومن الغد أمر السلطان بإحضار أهل فاس بالمشور ثم خرج عليهم فقاموا إليه وأدوا واجب التحية فقال لهم يا أهل فاس كاتبوا إخوانكم يسلموا إلينا البساتين والقصبات فإنها للمخزن ومن وظائفه فإن أبوا فإني آتيهم وأهدم عليهم تلك القرية فأجابوا بالسمع والطاعة وعادوا إلى رحالهم
ولما كان المساء اتخذوا الليل جملا وأسروا ليلتهم كلها ولم يصبحوا إلا بباب فاس فاجتمعوا بإخوانهم وقرروا لهم مقالة السلطان وما عزم عليه في حقهم فاجتمع أعيانهم وتفاوضوا في شأنهم وشأن السلطان وأحضروا نسخة البيعة وتصفحوا شروطها وقالوا إنا لم نبايعه على هذا الذي يعاملنا به ثم أعلنوا بخلعه والأمر لله وحده حصار المولى عبد الله مدينة فاس
لما أعلن أهل فاس بخلع السلطان المولى عبد الله عزموا على الحرب ووطنوا أنفسهم على الحصار ونادوا في المدينة من أراد الخروج إلى بلده ومأمنه من غير أهل البلد فليتهيأ في ثلاث ثم أغلقوا أبواب المدينة واستعدوا للقتال
ولما سمع السلطان بخبرهم تهيأ لغزوهم فأخذ أهبته وخرج من مكناسة في الخامس والعشرين من شوال سنة إحدى وأربعين ومائة وألف فنزل على فاس ووزع الجنود عليها من كل ناحية وأطلق يد الجيش بالعيث في أطرافها من تخريب المصانع وقطع الأشجار وإفساد المزارع وأمر بطم الوادي فانحبس عنهم ماؤه وزحفت العساكر فكان القتال على كل باب سائر النهار فإذا كان المساء أمر الطبجية والأعلاج بإرسال الكور والبنب وحجارة المنجنيق فكان الناس لا يستريحون بالنهار ولا ينامون بالليل واشتد الكرب وريع السرب واستمر الحال إلى أن دخلت سنة اثنتين
____________________


واربعين ومائة وألف فازداد الأمر شدة وارتفعت الأسعار وانعدمت الأقوات وكثر الهرج فبعثوا إلى السلطان في الصلح فقال على تسليم البساتين والقصاب فأبوا وتجلدوا ثم بعد ذلك وقع الصلح على يد القائد أبي عبد الله محمد السلاوي بضريح المولى إدريس رضي الله عنه واستصحب معه جماعة من أشراف فاس وعلمائها إلى السلطان وهو بفاس الجديد فأكرم مقدمهم ووصلهم بألف دينار وكساهم وولى عليهم الحاج أبا الحسن عليا السلاوي فدخل الوالي المذكور القصبة ثاني ربيع النبوي سنة اثنتين وأربعين ومائة وألف وشحن البساتين والقصاب بالمقاتلة من أصحابه وافتتح عمله بقتل الشيخ دحمان المنجاد من رؤساء فاس ولما اتصل خبره بالسلطان عزله وولى على فاس أحد أولاد حمدون الروسي المعروف بالبادسي ثم بعد مدة يسيرة عزله وولى عبد النبي بن عبد الله الروسي ثم لما عزم على النهوض إلى مكناسة عزله أيضا وولى عليهم عدوهم حمدون الروسي وارتحل في العشرين من ربيع الأول من السنة
وفي هذه السنة بعث السلطان ولده المولى محمدا مع أمه السيدة خناثى إلى الحجاز بقصد حج البيت والمولى محمد يومئذ دون بلوغ وفي نشر المثاني إن هذه الحجة كانت سنة ثلاث بعدها قال إن أم السلطان المولى عبد الله وهي السيدة خناثى بنت بكار المغفرية التمست من ولدها المذكور السفر إلى المشرق بقصد حج بيت الله الحرام فأجابها إلى ذلك وهيأ لها جميع ما تحتاج إليه ووجه معها ولده الذي أيد الله به الدنيا والدين بعده سيدي محمد بن عبد الله فحج معها في هذه السنة يعني سنة ثلاث واربعين ومائة وألف
____________________

نهوض السلطان المولى عبد الله إلى قتال البربر وإيقاعه بهم
لما استقر السلطان المولى عبد الله بمكناسة وتفقد حال البربر وجدها قد عادت إلى حالها الأول من ركوب الخيل واقتناء السلاح والعيث في الطرقات فأمر العبيد بالاستعداد لغزوهم وتمهيد البلاد والتقصير من بأوهم فخرج إلى تادلا وصمد إلى آيت يمور الذين كانوا قد نزلوا بها وأضروا بأهلها حين نفتهم آيت ومالو عن رأس ملوية وغلبوهم عليه فنزلوا تادلا وأوقدوها نارا فكثر شاكيهم بباب السلطان فنهض إليهم على ما سبق ولما أحسوا بدنوه منهم فروا أمامه ودخلوا بلاد آيت يسري فتبعهم إلى أن أوقع بهم على وادي العبيد وقتل منهم آلافا وانتهبهم وعاد إلى تادلا ظافرا والله غالب على أمره ذكر ما صدر من السلطان المولى عبد الله من العسف المخل بالسياسة والتناقض المغير في وجه الرياسة
لما عاد السلطان المولى عبد الله إلى تادلا قتل عشرين رجلا من أعيان رماة أهل فاس وكتب إلى إخوانهم يعتذر عن قتل من قتل منهم ويأمرهم بتجديد بعث آخر وتوجيهه إليه فعينو طائفة من رماتهم وجهوها بعد أن عرضها القائد حمدون الروسي برأس الماء ثم من الغد قتل القائد حمدون المذكور عبد الواحد تيبر ومحمد بن الأشهب من أهل فاس بباب السجن وأمر بجرهما في سكك المدينة ثم أصبح غاديا على أبواب فاس فتتبعها بالهدم فهدم باب المحروق وباب الفتوح وباب الجيسة وباب بني مسافر وباب الحديد وحمل مصاريعها كلها إلى فاس الجديد وفي أول يوم من المحرم من سنة ثلاث واربعين ومائة وألف شرع حمدون الروسي في هدم سور مدينة فاس وجر الأنقاض التي بها إلى فاس الجديد وفي أثناء ذلك
____________________


ورد كتاب من السلطان يتضمن العفو عن أهل فاس والرضا عنهم فارتاب حمدون الروسي وفر إلى زرهون ثم قفل السلطان من تادلا فأقام بمكناسة مدة يسيرة وخرج غازيا بلاد السوس فقدمها ومهدها وعاد مؤيدا منصورا وفي هذه السنة أمر ببناء باب منصور العلج بمكناسة فجاء في غاية الضخامة والفراهة وأكمل سوق القصبة فجاء على ما ينبغي والله أعلم هدم السلطان المولى عبد الله مدينة الرياض من حضرة مكناسة وما اتصل بذلك
كانت مدينة الرياض زينة مكناسة وبهجتها إذ كان بها آثار أكابر دولة أمير المؤمنين المولى إسماعيل رحمه الله وبها دور العمال والقواد والكتاب وسائر أعيان الحضرة الإسماعيلية بل كل من كان له وظيف في خدمتها السلطانية بنى داره بها وتنافس الأكابر والرؤساء في تشييد الدور وتنجيد القصور وتناهوا في ذلك حتى كان بدار علي بن يشي القبلي أربع وعشرون حلقة يجمعها باب واحد وكانت دار القائد عبد الله الروسي وأولاده على ذلك المنوال بل أعظم ضخامة وأكمل حضارة حتى كأنها حومة مستقلة وكان لأمثالهما من القواد مثل ذلك أو قريب منه فخلدوا بها الآثار العظيمة والمعالم الفخيمة وبنى كل عامل مسجدا في حومته وكان بوسطها المسجد الأعظم الإسماعيلي ومدرسته وحمامه وفنادقه وأسواقه الموقوفه عليه وكانت تنفق بها البضائع التي لا تنفق في غيرها فأتى عليها من أيام النحوس يوم ركب السلطان المولى عبد الله عند فجره ووقف على تل عال يشرف منه عليها وأمر النصارى والشعابنية بهدمها فتسارعوا إليها وشرعوا في هدمها من كل ناحية والناس نيام فلم يرعهم إلا بيوتهم تتساقط عليهم فمن أسرع وخف بحمل متاعه وآثاثه نجا ومن لا معين له أو تراخى في حمل متاعه ضاع تحت التراب وكان بها طائفة كبيرة من أخواله الودايا وغيرهم فارتحل
____________________


الودايا إلى فاس الجديد وانضموا إلى إخوانهم الذين بها وتفرق غيرهم بمدينة مكناسة ولم تمض عشرة أيام حتى صارت مدينة الرياض كدية من التراب ولم يبق بها إلا الأسوار قائمة الإشخاص والجدران مائلة للعيان والأمر لله وحده
قالوا وفي هذه السنة بعث السلطان المولى عبد الله بعثا مع القائد أبي عمران موسى الجراري إلى بعض الجهات وكانوا نحو ثلاثمائة فلما قدموا عليه قتله وقتل أصحابه معه وقدم عليه أيضا وفد من عند الباشا أحمد بن علي الريفي في مثل هذا العدد من طنجة ومعهم هدية الباشا المذكور فقتلهم فكان قتلهم سبب نفرة أحمد بن علي عنه وسعيه في إفساد دولته وقتل أيضا من قبيلة حجاوة مائتي رجل على دعوى قطع الطريق ببلادهم ولما أمر بقتلهم وأخرجوا إلى المحل المعد لذلك خرج النظارة والبطالون من أهل البلد للفرجة عليهم بباب البطيوي فبينما هم كذلك إذا بالسلطان قد برز من الباب ولما رأى اجتماع الناس قصد نحوهم فلما رأوه فروا إلى كهف هناك قريب فاختفوا فيه فأتى السلطان حتى وقف على باب الكهف وكان من قربه أكوام من حجر أعدت للبناء بها فأمر الأعوان من المسخرين بوضع أسلحتهم وردم باب الكهف بذلك الحجر مع التراب ففعلوا وهلك ذلك الجمع الكثير غما ولم يوقف لهم بعد على خبر ولا عرف لهم عدد ولما صدرت منه هذه الأفعال الشنيعة عفا الله عنه كتب إليه أهل الديوان من مشروع الرملة ينكرون عليه قتله للمسلمين دون موجب فبعث إليهم بالراتب وأمرهم بالتهيؤ لغزو أهل فازاز فشغلهم بذلك
وفي هذه السنة بعث محمد بن علي بن يشي الزموري القبلي واليا على فاس وقال له خذ منهم المال واطرحه في وادي أبي الخراريب ولا تتركه لهم فما أطغاهم إلا المال حتى استخفوا بأمر الملك فقدم محمد بن علي المذكور فاسا ونزل بدار أبي علي الروسي بالمعادي وعين من كل حومة نقيبا
____________________


عارفا بأهل اليسار فجمعوه لهم حتى كانوا بين يديه فأمر بسجنهم ثم وظف عليهم أولا خمسمائة ألف مثقال وزعها على التجار وأهل اليسار دون غيرهم من العشرة آلاف إلى الألف ثم شرع في قبض المال الموزع ومن تراخى منهم في الدفع ضرب وسجن ومن تغيب من أهل اليسار حبس ولده أو أخوه أو زوجته إلى أن استوفى العدد المذكور ثم عطف على أهل الصنائع والحرف وأرباب الأصول من الفلاحين وغيرهم فوزع عليهم قدرا وافرا من الألف إلى المائة وما دون ذلك حتى لم يبق في المدينة أحد إلا وقد غرم ففر الناس إلى البوادي والقرى والجبال ومنهم من وصل إلى السودان وتونس ومصر والشام حتى لم يبق بفاس إلا النساء والذرية ومن لا عبرة به من الرجال حتى أن الذين كانوا بالسجن فينفس خروجهم منه فروا بأنفسهم ولم يعرجوا على أهل ولا ولد وأقام محمد بن علي على هذا العمل بفاس ثلاثة عشر شهرا وكلما اجتنى مالا بعث به إلى السلطان بمكناسة وكانت هذه الخطوب كلها فيما بين سنة ثلاث وأربعين إلى سنة خمس وأربعين ومائة وألف بعث السلطان المولى عبد الله جيش العبيد إلى فازاز وإيقاع أهله بهم
وفي سنة ست واربعين ومائة وألف جهز السلطان المولى عبد الله جيشا من العبيد يشتمل على خمسة عشر ألفا من الخيل وعقد عليهم للباشا قاسم ابن ويسون وأضاف إليهم ثلاثة آلاف من جيش الودايا وعقد عليهم للقائد عبد الملك بن أبي شفرة ووجههم إلى جبال آيت ومالو فلما عبر الجيش وادي أم الربيع على قنطرة البروج ونزلوا بسيط آدخسان كادهم البربر بأن أظهروا الفرار أمامهم وتوغلوا في الجبال فتبعهم العبيد إلى أن توغلوا في تلك الجبال ونشبوا في أوعارها والبربر تفر منهم في كل وجه وهم يتبعونهم إلى
____________________


أن حان وقت المساء فبعث البربر ليلا طائفة منهم لسد الثنايا والأنقاب التي دخل منها جيش السلطان فأحكموا سدها بشجر الأرز والحجارة ولما أصبحوا هجموا على الجيش من كل ناحية وصدقوهم القتال إلى أن ردوهم على أعقابهم فلما انتهى العبيد إلى الثنايا التي دخلوا منها وألفوها مسدودة دهشوا وخشعت نفوسهم وازدحموا عليها بعد أن ترجلوا وتركوا الخيل والسلاح والأبنية فيها من الأثاث فنهب البربر جميع ذلك ثم جردوا باقي العسكر من الثياب ولم يقتلوا أحدا ورجع العبيد إلى مكناسة راجلين متجردين من المخيط والمحيط فكان ذلك من أقوى الأسباب التي بغضت السلطان المولى عبد الله للعبيد لأن ذلك كان بإشارته بزعمهم مع إسرافه في قتل رؤسائهم كما سيأتي ومع ذلك فقد أنعم عليهم بالمال والكسى ووعدهم بإخلاف جميع ما ضاع لهم ورجعوا إلى مشرع الرملة ممتعضين لتلك الفعلة ثورة العبيد على السلطان المولى عبد الله وفراره إلى وادي نول وما نشأ عن ذلك
لما كانت سنة سبع وأربعين ومائة وألف فسد ما بين السلطان المولى عبد الله رحمه الله وبين العبيد لإسرافه في قتلهم حتى كاد يأتي على عظمائهم وكان ذلك منه جزاء لهم على قتلهم لأخيه المولى عبد الملك حسبما سبق إذ كان ما بينه وبينه صالحا كما مر فقتل منهم كل من سعى في قتله أو شارك فيه أو وافق عليه حتى بلغ عدد من قتل منهم أزيد من عشرة آلاف فأجمعوا على خلعه وقتله ودس إليه بعضهم بما عزموا عليه في شأنه ففر ليلا من مكناسة ولم يصبح إلا بحلة آيت أدراسن فأجلوا مقدمه وتباروا في إكرامه
ولما عزم على النهوض عنهم ركبوا معه وصحبوه إلى تادلا ثم ودعوه
____________________


وعادوا إلى بلادهم ومضى هو إلى مراكش ومنها ذهب إلى السوس فنزل بوادي نول على أخواله المغافرة وكان معه يومئذ ولداه المولى أحمد في سن البلوغ والمولى محمد السلطان بعده صغيرا وأقام عند المغافرة نحو ثلاث سنين وأما والي فاس محمد بن علي بن يشي فإنه لما اتصل به فرار السلطان من مكناسة فر هو أيضا عن فاس ليلا ولم يصبح إلا بزرهون فاطمأن بها جنبه وكان ما نذكره الخبر عن دولة أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن إسماعيل المعروف بالأعرج رحمه الله
لما فر أمير المؤمنين المولى عبد الله بن إسماعيل من مكناسة إلى وادي نول اجتمع عبيد الديوان واتفقوا على بيعة المولى أبي الحسن علي بن إسماعيل المعروف بالأعرج وكان يومئذ بسجلماسة فكتبوا إليه بذلك وبعثوا بالكتاب مع جريدة من الخيل لتأتي به فأقبل مسرعا ولما وصل إلى مدينة صفرو لقيه بها أعيان فاس وأشرافها وعلماؤها فبايعوه ففرح بهم وأكرمهم وعادوا في صحبته إلى فاس الجديد فولى عليهم مسعودا الروسي وذلك في ربيع الثاني سنة سبع وأربعين ومائة وألف وأمره أن لايقبض منهم إلا الزكوات والأعشار الشرعية وما جرت به العادة من الهدايا الخفيفة
وكان رحمه الله موصوفا بالحلم والعقل متوقفا في الدماء فستره الله في آخر أمره وأجمل خلاصه ثم نهض إلى مكناسة ولما قدمها بايعه الجيش بها البيعة العامة هكذا في البستان
ورأيت بخط جدنا الإمام الفقيه الأستاذ أبي عبد الله محمد بن قاسم بن زروق الحسني الإدريسي ما نصه وفي اليوم الأول من جمادى الأولى من
____________________


سنة سبع وأربعين ومائة وألف ثار عبيد الرملة على أمير المؤمنين المولى عبد الله بن إسماعيل ونقضوا بيعته وأعلنوا بنصر أخيه المولى علي ولد عائشة مباركة وخرج لهم المولى عبد الله عن دار الملك بمكناسة بعد أن أخذ ما كان بها مما أعجبه من خيل وعدة ومال من غير قتال ولا محاربة ودخل أخوه المولى علي دار الملك بمكناسة يوم الجمعة فاتح جمادى الثانية من السنة المذكورة وكتبه في الثاني عشر من الشهر المذكور محمد بن زروق كان الله له بمنه اه كلامه بحروفه
ولما استقر السلطان المولى أبو الحسن بمكناسة قدمت عليه الوفود ببيعاتهم وهداياهم من جميع البلدان فأجازهم وفرق المال على الجيش إلى أن نفذ ما عنده واحتاج فقبض على الحرة خناثى بنت بكار أم السلطان المولى عبد الله فاستصفى ما عندها ثم امتحنها لتقر بما عسى أن تكون قد أخفته فلم يحصل على طائل وكانت هذه الفعلة معدودة من هناته عفا الله عنه
قال أبو عبد الله أكنسوس وخناثى هذه هي أم السلاطين أعزهم الله وكانت صالحة عابدة عالمة حصلت العلوم في كفالة والدها الشيخ بكار وقال رأيت خطها على هامش نسخة من الإصابة لابن حجر وعرف به بعضهم فقال هذا خط السيدة خناثى أم السلطان المولى عبد الله بلا شك اه ثورة أهل فاس بعاملهم مسعود الروسي وانتقاضهم على السلطان أبي الحسن رحمه الله
ثم إن مسعودا الروسي عامل فاس عدا على الحاج أحمد بودي رئيس اللمطيين فقتله وأمر بجره إلى باب الفتوح إذ كان هو الذي سعى في قتل أخيه أبي علي الروسي عقب وفاة السلطان المولى إسماعيل كما مر
____________________


فلما ارتكب مسعود هذه الفعلة اجتمع أهل فاس وأخذوا أسلحتهم وتقدموا إلى القائد مسعود ليقتلوه بصاحبهم ففر مسعود ولم يدركوه فعطفوا على السجن فكسروه وقتلوا الحرس والأعوان الذين به وسرحوا المساجين إلى حال سبيلهم ولما اتصل خبرهم بالسلطان المولى أبي الحسن غض الطرف عنهم وبعث إليهم أخاه المولى المهتدي ومعه القائد غانم الحاجي وكتب إليهم يقول إني قد عزلت عنكم مسعودا الروسي ووليت عليكم غانما الحاجي فلم يقبلوه ورجع من الغد إلى مكناسة ثم رجعوا بصائرهم بإشارة أهل المروءة منهم وبعثوا جماعة من العلماء والأشراف بهدية كبيرة مع المولى المهتدي إلى السلطان تلافيا لما فرط منهم ولما دخلوا على السلطان قبض هديتهم وعدد عليهم ذنوبهم ثم أمر بهم إلى السجن ولما انتهى الخبر إلى أهل فاس قامت قيامتهم وأغلقوا أبواب المدينة وأعلنوا بالخلاف ثم عطفوا على أصحاب مسعود الروسي وكل من كان له به اتصال فقتلوهم في كل وجه وأنشبوا الحرب مع الودايا في كل ناحية
وفي رمضان من السنة المذكورة قدم من عند السلطان القائد أبو محمد عبد الله الحمري من قواد العبيد فاجتمع بأهل فاس واعتذر إليهم عن السلطان وطلب منهم أن يبعثوا معه جماعة منهم إلى السلطان لرتق هذا الفتق فأسعفوه وبعثوا طائفة من علمائهم وأشرافهم وأصحبوهم هدية نفيسة إلى السلطان وكتب عبد الله الحمري إلى السلطان يعتذر إليه عنهم ويشفع لهم عنده فدخلوا على السلطان وعاتبهم ثم عفا عنهم وسرح لهم إخوانهم الذين كانوا في السجن وولى عليهم عبد الله الحمري ثم لما دخلت سنة ثمان واربعين ومائة وألف عزله وولى عليهم عبد الله بن الأشقر وسكنت الهيعة واستقام الأمر بعض الشيء
____________________

غزو السلطان أبي الحسن أهل جبل فازاز في جيش العبيد وهزيمتهم إياه
لما كانت أواخر سنة ثمان وأربعين ومائة وألف أخذ السلطان أبو الحسن في الاستعداد وتجهيز العساكر لآيت ومالو وكان ذلك منه إسعافا للعبيد ليأخذوا بثأرهم من البربر في الوقعة السابقة أيام السلطان المولى عبد الله فخرج إليهم في المحرم فاتح سنة تسع وأربعين ومائة وألف في جيش كثيف من العبيد فلما نذروا بإقباله إليهم ودنوه منهم أظهروا الفرار أمامهم مثل الفعلة الأولى فصاروا يتأخرون ويتبع آثارهم فينزل منازلهم إلى أن عبروا وادي أم الربيع ودخلوا في الجبال فعبر السلطان خلفهم وتقدم العبيد إلى الجبال والأوعار فاقتحموها عليهم فلما توسطوها كرت البربر عليهم وانقضوا عليهم من الثنايا انقضاض العقبان وأحاطوا بهم من كل وجه فولوا منهزمين وازدحموا على الثنايا وسلكوا سبيلهم في المرة الأولى من ترك الخيل والسلاح والأبنية والأثاث والنجاة بمجرد أعناقهم وسلبهم البربر حتى من الثياب ولم يتعرضوا للسلطان في موكبه وخاصته إلى أن عبر وادي أم الربيع فرجعوا عنه ولما دخل مكناسة طالبه العبيد بالكسوة والسلاح والراتب فلم يكن عنده ما يعطيهم فشغبوا عليه ومرضوا في طاعته
وقد أجمل صاحب نشر المثاني هذه الأخبار فقال وفي هذه السنة يعني سنة تسع وأربعين ومائة وألف أهلك الله كل من خرج على السلطان مولاي عبد الله وقويت الفتن وارتفعت الأسعار وانحبست الأمطار وقاسى الناس الشدائد من الغلاء وقل الإدام وانقطع اللحم وهلكت رقاب كثيرة ولم يزل الأمر في شدة وفر الناس كل فرار
____________________

تحرك السلطان المولى عبد الله من السوس وفرار السلطان أبي الحسن إلى الأحلاف وما كان من أمره إلى وفاته
لما كان شهر ذي الحجة من سنة تسع واربعين ومائة وألف ورد الخبر بأن السلطان المولى عبد الله قد أقبل من وادي نول ووصل إلى تادلا فاهتز العبيد له وتحدثت فرقة منهم برده إلى الملك وخالفهم سالم الدكالي في جماعة من شيعته وقالوا لا نخلع طاعة مولانا علي إذ كان سالم هذا وأصحابه هم الذين تسببوا في خلع المولى عبد الله وتولية أخيه المولى علي
ثم إن شيعة المولى عبد الله قويت وكثروا أصحاب سالم وأعلنوا بيعته ففر سالم فيمن معه من القواد إلى زاوية زرهون مستجيرا بها
ولما سمع بذلك السلطان المولى أبو الحسن فر من مكناسة إلى فاس الجديد فصده الودايا عن الدخول إليها فعدل إلى قنطرة وادي سبو فنزل هنالك يوما أو بعض يوم إلى أن قضى بعض إربه ثم أصبح غاديا إلى تازا فاحتلها ثم انتقل عنها إلى عرب الأحلاف فأناخ بديارهم ففرحوا به وأكرموه وصاهروه وأقام بين أظهرهم عدة سنين معرضا عن الملك وأسبابه إلى أن رجع إلى مكناسة فاستوطنها بإشارة أخيه السلطان المولى عبد الله حين وفد عليه بدار الدبيبغ من فاس سنة تسع وستين ومائة وألف فأعطاه مالا وجنات ومزارع مما كان لجانب المخزن بمكناسة وبعثه إلى داره بها فأقام يسيرا ثم وثب عليه العبيد فقبضوا عليه وبعثوا به إلى أخيه السلطان المولى عبد الله وقالوا إن هذا قد أفسد علينا بلادنا فأخذه وسرحه إلى تافيلالت فاستقر بها إلى أن مات رحمه الله كما سيأتي
____________________

الخبر عن الدولة الثانية لأمير المؤمنين المولى عبد الله بن إسماعيل رحمه الله
لما فر السلطان المولى أبو الحسن من مكناسة إلى الأحلاف اجتمعت كلمة العبيد والودايا على بيعة السلطان المولى عبد الله فبايعوه وهو بتادلا وتبعهم على ذلك أهل فاس وسائر القبائل ثم إن سالما الدكالي الذي بزرهون كتب إلى أهل فاس يقول لهم إن الديوان قد اتفق على خلع المولى عبد الله وبيعة سيدي محمد بن إسماعيل المعروف بابن عريبة والمشورة لعلمائكم فأجابوه بأن قالوا نحن تبع لكم فلما سمع أهل الديوان بما فعله سالم الدكالي وما تقوله عليهم خرجوا من المحلة إلى زرهون وقبضوا على سالم الدكالي ومن معه من القواد وبعثوا بهم إلى السلطان المولى عبد الله بتادلا فاستفتى فيهم القاضي أبا عنان وكان يومئذ معه فأفتاه بقتلهم فقتلهم ثم نميت مقالة سالم الدكالي إلى المولى محمد ابن عريبة وهو بتافيلالت فظن أن الأمر صحيح فأقبل مسرعا إلى أن وصل إلى مدينة صفرو فوجد الناس قد بايعوا السلطان المولى عبد الله وراجعوا طاعته فسقط في يده ثم دخل فاسا مستخفيا وأقام بدار الشيخ أبي زيد عبد الرحمن الشامي وكان صديقه معتقدا له وكان أبو زيد يعده بالملك
ولما أقبل السلطان المولى عبد الله من تادلا خرج للقائه أهل فاس وفيهم الأشراف والعلماء وكذلك أهل مكناسة فوافوه بقصبة أبي فكران ولما مثلوا بين يديه عاتبهم وعدد ما سلف منهم ثم أمر بأعيانهم فقتلوا وفعل مثل ذلك بأعيان مكناسة واستباحهم وعزل قاضيهم أبا القاسم العميري ورجع أشراف فاس وعلماؤها مذعورين مما نابهم بعد أن ولى السلطان عليهم محمدا بن علي بن يشي واستمر هو مقيما بقصبة أبي فكران ولم يتقدم إلى فاس لعدم ثقته بهم
____________________

الخبر عن دولة أمير المؤمنين المولى محمد بن إسماعيل المعروف بابن عريبة والسبب فيها
لما فعل المولى عبد الله بأعيان فاس ومكناسة ما فعل من القتل والاستباحة وأقام منكمشا بقصبة أبي فكران نبغت رؤوس الفتنة من الودايا بفاس الجديد وأخذوا في نهب الطرقات ثم أغاروا في يوم خميس على سرح فاس وأجلاب سوقها فاستاقوها حتى لم يتركوا لهم بقرة ولا شاة ولا بهيمة غيرهما
ولما رأى أهل فاس ما نزل بهم اجتمعوا وتحالفوا على خلع السلطان المولى عبد الله وبيعة أخيه المولى محمد بن عريبة فمشوا إليه وهو بدار الشيخ أبي زيد الشامي فأخرجوه وأخذوا عليه العهود ثم بايعوه في عاشر جمادى الأولى سنة خمسين ومائة وألف وهيؤوا له كل ما يحتاج إليه من خيل وسلاح وآلة حرب وتباروا في طاعته وخدمته وكتبت بيعته في خامس عشر الشهر المذكور وكتب عليها الفقهاء خطوطهم وامتنع بعضهم من ذلك وقالوا بيعة السلطان المولى عبد الله في أعناقنا فلا نخلعها فعزلوا عن الخطط وامتحنوا ثم كتب أهل فاس إلى عبيد الديوان يعرفونهم ما صنعوا ويطلبون منهم موافقتهم فأجابوهم إلى ذلك وبايعوا السلطان المولى محمد بن عريبة وتم أمره
ولما رأى السلطان المولى عبد الله أن أمر أخيه قد تم فر إلى جبال البربر وأقام هنالك ثم فتحت أبواب فاس وانتقل السلطان المولى محمد إلى فاس الجديد ومن الغد نهض إلى مكناسة فاحتل بها وبايعه العبيد البيعة العامة وقدمت عليه الوفود من سائر الأقطار بهداياهم فأجازهم وفرق ما كان عنده من المال على العبيد وكان ما نذكره
____________________

بدء اختلال أمر السلطان المولى محمد بن عريبة وما تسبب عن ذلك
لما فرق السلطان المولى محمد بن عريبة على العبيد ما عنده من المال لم يقنعهم ذلك واستزادوه فأطلق عفا الله عنه أيدي النهب في أموال المسلمين وأخذ هو في استخراج الحبوب والأقوات من دور أهل مكناسة غصبا وبحث عنها في الأهراء والمطامير وكل من ذكر له أن عنده قمحا أو شعيرا قبض عليه وصادره إلى أن يظهر ما عنده وكل من جلب من أهل البادية حبا اخذ منه كرها فكثر الهرج وعمت الفتنة وفر الناس من مدينتهم وعم النهب خارجها وانقطعت السبل ووقع الناس في حيص بيص والأمر لله وحده إغارة السلطان المولى عبد الله على الإصطبل من مكناسة وما نشأ عن ذلك
ثم إن السلطان المولى عبد الله الذي كان مقيما عند البربر قدم ذات ليلة في جماعة من أصحابه حتى دخل الإصطبل وقتل من وجد به من العبيد وحرق أخصاصهم ورجع عوده على بدئه ولما نذر به السلطان المولى محمد بن عريبة نادى في الناس بالنفير وركب في خيله ورجله وقصد السلطان المولى عبد الله وهو بالموضع المعروف بالحاجب ولما رأى العساكر مقبلة إليه والخيل تتعادى خلفه فر بنفسه وترك ابنيته بما فيها فانتهبها العبيد وتبعوه إلى أن بلغوا وادي ملوية فتوغل في الجبال ولم يقفوا له على أثر ولما قفلوا راجعين اعترضهم البربر وتسايلوا عليهم من المخارم والشعاب فصدقوهم القتال وهزموهم واستلبوا ما معهم من الأثقال ورجعوا بخفي حنين
قال في البستان ولما انتهوا إلى أحواز صفرو بعث المولى محمد ابن
____________________

عريبة جماعة من جيشه إلى من هنالك من المستضعفين من أهل المزادغ وغيرها من القرى وأمر بقطع رؤوسهم وبعثها إلى فاس موهما أنها رؤوس البربر اه والله أعلم بقية أخبار السلطان المولى محمد بن عريبة وما تخللها من الهرج والشدة
لما قفل السلطان المولى محمد بن عريبة من خرجته في أثر أخيه المولى عبد الله وكان حيث ذكرنا بعث أخاه المولى الوليد بن إسماعيل إلى فاس وأمره بضرب البعث عليهم توصلا إلى ما في أيديهم من المال بحيث أن من أعطى المال منهم يقيم بداره ومن أبى يخرج في البعث فتحير الناس وقدم المولى الوليد حضرة فاس وقبض على الحاج أبي جيدة برادة وكان مثريا فقتله وأخذ أمواله وباع أصوله وقبض على الحاج عبد الخالق عديل فأخذ أمواله ثم تسلط على أهل الزوايا وكل من ذكر له أنه من أهل اليسار إلى أن استوفى غرضه ثم سار إلى مكناسة ففعل بأهلها مثل ذلك حتى لم يسلم منهم إلا القليل هذا والناس في محنة عظيمة من المجاعة والفتنة ونهب الدور بالليل بحيث كان أهل اليسار لا ينامون وصار جل الناس لصوصا والودايا يعيشون في الجنات خارج المدينة ويغيرون على القصارين بوادي فاس وبعد أن صار الناس يقصرون كتانهم بمصمودة انتهبوه منهم بها بل تناولوا القفل من الفنادق والسلطان معرض عن جميع ذلك لا يلتفت إليه ولقد هلك في هذه المدة من الجوع جم غفير أخبر صاحب المارستان أنه كفن في رجب وشعبان ورمضان ثمانين ألفا وزيادة سوى الذين كفنهم أهلهم وعشيرتهم وبالجملة فقد كانت أيام المولى محمد بن عريبة هذا أيام نحس ووبال على المسلمين وكذا أيام أخيه المولى المستضيء الذي إليه يساق الحديث وكل ذلك والله تعالى أعلم من استيلاء العبيد على الدولة وشؤم افتياتهم عليها وتحكمهم في أعياصها طوع أهوائهم وحسب أغراضهم إذ
____________________


معلوم أنه لا ينشأ عن كثرة الخلع والتولية إلا هذا وشبهه نسأل الله تعالى اللطف والحفظ في الأهل والدين والمال في الحال والمآل
وقد تكلم صاحب نشر المثاني على هذه السنة أعني سنة خمسين ومائة وألف فقال وفي هذه السنة هزم جيش الثائرين على مولاي عبد الله يعني العبيد هزيمة عظيمة بعد أن صدر منهم فساد كبير وذلك على يد البربر وارتفعت الأسعار جدا وجعل اللصوص يهجمون على الناس في دورهم ليلا ويقتلونهم وهم يستغيثون فلا يغاثون وبلغ الخوف إلى أبواب الدور المتطرفة بفاس نهارا فلا يستطيع أحد أن يخرج عن باب مصمودة في العدوة ولا عن باب القصبة القديمة في الطالعة ولا عن حومة الحفارين باب عجيسة وكثر الهدم في الدور لأخذ خشبها وكثر الخراب وخلت الحارات فتجد الدرب مشتملا على عشرين دارا وأكثر وكلها خالية وفي هذه المدة قتل الفقيه العلامة أبو البقاء يعيش الشاوي بداره بالدوح وقتله كان سبب خلاء الدوح وافتضح أهل المروءة من الناس ومن يظن به الدين وكل من قدر على الفرار فر من فاس وقل من سلم منهم بعد خروجه عن البلد وخرج جماعة وافرة من أهل فاس إلى تطاوين وما والاها لجلب الميرة إذ كان الله تعالى قد سخر العدو الكافر بحمل الطعام إلى بلاد المسلمين فاشترى أهل فاس منه شيئا كثيرا لكن امتنع الجمالون من حمله لهم وماطلوهم فشكوهم لوالي تلك البلاد ورئيسها حينئذ أحمد بن علي الريفي فأظهر لهم النصح وأبطن الغش لانحرافه عن السلطان ومن يتعلق به فثبط الجمالين وهم قبيلة بداوة فازدادوا امتناعا وتعاصيا حتى بقي أهل فاس معطلين بميرتهم نحو ستة أشهر فهلك بسبب ذلك خلائق لا يحصون جوعا وكلهم في عهدة أحمد بن علي الريفي وما أغنى مال ولا متاع في طلب القوت ولولا أن الله سخر العدو الكافر بجلب الميرة للمغرب لهلك أهله جميعا فيما أظن وذلك كله من شؤم الفتن والخروج على الملوك
____________________


وأما الأصول والسلع فلم يكن شيء منها يبلغ عشر ثمنه المعتاد ولم يقيض الله لهذا المغرب راحة حتى من برجوع السلطان مولاي عبد الله هذا كلام صاحب نشر المثاني وهو الفقيه المؤرخ سيدي محمد بن الطيب بن عبد السلام القادري وقد حكى هذه الأخبار عن معاينة لأنه كان يومئذ حاضرها وشاهدها
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائة وألف والناس في شدة وفي الرابع والعشرين من صفر منها ثار العبيد على السلطان المولى محمد بن عريبة فقبضوا عليه وعلى قائده على فاس الشريف أبي محمد عبد المجيد المشامري ووضعوا في رجلي كل واحد منهما قيدا وأخرجوا ابن عريبة وعياله من دار الملك إلى داره التي على وادي ويسلن بجنان حمرية ووكلوا به جماعة من العبيد يحرسونه وكتبوا إلى أخيه المولى المستضيء بن إسماعيل بتافيلالت يستدعونه للقدوم عليهم ليملكوه الخبر عن دولة أمير المؤمنين المولى المستضيء بن إسماعيل رحمه الله
لما قبض العبيد على السلطان المولى محمد بن عريبة أعلنوا بيعة أخيه المولى المستضيء بن إسماعيل وكتبوا بذلك إلى الآفاق فساعدهم الناس عليه وبعثوا جريدة من الخيل على عادتهم لتأتي به فأقبل مسرعا ولما انتهى إلى مدينة صفرو لقيه أهل فاس بها في أشرافهم وعلمائهم وأدوا بيعتهم ورجعوا معه إلى فاس الجديد فأراح به وولى عليهم القائد أبا العباس أحمد الكعيدي فاستناب الكعيدي عليهم من قبله شعشوع اليازغي والحال ما حال والظلم ما زال ثم ارتحل السلطان المولى المستضيء إلى مكناسة فاحتل بها وبايعه العبيد البيعة العامة وقدمت عليه الوفود والقبائل والأمصار بهداياهم فقابلهم بما يجب واستتب أمره
____________________

ذكر ما صدر من السلطان المولى المستضيء من العسف والاضطراب
لما استقر السلطان المولى المستضيء بمكناسة كان أول ما بدأ به أن بعث بأخيه المولى محمد بن عريبة مقيدا إلى فاس ومنها إلى سجلماسة فسجن بها وبعث بقائده السيد عبد المجيد المشامري والشيخ أبي زيد عبد الرحمن الشامي يسجنان بفاس الجديد ونهبت دار المشامري وصودر إلى أن مات تحت العذاب ومثل به ثم بعث السلطان كتابه إلى أهل فاس ولكن رسم أن يقرأ بفاس الجديد ويحضر أعيان أهل فاس لاستماعه فارتابوا وتغيبوا ولم يحضر منهم الا نحو العشرين فقبض عليهم وسجنوا هنالك ثم وظف عليهم مال ثقيل لم يقوموا به
وافتقرت الدولة في أيام هذا السلطان واحتاج إلى المال ليقطع عنه لسان العبيد فأخذ في البحث عما في المخازن الإسماعيلية التي لم يلتفت إليها الملوك قبله فوقع على خزين من الحديد فاستخرجه وباعه ووقع على الخزين الكبير وفيه آلاف من قناطير الكبريت فباعها أيضا ووجد شيئا كثيرا من ملح البارود والشب والبقام وغير ذلك مما كان يجلب إلى الحضرة من غنائم أجناس الفرنج فباع ذلك كله ثم اقتلع شراجب القبة الشطرنجية وكانت من نحاس مذهب واقتلع الدرابيز التي عن يمينها وشمالها من الحديد المنتخب من باب الرخام إلى قصر المولى يوسف ودفعها لأهل الذمة وألزمهم أداء ثمنها فأجحف بهم ثم أنزل المدافع النحاسية التي كانت بأبراج الحضرة فكسرها وضربها فلوسا فما أغنى ذلك شيئا وقتل في هذه المدة نيفا وثمانين رجلا من عرب بني حسن وسلط العذاب على مساجين أهل فاس ليغرموا المال فغرموا ما قدروا عليه ثم أمر بالقبض على تجار أهل فاس ليشتروا أصول مساجينهم فعذبوا إلى أن أدوا بعض المال وعجزوا وأفتى العلماء أن هذا البيع الواقع في هذه الأصول صحيح تقديما لخلاص الأنفس على الأموال
____________________


ثم قبض هذا السلطان على شريف من الأشراف العراقيين من أهل حومة كرنيز اتهمه بأن الحرة خناثى بنت بكار استودعته مالا فضرب وامتحن ثم ولى على فاس المولى أبا حفص عمر المدني وكان رفيقه وجليسه فاستناب المولى أبو حفص على فاس رجلا يقال له ابن زيان الأعور وتقدم إليه في مصادرة أشراف فاس واستصفاء أموالهم فامتثل ابن زيان أمره وما قصر وكان الحامل لأبي حفص على هذا أن داره بفاس كانت قد نهبت أيام المولى محمد بن عريبة ولم ينكر ذلك أحد من أهل فاس فحقدها أبو حفص عليهم إلى أن أدالته الأيام منهم في هذه المرة ففعل ابن زيان ما فعل فأمر السلطان المولى المستضيء بالقبض على ابن زيان وأن يطاف به على حمار والسياط في ظهره وهو يقول هذا جزاء من يؤذي الأشراف فطيف به ثم أزيل رأسه وعلق على باب المحروق هذا والأشراف لا زالوا في العذاب ثم أمر بمساجين أهل فاس فحملوا إليه في السلاسل والأغلال ثم قتلوا بباب القصبة عن آخرهم وأمر بإخراج ولد مامي من الحرم الإدريسي فلما وصل إليه قتله وأسرف المولى المستضيء في القتل والعسف وأراد أن يتشبه بأخيه المولى عبد الله الذي جرد السيف وبسط الكف فغطى سخاؤه عيبه وهيهات فقد كان المولى المستضيء مسيكا مهزوم الراية على ما قيل تغمدنا الله وإياه والمسلمين بالرحمة والعفو والغفران ثم قتل القائد غانما الحاجي ووالي مكناسة القائد سعدون وستة من أولاد الزياتي أصحاب السجن
ثم إن السلطان المولى عبد الله أغرى البربر الذين كان مقيما فيهم بشن الغارات على الودايا والعيث في طرقاتهم ففعلوا وانقطعت السبل وتعذر المعاش وكان المولى زين العابدين بن إسماعيل محبوسا عند أخيه السلطان المولى المستضيء فأمر بإخراجه وإحضاره بين يديه فأحضر وضرب ضرب التلف وبعث به مقيدا إلى تافيلالت ليسجن مع بعض أشرافها فبعث العبيد جماعة منهم فانتزعوه من يد حامليه وبعثوا به إلى القائد أبي العباس أحمد الكعيدي ببني يازغة وتقدموا إليه في الاحتفاظ به والاعتناء بشأنه
____________________

إيقاع الباشا أبي العباس أحمد بن علي الريفي بأهل تطاوين
قد قدمنا ما كان من إغارة الباشا أبي العباس أحمد بن علي الريفي صاحب طنجة على أهل تطاوين وهزيمة أبي حفص الوقاش له وفتكه بأصحابه فاستحكمت العداوة بين الريفي والوقاش من يومئذ وبقي الريفي يتربص به الدوائر ويترصد له الغوائل إلى أن بويع السلطان المولى المستضيء في هذه المدة فلم يقدم عليه أحد من أهل تطاوين ولا دخلوا في بيعته فوجد أبو العباس الريفي السبيل بذلك إليهم وأغرى بهم السلطان المذكور ودس إليهم أنهم شقوا العصا وخالفوا الأمر مع ما كان قد نقل عن الفقيه أبي حفص في تلك القصيدة من التصريح بطلب الملك فنجع ذلك في المولى المستضيء وكتب إليه يأمره يالإيقاع بأهل تطاوين فاغتنمها أبو العباس الريفي واقتحم تطاوين في جموعه على حين غفلة من أهلها وانتهبها وقتل من أعيانها نحو الثمانمائة ووظف على من بقي منهم مالا ثقيلا وهدم أسوارها ونظمها في سلك ما كان مستوليا عليه وبنى بها دار الإمارة الموجودة الآن شغب العبيد على السلطان المولى المستضيء وفراره إلى مراكش
لما كان منتصف ذي القعدة من سنة اثنتين وخمسين ومائة وألف شغب العبيد بمكناسة على السلطان المولى المستضيء وتآمروا في عزله ومراجعة طاعة أخيه المولى عبد الله ولما أحس المولى المستضيء بما أجمعوا عليه خرج من مكناسة في شيعته وأنصاره قاصدا ضريح الشيخ أبي محمد عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه فتبعه المولى عبد الله في جمع من العبيد فأدركوه ببعض الطريق فكر عليهم وقاتلهم حتى رجعوا عنه ومضى لوجهه إلى أن وصل إلى طنجة فأقام بها نحو الشهرين عند أحمد بن علي الريفي
____________________


ومنها توجه إلى مراكش فإنهم كانوا قد بايعوه وكان أخوه المولى الناصر نائبا عنه بها ولما استقر بمراكش كاتب قبائل الحوز يستصرخهم على أخيه المولى عبد الله ويستنفرهم للخروج معه إليه فتقاعدوا عنه لأن عبدة والرحامنة وأهل السوس كانوا شيعة للمولى عبد الله ولم يبق في حزب المولى المستضيء إلا أهل دكالة أخواله وبنو حسن عرب الغرب ولما رأى المولى المستضيء تقاعد قبائل الحوز عنه أقام بمراكش يزجي الأيام إلى سنة خمس وخمسين ومائة وألف والباشا أبو العباس الريفي صاحب طنجة يفتل للعبيد في الذروة والغارب إلى أن بايعوه ثانية بعد أخيه المولى زين العابدين وبعد خلع السلطان المولى عبد الله حسبما نذكره بعد إن شاء الله مراجعة العبيد طاعة السلطان المولى عبد الله ودخولهم في دعوته
قد قدمنا أن السلطان المولى عبد الله كان مقيما في هذه المدة عند البربر وأنه تبع المولى المستضيء عند خروجه من مكناسة ثم رجع عنه ولما بلغه خبر مسيره إلى مراكش سار في اعتراضه إلى أن بلغ قصبة وادي آلزم فلم يقف له على خبر فأقام يتجسس أخباره إلى أن اتفق العبيد على بيعته وهو بآلزم فبايعوه أوائل سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف وكتبوا بيعتهم وبعثوا بها إليه مع بعض خاصتهم وكتبوا مع ذلك إلى أهل فاس والودايا في الموافقة فوافقوهم وبايعوا السلطان المولى عبد الله وخطبوا به على منابرهم وزينت فاس ولما انتهى الحال إلى هذا الحد فر الوزير أبو الحسن علي العميري من مكناسة إذ كان وزير المولى المستضيء واحترم أخوه القاضي أبو القاسم العميري بضريح بعض صلحاء مكناسة وبعث أهل فاس جماعة من أشرافهم وعلمائهم ببيعتهم إلى السلطان المولى عبد الله ومعهم جماعة من التجار وحجاج الركب الحجازي بهداياهم هذا كله والسلطان لا زال
____________________

مقيما بقصبة آلزم وتولى العبيد بمكناسة النقض والإبرام لتأخر مجيء السلطان وظهر منهم الإدلال والاستبداد على الدولة وبعثوا من قبلهم القائد أبا محمد عبد الله الحمري واليا على فاس وقالوا عن أمر الديوان وكثر القطاع بالطرقات واللصوص بالمدينة وعادت هيف إلى أديانها مجيء السلطان المولى عبد الله إلى مكناسة وما ارتكبه من أهلها
وفي خامس عشر رجب سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف تحرك السلطان المولى عبد الله من آلزم وقدم مكناسة فقبض على قاضيها الفقيه أبي القاسم العميري والسيد أبي العباس أحمد الشدادي والعباس بن رحال والفقيه المليتي وأزال عمائمهم وفضحهم وقال لهم كيف تزوجون حرمي من أخي وأنا حي ونكل بهم النكال الشديد ثم أمر بسحبهم إلى السجن وأعطى دار القاضي العميري أحد العبيد وقال لهم من أراد منكم دارا بمكناسة فليأخذها فامتدت أيدي العبيد في الناس حتى صاروا يقفون بالأبواب ويقول العبد لصاحب الدار إن سيدي قد أعطاني دارك أو أعطاني ابنتك فيفتدي منه بالمال ولحقهم من العبيد فوق ما يوصف ومن شكى منهم عوقب وسجن والسلطان مقيم بباب الريح لم يدخل القصبة التي كان بها المولى المستضيء
وولى في هذه المدة على فاس شيخ الركب الحاج عبد الخالق عديل وولى على قضائها الفقيه أبا يعقوب يوسف بن أبي عنان وتقدم إليه في أن يعزل القضاة والخطباء الذين خطبوا بالمولى المستضيء في سائر البلدان
وأما الودايا فإنه لم يقدم على المولى عبد الله منهم أحد ولا بايعوه وكذا الباشا أحمد بن علي الريفي وأهل الريف والفحص وقبائل الجبل فاغتم المولى عبد الله لذلك ثم شفعت الحرة خناثى أم السلطان في قومها الودايا وبعثت إليه جماعة منهم فقبلهم وعفا عنهم
____________________

مجيء السلطان المولى سليمان من مراكش إلى القصر ثم مسيره إلى فاس وحصاره إياها
كان السلطان المولى سليمان رحمه الله في هذه المدة مقيما بمراكش وكان العبيد قد ندموا على ما فرط منهم برباط الفتح من التخلف عن السلطان ونهب أثاثه حسبما مر فجعلوا يتسللون إليه من مكناسة مثنى وفرادى حتى اجتمع عنده جلهم لا سيما من كان منهم معروفا بعينه مثل القواد وأرباب الوظائف ولما بلغه ما كان من بيعة المولى إبراهيم بن يزيد تربص قليلا حتى إذا بلغه خروجه إلى المراسي قلق وخرج من مراكش في جيش العبيد وبعض قبائل الحوز يبادره إليها ولما وصل إلى رباط الفتح عبر إلى سلا ونزل برأس الماء ولما حضرت الجمعة دخل المدينة فصلى بالجامع الأعظم منها ودخل دار الحاج محمد بن عبد الله معنينو من أعيان أهل سلا واستصحب معه الفقيه المؤقت أبا العباس أحمد بن المكي الزواوي من أهل سلا أيضا بقصد القيام بوظيفة التوقيت ولما وصل السلطان إلى قصر كتامة أتاه الخبر بدخول المولى إبراهيم إلى تطاوين فأقام هنالك وكتب إلى الودايا وإلى من بقي بمكناسة يحضهم على التمسك بالطاعة وكتب إلى ولده المولى الطيب بفاس الجديد يأمره أن يبعث إليه بالفقيه الأديب أبي عبد الله محمد أكنسوس وهو صاحب كتاب الجيش
قال أكنسوس فقدمنا على السلطان بريصانة على مرحلتين من القصر قاصدا تطاوين ومحاصرة المولى إبراهيم بن يزيد بها قال فورد عليه كتاب من عند القائد أبي عبد الله العربي السعيدي صاحب طنجة بوفاة المولى إبراهيم وبيعة أخيه المولى السعيد وأنهم قد عادوا به إلى فاس ولما تحقق بذلك رجع على طريق القصر يؤم فاسا ويسابق السعيد إليها فوافياها في يوم واحد فنزل السعيد بجموعه بقنطرة سبو ودخل السلطان دار الإمارة بفاس الجديد مع الودايا ولما كان فجر الغد في تلك الليلة أغارت خيل الودايا
____________________

شغب العبيد على السلطان المولى عبد الله وفراره ثانية إلى البربر
لما كان شهر ربيع الأول من سنة أربع وخمسين ومائة وألف شغب العبيد على السلطان المولى عبد الله وهموا بخلعه والإيقاع به فنذرت بذلك أمه الحرة خناثى بنت بكار ففرت من مكناسة إلى فاس الجديد ومن الغد تبعها ابنها السلطان المولى عبد الله ونزل برأس الماء فخرج إليه الودايا وأهل فاس وأجلوا مقدمه واهتزوا له فاستعطفهم السلطان وقال لهم أنتم جيشي وعدتي ويميني وشمالي وأريد منكم أن تكونوا معي على كلمة واحدة وعاهدهم وعاهدوه ورجعوا وفي أثناء ذلك بلغه أن أحمد بن علي الريفي قد كاتب عبيد مشرع الرملة وكاتبوه واتفق معهم على خلع السلطان المولى عبد الله وبيعة أخيه المولى زين العابدين وكان يومئذ عنده بطنجة وأنهم وافقوه فوجم لها السلطان المولى عبد الله ثم استعجل أمر المولى زين العابدين ففر المولى عبد الله إلى بلاد البربر كما سيأتي إن شاء الله الخبر عن دولة أمير المؤمنين زين العابدين بن إسماعيل رحمه الله
كان ابتداء أمر السلطان المولى زين العابدين أنه قدم مكناسة في أيام أخيه المولى المستضيء فلما سمع به أمر بسجنه قبل أن يجتمع به فسجن مدة ثم أمر يوما بإخراجه وضربه فضرب وهو في قيده ضربا وجيعا أشرف منه على الموت كما مر ومع ذلك فلم ينطق بكلمة ثم رده إلى السجن ثم أمر ببعثه مقيدا إلى سجلماسة كي يسجن بها مع بعض الأشراف المسجونين هنالك فلما سمع بذلك قواد رؤوسهم من العبيد بعثوا من رده من صفرو إلى فاس ومن هنالك بعثوا به إلى القائد أبي العباس أحمد الكعيدي ببني يازغة وأمروه أن يحتفظ به مكرما مبجلا
____________________


ثم لما فر المولى المستضيء عن مكناسة وراجع العبيد طاعة السلطان المولى عبد الله دخل المولى زين العابدين مدينة فاس فاطمأن بها وسر بولاية المولى عبد الله وخلع المولى المستضيء ثم ذهب إلى مكناسة وأقام بها مدة ثم سار إلى طنجة فقدم على صاحبها الباشا أحمد بن علي الريفي فأكرم وفادته وأحسن مثواه واستمر مقيما عنده إلى أن كاتب عبيد الديوان في شأنه ووافقوه في بيعته فبايعه الباشا أحمد وبايعه أهل طنجة وتطاوين والفحص والجبال وخطبوا به على منابرهم ثم هيأ له الباشا أحمد كتيبة من الخيل من عبيد الديوان وغيرهم وبعثهم معه إلى مكناسة فدخلها في ربيع سنة أربع وخمسين ومائة وألف وبويع بها البيعة العامة وقدمت عليه وفود القبائل والأمصار فقابلهم بما يجب وتم أمره
وفر السلطان المولى عبد الله من رأس الماء ودخل بلاد البربر ولم يقدم على المولى زين العابدين أحد من الودايا ولا من أهل فاس وكان فيه أناة وحلم لم يظهر منه عسف ولا امتدت يده إلى مال أحد إلا أنه لقلة ذات يده نقص العبيد من راتبهم فكان ذلك سبب انحرافهم عنه كما سيأتي بقية أخبار المولى زين العابدين وانقراض أمره
لما استقر السلطان المولى زين العابدين بحضرة مكناسة وتم أمره أقام بها نحو الشهرين ثم تهيأ لغزو الودايا وأهل فاس الذين تخلفوا عن بيعته فنهض إليهم في جيش العبيد منتصف جمادى الأولى سنة أربع وخمسين ومائة وألف ولما بات جيشهم بسيدي عميرة بقصد حصار فاس اختلفت كلمة العبيد ومن الغد قوضوا أبنيتهم وارتحلوا إلى مكناسة وكفى الله الودايا وأهل فاس شرهم إلا أنهم حرقوا بيادر الزرع التي كانت للودايا بالخميس ولما وصلوا إلى مكناسة نهبوا ثمار جناتها وأفسدوا ما قدروا عليه منها
____________________


وانصرف جمهورهم إلى مشرع الرملة والذين دخلوا مكناسة مع السلطان طالبوه في الراتب وشددوا في اقتضائه فلم يكن عنده ما يرضيهم به فشغبوا عليه ومرضوا في طاعته
هذا والسلطان المولى عبد الله مقيم بجبال البربر مطل على الحضرة ومتحفز للوثبة فلما علم بما المولى زين العابدين فيه من الاضطراب نزل من الجبل وتقدم حتى دخل فاسا الجديد وذلك في سادس عشر جمادى الآخرة من السنة فلقيه الودايا وأهل فاس واهتزوا لمقدمه وطاروا به سرورا ثم خرج من يومه إلى دار الدبيبغ فاحتل بها
ولما اتصل خبره بأخيه المولى زين العابدين ضاق ذرعه وخشعت نفسه وأصبح غاديا من مكناسة إلى حيث يأمن على نفسه معرضا عن الملك وأسبابه فكان ذلك آخر العهد به إلى أن توفي رحمه الله الخبر عن الدولة الثانية لأمير المؤمنين المولى عبد الله رحمه الله
لما فر السلطان المولى زين العابدين عن مكناسة اجتمع العبيد واتفقوا على أن يراجعوا طاعة السلطان المولى عبد الله فبعثوا طائفة من قوادهم ووجهوها إليه فقدموا عليه منتصف رمضان من السنة المذكورة وهو بدار الدبيبغ فحيوه وأخبروه بأن إخوانهم قد خلعوا المولى زين العابدين وبايعوه فسر المولى عبد الله بقدومهم وخرج الودايا إلى العبيد فاختلطوا بهم وسروا بمقدمهم وأجروا الخيل في ميدان المسابقة واللعب بالبارود وزينت مدينة فاس وجددت البيعة العامة من الودايا وأهل فاس وقبائل العرب والبربر واستمر الحال على ذلك إلى آخر ذي القعدة من السنة فكان ما نذكره
____________________

مجيء المولى المستضيء من مراكش ومحاربته لأخيه المولى عبد الله وما يتبع ذلك
لما اجتمعت كلمة العبيد والودايا وسائر أهل بلاد الغرب على طاعة السلطان المولى عبد الله أقام رحمه الله بدار الدبيبغ واستمر الحال على ذلك إلى آخر ذي القعدة من سنة أربع وخمسين ومائة وألف فارتاب العبيد بمقامه هنالك ورفضه المقام بين أظهرهم بمكناسة التي هي دار الملك يومئذ فقلبوا له ظهر المجن على عادتهم واستدعوا المولى المستضيء من مراكش ليبايعوه
واتصل خبرهم بالمولى عبد الله وأنهم قد بعثوا الخيل إلى المولى المستضيء لتأتي به فأخذ السلطان من ذلك المقعد المقيم وشمر عن ساعد الجد وأخذ في تأليف قبائل العرب والبربر ووصل يد بعضهم ببعض ثم ألف بينهم وبين الودايا وأهل فاس وآخى بين الجميع فأعطوه صفقة أيمانهم بأنهم يموتون دونه فتم له منهم ما أراده وفي أثناء ذلك قدم الحاج أحمد السوسي من مراكش ودخل فاسا فتحدث عنه بأنه قد دس إلى أهل فاس في مراجعة طاعة المولى المستضيء والتمسك بدعوته ونمى ذلك إلى السلطان المولى عبد الله فأمر بقتله فقتل
ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة وألف ففي المحرم منها زحف المولى المستضيء من مراكش إلى بلاد الغرب ودخل مكناسة في جيش العبيد وبني حسن وغيرهم وقدم في ركابه الوزير أبو الحسن العميري وأخوه القاضي أبو القاسم وفي آخر المحرم المذكور ورد كتاب من عند القائد أبي العباس أحمد الريفي إلى أهل فاس يدعوهم إلى بيعة مخدومه المولى المستضيء والدخول في طاعته فصموا عن ذلك ونبذوه
____________________


وفي ربيع الأول من السنة المذكورة زحف المولى المستضيء في جيش العبيد إلى فاس وعسكر بظهر الزاوية خارجها ففر السلطان المولى عبد الله من دار الدبيبغ إلى آيت دارسن ومن الغد هاجت الحرب بين العبيد وبين الودايا وأهل فاس والحياينة وشراقة وأولاد جامع وهلك فيها من الفريقين عدد كثير وفي رابع ربيع الثاني قدم السلطان المولى عبد الله يجر أمم البربر خلفه من زمور وبني حكم وجروان وآيت آدراسن وآيت ومالو في عدد لا يحصيهم إلا خالقهم وفي شارة من اللباس وشكة من السلاح تسر الصديق وتسوء العدو
ولما عاين المولى المستضيء وعبيده تلك الجموع وعلموا أنهم لا طاقة لهم بحربهم اتخذوا الليل جملا وأسروا إلى مأمنهم ونجوا بأنفسهم واصبحت الديار منهم بلاقع فسر الناس بذلك وشكروا الله على انفضاض تلك الجموع بلا قتال
وفي سادس جمادى الأولى من السنة توفيت أم السلطان الحرة خناثى بنت بكار المغفرية رحمها الله وكانت فقيهة أديبة ودفنت بقبور الأشراف من فاس الجديد
وفي جمادى الثانية منها حدثت فتنة بفاس بين الحاج عبد الخالق عديل والشريف المولى أبي عبد الله محمد الغالي الإدريسي فشكاه عديل إلى السلطان فأمر بالقبض عليه فعاذ الشريف بضريح جده رضي الله عنه فألزم السلطان أهل فاس إخراجه فضيقوا عليه إلى أن طلب الأمان فأمنوه وساقوه إلى السلطان فوبخه ثم ضربه وسجنه ثم أمر أهل فاس بقتل أصحابه فقتلوهم
____________________

هدية السلطان المولى عبد الله رحمه الله إلى الحرم النبوي على مشرفه أفضل الصلاة والسلام
وفي هذه السنة أعني سنة خمس وخمسين ومائة وألف سافر الركب المغربي إلى الحرمين الشريفين فبعث معه أمير المؤمنين المولى عبد الله رحمه الله هدية نفيسة فيها ثلاثة وعشرون مصحفا بين كبير وصغير محلاة بالذهب مرصعة بالدر والياقوت ومن جملتها المصحف الكبير العقباني الذي كان الملوك يتوارثونه بعد المصحف العثماني الذي كان عند بني أمية بالأندلس وانتقل إلى هذه العدوة المغربية على يد عبد المؤمن بن علي حسبما مر الكلام عليه مستوفى وأما هذا المصحف العقباني فهو مصحف عقبة بن نافع الفهري الصحابي المشهور فاتح المغرب كان نسخه بالقيروان من المصحف العثماني على ما قيل وبقي متداولا بين أهل المغرب إلى أن وقع بيد الأشراف السعديين وأخذ فيه المنصور منهم العهد لولده الشيخ على إخوته كما مر
ولما وصل إلى هذا السلطان رحمه الله غربه من المغرب إلى الحرم الشريف فعاد به الدر إلى وطنه والإبريز إلى معدنه قال الشيخ أبو عبد الله المسناوي رحمه الله قد وقفت على هذا المصحف حين أمر السلطان المولى عبد الله رحمه الله بإخراجه وبعثه إلى الحجرة الشريفة فظهر لي أن تاريخ كتبه بالقيروان فيه نظر لبعد ما بينهما اه وبعث السلطان رحمه الله معه ألفين وسبعمائة حصاة من الياقوت المختلف الألوان للحجرة النبوية على الحال بها أفضل الصلاة وأزكى التحية وتقبل الله من السلطان عمله وأجزل ثوابه آمين
____________________

مشايعة الباشا أبي العباس الريفي للمولى المستضيء على المولى عبد الله وزحفه إلى فاس وما يتصل بذلك
لما دخلت سنة ست وخمسين ومائة وألف أقبل الباشا أبو العباس أحمد ابن علي الريفي في جموع الفحص والجبل والريف قاصدا فاسا وأعمالها حتى نزل بالعسال من مزارع فاس وذلك في الثاني والعشرين من المحرم منها وراود أهل فاس على الانحراف عن طاعة مولاي عبد الله فأبوا
وأقبل المولى المستضيء في جموع العبيد وعليهم القائد فاتح بن النويني حتى نزل قريبا منه في الثاني والعشرين من صفر ولما زحف هذان الجيشان إلى فاس اضطربت نواحيها ودهش الناس من هول هذا الريفي لأنه جاء في استعداد لم يعهد مثله وأرز الحياينة وشراقة وأولاد جامع إلى أسوار فاس ونزلت حللهم داخلها وخارجها وبعثروا مزارعها وجناتها وانتهبوا مواشيها وهلك الكثير منها جوعا وهزالا وماجت الفتنة موج البحر وارتفعت الأسعار ولقي الناس كل شدة وفي كل صباح ومساء ترعد المدافع وتقرع الطبول بمحلتي المولى المستضيء والريفي فاستعد الناس للحرب وركب السلطان المولى عبد الله من دار الدبيبغ في نحو عشرة من الخيل وأسرع إلى آيت أدراسن وهم بسهب عشار فدخل حلة عبد الله بن يشي منهم وقلب سرجه وسط جموعهم فالتف عليه من حضر منهم وقالوا ما الذي ناب مولانا فقال جئتكم لتنصروني على هذا الجبلي الذي كان خديمنا وعبدنا وأطغاه ما جمع من المال في خدمتنا ثم أراد أن يفضحنا وجرأه علينا أخوانا المستضيء وأراد الاستيلاء على بلادنا وهي في الحقيقة بلادكم وما قصد إلا إهانتكم وأنتم أحق من ينصر أهل البيت ولا يتحمل العار وعليكم السلام ثم ركب فرسه ورجع عوده على بدئه فلم يبت إلا بدار الدبيبغ ومن الغد زحف أحمد الريفي إلا بلاد الحياينة ظنا منه أنهم لا زالوا مقيمين بها فلما لم يجد بها أحدا رجع إلى محله الذي كان به ومن الغد
____________________

كانت حرب خفيفة بينه وبين الودايا ومن لافهم من الحياينة وشراقة وأولاد جامع ثم من الغد ركب أحمد الريفي في رماته وتقدم حتى وقف على كدينة تامزيزت فوق القنطرة وعبرت جموعه لارورات ثم عبر المولى المستضيء في جموع العبيد وخلفوا رماتهم ومدافعهم وأثقالهم بالمحلة وكتب المولى المستضيء كتائبه وصف جنوده بذلك البسيط وزحف الودايا وأهل فاس والحياينة وشراقة وأولاد جامع وجاءت البربر بجموعها فأشرفوا عليهم بالعين المقبوة إلى دار ابن عمرو ولما وقعت عينهم على جموع المولى المستضيء ووزيره الريفي بذلك البسيط صاحوا بهم وشدوا عليهم شدة رجل واحد فكانت الهزيمة واستحر فيهم القتل والسلب وازدحموا في القنطرة وتساقطوا في الوادي فهلك الكثير منهم والبربر في أثرهم يقتلون ويسلبون وأما الريفي فإنه لما رأى الهزيمة عليه لم يزد على أن ركب فرسه ونجا برأس طمرة ولجام على الحالة التي وصفها أبو الطيب إذ قال
( لا يأمن النفس الأقصى فيدركه ** فيسرق النفس الأدنى ويغتنم )
ولم يعرج هؤلاء ولا أحد من المنهزمة على المحلة حتى انتهى إليها البربر فتركوا اتباع المنهزمة واشتغلوا بنهبها فأتوا على ما فيها من الأخبية والكراع والأثاث الفاخر ولم يتركوا بها إلا المدافع والمهاريس وآلتها من كور وبنب وبارود فإن القائد أبا عزة صاحب الشربيل وقف على ذلك حتى حازه وعاد الناس وقد امتلأت أيديهم من الغنائم فلقيهم طوائف من البربر لم يكونوا قد شهدوا الوقعة فاستلبوا ما بأيديهم
قال صاحب البستان حدثني السلطان المرحوم سيدي محمد بن عبد الله عن هذه الوقعة وكان قد شهدها وهو في سن البلوغ قال بعثني والدي مع أخوالنا الودايا فلما هبت رياح النصر وانهزم العدو في ساعة واحدة وكنت يومئذ في خمسين فارسا بين ودايا وأصحاب تقدمنا إلى المحلة فوقفنا على قبة الباشا أحمد وأحرزناها ثم أمرت الحمارة فحملوا لنا من صناديق
____________________

الريال على عشرين بغلة ومن الملف والكتان على ثلاثين جملا لعرب بداوة أصحاب الإبل وحملوا لنا قبتين إحداهما لأحمد الريفي والأخرى أظنها للمولى المستضيء وأما العرب والبربر والودايا وأهل فاس فقد أخذت كل طائفة بناحية تحمل ما قدرت عليه ثم لما انفصلنا عن المحلة قافلين لقيتنا كتائب من البربر الذين لم يحضروا الوقعة وبنفس ما خالطونا طاروا بما في أيدينا حتى لم ندر أين البغال ولا الإبل وانفرد بكل بغلة وجمل جماعة من الخيل خمسون أوستون أو أكثر ولم يجتمع منا اثنان وعدنا كما جئنا وهكذا وقع لكل من انتهب شيئا من حزبنا إلا من دخل مع البربر في حصتهم ولما فرغ الناس من النهب اشتغل عبيد السلطان بجمع الرؤوس فكان عددها ما بين أبيض وأسود نحو التسعمائة فيها رأس الباشا فاتح بن النويني ثم بعث السلطان المولى عبد الله البغال لجر تلك المدافع والمهاريس وحمل الكور والبنب فسيق ذلك كله إلى دار الدبيبغ ثم بعث بغالا أخرى لحمل البارود وكان ثلاثمائة برميل في كل واحد قنطار من البارود الجيد فأدخل ذلك كله لخزين فاس قال السلطان المرحوم سيدي محمد بن عبد الله في حديثه وكان هذا أول بعث بعثني فيه والدي وأول حرب شهدتها وأنا يومئذ في سن البلوغ وكان لي ولوع باللعب بالرمح والمطاعنة به إلى أن مهرت فيه اه كلامه
ولما اجتاز المنهزمة بجبل الزبيب اعترضهم أهله وقاتلوهم فقتلوا في جملتهم سيدي محمد بن المستضيء يظنونه من أهل الريف ثم خلص الريفي وأصحابه إلى طنجة بعد غصب الريق وكان أمر هذه الوقعة فتحا عظيما على أمير المؤمنين المولى عبد الله وشيعته
قال في نشر المثاني فراجع طائفة من العبيد طاعة مولاي عبد الله وجاءته قبائل المغرب بالهدايا من كل ناحية فتألفهم وألان لهم القول وأمر العبيد بالمسير إلى طنجة لحرب الريفي فساروا ثم رجعوا ولم يلقوا كيدا
____________________

معاودة أحمد الريفي غزو فاس وما كان من أمره مع السلطان المولى عبد الله إلى حين مقتله
لما وصل أحمد الريفي إلى طنجة أخذ في إخلاف ما ضاع له ولقومه من خيل وسلاح وأخبية ونحوها وجدد لجيش العبيد من ذلك ما جدده لأهل الريف وأخذ في الاستعداد لمعاودة غزو فاس وأقسم أن لا يأكل لحما ولا يشرب لبنا حتى يدخل فاسا وينهبها كما انتهبوا محلته
وبعث إلى سلطانه المولى المستضيء بمائتي فرس ومائتي خباء وألف مكحلة وخمسين ألف مثقال يفرقها على العبيد يتقوون بها وضرب له موعدا يجتمعون فيه على حرب السلطان المولى عبد الله وشيعته من الودايا وأهل فاس فكان أمر الريفي فيما أنفقه كما قال تعالى { فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون } الأنفال 36
ولما كان شهر جمادى الأولى من سنة ست وخمسين ومائة وألف خرج أحمد الريفي من طنجة قاصدا حضرة فاس في أكمل شكة وأحسن استعداد ولما انتهى خبره إلى السلطان المولى عبد الله لم يسعه التخلف عن لقائه فكتب إلى عرب الحياينة وشراقة وأولاد جامع وكتب إلى عرب الغرب من سفيان وبني مالك وسائر شيعته يستنفرهم ويحضهم على نصرته وفرق الراتب على العبيد والودايا وزرارة وأخرج أهل فاس بعثهم الذي عينوه على العادة وكتب السلطان إلى آيت أدراسن وجروان يخبرهم بعزمه على مصادمة الريفي وجمعه ويقول لهم إن أردتم المال والغنيمة فتأهبوا للنهوض إلى طنجة فخف ناس منهم وقدم عليهم منهم ألفان من الخيل وأكثر منها رماة
ثم خرج السلطان من فاس أواخر جمادى الأولى ونزل على وادي سبو وأقام به إلى أن عرض عساكره ورتبها فجعل رماة عبيده ورماة أهل فاس رحى واحدة وعقد عليهم للقائد أبي عزة صاحب الشربيل وجعل الودايا
____________________

وزرارة وأهل السوس خيلهم ورماتهم رحى واحدة وعقد عليهم لحاجبه القائد عبد الوهاب اليموري وسار على هذه التعبية فلقيه شراقة وأولاد جامع وأولاد عيسى فجعلهم رحى واحدة وعقد عليهم للشيخ أبي العباس أحمد بن موسى الشرقي ولما عبر وادي ورغة لقيه أهل الغرب في جموعهم ينتظرونه هنالك فباتوا معه تلك الليلة بعين قرواش ومن الغد جعل بني مالك في رحى وعقدهم عليهم لقائدهم أبي سلهام الجمادي وجعل سفيان في رحى وعقد عليهم لقائدهم عبد الله السفياني وسار على هذه التعبية في ظل النصر والسعادة
وأما المولى المستضيء في العبيد وبني حسن فإنه لما بلغه نهوض السلطان المولى عبد الله من فاس خالفه إلى مكناسة دار الملك فدخلها على حين غفلة من أهلها وعاث وانتهب وفعل فيها بنو حسن الأفاعيل من سبي النساء والذرية وغير ذلك ثم تدارك أهل مكناسة أمرهم وتجمعوا لحرب عدوهم فقاتلوا بني حسن في وسط المدينة وردوهم على أعقابهم وقتلوا منهم ما لا يحصى ورجعوا منهزمين وأما أحمد الريفي فإنه زحف إلى القصر في جموع لا تحصى من أهل الريف والفحص والجبل وأهل العرائش والقصر والخلط وطليق وبداوة وغيرهم وأقام ينتظر سلطانه المولى المستضيء وجمعه
ولما أبطأ عليه واتصل به خبر زحف السلطان المولى عبد الله إليه ارتحل من القصر عامدا نحوه فالتقى الجمعان عشية ذلك اليوم بدار العباس على وادي لكس وقال في نشر المثاني كان اللقاء بالموضع المسمى بالمنزه من أحواز القصر في رابع جمادى الآخرة سنة ست وخمسين ومائة وألف
ولما تراءى الجمعان هم جيش السلطان المولى عبد الله بالنزول فقال السلطان رحمه الله لا نزول إلا على الغنيمة أو الهزيمة ثم عبر إليهم في جنوده وأعجلهم على النزول وصمد إليهم في كتيبة من أخواله وعبيده فخالط
____________________


مقدمتهم ففضها وكان فيها أهل الفحص وبداوة وطليق والخلط ثم ظهرت كتيبة أهل الريف التي فيها قلب العسكر وحده وفيها الباشا أحمد بن علي فحمل عليها السلطان حملة ثانية ألحقها بالمقدمة وتقوضت جموع الريفي من كل جانب وانهزموا للحين ومروا على وجوههم لا يلوي حميم على حميم ومضى جيش السلطان في أثرهم يقتلون ويسلبون إلى أن جنهم الليل وقتل الريفي في المعركة وبقيت الأبنية والأثقال بيد السلطان كما هي فنزل بها بدار العباس وعادت العساكر مساء بالغنائم وبرأس الباشا أحمد بن علي الريفي عرفه بعضهم بين القتلى فأزال رأسه وأتى به السلطان فسر به وبعث به إلى فاس فعلق بباب المحروق وانقضى أمل أحمد الريفي وذهبت أيامه و { كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } الرحمن 26 وقد خلف هذا الريفي آثارا كثيرة بطنجة وتطاوين وأعمالها من أبنية وغيرها تشهد بعلو همته رحمه الله زحف السلطان المولى عبد الله إلى طنجة واستيلاؤه عليها
لما فرغ السلطان المولى عبد الله رحمه الله من أمر الريفي أصبح غاديا يؤم طنجة ولما شارفها خرج إليه رجالها يحملون المصاحف على رؤوسهم والصبيان يحملون الألواح بين أيديهم مستشفعين تائبين فعفا عنهم إلا من كان من بطانة أحمد الريفي ودخل السلطان طنجة واستولى عليها وأمر بالاحتياط على دار الريفي ومتاعه ثم أمر الخواجا عديلا في جماعة من تجار فاس بإحصاء ما بدار الريفي فدخلوها وتطوفوا خزائنها واستخرجوا ما فيها من مال وسلاح وسروج وكسى وملف وكتان وفرش وخرثي وأثاث يفوق الحصر فأحصى ذلك كله وأحصى العبيد والإماء والخيل والبغال وجميع الماشية من إبل وبقر وغنم فجيء من ذلك بشيء كثير فأعطى الماشية كلها للبربر ثم
____________________


أطلق يد الجيش على الأمراس فانتشلوا ما فيها من قمح وشعير فأتوا عليه ثم تتبع حاشية الريفي من عمال وكتاب وغيرهم ممن كان له به اتصال فاستصفى ما عندهم من المال والذخيرة إلى أن استوفى غرضه
وكان هذا الريفي قد رسخ مجده بطنجة وأعمالها وعظمت ثروته لامتداد الدولة له ولأبيه بها منذ الفتح فكان ظفر السلطان المولى عبد الله بخزائنه من باب الظفر بالكنوز القارونية وقدمت عليه في أثناء ذلك وفود القبائل التي هنالك فعفا عنهم وأمنهم وأقام رحمه الله بطنجة أربعين يوما وانقلب راجعا إلى فاس مؤيدا منصورا وبالله التوفيق اعتراض المولى المستضيء للسلطان المولى عبد الله وعود الكرة عليه ومقتل بني حسن
لما انهزم المولى المستضيء من مكناسة بعد إيقاعه بأهلها خرج إلى حلة بني حسن وأقام بين أظهرهم فاتصل به خبر مقتل ناصره ووزيره على أمره أحمد الريفي ففت ذلك في عضده وهد أركانه ثم لما بلغه فتح طنجة واستيلاء السلطان عليها استأنف جده وأرهف حده وأخذ في تحريض العبيد وبني حسن على تجديد البعث والنهوض لاعتراض أخيه السلطان المولى عبد الله مرجعه من طنجة فخرج كبير بني حسن يومئذ وهو قاسم أبو عريف يطوف في أحيائها ويستنفر جموعها وخرج المولى المستضيء في لمة من وجوه العبيد إلى مشرع الرملة فجهز بها عشرة آلاف فارس من عبيده ووافاه قاسم أبو عريف بمثلها من بني حسن فكان مجموع الجيشين عشرين ألفا سوى من انضاف إليهم ثم ساروا لاعتراض السلطان ولا علم له بهم
وقدم المولى المستضيء أمامه الطلائع والعيون فعادوا إليه بخبر السلطان وأنه بائت تلك الليلة بدار العباس فصبحه المولى المستضيء في جموعه على حين غفلة منه فلم يرع السلطان المولى عبد الله إلا نواصي الخيل مقبلة
____________________

إليه فعبأ جيشه على عجل وأقام الرماة حوالي المحلة ثم صمد إليهم في الخيل وأنشب القتال فلم تكن إلا ساعة حتى انهزم بنو حسن وولوا الأدبار وكانوا ميمنة الجيش وثبت المولى المستضيء والعبيد في الميسرة فصمد إليه السلطان وصدقه القتال فهبت ريح النصر وتمت الهزيمة على المولى المستضيء وعبيده ومروا على وجوههم لا يلوون على شيء فجرد السلطان مع القائد أبي عزة صاحب الشربيل كتيبة من الخيل في أثرهم وتقدم إليهم أن لا يقتلوا أحدا من العبيد وإنما يجردونهم لا غير فلم يقتل أحدا من العبيد في هذه الوقعة واستحر القتل في بني حسن فهلك منهم ما ينيف على الألف وانتهب منهم أكثر من خمسة آلاف فرس ومن السلاح مثل ذلك وهذه الوقعة هي التي خضدت شوكة بني حسن وفلت من غربهم ونجى المولى المستضيء في فلهم وأقام بحلتهم ينتظر أن تدول له دولة لأنهم كانوا شيعته كأهل دكالة وأهل مراكش وكان أخوه المولى الناصر خليفته على مراكش كما مر
وقفل السلطان المولى عبد الله إلى فاس الجديد فاحتل بها وفرق المال على أخواله وعبيده وأسهم لأهل فاس وأقام بدار الدبيبغ إلى أن دخلت سنة سبع وخمسين ومائة وألف فقدم عليه في شهر ربيع الثاني منها جماعة من قواد العبيد تائبين خاضعين متنصلين مما فرط منهم فعاتبهم وقال لهم لا كلام اليوم بيني وبينكم حتى أقطع دابر بني حسن ومن معهم من شيعة المستضيء ثم عفا عنهم وأعطاهم الراتب وأمرهم بالقدوم عليه إلى مكناسة بقصد غزو بني حسن فعادوا إلى مشرع الرملة عازمين على ذلك وأخذ هو في الاستعداد أيضا ونهض من فاس في جيش العبيد والودايا وأهل فاس والحياينة وشراقة وأولاد جامع وعرب الغرب ولما انتهى إلى مكناسة وافاه بها عبيد مشرع الرملة في وجوههم وأهل الحل والعقد منهم فجددوا التوبة واستأنفوا البيعة بمحضر القضاة والعلماء وأعطوا صفقة الطاعة من عند آخرهم والله غالب على أمره
____________________

نهوض السلطان المولى عبد الله إلى بلاد الحوز وتدويخه إياها وإجفال المولى المستضيء عنها
كان المولى المستضيء في هذه المدة مقيما عند بني حسن كما قلنا ولما بايع العبيد السلطان المولى عبد الله واجتمعت كلمتهم عليه خرج في طلبه وطلب شيعته من بني حسن فسلك طريق الفج ليحول بين بني حسن والشعاب فصبحهم بسيط زبيدة وهم غارون والمولى المستضيء بين أظهرهم فلم يرعهم إلا الخيل تجوس خلال بيوتهم وتسوق أنعامهم وشاءهم وتنتهب أثاثهم ومتاعهم فانفضوا في كل وجه وتفرقوا شذر مذر وأفلت المولى المستضيء رحمه الله بجريعة الذقن وتوزعت العساكر السبي
وجاء بنو حسن يهرعون إلى السلطان طالبين عفوه فأمر بالكف عنهم ورد عليهم سبيهم وترك لهم خيلهم ومضى إلى قبائل دكالة إذ اتصل به أن المولى المستضيء قد فر إليها فلما نزل قصبة أبي الأعوان ونزلت عساكره أمامه بذلك البسيط من دكالة فر أهلها مع المولى المستضيء إلى التلول ونزلوا قرب دمنات وشرعت عساكر السلطان في انتشال الحبوب من الأمراس واستخراج الدفائن من الهميل وتخريب القرى وتقطيع الأشجار وكلما فرغت من ناحية انتقلت إلى غيرها متقلبة في ذلك البسيط نحو السنة والسلطان مقيم بالقصبة إلى أن اكتسح أرض دكالة وتركها أنقى من الراحة ليس بها ما يأكله الطائر أو يتظلل الحائر ثم انتقل إلى بلاد السراغنة ولما توسطها قدمت عليه وفودها ووفود سائر قبائل تلك الجبال بمؤناتهم وهداياهم فقبلهم وعفا عنهم ثم انتقل إلى ناحية دمنات ففر أهل دكالة والمولى المستضيء أمامه إلى جبال مسفيوة فتحصنوا بها وكانت مسفيوة قد
____________________

بايعته ودخلت في دعوته فتقدم السلطان المولى عبد الله حتى نزل بوادي الزات فقدمت عليه هنالك عرب الرحامنة وزمران وسائر أهل الحوز وكانوا متمسكين بطاعته فنزلوا معه بالوادي المذكور وعاثت العساكر في بلاد مسفيوة وأوسعوها نهبا وتخريبا والحرب في ذلك كله قائمة مع المولى المستضيء على ساق إلى أن صار وادي الزات أخرب من جوف حمار ثم انتقل السلطان إلى وادي كجي فعاثت فيه العساكر على عادتها وعجز أهل الدفاع فهدمت حصونهم وحرقت قراهم وقطعت أشجارهم وصار وادي كجي أوحش من وادي الزات فطلبوا الأمان وأعلنوا بالطاعة وجاؤوا مستشفعين بصبيانهم فقال لهم السلطان على شرط أن تأتوا بالمستضيء فقالوا إنه قد فر بالأمس ولو كان عندنا لأتيناك به فقبلهم وعفا عنهم ثم جاء أهل دكالة بنسائهم وذراريهم وقالوا هذه نساؤنا وأولادنا لك وأما المال فقد ذهب وما عندنا ما نقتاته فافعل بنا ما بدا لك فعفا عنهم وأذن لهم في الرجوع إلى بلادهم وكان ذلك أواخر سنة سبع وخمسين ومائة وألف
ولما دخلت سنة ثمان وخمسين بعدها ارتحل عن بلاد مسفيوة ونزل بقصبة آلصم بإشمام الصاد زايا وبها قدم عليه وفد من مراكش كما يأتي
وأما المولى المستضيء فإنه لما فر من مسفيوة قدم مراكش وحاول الدخول إليها فصده أهلها عنها ورفضوا دعوته وأعلنوا بنصر السلطان المولى عبد الله بمرأى منه ومسمع فلم يبق له حينئذ بمراكش مطمع وكان أخوه المولى الناصر قد مات يومئذ فأخرجوا إليه أثاثه فتسلمه منهم وكر راجعا إلى بلاد الفحص فلم يزل تلفظه أرض إلى أرض إلى أن احتل بطنجة قانعا من الغيبة بسلامة المهجة وسيأتي تمام خبره بعد إن شاء الله
____________________

وفادة أهل مراكش على السلطان المولى عبد الله بآلصم واستخلافه ولده سيدي محمدا عليهم
لما طرد أهل مراكش المولى المستضيء عن بلادهم تآمروا فيما بينهم وأجمعوا الدخول في طاعة السلطان المولى عبد الله وعينوا جماعة من وجوههم وأوفدوها عليه وهو بقصبة آلصم فانتهوا إليه وقدموا بيعتهم وأخبروه بما كان من المولى المستضيء وما عاملوه به من الصد والإبعاد فقبلهم وعفا عنهم بعد العتاب ثم طلبوا منه هم وقبائل الحوز أجمع أن يطأ بلادهم ويدخل مصرهم فوعدهم بذلك ولم يبرح من مكانه إلى أن وفدت عليه قبائل الدير كله فلما تفقد الجيش الذي خرج به من مكناسة وجد أكثره قد فر ولم يبق معه من العسكر المخزني إلا النصف وأما القبائل فلم يبق معهم منه إلا أعيانهم في الأخبية لطول الغيبة وكثرة الحروب وقلة الزاد فلم يمكنه التقدم إلى مراكش على تلك الحال وإنما تألفهم بأن دفع لهم ولده المولى محمدا رحمه الله وقال لهم إني استخلفته عليكم فرضوا به وقرت أعينهم فكان ذلك أول ما انغرست شجرة الدولة العلوية بمراكش حتى صارت حضرتها ودار ملكها بعد أن كانوا لا يبغون بمكناسة بدلا
ثم بعث السلطان ولده المولى أحمد وكان أسن من المولى محمد خليفة عنه برباط الفتح وأضاف إليه قبائل الشاوية وبني حسن ثم أذن السلطان لعامل فاس عبد الخالق عديل في الرجوع إلى فاس فمرض بالطريق ومات بعد أن دخل فاسا ودفن بزاوية سيدي عبد القادر الفاسي
ثم رجع السلطان إلى مكناسة على طريق تادلا بعد أن أقام ببلاد الحوز سنة كاملة فقدمها في شهر ربيع الثاني سنة ثمان وخمسين ومائة وألف ولما شارف مكناسة لم يدخلها ونزل بقصبة أبي فكران فقدم عليه بها جماعة من المجاهدين أهل الريف من طنجة فوق المائة ومعهم زوجة الباشا أحمد الريفي وولداها منه فقدمت هدية عظيمة فقبض السلطان الهدية وقتل الولدين ومن
____________________


معها من أهل الريف ثم قتل معهم ثلاثمائة من بني حسن كانوا قدموا عليه للتهنئة فكان ذلك سبب نفرة الناس عنه فساءت عنه الأحدوثة وكثرت القالة من الجيش والرعايا حتى في الأسواق وانقبض الناس عنه حتى أهل فاس فضلا عن غيرهم مكر السلطان المولى عبد الله بأعيان البربر وإخفار ذمة محمد واعزيز فيهم ثم إطلاقهم بعد ذلك
لما صدر من السلطان المولى عبد الله ما صدر من قتل أهل الريف وبني حسن وانقباض الناس عنه انقبض في جملتهم البربر فلم يأته منهم أحد وكانوا قد حرثوا بأحواز مكناسة فلما أدرك زرعهم أمر السلطان العبيد بانتهابه فعمدوا إليه وحصدوه ودرسوه وأكلوه فازدادت نية البربر فيه فسادا
ولما رأى انقباضهم عنه كاتب كبيرهم محمدا واعزيز وكانت بينهما خلة ومصافاة حتى كان يقول له أنت أبي إذ كان محمد واعزيز هذا هو الذي حشد له جموع البربر وشايعه على عدوه أحمد الريفي حتى قتله فكتب إليه يلومه على انقباضه عنه وتخلف قبيله عن الحضور ببابه مع أنهم شيعته ومواليه فلما ورد عليه كتاب السلطان لم يسعه التخلف عن إجابته واستشار في ذلك قومه فلم يوافقوه فراجعهم فقالوا ألا ترى إلى ما وقع بمن وفد عليه من غيرنا فقال لا ترون إلا الخير ولم يزل بهم حتى غلبهم على رأيهم وتفرقوا عنه لجمع الهدية وتعيين الوفد فجمعوا من ذلك ما قدروا عليه ثم أتوه فأعادوا عليه القول وحذروه الغدر فقال هذا لا يكون ولستم مثل أولئك فما وسعهم إلا إجابته وأقبلوا معه حتى انتهوا إلى قصبة أبي فكران حيث هو السلطان فاجتمعوا بالحاجب أبي محمد عبد الوهاب اليموري فلما رآهم بهت وتحركت منه الرحم البربرية لكنه لم
____________________


يمكنه ردهم بعد بلوغهم إلى ذلك المحل وكانوا نحو المائة كلهم أعيان فترجلوا عن خيولهم ووضعوا أسلحتهم ثم دخلوا على السلطان المولى عبد الله فوجدوه جالسا على كرسيه بوسط القلعة فأدوا واجب التحية فأجابهم وأمرهم بالجلوس فجلسوا بين يديه ثم دخل الحرس والزبانية فوقفوا على رؤوسهم وأحاطوا بهم وأخذ السلطان في معاتبتهم على ما يرتكبونه في الطرقات والغارات على المستضعفين من الأعراب وغيرهم وانتهاب بضائع التجار وما كانوا يعاملون به عساكر الملوك من النهب والسلب وعدد عليهم الحسائف القديمة والأفعال الذميمة ثم أمر الحرس بالقبض عليهم فانقضوا عليهم انقضاض العقبان ولم يكن بأسرع من أن ألقوا بين يديه مقرنين في الحبال ولم يقبض على محمد واعزيز من بينهم فقال له يا مولانا أغدرا بعد أمان ولست من أهله فقال له إن هؤلاء القوم قد حادوا عن الدين وحل مالهم ودمهم لخروجهم عن الطاعة وشقهم عصا الجماعة وقد أعياني أمرهم وما عدت إلى هذا الأمر بعد خروجي منه إلا من أجلهم أردت أن أقابل هذا التيس الأسود يعني العبيد بهذا الكبش الأبيض يعني البربر وأستريح من غصة من هلك منها وأتمسك بالآخر ولولا أنك بمنزلة والدي ما أطلعتك على ما في ضميري فقم في حفظ الله ولا بأس عليك فقال محمد واعزيز والله لا أقوم ولا أكون إلا مع إخواني حيثما كانوا فإن هلكوا هلكت معهم ويكون لك غدرك وإن سلموا سلمت معهم ولا يتحدث الناس أني سقتهم إلى الذبح ورجعت أنا سالما فبأي وجه أسير إلى أولادهم وأي أرض تحميني من عشيرتهم وإلى أين أقصد فإن كان لا بد من القتل فقتلك لي معهم أجمل بي ولا إثم عليك في ذلك ولا عار لأني أنا الذي سقتهم إليك وأرحتهم عليك بعد أن عرضوا علي هذا كله فلم أقبل منهم فلما سمع السلطان هذا الكلام العالي وتمكنت منه صولته الحقة جعل يتدبره ثم التفت إلى الحاجب عبد
____________________

الوهاب وقال يا عبد الوهاب لا خير في الرجل يقول للرجل أبة ثم لا يشفعه في جماعة من قبيلة خلوا عنهم فسرحوهم وخرجوا كأنما نشروا من القبور فركبوا خيلهم وساروا إلى حلتهم ولسان حالهم ينشد ما قاله الأعرابي الذي بال بواسط فضربه الحجاج وسجنه ثم أطلقه
( إذا نحن جاوزنا مدينة واسط ** خرئنا وبلنا لا نخاف عقابا ) زحف البربر إلى السلطان المولى عبد الله بأبي فكران وفراره إلى مكناسة
لما خلص جماعة البربر إلى حلتهم أقبلوا على محمد واعزيز وعاتبوه على ما حملهم عليه من الوفادة على السلطان والقرب منه حتى جرى عليهم ما جرى مع أنهم كانوا في غنى عن ذلك كله وقالوا له نحن متنا وبعثنا ولا بد لنا من الأخذ بالثأر فقال شأنكم وما تريدون فخلصوا نجيا وتفاوضوا في شأنهم إلى أن أجمع رأيهم على غزو السلطان لمضي ثلاث ومن تخلف عنها أحرقت خيمته فقال لهم محمد واعزيز إياكم والطرقات ثم افعلوا ما بدا لكم فتفرقوا لحللهم واستعدوا للحرب وأقبلوا في اليوم الرابع يجرون الشوك والمدر فلم يرع السلطان وهو بأبي فكران إلا الرايات قد أطلت عليه من الحاجب والخيل تسيل بها الأودية والشعاب فلم يسعه إلا أن حمل أثقاله وأركب عياله وجعلهم أمامه مع رحى من رماة المسخرين وأردفهم رحى أخرى من الخيل ثم تلاهم هو في موكبه وردفته رحى ثالثة من خيل العبيد جاءت من خلفه وانحدر في بطن الوادي وتفرق الجند عن يمين الوادي ويساره وسار السلطان على هذه التعبية وكلما دفعت خيل البربر على المسخرين من الجند أطلقوا عليهم شؤبوبا من الرصاص فيسقط منهم الأربعون والخمسون وإذا دفعت خيلهم على رحى الخيل فكذلك وعلى موكب السلطان فكذلك وهكذا إلى أن دخل باب القزدير فاحتل بمكناسة
____________________


وهلك من العبيد في هذه الوقعة نحو الثلاثمائة ومن البربر على ما قيل نحو الخمسمائة وجمعوا قتلاهم فكفنوهم في أخبية العبيد إذ كانت بأيديهم ولم يرجعوا بسوى ذلك وكانت هذه الوقعة أواسط سنة تسع وخمسين ومائة وألف
واعلم أنه قد وقع هنا لفظ الرحى ولفظ المسخرين وغير ذلك وهي ألقاب لطوائف من جيش هذه الدولة السعيدة فلا بد من بيان الاصطلاح في ذلك تتميما للفائدة فنقول إن الجيش السلطاني اليوم بهذه الدولة الشريفة ينقسم أولا إلى ثلاثة أقسام أصحاب ومسخرين وجيش فأما الأصحاب فهم طائفة من الجند تلازم السلطان حضرا وسفرا لا يفارقونه بحال وهم أرباب الوظائف المخزنية منهم الكتاب الذين هم إلى نظر الوزير الأعظم ومنهم أرباب الفراش ومنهم القهارمة القائمون على طعام السلطان وشرابه ومنهم أرباب الوضوء وغير هؤلاء ممن يطول ذكرهم وكل طائفة برئيسها وأما المسخرون فهم ملازمون للسلطان حضرا وسفرا أيضا وشأنهم أن يكونوا فرسانا في الغالب وقد يكون فيهم الرماة وهم أهل الشوكة والغناء وهم الموجهون في المهمات لأن عليهم المدار في الأمور المخزنية كما يقتضيه تسميتهم بالمسخرين وإذا ركب السلطان في سفر أو نحوه انقسموا قسمين فالعبيد منهم يكونون خلفه لأنهم الموالي والودايا وشراقة يكونون أمامه وأما الجيش فهو أصل الجميع كما يقتضيه لفظه ومنه تنتخب الطوائف السابقة وهو عسكر السلطان الذي يحويه ديوانه إلا أن معظمه يكون متفرقا في حلله وبلاده إلا إذا أراد السلطان غزوا فيوجه على ما يحتاج إليه منه أما الجميع أو البعض ويكون ذلك مناوبة على ما هو معروف عندهم وأما الرحى فهي عبارة عن ألف من الجيش خيلا أو رماة وربما زادت أو نقصت بحسب ما يتفق والله أعلم
____________________

شغب العبيد على السلطان المولى عبد الله وانتقاله إلى فاس وانتقال عبيد الديوان من مشروع الرملة إلى مكناسة
لما وصل العبيد الذين كانوا مع السلطان المولى عبد الله بأبي فكران إلى مكناسة واجتمعوا بإخوانهم الذين كانوا هنالك تكلموا بما في أنفسهم على السلطان من الغيظ ونفثوا بما في صدورهم عليه من الإحنة وقالوا إنه قد قال لمحمد واعزيز أردت أن أصدم هذا التيس الأسود بهذا الكبش الأبيض ودارت بينهم هذه الكلمة وأخذت منهم كل مأخذ وقالوا لم يبق لنا شك في أن هذا الرجل لا غرض له إلا في هلاكنا فانظروا لأنفسكم أو دعوا ثم كتبوا إلى عبيد الديوان يخبرونهم بما صدر من السلطان في جانبهم ويستشيرونهم في أمره فجاء بعض عيون السلطان من عبيد مكناسة إليه وأخبروه بما دار بين العبيد وبما كتبوا به إلى أهل الديوان فطير السلطان بالكتابة إلى ودايا فاس الجديد يقول لهم إن كانت لكم حاجة بابن أختكم عبد الله فاقدموا عليه الساعة ثم أخذ في جمع أثاثه وتنضيده وحمل ماله وشده وإسراج خيله وإنهاض رجله وقال لخاصته غدا إن شاء الله نرجع إلى أبي فكران فلما كان وقت العشاء وصل إلى باب القزدير من جيش الودايا أربعمائة فارس فأخرج إليهم السلطان أثاثه وماله وعياله ثم ركب في خاصته وأسروا ليلتهم ولم يصبحوا إلا بفاس الجديد فدخل السلطان داره وأمن على نفسه وأما عبيد الديوان فإنه لما بلغهم كتاب إخوانهم الذين بمكناسة وقرؤوه قالوا إنه لا يجمل بنا المقام في وسط بني حسن لا ننفع إخواننا ولا ينفعوننا فأجمعوا الرحيل والانتقال إلى مكناسة وبعد ثلاث انتقلوا إليها وأعروا مشروع الرملة واستراحت تلك البلاد من عيثهم لا سيما سلا وأحوازها فإنهم كانوا قد أشجوا أهلها ولاقوا منهم عرق القربة
____________________


ولما وصلوا إلى مكناسة نزلوا بالمدينة وبالقصبة وبالإصطبل وبريمة وبهدراش وبالرحاب التسعة فملؤوها واجتمعوا بإخوانهم واطمأن جنبهم
ولما كان عيد الفطر من سنة تسع وخمسين ومائة وألف قدم على السلطان بفاس جماعة من قوادهم مع القاضي والفقهاء والأشراف من أهل مكناسة فحضروا معه العيد على العادة وطلبوا منه أن يرجع إلى مكناسة وتنصلوا مما بلغه عنهم واعتذروا اليه فوعدهم الرجوع وأعطاهم مالا وانصرفوا إلى منازلهم ولما كانوا بالجديدة قرب مكناسة اعترضهم البربر وجردوهم وأخذوا ما معهم ولم يتركوا إلا القاضي أبا القاسم العميري على بغلته وأصبح الوفد على باب مكناسة عراة ينظر بعضهم إلى بعض إجلاب محمد واعزيز على السلطان المولى عبد الله وانتقاض أهل فاس والقبائل عليه
لما رجع البربر إلى بلادهم من وقعة أبي فكران كتب كبيرهم محمد واعزيز إلى أهل فاس يتظلم من السلطان المولى عبد الله ويخبرهم بما اتفق له معه من إخفار ذمته وعزمه على الفتك يإخوانه ويدعوهم مع ذلك إلى أن يكونوا معه يدا واحدة فأجابوه إلى ذلك ودخلوا في حزب البربر ثم كتب واعزيز بمثل ذلك إلى عرب الغرب من سفيان وبني مالك وكبيرهم يومئذ حبيب المالكي فقالوا نحن لكم تبع وحربنا حربكم وسلمنا سلمكم وانتقضت الفتوق على السلطان من كل جهة وهاجت الحرب بين الودايا وأهل فاس وبعد أيام ورد الخبر بأن ركب الحاج قد وصل إلى تازا وهو محصور بها فاستغاث أهل فاس بالبربر ليأتوهم بإخوانهم فجردوا منهم خمسمائة من الخيل إلى تازا فمروا في طريقهم بغرب الحياينة فانضموا إليهم ودخلوا في حزبهم وصاروا بأجمعهم إلى تازا فخلصوا الركب الذي بها وقدموا بهم إلى فاس فدخلوا على باب الفتوح ونزل البربر والحياينة بالزيتون ودخل
____________________

جماعة منهم المدينة لقضاء أغراضهم
وفي أثناء ذلك أغار عليهم الودايا ففضوهم وقتلوا منهم كثيرا فأمرهم السلطان أن يعلقوا رؤوسهم على سور قصبة شرافة ففعلوا ثم بدا لأهل فاس في مراجعة طاعة السلطان فبعثوا إليه في ذلك فأجابهم بأن يقدموا عليه فخرج إليه العلماء والأشراف والأعيان فلما مثلوا بين يديه عدد عليهم أفعالهم ووبخهم وشرط عليهم شروطا منها أن يعطوه زرع أهل الغرب المخزون عندهم وأن يهدموا دورهم ويبنوا بأنقاضها دار الدبيبغ ويختاروا إحدى خصلتين إما أن يكونوا جيشا وإما أن يكونوا نائبة فقالوا نجتمع على هذا الأمر مع إخواننا ويكون الجواب ولما رجعوا من عنده أغلقوا أبواب مدينتهم وقالوا لا نقبل شيئا من ذلك كله وعادت الحرب جذعة وارتفعت الأسعار وعظمت الأخطار وفي سابع ذي الحجة من سنة تسع وخمسين ومائة وألف نهب عامة فاس قفاطين المخزن التي كانت بفندق النجارين على يد الأمين الحاج الخياط عديل وأرادوا مصادرته على مال المخزن الذي عنده فافتدى منهم بثلاثة آلاف مثقال فأطلقوه بعد القبض عليه وكانت القفاطين ثلاثة آلاف قفطان فرقوها على رماتهم يعيدوا بها عيد الأضحى واستمرت الحرب بينهم وبين الودايا وسائر شيعة السلطان إلى أن دخلت سنة ستين ومائة وألف
وفي أوائل جمادى الأولى منها قدمت قبائل البربر وقبائل الغرب لمشايعة أهل فاس على حرب السلطان فنزل محمد واعزيز في بربره بجبل أطغات ونزل حبيب المالكي في أهل الغرب وطليق والخلط بدار الأضياف وانجحر الودايا بفاس الجديد والعبيد بقصبة شراقة والسلطان بدار الدبيبغ وضاق الخناق على السلطان وشيعته ومن الغد ركب حبيب فى عربه وزحف إلى السلطان بدار الدبيبغ والبربر على أثره ولما وصل إلى حزيمها بلغه أن البربر قد نهبوا محلته فرجع منهزما وعبر الوادي وتوجه إلى بلاده وأما البربر فإنهم
____________________

لما فرغوا من محلة أهل الغرب أجلوا إلى سايس ويقال إن السلطان دس بالليل إلى محمد واعزيز بمال على أن يخذل عنه هذه الجموع ويفرقها ففرقها بنهب محلة أهل الغرب وبجبهة العير يفدي حافر الفرس ولما انقضت هذه الجموع إلى بلادها بقي أهل فاس في القتال والحصار سنتين وزيادة كما سيأتي وبعثوا أثناء ذلك إلى المولى المستضيء المقيم بأحواز طنجة ليقدم عليهم فيبايعوه وتجتمع كلمتهم عليه فرد رسلهم بمخ العرقوب ووعد عرقوب ذكر السبب الذي هاج بعث السلطان المولى عبد الله الجيوش إلى أهل الغرب ومراجعتهم طاعته
وفي سنة ستين ومائة وألف أثناء حرب الودايا لأهل فاس قدم جماعة من عرب بني حسن على السلطان المولى عبد الله شاكين إليه عرب الغرب وأنهم لما انقلبوا راجعين بجموعهم إلى بلادهم مروا بحلة بني حسن فأغاروا عليها وانتهبوها فحركوا من السلطان ما كان كامنا في صدره عليهم وبعث إليهم جيشا كثيفا من العبيد والودايا وأمرهم بالفتك بأهل الغرب ونهب أموالهم وأن لايبقوا لم على سيد ولا لبد فخرج الجيش يؤم بلاد الغرب فنذروا به وانجفلوا أمامه عن بلادهم وتبعهم طليق والخلط فأرزوا إلى مدينة العرائش وتحصنوا بسورها فتبع الجيش آثارهم حتى نزل عليهم بها وحاصرهم ثلاثة أشهر هلكت فيها ماشيتهم جوعا وبعقب ذلك وردت عليهم جماعة من الودايا بأمان السلطان ومصحفه وسبحته فعاهدوهم على ذلك وأفرج الجيش عنهم وخرجوا مع الودايا فقدموا على السلطان بهديتهم فعفا عنهم وولى عليهم كبيرهم حبيبا المالكي وأضاف إليه قبائل الجبل كلها وأما الجيش الذي كان على العرائش فإنهم لما قفلوا باتوا بقصر كتامة فضيفهم أهله بما قدروا عليه من الطعام والعلف ومن الغد دخلوا القصر فاستباحوه ونهبوا وسبوا وقتلوا وفعلوا الأفاعيل العظيمة واستمروا على ذلك
____________________

ستة أيام وكان الحادث عظيما وعز ذلك على الناس كلهم وتأسفوا له وكان ذلك في محرم سنة إحدى وستين ومائة وألف زحف البربر إلى الودايا ومظاهرة أهل فاس لهم عليهم
لما كان جمادى الثانية من سنة إحدى وستين ومائة وألف عزم السلطان المولى عبد الله على غزو البربر فخرج من فاس الجديد حتى أتى أبا فكران فعسكر به ظنا منه أن العساكر ستقدم عليه هنالك كما هي العادة فلم يأته أحد فبعث إلى العبيد يستنفرهم لغزو البربر فقالوا حتى يأتي الودايا والقبائل ونأتي نحن أيضا ولما رأى تثاقل الناس عنه عاد إلى منزله وأعرض عما كان هم به ولما سمع البربر برجوعه عنهم طمعوا فيه وأجمعوا غزوهم فقال لهم محمد واعزيز الرأي أن ننزل بسايس ونحول بينه وبين العبيد حتى لا يصل إليهم ولا يصلوا إليه فأقبلوا حتى نزلوا ببسيط سايس ثم تقدمت جموعهم حتى شارفوا مزارع فاس الجديد فأغاروا على الودايا ونهبوا ماشيتهم وزروعهم وضيقوا عليهم ثم وصلوا أيديهم بأهل فاس فدخلوا مدينتهم وتسوقوا بها فباعوا واشتروا عشرة أيام وانقلبوا إلى أهلهم فاكهين
وفي أول رجب من السنة المذكورة ورد الخبر بأن أهل الريف قبضوا على المولى المستضيء المقيم ببلادهم ونهبوا خيله وأثاثه وماله وثقفوه حتى يدفعوه لأخيه المولى عبد الله لأنه كان قد اشتغل بظلم الناس بالفحص وطنجة وقبض على القائد عبد الكريم بن علي الريفي وهو أخو أحمد بن علي المتقدم الذكر فأخذ ماله وسمل عينيه وأما أهل تطاوين فلم يبايعوه ولا عرجوا عليه وفي شعبان أحرق الودايا باب المحروق ليلا ففطن لهم الحرس ودافعوهم عن الباب ومن الغد ركبوا به أبوابا جددا
____________________

مراجعة أهل فاس طاعة السلطان المولى عبد الله وانعقاد الصلح بينهم وبين الودايا
لما طال الحصار على أهل فاس وأضرت بهم معاداة جيرانهم من الودايا وسئموا الحرب راجعوا بصائرهم وجنحوا للسلم وطاعة السلطان فاتفق أن كان عندهم رجل من أشراف تافيلالت فأرسلوه إلى السلطان واسطة بينهم وبينه وبعثوا معه كتابا بالاعتذار والتوبة فقبل السلطان ذلك وسر به ووقع منه الموقع وكتب إليهم ينفي ظنونهم ويسل سخائمهم ويقسم لهم أنه لم يأمر بحربهم ولا إضرارهم قط وإنما فعل ذلك الودايا من قبل أنفسهم فلما وصل إليهم كتاب السلطان بذلك طابت نفوسهم وفرحوا وعينوا جماعة من فقهائهم وأشرافهم وأهل الخير منهم فأوفدوها على السلطان بمكناسة في شوال من السنة المذكورة ففرح بهم وأكرمهم وصرح لهم بالعفو والرضا عنهم فاغتبطوا بذلك وانقلبوا إلى أهلهم فرحين مستبشرين ثم كان الصلح بينهم وبين الودايا بضريح المولى إدريس رضي الله عنه وفتحت أبواب المدينة بعد الحصار سنتين وثلاثة أشهر وكان ذلك في ذي القعدة من سنة إحدى وستين ومائة وألف ولما حضر العيد قدموا على السلطان وهو بمكناسة بالخبر وعادوا به خوفا من البربر
____________________

خروج العبيد على السلطان المولى عبد الله وبيعتهم لولده سيدي محمد والسبب في ذلك
لما راجع أهل فاس طاعة السلطان المولى عبد الله واصطلحوا مع الودايا وهدأت الفتنة ساء البربر ذلك وكرهوه وبلغهم مع ذلك أن السلطان قد استنفر العبيد لغزوهم فاحتالوا في تفريق الكلمة على السلطان بأن أخذوا في شن الغارات على العبيد بمكناسة والتضييق عليهم واختطاف أولادهم من البحائر والجنات فراسل العبيد البربر في المسألة والصلح فقالوا لهم إن السلطان أمرنا بهذا فلما سمع العبيد ذلك منهم لم يشكوا في صدقهم بسبب ما كانوا أسلفوه من التقاعد عن السلطان والتثاقل عن النهوض معه لغزو البربر حتى عاد إلى منزله بعد المعسكرة بأبي فكران كما مر ثم اتفق رأي العبيد على الفتك بالسلطان واغتياله ونما إليه ذلك منهم فخرج فارا من مكناسة إلى دار الدبيبغ فاستقر بها وكان ذلك في صفر سنة اثنتين وستين ومائة وألف
ولما ضاق العبيد ذرعا بفعل البربر كاتبوهم في الصلح فأجابوهم إليه على شرط أن يبايعوا سيدي محمد بن عبد الله فبايعوه بمكناسة وبعثوا إليه ببيعتهم وهو بمراكش مع جماعة من أعيانهم وخطبوا به بمكناسة وزرهون والسلطان بدار الدبيبغ لا يملك من أمره شيئا ولما قدم وفد العبيد على سيدي محمد بن عبد الله رد بيعتهم وعاتبهم على ما ارتكبوه في حق والده وتألفهم بشيء من المال وأعرض عن الخوض في أمر البيعة إذ كان رحمه الله بارا بوالده ساعيا في مرضاته وبعث إليه في صفر من هذه السنة بهدية قدرها على ماقيل ثلاثون ألف مثقال فرجع وفد العبيد من عند سيدي محمد وقد أيسوا من إجابته إياهم ومع ذلك استمروا على الخطبة بمكناسة وزرهون
____________________


ثم إن السلطان المولى عبد الله رحمه الله لما رأى أن القلوب قد نفرت عنه وأن العبيد والبربر قد امتدت عيونهم إلى ولده سيدي محمد وتعلقت آمالهم به بتلافى أمره وأخذ في استصلاح الرعية وتألفها فأمر في شعبان من السنة المذكورة بأن ينادى بأسواق فاس على العبيد الذين بها من لم يحضر إلى دار الدبيبغ لوقت كذا فلا يلومن إلا نفسه فحضر العبيد الذين بفاس كلهم فأعطاهم خمسة دنانير لكل واحد وقال لهم ابعثوا إلى إخوانكم الذين بمكناسة فمن أتى منهم إلي قبض مثل ما قبضتم فكتبوا إليهم فلم يزدهم ذلك إلا نفورا وبعثوا إلى البربر الذين بسايس يقولون لهم كل من صادفتموه منا متوجها إلى فاس فاقتلوه وأعلنوا بخلع السلطان
ثم استدعى السلطان بعد ذلك محمد واعزيز كبير البربر ووعده ومناه فقدم عليه في إخوانه في رمضان فأعطاهم عشرة آلاف دينار وحضر العيد فقدموا عليه أيضا فأعطاهم عشرة آلاف أخرى وأعطى الودايا عشر آلاف أيضا وأعطى أهل فاس مثل ذلك ولج العبيد في نفورهم وركبوا رأسهم في جماحهم عن السلطان والقرب منه مجيء سيدي محمد بن عبد الله من مراكش إلى مكناسة وتوسطه للعبيد في الصلح مع والده رحمهما الله
ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائة وألف ففي أواخر جمادى الأولى منها قدم المولى محمد بن السلطان المولى عبد الله من مراكش إلى مكناسة فوجد العبيد لا زالوا يخطبون به فعاتبهم على ذلك وقال لهم إني بريء منكم ومن فعلكم هذا وإنما أنا خديم والدي فتركوا الخطبة وراجعوا بصائرهم وجددوا البيعة للسلطان وتلافوا أمرهم في طاعته وكانت هذه هي البيعة السابعة للعبيد مع السلطان المولى عبد الله لأنهم خلعوه قبلها ست مرات
____________________

حسبما مر الخبر عن ذلك مستوفى
ولما تم لسيدي محمد مع العبيد ما أراد من مراجعتهم طاعة والده ارتحل من مكناسة في جيشه الذي قدم به من الحوز وكان نحو أربعة آلاف واستصحب معه جماعة من أعيان العبيد وقدم على والده بدار الدبيبغ فخرج الودايا وأهل فاس لملاقاته وفرحوا بمقدمه ولما دخل على والده أدى التحية وأهدى إليه هدية نفيسة وشفع للعبيد عنده فشفعه فيهم وقال له لا تبت هنا فقال نعم يا سيدي ولم يبت إلا برأس الماء وأصبح غاديا إلى مراكش ثم حضر العبيد فقدم على السلطان جماعة من جروان وبني مطير فأعطاهم عشرين ألف مثقال وقدم عليه قواد العبيد من مكناسة فلم يعطهم شيئا
وفي هذه السنة توفي المولى أحمد ابن السلطان المولى عبد الله بفاس ودفن بقبور الأشراف رحمه الله انحراف العبيد ثانية عن السلطان المولى عبد الله والتجاؤهم إلى ابنه سيدي محمد بمراكش والسبب في ذلك
لما أعطى السلطان المولى عبد الله بني مطير وجروان عشرين ألف مثقال وحرم العبيد قامت قيامتهم وقلبوا للسلطان ظهر المجن واتفقوا على الذهاب إلى ابنه سيدي محمد بمراكش فقدموا عليه في ذي القعدة سنة أربع وستين ومائة وألف وقالوا له إما أن تكون سلطاننا وإما أن نبايع عمك المولى المستضيء وشكوا إليه إهمال والده جانبهم وقالوا له إنه أعطى البربر أعداء الدولة وحرمنا فرضخ لهم بشيء من المال طيب به نفوسهم وكتب لهم كتابا إلى والده يستعطفه لهم وانقلبوا من عنده مسرورين
____________________


وأما السلطان المولى عبد الله فإنه لما سمع بذهاب عبيد مكناسة إلى مراكش أعطى الودايا عشرة آلاف ريال وأعطى العبيد الذين معه ثلاثة آلاف ريال ولما قدم عبيد مكناسة على السلطان بكتاب ابنه سامحهم وأعطاهم عشرين ألف ريال وتم الصلح بينهم وبينه وعادوا إلى مكناسة مغتبطين
وفي هذه السنة بعث سيدي محمد من مراكش بهدية إلى والده مع جماعة من أصحابه فأثنى عليه خيرا ودعا له به وفيها ورد الخبر بأن أهل تطاوين قتلوا عاملهم أبا عبد الله الحاج محمدا تميم ثم قدم جماعة منهم على السلطان معتذرين من قتله فقال لهم أنتم وليتموه عليكم وأنتم قتلتموه فاختاروا لأنفسكم فوقع اختيارهم على أبي عبد الله الحاج محمد بن عمر الوقاش فولاه عليهم وانصرفوا إلى بلدهم
ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة وألف فيها قدم أهل تطاوين على السلطان المولى عبد الله لحضور عيد المولد الكريم وبيدهم هدية مقدارها ثلاثون ألف مثقال وقدم بصحبتهم باشدور الإصبنيول ومعه مائة ألف ريال وما يناسبها من الحرير والملف والكتان وغير ذلك بقصد فكاك أسرى جنسه فقبض السلطان المال وقال للباشدور حتى تأتوا بأسرى المسلمين وأعطى العبيد من ذلك المال ريالين لكل واحد وأعطى نساءهم مثل ذلك وكانوا ألفين ومائتين
ثم دخلت سنة ست وستين ومائة وألف فيها قدم عبيد مكناسة على السلطان لحضور العيد فأعطاهم عشرة آلاف ريال وفيها نهض أهل فاس لشراء الخيل والعدة والإكثار منها
وفيها انعقدت الشروط بين السلطان وبين جنس الإصطادوس وهم سبع قبائل من الفلامنك وهي اثنان وعشرون شرطا مرجعها إلى عقد الأمان والصلح بين الإيالتين وأن يجعل جنس الإصطادوس قنصلا أو أكثر بالبلد الذي يختاره من بلادنا ويكون يعطي خط يده المسمى بالباصبورط لمن
____________________

يسافر من مراكبنا إلى جهة بلادهم وكذلك هم أيضا إلى غير ذلك
وفي هذه السنة أو ما يقرب منها أغار نصارى الجديدة على آزمور واقتحموا ضريح الشيخ أبي شعيب ليلا وقتلوا به عددا كثيرا من أهل آزمور نحو الخمسين وكانت الليلة ليلة جمعة وعادة أهل آزمور أن يبيتوا ليلة الجمعة بضريح الشيخ المذكور فنما ذلك إلى النصارى الذين بالجديدة فجاؤوا مستعدين حتى اقتحموا عليهم على حين غفلة وأطفؤوا المصابيح ووقع القتل حتى كان المسلمون يقتل بعضهم بعضا ورجع النصارى عودهم على بدئهم
وذكره لويز مارية مؤرخ الجديدة فقال ما ملخصه وفي ليلة الثاني عشر من نوفمبر سنة اثنتين وخمسين وسبع عشرة مائة مسيحية خرج عشرة من برتغال الجديدة وقصدوا آزمور حتى دخلوا ضريح الشيخ أبي شعيب ليلا وقتلوا هنالك أربعين من المسلمين وقامت الهيعة بالبلد وتسابقوا إليهم على الصعب والذلول فرجع النصارى من حينهم وأدركهم المسلمون بالطريق فجرحوا بعضهم ونجوا بعد مشقة فادحة هكذا زعم لويز وأن النصارى كانوا عشرة فقط وأهل آزمور يزعمون أنهم كانوا أكثر من ذلك بكثير والله أعلم
ثم دخلت سنة سبع وستين ومائة وألف فلم يكن فيها حدث في الدولة
ثم دخلت سنة ثمان وستين بعدها فيها توفي محمد واعزيز كبير آيت أدراسن ووازعها الذي كانت تقف عند إشارته وتجري أمورها على مقتضى إدارته
____________________

فتنة آيت أدراسن وكروان مع الودايا والسبب في ذلك
لما مات محمد واعزيز لم يبق بآيت أدراسن من يقوم فيها مقامه فهاجت الفتنة بينهم وبين جروان فزحفوا إلى كروان وأوقعوا بهم فانهزمت كروان أمامهم ولجؤوا إلى دار الدبيبغ معتصمين بها ومستجيرين بالسلطان الذي بها وضاق بهم رحب الفضاء وعدموا المرعى فشرعوا في بيع مواشيهم فبلغت البقرة بسوق فاس خمس أواق والشاة أوقية فأمر السلطان المولى عبد الله الودايا بنصرتهم وآخى بينهم وبينهم وعقد لهم حلفا مؤكدا معهم فقاموا لحمايتهم والدفاع عنهم وأنشبوا القتال فكانت الهزيمة على آيت آدراسن ففرت خيلهم ومقاتلتهم وانكسرت حلتهم وقتلوا في كل وجه ومن سلم منهم لجأ إلى بلاد شراقة فاستجار بها فكان عدد من قتل منهم بتلك الوقعة نحو الخمسمائة وهذا سبب حلف الودايا مع جروان
ثم دخلت سنة تسع وستين ومائة وألف فيها قدم على السلطان المولى عبد الله عبيد مكناسة ورغبوا إليه في الذهاب معهم إليها إذ هي دار ملكه وملك أبيه من قبله فقال لهم كيف أذهب معكم وفي وسطكم فلان وفلان لجماعة سماهم منهم كانوا منحرفين عنه فرجع العبيد إلى منزلهم ولما جن الليل طرقوا أولئك المسلمين وأمثالهم في رحالهم فقتلوهم إرضاء للسلطان وتطييبا لنفسه وكان منهم القائد محمد السلاوي والقائد سليمان بن العسري والقائد زعبول وغيرهم
ولما بلغ السلطان ذلك بعث إليهم بأربعين ألف مثقال راتبا وصرفهم إلى مكناسة وقال لهم إذا فرغت من عملي أتيتكم
وفي هذه السنة أيضا قدم عليه القائد أبو عبد الله محمد الوقاش في أهل تطاوين بهدية فيها ألف ريال وبأسارى وسلع من سلع النصارى غنمتها قراصينهم فأكرمه السلطان وأعطاه جاريتين وانقلب إلى أهله مسرورا
وفيها قدم على السلطان أخوه المولى أبو الحسن المخلوع بدار الدبيبغ
____________________


فأعطاه مالا وأثاثا قيمته عشرة آلاف مثقال وخيره بين تافيلالت ومكناسة فأختار مكناسة فأعطاه مستفاد مكسها وجنات المخزن التي بها وأرضا للحراثة فقدم المولى أبو الحسن مكناسة واستوطن واغتبط بها ولما جاء وقت إبان الحرث وحرث وثب عليه العبيد فقبضوا عليه وقيدوه وبعثوا به إلى السلطان مقيدا وقالوا له إن هذا قد أفسد علينا بلادنا فحل بيننا وبينه فسرحه وبعث به إلى سجلماسة
وفي هذه السنة أيضا نهب البربر جميع ماشية الودايا وأفسدوا زروعهم وبحائرهم
ثم دخلت سنة سبعين ومائة وألف فيها كانت بين آيت أدراسن وكروان حرب فظيعة أعان فيها الودايا كروان فهزموا آيت أدراسن ببسيط النخيلة من سايس والله أعلم وفاة أمير المؤمنين المولى عبد الله بن إسماعيل رحمه الله
كانت وفاة أمير المؤمنين المولى عبد الله بن إسماعيل رحمه الله بدار الدبيبغ يوم الخميس في السابع والعشرين من صفر الخير سنة إحدى وسبعين ومائة وألف ودفن بقبور الأشراف من فاس الجديد حيث دفن ولده المولى أحمد رحمهما الله
قال صاحب البستان كان أمير المؤمنين المولى عبد الله فيه شدة وبطش وبسببهما نفرت قلوب الجند والرعية عنه وبقي مهملا بدار الدبيبغ سنين لا يأتيه أحد وبيعته في أعناق الناس وهم فارون منه لكثرة ما سفك من الدماء بغير سبب ظاهر واستمرت حالته على ذلك مدة اثنتي عشرة سنة من سنة تسع وخمسين إلى سنة إحدى وسبعين ومائة وألف رحمه الله وغفر لنا وله ولسائر المسلمين ومما مدح به هذا السلطان قول بعضهم
____________________


( عليك سلام يا ضياء العوالم ** ويا بهجة الأشراف من آل هاشم )
( ويا من سما غضبا على كل جاهل ** وأصبح مسرورا به كل عالم )
( وأصبح ظل الله في الأرض ناظرا ** إلى كل مسكين بمقلة راحم )
( ويا من كساه الله منه مهابة ** تذل لها رغما أنوف الأعاجم )
( ويا من له حزم وعزم وسطوة ** تفتت إرهابا قلوب الضراغم )
( كفاك افتخارا أن عزك ظاهر ** وجودك منسي به جود حاتم )
( وكون سجاياك التي فاح عرفها ** سجايا الملوك الشم أهل المكارم )
( لعمري لقد ألقت إليك زمامها ** ضروب العلا إذ كنت أحزم حازم )
( فقمت على الملك المشيد ركنه ** تذود لديه بالقنا والصوارم )
( وأغناك رب الناس عن جمع عسكر ** برأي مصيب للعساكر هازم )
( ونفس علت فوق السماكين همة ** وعقل غني عن هداية عالم )
( فجئت وسيل الغرب قد بلغ الزبى ** وأسواقه معمورة بالجرائم )
( ونار الشرور في الفجاج تأججت ** فطاب لأهل البغي هتك المحارم )
( فدوخته من بعدما استنسرت به ** بغاث وقد طالت رعاة البهائم )
( فأمنتنا من كل طار وطارق ** وحصنتنا من كل داه وداهم ) انعطاف إلى سياقة الخبر عن آخر أمر المولى المستضيء رحمه الله
قد تقدم لنا أن السلطان المولى عبد الله خرج سنة سبع وخمسين ومائة وألف في طلب أخيه المولى المستضيء وأنه دوخ بلاد الحوز لأجله وشرده عن جبال مسفيوة ولجأ إلى مراكش فطرده أهلها ولما لم يجد بالحوز مستقرا رجع أدراجه يقتري البلاد والقرى ويصل حرارة التهجير ببرك السرى فاجتاز ببلاد دكالة ثم بتامسنا ثم ببني حسن فزهدوا فيه فتقدم إلى طنجة وأعمالها فاستقر بالفحص منها وطاب له المقام به وعسف أناسا في تلك المدة إلى أن عدا على القائد عبد الكريم الريفي فسجنه وسلمه وأخذ ماله كما
____________________

مر فوثب عليه أهل الريف وقبضوا عليه ونهبوا خيله ومضاربه وأثاثه وسلبوا أصحابه وامتحنوه وأوثقوه حتى يبعثوا به إلى أخيه المولى عبد الله ثم بدا لهم فسرحوه ولما خلص من المحنة كتب إلى أخيه المولى عبد الله وهو بفاس يعتذر إليه عما سلف منه ويطلب منه محلا يستقر به فأجابه السلطان المولى عبد الله بأنك لم تأت إلي ذنبا ولم ترتكب في حقي عيبا إنما كنت تطلب ملك أبيك كما كنت أطلب ملك أبي والآن فإن أردت الخمول مثلي فأقم بآصيلا واسكن بها فهي أحسن من دار الدبيبغ التي أنا بها وأرح نفسك كما أرحتها وإن كنت إنما تطلب الملك فشأنك وإياه فإني لا أنازعك فيه والسلام فلما وصل إليه كتاب السلطان انتقل إلى آصيلا واستوطنها واعتنى بها وأصلح ما يحتاج إلى الإصلاح منها وأصلح دار الخضر غيلان التي بقصبتها وسكنها سنة أربع وستين ومائة وألف واجتمع عليه بعض أهل الطمع والشره ممن كان هنالك فدلوه على وسق الزرع للكفار وتوسطوا له في الكلام مع بعض تجار النصارى الذين بطنجة وتعاقدوا معه على وسقه فانتقل ذلك التاجر إلى آصيلا ولما قدم عليه مركبه وسق الزرع وأدى صاكته أي واجبه فظهر للمولى المستضيء الربح في ذلك فشرهت نفسه ورغب في شراء الزرع وبيعه ممن يأتيه من التجار وتسامع النصارى بأن الزرع يوسق من مرسى آصيلا فلم تمض إلا أيام قلائل حتى قدمت مراكبهم من كل وجه وعمرت المرسى وقصد الأعراب البلد بالقمح والشعير من كل فج والمولى المستضيء يشتري منهم ويبيع للنصارى والمراكب تسق ما قدرت عليه فكان يحصل له الربح في ذلك مضاعفا ربح الثمن وربح الصاكة فحسنت حاله وأثرى وكثر تابعوه وأخذ في شراء العدة من تطاوين وتسليح أصحابه وتقويمهم واتصل خبره بالسلطان المولى عبد الله فندم على إذنه له في المقام هنالك وكتب إلى القائد أبي محمد عبد الله السفياني يأمره بالزحف إلى
____________________

المولى المستضيء وحصاره بآصيلا حتى ينفيه عنها وكتب إلى ولده سيدي محمد بمراكش يأمره أن يبعث إليه من يخرجه منها ويكون معه القائد عبد الله السفياني في خمسمائة من الخيل فبعث إليه سيدي محمد رفيقه وابن عمه المولى إدريس بن المنتصر في مائة فارس وأمره أن يستصحب معه في طريقه عبد الله السفياني في خمسمائة من الخيل كما رسم له والده ويضيقوا على المولى المستضيء بآصيلا حتى يخرجوه منها فمضى المولى إدريس والسفياني حتى نزلا عليه وحاصراه فخرج إليهما وراود ابن أخيه المولى إدريس على الإفراج عنه وتركه وشأنه واعتذر إليه بأن السلطان أذن له في سكنى آصيلا وأعطاه مستفاد مرساها ينتفع به فلم يقبل المولى إدريس منه ولم يزل به حتى أخرجه واستولى على ما وجد بداره من مال وأثاث وسلاح وبارود وغير ذلك فساقه إلى عمه السلطان المولى عبد الله
وأما المولى المستضيء فإنه لما خرج من آصيلا سار إلى فاس فنزل بضريح الشيخ أبي بكر بن العربي رضي الله عنه وقدم ولده إلى السلطان المولى عبد الله يشكو له ما فعل به ولده سيدي محمد من تجهيز العساكر إليه ونفيه عن آصيلا فكان من جواب السلطان أن قال له قل لأبيك ذاك لا سبيل لي عليه هو أعظم شوكة مني ومنك فسر إلى بلاد أبيك وجدك وأرح نفسك من التعب والموت قريب مني ومنك فلما بلغه كلام السلطان لم يسعه إلا التوجه إلى مدينة صفرو بعد أن ترك عياله بدار الشريف المولى التهامي بالجوطيين من فاس ونزل هو بدار الإمارة من صفرو ولما قدم المولى إدريس بن المنتصر على السلطان بمال المولى المستضيء وأثاثه قبض السلطان البارود والسلاح ورد الباقي وأرسل إلى عامل فاس يأمره أن يكتب إلى المولى المستضيء ليبعث وكيلا يحوز إليه متاعه فكتب إليه فبعث من حاز ماله وأثاثه ودفعه إلى عياله بدار المولى التهامي وكان المولى المستضيء لما اطمأنت به الدار بصفرو بعث إلى أعيان آيت يوسي على ما
____________________

قيل فقدموا عليه فندبهم إلى نصرته والقيام بدعوته فتخاذلوا عنه وقالوا له سر إلى آيت أدراسن وكروان فإن أجابوك فنحن معهم ولما لم يتم له أمر بصفرو بعث من حمل إليه عياله وأثاثه من فاس وذهب إلى سجلماسة فاستوطنها وذلك سنة ست وستين ومائة وألف وأعرض عن الملك وأسبابه واستمر مقيما بها إلى أن توفي سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف رحمه الله وغفرله انعطاف إلى سياقة الخبر عن هؤلاء العبيد الذين جمعهم السلطان المولى إسماعيل من لدن وفاته إلى دولة السلطان سيدي محمد بن عبد الله
قد تقدم لنا أن السلطان المولى إسماعيل كان قد اعتنى بجمع العبيد وترتيبهم وتهذيبهم إلى أن بلغ عددهم مائة وخمسين ألفا وبلغوا في أيامه من العز والرفاهية وتشييد الدور والقصور وارتباط الجياد وانتخاب السلاح واقتناء الأموال وحسن الشارة والزي ما لم يبلغه غيرهم وكان بالمحلة من مشرع الرملة منهم سبعون ألفا ما بين خيل ورماة وكان عدد اليكشارية منهم وهم أصحاب الباشا مساهل خمسة وعشرين ألفا كلهم رماة إلا القواد منهم فإنهم كانوا أصحاب خيل وكان بتانوت ووجه عروس منهم خمسة آلاف يدعون قواد رؤوسهم كلهم أصحاب خيل وباقي العدد وهو خمسون ألفا كانوا متفرقين في قلاع المغرب لعمارتها وحراسة الطريق وحماية الثغور وكانوا في غاية من الكفاية والسعة لأن كل قبيلة من قبائل المغرب كانت تدفع أعشارها في قلعتها المبنية بها لمؤنة جيشها وعلف خيلها واستمر ذلك إلى أن توفي السلطان المولى إسماعيل رحمه الله فانقطع بوفاته عن جيش القلاع المدد الذي كان به قوامهم
ولما ولي بنوه من بعده واتصلت الفتن بينهم أهملوا أمر هؤلاء العبيد ولم يلتفتوا إليهم فضعفت مادتهم وتلاشى أمرهم وانتشروا في القبائل التي كانوا
____________________

مجاورين لها للتكسب على أنفسهم وأولادهم ولما أعروا تلك القلاع التي كانوا مقيمين بها امتدت إليها أيدي القبائل من العرب والبربر بالنهب والتخريب واقتلعوا أبوابها وخشبها وماراق منها وتركوها خاوية على عروشها لم يبق بها إلا الجدرات قائمة وهكذا كان مآل محلة مشرع الرملة فإنه لما ارتحل العبيد عنها إلى مكناسة أيام السلطان المولى عبد الله خلفهم بنو حسن فيها بالنهب والتخريب وكل من عثروا عليه متأخرا بها نهبوه واستلبوا ما معه وأخذوا كل ما تركوه مما ثقل عليهم حتى يرجعوا إليه إذ كان العبيد يظنون أنهم سيرجعون إلى مشرع الرملة ثم تجاوزت بنو حسن ذلك إلى تخريب الدور والقصور وحمل أبوابها وخشبها إلى سلا فكانت تباع بها بالبخس فقد كان بهذه المحلة دور وقصور ليست بالحواضر وكان كل قائد منهم يفتخر على نظيره ببناء أعظم من بنائه وتشييد فوق تشييده وتنميق أحسن من تنميقه وتزويق أبدع من تزويقه فأتى بنو حسن على ذلك كله وانتسفوه وطمسوا أعلامه في أسرع من لحس الكلب أنفه ولم يتركوا إلا الجدرات قائمة إلا أن خربوها بعد ذلك شيئا فشيئا بل صاروا يبعثرون الأرض على الدفائن التي بها فعثروا من ذلك على شيء كثير
ثم إن العبيد الذين رحلوا إلى مكناسة لم يصل منهم إليها إلا دون النصف إذ تفرقوا في القبائل وقت رحيلهم فكل من كان أصله من قبيلة قصدها وكل من كان له مدشر عاد إليه ثم الذين وصلوا إلى مكناسة لم يستقر بهم قرار لقلة ذات اليد وغلاء الأسعار وكان الوقت وقت مجاعات وفتن فلم يبق بها إلا القواد أهل اليسار وأهل الحرف الذي يتعيشون بحرفهم ومع ذلك فقد ضاقت بهم السكنى بها من أجل غلبة البربر الذين كانوا يغيرون عليهم ويتخطفون أولادهم من البحائر والجنات المرة بعد المرة فتسلل جلهم للمعاش بالقرى والقبائل ونسوا أمر الجندية والتمرس بالقنا والقنابل وتفرق منهم ذلك الجمهور ولله عاقبة الأمور
ولما وقعت الزلزلة بمكناسة سنة تسع وستين ومائة وألف حسبما نذكره في الأحداث هلك من العبيد فحسب نحو خمسة آلاف وهكذا لم يزالوا في
____________________

تلاش واضمحلال وتناثر واختلال إلى أن كانت دولة السلطان الأعظم المولى محمد بن عبد الله رحمه الله فأدرك منهم صبابة يسيرة وعصابة حقيرة فاعتنى بهم وجمعهم من القبائل بعد الانتشار وأحيا رسمهم بعد الاندثار وأظهرهم بعد الخمول وأركبهم المسومة من الخيول ورفع لهم الأعلام والبنود وصيرهم من أعز الجنود وهو الذي جدد هذه الدولة الإسماعيلية بعد تلاشيها وأحياها بعد خمود جمرتها وتمزيق حواشيها بحسن سيرته ويمن نقيبته رحمه الله تعالى ورضي عنه
وهنا انتهى بنا الكلام على السادة الأشراف أولاد المولى إسماعيل رحم الله الجميع بمنه قال أكنسوس والحق الذي لا شك فيه أن كل من قام منهم بعد بيعة السلطان المولى عبد الله فإنما هو ثائر عليه لا إمامه له وإنما يكون خبره مسوقا من جملة أخبار دولة المولى عبد الله
قلت ومثله يقال في السلطان المولى أحمد بن إسماعيل فهو الإمام المعتبر والمولى عبد الملك خارج عليه وقد علم من مذهب الأشعرية أن طرو الفسق لا يعزل الإمام والله تعالى أعلم وأحكم انعطاف إلى سياقة الخبر عن خلافة سيدي محمد ابن عبد الله بمراكش من مبتدئها إلى منتهاها
قد تقدم لنا أن السلطان المولى عبد الله كان قد خرج سنة سبع وخمسين وألف في طلب أخيه المولى المستضيء إلى أن شرده عن بلاد مسفيوة وأنه قدم عليه هنالك أهل مراكش ورغبوا إليه أن يدخل حضرتهم ولم يساعده الوقت فلما عزم على القفول إلى بلاد الغرب بعث ولده الأكبر المولى أحمد إلى رباط الفتح نائبا عنه بها وأضاف إليه قبائل الشاوية وبني حسن وما بينهما وبعث ولده الأصغر سيدي محمدا مع أهل مراكش نائبا عنه فيها فكان ذلك أول انغراس شجرة الملك العلوي بمراكش واتخاذها كرسيا لهم ولما وصل سيدي محمد رحمه الله إلى مراكش نزل بقصبتها وهي يومئذ خراب
____________________

ليس بها إلا آثار السعديين والموحدين قبلهم قد أخنى عليها الدهر وعشش بها الصدا والبوم فضرب بها مضاربه ثم شرع رحمه الله في حفر أساس داره بالفضاء البعيد عن القصور الخربة بها من داخل السور ولما رأى عرب الرحامنة ذلك اتفقوا على منعه لأنهم كانوا قد ألفوا العيث في أطراف مراكش فأحبوا أن لا تكون بها دولة تكبحهم عن ذلك فاجتمع طائفة من غوغائهم وتقدموا إلى الخليفة سيدي محمد وجبهوه بالمنع وأخرجوه عن القصبة بعد أن شرع في العمل فانتقل سيدي محمد رحمه الله عن مراكش إلى آسفي
وأما المولى أحمد صاحب العدوتين فإنه قدم رباط الفتح ونزل بالقصبة منها وانضاف إليه عبيد القصبة واستمر خليفة بها إلى أن سمع أهل العدوتين ما عامل به الرحامنة خليفة مراكش فجرى هؤلاء على سننهم واتفقوا على طرد المولى أحمد بن عبد الله عن بلادهم فتقدموا إليه بالحرب وحاصروه بالقصبة ومعه عبيد فلان الذين كانوا فيها إدالة من عهد السلطان المولى إسماعيل وقطعوا الميرة والماء إلى أن مسهم الجهد وعضهم الحصار فطلبوا الأمان أن يخرجوا بأنفسهم فأمنوهم وخرج المولى أحمد فسار إلى أخيه سيدي محمد بآسفي فنزل عليه ثم كان آخر أمره أن توفي بفاس كما مر سنة أربع وستين ومائة وألف
ولما خرج المولى أحمد إلى آسفي عمد أهل رباط الفتح إلى عبيد القصبة فأنزلوهم منها وفرقوهم بالمدينة حتى لا تبقى لهم شوكة ولا عصبية هذا ما كان من خلافة المولى أحمد
وأما خلافة سيدي محمد فإنه لما خرج من مراكش قاصدا إلى آسفي اعترضته قبائل عبدة وأحمر وضيفوه ببلادهم وأهدوا إليه وتسابقوا على الخيل ولعبوا بالبارود سرورا بمقدمه وتنويها بشأنه وصحبوه إلى آسفي فدخلها ونزل بقصبتها ففرح أهل آسفي بمقدمه واغتبطوا به وكان مبارك الناصية أينما توجه ولما اطمأنت به الدار رفع إليه أهل آسفي هداياهم وتبعهم على ذلك تجار النصارى واليهود وتباروا في ذلك وتنافسوا فيه وعمر سوقه عرب عبده برجالاتهم وأعيانهم وبذلوا له أولادهم لخدمته وأوصلوه
____________________

بكل ما قدروا عليه وسرح للتجار وسق السلع بالمرسى فأهرعت إليه المراكب من بر النصارى بأنواع سلعها وقصدها التجار بالبضائع من كل جهة يبيعون بها ويشترون وكثرت الخيرات ونمت البركات فاستركب واستلحق وعلا أمره وطار صيته في البلاد الحوزية ودخل الشياظمة وحاحة في طاعته وتباروا في خدمته فلم تمض عليه ستة أشهر حتى كان يركب في نحو الألف فلما سمع الرحامنة ما صار إليه أمر عبدة وأحمر اقتالهم من تشرفهم بولائه وتقدمهم في خدمته نفسوا ذلك عليهم وراجعوا بصائرهم فاجتمع طائفة من أعيانهم وقدموا عليه آسفي وقدموا بين يديهم هدية استرضوه بها ولما دخلوا عليه اعتذروا إليه مما فرط منهم ونسبوا ذلك إلى السفهاء وأنهم لم يأمروا بشيء من ذلك ولا رضوه وأقسموا له أن لا يبرحوا من بابه حتى يسير معهم إلى مراكش ولو أقاموا هنالك سنة وأسعفهم وسار معهم وصحبه من أعيان عبدة نحو ألف فارس وكان في موكبه من أصحابه وحاشيته نحو الخمسمائة كلهم بالخيول المسومة والشارة الحسنة والشكة التامة
ولما انتهى إلى مراكش نزل بالقصبة وجاءه أهل مراكش بهداياهم وكذا قبائل الحوز ثم تلاهم قبائل الدير كله بهداياهم أيضا وجاء الرحامنة بأولادهم للخدمة السلطانية منافسة لعبدة وأحمر في ذلك وقفاهم في ذلك سائر أهل الحوز وقدم عليه عبيد دكالة الذين كانوا بسلا فاجتمعوا إليه وحسنت منزلتهم عنده ولما سمع بذلك عبيد مكناسة تسللوا إليه فرادى وأزواجا فاستعملهم في خدمة البناء فبنوا بيوتهم وأصلحوا شؤونهم واجتهد هذا الخليفة في بناء داره الكبرى بقصبة مراكش إلى أن أكملها وسكنها ثم شرع في بناء ماتلاشى من أسوار القصبة وركب أبوابها وأفردها عن المدينة ثم غرس بستانا عظيما متصلا بداره الكبرى على جهة الغرب سماه النيل وأسس قصرا آخرا متصلا بغربي هذا البستان سماه القصر الأخضر ويسمى أيضا المنصور وجعل لهذا البستان أربعة أبواب في زواياه الأربع كذا قيل والموجود اليوم ثلاثة أبواب فقط وجعل له بابين آخرين أحدهما للدار الكبرى شرقا والآخر للقصر الأخضر غربا وجعل في وسط هذا البستان قبة منتخبة
____________________

يتصل بها من جهاتها الأربع مماشي تمضي إلى قباب أخر منتخبة أيضا وطول هذا البستان ينيف على مائتي خطوة تقريبا وعرضه قريب من ذلك وهذا القدر هو مساحة ما بين القصرين أعني الدار الكبرى والقصر الأخضر ثم أصلح هذا الخليفة جامع المنصور الذي بالقصبة إذ كان متهدما يومئذ ثم أسس مسجدا آخر للخطبة بجوار قصره وهو المعروف اليوم بمسجد بريمة وهو مسجد حافل بديع وبنى مدرستين لطلبة العلم بالقصبة المذكورة وبنى حماما ببريمة وعمر مساجد غير ذلك للأحرار والعبيد وفرق الأموال على من انحاش إليه منهم لعمارة مساكنهم وبناء دورهم بعد أن كانت من الطين والقصب وكتب الكتائب وجند الأجناد فاجتمع لديه من العبيد ألف وخمسمائة كلهم فارس شاكي السلاح ومن عبدة وأحمر مثل ذلك ومن الرحامنة وأهل الحوز ألف فارس كذلك
ولما خرج العبيد بمكناسة على والده وقدموا عليه بمراكش مبايعين له عاتبهم وقدم مكناسة وأصلح بينهم وبين والده كما مر
ولما كانت سنة تسع وستين ومائة وألف غزا بلاد السوس ودوخها ومهد أقطارها وجبى أموالها وقرر الحامية بتارودانت منها ثم سار إلى آكادير فقبض على الطالب صالح الثائر به والمستبد بمال مرساه فسجنه واستصفى أمواله التي استفادها من المرسى ورتب الحامية في آكادير أيضا ثم إن الطالب صالحا المذكور ذبح نفسه في السجن وأفضى إلى ما قدم بعد أن ترك في القطر السوسي صيتا وذكرا وهو الذي يوجد طابعه على السلاح السوسي من مكحلة وسكين وخنجر إلى الآن وهو سلاح منتخب عندهم
وقفل الخليفة سيدي محمد رحمه الله إلى مراكش مؤيدا منصورا فمكث فيها أياما يسيرة ثم خرج غازيا بلاد الشاوية في السنة نفسها لما ظهر منهم من الفساد وقطع الطرقات ونهب المارة فقتل من أعيانهم عددا وبعث الباقي في السلاسل إلى مراكش
ثم تقدم إلى أرض سلا فبات برباط الفتح وخرج إليه أهلها بالمؤن
____________________

والهدايا واستبشروا بمقدمه وأما أهل سلا فلم يخرج إليه منهم أحد بل أغلق صاحبها عبد الحق بن عبد العزيز فنيش أبوابها في وجهه فأعرض عنه سيدي محمد رحمه الله وتنكب المرور بسلا وعبر مشرع المجاز أسفل من العدوتين وسار إلى قصر كتامة من بلاد الهبط فقدم عليه به عبيد مكناسة مع كبيرهم الباشا الزياني وفي ذلك اليوم قتل العبيد باشاهم المذكور وقتلوا معه القائد يوسف السلاح لأنهما كانا يمنعانهم من القدوم عليه إلى مراكش فولى عليهم القائد سعيد بن العياشي ومن الغد ارتحل إلى تطاوين فتلقاه أهلها مع قائدهم محمد بن عمر الوقاش فقبض عليه وتهدده ثم أطلقه ثم مضى إلى جهة سبتة حتى أشرف عليها ثم سار منها إلى طنجة ثم كر راجعا فمر بالعرائش ثم بسلا فلم يحفل به عبد الحق أيضا فطوى له سيدي محمد رحمه الله على البت ثم سار إلى مراكش فاستقر بها مؤيدا منصورا إلى أن وافته الخلافة الكبرى بها بعد وفاة والده رحمه الله
تم الجزء السابع ويليه الجزء الثامن وأوله الخبر عن دولة أمير المؤمنين سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله
____________________

بسم الله الرحمن الرحيم الدولة العلوية القسم الثاني الخبر عن دولة أمير المؤمنين سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله
لما توفي أمير المؤمنين المولى عبد الله بن إسماعيل في التاريخ المتقدم أعني السابع والعشرين من صفر الخير سنة إحدى وسبعين ومائة وألف كان الناس قد سئموا الهرج والفتن وأعياهم التفاقم والاضطراب وملوا الحرب وملتهم إذ كانت أيامه لا سيما أخرياتها كأيام الفترة التي ليس فيها سلطان وكانت حال الرعية معه مثل الفوضى الذين لا وازع لهم فكان ذلك من أقوى الأسباب التي صرفت وجوه أهل المغرب كله إلى بيعة السلطان سيدي محمد رحمه الله وجمعت كلمتهم عليه لا سيما مع ما كان قد ظهر منه أيام خلافته من حسن السياسة وكمال النجدة وجودة الرأي وتمام المعرفة بإدارة الأمور على وجهها وإجرائها على مقتضى صوابها حتى أحبته القلوب وعلقت به الآمال وعرفت له من بين بني أبية تلك الشنشنة وتضافرت على ولائه ونصره القلوب والألسنة فلما قضى الله بوفاة والده بادر أهل فاس إلى عقد البيعة له من غير توقف ولا تريث
قال ولده الفقيه أبو محمد المولى عبد السلام بن محمد بن عبد الله في كتابه المسمى بدرة السلوك بويع لمولانا الوالد السلطان الأعظم سيدي محمد بن عبد الله البيعة العامة الصحيحة التامة وحضرها جماعة من أعيان
____________________


العلماء مثل قاضي الجماعة بمكناسة السيد سعيد العميري وقاضي الجماعة بفاس السيد عبد القادر أبي خريص وشيخ الجماعة بها السيد محمد بن قاسم جسوس والإمام المحقق حامل لواء المعقول والمنقول الشيخ أبي حفص عمر الفاسي وابن عمه السيد أبي مدين الفاسي وهو الذي تولى كتابة البيعة بيده وإمام جامع الشرفاء بفاس الأستاذ المولى عبد الرحمن المنجرة والشيخ العلامة السيد التاودي ابن سودة المري وإمام المسجد الكبير بفاس الجديد السيد عبد الله السوسي والإمام الحافظ السيد أبي العلاء إدريس العراقي وغيرهم ممن لا يحصى كثرة
وقوله في قاضي مكناسة السيد سعيد العميري صوابه ابنه أبو القاسم العميري
ووصل الخبر بموت السلطان المولى عبد الله إلى ابنه سيدي محمد وهو بمراكش فأقام مأتمه وازدحم على بيعته أهل مراكش وقبائل الحوز والدير وقدمت عليه وفود السوس وحاحة بهداياهم ثم قدم عليه العبيد والودايا وأهل فاس من العلماء والأشراف وسائر الأعيان وقبائل العرب والبربر والجبال وأهل الثغور كل ببيعته وهديته لم يتخلف عنه أحد من أهل المغرب فجلس للوفود إلى أن فرغ من شأنهم وأجازهم وزاد العبيد بأن أعطاهم خيلا كثيرة وسلاحا كثيرا عرفوا بها محلهم من الدولة وانقلبوا مسرورين مغتبطين مجيء السلطان سيدي محمد بن عبد الله عقب البيعة من مراكش إلى فاس وما اتفق له في ذلك
لما فرغ أمير المؤمنين المولى محمد رحمه الله من أمر الوفود أخذ في الاستعداد للنهوض إلى الغرب فخرج من مراكش في عسكر الحوز ووجوهة حتى انتهى إلى مكناسة فدخل دار الملك بها وفرق على العبيد الخيل والسلاح والمال وكانوا على غاية من سوء الحال والاستكانة لغلبة البربر إذ كانوا يتخطفون أولادهم من البحائر والجنات ويبيعونهم في
____________________


قبائلهم كما قلنا فجبر الله صدعهم بولاية هذا السلطان الجليل
ثم لما قضى إربه من مكناسة ارتحل إلى فاس ولما نزل في عساكره بالصفصافة خرج لملاقاته الودايا وأهل فاس فهش للناس وألان جانبه لهم واختلط بهم فكانوا يطوفون به ويقبلون أطرافه ولا يمنعهم أحد وفرق المال والكسوة والسلاح في الودايا وعبيد السلوقية وأعطى الفقهاء والأشراف وطلبة العلم وأهل المدارس والمكتبيين والأئمة والمؤذنين والفقراء والمساكين وأزاح علل الجميع ولم يحرم أحدا ولما حضرت الجمعة جاء من المحلة في ترتيب حسن وزي عجيب فخرج أهل البلدين لرؤيته وامتلأت الأرض من العساكر والنظارة ودخل فاسا الجديد فصلى به الجمعة ثم جلس لفقهاء الوقت وسأل عنهم واحدا واحدا حتى عرفهم ثم خرج إلى تربة والده فزارها وأمر بتفريق الصدقات عندها وترتيب القراء بها ثم دخل إلى دار الحرم فوقف على من بها من أخواته وعزاهن في مصاب والدهن وطيب نفوسهن ثم رجع عشية النهار إلى المحلة فبات بها ومن الغد جاء إلى دار الدبيبغ فدخلها ووقف على متخلف والده من مال وأثاث وسلاح وخيل إلى أن عاينه وأحصاه وأبقى ذلك بيد من كان بيده من أصحاب والده وأوصاهم بالاحتفاظ به بعد أن جعل الجميع إلى نظر الحاجب أبي محمد عبد الوهاب اليموري وعامل أصحاب أبيه بالجميل وخفض لهم الجناح وألان لهم القول ووصلهم بمال اقتسموه فيما بينهم ثم بعد ذلك حاز منهم ما كان بأيديهم من مال والده فكان أكثره ذهبا من ذلك ألف خرج وتسمية المغاربة السماط من الجلد الفيلالي بأقفالها في كل واحد ألفا دينار بالتثنية من ضربه وكانت تكون على سروج خيله في السفر فإذا نزل الجيش وضربت الأخبية رفعها الموكلون بها كل واحد اسمه وعينه إلى القبة السلطانية وعند الرحيل كذلك تدفع لهم بالإحصاء والتقييد ومن ذلك مائة رحى من الذهب الخالص كقرص الشمع في كل رحى وزن أربعة آلاف ريال وكانت تكون محمولة على البغال في أعدالها مغطاة بالقطائف المسماة عند المغاربة بالحنابل مشدودا عليها بالحبال أربع أرحاء في كل
____________________


عدلين فالمجموع خمس وعشرون بغلة تسير أمامه فإذا نزل الجيش رفعت إلى القبة السلطانية كالذي قبلها
وكان السلطان المولى عبد الله رحمه الله يرى ذلك من الحزم حيث يحمل ماله معه أينما سار لا يفارقه ومما وجده سيدي محمد من مال والده أيضا ثلاثمائة ألف ريال إلا خمسة عشر ألفا ووجد نحو العشرين ألفا من الموزونات الدقيقة من ضرب سكته هذا ما خلفه رحمه الله من المال الصامت وكان يكون على يد القائد علال بن مسعود من وصفانه فحاز ذلك كله أمير المؤمنين سيدي محمد ونقله إلى محلته ووكل به وزعته وتقدم إلى أصحابه بأن يعاملوا أصحاب أبيه بالتوقير والاحترام ونظمهم في سلك خدمته فمن ظهرت نجابته أدناه ومن لا عبرة به أقصاه
ثم وفد عليه بفاس عامة قبائل الغرب وازدلفوا اليه بالهدايا والتحف فأكرم كلا بما يناسبه وكان في ابتداء أمره سهل الحجاب رفيقا لم يعزل أحدا من قواد القبائل وعمال الحواضر الذين كانوا في دولة أبيه في حكم الاستبداد بل أبقى ما كان ولم ينكب أحدا إلا بعد الاستبراء والاختبار غير أن أهل تطاوين كان قائدهم أبو عبد الله محمد بن عمر الوقاش منحرفا عنه أيام خلافته بمراكش فكان إذا كتب اليه بأمر نبذه وراء ظهره وربما قال للرسول المرأة لا تتزوج برجلين أو كلاما يشبه هذا يعني أنه مجبور لطاعة السلطان المولى عبد الله
فلما بويع السلطان سيدي محمد وقدم حضرة فاس انقبض عنه الوقاش المذكور وعاذ بضريح الشيخ عبد السلام بن مشيش بماله وولده خوفا على نفسه من السلطان لسوء ما قدم ثم قدم عليه أهل تطاوين طائعين متنصلين من فعل عاملهم المذكور ومخبرين بشأنه فولى السلطان عليهم الفقيه أبا محمد عبد الكريم بن زاكور أحد كتابه كان بعثه من مراكش إلى العرائش واليا عليها فلما وفد عليه أهل تطاوين ولاه عليهم لكونه حضريا مثلهم وأقام السلطان سيدي محمد رحمه الله بفاس شهرين وعاد إلى مكناسة والله أعلم
____________________

إحداث المكس بفاس وبسائر أمصار المغرب وما قيل في ذلك
لما بويع السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله وقدم حضرة فاس رفع إليه أهلها ما كانوا يؤدونه إلى والده المولى عبد الله مما كان موظفا على الموازين كميزان سيدي فرج وميزان قاعة السمن وميزان قاعة الزيت وغير ذلك وقدره ثلاثمائة مثقال في كل شهر يجب فيها لكل سنة ثلاثة آلاف مثقال وستمائة مثقال
فلما حضر فقهاء فاس عند السلطان سيدي محمد كلمهم في شأنها حتى يكون الأمر فيها مسندا إلى فتوى الفقهاء فقالوا إذا لم يكن للسلطان مال جاز له أن يقبض من الرعية ما يستخدم به الجند فأمرهم أن يكتبوا له في ذلك فكتبوا له تأليفا اعتمده السلطان ووظف على الأبواب والغلات والسلع وكان ممن كتب له في ذلك العلامة الشيخ التاودي ابن سودة والعلامة الشيخ أبو عبد الله محمد بن قاسم جسوس والإمام أبو حفص عمر الفاسي والفقيه الشريف أبو زيد عبد الرحمن المنجرة والفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الصادق الطرابلسي والفقيه القاضي أبو محمد عبد القادر أبو خريص وغيرهم فاعتمد السلطان على فتواهم ووظف ما ذكرناه آنفا
واعلم أن أمر المكس مما عمت به البلوى في سائر الأقطار والدول منذ الأعصار المتطاولة والسنين الأول فلا بأس أن نذكر ما حرره العلماء في ذلك فنقول قد تكلم على ذلك الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه في كتابه شفاء الغليل بما نصه فإن قال قائل توظيف الخراج على الأرض ووجوب الارتفاقات مصلحة ظاهرة لا تنتظم أمور الولاة في رعاية الجند والاستظهار بكثرتهم وتحصيل شوكة الإسلام إلا به ولذلك لم يلف عصر خاليا عنه والملوك على تفاوت سيرهم واختلاف أخلاقهم تطابقوا عليه ولم يستغنوا عنه فلا تنتظم مصلحة الدين والدنيا إلا بإمام مطاع ووال
____________________


متبع يجمع شتات الإيمان ويحمي حوزة الدين وبيضة الإسلام ويرعى مصلحة المسلمين وغبطة الأنام ولا يستتب ذلك إلا بنجدته وشوكته وجنوده وعدته فيهم مجاهدة الكفار وحماية الثغور وكف أيدي الطغاة المارقين ومنعهم من مد الأيدي إلى الأموال والحرم والأزواج فهم الحراس للدين عن أن تنحل دعائمه وتتخاذل قواه بتوغل الكفار في بلاد المسلمين وهم الحماة للدنيا عن أن يختل نظامها بالتغالب والتسالب والتواثب من طغام الناس بفضل العرامة والباس ولا يخفى عليكم كثرة مؤنهم واستيعاب حاجاتهم في نفوسهم وعيالهم والمرصد لهم خمس الخمس من الغنائم والفيء وذلك مما يضيق في غالب الأمر عن الوفاء بخراجاتهم والكفاية لحاجاتهم وليس يعم ذلك الا بتوظيف الخراج على الأغنياء فإن كنتم تتبعون المصالح فلا بد من الترخيص في ذلك مع ظهور المصلحة
قلنا الذي نراه جواز ذلك عند ظهور المصلحة وإنما النظر في بيان وجه المصلحة فنقول أولا التوظيف في عصرنا هذا مزاجه ومنهاجه ظلم محض لا رخصة فيه فإن آحاد الجند لو استوفيت جراياتهم ووزعت على الكافة لكفتهم برهة من الدهر وقدرا صالحا من الوقت وقد شمخوا بتنعمهم وترفههم في العيش وإسرافهم في إفاضة الأموال على العيارة ووجوه التجمل على سائر الأكاسرة فكيف يقدر احتياجهم إلى توظيف خراج لإمدادهم وإرفاقهم وكافة أغنياء الدهر فقراء بالإضافة إليهم فأما لو قدرنا إماما مطاعا مفتقرا إلى تكثير الجند لسد الثغور وحماية الملك بعد اتساع رقعته وانبساط خطته وقد خلا بيت المال عن المال وأرهقت حاجة الجند إلى ما يكفيهم وخلت عن مقدار كفايتهم أيديهم فللإمام أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيا لهم في الحال إلى أن يظهر مال في بيت المال ثم إليه النظر في توظيف ذلك على وجوه الغلات والارتفاقات بحيث لا يؤدي تخصيص بعض الناس به إلى إيغار الصدور وإيحاش القلوب ويقع ذلك
____________________


قليلا من كثير ولا يجحف بهم ويحصل به الغرض ثم استدل الشيخ أبو حامد رضي الله عنه لذلك من النقل والعقل بما يطول جلبه
وقال في كتابه المستصفى ما نصه إن قيل توظيف الخراج من المصالح فهل إليه من سبيل قلنا لا سبيل إليه مع كثرة الأموال في أيدي الأجناد أما إذا خلت الأيدي ولم يكن في بيت المال ما يفي بخراجات العسكر ولو تفرقوا واشتغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند ثم إن رأى في طريق التوزيع التخصيص بالأراضي فلا حرج لأنا نعلم أنه إذا تعارض شران وضرران وجب دفع أشد الضررين وأعظم الشرين وما يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله ولو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة يحفظ نظام الأمور ويقطع مادة الشرور لفسدت الأرض ومن عليها وقوله على الأغنياء يريد من له قدرة وطاقة على دفع شيء لا يجحف به ووقع في جواب للقاضي أبي عمر بن منظور رحمه الله إن لضرب الخراج وتوظيفه على المرافق شروطا الأول منها أن يعجز بيت المال وتتعين حاجة الجند فلو كان في بيت المال ما يقوم به لم يجز أن يفرض على الرعية شيء قال صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة صاحب مكس وهو إغرام المال ظلما ثانيهما إن الإمام يتصرف فيه بالعدل فلا يجوز له أن يستأثر به دون المسلمين ولا أن ينفقه في سرف ولا أن يعطي من لا يستحق ولا أن يعطي أحدا أكثر مما يستحق ثالثها أن يصرفه في مصروفه بحسب المصلحة والحاجة لا بحسب الشهوة والغرض وهذا يرجع إلى الثاني رابعها أن يكون الغرم على من يكون قادرا عليه من غير ضرر ولا إجحاف ومن لا شيء له أو له شيء قليل فلا يغرم شيئا خامسها أن الإمام يتفقد هذا في كل وقت فربما جاء وقت لا يفتقر فيه إلى زيادة على ما في بيت المال وكذلك إذا تعينت المصلحة في
____________________


المعونة بالأبدان ولم يكف المال فإن الناس يجبرون على التعاون بأبدانهم على الأمر الداعي للمعونة بشرط القدرة وتعين المصلحة والافتقار إلى ذلك انتهى المقصود منه والله تعالى أعلم مقتل أبي الصخور الخمسي وما كان من أمره
لما رجع السلطان محمد بن عبد الله من فاس إلى مكناسة أقام بها يسيرا ثم خرج إلى جبال غمارة بسبب ما بلغه عن المرابط أبي عبد الله محمد العربي الخمسي المعروف بأبي الصخور وكان له صيت وشهرة بقبائل الجبل وكان يظهر التنسك والعبادة ويزعم أنه يستخدم الجن فكان للعامة فيها اعتقاد كبير ثم صار يقول للناس هذا السلطان لا تطول مدته فأخذه السلطان وقتله وبعث برأسه إلى فاس وولى على قبائل غمارة والأخماس وتلك النواحي الباشا العياشي وأنزله بمدينة شفشاون وقفل إلى مكناسة فدخلها مريضا فاتح محرم سنة اثنتين وسبعين ومائة وألف فقال المرجفون ما أصابه المرض إلا من قتله لأبي الصخور وقالوا إنه قد صدق في قوله لا تطول مدته فعافى الله السلطان وأكذب ظن الشيطان وأقام السلطان بمكناسة إلى أن انسلخ المحرم ودخل صفر فعاد إلى مراكش بعد أن أمر بنقل عبيد السلوقية إلى مكناسة وضمهم إلى إخوانهم واستصحب معه إلى مراكش من رجالتهم ألفا فلما دخلها أعطاهم الخيل والسلاح والكسي وعادوا إلى مكناسة ثم قدم عليه منهم ألف آخر فأركبهم وكساهم واستمر حاله معهم على هذا إلى أن استوفوا خيلهم وسلاحهم وكساهم ولم يسألهم عما كان في أيديهم أيام الفترة
____________________

خروج السلطان سيدي محمد بن عبد الله إلى الثغور وتفقده أحوالها
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف فيها خرج أمير المؤمنين المولى محمد بن عبد الله من مراكش فقدم مكناسة وفرق الراتب على العبيد بها وبعث إلى الودايا راتبهم وأمرهم بالنهوض معه للتطواف على الثغور البحرية من بلاد المغرب
فخرج من مكناسة حتى أتى مدينة تطاوين فنزل بها وأمر ببناء برج مرتيل الذي بها وفرق المال على العبيد المقيمين به منذ أيام السلطان إسماعيل وهم بقية عبيد سبتة أعني الذين كانوا يرابطون عليها فإنه لما انحل نظام الملك بموت المولى إسماعيل وتفرق العبيد المرابطون على سبتة فلحقت كل طائفة منهم بقبيلتها التي جلبت منها بقي هذا الألف الذي لا قبيلة له هنالك فنقلهم أبو حفص الوقاش إلى مرتيل وأحسن إليهم وصار يدفع بهم في نحر من يريده بمكورة من القبائل المجاورة له
ثم رحل السلطان من تطاوين إلى طنجة وجعل طريقه على سبتة فمر بها ووقف عليها ونظر إلى حصانتها ومناعتها وتحقق أن لا مطمع فيها إلا بالجد وأمر العسكر الذين حوله بإخراج دفعة من البارود وتسميها العامة حاضرونا ففعلوا وأجابهم النصارى بمثل ذلك بالمدافع والكور حتى تزلزلت الجبال فعجب السلطان من ذلك وما كان قصده بهذه السفرة إلا الوقوف على سبتة واختبار حالها لأنه لم ينظر إليها بعين التأمل والاختبار في المرة الأولى فلما تبين له حالها أرجأ أمرها إلى يوم ما وأوصى أهل آنجرة بتعيين حصته من الرماة لحراسة نواحيها والوقوف على حدودها وبذل لهم مالا يستعينون به على ذلك ثم سار إلى طنجة فنزل قريبا منها وخرج إليه أعيانها ورؤساؤها من أهل الريف بقضهم وقضيضهم يتقدمهم باشاهم عبد الصادق بن أحمد بن علي الريفي كان قد قدم عليه بمراكش أيام خلافته
____________________


بها فلما مثلوا بين يدي السلطان في هذه المرة أكرمهم وفرق المال والكسي فيهم وأمر الباشا عبد الصادق أن يبعث أخاه عبد الهادي للوقوف على إنشاء الغلائط بتطاوين
ثم سار السلطان رحمه الله إلى العرائش فألفاها خالية ليس بها إلا نحو المائتين من أهل الريف تحت كنف أهل الغرب فولى عليها عبد السلام بن علي وعدي ثم أنزل بها مائة من عبيد مكناسة
ثم سار إلى سلا فعبر الوادي ونزل برباط الفتح وأقام به أياما وأمر قائده أبا الحسن عليا مارسيل أن يبني صقالة أي برجا كبيرا على البحر وأمر قائد سلا عبد الحق فنيش أن يبني مثلها بسلا على البحر مقابلتها ثم أمر بإنشاء سفينتين إحداهما لأهل سلا والأخرى لأهل رباط الفتح وكانت عندهم سفينة واحدة مشتركة بينهم أنشؤوها أيام الفترة وفيها كانوا قد خرجوا إلى حصن آكادير ومنه بعثوا وفدهم إلى سيدي محمد بن عبد الله وهو يومئذ خليفة بمراكش فأكرم الرسل وبعث معهم مالا كثيرا إلى المجاهدين بالعدوتين وفي مدة مقامه برباط الفتح هذه المرة صرف جيش العبيد والودايا إلى بلادهم وسار هو إلى مراكش ولما احتل بها كتب إلى تجار النصارى بآسفي يأمرهم أن يشتروا له إقامة المراكب القرصانية من صواري ونطاقات وقمن ومخاطيف وحبال وقلوع وبتاتي وغير ذلك فتنافسوا في شراء ذلك وازدلفوا إلى السلطان بجلبه وانتخابه ثم استقدم جراطين الصحراء الذين بالرتب وتافيلالت وهم الجبابرة والمعاركة وأولاد أبي أحمد لما بلغه عنهم من أنهم يعينون عمه المولى الحسن على محاربة الأشراف الذين هنالك فنقلهم إلى مكناسة وأعطاهم الكسوة والسلاح وكتبهم في ديوان الجيش
وفي هذه السنة وصل الخبر بموت المولى المستضيء بن إسماعيل بتافيلالت كما مر
____________________

إيقاع السلطان سيدي محمد بن عبد الله بالودايا والسبب في ذلك
كان هؤلاء الودايا أحد أركان العسكر الإسماعيلي حسبما تقدم وكان المولى إسماعيل رحمه الله قد اعتنى بشأنهم وأخذ بضبعهم وجمعهم بعد الفرقة وأغناهم بعد العيلة وأسكنهم فاسا الجديدة وأعماله فاستوطنوه وألفوه وصاروا هم أهله بين سائر الجند فكان لهم في الدولة الغناء الكبير واتخذوا الدور والقصور وتوالت عليهم بالعز وإباية الضيم السنون والشهور
ولما توفي رحمه الله كانوا بفاس الجديد على غاية من تمام الشوكة وكمال العصبية وقد ملكوا أمر أنفسهم على الدولة وغلظت قناتهم على من يريد غمزها من أهلها فكانت أحكام الملوك من أولاد المولى إسماعيل لا تمضي عليهم سيما مع ما حازوه من شرف الخؤلة للسلطان المولى عبد الله الذي هو أكبرهم قدرا وأعظمهم صيتا وكان شأنه معهم أن يستكثر بهم تارة وعليهم أخرى والفتن فيما بين ذلك قائمة حسبما مر شرح ذلك مستوفى
فلما كانت أواخر دولة السلطان المولى عبد الله وهلك محمد واعزيز كبير البربر افترقت آيت أدراسن وجروان ووقعت الحرب بينهم مرتين أعان فيها الودايا جروان وألحوا على آيت أدراسن بالنهب والقتل حتى أجلوهم من تلك البلاد
ثم لما بويع السلطان سيدي محمد انحاز إليه آيت أدراسن إذ هم شيعة أبيه أيام محمد واعزيز فولى عليهم ولد محمد واعزيز وأنزلهم بأحواز مكناسة إذ كان عالما بما ناله من جروان والودايا وتظاهرهم عليهم واشتغالهم مع ذلك بإفساد السابلة وقبض الخفارات عليها وكان رئيسهم لذلك العهد رجلا يقال له جبور لصا مبيرا فآخى السلطان سيدي محمد بين آيت أدراسن وآيت يمور وحالف بينهم وأوصى عامله على مكناسة
____________________


بهم وتقدم إلى جروان بالكف عن إذابتهم فلم يرجعوا ولم يقلعوا بل تمادوا على حرب آيت أدراسن وظاهرهم الودايا على عادتهم وأرادوا أن يسيروا فيهم بالسيرة التي كانوا عليها أيام السلطان المولى عبد الله ظنا منهم أن ذلك يتم لهم مع ابنه سيدي محمد وهيهات
( إذا رأيت نيوب الليث بارزة ** فلا تظنن أن الليث مبتسم )
ولما اتصل الخبر بالسلطان أمر قائد العبيد وقائد آيت يمور أن يشدوا عضد آيت أدراسن وينهضوا لنصرتهم على أعدائهم جروان حيث انتصرت لهم الودايا فهاجت الحرب وكشرت عن أنيابها وشمرت عن ساقها فبرز الودايا بجموعهم ونزلوا بوادي فاس في أول يوم من رمضان وأقاموا هنالك مفطرين منتهكين لحرمة الصيام بسفرهم الحرام ثم اجتمعوا هم وجروان وساروا إلى جهة مكناسة وأقبل آيت أدراسن نحوهم بمن لافهم من العبيد وآيت يمور فكان اللقاء على وادي ويسلن فوقعت الحرب فانتصر آيت أدراسن عليهم وهزموهم وانتهبوا محلة جروان ومحلة الودايا وقتلوا منهم نحو الخمسمائة وحزوا رؤوس أعيانهم فعلقوها على الباب الجديد من مكناسة ورجع الودايا إلى فاس مفلولين لم يتقدم لهم مثلها
ولما اتصل خبر ذلك بالسلطان اغتاظ على الودايا بسبب افتياتهم عليه وانتهاكهم حرمة جواره فعزم على المكر بهم وأسرها في نفسه ولم يبدها لهم واستمر مقيما بمراكش إلى أن دخلت سنة أربع وسبعين ومائة وألف
فخرج من مراكش قاصدا مكناسة ومضمرا الإيقاع بالودايا وأحس الودايا بذلك منه فلما وصل إلى مكناسة بعثوا إليه عجائزهم متشفعات ومعتذرات عما فرط منهم فاجتمعن به أثناء الطريق وتوسلن إليه بالرحم والقرابة فرق لهن وأعطاهن كسى ودراهم وعدن صحبته إلى فاس فنزل بالصفصافة وخيمت بها عساكره وخرج أهل فاس والودايا لملاقاته فألان لهم القول وأظهر البشر ومن الغد أمر بعمارة المشور بدار الدبيبغ وقدم
____________________


أهل فاس طعام الضيافة على العادة فأمر السلطان بإدخاله إلى دار الدبيبغ ولما صلى العصر خرج على الناس بالمشور فوقف لهم وقدم الوفود هداياهم على العادة ولما فرغ من ذلك كله أمر العبيد والودايا بالدخول إلى دار الدبيبغ لأكل طعام الضيافة وكان قد أعد بها ألفا من المسخرين للقبض على أعيان الودايا أفردهم في ناحية فلما دخلوا وغلقت الأبواب وثبوا عليهم وجردوهم من السلاح وكتفوهم وألقوهم على الأرض
ولما طعم الجيش وسائر الناس أمر السلطان الخيل بالركوب وشن الغارات على حلة الودايا والمغافرة بلمطة فركبت الخيول وتقدمت إليهم وسار السلطان في موكبه خلفهم ولما شرق شارق فاسا الجديد رماه الودايا من أبراجه بالكور فلم تغن شيئا وتقدم السلطان حتى وقف بالموضع المعروف بدار الرخاء فلم يكن إلا هنيئة حتى أقبلت العساكر بالسبي والأثاث والخيام وانتسفوا الحلة نسفا ولما جن الليل خرج من كان بقي من أعيانهم بفاس الجديد وتفرقوا شذر مذر فذهب بعضهم إلى ضريح الشيخ أبي العباس أحمد الشاوي وبعضهم إلى زاوية الشيخ اليوسي وبعضهم إلى ضريح سيدي أبي سرغين بصفرو وغير ذلك وبقي الضعفاء على الأسوار يطلبون الأمان فعطفته عليهم الرحم ورق لهم فأمنهم وأخرجهم إلى فاس القديم وأدال منهم بفاس الجديد بألف كانون من العبيد فنزلوه وعمروه واقفر من الودايا بعد أن كانوا أهله مدة طويلة كما علمت
ثم أمر السلطان رحمه الله بأربعة من مساجين الودايا فسرحوا أحدهم القائد قدور بن الخضر الشهير الذكر وأمرهم أن يقفوا على إخوانهم المسجونين حتى يعينوا أهل الفساد من غيرهم ويأتوه بزمامهم ويتحروا الصدق في ذلك فعينوا له خمسين من عتاتهم أهل زيغ وفساد فأمر بأن تضرب على أرجلهم الكبول ويقرن كل اثنين منهم في سلسلة ثم بعث منهم إلى مراكش اثنان على الجمل فسجنوا بها وطهرت الأرض من شيطنتهم ثم
____________________


أمر السلطان رحمه الله القائد قدور بن الخضر أن يسرح الباقين من إخوانه ويضم إليهم من الودايا والمغافرة تكملة ألف ويشرد من عداهم إلى قبائلهم وحللهم ثم عين السلطان رحمه الله لأولئك الألف إصطبل مكناسة ينزلون به ويكون قصبة لهم فحملوا أولادهم إلى مكناسة واستوطنوها مع العبيد غير أنهم قد انفردوا بالإصطبل كما قلنا وولى عليهم السلطان القائد قدور بن الخضر وكان أصغرهم سنا وأكملهم عقلا وأصدقهم خدمة وأمره بتأديبهم وإجراء الأحكام عليهم حتى رئموا ملكة الدولة وسكنوا تحت تصريفها وخضعوا لأمرها ونهبها وأخذ السلطان في دفع الخيل والسلاح والكسى لهم شيئا فشيئا إلى أن أركبهم كلهم فصلحت أحوالهم ونمت فروعهم واستمروا بمكناسة إلى أن ردهم إلى فاس الجديد المولى يزيد بن محمد لأول ولايته كما سيأتي إن شاء الله تعالى
وفي هذه السنة أعني سنة أربع وسبعين ومائة وألف باع السلطان أمكاس فاس لعاملها الحاج محمد الصفار باثني عشر ألف مثقال في السنة ثم ارتحل إلى مراكش فاحتل بها إلى أن كان من أمره ما نذكره مجيء السلطان سيدي محمد بن عبد الله من مراكش إلى الغرب مرة أخرى وما اتفق له في ذلك
ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائة وألف فيها خرج السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله من مراكش يريد بلاد الغرب وعرج في طريقه على جملة من القبائل الذين كانوا مشتغلين بالفساد فأوقع بهم وشرد بهم من خلفهم وذلك أنه وصل إلى بلاد الشاوية فنهبهم وانتسف أموالهم وقتلهم وقبض على عدد كثير منهم بعثهم في السلاسل إلى مراكش ثم عدل إلى جهة تادلا فمر على برابرة شقيرين من آيت ومالو فنهب أموالهم وقتل من ظفر به منهم ثم سار إلى بلاد الغرب عازما على الإيقاع بعرب الحياينة لإفسادهم
____________________


وتمردهم فابتدأ أولا بنهب آيت سكاتو وثنى ببني سادان وثلث بالحياينة ففروا إلى جبال غياثة وتحصنوا بها فترك الجيوش ببلادهم تأكل زروعهم وتقدم هو إلى تازا ثم اقتحم على الحياينة جبال غياثة فأبادهم قتلا وتشريدا والعساكر ببلادهم تنتسف الزروع وتحرق العمائر وتستخرج الدفائن إلى أن تركتها أنقى من الراحة وعاد إلى مكناسة
وفي مقامه بها قبض على الشيخ محمود الشنكيطي المتصوف النابغ بفاس كان قد قدم من بلاده ونزل بمستودع القرويين وأظهر التنسك فصار يجتمع عليه الأعيان والتجار من أهل فاس ويعتقدونه قال في البستان فلم يقتصر على ما هو شأنه من إقبال الخلق عليه بل صار يتكلم في الدولة ويكاتب البربر ويزعم أن سلطان الوقت جائر ولم يوافق عليه من الأولياء أحد فنما ذلك إلى السلطان فأمر بالقبض عليه وبعث به إلى مراكش فسجن بها ثم امتحن إلى أن مات ولم تبكه أرض ولا سماء
وقال أكنسوس إنه كان يقول إن السلطان يموت إلى شهر ففشا ذلك في العامة وتسابقوا إلى شراء الفحم والحطب وادخار الأقوات وحصلت فتنة بفاس فأنهى ذلك إلى السلطان فكتب إلى عامل فاس بالقبض عليه وتوجيهه إلى مراكش ثم أمر السلطان أيضا وهو بمكناسة بالقبض على الأمين الحاج الخياط عديل وإخوته فسجنوا في مال كان عليهم بعضه له وبعضه لوالده من قبله وفي تمام السنة أمر بتسريحهم وبعث الحاج الخياط منهم والسيد الطاهر بناني الرباطي سفيرين عنه إلى السلطان مصطفى بن أحمد العثماني صاحب القسطنطينية العظمى وفيها أيضا استخلف السلطان رحمه الله ابن عمه المولى إدريس بن المنتصر بفاس وولاه على قبائل الجبل كلها وفيها أمر بتحبيس الكتب الإسماعيلية التي كانت بدويرة الكتب بمكناسة وعددها اثنا عشر ألف مجلد وزيادة فحبسها على مساجد المغرب كله ولا زالت خزائنها مشحونة بها إلى الآن مكتوبا عليها رسم التحبيس باسم السلطان
____________________


المذكور ثم ارتحل إلى مراكش وفيها أيضا تولى الحاج محمد الصفار مكس فاس باثنين وعشرين ألف مثقال في السنة إيقاع السلطان سيدي محمد بن عبد الله بقبيلة مسفيوة والسبب في ذلك
كان هؤلاء مسفيوة شيعة للمولى المستضيء حسبما تقدم ولما زحف السلطان المولى عبد الله إلى بلاد الحوز وشرد أخاه المولى المستضيء عن مسفيوة وأوقع بهم الوقعة التي تقدم الخبر عنها أذعنوا إلى طاعته في الظاهر وبقيت الحسائف كامنة في صدورهم فكانت تلك الطاعة التي أظهروها له هدنة على دخن واستمر حالهم على ذلك إلى أيام السلطان سيدي محمد رحمه الله فشرى فسادهم وقال في البستان كان هؤلاء مسفيوة من الطغيان والاستخفاف من الدولة على غاية لم تكن لأحد من يوم استخلف سيدي محمد بمراكش وهو يعالج داءهم فما نفع فيه ترياق إلى أن قدم مراكش قدمته هذه فوفد عليه بها مائة وخمسون من أعيانهم فانتهز فيهم الفرصة وقتلهم كلهم سوى القاضي ثم سرب الخيول للغارة على حلتهم فانتسفوها وأبلغوا في النكاية فانخضدت بذلك شوكتهم واستقامت طاعتهم وصلحت أحوالهم فيما بعد ذلك
ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائة وألف فيها جاء السلطان من مراكش إلى الغرب ونهب في طريقه آيت سيبر من زمور الثلج وبددهم ولما وصل إلى مكناسة أمر القبائل بدفع الزكوات والأعشار فكانت الحياينة وشراقة وسائر الحوزية يدفعون واجبهم بهري فاس وكان أهل الغرب وبنو حسن والبربر يدفعون بهري مكناسة ثم نهض السلطان إلى غزو مرموشة فهزمهم ونهب أموالهم واستولى على معاقلهم وقتل منهم عددا وافرا وذلك بعد أن انتصروا على عسكر السلطان أولا وظهروا عليه فتقدم إليهم رحمه الله بنفسه وعبيده
____________________


المسخرين فأوقع بهم وشرهم ثم صار إلى تازا فأصلح شؤونها وثقف أطرافها وعاد سالما مظفرا
وفي هذه السنة توفي قائد القواد الذي كان من السلطان بمنزلة الوزير أبو عبد الله محمد بن حدو الدكالي الذي كان ولاه على دكالة لأول ولايته ثم أضاف إليه تامسنا وتادلا مكان اليوزراري الجابري عمود الدولة المحمدية رحمه الله ولما توفي ولى السلطان مكانه ابن عمه القائد أبا عبد الله محمد بن أحمد
ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائة وألف فيها أمر السلطان ببناء قبة الشيخ أبي الحسن علي بن حرزهم بفاس وفيها ثار رجل اسمه أحمد الخضر بصحراء فجيج فكان يزعم أنه المولى عبد الملك ثم صار يزعم أنه داعيته وفتن الناس بتلك الجهات وجرت على يديه حروب وخطوب فبعث السلطان إلى عرب تلك البلاد فقتلوه وبعثوا برأسه إليه وهو بمكناسة وكان السلطان يومئذ مريضا فعافاه الله وسافر إلى مراكش
ولما اجتاز برباط الفتح بعث منه الرئيس الحاج التهامي مدور الرباطي باشدورا إلى بلاد السويد ليأتيه بإقامة المراكب والبارود وبعث أيضا الرئيس أبا عبد الله محمد العربي المستيري الرباطي باشدورا إلى بلاد النجليز ليصلح بها قرصانه ويجعل له إقامة جديدة فقدمها وجدد قرصانه واستصحب معه إقامة مركبين ومدافع نحاسية وغير ذلك وعاد لتمام السنة
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة وألف فيها كانت وليمة عرس ولد السلطان المولى على بن محمد بمراكش على ابنة عمه المولى أحمد بن عبد الله وعرس ابن أخيه سيدي محمد بن أحمد على ابنة السلطان وكانت وليمة عظيمة حضرها عامة أهل المغرب بهداياهم وأبهاتم وشاراتهم واستقامت الأمور للسلطان رحمه الله
____________________

بناء مدينة الصويرة حرسها الله
لما فرغ السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله من وليمة عرس أولاده سار إلى ناحية الصويرة بقصد بنائها وعمارتها فوقف على اختطاطها وتأسيسها وترك البنائين والعملة بها وأمر عماله وقواده ببناء دورهم بها وعاد إلى مراكش
وقال الكاتب أبو العباس أحمد بن المهدي الغزال في رحلته ما ملخصه إن السبب في بناء مدينة الصويرة هو أن السلطان سيدي محمد بن عبد الله كان له ولوع بالجهاد في البحر واتخذ لذلك قراصين حربية تكون في غالب الأوقات بمرسى العدوتين ومرسى العرائش وكان سفرها في البحر مقصورا على شهرين في السنة زمان الشتاء لأن المراسي متصلة بالأودية وفي غير إبان الشتاء يقل الماء ويعلو الرمل بأفواه المراسي فيمنع من اجتياز القراصين بها ويتعذر السفر ففكر السلطان رحمه الله في حيلة يتأتى بها سفر قراصينه في سائر أيام السنة فبنى ثغر الصويرة واعتنى به لسلامة مرساه من الآفة المذكور ة
وذكر غير الغزال أن الباعث للسلطان المذكور على بناء الصويرة هو أن حصن آكادير كانت تتداولة الثوار من أهل السوس مثل الطالب صالح وغيره ويسرحون وسق السلع منه افتياتا ويستبدون بأرباحها فرأى أن حسم تلك المادة لا يتأتى إلا بإحداث مرسى آخر أقرب إلى تلك الناحية وأدخل في وسط المملكة من آكادير حتى تتعطل على أولئك الثوار منفعته فلا يتشوف أحد إليه فاختط مدينة الصويرة وأتقن وضعها وتأنق في بنائها وشحن الجزيرتين الدائرتين بمرساها كبرى وصغرى بالمدافع وشيد برجا على صخرة داخل البحر وشحنه كذلك فصار القاصد للمرسى لا يدخلها إلا تحت رمي المدافع من البرج والجزيرة معا
ولما تم أمرها جلب إليها تجار النصارى بقصد التجارة بها وأسقط عنهم
____________________


وظيف الأعشار ترغيبا لهم فيها فأهرعوا إليها من كل أوب وانحدروا إلى مرساها من كل صوب فعمرت في الحين واستمر الترخيص لهم فيها مدة من السنين ثم رد أمرها إلى ما عليه حال المراسي من أداء الصاكة وغيرها من اللوازم وهي الآن بهذا الحال والله تعالى أعلم هجوم الفرنسيس على ثغر سلا والعرائش ورجوعه عنهما بالخيبة
قد قدمنا ما كان للسلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله من الولوع بأمر البحر والجهاد فيه فلم تزل قراصينه تتردد في أكناف البحر وتجوس خلال ثغور الكفر فتقتل وتأسر وتغنم وتسبي إلى أن ضاق بهم رحب الفضاء وكاد يستأصل جمهورهم حكم القضاء فمنهم من فزع إلى طلب المهادنة وحسن الجوار ومنهم من كذبته نفسه فتطاول إلى الأخذ بالثأر
ومن هذا القسم الثاني جنس الفرنسيس فإن قراصين السلطان رحمه الله كانت قد غنمت منه مركبا ساقته إلى مرسى العرائش وغنمت منه غير ذلك في مرات متعددة فدعاه ذلك إلى أن هجم على ثغر سلا أواخر سنة ثمان وسبعين ومائة وألف قال الغزال في رحلته رمى الفرنسيس بمرسى سلا من الأنفاض والبنب ما ظن أنه يحصل به على طائل فأجيب منها بضعف ذلك فلم يلبث إلاوأجفانه هاربة تقفو أواخرها الأوائل وفر هاربا مهزوما ساقط الألوية مذموما اه ورأيت بخط الفقيه العلامة أبي العباس أحمد بن المكي السدراتي السلاوي رحمه الله ما صورته هجم الفرنسيس على مدينة سلا يوم الجمعة الحادي عشر من ذي الحجة متم سنة ثمان وسبعين ومائة وألف فأقاموا يوم الجمعة ويوم السبت بظاهر البحر لم يفعلوا شيئا وفي يوم الأحد تقدمت سفنهم فرموا من البنب مائة وسبعا وسبعين وهدمت الدور وفر النساء والصبيان خارج البلد ولم يبق بها إلا القليل وكان يوما مشهودا وفي
____________________


صبيحة يوم الاثنين أرسل الله عليهم الريح ففرقت مراكبهم ونفس الله عن المسلمين وفي يوم السبت الآتي بعده رجعوا فرموا مائة وعشرين وفي يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من الشهر المذكور رموا مائة ونيفا وثلاثين ولم يستشهد من المسلمين في تلك المدة سوى رجل واحد اه قال الغزال ثم إن الفرنسيس عالج ما انصدع من أجفانه في حرب سار ثم هجم على ثغر العرائش قال السدراتي فرمى عليها فيما ذكروا أربعة آلاف نفض ونيفا وثلاثين نفضا وخربوها وهدموا دورها ومسجدها قال وذلك مفتتح سنة تسع وسبعين ومائة وألف وفي يوم الخميس الثاني من المحرم وقيل التاسع منه ليلة عاشوراء اقتحموا المرسى في خمسة عشر قاربا مشحونة من العسكر بنحو الألف وفيها من الشلظاظ والفسيان عدد كثير وتصاعدوا مع مجرى الوادي إلى مراكب السلطان التي كانت هنالك فحرقوا سفينة منها وهي التي غنمها المسلمون منهم وعمدوا إلى أخرى فكسروها بالمعاول والفؤوس ثم تكاثر عليهم المسلمون وقاتلهم بنو جرفط وأهل الساحل حتى ردوهم عل أعقابهم
ولما انقلبوا راجعين إلى مراكبهم وجدوا عرب الغرب مع قائدهم حبيب المالكي قد أخذوا بمخنقهم على فم المرسى وانبثوا لهم على الحجر الذي هنالك وبعث الله ريحا من جهة البحر عظمت بها أمواجه ومنعتهم من الخروج فكانوا إذا توسطوا الوادي ليخرجوا ردتهم الريح وإذا انحازوا إلى أحد الشطين رماهم المسلمون بالرصاص حتى استأصلوا جمهورهم ثم سبحوا إليهم حتى خالطوهم في قواربهم فاستاقوا أحد عشر قاربا ونجا أربعة وتقسمهم المسلمون بين قتيل وأسير وتفرقوا في الأعراب والبادية أيدي سبا ثم أمر السلطان بجمعهم وأعطى كل من أتى بأسير منهم مالا وكسوة فاجتمع منهم نحو الخمسين فبقوا في الأسر إلى أن توسط في فدائهم طاغية الإصبنيول ففدوا بمال له بال
____________________


وأما رؤوس القتلى فقد أمر السلطان رحمه الله بتوجيه نحو الثمانين منها إلى سلا فعلقت بالصقالة القريبة من ضريح الشيخ ابن عاشر رضي الله عنه وبعد هذا وقع الصلح مع جنس الفرنسيس وانعقدت الشروط معه كما سيأتي
ثم إن السلطان رحمه الله قدم العرائش عقب الوقعة وأقام بها شهرا واعتنى بشأنها فبنى بها الصقائل والأبراج حتى صارت من أعمر الثغور وبيد الله تصاريف الأمور مراسلة السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله لطاغية الإصبنيول وما اتفق في ذلك
كان السبب الذي أوجب مراسلة السلطان سيدي محمد بن عبد الله لطاغية الإصبنيول أن جماعة من أسرى المسلمين الذين كانوا بأصبانيا كتبوا مكاتيب عديدة إلى السلطان رحمه الله يعلمونه بما هم فيه من ضيق الأسر وثقل الإصر وما نالهم من الكفار من الامتهان والصغار وكان فيهم من ينتمي للعلم ومن يقرأ القرآن وغير ذلك فلما وصلت كتبهم إلى السلطان وقرئت عليه تأثر لذلك ووقعت منه موقعا كبيرا وأمر في الحسن بالكتب إلى طاغية الإصبنيول يقول له إنه لا يسعنا في ديننا إهمال الأسارى وتركهم في قيد الأسر ولا حجة في التغافل عنهم لمن ولاه الله الأمر وفيما نظن أنه لا يسعكم ذلك في دينكم أيضا وأوصاه أن يعتني بخواص المسلمين الذين هنالك من أهل العلم وحملة القرآن وأن لا يسلك بهم مسلك غيرهم من عامة الأسارى قال مثل ما نفعل نحن بأساركم من الفرايلية فإنا لا نكلفهم بخدمة ولا نخفر لهم ذمة
فلما وصل هذا الكتاب إلى الطاغية أعظمه وكاد يطير سرورا به وللحين أمر بإطلاق الأسارى الذين بحضرته وبعث بهم إلى السلطان ووعده أن يلحق بهم غيرهم من الذين بقوا بسائر إيالته فوقع ذلك من السلطان رحمه
____________________


الله الموقع وعظم في عينيه وكان كريم الطبع يحب الفخر ويعنى به فأطلق لطاغية الإصبنيول جميع من كان تحت يده من أسارى جنسه وعززهم بأسرى غير جنسه أيضا لتكون للطاغية بذلك مزية على سائر الأجناس وبعث معهم بهدية فيها عدد من الأسود على يد قائد سبتة فاتصل ذلك كله بالطاغية فطارت نفسه شعاعا من شدة الفرح وشمر عن ساعد الجد وهيأ هدية استوفى فيها غاية مقدوره وبعثها مع كبراء القسيسين والفسيان وأصحبهم كتابا أفصح به عما بين جنبيه للسلطان من المحبة والاعتراف بالفضل والمنة وطلب منه مع ذلك أن يتفضل عليه ببعث أحد أرباب دولته وكبرائها لتتشرف أرضه بمقدمه وتشتهر هذه المواصلة والملاحظة عند أجناس الفرنج فيعظم بذلك قدره ويكمل فخره فأسعفه السلطان رحمه الله بذلك وبعث إليه خاليه الرئيسين أبا يعلى عمارة بن موسى وأبا عبد الله محمد بن ناصر وكلاهما من الودايا ومعهما كاتبه أبو العباس أحمد الغزال بعثه كاتبا لهما لا غير فلما وصلوا إلى جبل طارق كتب الغزال إلى بعض وزراء السلطان يقول له إني أريد منك أن تعرف أمير المؤمنين أن هذين الرجلين لا معرفة لهما بقوانين النصارى وإني قد خفت عاقبة الأمر فيما ينشأ عن رأيهما فلا يؤاخذني أمير المؤمنين بشيء من ذلك إن كان فأخبر الوزير السلطان فقال صدق وقد ندمت على تقديمهما عليه وما راعيت إلا منزلتهما والآن فاكتب إلى الطاغية وقل له إني قد بعثت إليك بكاتبي أحمد الغزالي باشدورا وابعث بالكتاب إلى الغزال فإذا بلغه فليستمسك به وليحز الكتاب الأول الذي عندهما ويلي الأمر دونهما فلما بلغه كتاب السلطان امتثل وقضى الغرض على الوجه المطلوب وأبقى ذكرا جميلا رحمه الله
وفي هذه السنة أعني سنة تسع وسبعين ومائة وألف ألزم السلطان أهل فاس ببعث الإدالة منهم إلى الصويرة وهي خمسون راميا بقائدها وفقيه مدرس ومؤقت ومؤذن وشاهدان وأسقط عنهم البعث الذي كانوا يفرضونه للمملوك
____________________


قبله وهي خمسمائة رام فعينوا الإدالة المذكورة بعد التي واللتيا وبعثوهم إليه بمراكش فبعثهم السلطان إلى الصويرة ورتب لهم المؤن والمرافق فكانوا يقومون على المرسى وينتفعون بمستفادها فحسنت حالهم واغتبطوا بها واستمر الحال على ذلك
وفي هذه السنة بعث أيضا السلطان الرئيس أبا الحسن عليا مارسيل الرباطي إلى بلاد الفرنسيس لتقرير الصلح معهم وقبض مال أسارى العرائش وشراء الإقامة منه فبذلوا المال والإقامة معا طائعين وفيها بعث السلطان الفقيهين السيد الطاهر بن عبد السلام السلاوي والسيد الطاهر بناني الرباطي باشدورين إلى صاحب الاسطنبول السلطان مصطفى العثماني وأصحبهما هدية نفيسة فيها خيل عتاق بسروج مثقلة بالذهب مرصعة بالجوهر والياقوت ونفيس الأحجار وفيها أسياف محلاة بالذهب ومرصعة بالياقوت المختلف الألوان وفيها حلى من عمل المغرب فقبل ذلك السلطان العثماني وابتهج به ثم كافأ عليه بمركب موسوق من آلة الحرب مدافع ومهاريس وبارود وإقامة كثيرة للمراكب القرصانية من كل ما تحتاج إليه
وفي هذه السنة خرج السلطان إلى بلاد الريف فجعل طريقه على تطاوين ثم على بلاد غمارة وانتهى إلى جارت وبلاد الريف فمهد تلك النواحي كلها ورجع على طريق تازا وفيها قدم المولى علي ابن السلطان خليفة عن أبيه فنزل فاسا الجديد وأضاف إليه قبائل الجبل والريف وفيها قدمت ربة الدار العالية المولاة فاطمة بنت سليمان من مراكش إلى فاس بقصد الزيارة فركبت ذات ليلة إلى ضريح المولى إدريس رضي الله عنه وضريح الشيخ أبي الحسن علي بن حرزهم وضريح الشيخ أبي عبد الله التاودي فطافت عليهم وتبركت بتربهم وذبحت أكثر من مائة ثور وأخرجت صدقات كثيرة ثم خرجت بعد ذلك إلى مدينة صفرو فزارت ضريح سيدي أبي سرغين وضريح سيدي أبي علي وذبحت وتصدقت
____________________


وعادت إلى فاس ثم ذهبت إلى زيارة الشيخ عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه فصحبها في ركابها أعيان فاس وأشرافها وعلماؤها ولما كانت بأثناء الطريق اعترضها قواد الغرب بهداياهم وبشاراتهم وزيهم ووافاها قواد الثغور بضريح الشيخ عبد السلام في مواكبهم وخيلهم ورجلهم وذلك عن أمر من السلطان رحمه الله
قال صاحب البستان وكنت يومئذ واليا على العرائش فحضرت في جملتهم ولما قضت أرب الزيارة فرقت الأموال على الأشراف من أهل جبل العلم وغمرت الناس بالعطايا ثم عادت إلى القصر ومنه سارت إلى العرائش فأقامت بها ثلاثة أيام وانفض قواد الثغور كل إلى محله وسافرت المولاة المذكورة إلى مراكش في ألف فارس من العبيد كانوا قد قدموا معها من مراكش عليهم القائد مصباح وكان فعلها هذا من الآثار العظيمة والمناقب الفخيمة رحمها الله اعتناء السلطان سيدي محمد بن عبد الله بثغر العرائش وشحنه بآلة الجهاد
قد تقدم لنا أن السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله قدم العرائش عقب وقعة الفرنسيس فوقف عليها واعتنى بأمرها وبنى بها الصقائل والأبراج وصونها ثم كان قدوم ابنه المولى يزيد في هذا التاريخ إلى فاس وفي ركابه جماعة من رؤساء البحر والطبجية أهل الإجادة في الرمي وكان قدومه بأمر السلطان لجر المدافع والمهاريس النحاسية التي كانت بفاس الجديد ومكناسة ونقلها إلى ثغر العرائش ففعلوا وألزم السلطان القبائل الذين بالطريق أن يتولوا جرها فكانت كل قبيلة تجرها إلى التي تليها إلى أن وصلوا إلى مشرع مسيعيدة من نهر سبو
قال صاحب البستان فورد علينا أمر السلطان بالعرائش أن نخرج إلى لقائهم في الجند وقبائل الحوز يعني حوز العرائش قال فوافيناهم على
____________________


وادي سبو فتولى أهل الغرب جر تلك المدافع والمهاريس إلى أن أوصلوها إلى وادي الدردار قرب تاجناوت ثم جرها أهل العرائش وقبائل حوزها إلى المدينة وكان يوم دخولها مهرجانا عظيما أخرجت فيه المدافع والمهاريس والبارود وتسابقت القبائل على الخيول ولعبوا بالبارود إلى المساء ثم رجع المولى يزيد ومن معه من الرؤساء والبحرية والطبجية إلى حضرة السلطان بمكناسة وقد تم الغرض المقصود إيقاع السلطان سيدي محمد بن عبد الله بآيت يمور أهل تادلا ونقلهم إلى سلفات والسبب في ذلك
لما انقضى أمر العرائش تفرغ السلطان لقضاء ما كان قد بقي عليه من أمر الرعية فخرج من مكناسة إلى تادلا مضمرا الإيقاع بآيت يمور لما كان يبلغه عنهم من الفساد في الأرض فلم بلغها مكر بهم بأن أرسل إليهم يستنفرهم خيلا ورجلا وأراهم أنه يريد أن يذهب بهم في سرية هيأها لآيت ومالو فلما قدموا عليه أمر بعرض العساكر كلها ووقف رحمه الله بإزاء القصبة ثم عرضت عليه عساكر الجند ثم القبائل بعضها إثر بعض وكلما مرت عليه قبيلة أوقفها في ناحية عينها لها وكلما مر به جيش أوقفه كذلك حتى غصت الأرض بالخيل والرجل واستدارت من كل الجهات ولم يبق إلا آيت يمور فجاؤوا في آخر العرض ولما مثلوا بين يديه أمر أهل رحاه أن يرموهم بالرصاص على زناد واحد فأطلقوا عليهم شؤبوبا منه تساقط له عدد كثير وكان قد تقدم إلى العساكر المستديرة بهم أن ينفحوهم بالرصاص كلما قصدوا جهة من جهاتهم فكانوا كلما قصدوا ناحية طالبين الخلاص منها رماهم أهلها فتتساقط منهم العصبة الكبيرة إلى أن خلصوا من ناحية أهل دكالة بعد أن هلك منهم ما ينيف على الثمانمائة فأمر السلطان برؤوسهم فجزت وبعث بها إلى فاس فعلقت على الأسوار وأمر العساكر بنهب حللهم فانتسفوها وسيقت مواشيهم وخيامهم وأثاثهم وفر من أفلت منهم إلى جبل
____________________


آيت يسري ثم رحل السلطان عنهم إلى مراكش فوفدوا عليه بعد أيام خاضعين تائبين فعفى عنهم ونقلهم إلى جبل سلفات من أحواز فاس فأوطنوه حينا من الدهر إغراء السلطان سيدي محمد بن عبد الله بآيت أدراسن والسبب في ذلك
لما كان من السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله لآيت أدراسن من الإحسان ما كان حتى أوقع بالودايا لأجلهم مع أنهم صميم الجند وركن الدولة وأطال لهم الرسن في ذلك بما أطغاهم وحملهم على الدالة عليه صدرت منهم هنات اعتدها السلطان عليهم فانتدب لتأديبهم بأن كتب وهو بمراكش إلى الودايا لقتالهم وإلى العبيد وجروان يأمرهم أن يجتمعوا على حربهم والإيقاع بهم فكان ذلك عند الودايا من أكبر متمناهم فاجتمعوا مع من ذكر ونهدوا إليهم فكبسوهم في ديارهم وجرت بينهم حرب فظيعة انهزم في آخرها آيت أدراسن ونهبت حللهم وقتل منهم عدد كثير وأسر مثل ذلك ووجهوا في السلاسل إلى السلطان بمراكش
وفي هذه السنة أعني سنة تسع وسبعين ومائة وألف أمر السلطان بجمع جند اليكشارية من قبائل الحوز ووكل بجمعهم القائد عبد النبي المنبهي وأن يثبتهم في ديوان العسكر وأن كل من كان عزبا وأراد الدخول في الجندية فليكتبه فاجتمع له من ذلك أربعة آلاف وخمسمائة فأعطاهم السلطان الكسي والسلاح واستخدمهم مدة ثم كان مآلهم أن رجعوا إلى إخوانهم وقبائلهم وضرب عليهم المغرم في جملتهم وفيها مات عامل فاس الحاج محمد الصفار فولى السلطان على فاس ابنه العربي بن محمد الصفار
ثم دخلت سنة ثمانين ومائة وألف فيها قدم السلطان إلى مكناسة وقبض على القائد عبد الصادق بن أحمد الريفي صاحب طنجة وعلى مائة من
____________________


قرابته وأهل بيته فأودعهم السجن ثم سار إلى طنجة فدخلها ونهب دار عبد الصادق المذكور ونقل إخوانه بأولادهم إلى المهدية وولى عليهم محمد بن عبد الملك من بيتهم ولم يترك بطنجة من أهل الريف إلا أهل المروءة والصلاح وأنزل معهم ألفا وخمسمائة من عبيد المهدية بعددهم بحيث لا يطمعون في قيام ولا يحدثون أنفسهم بثورة ووقع بخط الفقيه أبو العباس أحمد السدراتي أن انتقال أهل الريف إلى المهدية كان بعد هذا بنحو أربع سنين والله أعلم مقتل عبد الحق فنيش السلاوي ونكبة أهل بيته والسبب في ذلك
قد قدمنا في آخر دولة السلطان المولى عبد الله ما كان بحواضر المغرب وبواديه من الاضطراب فسما بعض القواد والعمال بالأمصار إلى مرتبه الاستقلال وطرحوا طاعة السلطان في زاوية الإهمال فمنهم صاحب سلا عبد الحق بن عبد العزيز فنيش كان قد استحوذ على مدينة سلا وأعمالها واستبد بأمرها بما كان له من العشيرة والعصبية بها ولما اجتاز سيدي محمد بن عبد الله من مراكش إلى القصر أيام والده أغلق عبد الحق هذا أبواب سلا في وجهه ولم يحفل به ذهابا وايابا حسبما مر
ثم لما ولى الله السلطان أمر المسلمين أعرض عما أسلفه عبد الحق من جريرته وأبقاه في مدينته على رياسته فاستمر على ذلك برهة من الدهر وكان فظا غليظا فقتل رجل من أعيان سلا قيل كان هذا الرجل من قرابته وقيل كان من أولاد زنيبير فرفع أولياؤه أمرهم إلى السلطان بمكناسة وحضر عبد الحق معهم وثبت أن قتله للرجل كان على وجه الظلم فحرك ذلك من السلطان ما كان كامنا في صدره عليه فقبض عليه ودفعه إلى أولياء المقتول ليتولوا قتله بأيديهم فجبنوا عنه لما كان له في قلوبهم من الهيبة فأمر
____________________


السلطان الوزعة بقتله بمرأى منهم فقتلوه فيما قيل بأيدي الفؤوس ثم بعث السلطان من احتاط على أموال عبد الحق والفنانشة أجمع وأمر ببيع أصولهم بعد إعمال الموجبات بأن الفنانشة مستغرقوا الذمة وأن جميع ما بأيديهم اكتسبوه من الغصوبات وغيرها من وجوه الظلم وضرب الأتاوات على الضعفاء والمساكين حتى عند نكاحهم فبيعت أصول عبد الحق وعشيرته لبني حسن وكانت تنيف على مائة أصل من بين ربع وعقار وكان ذلك سنة ثمانين ومائة وألف ثم غربهم السلطان إلى العرائش فسجنوا بها مدة وغرب بعضهم إلى الصويرة ثم عفا عنهم وقربهم وولاهم رياسة الرماية بالمهراس والمدفع المعروفة برياسة الطبجية وفرقهم على الثغور فكان بعضهم بالعرائش وبعضهم بطنجة وبعضهم برباط الفتح وبعضهم بالصويرة وأعطاهم الدور المعتبرة والرباع المغلة ورتب لهم الجرايات العظيمة حتى بلغوا من الثروة والعز والجاه ما لم يبلغه أحد في دولته رحمه الله كذا في البستان
ومن القواد الذين كانوا في حكم الاستبداد أيام السلطان المولى عبد الله ثم نكبهم ابنه السلطان سيدي محمد بعد حين القائد أبو الحسن الحاج علي بن العروسي الدكالي البوزراري كان قائد المولى المستضيء بعد أيام ولايته ولما أفضى الأمر إلى السلطان سيدي محمد قبض عليه وأودعه المطبق عدة أعوام ثم سرحه وولاه مدينة شفشاون وتوارث الرياسة بنوه من بعده ولهم آثار بثغر الجديدة منها مسجدها مكتوبا عليه اسم بانيه إلى الآن ومن القواد المستبدين قائد تامسنا المدعو ولد المجاطية وقائد تادلا الرضي الورديغي فعزلهم السلطان سيدي محمد وولى على تامسنا وتادلا القائد محمد بن حدو الدكالي المتقدم الذكر ومنهم أبو عريف قائد بني حسن فعزله السلطان وولى مكانه أبا عبد الله محمد القسطالي ومنهم الباشا حبيب المالكي قائد الغرب كان رأس الأمراء أيام أبيه فقبض عليه وأودعه
____________________


المطبق وأمر بهدم قصره وحمل أنقاضه إلى العرائش ونهب ماله وماشيته ولما طرح الباشا حبيب بالمطبق منع نفسه من الطعام والشراب إلى أن مات ميتة جاهلية عياذا بالله فهؤلاء أنياب القبائل وأهل العصبية منهم تتبعهم السلطان واحدا بعد واحد إلى أن أراح الدولة من ضررهم والله أعلم
وفي هذه السنة أعني سنة ثمانين ومائة وألف انعقدت الشروط بين السلطان سيدي محمد بن عبد الله وبين جنس الفرنسيس وهي عشرون شرطا مضمنها ومرجعها إلى المهادنة والصلح والمخالطة بالبيع والشراء مع التوقير والاحترام من الجانبين وإذا سافرت مراكبهم من مراسيهم إلى إيالتنا فتصحب معها الورقة المسماة بالباصبورط من عند أمير البحر المرتب بكل مرسى من مراسيهم فيها اسم المركب ورئيسه وبيان ما اشتمل عليه من الوسق ومن أين جاء وإلى أين يذهب وعليه طابع أمير البحر وهو طابع الجنس وإذا سافرت مراكبنا من مراسينا إلى إيالتهم فتصحب كذلك خط يد القنصل المرتب بمرسانا من ذلك الجنس باسم المركب ورئيسه وما اشتمل عليه مختوما عليه بطابع الجنس أيضا وكان القياس أن مراكبهم تحمل طابعنا وخطنا ليحصل لها التوقير كما نحمل نحن طابعهم وخطهم ليحصل لنا التوقير منهم ولكن لما لم تجر العادة بترتب متأصلنا بمراسيهم اكتفي بطابعهم من الجانبين إذ المقصود حاصل بذلك ولا يلتبس على رؤساء البحر طابع جنس بآخر فإذا التقى مركب بمركب وأخرج كل ورقته عرف من أي جنس هو وعومل على مقتضى ذلك ورود هدية السلطان مصطفى العثماني على السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمهما الله
وفي هذه السنة أعني سنة ثمانين ومائة وألف بعث السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله خديمه الرئيس عبد الكريم راغون التطاوني
____________________


باشدورا إلى السلطان مصطفى العثماني وأصحبه هدية نفيسة مكافأة له على هديته التي كان أرسلها مع السيد الطاهر بن عبد السلام السلاوي والسيد الطاهر بناني الرباطي حسبما مر
ثم لما دخلت سنة إحدى وثمانين ومائة وألف قدم الحاج عبد الكريم المذكور من عند السلطان المذكور ومعه هدية عظيمة أعظم من الأولى وهي مركب موسوق بالمدافع والمهاريس النحاسية وإقامتها وإقامة المراكب القرصانية من صوار ومخاطيف وقلوع وقمن وحبال وبراميل وغير ذلك من آلات البحر وفيها ثلاثون من مهرة المعلمين الذين لهم المعرفة بأفراع المدافع والمهاريس والكور والبنب وبصناعة المراكب القرصاينة وفيهم معلم مجيد في الرمي بالمهراس إلى الغاية فنزلوا بمرسى العرائش
قال صاحب البستان وكنت يومئذ واليا بها فورد أمر السلطان بتوجيه المعلمين إلى فاس يقيمون بها حتى يقدم السلطان من مراكش إلى مكناسة فيجتمعون به هنالك ولما وصل السلطان إلى مكناسة وحضروا عنده فاوضهم في الخدمة وأراد أن يحيي آثار دار الصنعة التي كانت بسلا تصنع بها المراكب الجهادية على عهد الموحدين وبني مرين فقالوا نحتاج أن تبني لنا دارا على هيئة كذا ومن نعتها كذا وكذا ورسموا له شكلها في قرطاس فرأى أن أمرها لا يتم في عشر سنين ولا أكثر ولا يكفي في بنائها مال فأعرض عن ذلك وبعث معلمي البنب إلى تطاوين فكان أحدهم يفرغ البنبة من قنطارين وبعث معلمي المراكب إلى سلا فأنشؤوا فيها ثلاث شكظريات وبعث معلم الرمي إلى رباط الفتح فكان يعلم بها الطبجية من أهل سلا والرباط وتخرج على يديه نجباء ومن ثم توارث أهل العدوتين هذه الصناعة مدة إلى أن لم يبق بها اليوم إلا الاسم ورد أصحاب المدافع والمهاريس إلى فاس فأقاموا بها إلى أن توفوا هنالك رحمهم الله
____________________


وفي هذه السنة انعقدت الشروط بين السلطان سيدي محمد بن عبد الله وبين جنس الدينمرك وهي عشرون شرطا ترجع إلى تمام الصلح والأمن من الجانبين أيضا والأول منها مضمنة خروج أمر المراسي المغربية من يد تجار الدينمرك فلا يتصرفون فيها بشيء لكون الكمبانية التي كانت تدفع من المراسي قد تفرقت بعد التزام قنصلهم بأداء اثني عشر ألف ريال وخمسمائة ريال التي بقيت بذمة تجارهم من ذلك ولا تعود المراسي لأيديهم بحال والآخر منها مضمنة أن يدفع طاغية الدينمرك للسلطان كل سنة خمسة وعشرين مدفعا من مدافع المعدن وزر كورتها من ثمانية عشر رطلا إلى أربعة وعشرين ويدفع معها ثلاثين قمنة ومن اللوح الروبلي ألفي لوحة مختلطة ومن الريال ستة آلاف وخمسمائة والكل واصل إلى المحل الذي يريده السلطان وإن أراد الطاغية أن يدفع بدلا عن جميع ذلك خمسة وعشرين ألف ريال فله ذلك ومثل هذا انعقد مع جنس السويد أيضا إلا أن قدر المدفوع من جانبه عشرون ألف ريال فقط في كل سنة ومع أجناس أخر وظائف أخر واستمرت هذه السنة إلى أن انقطعت سنة إحدى وستين ومائتين وألف في دولة السلطان المولى عبد الرحمن بن هشام رحمه الله حسبما نذكر ذلك في محله
وفي هذه السنة أعني سنة إحدى وثمانين ومائة وألف كانت فتنة الدعي كلخ بمراكش وهو رجل صعلوك اسمه عمر كان ينتسب إلى الشيخ أبي العزم سيدي رحال وكان يظهر للعامة الكرامات الكاذبة وتبعه السواد الأعظم من جهلة البادية لأنه وعدهم أن يفتح لهم بيت المال ويهيلون منه الذهب والفضة هيلا من غير ممانع فأهرع الناس إليه وتقدم إلى مراكش فدخلها في عالم من الأوباش شعارهم هاتان الكلمتان كلخ شلخ رافعين بها أصواتهم وهم كالسيل المنحدر من عل فوقع الهرج بالمدينة وغلقت الأسواق واتصل الخبر بالسلطان وهو بداره فأمر الوزعة والعبيد
____________________


فاعترضوهم دون القصبة وقبضوا عليه ولما صار في أيديهم فر من كان معه من الطغام وساقوه إلى السلطان فقتله وسكنت جعجعته للحين انعقاد الصهر بين السلطان سيدي محمد بن عبد الله وبين سلطان مكة الشريف سرور رحمه الله
كان السلطان سيدي محمد بن عبد الله يحب الفخر ويعنى به وله رغبة في الخير وأهله ولما كان سلطان مكة الشريف سرور رحمه الله بالمحل الذي أكرمه الله به بلدا ومحتدا رغب السلطان سيدي محمد رحمه الله في مصاهرته وسمحت نفسه الشريفة ببذل كريمته
فما دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف وعزم ركب الحاج المغربي على السفر إلى الحجاز بعث معهم السلطان المذكور ابنته وزفها على بعلها المذكور وبعث ولده الأكبر وخليفته الأشهر المولى علي بن محمد لإقامة فريضة الحج ومعه شقيقه المولى عبد السلام صغيرا دون بلوغ ليكون مع أخته وكلاهما في صحبة الركب المغربي كما قلنا وأصحبهما هدية لأمير طرابلس وهدية لأمير مصر والشام وهدية عظيمة لأهل الحرمين الشريفين ومالا كثيرا يفرق على أشراف الحجاز واليمن وجوائز سنية للعلماء والنقباء وأرباب الوظائف بمكة والمدينة وبعث معهما من وجوه أهل المغرب وأولاد أمراء القبائل وأشياخهم ومن أكابر خدامه وأصحاب أشغاله بالخيول المسومة والسلاح الشاكي والشارة الحسنة وما تحدث به أهل المشرق دهرا وكان في جهاز ابنة السلطان ما يزيد على مائة ألف دينار من الحلى والياقوت والجوهر وكان يوم دخولها إلى مكة يوما مشهودا حضره عامة أهل الموسم الأعظم من الآفاق وتناقلت حديثه الركبان والرفاق
____________________

اعتناء السلطان سيدي محمد بن عبد الله بعبيد السوس والقبلة وجلبهم إلى أجدال رباط الفتح
وفي هذه السنة أعني سنة اثنتين ومائة وألف بعث السلطان سيدي محمد بن عبد الله ابن عمه المولى علي بن الفضيل وكاتبه أبا عثمان سعيد الشليح الجزولي إلى بلاد السوس لجمع عبيد المخزن الذين بها وبعث وصيفه المحجوب ابن قائد رأسه لإقليم طاطا وآقاوتيشيت من بلاد القبلة لجمع العبيد الذين هنالك فجاؤوا بألفين من عبيد السوس بأولادهم وألفين من عبيد القبلة بأولادهم كذلك فأنزلهم السلطان بظاهر مراكش إلى أن أعطاهم السلاح والكسي وولى عليهم القائد المحجوب المذكور
ثم لما سار إلى رباط الفتح أمر بقطع جنات أجدال الذي بظاهر البلد وأنزل العبيد به وبنى لهم الدور والمسجد والمدرسة والحمام والسوق وزاد عليهم ألفين وخمسمائة من الودايا جلبها من القبائل وكتب الجميع في الديوان وجعلهم في مقابلة عبيد مكناسة والودايا الذين بها وأفاض فيهم العطاء الكثير لسكناهم بثغر من ثغور الإسلام فتح الجديدة
قد ذكر لويز مارية خبر هذا الفتح ونحن نلخص ما ذكره من ذلك قال لما ولي السلطان سيد محمد بن عبد الله سلطنة المغرب كان لا يقر له قرار من أجل مشاركة البرتغال له في قطعة من أرضه وكان شهما ذا أنفة وإباية فاستشار أهل الرأي من دولته في غزو الجديدة وفتحها فقالوا له لا يظن سيدنا أن أخذها يكون بأن تحمل المسلمون عليها دفعة واحدة حتى يقتحموها مثلا فإن ذلك لا يجدي شيئا ولا يحصلون إلا على القتل كما وقع في أيام السلطان الغالب بالله السعدي وإنما يتوصل إلى فتحها بالحصار
____________________


والمطاولة برا وبحرا فعمل على ذلك بعد أن كرهه أولا ولما عزم على النهوض إليها جمع جيشا كثيفا من قبائل مراكش والحوز والسوس وغير ذلك
زعم لويز أنه اجتمع له من المقاتلة نحو سبعين ألفا ويظن أن هذا من مبالغته على عادته في ذلك وكان نزوله على الجديدة في رابع مارس العجمي سنة ثمان وستين وسبعمائة وألف مسيحية وفي تواريخ الإسلام أن نزوله عليها كان في فاتح رمضان من سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف عربية ولما نزل عليها أمر بحفر الأساس لاتخاذ أشبار من جميع جهاتها ونصب عليها خمسة وثلاثين مدفعا بين كبير وصغير ورمى عليها كورا وبنبا كثيرا في أيام متعددة سقط منه داخلها أكثر من ألفين وهدمت كثيرا من أبنيتها وقتلت عددا وافرا من أهلها وكان من جملة أهلها رجل عسكري قد أناف على السبعين سنة وعجز عن حضور القتال وله زوجة وأولاد فلما رأى تساقط البنب مثل المطر طلب النجاة لنفسه وعياله ففر إلى هري هنالك كان فوقه خزائن قمح فاختفى تحته واختفى معه أناس آخرون وظنوا أن البنبة لا تنفذ في خزين القمح وتخرق السقف الذي تحته وتصل إلى الهري الذي هم به فقضى الله تعالى بأن سقطت به بنبة تجاوزت القمح والسقف وسقطت على الشيخ فقتلته ومن معه وكانوا تسعة أنفس وانجرح آخرون
ولما طال الحصار على أهل الجديدة كتبوا إلى طاغيتهم فأشار عليهم بالخروج إن عجزوا عن المدافعة وكانت هذه المكاتبة من غير علم من العامة وبينما هم كذلك إذ ورد عليهم مركب من أشبونة ظنوه مددا لهم فإذا به قد أتى بكتاب الطاغية يأمرهم بالخروج ويتحملوا بأولادهم وعيالهم في مراكبه ويدفعوا البلد للمسلمين ولما علم العامة بذلك امتنعوا وحاصوا حيصة حمر الوحش وسبوا الكتاب ومن أرسله وقالوا لا نخرج منها حتى نهلك عن أخرنا إذ هي مأثرة أجدادنا عجنت طينتها بدمائهم وفنيت عليها
____________________


نفوس أكابرهم وأشرافهم ثم توسط بين عامتهم وكبيرهم القسيسون وسهلوا عليهم الأمر حتى انقادوا وبعث كبيرهم إلى السلطان سيدي محمد بن عبد الله يطلب منه أن يكف عن القتال ويؤجله ثلاثة أيام ليدفع له البلد فأجابه السلطان إلى ذلك واشترط عليه أن لا يخرجوا إلا في ثيابهم التي على ظهورهم ولا يحملوا معهم شيئا غيرها فامتثلوا
قال لويز حتى أن عسكريا منهم حمل معه كسوة أخرى لم تسمح بها نفسه فرآها كبيرهم وهو يريد أن يصعد إلى المركب فانتزعها منه وألقاها في البحر ولما أيسوا من حمل شيء معهم أحرقوا الأثاث والفراش وعرقبوا الخيل وقتلوا الماشية وكسروا الأواني والعدة وفلسوا أكثر من مائة مدفع وآخر الأمر أنهم دفنوا مينات البارود في حوماتها كل مينا فيها أكثر من أربعين برميلا وتركوا رجلا حدادا اسمه بطروس فيقال إنه الذي أوقد المينا عند دخول المسلمين إليها فهلك فيها نحو خمسة آلاف وتهدم السور الجنوبي منها
ولما وصلوا إلى أشبونة أسكنهم طاغيتهم ببلدة يقال لها بلين فأصابهم الوخم وهلك منهم أكثر من ثلاثمائة نفس ثم انتقلوا إلى بلاد البرازيل فبنوا هنالك مدينة سموها مازكان الثانية باسم الجديدة هذا ملخص ما ذكره لويز ومن خط الفقيه العلامة أبي العباس أحمد السدراتي أن فتح الجديدة كان صبيحة يوم السبت الثاني من ذي القعدة سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف ووافق ذلك اليوم الثامن والعشرين من فبراير العجمي وهو ثالث أيام الحسوم اه وكان ممن شهد هذا الفتح المعلم الحاج سليمان التركي المجيد في صناعة الرمي بالمهراس فأبدأ وأعاد وحضرها أيضا جماعة من فنانشة سلا فأبلوا بلاء حسنا وعمرها السلطان بأهل دكالة إذ هي في وسط أرضهم وأضاف إليهم حصة من عسكر اليكشارية وأعقابهم بها لهذا العهد والله أعلم
____________________

سعي السلطان سيدي محمد بن عبد الله في فكاك أسرى المسلمين وما يسر الله على يديه من ذلك
قد تقدم أن السلطان سيدي محمد بن عبد الله كان قد بعث خاليه عمارة بن موسى ومحمد بن ناصر الوديين وكاتبه أبا العباس الغزال إلى طاغية الإصبنيول وأن الغزال قد أحكم الصلح وقضى الغرض على ما ينبغي وفي تلك السفرة وقع التفادي بين السلطان والطاغية في الأسرى التي كانت بينهما حسبما مر
فلما كانت هذه السنة التي هي سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف كتب طاغية الإصبنيول إلى السلطان يقول إنه لم يبق ببلادي أحد من أسرى إيالتكم ولم يبق عندي إلا أسرى أهل الجزائر الذين عندهم أسرانا وطلب منه مع ذلك أن يتوسط له عند صاحب الجزائر في المفاداة بينه وبينه وكانت أسرى الإصبنيول تزيد على أسرى الجزائر بكثير وطلب أن تكون هذه المفاداة على يديه أعني على يد السلطان رحمه الله الرئيس بالرئيس والبلوط بالبلوط واليكانجي باليكانجي والبحري بالبحري والجندي بالجندي ومن فضلت عنده فضلة فالبحيري بخمسمائة ريال والرئيس بألف فأسعفه السلطان في طلبه وانتدب للسعي في إنقاذ المسلمين من أيدي الكفار ابتغاء مرضاة الله ورجاء ثوابه وكان السلطان قد كتب إليه مع الغزال وصاحبيه فيمن تحت أيديهم من سائر أسرى المسلمين فبعثوا إليه بأهل المغرب فقط واعتذروا بأنهم حبسوا أسرى الجزائر ليفكوا بهم أسراهم
ولما كاتب السلطان أهل الجزائر وعرض عليهم ما طلبه طاغية الإصبنيول امتنعوا من الفداء فكتب السلطان إلى باي الجزائر ثانيا فامتنع ثم
____________________


أعاد إليهم الكتابة ثالثا وحضهم على فكاك أسرى المسلمين ووعظهم وخوفهم عقاب الله ورغبهم في ثوابه فأذعنوا وامتثلوا وطلبوا منه أن يبعث إليهم رجلا من خاصته يقف على المفاداة بنفسه ويدفعون إليه أسراهم في يده ويتسلم مثل عددهم من إخوانهم فلما ورد على السلطان كتاب أهل الجزائر بالامتثال كتب إلى الطاغية يأمره أن يبعث بما عنده من أسرى المسلمين في مركب إلى الجزائر وينتظر هنالك الباشدور الذي يوجهه من قبله حتى تكون المفاداة على يده وبعث السلطان لهذا الغرض كاتبه أبا العباس الغزال وصاحبيه وعند وصولهم إلى الجزائر أرسى مركب الإصبنيول بظاهر مرساها وأنزل من أسرى المسلمين ألفا وستمائة ونيفا فأخرج أهل الجزائر من أسرى النصارى مثلهم ألفا وستمائة ونيفا أيضا وبقيت عندهم من أسرى النصارى فضله ففداها الإصبنيول بالمال وانفصلوا ورجع الباشدور ومن معه إلى حضرة السلطان وكتب الله أجر ذلك في صحيفته
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف فيها غزا السلطان قبائل تادلا لإفسادهم ومحاربة بعضهم بعضا فنهب أموالهم وشردهم في كل وجه وولى عليهم القائد صالح بن الرضي الورديغي فاستصفى أموالهم وأفقرهم حتى لم يقدروا على الانتقال من محل إلى آخر من قلة الظهر
ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائة وألف فيها غزا السلطان برابرة جروان لما ظهر منهم من الفساد وإغرائهم ابنه المولى يزيد بالانتزاء على الملك واجتماعهم على محمد وناصر المعروف بمهاوش رأس الفتنة وتباريهم في خدمته فقدم من مراكش وطرقهم وادي كريكرة فأوقع بهم ونهب أموالهم وقتل منهم نحو الخمسمائة وتركهم عالة يتكففون الناس بمكناسة وفاس ثم نقلهم إلى بسيط آزغار وأنزلهم وسط العرب فانحسمت مادة فسادهم
____________________

حصار السلطان سيدي محمد بن عبد الله مدينة مليلية من ثغور الإصبنيول
لما كانت أواخر سنة أربع وثمانين ومائة وألف غزا السلطان سيدي محمد بن عبد الله مدينة مليلية وفيها نصارى الإصبنيول فأحاطت عساكره بها ونصب عليها المدافع والمهاريس وشرع في رميها أول يوم من المحرم سنة خمس وثمانين ومائة وألف واستمر على ذلك أياما فكتب إليه طاغية الإصبنيول يعاتبه على حصارها ويذكره المهادنة والصلح الذي انعقد بينه وبينه ويقول له هذا خط كاتبك الغزال الذي كان واسطة بيني وبينك في عقد الصلح لا زال تحت يدي فأجابه السلطان رحمه الله بأن قال إنما عقدت معك المهادنة في البحر فأما المدن التي في إيالتنا فلا مهادنة فيها ولو كانت فيها مهادنة لخرجتم إلينا ودخلنا إليكم فكيف ادعاء المهادنة مع هذه المداهنة فبعث إليه الطاغية عقد الصلح بعينه فإذا هو عام في البر والبحر فكف عن حربها وأفرج عنها وترك هنالك جميع آلات الحرب من مدافع ومهاريس وكراريص وبنب وكور وبارود وشرط على الطاغية حملها في البحر وردها إلى الثغور التي جلبت منها لما في جرها في البر من المشقة على المسلمين فأنعم بذلك وبعث مراكبه فحملت بعضها إلى تطاوين وبعضها إلى الصويرة وذلك محلها الذي سيقت منه وكان ذلك سبب تأخيره الغزال عن كتابته وبقي عاطلا إلى أن كف بصره ومات رحمه الله
وسمعت من بعض فقهاء العصر وقد جرت المذاكرة في كيفية هذا الصلح فقال إن الغزال رحمه الله لما أعطى خط يده بالصلح والمهادنة كتب في الصك ما صورته وإن المهادنة بيننا وبينكم بحرا لا برا فلما حاز النصارى خط يده كشطوا لام الألف وجعلوا مكنانها واوا فصار الكلام هكذا بحرا وبرا وأن السلطان رحمه الله إنما أخره لاختصاره الكلام وإجحافه به حتى سهل على النصارى تحريفه وكان من حقه أن يأتي بعبارة مطولة مفصلة
____________________


حتى لا يمكن تحريفها فيقول مثلا والمهادنة بيننا وبينكم إنما هي في البحر وأما البر فلا مهادنة بيننا وبينكم فيه أو نحو هذا من الكلام فيصعب تحريفه وقد نص أهل علم التوثيق على هذا وأن الموثق يجب عليه أن يبسط الكلام ما استطاع ويجتنب الاختصار المجحف وما يؤدي إليه بوجه من الوجوه والله أعلم نهوض السلطان سيدي محمد بن عبد الله إلى برابرة آيت ومالو والسبب في ذلك
ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائة وألف فيها خرج السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله إلى جبال آيت ومالو وكان ذلك في غرض قائده بلقاسم الزموري فإنه كان قد ولاه عليهم فلم يقبلوه فطلب من السلطان الإعانة عليهم فأمده بثلاثة آلاف فارس مضافة إلى من معه من إخوانه زمور وبني حكم وسار اليهم فلما نزل على وادي أم الربيع من ناحية تادلا زحفوا إليه فولى عنهم مدبرا ولم يعقب واتصل خبر هزيمته بالسلطان فاغتاظ على آيت ومالوا وأخذ في الاستعداد لغزوهم وبرزت العساكر بظاهر مكناسة وبعث السلطان إلى أمراء القبائل من العرب والبربر يستنفرهم فوافاه بمكناسة على الصعب والذلول ولما تكاملت الجنود نهض إليهم
قال صاحب البستان وهو الكاتب أبو القاسم الصياني بالصاد المشممة زايا كلفظ صراط في قراءة حمزة وكنت معه في هذه السفرة وساق الحديث عنها بأن قال كنت مع السلطان وأنا يومئذ في حيز الإهمال أتوقع الموت في كل وقت بسبب ما كتب إليه في شأني القائد بلقاسم الزموري المذكور آنفا وأني أنا الذي أفسدت عليه قومه ولما وصل السلطان إلى محلة بلقاسم ونزلت عساكرة في بسيط كريكرة أشار على السلطان بأن يقسم تلك الجيوش على ثلاثة أقسام ثلث منها ينزل بتاسماكت من وراء العدو وثلث
____________________


ينزل بزاوية أهل الدلاء على طريق بلادهم وثلث يذهب معه على طريق تيقيط ويتقدم السلطان في عساكره حتى ينزل بآدخسان وتقصدهم العساكر من كل وجه وقرب على السلطان الأمد البعيد باللسان والرأي الذي لا يفيد وكان هو لا يعرف البلاد ومن الغد افترقت العساكر فتوجه كل إلى ناحيته التي عينت له وتقدم السلطان إلى آدخسان ولما عبر وادي أم الربيع قدم كروان أمامه للغارة عليهم فساروا إلى أن بلغوا قصبة آدخسان فلم يجدوا بها نافخ نار فأقاموا هنالك إلى أن لحق بهم السلطان فقال أين هؤلاء قالوا ما رأينا أحدا وهذه قصبة آدخسان فأمر بنزل الجيوش وبقي هو على فرسه متحيرا فاستدعى أبا القاسم الصياني قال فأسرعت نحوه فقال لي أتعرف هذه البلاد قلت نعم أتم المعرفة قال وأين أهلها قلت في جبلهم قال أوليس هذا جبلهم وهذا آدخسان قلت لا هذه قصبة المخزن والجبل من تلك الثنايا السود فما خلفها وأريته الثنايا فقال وأين الزاوية التي سار إليها الجيش مع قدور بن الخضر ومسرور قلت هي عن يمين الثنايا في البسيط قال وأين تاسماكت التي سارت إليها أمم البربر مع ولد محمد واعزيز قلت بيننا وبينها مرحلتان من وراء الثنايا قال ومن أين يأتي القائد بلقاسم فأريته الثنية التي يطلع منها وقلت له إنه لا يصل إلينا إلا غدا إن سلم وما صنعنا نحن قلت ضربنا في حديد بارد فإن الذي بالزاوية لا يجدي والذي بتاسماكت لا يجدي وآيت ومالو متحصنون بالجبل وبلقاسم رجل مشؤوم عافى الله مولانا من شؤمه قال فظهر للسلطان خلاف ما سمع من بلقاسم وتحقق فساد رأيه وعلم أنه قد أخطأ فيما ارتكبه من التغرير بالمسلمين قال ثم بينت له السبب الذي نفر به آيت ومالو عن بلقاسم حتى عرفه قال اكتب إلى قومك صيان يقدموا علينا فإني قد سامحتهم فكتب إليهم وبعث بالكتاب من آدخسان مع بعض الأشراف واثنين من أصحاب السلطان فخاضوا إليهم الليل واجتمعوا بهم
____________________


ومن الغد أصبح عندنا أربعة منهم بهديتهم فدخلت بهم على السلطان فأكرمهم وقبل هديتهم وقال إني سامحتكم لوجه كاتبي فلان وردهم مبشرين إلى إخوانهم وباتت العساكر تلك الليلة بلا علف ولا تبن ومن الغد ظهرت محلة بلقاسم ومعه مختار والعبيد وكانوا قد باتوا على القتال طول ليلتهم ولما وصلوا إلى السلطان أمر أن ينزل العبيد بجواره وينزل بلقاسم مع قومه زمور وبني حكم وأعرض عنه ثم أمره بتسريح إخوانه إلى بلادهم وسرح القبائل كلها إلى بلادها وفرق ذلك الجمع وأرتحل راجعا إلى تادلا
وأما الذين نزلوا بتاسماكت مع ولد محمد واعزيز فبيتهم آيت ومالو بغارة شعواء شردوهم بها في كل وجه ونهبوا محلتهم وقتلوا منهم عددا كثيرا ورجعوا إلى مكناسة مفلولين ولما بات السلطان بالزرهونية ورد عليه أصحاب قدور بن الخضر بكتابه يقول فيه إن البربر قد تألبوا علينا من كل أوب فإن لم يدركنا سيدنا هلكنا قال الصياني فأمرني السلطان بالمسير إليهم والاحتيال في خلاصهم بكل ما يمكن وبعث معي مائة فارس فوافيت الزاوية الدلائية فوجدت قبائل البربر محيطة بهم فاجتمعت بآيت يسري ووعدتهم من السلطان بالعطاء الجزيل إن هم فسحوا لجيشة حتى يسلك في بلادهم فأنعموا بذلك ورحل الجيش مع الفجر وعدلنا به من آيت ومالو وعبرنا الوادي إلى بلاد آيت يسري وسار معنا نحو المائة من أعيانهم إلى أن أخرجونا إلى وادي تاقبالت من تادلا ورجعوا قال وتقدمت إلى السلطان فأخبرته بخلاص الجيش ووصوله إلى وادي تاقبالت فسره ذلك ودعا لي بخير وقال لا بد أن ترجع إليهم الساعة وأعطاني مالا أفرقه عليهم وأرسم لهم المنازل التي ينزلونها في مسيرهم إلى مكناسة وبها ينتظرون السلطان فرجعت إليهم في الحين وأخبرتهم برأي السلطان في المسير إلى مكناسة ورسمت لهم المنازل على نحو ما أمر ولما أصبحنا فرقت عليهم المال
____________________


وارتحلوا إلى مكناسة وانقلبت إلى السلطان فوجدته قد أصابته حمى أقام لها بقصبة تادلا وكان الطبيب أبو العباس أحمد آدراق يعالجه ولا يدخل عليه إلا أنا وهو وصاحب طعامه الحاج عبد الله إلى أن عوفي فوصل الطبيب بألف دينار ثم سافر إلى مكناسة وبوصوله إليها قبض على بلقاسم الزموري ونكبه واستصفى أمواله وولي على زمور وبني حكم ولد محمد واعزيز قال الصياني ومن ذلك الوقت رفع السلطان منزلتي على أقراني وصار يقدمني في المهمات
ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائة وألف فيها انعقدت الشروط بين السلطان وبين البرتغال وهي اثنان وعشرون شرطا مضمنها الصلح والأمان كالشروط المتقدمة ذكر ما آل إليه أمر اليكشارية الذين استخدمهم السلطان من قبائل الحوز
لما جمع السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله هذا الصنف من رماة الجند وسماهم اليكشارية كالذين من قبلهم وكان جمعهم على يد القائد عبد النبي المنبهي حسبما سبق حصل منهم ضرر كبير للرعية في المال والحريم وصاروا يعيثون في غلل جناتهم مما يمرون به أيام أسفارهم حتى صار ذلك الفساد عندهم عادة وما من منزل يبيتون به إلا ويكلفون أهله ما لا يطيقون فإذا كلمهم أعيان الرعية في الرفق بالناس قالوا هذه عادة لا نتركها وهي من قوانين الدولة ولما علم السلطان بما يرتكبونه من العسف أسقطهم من الجندية ونزع منهم السلاح وردهم إلى المغرم مع إخوانهم وأراح الناس من شرهم
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة وألف فيها عزل السلطان القائد محمد بن أحمد البوزراري عن قبائل تامسنا وتادلا وما اتصل بهما ولم يترك
____________________


له إلا إخوانه من أهل دكالة وولى على السراغنة أبا عبد الله محمد المعروف بالصغير وعلى أهل تادلا صالح بن الرضي الورديغي وعلى أولاد أبي رزك المزابي القائد صاحب الطابع وعلى أولاد أبي عطية عمر بن أبي سلهام المزابي وأمر محمد بن أحمد أن يقبض من إخوانه الذين كانوا عمالا على هذه القبائل ما احتجبوه من الأموال أيام ولايتهم واستصفى منهم مائة وخمسين ألفا خروج العبيد على السلطان سيدي محمد بن عبد الله ومبايعتهم لابنه المولى يزيد وما نشأ عن ذلك
ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائة وألف فيها كانت الفتنة العظمى التي هي خروج العبيد على السلطان سيدي محمد بن عبد الله وبيعتهم لابنه المولى يزيد وكان السبب في ذلك أن السلطان كتب إليهم وهو بمراكش يأمرهم أن يعينوا منهم ألف كانون ينتقلون بأولادهم إلى طنجة يكونون بها وبعث إليهم بالكتاب مع القائد الشاهد رأس الفتنة وولاه على ذلك الألف فلما أتاهم بكتاب السلطان قال لهم لا يذهب معي إلا الأعيان ومن له دار وأرض وضيعة ولا يذهب معي إلا أمثالي فلما سمع اقتراحه أولئك الأجلاف ركبوا رأسهم في سبيل الخلاف واستفزهم الشيطان حتى صرحوا بخلع السلطان جريا في ذلك على مذهبهم القديم والتفاتا إلى فعل سلفهم الذميم فلما أنهى خبرهم إلى السلطان بعث إليهم ابنه المولى يزيد وكان عنده بمراكش كي يستصلحهم به فازداد فسادهم وعظم عنادهم
قال صاحب البستان وكنت يومئذ برباط الفتح فلما ذهبت إلى مراكش لقيت المولى يزيد بالسانية موضع على نحو نصف يوم منها قال فسألني عن خبر العبيد فقصصته عليه فسره ذلك وجد في السير ففهمت قصده وعرفت ما يؤول إليه أمره فيهم وزعم أنه لما قدم على السلطان لامه في
____________________


بعثه المولى يزيد فاعترف بالخطأ في ذلك ولما وصل المولى يزيد إلى مكناسة واجتمع بالعبيد لم يقدموا شيئا على بيعته والخطبة به ففتح بيوت الأموال وأعطاهم حتى رضوا ثم فتح مخازن السلاح والبارود ففرقه فيهم ثم دخل في بيعته من كان قريبا من قبائل العرب والبربر غير الودايا وآيت أدراسن وجروان الذين هم شيعة السلطان فإنهم تعصبوا له
قال صاحب البستان وبعد ثلاث بعثني السلطان إلى الودايا وأحلافهم بمكاتيب فقدمت عليهم بها وأقمت عندهم إلى أن زحف إليهم المولى يزيد في جيش العبيد وهم بالأروى وكانت آيت أدراسن وجروان قد دخلوا مع الودايا وظاهروهم على العبيد فوقعت الحرب بالمشتهى داخل القصبة فانهزم العبيد وسلطانهم وقتل منهم نحو الخمسمائة وأما الجرحى فبلا عدد وانقلبوا مفلولين
واتصل الخبر بالسلطان فخرج من مراكش في الجند وقبائل الحوز يريد مكناسة ولما وصل إلا سلا وسمع المولى يزيد بقدومه فر إلى ضريح الشيخ أبي الحسن علي بن حمدوش ثم إلى ضريح المولى إدريس الأكبر رضي الله عنه بزرهون فتقدم السلطان إلى زرهون ولما دخل الضريح الشريف أتاه أشراف زرهون بابنه المولى يزيد فعفا عنه وسامحه واستصحبه معه إلى مكناسة ولما وجه إليها خرج إليه نحو المائة من العبيد من ذوي أسنانهم ومعهم الأشراف والمرابطون والنساء والصبيان فعفا عنهم وسامحهم على شرط الخروج من مكناسة فأذعنوا وأقام السلطان بمكناسة يدبر أمرهم إلى أن فرقهم على الثغور فبعث منهم رحيين إلى طنجة ورحيين إلى العرائش ورحى إلى رباط الفتح وقصد بتفرقتهم دفع غائلتهم وتوهين عصبيتهم ثم عمد إلى الذين كانوا برباط الفتح ففرقهم أيضا فبعث ألفين منهم إلى السوس وألفا إلى مراكش وأبقى ألفين برباط الفتح مع عبيد مكناسة المغربين إليها واستراحت الدولة من شرهم استراحة ما
____________________


ثم إن العبيد الذين بطنجة وثبوا على قائدهم القائد الشيخ وعلى قائد أهل الريف محمد بن عبد الملك وأرادوا قتلهما فهربا لآصيلا والسلطان يومئذ لا زال بمكناسة ولما أنهى إليه خبرهم كتب إلى أعيانهم يتوعدهم فقبضوا على أصحاب الفعلة وبعثوا بهم إليه وتبرؤوا منهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف فاستكانوا بعض الشيء ورجع القائدان إلى طنجة ثم لما سافر السلطان إلى مراكش أخذ معه عبيد مكناسة فأنزل أهل القصبة منهم بالمنصورية قرب وادي النفيفيخ لأنهم كانوا رأس العصاة واستصحب الباقين إلى مراكش فأنزلهم بها بعد أن عزل عنهم قوادهم الذين حضروا فعلة المولى يزيد وأبقاهم عاطلين مهملين وولى عليهم أناسا من غيرهم ذكر ما سلكه السلطان سيدي محمد بن عبد الله في حق العبيد من التأديب الغريب
ثم إن العبيد الذين بالثغور عاثوا بها وأضروا بأهلها في جناتهم وأموالهم وأعراضهم فأنهى خبرهم إلى السلطان أيضا ولما أعياه أمرهم ورأى أن تأديبهم بالتفرقة لم يفد فيهم انتقل رحمه الله معهم إلى مرتبة أخرى من التأديب لم يسبق إليها كانت ترياقا لقطع دائهم ونارا لحسم عرق بلائهم وذلك أنه لما بلغه ما هم عليه من الجور والطغيان نهض من مراكش عازما على الإيقاع بهم فلما وصل إلى رباط الفتح كتب إلى أهل طنجة والعرائش منهم يقول إني قد رضيت عنكم وبررت قسمي في نقلكم من مكناسة إلى الثغور والآن إذا وصلتكم الإبل والبغال التي أبعثها إليكم فلتحمل أهل طنجة بأولادهم ومتاعهم وليقدموا إلى دار عربي من بلاد سفيان فلينزلوا بها ثم يبعثوا الإبل والبغال إلى أهل العرائش ليتحملوا بأولادهم ومتاعهم إلى دار عربي كذلك فإذا اجتمعتم أنتم وهم بها فإني أبعث إليكم بغالي تتحملون عليها إلى مكناسة كلكم فلما وصل إليهم كتاب السلطان بذلك طاروا فرحا وأحبوا الرجوع إلى مكناسة
ولما وردت عليهم الإبل والبغال ارتحلوا من طنجة وفي أثناء ذلك
____________________


بعث إليهم السلطان قائدهم سعيد بن العياشي الذي خلعوه أيام الفتنة وأوصاه أن يقيم بدار عربي حتى يقدم عليه عبيد طنجة والعرائش فانتهى إليها ووافاه بها عبيد طنجة فنزلوا عليه بقضهم وقضيضهم ووصلت الإبل والبغال إلى أهل العرائش فجاؤوا حتى نزلوا مع إخوانهم كما رسم السلطان
ثم إن السلطان رحمه الله نهض من رباط الفتح حتى وافى مشرع مسيعيدة من وادي سبو ثم انتقل منه إلى سوق الأربعاء من بلاد سفيان ثم تقدم إلى قبائل الغرب وبني حسن أن يسيروا إلى العبيد ويعسكروا عليهم من جميع الجهات فامتثلوا ولما استداروا حولهم وأحاطوا بهم إحاطة بياض العين بسوادها قدم السلطان ودعا رؤساء القبائل فحضروا عنده فقال لهم إني قد أعطيتكم هؤلاء العبيد بأولادهم وخيلهم وسلاحهم وكل مالهم فاقتسموهم الآن وكل واحد منكم يأخذ عبدا وأمة وأولادهما فالعبد يحرث والأمة تطحن والولد يرعى الماشية فحذوهم وتقلدوا سلاحهم واركبوا خيولهم والبسوا كساهم بارك الله لكم فيهم فأنتم عسكري وجندي دونهم فلما سمعت قبائل الغرب وبني حسن هذا الكلام من السلطان وثبوا على العبيد من غير أن تكون منهم وقفة واقتسموهم في أسرع من لحس الكلب أنفه وتوزعوهم شذر مذر وصيروهم عبرة لمن اعتبر
وقفل السلطان راجعا إلى رباط الفتح ولما دخله نفى العبيد الذين بها إلى مراكش فأنزلهم بها بعد أن عزل عنهم قوادهم وولى مكانهم غيرهم واستمر عبيد طنجة والعرائش موزعين في القبائل أربع سنين ثم عفا عنهم واستردهم من القبائل إلى الجندية وأركبهم وكساهم وسلحهم لكنه ميزهم وجعلهم قبائل في الخلط وطليق منهم أنزلهم بقصر كتامة وسفيان وبنو مالك أنزلهم بمسيعيدة وبنو حسن أنزلهم بسيدي قاسم والحياينة وأهل الجبل أنزلهم بتامدرت من أعمال فاس وأقاموا هنالك عدة سنين يوجهون حصتهم في البعوث ويعسكرون مع السلطان متى احتاج إليهم ثم جمعهم رحمه الله بعد ذلك ونقلهم إلى مراكش وأقبل عليهم بالعطاء إلى أن عادوا أحسن مما
____________________


كانوا حالا ثم بدا له فيهم فبعث عبيد السوس إلى تارودانت وعبيد حاحة والشبانات إلى الصويرة وعبيد السراغنة وتادلا ودمنات إلى تيط الفطر وعبيد دكالة إلى آزمور وعبيد الشاوية إلى آنفي وعبيد زعير والدغماء إلى المنصورية وعبيد بني حسن إلى المهدية وأبقى معه بمراكش عبيد سفيان وبني مالك والخلط وطليق والمسخرين من أصحاب العباس
وكان قيام هؤلاء العبيد سببا لافتراق الكلمة وانحلال نظام الملك بالمغرب وسرى فسادهم في القبائل كلها عربا وبربرا وكثر الهرج وانحبس المطر ووقع القحط وعظمت المجاعة واستمر الحال على ذلك نحوا من سبع سنين من سنة تسعين إلى سنة ست وتسعين ومائة وألف فكانت هذه المدة كلها مجاعة أكل الناس فيها الميتة والخنزير والآدمي وفنى أكثرهم جوعا والسلطان في ذلك كله يكابد المشاق العظام ويصير على الجنود الأموال الثقال راتبا بعد راتب وعطاء بعد عطاء إلى أن خلصوا من المجاعة وصلحت أحوال الجماعة وكان رحمه الله قد رتب الخبز في كل مصر يفرق على ضعفائه في كل حومة وأسلف القبائل الأموال الطائلة يقتسمونها على ضعفائهم إلى أن يؤدوها زمان الخصب والرخاء
ولما عاش الناس وهموا بأدائها سامحهم بها وقال ما أعطيتها بنية الاسترجاع وإنما ذكرت السلف لئلا يستبد بها الأشياخ والأعيان إذا سمعوا أنها هبة فرحم الله تلك الهمة الشريفة ما كان أعلاها وأعظمها وأرأفها وأرحمها وأسقط رحمه الله في تلك المدة جميع الوظائف والمغارم عن قبائل المغرب إلى أن عاشوا وتمولوا وكان يعطي التجار الأموال ليجلبوا بها الأقوات من بر النصارى فإذا وصلت أمرهم أن يبيعوها بثمنها الذي اشتريت به رفقا بالمسلمين وشفقة على الضعفاء والمساكين
ولما دخلت سنة سبع وتسعين ومائة وألف مطر الغرب وعاش الناس وحرثوا وأدرك الزرع ورخصت الأسعار وازدهت الدنيا ودرت الجبايات وأخذ أمير المؤمنين رحمه الله في تمهيد المغرب ثانية واستئناف العمل والجد والله غالب على أمره
____________________

إيقاع السلطان سيدي محمد بن عبد الله بأولاد أبي السباع وتشريدهم إلى الصحراء وما يتبع ذلك
لما كان بالمغرب ما تقدم من الفتنة وشغل السلطان بإنعاش الضعفاء عن ضبط الأطراف وقمع البغاة بها نبغت نوابغ الفتن ببعض القبائل منها وعادت هيف إلى أديانها فمن ذلك قبيلة أولاد أبي السباع بأحواز مراكش فلطالما ارتكبوا العظائم واجترحوا وغدوا في الفتنة وراحوا واستطالوا على من بجوارهم وغزوهم في أرضهم وديارهم
فلما كانت هذه السنة التي هي سنة سبع وتسعين ومائة وألف جهز إليهم السلطان العساكر فقاتلوهم وقتلوهم وانتهبوا أموالهم وشردوهم إلى السوس وقبض السلطان على كثير من أعيانهم فأودعهم سجن مكناسة إلى أن هلكوا به وأوعز إلى قبائل السوس أن يطردوا بقيتهم وينفوهم إلى بلاد القبلة مسقط رأسهم ومنبت شوكتهم وبأسهم ففعلوا ثم نقل قبيلة زمران بعد الإيقاع بهم إلى بلاد أولاد أبي السباع فعمروها ثم نقل تكنة ومجاط وذوي بلال من شوشاوة الحوز إلى الغرب فنزلوا بفاس الجديد وأعماله ثم أعاد آيت يمور من جبل سلفات إلى تادلا ثم نقل كطاية وسمكت ومجاط من تادلا إلى الغرب ثم أعاد جروان من آزغار إلى الجبل
وفي هذه السنة أيضا كانت فتنة الدعي محمد والحاج اليموري كان يزعم أنه من الأولياء ويتكلم في المغيبات ويشيع أنه ينتظر صاحب الوقت فسرى فساده في قبيلته وتجاوزها إلى غيرها فقصده جهلة البربر من كل قبيل وأغرى آيت يمور بمن جاورهم من قبائل العرب وكانوا يومئذ لا زالوا بسلفات فتصدى لهم قائد سفيان أبو عبد الله محمد الهاشمي السفياني وجمع له الجموع من قبائل الغرب وصمد إليه وهو في قبيلة آيت يمور فعبر نهر سبو وأنشب الحرب معهم فكانت الدبرة عليه وانهزمت جموع الغرب وقتل القائد
____________________


الهاشمي المذكور وعدد كبير من وجوه قومه وتركوا محلتهم بما فيها للبربر وعظم أمر هذا الدعي وشمخت أنوف قبيلته به وشرى ضلالهم ولما قدم السلطان إلى مكناسة بعث من قبض عليه وساقه إليه فقتله وأراح الناس من وساوسه وفي هذه السنة بعث السلطان ولده المولى عبد السلام لأداء فريضة الحج لأنه لم يكن أدرك الحلم عام حج مع أخيه المولى علي
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة وألف فيها غزا السلطان برابرة زمور وبني حكم فلما أظلهم قدومه انشمروا إلى شعاب تافودايت وتحصنوا بها فاحتال عليهم بأن قام عنهم وأوعز إلى آيت أدراسن وكروان أن يرصدوهم متى برزوا إلى الفضاء فلينهبوهم فلما توجه السلطان قافلا إلى مراكش خرجت زمور من شعابها فلم يرعهم إلا آيت أدراسن وكروان قد أحاطوا بهم فانتهبوا حللهم وتوزعوا أموالهم وتركوهم عالة يتكففون الناس ذهاب السلطان سيدي محمد بن عبد الله إلى تافيلالت وتمهيده إياها والسبب في ذلك
كان الشريف المولى حسن بن إسماعيل عم السلطان مقيما بتافيلالت وكان آيت عطة وآيت يفلمان من برابرة الصحراء شيعة له فكان إذا حدث بينه وبين أشراف سجلماسة حادث استكثر بهم عليهم وحاربهم وربما قتل منهم وكان السلطان يبلغه بعض ذلك عنه فيسوءه إلا أنه كان يثقل عليه أن ينال عمه منه مكروه ولأنه كان مشغولا بما هو أهم فاستمر الحال إلى أن ترددت أشراف سجلماسة بالشكاية منه فلم يسع السلطان إلا زجره وقطع عادية بربره عن الأشراف فعزم على المسير بنفسه إلى سجلماسة وكان ابنه المولى يزيد يومئذ بالمغرب فلم يرد السلطان أن يتركه خلفه لئلا ينشأ عنه ناشيء فتنة فاحتال في إبعاده بأن وجهه إلى الحجاز لقضاء فريضة الحج
____________________


في غير ركب بل أفرده عنه وأصحبه أمينا يصير عليه وأناسا قليلين يكونون في خدمته دفعا لغائلته ثم سافر السلطان إلى سجلماسة برسم زيارة تربة جده المولى علي الشريف رضي الله عنه وحسم داء عمه المولى حسن وشيعته ولما شارف السلطان تافيلالت قدم أمامه أبا القاسم الصياني لإخراج البربر من قصورهم في الأمان وإن كان عندهم ما يثقلهم من زرع أو تمر يعطيهم ثمنه لينقطع بذلك عذرهم وإن أقاموا حتى أدركهم السلطان بها فإنما إثمهم على أنفسهم فامتثل البربر الأمر وخرجوا إلى الصحراء ولم يأت السلطان حتى لم يبق منهم أحد بتلك القصور وأفرد المولى حسن وانكسرت شوكته ثم بعث إليه أبا القاسم الصياني أيضا يعرض عليه السكنى بمكناسة وينفذ له ما يكفيه من الظهر لحمل عياله وأثقاله قال الصياني فذهبت إليه وباشرت أمره إلى أن أجاب ومن الغد سرت به إلى مكناسة وأمرني السلطان أن أعطيه دارا يسكنها ورتب له ثلاثمائة مثقال لكل شهر ينفقها على نفسه وعياله وأمرني مع ذلك إذا فرغت من شأن عمه المذكور أن أصحب معي أولاده الثلاثة المولى سليمان والمولى حسن والمولى حسين وأن أصحب معهم قدرا من المال وعددا من المدافع والمهاريس والبنب وطائفة من الطبجية من علوج اللمان وألفا من عسكر الثغور رجاله لجر تلك المدافع والمهاريس قال فقضيت الغرض على ما ينبغي وعدت إليه وهو بسجلماسة بجميع ما أمرني به فبلغنا ونحن أثناء الطريق وفاة ولد السلطان وخليفته بفاس المولى علي بن محمد وكان من سادة العلويين ونجبائهم ومن أهل المروءة والأوصاف المحمودة عقلا وعلما وأدبا وكرما وعلو همة
زاد في البستان وكان مجلسه مجمع الفضلاء والأدباء والنبلاء يتشبه بأخلاق المولى محمد العالم ابن المولى إسماعيل في كرمه وأدبه وكان له اعتناء كبير بنسخ كتب العلم الغريبة وكتب الأدب وكان كثيرا ما يبعث بأشعاره
____________________


ومخاطباته لأهل عصره وأدباء وقته من الفاسيين والبكريين والقادريين كما كان المولى محمد العالم مشغوفا بأشعار أولاد السلطان صلاح الدين بن أيوب الكردي رحم الله الجميع
ولما بلغ أولاد السلطان إلى أطراف سجلماسة قدموا الأعلام إلى السلطان واستأذنوا في التقدم فخرج رحمه الله لملاقاتهم وأمر الأشراف وسائر أهل البلد أن يخرجوا للسلام عليهم ويشاهدوا آلة الحرب التي ليست ببلادهم فخرجوا وخرج السلطان في موكبه وركبت العساكر خلفه في أحسن زي وأكمل ترتيب فكان ذلك اليوم من أيام الزينة ولما قضى غرضه من سجلماسة وثقف أطرافها ورتب عربها وبربرها وحسم داء آيت عطة وآيت يفلمان ولى عليهم القائد علي بن حميدة الزراري من كبار قواده وأعيان دولته ثم نهض السلطان إلى مراكش بعد أن أقام بسجلماسة شهرا وكان سلوكه إلى مراكش على طريق الفائجة
قال صاحب البستان وكان قد ردني إلى الغرب لآتيه بجيش من أولاد عبيد الثغور ألقاه بهم بمراكش ليزيدهم في جيشه ويقبضوا السلاح والكسوة بها ولما انتهى السلطان في طريقه إلى ثنية الكلاوي نزل عليه الثلج الكبير فسد المسالك وتفرقت العساكر في كل وجه وحال الثلج بينهم وبين أخبيتهم ورحالهم وبات السلطان منتبذا ناحية عن مضاربه وقبابه معزولا عن طعامه وشرابه ولم تلتق طائفة من العسكر مع صاحبتها إلى أن طلعت الشمس فرفع الله عنهم الثلج وأصبح ذلك اليوم عيد الأضحى فخطب السلطان الناس بنفسه ودعا للسلطان عبد الحميد بن أحمد العثماني ودخل مراكش سالما معافى وسلم الله العسكر من ذلك الثلج فلم يهلك منه أحد والحمد لله
____________________

خروج السلطان سيدي محمد بن عبد الله إلى الصويرة بقصد النزهة واغتنام الراحة وما اتفق له في ذلك
لما قدم السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله من سجلماسة إلى مراكش أقام بها إلى أن دخل فصل الربيع فاعتزم على الخروج إلى الصويرة والوقوف عليها ومعاينة مبانيها ومعالمها إذ كان له ولوع بهذه المدينة التي أنشأها واغتبط بها وقصد أيضا زيارة رجال رجراجة بالساحل والتبرك بآثارهم وكانت سفرته هذه سفرة فرجة وجمام نفس واغتنام لذة فأشخص معه جماعة من علماء العصر وأئمته فكان يملي عليهم الحديث النبوي ويؤلفونه على مقتضى إشارته منهم الفقيه العلامة المشارك أبو عبد الله محمد بن الإمام سيدي عبد الله الغربي الرباطي والفقيه العلامة المحقق أبو عبد الله محمد المير السلاوي والفقيه الدراكة أبو عبد الله محمد الكامل الرشيدي والفقيع العلامة أبو زيد عبد الرحمن أبو خريص هؤلاء أهل مجلسه الذين كانوا يؤلفون له ويسردون ويخوضون فيما يجمعه ويستخرجه من كتب الحديث التي جلبها من المشرق كمسند الإمام أحمد ومسند أبي حنيفة وغيرهما وكان معه جماعة وافرة من الكتاب المعتبرين في الإنشاء والترسيل كالسيد المهدي الحكاك المراكشي والسيد عبد الرحمن بن الكامل المراكشي والسيد أحمد بن عثمان المكناسي والسيد أحمد الغزال الفاسي والسيد محمد سكيرج الفاسي والسيد الطاهر بناني الرباطي والسيد الطاهر بن عبد السلام السلاوي والسيد سعيد الشليح الجزولي والسيد إبراهيم إقبيل السوسي وصاحب البستان أبي القاسم الصياني وغيرهم
وكان خروجه لهذه الفرجة سنة ثمان وتسعين ومائة وألف في فصل الربيع فضربت قبابة بظاهر مراكش ثم ضرب عليها السياج المحيط بها
____________________


المسمى بأفراك وفي وسط تلك القباب القبة العظمى التي أهداها إليه طاغية الفرنج وكانت مبطنة بالديباج ومحاريبها من الموبر الحر المختلف الألوان وسفائفها من الكالون والإبريز وأطنابها من الحرير الصافي زعموا أن مبلغ ما صير عليها الطاغية نحو خمسة وعشرين ألف دينار ومصداق ذلك أن تفاحتها التي تكون في أعلى العامود وتسميها العامة بالجمور كانت من الذهب الخالص وزنها أربعة ألاف مثقال ذهبا وكان السلطان رحمه الله قد أخرجها في هذه النوبة ابتهاجا بها وخرج معه الخاصة من القواد والكتاب وغيرهم بفازاتهم الرفيعة ومضاربهم البديعة
ثم توجه في ذلك الموكب العجيب يرتاد البلاد النزهة والأماكن البهجة التي تروق الطرف وتستغرق الوصف وتبسط النفس وتجلب الأنس فأقام شهرين كاملين يتقلب في تلك البسائط ويستوفي اللذات ويتقرى المعاهد ويقتنص الطائر والشارد إلى أن وصل إلى ثغر الصويرة فوقف عليه وقضى غرضه منه على الوجه الأكمل وانقلب راجعا إلى حضرته فاجتاز في طريقه برباط شاكر وهو من مزارات المغرب المشهورة وكان مجمعا للصالحين من قديم الزمان ووقع في التشوف أن شاكرا الذي ينسب إليه هذا الرباط من أصحاب عقبة بن نافع الفهري فاتح المغرب وأنه هنالك فلما مر به السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله في سفرته هذه أمر بتجديد مسجده وحفر أساسه وتشييده وفي قفوله طلع مع وادي نفيس إلى أن بلغ مدينة أغمات فزار ضريخ الشيخ أبي عبد الله الهزميري وغيره من صلحائها ونزل بمحلته تحت القرية ولما استقر به المنزل جاءه جماعة من أهلها مع قاضيهم بكبش جيد وآنية فيها شيء من الشهد فدخل القاضي على السلطان ولما مثل أمامه أنسه السلطان بالكلام وسأله عن أشياخه فأجاب بما لا طائل تحته فقال السلطان للحاجب ابعث بالقاضي إلى خباء القاضي أبي زيد
____________________


عبد الرحمن بن الكامل وهو الذي يتوجه قاضيا مع المحلة إلى السوس إن شاء الله فأنزله عليه وادفع له هذا الكبش وهذا العسل فسار الحاجب بالقاضي وبالكبش والعسل إلى خباء قاضي العسكر أبي زيد بن الكامل وأمره أن يكرم القاضي ليلته ومن الغد ارتحل السلطان قافلا إلى مراكش فلما تعالى النهار نزل على وادي نفيس وضرب له هنالك صيوان الراضة على شاطىء النهر ثم استدعى القاضي أبا زيد وسائر الكتاب ولما جلسوا بين يديه سأل القاضي على وجه المداعبة وقال له بم أجزت ضيفك على كبشه وعسله فتلعثم في الجواب وعلم أن السلطان قصد اختباره بذلك وأنه لم يصنع شيئا حيث أهمل أمره ولما رأى رحمه الله خجلته قال فلعلك لم تجزه فلو مدحته على كبشه وعسله لصادفت المقصود وخرجت من العهدة وما بعثت إليكم إلا بسبب هذا الكبش والعسل فإني سهرت ليلتي ولم أنم وذكرت ما اتفق للمنصور السعدي مع كتابه في مثل هذه القضية وعلمت أنه لم يبق في وقتنا هذا كتاب ولا أدباء ولا أمراء وسأسمعكم ما اتفق للمنصور في زيارته هذه القرية الأغماتية ثم أمر كاتبه ابن المبارك أن يقرأ عليهم ما حكاه الفشتالي في مناهل الصفا عن خروج المنصور السعدي إلى أغمات بقصد الزيارة والنزهة وما اتفق للقاضي أبي مالك عبد الواحد الحميدي مع من أهدى له الكبش والعسل من الشعر والذي شايعه عليه جماعة من كتاب الدولة وقد ألممنا بخبر هذه الخرجة للمنصور عند ذكر أخباره حسبما مر وقد ذكر صاحب النزهة أبيات الحميدي ومن قفا نهجه من الكتاب فلتنظر هنالك فقرأ الكاتب المذكور الترجمة كلها على الكتاب حتى سمعوها وعاب السلطان عليهم تقصيرهم في قضيتهم الموافقة لها وفي ظني أن السلطان رحمه الله أمرهم بنسخ ذلك ومراجعته تحريكا لهمتهم والله أعلم
____________________

ذكر السبب الذي هاج غضب السلطان سيدي محمد بن عبد الله على ابنه المولى يزيد رحمه الله
ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائة وألف فيها قدم ولد السلطان المولى عبد السلام من الحجاز فولاه السلطان رحمه الله تارودانت والسوس وما إليها ثم لما حضر زمان خروج الركب الحجازي أحضر السلطان صهره وابن عمه المولى عبد الملك بن إدريس وكاتبيه أبا عبد الله محمد بن عثمان المكناسي وأبا حفص عمر الوزريق وشيخ الركب أبا محمد عبد الكريم بن يحيى وحملهم على وجه الأمانة مالا لأشراف مكة والمدينة وسائر الحجاز واليمن وقدره ثلاثمائة ألف ريال وخمسون ألف ريال وبعث معهم صلات أخر لأناس معينين في حقاق مختوم عليها مكتوب على كل واحد منها اسم صاحبه وأمرهم أن يذهبوا أولا إلى القسطنطينية حتى يكون مسيرهم إلى الحجاز مع أمين الصرة الذي يوجهه السلطان العثماني إلى الحرمين كل عام وإنما ارتكب السلطان هذه المشقة حذرا من ابنه المولى يزيد أن يعترضهم في الطريق وينتزع منهم المال فبعثهم السلطان في البحر في بعض قراصين السلطان عبد الحميد وكتب إليه أن يبعثهم مع أمين صرته فلما وصلوا إلى القسطنطينية وجدوا أمين الصرة قد سافر بالركب إلى الحجاز فأقاموا بها إلى العام القابل وحينئذ سافروا صحبة الركب ولما وصلوا إلى المدينة المنورة فرقوا على أهلها وعلى سائر شرفاء الحجاز حظهم من المال
ولما وصلوا إلى مكة وجدوا المولى يزيد بها يترصدهم ففرقوا على أهل مكة حظهم وبقي عندهم حظ اليمن والحقاق التي فيها صلات الذهب فتغفلهم المولى يزيد وقت القيلولة وهجم عليهم في جمع من أصحابه وهم بدار شيخ الركب عبد الكريم بن يحيى فانتزع منهم ما قدر عليه وأخذ الحقاق وذهب فذهب شيخ الركب والمولى عبد الملك والكاتبان إلى أمير
____________________


مكة الشريف سرور وأخبروه الخبر فبعث أعوانه إلى المولى يزيد فحضر عنده وألزمه رد المال وتهدده فرد البعض وجحد البعض فبسبب هذا فيما قيل غضب السلطان عليه وتبرأ منه وكتب بالبراءة منه مناشير بعث بها إلى الآفاق فعلق أحدها بالكعبة والآخر بالحجرة النبوية والثالث ببيت المقدس والرابع بضريح الحسين بمصر والخامس بضريح المولى علي الشريف بتافيلالت والسادس بضريح المولى إدريس بزرهون والسابع بضريح المولى إدريس بفاس وكتب إلى السلطان عبد الحميد بأن لا يقبله إذا أوى إليه واستمر المولى يزيد مقيما بالمشرق ولم يقدر أن يواجه أباه لسوء صنيعه إلى سنة ثلاث ومائتين وألف كما سيأتي إن شاء الله
وفي هذه السنة أعني سنة تسع وتسعين ومائة وألف أسر أهل الجزائر نصرانية من قرابة طاغية الإصبنيول كانت متوجهة في مركبها من أصبانيا إلى نابل لزيارة ابن عمها الذي هو صاحب نابل فلما عرف أهل الجزائر محلها من قومها امتنعوا من فدائها بكل وجه فكتب طاغية الإصبنيول إلى السلطان رحمه الله يسأله أن يشفع له في فدائها بكل ما يطلبون فأسعفه وكتب لصاحب الجزائر في شأنها فاعتذر إليه بأن النصرانية في سهم العسكر ولا يمكنه إكراههم على فدائها فلما رد صاحب الجزائر شفاعة السلطان كتب إلى السلطان عبد الحميد بذلك فكتب عبد الحميد رحمه الله إلى أهل الجزائر يوبخهم على رد شفاعة السلطان ويقول لهم إن الواجب أن تسرحوها له بدون مال وما عسى أن يبلغ ثمن هذه النصرانية ولو طلب مني سلطان المغرب ألف نصرانية لبعثتها إليه وحتى الآن نأمركم أن تبعثوا إليه بهذه النصرانية ولو كانت هي الملكة ولا تقبضوا فيها فداء أو ما رأيتم ما افتكه ملك المغرب من أسرى الترك من كل جنس حتى لم يبق في أسر الكفار مسلم وأنتم تردون شفاعته في نصرانية لا بال لها فلا تعودوا لمثل هذا فيكون سببا لتغير باطننا عليكم والسلام
____________________


ولما ورد عليهم فرمان السلطان عبد الحميد لم يسعهم إلا إرسال النصرانية إلى حضرة السلطان رحمه الله وكتبوا إليه بالاعتذار وقالوا إنما امتنعنا من فدائها خوف بلوغ خبرها إلى ملكنا فلم نر أن نفتأت عليه وذلك هو الواجب علينا من طريق الخدمة والطاعة فنحب من سيدنا أن يقبل عذرنا ولا يظن بنا خلاف هذا والسلام ذكر ما كان من السلطان سيدي محمد بن عبد الله إلى أهل زاوية أبي الجعد حماها الله
هذه الزاوية من أشهر زوايا المغرب ولها الفضل الذي يفصح عنه لسان الكون ويعرب تداولها منذ أزمان فحول أكابر ورثوا مقام الولاية والرياسة بها كابرا عن كابر قد عرف لهم ذلك السوقة والملوك والغني والصعلوك ولم تزل الملوك من هذه الدولة وغيرها تعاملهم بالإجلال والإعظام والتوقير والاحترام
ولما كانت دولة السلطان الجليل الماجد الأصيل نقم على كبيرها لوقته المرابط البركة أبي عبد الله سيدي محمد العربي بن الشيخ الأكبر سيدي المعطي بن الصالح بعض ما ينقمه الأمير على المأمور والإنسان غير معصوم والمخلوق ناقص إلا من أكمله الله فاتفق أن كان السلطان رحمه الله قافلا في هذه السنة من رباط الفتح إلى مراكش فجعل طريقه على تادلا ونزل على زاوية أبي الجعد فأمر على ما قيل بهدمها وطرد الغرباء الملتفين على آل الشيخ بها ثم نقل سيدي العربي المذكور وعشيرته إلى مراكش فأسكنهم بها واستمروا على ذلك إلى أن توفي السلطان سيدي محمد رحمه الله وبويع ابنه المولى هشام بن محمد بمراكش فأذن لهم في الذهاب إلى بلادهم فعادوا إلى زاويتهم واطمأنوا
____________________


بها برهة من الدهر
ولما كانت دولة السلطان المولى سليمان بن محمد نقم أيضا على سيدي العربي المذكور أمورا نقلها إليه الوشاة عنه فأمر بنقله إلى فاس بعد مكاتبات ومعاتبات يطول جلبها فانتقل إليها وأقام بها مدة ثم سرحه إلى بلاده
ثم دخلت سنة مائتين وألف فيها بعث السلطان سيدي محمد رحمه الله كاتبه أبا القاسم الصياني باشدورا إلى السلطان عبد الحميد العثماني بهدية عظيمة من جملتها أحمال من سبائك الذهب الخالص مثل بارات الحديد وكان السلطان رحمه الله يقصد بمثل ذلك الفخر على الملوك وإظهار الغنى وكمال الثروة وذلك من غريب السياسة لمن أقدره الله عليها فقدم أبو القاسم القسطنطينية وألفى بها عبد الملك بن إدريس وشيخ الركب والكاتبين لا زالوا مقيمين بها ينتظرون الموسم من العام القابل قال فأقمت بالقسطنطينية ثلاثة أشهر وعشرة أيام وقضيت الغرض وانقلبت إلى السلطان وبعث معي السلطان عبد الحميد أحد خدامه بهدية إلى السلطان رحمه الله قال ولما قدمنا على السلطان نوه بقدري وقال لا أوجه الهدايا للعثماني إلا معك وكان الرئيس الطاهر بن عبد الحق فنيش السلاوي حاضرا وقال لا أوجه القراصين الحربية إلا مع الطاهر يسليه بذلك قال وسألني عن مقدار راتب عسكر الترك الذي يقبضونه في كل ثلاثة أشهر فقلت له ستون أوقية لكل واحد فاستقل ذلك فقلت له إنه لا يكلفهم في أيام الغزو بمؤنة ولا علف خيل كل أمور السفر عليه
ثم ذكر الصياني هنا كلاما طويلا في وصف القسطنطينية العظمى وحال أهلها خارجا عن موضوع كتابنا هذا والله الموفق
____________________

ذكر عدد عسكر الثغور في دولة السلطان سيدي محمد بن عبد الله وما كان يقبضه من الراتب
كان بثغر الصويرة أيام السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله ما بين جيش وطبجية وبحرية ألفان وخمسمائة وبآسفي مائتان من الطبجية ومائتان من البحرية وبتيط خمسمائة من العبيد وبآزمور خمسمائة منهم كذلك وبآنفي ألفان من العبيد وبالعدوتين ألفان من الطبجية والبحرية وبالمهدية ألفان وخمسمائة من العبيد وبالعرائش ألف وخمسمائة ما بين جيش وطبجية وبحرية وبآصيلا والساحل مائتان ما بين طبجية وبحرية وبطنجة ثلاثة آلاف وستمائة من أهل الريف وبتطاوين ثمانمائة ما بين جيش وطبجية وبحرية فكانت جملة عساكر الثغور ستة عشر ألفا وخمسمائة وراتبهم ثلاثين أوقية لكل واحد في كل ثلاثة أشهر من حساب مثقال للرأس في كل شهر وكانوا في ابتداء الأمر يقبضون راتب كل شهر عند انتهائه
فلما كانت هذه السنة أعني سنة مائتين وألف أنعم السلطان رحمه الله على عساكر الثغور بتعجيل راتب خمس عشرة سنة بحساب مثقال للرأس في كل شهر وهذا مال له بال فإنه يقارب ثلاثة ملايين فعل ذلك رحمه الله إعانة لهم وتوسعة عليهم ثم أمر أن يجعل في كل مرسى من مراسي المغرب بيت مال وعند تمام كل ثلاثة أشهر يفتح بيت المال ويعطي لعسكر ذلك الثغر ثلاثون أوقية للرأس حضروا أم غابوا إعانة لهم على عيالهم وأما عطاء الغزو وعطاء عاشوراء والصلات والصدقات فكان يبعث بذلك كله من عنده لا من بيوت الأموال واستمر الحال على ذلك إلى أن توفي رحمه الله فوثب عبيد الثغور على بيوت أموالها وفتحوها واكتسحوها ثم ساروا إلى مكناسة مسقط رأسهم وكان ذلك بإشارة المولى يزيد رحمه الله
____________________


ثم دخلت سنة إحدى ومائتين وألف فيها غزا السلطان قبيلة شراقة بأحواز فاس فنهبهم وشردهم فلجؤوا إلى ضريح الشيخ أبي الشتاء بفشتالة فعفا عنهم ثم سار إلى الحياينة فأطلق الجيش في زروعهم فحصدوها ودرسوها واستصفوها عن آخرها ثم جرد الخيل في طلبهم فاكتسحوا حللهم وأثاثهم
قال صاحب البستان وكنت يومئذ قد توجهت بجيش إلى عامل وجدة أبلغه إياه فلما رجعت أدركت السلطان ببلاد الحياينة فقلدني ولاية تازا وأعمالها فسرت إليها وأقمت بها سنة كاملة وفي هذه السنة قدم ولد السلطان المولى مسلمه بن محمد من المشرق مفارقا لأخيه المولى يزيد
ثم دخلت سنة اثنتين ومائتين وألف فيها أرسل السلطان رحمه الله إلى آيت عطة يأمرهم أن يبعثوا بستمائة رجل منهم وبأربعمائة من عبيد تافيلالت فالمجموع ألف ليكسوهم ويسلحهم ويستعملهم في خدمة البحر وجنديته فبعثوا بهم إليه
قال صاحب البستان ولما قدموا عليه بمكناسة استدعاني من تازا فقدمت عليه فأمرني أن أتوجه بهم إلى تطاوين كي يقبضوا السلاح والكسوة بها ثم أسير بهم إلى طنجة يكونون بها وأمرني أن أكون أتعاهدهم بركوب الغلائظ العشرين التي بمرساها والخروج بها إلى البوغاز وسواحل أسبانبا والتردد فيها بينهما ليتدربوا على البحر ويتمرنوا به قال فذهبت بهم إلى تطاوين على ما رسم السلطان رحمه الله فأخذوا السلاح والكسوة ونفذنا إلى طنجة فأقمنا بها شهرين وكل يوم يركبون السفن ويتطاردون بها فيما بينهم فتارة يخرجون إلى البوغاز وتارة يطرقون سواحل أصبانيا وتارة يرجعون إلى أن زالت عنهم دهشة البحر وفارقهم ميده وألفوه ولما أقبل فصل الشتاء كتب إلى السلطان بالقدوم بهم فلما حللنا مكناسة أمر رحمه الله بعمارة
____________________


المشور لدخولنا عليه فلما مثلنا بين يديه دنا منا إلى أن كان في وسطنا وكلم البربر بلسانهم وسألهم عن حالهم في سفرهم فذكروا خيرا فسره ذلك منهم ونشط ثم قال لهم هذا كاتبي وصاحبي قد وليته عليكم وعلى أولادي وبني عمي وسائر أهل الصحراء فاسمعوا له وأطيعوا قال ففزعت وخرس لساني وفهم السلطان عني الكراهية لذلك ثم دخل بستانه وبعث إلى فدخلت عليه فقال لي طب نفسا ولولا أني أحبك ما وليتك على أولادي وأهل بيتي وإني لا أستغني عنك وهذا ابن حميدة الذي وليناه بسجلماسة لم تظهر له ثمرة وكل يوم يأتيني بشكوى بولدي الحسين وتطاوله على الناس ولا يمنعه من ذلك وما وليتك عليهم إلا لهذا الغرض فإنهم يهابونك لمحلك مني ثم كتب إلى جميع أولاده وأعيان سجلماسة وأمر لي بمال الصائر والبناء وعينه ثم ودعته وانفصلت فخرجت من مكناسة إلى فاس ثم منها إلى سجلماسة فدخلتها واستوطنتها وجاء العامل الذي كان بها قبلي حتى قدم على السلطان فقبض عليه ونكبه قدوم المولى يزيد من المشرق واحترامه بضريح الشيخ عبد السلام ابن مشيش رضي الله عنه والسبب في ذلك
لما كانت سنة ثلاث ومائتين وألف قدم ولد السلطان المولى يزيد بن محمد من المشرق في ركب الحاج الفيلالي وقصد سجلماسة فلما كان بقرية أبي صمغون لقيه رفقة من أهل سجلماسة فسألهم عن البلاد وأهلها ومن المتولي عليها قالوا أبو القاسم الصياني فلما سمع المولى يزيد ذلك سقط في يده ووجم ثم التفت إلى شيخ الركب الشريف المولى عبد الله بن علي والي الأشراف الذين معه فقال لهم إني كنت عازما على الوصول معكم إلى بلدكم والاستيجار بضريح جدي المولي علي الشريف وأبعث مع أعيان بني
____________________


عمي وذوي أسنانهم من يشفع لي عند أبي والآن حيث كان الوالي بهذه البلدة هو الصياني فلا يستقيم لي معه أمر ولا يخيط بيني وبين والدي بخيط أبيض وهؤلاء عيالي فخذوهم بارك الله فيكم واذهبوا بهم مع أصحابي ينزلون بدار أخي المولى سليمان ويكونون بها وأما أنا فسأسير إلى ضريح الشيخ عبد السلام بن مشيش أكون به حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا ثم قدم عياله مع أصحابه في جملة الركب وكتب إلى أخيه المولى سليمان يوصيه بعياله خيرا وكتب أيضا إلى شقيقته المولاة حبيبة بالرتب وإلى بني عمه الذين هنالك وبعث بالمكاتيب مع أصحابه ولما وصل الركب إلى بلاد القنادسة تقدم أحد أصحابه بالمكاتيب إلى المولى سليمان ولما قرأها توقف ولم يدر ما يصنع ثم جاء بها إلى أبي القاسم الصياني وأخبره الخبر وقال إن والدي غاضب عليه وإن أنا قابلت عياله فربما ألحقني به فما العمل فكتب أبو القاسم إلى شيخ الركب ينهاه عن استصحاب عيال المولى يزيد معه وحذره غضب السلطان عليه وقال له إن أردت السلامة لنفسك فابعث بالعيال إلى المولاة حبيبة بالرتب والسلام ولما وصل كتابه إلى شيخ الركب وكانت فيه غفلة نجع فيه كلامه فحبس الركب إلى أن وصل أصحاب المولى يزيد بعياله فبعث معهم من يدلهم على طريق الرتب فسلكوا على وادي كثير ونزلوا عند المولاة حبيبة وكتب أبو القاسم الصياني بالخبر إلى السلطان فزعم أنه استحسن فعله ثم أمره أن يهيىء الظهر والزاد ويبعث بهما إلى عيال المولى يزيد مع ثلاثين من العبيد ليأتوا بهم إلى دار الدبيبغ يكونون بها مع أمه وكان السلطان قد أخرجها من الدار وأسكنها بدار الدبيبغ ففعل الزياني ذلك كله وبهذه القضية كان المولى يزيد يعتد على الصياني حتى أنه لما أفضى إليه الأمر قبض عليه وضربه وامتحنه
ولما وصل المولى يزيد إلى ضريح الشيخ عبد السلام رضي الله عنه بعث جماعة من أشراف العلم للشفاعة فيه فأمرهم السلطان أن يأتوا به=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حدود المجاز في بلاغة العرب وانعكاس التمادي في تجاوزه علي اخطاء الفقهاء وسوء سلوكيات الناس

  ➎ ضحي الإيمان الجمعة، 4 يونيو 2021 قواعد مهمة في المجاز والحقيقة وبيان كيف زوروا معاني الحق الثابت حتي قي فاتل نفسه قلت المدون ...