دعائي

قلت المدون تم بحمد الله وفضله ثم قلت: اللهم فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين اللهم لنا جميعا يا رب العالمين .وسبحان الله وبحمده  عدد خلقه وزنة عرشه  ورضا نفسه ومداد كلماته  } أقولها ما حييت وبعد موتي  والي يوم الحساب وارحم  واغفر اللهم لوالديَّ ومن مات من اخوتي واهلي والمؤمنين منذ خَلَقْتَ الخلق الي يوم الحساب آمين وفرِّجِ كربي وردَّ اليَّ عافيتي وارضي عني في الدارين  واعِنِّي علي أن اُنْفِقها في سبيلك يا ربي اللهم فرِّج كربي واكفني همي واكشف البأساء والضراء عني وعنا.. وردَّ إليَّ عافيتي وثبتني علي دينك الحق ولا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وألِّفْ بين قلوبنا اجمعين.يا عزيز يا غفار ... اللهم واشفني شفاءاً لا يُغَادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني وفرج كربي واكفني همي واعتقني مما أصابني من مكروه أنت تعلمه واعتقني من النار وقني عذاب القبر وعذاب جهنم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال اللهم آمين /اللهم ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عُقَد لساني واغنني بك عمن سواك يارب . والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين آمين.

السبت، 20 أغسطس 2022

ج2.و3. المستطرف في كل فن مستظرف شهاب الدين محمد بن أحمد أبي الفتح الأبشيهي

 

ج2. المستطرف في كل فن مستظرف شهاب الدين محمد بن أحمد أبي الفتح الأبشيهي

الأكل والشطرنجي هو الذي يرفع زبدية ويضع زبدية أخرى مكانها والمهندس هو الذي يقول لمن يضع الزبادي ضع هذه هنا وهذه ههنا حتى يأتي قدامه ما يحب والمتمني هو الذي يقول ليتني لم يكن معي من يأكل والفضولي هو الذي يقول لصاحب المنزل عند فراغ الطعام إن كان قد بقي عندك في القدور شيء فاطعم الناس فان فيهم من لم يأكل
ومن الأضياف من يلذ له حديث إلا وقت غسل يديه فيبقى الغلام واقفا والابريق في يده والناس ينتظرونه ومنهم من يغسل يديه بالاشنان مرة واحدة فإذا اجتمع الوسخ والزفر تسوك بهما ومنهم يدخل الدار فيبتدىء بالهندسة أولا فيقول كان ينبغي أن يكون باب المجلس من ههنا والإيوان كان ينبغي أن يكون من ههنا وينتقل من الهندسة إلى ترتيب المجلس فينقل الفاكهة من موضعها إلى موضع آخر وإن كان قد استحكم جوعه استعفي من الطعام وذهل عن بقية الاضياف وشدة جوعهم ومنهم من يخرج فيطوف على اصدقاء صاحب الدعوة فيتألم عن انقطاعهم ويستوحش من غيبتهم ويسلطهم على عرض صاحبهم
ولقد حكى عن مغن غير مجيد أنه لم يبطل ولا ليلة واحدة وما ذاك إلا أنه كان إذا سئل أين كنت قال كنت عند الناس وإذا قيل له أين أكلت قال أكلت في بطني وإذا قيل له اين شربت قال شربت في فمي ومنهم من يفهم عن صاحب الدعوة أنه يقول لغلامه اشتر كذا فيقول والله العظيم أو الطلاق الثلاث يلزمه ما يشتري شيئا فأذوقه فيعجز صاحب المنزل ويخجله إذا لم يكن في بيته شيء موجود وليت شعري إذا كان لا يأكل فلأي شيء حضر ومنهم من يرى صاحب البيت قد أسر إلى صديقه شيئا فيقول ما الذي قال المولى لصاحبنا وهو لا يريد أن يعلمه ومنهم من يستعجل صاحب المنزل بالأكل ويشكو الجوع ويظن أن ذلك بسط مكارم أخلاق وإنما ذلك يكون في بيته لا في بيوت الناس ومنهم من يقول لصاحب الدعوة من يغني لنا

فيقول فلان فيقول له غلطت لم لا دعوت فلانا ومنهم من يسأل صاحب البيت كيف قوته في النكاح فيقول له أنا رجل كبير قد ضعفت قوتي وشهوتي أو يقول مالي قوة طائلة في ذلك فيقول أنا والله كلما مر علي عام تزايدت شهوتي وكثر لهذا الفن تشوفي ويعلن بذلك حتى تسمعه صاحبة البيت ومنهم من يشكو حاله مع أهل بيته ويذكر نفقته عليهن وكسوته لهن وكثرة إنعامه وإحسانه إليهن وما عليه زوجته من سوء الأخلاق وكبر النفس لتستقل زوجة صاحب البيت ما هي فيه مع زوجها وربما كان ذلك سببا لفراقها منه ومنهم من تعجبه نفسه ويستحسن لباسه ويستطيب رائحته وإذا سمع الغناء تواجد وأظهر الطرب وحرك رأسه ويقوم قائما يتمايل حتى يرى أهل الرجل أنه لطيف الشكل بديع الحركات ويظن في نفسه أنه يعشق وأن رسول صاحبه البيت لا يبطىء عنه ومنهم من يقال له العب الشطرنج فيأباه ويشتغل بالدندنة فيقع في الفضول ومنهم من يتأمر على غلمان صاحب البيت ويهين أولاده ويظن أنه يدل عليهم ومنهم من يقول له صاحب البيت كل فيقول ما آكل إلا أنا ورفيقي ومنهم من يسمع السائل على الباب فيتصدق عليه من مال صاحب البيت بغير إذنه أو يقول للسائل فتح الله عليك ومنهم من يدعو الناس لصاحب الوليمة بغير إذنه ويقلده بذلك المنن واكثر الناس واقع في ذلك نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا وأن يعيذنا من شرور أنفسنا بمنه وكرمه إنه جواد كريم رؤوف رحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب السادس والثلاثون في العفو والحلم والصفح وكظم الغيظ والاعتذار وقبول المعذرة والعتاب وما أشبه ذلك
قد ندب الله عز و جل نبيه إلى الصفح والعفو بقوله تعالى ( فأصفح الصفح الجميل ) قيل هو الرضا بلا عتب وقال تعالى ( العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) وقال تعالى ( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) وقال تعالى ( صبر وغفر ) ( ذلك لمن عزم الأمور )
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله قصورا مشرفة على الجنة فقلت يا جبريل لمن هذه قال للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثني رسول الله اليمن قال ما زال جبريل عليه السلام يوصيني بالعفو فلولا علمي بالله لظننت أنه يوصيني بترك الحدود وقال الحسن بن أبي الحسن إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له على الله أجر فليقم فلا يقوم إلا العافون عن الناس وتلا قوله تعالى ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) وقال علي كرم الله وجهه أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة وكان المأمون رحمه الله تعالى

يحب العفو ويؤثره ويقول لقد حبب إلى العفو حتى أني أخاف أن لا أثاب عليه وكان يقول لو علم أهل الجرائم لذتي في العفو لارتكبوها وقال لو علم الناس حبي للعفو لما تقربوا إلى إلا بالجنايات وقال علي كرم الله وجهه إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه وقال رضي الله تعالى عنه أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم فما يعثر منهم عاثرا إلا ويده بيد الله يرفعه وقال رضي الله عنه إن أول عوض الحليم عن حلمه إن الناس أنصار له على الجاهل وقال المنتصر لذة العفو يلحقها حمد العاقبة ولذة التشفي يلحقها ذم الندم وقال ابن المعتز لا تشن وجه العفو بالتقريع به وقيل ما عفا عن الذنب من قرع به وقال رجل لرجل سبه إياك أعني فقال له وعنك أعرض وكان الأحنف رحمه الله تعالى كثير العفو والحلم وكان يقول ما آذاني أحد إلا أخذت في أمره باحدى ثلاث إن كان فوقي عرفت له فضله وإن كان مثلي تفضلت عليه وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه وكان مشهورا بين الناس بالحلم وبذلك ساد عشيرته وكان يقول وجدت الاحتمال أنصر لي من الرجال وقيل له ممن تعلمت الحلم فقال من قيس بن عاصم كنا نختلف إليه في الحلم كما يختلف الى الفقهاء في الفقه ولقد حضرت عنده يوما وقد أتوه بأخ له قد قتل أبنه فجاؤا به مكتوفا فقال ذعرتم أخي أطلقوه وأحملوا إلى أم ولدي ديته فانها ليست من قومنا ثم أنشأ يقول
( للنفس تصبيرا وتعزية ... احدى يدي أصابتني ولم ترد )
( خلف من فقد صاحبه ... أخي حين أدعوه وذاولدي )
وقيل من عادة الكريم إذا قدر غفر وإذا رأى زلة ستر وقالوا ليس من عادة الكرام سرعة الغضب والانتقام وقيل من انتقم فقد شفى غيظه وأخذ حقه فلم يجب شكره ولم يحمد في العالمين ذكره والعرب تقول لا سؤدد مع الانتقام والذي يجب على العاقل إذا أمكنه

الله تعالى أن لا يجعل العقوبة شيمته وإن كان لا بد من الانتقام فليرفق في انتقامه إلا أن يكون حدا من حدود الله تعالى وقال المنصور لجان عجز عن العذر ما هذا الوجوم وعهدي بك خطيبا لسنا فقال يا أمير المؤمنين ليس هذا موقف مباهاة ولكنه موقف توبة والتوبة بالاستكانة والخضوع فرق له وعفا عنه وسعى إلى المنصور برجل من ولد الأشتر النخعي ذكر له عنه أنه يميل إلى نبي علي والتعصب لهم فأمر باحضاره فلما مثل بين يديه قال يا أمير المؤمنين ذنبي أعظم من نقمتك وعفوك أعظم من ذنبي ثم قال
( مسيئا كالذي قلت ظالما ... فعفوا جميلاكي يكون لك الفضل )
( لم أكن للعفو منك لسوء ما ... أتيت به أهلا فأنت له أهل )
فعفا عنه وأمر له بصلة وأحضر إلى المأمون رجل قد أذنب ذنبا فقال له أنت الذي فعلت كذا وكذا قال نعم يا أمير المؤمنين أنا ذاك الذي أسرف على نفسه واتكل على عفوك فعفا عنه وخلى سبيله وأحضر إلى الهادي رجل من أصحاب عبد الله بن مالك فوبخه على ذنب فقال يا أمير المؤمنين إن إقراري يلزمني ذنبا لم أفعله ويلحق بي جرما لم أقف عليه وإنكاري رد عليك ومعارضة لك ولكني أقول
( فان كنت تبغي بالعقاب تشفيا ... فلا تزهدن عند التجاوز في الأجر )
فقال لله درك من معتذر بحق أو باطل ما امضى لسانك وأثبت جنانك وعفا عنه وخلى سبيله وركب يوما عمرو بن العاص رضي الله عنه بغلة له شهباء ومر على قوم فقال بعضهم من يقوم للأمير فيسأله عن أمه وله عشرة آلاف فقال واحد منهم أنا فقام وأخذ بعنان بغلته وقال أصلح الله الأمير أنت أكرم الناس خيلا فلم ركبت دابة أشهاب وجهها فقال إني لاأمل دابتي حتى تملني ولا أمل رفيقي حتى يملني فقال أصلح الله الأمير أما العاص فقد عرفناه

وعلمنا شرفه فمن الأم قال على الخبير سقطت أمي النابغة بنت حرملة بن عزة سبتها رماح العرب فأتي بها سوق عكاظ فبيعت فاشتراها عبد الله بن جدعان ووهبها للعاص بن وائل فولدت وأنجبت فإن كان قد جعل لك جعل فارجع وخذه وأرسل عنان الدابة وقيل إن أمه كانت بغيا عند عبد الله بن جدعان فوطئها في طهر واحد أبو لهب وأمية بن خلف وأبو سفيان بن حرب والعاص ابن وائل فولدت عمرا فادعاه كلهم فحكمت فيه أمه فقالت هو للعاص لأن العاص هو الذي كان ينفق عليها وقالوا كان أشبه بأبي سفيان وكان الواثق يتشبه بالمأمون في أخلاقه وحلمه وكان يقال له المأمون الصغير نقل عنه أنه دخلت عليه ابنة مروان بن محمد فقالت السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال لست به فقالت السلام عليك أيها الأمير فقال لها وعليك السلام ورحمة الله وبركاته فقالت ليسعنا عدلكم فقال إذا لا يبقى على وجه الأرض منكم أحد لأنكم حاربتم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه ومنعتم حقه وسممتم الحسن رضي الله عنه ونقضتم شرطه وقتلتم الحسين رضي الله عنه وسبيتم أهله ولعنتم علي بن أبي طالب رضي الله عنه على منابركم وضربتم علي بن عبد الله ظلما بسياطكم فعدلنال ايبقى منكم أحدا فقالت فليسعنا عفوكم قال أما هذا فنعم وأمر برد أموالها عليها وبالغ في الاحسان إليها
وكان معاوية رضي الله عنه يعرف بالحلم وله فيه أخبار مشهورة وآثار مذكورة وكان يقول إني لآنف أن يكون في الأرض جهل لا يسعه حلمي وذنب لا يسعه عفوي وحاجة لا يسعها جودي وهذه مروءة عالية المرتبة وقال له رجل يوما ما أشبه أستك بإست أمك فقال ذاك الذي اعجب أبا سفيان منها وكتب معاوية إلى عقيل بن ابي طالب رضي الله عنه يعتذر إليه من شيء جرى بينهما يقول من معاوية بن أبي سفيان إلى عقيل بن أبي طالب أما بعد يا بني عبد المطلب فأنتم والله فروع قصي ولباب عبد مناف وصفوة هاشم فأين أخلاقكم الراسية وعقولكم الكاسية وقد والله أساء

أمير الؤمنين ما كان جرى ولن يعود لمثله إلى أن يغيب في الثرى فكتب إليه عقيل يقول
( صدقت وقلت حقا غير أني ... أرى أن لا أراك ولا تراني )
( أقول سوء في صديقي ... ولكنني أصد إذا جفاني )
فركب إليه معاوية رضي الله عنه وناشده في الصفح عنه واستعطفه حتى رجع
وحكي عنه رضي الله عنه أنه لما ولي الخلافة وانتظمت إليه الأمور وامتلأت منه الصدور وأذعن لأمره الجمهور وساعده في مراده القدر المقدور استحضر ليلة خواص أصحابه وذاكرهم وقائع أيام صفين ومن كان يتولى كبر الكريهة من المعروفين فانهمكوا في القول الصحيح والمريض وآل حديثهم إلى من كان يجتهد في إيقاد نار الحرب عليهم بزيادة التحريض فقالوا امرأة من أهل الكوفة تسمى الزرقاء بنت عدي كانت تتعمد الوقوف بين الصفوف وترفع صوتها صارخة يا أصحاب علي تسمعهم كلاما كالصوارم مستحثة لهم بقول لو سمعه الجبان لقاتل والمدبر لقابل والمسلم لحارب والفار لكر والمتزلزل لاستقر فقال لهم معاوية رضي الله عنكم أيكم يحفظ كلامها فقالوا كلنا نحفظه قال فما تشيرون علي فيها قالوا نشير بقتلها فإنها أهل لذلك فقال لهم معاوية رضي الله عنه بئسما اشرتم وقبحا لما قلتم أيحسن أن يشتهر عني أنني بعدما ظفرت وقدرت قتلت امرأة قد وفت لصاحبها إني إذا للئيم لا والله لا فعلت ذلك أبدا ثم دعا بكاتبه فكتب كتابا إلى واليه بالكوفة أن أنفذ إلي الزرقاء بنت عدي مع نفر من عشيرتها وفرسان من قومها ومهد لها وطاء لينا ومركبا ذلولا فلما ورد عليه الكتاب ركب إليها وقرأ عليها فقالت بعد قراءة الكتاب ما أنا بزائغة عن الطاعة فحملها في هودج وجعل غشاءه خزا مبطنا ثم أحسن صحبتها فلما قدمت على معاوية قال لها مرحبا وأهلا خير مقدم قدمه وافد كيف حالك يا خالة وكيف رأيت سيرك قالت

خير مسير فقال هل تعلمين لم بعثت إليك قالت لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى قال ألست راكبة الجمل الأحمر يوم صفين وأنت بين الصفوف توقدين نار الحرب وتحرضين على القتال قالت نعم قال فما حملك على ذلك قالت يأمير المؤمنين إنه قد مات الرأس وبتر الذنب والدهر ذو غير ومن تفكر أبصر والأمر يحدث بعده الأمر فقال صدقت فهل تعرفين كلامك وتحفظين ما قلت قالت لا والله قال لله أبوك فلقد سمعتك تقولين ايها الناس إن المصباح لا يضيء في الشمس وأن الكواكب لا تضيء مع القمر وأن البغل لا يسبق الفرس ولا يقطع الحديد إلا بالحديد ألا من استرشدنا أرشدناه ومن سألنا أخبرناه إن الحق كان يطلب ضالة فأصابها فصبرا يا معشر المهاجرين والأنصار فكأنكم وقد التأم شمل الشتات وظهرت كلمة العدل وغلب الحق باطلة فإنه لا يستوي المحق والمبطل فمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون فالنزال النزال والصبر الصبر ألا وإن خضاب النساء الحناء وخضاب الرجال الدماء والصبر خير الأمور عاقبة أئتوا الحرب غير ناكصين فهذا يوم له ما بعده يا زرقاء أليس هذا قولك وتحريضك قالت لقد كان ذلك قال لقد شاركت عليا في كل دم سفكه فقالت أحسن الله بشارتك يا أمير المؤمنين وأدام سلامتك مثلك من يبشر بخير ويسر جليسه فقال معاوية أوقد سرك ذلك قالت نعم والله لقد سرني قولك وأني لي بتصديقه فقال لها معاوية والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب إلي من حبكم له في حياته فاذكري حوائجك تقض فقالت يا أمير المؤمنين إني آليت على نفسي أن لا أسأل أحدا بعد علي حاجة فقال قد شار علي بعض من عرفك بقتلك فقالت لؤم من المشير ولو أطعته لشاركته قال كلا بل نعفو عنك ونحسن إليك ونرعاك فقالت يا أمير المؤمنين كرم منك ومثلك من قدر فعفا وتجاوز عمن أساء وأعطى من غير مسألة قال فأعطاها كسوة ودراهم

وأقطعها ضيعة تغل كل سنة عشرة آلاف درهم وأعادها إلى وطنها سالمة وكتب إلى والي الكوفة بالوصية بها وبعشيرتها
وقيل كان لعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أرض وكان له فيها عبيد يعملون فيها وإلي جانبها أرض لمعاوية وفيها أيضا عبيد يعملون فيها فدخل عبيد معاوية في أرض عبد الله بن الزبير فكتب عبد الله كتابا إلي معاوية يقول له فيه أما بعد يا معاوية إن عبيدك قد دخلوا في ارضي فانهم عن ذلك وإلا كان لي ولك شأن والسلام فلما وقف معاوية على كتابه وقرأه دفعه إلى ولده يزيد فلما قرأه قال له معاوية يا بني ما ترى قال أرى أن تبعث إليه جيشا يكون أوله عنده وآخره عندك يأتونك برأسه فقال بل غير ذلك خير منه يا بنى ثم أخذ ورقة وكتب فيها جواب كتاب عبد الله بن الزبير يقول فيه أما بعد فقد وقفت على كتاب ولد حواري رسول الله ما ساءه والدنيا باسرها هينة عندي في جنب رضاه نزلت عن أرضي لك فأضفها إلى أرضك بما فيها من العبيد والأموال والسلام فلما وقف عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما على كتاب معاوية رضي الله عنه كتب إليه قد وقفت على كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ولا أعدمه الرأى الذي أحله من قريش هذا المحل والسلام فلما وقف معاوية على كتاب عبد الله بن الزبير وقرأه رمى به إلى ابنه يزيد فلما قرأه تهلل وجهه وأسفر فقال له أبوه يا بنى من عفا ساد ومن حلم عظم ومن تجاوز استمال إليه القلوب فإذا ابتليت بشيء من هذه الأدواء فداؤه بمثل هذا الدواء
ولما دخل الفيل من دمشق واجتمع الناس لرؤيته صعد معاوية في مكان مرتفع ينظر اليه فبينما هو كذلك إذ نظر في بعض الحجر من قصره رجلا مع بعض حرمه فأتى الحجرة ودق الباب فلم يكن من فتحه بد فوقعت عينه على الرجل فقال له يا هذا في قصري وتحت جناحي تهتك حرمتي وأنت في قبضتي ما حملك على هذا قال فبهت

الرجل وقال حلمك أوقعني فقال له معاوية فإن عفوت عنك تسترها علي قال نعم فعفا عنه وخلى سبيله وهذا من الحلم الواسع ان يطلب الستر من الجاني وهو عروض قول الشاعر
( إذا مرضتم أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم ونعتذر )
وحكى عن الربيع مولى الخليفة المنصور قال ما رأيت رجلا أربط جأشا وأثبت جنانا من رجل سعى به إلى المنصور أن عنده ودائع وأموال لبني أمية فأمرني بإحضاره فأحضرته إليه فقال له المنصور قد رفع إلينا خبر الودائع والأموال التي عندك لبني أمية فأخرج لنا منها واحضرها ولا تكتم منها شيئا فقال يا أمير المؤمنين وأنت وارث بنى أمية قال لا قال فوصى لهم في أموالهم ورباعهم قال لا قال فما مسألتك عما في يدي من ذلك قال فأطرق المنصور وتفكر ساعة ثم رفع رأسه وقال إن بني أمية ظلموا المسلمين فيها وأنا وكيل المسلمين في حقوقهم وأريد أن آخذ ما ظلموا المسلمين فيه فاجعله في بيت أموالهم فقال ياأمير المؤمنين فيحتاج إلى إقامة بينة عادلة أن ما في يدي لبني أمية مما خانوه وظلموه فإن بني أمية قد كانت لهم أموال غير أموال المسلمين قال فأطرق المنصور ساعة ثم رفع رأسه وقال يا ربيع ما أرى الشيخ إلا قد صدق وما يجب عليه شيء وما يسعنا إلا أن نعفو عما قيل عنه ثم قال هل لك من حاجة قال نعم يا أمير المؤمنين أن تجمع بيني وبين من سعى بي إليك فوالله الذي لا إله إلا هو ما في يدي لبني أمية مال ولا وديعة ولكنني لما مثلت بين يديك وسألتني عما سألتني عنه قابلت بين هذا القول الذي ذكرته الآن وبين ذلك القول الذي ذكرته أولا فرأيت ذلك أقرب إلى الخلاص والنجاة فقال يا ربيع اجمع بينه وبين من سعى به فجمعت بينهما فلما رآه قال هذا غلامي اختلس لي ثلاثة آلاف دينار من مالي وأبق مني وخاف من طلبي له فسعى بي عند أمير المؤمنين قال فشدد المنصور على الغلام وخوفه فأقر بأنه غلامه وأنه أخذ

المال الذي ذكره وسعى به كذبا عليه وخوفا من أن يقع في يده فقال له المنصور سألتك أيها الشيخ أن تعفو عنه فقال قد عفوت عنه وأعتقه ووهبته الثلاثة آلاف التي أخذها وثلاثة آلاف أخرى أدفعها إليه فقال له المنصور ما على ما فعلت من مزيد قال بلى يا أمير المؤمنين إن هذا كله لقليل في مقابلة كلامك لي وعفوك عنى ثم انصرف قال الربيع فكان المنصور يتعجب منه وكلما ذكره يقول ما رأيت مثل هذا الشيخ يا ربيع
وغضب الرشيد على حميد الطوسي فدعا له بالنطع والسيف فبكى فقال له ما يبكيك فقال والله يا أمير المؤمنين ما أفزع من الموت لأنه لا بد منه وإنما بكيت أسفا على خروجي من الدنيا وأمير المؤمنين ساخط علي فضحك وعفى عنه وقال إن الكريم إذا خادعته انخدع وأمر زياد بضرب عنق رجل فقال أيها الأمير إن لي بك حرمة قال وما هي قال إن أبي جارك بالبصرة قال ومن أبوك قال يا مولاي إني نسيت اسم نفسي فكيف لا أنسى اسم أبي فرد زياد كمه على فمه وضحك وعفا عنه وأمر الحجاج بقتل رجل فقال أسألك بالذي أنت غدا بين يديه أذل موقفا مني بين يديك إلا عفوت عني فعفا عنه ولما ضرب الحجاج رقاب أصحاب ابن الأشعث أتى رجل من بني تميم فقال والله يا حجاج لئن كنا أسأنا في الذنب ما أحسنت في العفو فقال الحجاج أف لهذه الجيف أما كان فيهم من يحسن الكلام مثل هذا وعفا عنه وخلى سبيله وكان إبراهيم بن المهدي يقول والله ما عفا عني المأمون تقربا إلى الله تعالى ولا صلة الرحم ولكن له سوق في العفو يكره أن تكسد بقتلي وسئل الفضل عن الفتوة فقال الصفح عن عثرات الأخوان وفي بعض الكتب المنزلة إن كثرة العفو زيادة في العمر واصله قوله تعالى ( ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) وقال يزيد بن مزيد أرسل إلي الرشيد ليلا يدعوني فأوجست منه خيفة فقال لي أنت القائل أنا ركن الدولة

والثائر لها والضارب أعناق بغاتها لا أم لك أي ركن وأي ثائر أنت قلت يا أمير المؤمنين ما قلت هذا إنما قلت أنا عبد الدولة والثائر لها فأطرق وجعل ينحل غضبه عن وجهه ثم ضحك فقلت أحسن من هذا قولي
( الله في هرون ثابتة ... وفي بنيه إلى أن ينفخ الصور )
فقال يا فضل أعطه مائتي ألف درهم قبل أن يصبح وأمر مصعب ابن الزبير بقتل رجل فقال ما أقبح بي أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة ووجهك هذا الذي يستضاء به فأتعلق بأطواقك وأقول أي رب سل مصعبا لم قتلني فقال أطلقوه فلما أطلقوه قال أيها الأمير اجعل ما وهبت لي من حياتك في خفض عيش قال قد أمرت لك بمائة ألف درهم فقال
( أيا المذنب الخطاء والعفو واسع ... ولو لم يكن ذنب لماعرف العفو )
وتغيظ عبد الملك بن مروان على رجل فقال والله لئن أمكنني الله منه لأفعلن به كذا وكذا فلما صار بين يديه قال رجاء بن حيوة يا أمير المؤمنين قد صنع الله ما أحببت فاصنع ما أحب الله فعفا عنه وأمر له بصلة وقال الحسن إن أفضل رداء تردى به الانسان الحلم وهو والله عليك أحسن من برد الحبر وفيه قال ابو تمام
( رفيق حواشي الحلم لو أن حلمه ... بكفيك ما ماريت في أنه برد )
ويقال الحليم سليم والسفية كليم وقال محمد بن عجلان ما شيء أشد على الشيطان من عالم معه حلم إن تكلم تكلم بعلم وإن سكت سكت بحلم يقول الشيطان سكوته علي أشد من كلامه ( شعر )
( كنت تبغي شيمة غير شيمة ... طبعت عليها لم تطعك الضرائب )

وعن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أقرب مايكون العبد من غضب الله إذا غضب وفي التوراة اذكرني إذا غضبت اذكرك إذا غضب فلا أمحقك فيما أمحق وإذا ظلمت فاصبر وأرض بنصرتي فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك وكان ابن عون إذا غضب على إنسان قال له بارك الله عمك وكانت له ناقة كريمة فضربها الغلام فاندر عينها فقالوا إن غضب ابن عون فإنه يغضب اليوم فقال للغلام غفر الله لك وقال رجل لرسول الله شيء أشد قال غضب الله قال فما قال يباعدني من غضب الله قال أن لا تغضب ويقال من أطاع الغضب أضاع الأرب قال ابو العتاهية
( أر في الأعداء حين اختبرتهم ... عدوا لعقل المرء أعدى من الغضب )
وقال أبو هريرة رضي الله عنه ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب وقال ابن مسعود رضي الله عنه كفى بالمرء إثما أن يقال له اتق الله فيغضب ويقول عليك نفسك وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عامل من عماله أن لا تعاقب عند غضبك وإذا غضبت على رجل فاحبسه فإذا سكن غضبك فاخرجه فعاقبه على قدر ذنبه ولا تجاوز به خمسة عشر سوطا وقيل لابن المبارك رحمه الله تعالى اجمع لنا حسن الخلق في كلمة واحدة قال ترك الغضب وقال المعتمر بن سليمان كان رجل ممن كان قبلكم يغضب ويشتد غضبه فكتب ثلاث صحائف فأعطى كل صحيفة رجلا وقال للأول إذا اشتد غضبي فقم إلي بهذه الصحيفة وناولنيها وقال للثاني إذا سكن بعض غضبي فناولنيها وقال للثالث إذا ذهب غضبي فناولنيها وكان في الأولى اقصر فما أنت وهذا الغضب إنك لست بإله إنما أنت بشر يوشك أن يأكل بعضك بعضا وفي الثانية ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء وفي الثالثة احمل عباد الله على كتاب الله فإنه لا يصلحهم إلا ذاك روي إنه أنو شروان وكان الشعبي أولع شيء بهذا البيت

( ليست الأحلام في حال الرضا ... إنما الأحلام في حال الغضب )
وعن معاذ بن جبل عن أنس رضي الله عنهما عن النبي كظم غيظه وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخبره في أي الحور شاء وروي ملأه الله أمنا وإيمانا وقال ابن السماك أذنب غلام لامرأة من قريش فأخذت السوط ومضت خلفه حتى إذا قاربته رمت بالسوط وقالت ما تركت التقوى أحدا يشفي غيظه وقال أبو ذر لغلامه لم أرسلت الشاة على علف الفرس قال أردت أن أغيظك قال لأجمعن مع الغيظ أجرا أنت حر لوجه الله تعالى واستأذن رهط من اليهود على رسول الله فأذن لهم فقالوا السلام عليك يا محمد فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها بل السأم عليكم واللعنة فقال يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله فقالت ألم تسمع ما قالوا قال قد قلت وعليكم ورفع إلى عبد الملك بن مروان أعرابي يقال له حمزة سرق وقامت عليه البينة فهم عبد الملك بقطع يده فكتب إليه حمزة من السجن يقول شعر
( يا أمير المؤمنين أعيذها ... بعفوك أن تلقى مقاما يشينها )
( خير في الدنيا وكانت خبيثة ... إذا ما شمال فارقتها يمينها )
قال فأبي عبد الملك إلا قطعه فدخلت عليه أم حمزة وقالت يا أمير المؤمنين بني وكاسبي وواحدي فقال لها عبد الملك بئس الكاسب لك هذا حد من حدود الله تعالى فقالت يا أمير المؤمنين اجعله احد ذنوبك التي تستغفر الله منها فقال عبد الملك ادفعوه إليها وخلى سبيله شعر
( إذا ما طاش حلمك عن عدو ... وهان عليك هجران الصديق )
( فلست إذا أخا عفو وصفح ... لأخ على عهد وثيق )
( إذا زل الرفيق وأنت ممن ... بلا رفق بقيت بلا رفيق )
( إذا أنت اتخذت أخا جديدا ... لما أنكرت من خلق عتيق )

( فما تدري لعلك مستجير ... من الرمضاء فر إلى الحريق )
( فكم من سالك لطريق أمن ... أتاه يحاذر في الطريق )
وشتم رجل رجلا فقال له يا هذا لا تغرق في شتمنا ودع للصلح موضعا فإني أبيت مشاتمة الرجال صغيرا فلن أجيئها كبيرا وإني لا أكافىء من عصى الله في بأكثر من أن أطيع الله فيه
( وحكى عن جعفر الصادق رضي الله عنه أن غلاما له وقف يصب الماء على يديه فوقع الابريق من يد الغلام في الطست فطار الرشاش في وجهه فنظر جعفر إليه نظر مغضب فقال يا مولاي والكاظمين الغيظ قال قد كظمت غيظي قال والعافين عن الناس قال لقد عفوت عنك قال والله يحب المحسنين قال إذهب فأنت حر لوجه الله تعالى وقيل لماقدم نصر بن منيع بين يدي الخليفة وكان قد أمر بضرب عنقه قال يا أمير المؤمنين اسمع مني كلمات أقولها قال قل فأنشأيقول
( زعموا بأن الصقر صادف مرة ... عصفور بر ساقه التقدير )
( فتكلم العصفور تحت جناحه ... والصقر منقض عليه يطير )
( إني لمثلك لا أتمم لقمة ... ولئن شويت فإنني لحقير )
( فتهاون الصقر المدل بصيده ... كرما وأفلت ذلك العصفور )
قال فعفا عنه وخلى سبيله قال الشاعر
( أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزهم ... عنه فإن جحود الذنب ذنبان )
وقال بعضهم
( العفو الفتى إذا اعترف ... وتاب عما قد جناه واقترف )
( لقوله قل للذين كفروا ... إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف )

وقال آخر
( إذا ذكرت أياديك التي سلفت ... مع قبح فعلي وذلاني ومجترمي )
( أكاد أقتل نفسي ثم يدركني ... علمي بأنك مجبول على الكرم )
وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه رأى سكران فأراد أن يأخذه ليعزره فشتمه السكران فرجع عنه فقيل له يا أمير المؤمنين لما شتمك تركته قال إنما تركته لأنه أغضبني فلو عزرته لكنت قد انتصرت لنفسي فلا أحب أن أضرب مسلما لحمية نفسي وغضب المنصور على رجل من الكتاب فأمر بضرب عنقه فأنشأيقول
( وإنا الكاتبونا وإن أسأنا ... فهبنا للكرام الكاتبينا )
فعفا عنه وخلى سبيله وأكرمه وقال الرشيد لأعرابي بم بلغ فيكم هشام بن عروة هذه المنزلة قال بحلمه عن سفيهنا وعفوه عن مسيئنا وحمله عن ضعيفنا لا منان إذا وهب ولا حقود إذا غضب رحب الجنان سمح البنان ماضي اللسان قال فأومأ الرشيد إلى كلب صيد كان بين يديه وقال والله لو كانت هذه في هذا الكلب لاستحق بها السؤدد وقيل لمعن بن زائدة المؤاخذة بالذنب من السؤدد قال لا ولكن أحسن ما يكون الصفح عمن عظم جرمه وقل شفعاؤه ولم يجد ناصرا وقال محمود الوراق
( سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب ... وإن عظمت منه علي الجرائم )
( فما الناس إلا واحد من ثلاثة ... شريف ومشروف ومثل مقاوم )
( فأما الذي فوقي فاعرف قدره ... وأتبع فيه الحق والحق لازم )
( وأما الذي دوني فان قال صنت عن ... إجابته نفسي وإن لام لائم )
( وأما الذي مثلي فان زل أو هفا ... تفضلت إن الحر بالفضل حاكم )

وقال الأحنف بن قيس لابنه يا بنى إذا أردت أن تؤاخي رجلا فاغضبه فإن أنصفك وإلا فاحذره قال الشاعر
( إذا كنت مختصا لنفسك صاحبا ... فمن قبل أن تلقاه بالود أغضبه )
( فان كان في حال القطيعة منصفا ... وإلا فقد جربته فتجنبه )
ومن أمثال العرب إحلم تسد قال الشاعر
( لن يبلغ المجد أقوام وإن شرفوا ... حتى يدلوا وإن عزوا لأقوام )
( ويشتموا فترى الألوان مسفرة ... لا صفح ذل ولكن صفح اكرام
وقال آخر
( وجهل رددناه بفضل حلومنا ... ولو أننا شئنا رددناه بالجهل )
وقال الأحنف إياكم ورأي الأوغاد قالوا وما رأي الأوغاد قال الذين يرون الصفح والعفو عارا وقال رجل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه لأسبنك سبا يدخل معك قبرك فقال معك والله يدخل لا معي وقيل إن الأحنف سبه رجل وهو يماشيه في الطريق فلما قرب من المنزل وقف الأحنف وقال له يا هذا إن كان قد بقي معك شيء فهات وقله ههنا فإني أخاف أن يسمعك فتيان الحي فيؤذوك ونحن لا نحب الانتصار لأنفسنا وقال لقمان لابنه يا بني ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة لا يعرف الحليم إلا عند الغضب ولا الشجاع إلا عند الحرب ولا أخوك إلا عند الحاجة إليه ومن أشعر بيت قيل في الحلم قول كعب بن زهير
( إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليما أو أصابك جاهل )
وقال آخر
( وإذا بغى باغ عليك بجهله ... فاقتله بالمعروف لا بالمنكر )
وقال آخر
( قل ما بدا لك من صدق ومن كذب حلمي أصم وأذني غير صماء )

ويروى في بعض الأخبار أن ملكا من الملوك أمر أن يصنع له طعام وأحضر قوما من خاصته فلما مد السماط أقبل الخادم وعلى كفه صحن فيه طعام فلما قرب من الملك أدركته الهيبة فعثر فوقع من مرق الصحن شيء يسير على طرف ثوب الملك فأمر بضرب عنقه فلما رأى الخادم العزيمة على ذلك عمد بالصحن فصب جميع ما كان فيه على رأس الملك فقال له ويحك ما هذا فقال أيها الملك إنما صنعت هذا شحا على عرضك لئلا يقول الناس إذا سمعوا ذنبى الذي به تقتلني قتله في ذنب خفيف لم يضره وأخطأ فيه العبد ولم يقصده فتنسب إلى الظلم والجور فصنعت هذا الذنب العظيم لتعذر في قتلي وترفع عنك الملامة قال فأطرق الملك مليا ثم رفع رأسه إليه وقال يا قبيح الفعل يا حسن الاعتذار قد وهبنا قبيح فعلك وعظيم ذنبك لحسن اعتذارك اذهب فأنت حر لوجه الله تعالى
وحكى عن أمير المؤمنين المأمون وهو المشهود له بالاتفاق على علمه والمشهور في الآفاق بعفوه وحلمه انه لما خرج عمه ابراهيم المهدي عليه وبايعه العباسيون بالخلافة ببغداد وخلعوا المأمون وكان المأمون إذ ذاك بخراسان فلما بلغه الخبر قصد العراق فلما بلغ بغداد اختفى ابراهيم ابن المهدي وعاد العباسيون وغيرهم إلى طاعة المأمون ولمم يزل المأمون متطلبا لابراهيم حتى أخذه وهو متنقب مع نسوة فحبس ثم أحضر حتى وقف بين يدي المأمون فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته فقال المأمون لاسلم الله عليك ولا قرب دارك استغواك الشيطان حتى حدثتك نفسك بما تنقطع دونه الأوهام فقال له ابراهيم مهلا يا أميرالمؤمنين فان ولي الثأر محكم في القصاص والعفو أقرب للتقوى ولك من رسول الله شرف القرابة وعدل السياسة وقد جعلك الله فوق كل ذي ناب كما جعل كل ذي ذنب دونك فان أخذت فبحقك وان عفوت فبفضلك والفضل أولى بك ياأمير المؤمنين ثم قال هذه الأبيات

( ذنبي اليك عظيم ... وأنت أعظم منه )
( فخذ بحقك أو لا ... فاصفح بعفوك عنه )
( إن لم أكن في فعالي ... من الكرام فكنه )
فلما سمع المأمون كلامه وشعره ظهرت الدموع في عينيه وقال يا إبراهيم الندم توبة وعفو الله تعالى أعظم مما تحاول وأكثر مما تأمل ولقد حبب إلي العفو حتى خفت أن لا أوجر عليه لا تثريب عليك اليوم ثم أمر بفك قيوده وادخاله الحمام وازالة شعثه وخلع عليه ورد أمواله جميعها اليه فقال فيه مخاطبا
( رددت مالي ولم تبخل علي به ... وقبل ردك مالي قد حقنت دمي )
( فان جحدتك ما أوليت من كرم ... أني لباللؤم أولى منك بالكرم )
وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج يأمره أن يبعث إليه برأس عباد بن أسلم البكري فقال له عباد أيها الأمير أنشدك الله لا تقتلني فوالله اني لأعول أربعا وعشرين امرأة ما لهن كاسب غيري فرق لهن واستحضرهن وإذا واحدة منهن كالبدر فقال لها الحجاج ما أنت منه قالت أنا بنته فاسمع يا حجاج مني ما أقول ثم قالت
( أحجاج إما أن تمن بتركه ... علينا وإما أن تقتلنا معا )
( أحجاج لا تفجع به ان قتلته ... ثمانا وعشرا واثنتين وأربعا )
( أحجاج لا تترك عليه بناته ... وخالاته يندبنه الدهر أجمعا )
فبكى الحجاج ورق له واستوهبه من أمير المؤمنين عبد الملك وأمر له بصلة ولما قدم عيينه بن حصن على ابن أخيه الحر بن قيس وكان من النفر الذين يدنيهم عمر رضي الله عنه وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا فقال عيينه لابن أخيه يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه فاستأذن فاذن له عمر فلما دخل قال هيه يا ابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل

فغضب عمر حتى هم أن يوقع به فقال له الحر يا أمير المؤمنين إن الله سبحانه وتعالى قال لنبيه عليه الصلاة السلام ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) وان هذا من الجاهلين فوالله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاها عليه وكان وقافا عند كتاب الله تعالى
وحكى أن رجلا زور ورقة عن خط الفضل بن الربيع تتضمن أنه أطلق له ألف دينار ثم جاء بها الى وكيل الفضل فلما وقف الوكيل عليها لم يشك انها خط الفضل فشرع في أن يزن له الألف دينار وإذا بالفضل قد حضر ليتحدث مع وكيله في تلك الساعة في أمر مهم فلما جلس أخبره الوكيل بأمر الرجل وأوقفه على الورقة فنظر الفضل فيها ثم نظر في وجهه الرجل فرآه كاد يموت من الوجل والخجل فأطرق الفضل بوجهه ثم قال للوكيل أتدري لم أتيتك في هذا الوقت قال لا قال جئت لاستنهضك حتى تعجل لهذا الرجل اعطاء المبلغ الذي في هذه الورقة فأسرع عند ذلك الوكيل في وزن المال وناوله الرجل فقبضه وصار متحيرا في أمره فالتفت اليه الفضل وقال له طب نفسا وامض إلى سبيلك آمنا على نفسك فقيل الرجل يده وقال له سترتني سترك الله في الدنيا والآخرة ثم أخذ المال ومضى فيجب على الإنسان أن يتأسى بهذه الأخلاق الجميلة والأفعال الجليلة ويقتفي سنة نبيه فقد كان أكثر الناس حلما وأحسنهم خلقا وأكرمهم خلقا وأكثرهم تجاوزا وصفحا وأبرهم للمعتر عليه نجحا صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين
وأما ما جاء في العتاب
فقد قيل العتاب خير من الحقد ولا يكون العتاب إلا على زلة وقد مدحه قوم فقالوا العتاب حدائق المتحابين ودليل على بقاء المودة

وقد قال أبو الحسن بن منقذ شعرا
( أسطو عليه وقلبي لو تمكن من ... يدي غلهما غيظا إلى عنقي )
( وأستعير له من سطوتي حنقا ... وأين ذل الهوى من عزة الحنق )
وذمة بعضهم قال اياس بن معاوية خرجت في سفر ومعي رجل من الاعراب فلما كان في بعض المناهل لقيه ابن عم فتعانقا وتعاتبا وإلى جانبهما شيخ من الحي فقال لها انعما عيشا ان المعاتبة تبعث التجني والتجني يبعث المخاصمة والمخاصمة تبعث العداوة ولا خير في شيء ثمرته العداوة قال الشاعر
( فدع ذكر العتاب فرب شر ... طويل هاج أوله العتاب )
وقيل العتاب من حركات الشوق وإنما يكون هذا بين المتحابين قال الشاعر
( علامة ما بين المحبين في الهوى ... عتابهم في كل حق وباطل )
وكتب بعضهم يعاتب صديقه على تغير حاله معه يقول
( عرضنا أنفسا عزت علينا ... عليكم فاستخف بها الهوان )
( ولو أنا رفعناها لعزت ... ولكن كل معروض مهان )
وقال آخر يعاتب صديقه
( وكنت إذا ما جئت أدنيت مجلسي ... ووجهك من تلك البشاشة يقطر )
( فمن لي بالعين التي كنت مرة ... إلي بها في سالف الدهر تنظر )
وقال أبو الحسن بن منقذ
( أخلاقك الغر السجايا مالها ... حملت قذى الواشين وهي سلاف )
( ومرآة رأيك في عبيدك مالها ... صدئت وأنت الجوهر الشفاف )

وقال آخر يعاتب صديقه على كتاب أرسله إليه وفيه حط عليه
( اقرأ كتابك واعتبره قربيا ... فكفى بنفسك لي عليك حسيبا )
( أكذا يكون خطاب إخوان الصفا ... إن ارسلوا جعلوا الخطاب خطوبا )
( ما كان عذري أن أجبت بمثله ... أو كنت بالعتب العنيف مجيبا )
( لكنني خفت انتقاص مودتي ... فيعد إحساني إليك ذنوبا )
وقال آخر
( أراك إذا قلت قولا قبلته ... وليس لأقوالي لديك قبول )
( وما ذاك إلا أن ظنك سيء ... بأهل الوفا والظن فيك جميل )
( فكن قائلا قول الحماسي تائها ... بنفسك عجبا وهو منك قليل )
( وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول )
وكان لمحمد بن الحسن بن سهل صديق فنالته إضافة ثم ولي عملا فأثرى فقصده محمد مسلما فرأى منه تغيرا فكتب إليه
( لئن كانت الدنيا أنالتك ثروة ... فأصبحت ذا يسر وقد كنت عسر )
( فقد كشف الإثراء منك خلائقا ... من اللؤم كانت تحت ثوب من الفقر )
وقال آخر في المعنى
( دعوت الله أن تسمو وتعلو ... علو النجم في أفق السماء )
( فلما أن سموت بعدت عني ... فكان إذا على نفسي دعائي )
وكان ابن عرادة السعدي مع سلم بن زياد بخراسان وكان له مكرما وابن عرادة يتجنى عليه ففارقه وصاحب غيره ثم ندم ورجع إليه وقال
( عتبت على سلم فلما فقدته ... وصاحبت أقواما بكيت على سلم )
( رجعت إليه بعد تجريب غيره ... فكان كبر بعد طول من السقم )
وقال مسلم بن الوليد
( ويرجعني إليك إذا نأت بي ... دياري عنك تجربة الرجال )

وقال أبو الحسن القابسي
( إذا أنا عاتبت الملوم فإنما ... أخط بأقلامي على الماء أحرفا )
( وهبة ارعوى بعد العتاب ألم تكن ... مودته طبعا فصارت تكلفا )
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه عند معاتبة الصديق أهون من فقده وما أحسن ما قيل في العتاب
( وفي العتاب حياة بين أقوام ... وهو المحك لذي من مخاطبة ذوي الألباب )
فما ثم شيء أحسن من معاتبة الأحباب ولا ألذ لبس وإبهام والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلىآله وصحبه وسلم

الباب السابع والثلاثون في الوفاء بالوعد وحفظ العهد ورعاية الذمم
أرجح دليل يتمسك به الإنسان كتاب الله تعالى الذي من تمسك به هداه ومن استدل به أرشده وهداه قال الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعفو ) وقال جل ذكره وتقدس اسمه ( الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ) وقال جل وعلا ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ) وقال تعالى ( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ) والآيات في ذلك كثيرة ومن أشدها قوله تعالى ( أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) وروى في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان فالوفاء من شيم النفوس الشريفة والأخلاق الكريمة والخلال الحميدة يعظم صاحبه في العيون وتصدق فيه خطرات الظنون ويقال الوعد والإنجاز محاسنه والوعد سحابة والإنجاز ومطره وقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لكل شيء رأس ورأس المعروف تعجيله وأنشدوا

( إذا قلت في شيء نعم فأتمه ... فأن نعم دين على الحر واجب )
( وإلا فقل لا تسترح وترح بها ... لئلا يقول الناس إنك كاذب )
وقال آخر
( لا كلف الله نفسا فوق طاقتها ... ولا تجود يد إلا بما تجد )
( فلا تعد عدة إلا وفيت بها ... واحذر خلاف مقال للذي تعد )
وقال اعرابي وعد الكريم نقد وتعجيل ووعد اللئيم مطل وتعليل وقال أعرابي أيضا العذر الجميل خير من المطل الطويل ومدح بشار خالد ابن برمك فأمر له بعشرين ألفا فأبطأت عليه فقال لقائده أقمنى حيث يمر فأقامه فمر فأخذ بلجام بغلته وأنشأ يقول
( أظلت علينا منك يوما سحابة ... أضاء لها برق وأبطأ رشاشها )
( فلا غيمها يجلى فييأس طابع ... ولا غيثها يأتي فتروى عطاشها )
فقال لا تبرح حتى تؤتي بها وقال صالح اللخمي
( لئن جمع الآفات فالبخل شرها ... وشر من البخل المواعيد والمطل )
( ولا خير في وعد إذا كان كاذبا ... ولا خير في قول إذا لم يكن فعل )
وقيل ماتت للهذلي أم ولد فأمر المنصور الربيع أن يعزيه ويقول له إن أمير المؤمنين موجه إليك جارية نفيسة لها أدب وظرف يسليك بها وأمر لك معها بفرس وكسوة وصلة فلم يزل الهذلي يتوقع وعد أمير المؤمنين ونسيه المنصور فحج المنصور ومعه الهذلي فقال المنصور وهو بالمدينة إني أحب أن أطوف الليلة المدينة فاطلب لي من يطوف بي فقال الهذلي أنا لها يا أمير المؤمنين فطاف به حتى وصل بيت عاتكة فقال يا أمير المؤمنين وهذا بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص

( يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل )
( إنني لأمنحك الصدود وإني ... قسما إليك مع الصدود لأميل ) فكره المنصور ذكر بيت عاتكة من غير أن يسأله عنه فلما رجع المنصور أمر القصيدة على قلبه فإذا فيها
( وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل )
فذكر المنصور الوعد الذي كان وعد به الهذلي فأنجزه له واعتذر إليه وقال الشاعر
( تعجيل وعد المرء أكرومة ... تنشر عنه أطيب الذكر )
( والحر لا يمطل معروفه ... ولا يليق المطل بالحر )
وقال آخر
( ولقد وعدت وأنت أكرم واعد ... لا خير في وعد بغير تمام )
( أنعم علي بما وعدت تكرما ... فالمطل يذهب بهجة الإنعام )
وقال آخر
( لعبدك وعد قد تقدم ذكره ... فأوله حمد وآخره شكر )
( وقد جمعت فيك المكارم كلها ... فما لك عن تأخير مكرمة عذر
وقال آخر
( وميعاد الكريم عليه دين ... فلا تزد الكريم على السلام )
( يذكره سلامك ما عليه ... ويغنيك السلام عن الكلام )
وقال آخر
( شكاك لساني ثم أمسكت نصفه ... فنصف لساني بامتداحك ينطق )
( فان لم تنجر ما وعدت تركتني ... وباقي لساني بالمذمة مطلق )
وقال آخر
( باتت لوعدك عيني غير راقدة ... والليل حي الدياجي منبت السحر )

( هذا وقد بت من وعد على ثقة ... فكيف لو بت من هجر على حذر )
وقال آخر
( نذكر بالرقاع إذا نسينا ... ويأبى الله أن تنسى الكرام )
وأما الوفاء بالعهد ورعاية الذمم
فقد نقل فيه من عجائب الوقائع وغرائب البدائع ما يطرب السامع ويشنف المسامع كقضية الطائي وشريك نديم النعمان بن المنذر وتلخيص معناها أن النعمان كان قد جعل له يومين يوم بؤس من صادفه فيه قتله وأرداه ويوم نعيم من لقيه فيه أحسن إليه وأغناه وكان هذا الطائي قد رماه حادث دهره بسهام فاقته وفقره فأخرجته الفاقة من محل استقراره ليرتاد شيئا لصبيته وصغاره فبينما هو كذلك إذ صادفه النعمان في يوم بؤسه فلما رآه الطائي علم أنه مقتول وأن دمه مطلول فقال حيا الله الملك إن لي صبية صغارا وأهلا جياعا وقد أرقت ماء وجهي في حصول شيء من البلغة لهم وقد أقدمني سوء الحظ على الملك في هذا اليوم العبوس وقد قربت من مقر الصبية والأهل وهم على شفا تلف من الطوى ولن يتفاوت الحال في قتلي بين أول النهار وآخره فان رأى الملك أن يأذن لي في أن أوصل إليهم هذا القوت وأوصى بهم أهل المروءة من الحي لئلا يهلكوا ضياعا ثم أعود إلى الملك وأسلم نفسي لنفاذ أمره فلما سمع النعمان صورة مقاله وفهم حقيقة حاله ورأى تلهفه على ضياع أطفاله رق له ورثي لحاله غير أنه قال له لا آذن لك حتى يضمنك رجل معنا فان لم ترجع قتلناه وكان شريك ابن عدي بن شرحبيل نديم النعمان معه فالتفت الطائي إلى شريك وقال له
( يا شريك بن عدي ... ما من الموت انهزام )
( من لأطفال ضعاف ... عدموا طعم الطعام )
( بين رجوع وانتظار ... وسقام )
( يا أخا كل كريم ... أنت من قوم كرام )
( يا أخا النعمان جد لي ... بضمان والتزام )

( ولك الله بأني ... راجع قبل الظلام )
فقال شريك بن عدي أصلح الله الملك علي ضمانه فمر الطائي مسرعا وصار النعمان يقول لشريك إن صدر النهار قد ولى ولم يرجع وشريك يقول ليس للملك علي سبيل حتى يأتي المساء فلما قرب المساء قال النعمان لشريك قد جاء وقتك قم فتأهب للقتل فقال شريك هذا شخص قد لاح مقبلا وأرجو أن يكون الطائي فان لم يكن فأمر الملك ممثل قال فبينما هم كذلك وإذ بالطائي قد اشتد عدوه في سيره مسرعا حتى وصل فقال خشيت أن ينقضي النهار قبل وصولي ثم وقف قائما وقال أيها الملك مر بأمرك فأطرق النعمان ثم رفع رأسه وقال والله ما رأيت أعجب منكما أما أنت يا طائي فما تركت لأحد في الوفاء مقاما يقوم فيه ولا ذكرا يفتخر به وأما أنت يا شريك فما تركت لكريم سماحة يذكر بها في الكرماء فلا أكون أنا ألأم الثلاثة ألا وإني قد رفعت يوم بؤسي عن الناس ونقضت عادتي كرامة لوفاء الطائي وكرم شريك فقال الطائي
( ولقد دعتني للخلاف عشيرتي ... فعددت قولهمو من الاضلال )
( إني امرؤ مني الوفاء سجية ... وفعال كل مهذب مفضال ) فقال له النعمان ما حملك على الوفاء وفيه اتلاف نفسك فقال ديني فمن لا وفاء فيه لا دين له فأحسن إليه النعمان ووصله بما أغناه وأعاده مكرما إلى أهله وأناله ما تمناه
ومن ذلك ماحكى أن الخليفة المأمون لما ولي عبد الله بن طاهر بن الحسين مصر والشام وأطلق حكمه دخل على المأمون بعض إخوانه يوما فقال يا أمير المؤمنين أن عبد الله بن طاهر يميل إلى ولد أبي طالب وهواه مع العلويين وكذلك كان ابوه قبله فحصل عند المأمون شيء من كلام أخيه من جهة عبد الله بن طاهر فتشوش فكره وضاق صدره فاستحضر شخصا وجعله في زي الزهاد والنساك الغزاة ودسه إلى عبد الله بن طاهر وقال له أمض إلى مصر وخالط أهلها وداخل كبراءها واستملهم إلى

القاسم بن محمد العلوي واذكر مناقبه ثم بعد ذلك اجتمع ببعض بطانة عبد الله بن طاهر ثم اجتمع بعبد الله بن طاهر بعد ذلك وادعه إلى القاسم بن محمد العلوي واكشف باطنه وابحث عن دفين نيته وائتني بما تسمع ففعل ذلك الرجل ما أمره به المأمون وتوجه إلى مصر ودعا جماعة من أهلها ثم كتب ورقة لطيفة ودفعها إلى عبد الله بن طاهر وقت ركوبه فلما نزل من الركوب وجلس في مجلسه خرج الحاجب إليه وأدخله على عبد الله ابن طاهر وهو جالس وحده فقال له لقد فهمت ما قصدت فهات ما عندك فقال ولي الأمان قال نعم فأظهر له ما أراده ودعاه إلى القاسم بن محمد فقال له عبد الله أو تنصفني فيما أقوله لك قال نعم قال فهل يجب شكر الناس بعضهم لبعض عند الاحسان والمنة قال نعم قال فيجب على وأنا في هذه الحالة التي تراها من الحكم والنعمة والولاية ولي خاتم في المشرق وخاتم في المغرب وأمري فيما بينهما مطاع وقولي مقبول ثم أني التفت يمينا وشمالا فأرى نعمة هذا الرجل غامرة وإحسانه فائضا علي أفتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة وتقول أغدر وجانب الوفاء والله لو دعوتني إلى الجنة عيانا لما غدرت ولما نكثت بيعته وتركت الوفاء له فسكت الرجل فقال له عبد الله والله ما أخاف إلا على نفسك فارحل من هذا البلد فلما يئس الرجل منه وكشف باطنه وسمع كلامه رجع إلى المأمون فأخبره بصورة الحال فسره ذلك وزاد في إحسانه إليه وضاعف إنعامه عليه
ومما يعد من محاسن الشيم ومكارم أخلاق أهل الكرم ويحث على الوفاء بالعهود ورعاية الذمم ما رواه حمزة بن الحسين الفقيه في تاريخه قال قال لي أبو الفتح المنطيقي كنا جلوسا عند كافور الأخشيدي وهو يومئذ صاحب مصر والشام وله من البسطة والمكنة ونفوذ الأمر وعلو القدر وشهرة الذكر ما يتجاوز الوصف والحصر فحضرت المائدة والطعام فلما أكلنا نام وانصرفنا ولما انتبه من نومه طلب جماعة منا وقال أمضوا الساعة إلى عقبة النجارين وسلوا عن الشيخ منجم

أعور كان يقعد هناك فإن كان حيا فاحضروه وإن كان قد توفي فسلوا عن أولاده واكشفوا أمرهم قال فمضينا إلى هناك وسألنا عنه فوجدناه قد مات وترك بنتين إحداهما متزوجة والأخرى عاتق فرجعنا إلى كافور واخبرناه بذلك فسير في الحال واشترى لكل واحدة منهما دارا وأعطاهما مالا جزيلا وكسوة فاخرة وزوج العاتق وأجرى على كل واحدة منهما رزقا واظهر أنهما من المتعلفين به لرعاية أمورهما فلما فعل ذلك وبالغ فيه ضحك وقال أتعلمون سبب هذا قلنا لا فقال اعلموا أني مررت يوما بوالدهما المنجم وأنا في ملك ابن عباس الكاتب وأنا بحالة رثه فوقفت عليه فنظر إلي واستجلبني وقال أنت تصير إلى رجل جليل القدر وتبلغ منه مبلغا كبيرا وتنال خيرا ثم طلب مني شيئا فأعطيته درهمين كانا معي ولم يكن معي غيرهما فرمى بهما إلي وقال ابشرك بهذه البشارة وتعطيني درهمين ثم قال وأزيدك أنت والله تملك هذا البلد وأكثر منه فاذكرني إذا صرت إلى الذي وعدتك به ولا تنس فقلت له نعم فقال عاهدني أنك تفي لي ولا يشغلك ذلك عن افتقادي معاهدته ولم يأخذ مني الدرهمين ثم إني شغلت عنه بما تجدد لي من الامور والاحوال وصرت إلى هذه المنزلة ونسيت ذلك فلما أكلنا اليوم ونمت رأيته في المنام قد دخل علي وقال لي أين الوفاء بالعهد الذي بيني وبينك وإتمام وعدك لا تغدر فيغدر بك فاستيقظت وفعلت ما رأيتم ثم زاد في إحسانه إلى بنات المنجم وفاء لوالدها بما وعده والله أعلم
ومما أسفرت عنه وجوه الاوراق واخبرت به الثقات في الآفاق وظهرت روايته بالشام والعراق وضرب به الأمثال في الوفاء بالاتفاق حديث السموأل بن عاديا وتلخيص معناه أن أمرأ القيس الكندي لما أراد المضي إلى قيصر ملك الروم أودع عند السموأل دروعا وسلاحا وأمتعه تساوي من المال جملة كثيرة فلما مات امرؤ القيس أرسل ملك كندة يطلب الدروع والاسلحة المودعة عند السموأل فقال السموأل

لا أدفعها إلا لمستحقها وأبي أن يدفع إليه منها شيئا فعاوده فأبى وقال لاأغدر بذمتي ولا أخون أمانتي ولا أترك الوفاء والواجب علي فقصده ذلك الملك من كنده بعسكره فدخل السموأل في حصنه وامتنع به فحاصره ذلك الملك وكان ولد السموأل خارج الحصن فظفر به ذلك الملك فأخذه أسيرا ثم طاف حول الحصن وصاح بالسموأل فأشرف عليه من أعلى الحصن فلما رآه قال له إن ولدك قد اسرته وها هو معي فإن سلمت إلي الدروع والسلاح التي لامريء القيس عندك رحلت عنك وسلمت اليك ولدك وإن امتنعت من ذلك ذبحت ولدك وأنت تنظر فاختر ايهما شئت فقال له السموأل ما كنت لأخفر ذمامي وأبطل وفائي فاصنع ما شئت فذبح ولده وهو ينظر ثم لما عجز عن الحصن رجع خائبا واحتسب السموأل ذبح ولده وصبر محافظة على وفائه فلما جاء الموسم وحضر ورثة امريء القيس سلم اليهم الدروع والسلاح ورأى حفظ ذمامه ورعاية وفائه أحب اليه من حياة ولده وبقائه فسارت الأمثال في الوفاء تضرب بالسموأل وإذا مدحوا أهل الوفاء في الأنام ذكروا السموأل في الأول وكم أعلى الوفاء رتبة من اعتقله بيديه وأغلى قيمة من جعله نصب عينيه واستنطق الأفواه لفاعله بالثناء عليه واستنطق الايدي المقبوضة عنه بالإحسان إليه
ومما وضع في بطون الدفاتر واستحسنته عيون البصائر ونقلته الأصاغر عن الاكابر وتداولته الألسنة من الاوائل والاواخر ما رواه خادم أمير المؤمنين المأمون قال طلبني أمير المؤمنين ليلة وقد مضى من الليل ثلثه فقال لي خذ معك فلانا وفلانا وسماهما أحدهما علي بن محمد والآخر دينار الخادم واذهب مسرعا لما أقوله لك فإنه قد بلغني أن شيخا يحضر ليلا إلى دور البرامكة وينشد شعرا ويذكرهم ذكرا كثيرا ويندبهم ويبكي عليهم ثم ينصرف فامض الآن أنت وعلي ودينار حتى تروا هذه الخرابات فاستتروا خلف بعض الجدران فإذا رأيتم الشيخ قد جاء وبكى وندب وانشد شيئا فائتوني به قال فاخذتهما ومضينا حتى أتينا الخرابات وإذا نحن بغلام قد أتى ومعه بساط وكرسي حديد وإذا شيخ وسيم له جمال وعليه مهابة ووقار قد أقبل فجلس

على الكرسي وجعل يبكي وينتحب ويقول
( ولما رأيت السيف جندل جعفرا ... ونادى مناد للخليفة في يحيى )
( بكيت على الدنيا وزاد تأسفي ... عليهم وقلت الآن لا تنفع الدنيا )
معأبيات أطالها ورددها فلما فرغ قبضنا عليه وقلنا له أجب أمير المؤمنين ففزع فزعا شديدا وقال دعوني حتى أوصي وصية فإني لا أوقن بعدها بحياة ثم تقدم إلى بعض الدكاكين فاستفتح وأخذ ورقه وكتب فيها وصية ودفعها الى غلامه ثم سرنا به فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين زجره وقال له من أنت وبماذا استوجبت البرامكة منك ما تفعله في خرائب دورهم وما تقوله فيها قال الخادم ونحن وقوف نسمع فقال يا أمير المؤمنين إن للبرامكة عندي أيادي خطيرة أفتأذن لي أن احدثك حديثي معهم قال قل قال ياأمير المؤمنين أنا المنذر بن المغيرة من أولاد الملوك وقد زالت عني نعمتي كما تزول عن الرجال فلما ركبني الدين واحتجت إلى بيع مسقط رأسي ورءوس أهلي أشاروا علي بالخروج إلى البرامكة فخرجت من دمشق ومعي نيف وثلاثون امرأة وصبيا وصبية وليس معنا ما يباع ولا ما يوهب حتى دخلنا بغداد ونزلنا في بعض المساجد فدعوت بثويبات لي كنت قد أعددتها لا ستمنح بها الناس فلبستها وخرجت وتركتهم جياعا لا شيء عندهم ودخلت شوارع بغداد أسأل عن دور البرامكة فإذا أنا بمسجد مزخرف وفيه مائة شيخ بأحسن زي وزينة وعلى الباب خادمان فطمعت في القوم وولجت المسجد وجلست بين أيديهم وأنا أقدم وأؤخر والعرق يسيل مني لأنها لم تكن صناعتي وإذا بخادم قد أقبل فدعا القوم فقاموا وأنا معهم فدخلوا دار يحيى بن خالد ودخلت معهم وإذا بيحيى جالس على دكة له في وسط بستان فسلمنا وهو يعدنا مائة وواحد وبين يديه عشرة من ولده وإذا غلام أمرد عذاراه خداه قد أقبل من بعض المقاصير بين يديه مائة خادم منمطقون في وسط كل خادم منطقة من ذهب يقرب وزنها من الف مثقال ومع

كل خادم مجمرة من ذهب في كل مجمرة قطعة من عود كهيئة الفهر قد قرن بها مثلها من العنبر السلطاني فوضعوه بين يدي الغلام إلى جنب يحيى ثم قال يحيى للقاضي تكلم وزوج بنتي عائشة من ابن عمي هذا فخطب القاضي وزوجه وشهد أولئك الجماعة وأقبلوا علينا بالنثار ببنادق المسك والعنبر فالتقطت والله ياأمير المؤمنين ملء كمي ونظرت فإذا نحن في المكان ما بين يحيى والمشايخ وولده والغلام مائة واثنا عشر رجلا فخرج الينا مائة واثنا عشر خادما مع كل خادم صينية من فضة عليها الف دينار فوضعوا بين يدي كل رجل منا صينية فرأيت القاضي والمشايخ يصبون الدنانير في اكمامهم ويجعلون الصواني تحت آباطهم ويقوم الاول فالاول حتى بقيت وحدي بين يدي يحيى لا أجسر على اخذ الصينية فغمزني الخادم فجسرت وأخذتها وجعلت الذهب في كمي وأخذت الصينية في يدي وقمت وجعلت التفت إلى ورائي مخافة أن امنع من الذهاب بها فبينما أنا كذلك في صحن الدار ويحيى يلحظني إذا قال ائتني للخادم بذلك الرجل فرددت إليه فأمر بصب الدنانير والصينية وما كان في كمي ثم أمرني بالجلوس فجلست فقال لي ممن الرجل فقصصت عليه قضيتى فقال للخادم ائتني بولدي موسى فاتي به فقال له يا بني هذا رجل غريب فخذه إليك واحفظه بنفسك وبنعمتك فقبض موسى علي يدي وأدخلني إلى دار من دوره فأكرمني غاية الإكرام وأقمت عنده يومي وليلتي في الذ عيش وأتم سرور فلما أصبح دعا بأخيه العباس وقال إن الوزير قد أمرني بالعطف على هذا الرجل وقد علمت اشتغالي في دار امير المؤمنين فاقبضه إليك وأكرمه ففعل ذلك وأكرمني غاية الإكرام فلما كان من الغد تسلمني أخوه أحمد ثم لم أزل في ايدي القوم يتداولوني عشرة أيام لا اعرف خبر عيالي وصبياني افي الأموات هم أم في الأحياء فلما كان اليوم الحادي عشر جاءني خادم ومعه جماعة من الخدم فقالوا لي قم فاخرج إلى عيالك بسلام فقلت واويلاه سلبت الدنانير

والصينية وأخرج إلى عيالي في هذه الحالة إنا لله وإنا إليه راجعون فرفع الستر الاول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع فلما رفع الخادم الستر الاخير قال لي مهما كان لك من الحوائج فارفعها إلي فإني مأمور بقضاء جميع ما تأمرني به فلما رفع الستر رأيت حجرة كالشمس حسنا ونورا واستقبلني منها رائحة الند والعود ونفحات المسك وإذا بصبياني وعيالي يتقلبون في الحرير والديباج وحمل إلي الف الف درهم وعشرة آلاف دينار ومنشورين بضيعتين وتلك الصينية التي كنت أخذتها بما فيها من الدنانير والبنادق واقمت يا امير المؤمنين مع البرامكة في دورهم ثلاث عشرة سنة لا يعلم الناس أمن البرامكة أنا أم رجل غريب اصطنعوني فلما جاءتهم البلية ونزل بهم من امير المؤمنين الرشيد ما نزل اجحفني عمرو ابن مسعدة وألزمني في هاتين الضيعتين من الخراج ما لا يفي دخلهما به فلما تحامل علي الدهر كنت في أواخر الليل اقصد خرابات القوم فأندبهم وأذكر حسن صنيعهم إلي وأشكرهم على إحسانهم فقال المأمون علي بعمرو بن مسعدة فلما أتي به قال ياعمرو أتعرف هذا الرجل قال نعم يا امير المؤمنين هو بعض صنائع البرامكة قال كم الزمته في ضيعته قال كذا وكذا قال رد له كل ما استأديته منه في مدته ووقع له بهما ليكونا له ولعقبة من بعده قال فعلا نحيب الرجل وبكاؤه فلما رأى المأمون كثرة بكائه قال يا هذا قد احسنا إليك فلم تبكي قال يا امير المؤمنين وهذا ايضا من صنائع البرامكة إذ لو لم آت خراباتهم فأبكيهم واندبهم حتى اتصل خبري بأمير المؤمنين ففعل ما فعل فمن اين كنت أصل إلى أمير المؤمنين قال إبراهيم بن ميمون فلقد رأيت المأمون قد دمعت عيناه وظهر عليه حزنه وقال لعمري هذا من صنائع البرامكة فعليهم فابك وإياهم فاشكر ولهم فأوف ولإحسانهم فاذكر وقيل إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ودوام عهده فانظر إلى حنينه إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه وكثرة بكائه على ما مضى من زمانه قال الشاعر
( سقى الله أطلال الوفاء بكفه ... فقد درست أعلامه ومنازله )

وقال آخر
( أشدد يديك بمن بلوت وفاءه ... إن الوفاء من الرجال عزيز
وقال مالك بن عمارة اللخمي كنت جالسا في ظل الكعبة أيام الموسم عند عبد الملك بن مروان وقبيصة بن ذؤيب وعروة بن الزبير وكنا نخوض في الفقه مرة وفي المذاكرة مرة وفي أشعار العرب وأمثال الناس مرة فكنت لا أجد عند أحد ما أجده عند عبدالملك بن مروان من الإتساع في المعرفة والتصرف في فنون العلم وحسن استماعه إذا حدث وحلاوة لفظه إذا حدث فخلوت معه ليلة فقلت له والله إني لمسرور بك لما شاهدته من كثرة تصرفك وحسن حديثك وإقبالك على جليسك فقال إن تعش قليلا فسترى العيون طامحة إلي والأعناق نحوي متطاولة فإذا صار الأمر إلي فلعلك أن تنقل إلي ركابك فلأملأن يديك فلما أفضت إليه الخلافة توجهت إليه فوافيته يوم الجمعة وهو يخطب على المنبر فلما رآني أعرض عني فقلت لعله لم يعرفني أو عرفني وأظهر لي نكره فلما قضيت الصلاة ودخل بيته لمألبث أن خرج الحاجب فقال أين مالك بن عمارة فقمت فأخذ بيدي وأدخلني عليه فمد إلي يده وقال إنك تراءيت لي في موضع لا يجوز فيه إلا ما رأيت فأما الآن فمرحبا وأهلا كيف كنت بعدي فأخبرته فقال أتذكر ما كنت قلت لك قلت نعم فقال والله ما هو بميراث وعيناه ولاأثر رويناه ولكني أخبرك بخصال مني سميت بها نفسي إلى الموضع الذي ترى ما خنت ذا ود قط ولا شمت بمصيبة عدو قط ولا أعرضت عن محدث حتى ينتهي حديثه ولا قصدت كبيرة من محارم الله تعالى متلذذا بها فكنت أؤمل بهذه أن يرفع الله تعالى منزلتي وقد فعل
ثم دعا بغلام فقال له يا غلام بوئه منزلا في الدار فأخذ الغلام بيدي وأفرد لي منزلا حسنا فكنت في ألذ حال وأنعم بال

وكان يسمع كلامي وأسمع كلامه ثم أدخل عليه في وقت عشائه وغدائه فيرفع منزلتي ويقبل علي ويحادثني ويسألني مرة عن العراق ومرة عن الحجاز حتى مضت لي عشرون ليلة فتغديت يوما عنده فلما تفرق الناس نهضت قائما فقال على رسلك فقعدت فقال اي الامرين أحب إليك المقام عندنا مع النصفة لك في المعاشرة أو الرجوع إلى اهلك ولك الكرامة فقلت يا أمير المؤمنين فارقت أهلي وولدي علي أني أزور أمير المؤمنين وأعود إليهم فإن أمرني أمير المؤمنين اخترت رؤيته على الأهل والولد فقال لا بل أرى لك الرجوع إليهم والخيار لك بعد في زيارتنا وقد أمرنا لك بعشرين الف دينار وكسوناك وحملناك أتراني قد ملأت يديك فلا خير فيمن ينسى إذا وعد وعدا وزرنا إذا شئت صحبتك السلامة
ومن ذلك ما روي عن ابي بكار الأعمى وكان قد انقطع إلى آل برمك قال مسرور الكبير لما أمرني الرشيد بقتل جعفر بن يحيى دخلت عليه فوجدت عنده أبا بكر الاعمى يغنيه ويقول
( فلا تحزن فكل فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي )
فقلت في هذا والله قد أتيتك ثم أمسكت بيد جعفر واقمته وضربت عنقه فقال ابو بكار ناشدتك الله إلا ما ألحقتني به فقلت له ما الذي حملك على هذا فقال أغناني عن الناس فقلت حتى استأمر الرشيد ثم أحضرت الرأس إلى الرشيد وأخبرته بخبر أبي بكار فقال هذا رجل فيه مصطنع أضمه إليك وانظر ما كان يجري عليه جعفر فادفعه إليه وكان يحيى بن خالد إذا أكد في يمينه قال لا والذي جعل الوفاء اعز ما يرى قال ابو فراس بن حمدان الشاعر
( بمن يتقي الإنسان فيما ينوبه ... ومن اين للحر الكريم صحاب )
( وقد صار هذا الناس إلا أقلهم ... ذئابا على أجسادهن ثياب )

وسأل المنصور بعض بطانة هشام عن تدبيره في الحروب فقال كان رحمه الله تعالى يفعل كذا وكذا فقال المنصور عليك لعنة الله تطأ بساطي وتترحم على عدوي فقال إن نعمة عدوك لقلادة في عنقي لا ينزعها إلا غاسلي فقال له المنصور إرجع يا شيخ فإني أشهد أنك لو في حافظ للخير ثم أمر له بمال مأخذه ثم قال والله لولا جلالة أمير المؤمنين وإمضاء طاعته ما لبست لأحد بعد هشام نعمة فقال له المنصور لله درك فلو لم يكن في قومك غيرك لكنت قد ابقيت لهم مجدا مخلدا وخرج سليمان بن عبد الملك ومعه يزيد بن المهلب في بعض جبابين الشام فإذا امرأة جالسة على قبر تبكي قال سليمان فرفعت البرقع عن وجهها فحكت شمسا عن متون غمامة فوقفنا متحيرين ننظر إليها فقال لها يزيد بن المهلب يا أمة الله هل لك في أمير المؤمنين بعلا فنظرت إلينا ثم أنشأت تقول
( فإن تسألاني عن هواي فإنه ... يحول بهذا القبر يا فتيان )
( وإني لأستحييه والترب بيننا ... كما كنت أستحييه وهو يراني )
ومن ذلك ما روي عن نائلة بنت القرافصة بن الأحوص الكلبي زوج عثمان رضي الله عنهما أن عثمان لما قتل اصابتها ضربة على يدها وخطبها معاوية فردته وقالت ما يعجب الرجل مني قالوا ثناياك فكسرت ثناياها وبعثت بها إلى معاوية فكان ذلك مما رغب قريشا في نكاح نساء بني كلب ولما احس مصعب بن الزبير بالقتل دفع إلى مولاه فص ياقوت قيمته ألف ألف وقال له إنج بهذا فأخذه زياد زياد ودقه بين حجرين وقال والله لا ينتفع به أحد بعدك ولما قدم هدبة بن الحشرم للقتل بحضرة مروان بن الحكم قالت زوجته إن لهدبة عندي وديعة فامهله حتى آتيك بها فقال اسرعي فإن الناس قد كثروا وكان مروان قد جلس لهم بارزا عن داره فمضت إلى السوق وأتت إلى قصاب فقالت أعطني شفرتك وخذ هذين الدرهمين وأنا أردها عليك فأخذتها وقربت من حائط وأرسلت

ملحفها على وجهها ثم جدعت أنفها من اصله وقطعت شفتيها وردت الشفرة إلى القصاب ثم أقبلت حتى دخلت بين الناس فقالت أتراني يا هدبة متزوجة بعد ما ترى فقال الآن طابت نفسي بالموت فجزاك الله من حليلة وفيه خيرا
ولنجعل لهذا الباب من القضايا ختاما هو أوجزها كلاما وأحسنها نظاما وأبينها حكما وإحكاما وهي قضية جمعت الأمرين وفاء وغدرا وعرفا ونكرا وخيرا وشرا ونفعا وضرا واشتملت على حال شخصين أحدهما وفي بعده ففاز ونجا وحاز من مقترحات مناه ماأمل ورجا وغدر الآخر فلم يجد له من جزاء غدره إلى النجاة فرجا ولم يلق له من ضيق الغدر مخرجا وهو ما ذكره عبد الله بن عبد الكريم وكان مطلعا على احوال أحمد بن طولون عارفا بأموره عالما بوروده وصدوره فقال ما معناه إن أحمد بن طولون وجد عند سقايته طفلا مطروحا فالتقطه ورباه وسماه أحمد وشهره باليتيم فلما كبر ونشأ كان اكثر الناس ذكاء وفطنة وأحسنهم زيا وصورة فصار يرعاه ويعلمه حتى تهذب وتمرن فلما حضرت أحمد بن طولون الوفاة أوصى ولده أبا الجيش خمارويه به فأخذه إليه فلما مات أحمد بن طولون أحضره الأمير أبو الجيش إليه وقال له أنت عندي بمكانة أرعاك بها ولكن عادتي إني آخذ العهد على كل من أصرفه في شيء إنه لا يخونني فعاهده ثم حكمه في أمواله وقدمه في أشغاله فصار أحمد اليتيم مستحوذا على المقام حاكما على جميع الحاشية الخاص والعام والأمير أبو الجيش بن طولون يحسن إليه فلما رأى خدمته متصفة بالنصح ومساعيه متسمة بالنجح ركن إليه واعتمد في أمور بيوته عليه فقال له يوما ياأحمد امض إلى الحجرة الفلانية ففي المجلس حيث أجلس سبحه جوهر فائتني بها فمضى أحمد فلما دخل الحجرة وجد جارية من مغنيات الأمير وحظاياه مع شباب من الفراشين ممن هو من الأمير بمحل قريب فلما رأياه خرج الفتى وجاءت الجارية إلى احمد وعرضت نفسها عليه ودعته إلى قضاء وطره فقال لها معاذ الله أن أخون الأمير وقد أحسن إلي وأخذ العهد علي ثم تركها وأخذ السبحة وانصرف إلي

الامير وسلمها إليه وبقيت الجارية شديدة الخوف من أحمد بعدما أخذ السبحة وخرج من الحجرة لئلا يذكرها للأمير فأقمت أياما لم تجد من الامير ما غيره عليها ثم اتفق أن الامير اشترى جارية وقدمها على حظاياه وغمرها بعطاياه واشتغل بها عمن سواها وأعرض لشغفه بها عن كل من عنده حتى كاد لا يذكر جارية غيرها ولا يراها وكان أولا مشغولا بتلك الجارية الخاسرة الخائنة الخائبه الغادرة العائبة العاهرة الفاسقة الفاجرة فلما أعرض عنها اشتغالا بالجارية الجديدةالممجدة السعيدة الحامدة المحمودة الوصيفة الموصوفة الأليفة المألوفة العارفة المعروفة وصرف لبهجة محاسنها وكثرة آدابها وجهه من ملاعبة أترابها وشغلته بعذوبة رضابها عن ارتشاف رضاب أضرابها وكانت تلك الجارية الأولى لحسنها متأمرة على تأميره لا تخاف من وليه ولا نصيره فكبر عليها أعراضه عنها ونسبت ذلك إلى احمد اليتيم لاطلاعه على ما كان منها فدخلت على الأمير وقد ارتدت من الكآبة بجلباب نكرها وأعلنت بالبكاء بين يديه لاتمام كيدها ومكرها وقالت إن احمد اليتيم راودني عن نفسي فلما سمع الأمير ذلك استشاط غيظا وغضبا وهم في الحال بقتله ثم عاوده حاكم عقله فتأنى في فعله واستحضر خادما يعتمد عليه وقال له إذا ارسلت إليك إنسانا ومعه طبق من ذهب وقلت لك على لسانه املأ هذا الطبق مسكا فاقتل ذلك الإنسان واجعل رأسه في الطبق وأحضره مغطى ثم إن الامير أبا الجيش جلس لشربه وأحضر عنده ندماءه الخواص وأدناهم لمجلس قربه وأحمد اليتيم واقف بين يديه آمن في سربه لم يخطر بخاطره شيء ولا هجس هاجس في قلبه فلما مثل بين يدي الامير وأخذ منه الشراب شرع في التدبير فقال يا احمد خذ هذا الطبق وامض به إلى فلان الخادم وقل له يقول لك أمير المؤمنين املأ هذا الطبق مسكا فأخذه أحمد اليتيم ومضى فاجتاز في طريقه بالمغنين وبقية الندماء والخواص فقاموا إليه وسألوه الجلوس معهم فقال أنا ماض في حاجة للأمير أمرني بإحضارها في هذا الطبق فقالوا له أرسل من ينوب عنك في إحضارها وخذها أنت وأدخل بها على الامير فأدار عينيه فرأى الفتى الفراش

الذي كان مع الجارية فأعطاه الطبق وقال له أمض إلى فلان الخادم وقل له يقول لك الأمير املأ هذا الطبق مسكا فمضى ذلك الفراش إلى الخادم فذكر له ذلك فقتله وقطع رأسه وغطاه وجعله في الطبق وأقبل به فناوله لأحمد اليتيم فأخذه وليس عنده علم من باطن الامر فلما دخل به على الامير كشفه وتأمله وقال ما هذا فقص عليه خبره وقعوده مع المغنين وبقية الندماء وسؤالهم له الجلوس معهم وما كان من انفاد الطبق وإرساله مع الفراش وأنه لا علم عنده غير ما ذكره قال أتعرف لهذا الفراش خبر يستوجب به ما جرى عليه فقال أيها الامير إن الذي تم عليه بما ارتكبه من الخيانة وقد كنت رأيت الإعراض عن إعلام الامير بذلك وأخذ أحمد يحدثه بما شاهده وما جرى له من حديث الجارية من أوله إلى آخره لما انفذه لإحضار السبحة الجوهر فدعا الامير أبو الجيش بتلك الجارية واستقررها فأقرت بصحة ما ذكره أحمد فأعطاه إياها وأمره بقتلها ففعل وازدادت مكانة أحمد عنده وعلت منزلة لديه وضاعف إحسانه إليه وجعل أزمة جميع ما يتعلق به بيديه فانظر رحمك الله إلى آثار الوفاء كيف تحمى من المعاطب وتنجي من قبضة التلف بعد إمضاء القواضب ويفضى بصاحبه إلى ارتفاء غوارب المراتب فهذا الغلام لما وفى لمولاه بعهده وهو بشر مثله وليس في الحقيقة بعبده واطلع الله عز و جل على صدق نيته وقصده دفع عنه هذه القتلة الشنيعة بلطف من عنده فإذا كان العبد مع خالقه ورازقه وافيا في طاعته بعقده كيف لا يفيض عليه من ألطاف مواهب بره ورفده ويفتح له من أنواع رحمته وأقسام نعمته ما لا ممسك له من بعده وقالوا ليس شيء أوفى من القمرية إذا مات ذكرها لم تقرب آخر بعده ولا تزال تنوح عليه إلى أن تموت والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين

الباب الثامن والثلاثون في كتمان السر وتحصينه وذم افشائه
قال الله تعالى حكاية عن يعقوب صلوات الله وسلامه عليه ( يا بني لاتقصص رؤياك على أخوتك ) الآية فلما أفشى يوسف عليه السلام رؤياه بمشهد امرأة يعقوب أخبرت إخوته فحل به ما حل ومن شواهد الكتاب العزيز في السر قوله تعالى ( فأوحى إلى عبده ما أوحى وقوله تعالى ( وما هو علىالغيب بضنين ) أي بمتهم وفي الحديث استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود وقال علي رضي الله عنه وكرم وجهه سرك أسيرك فإذا تكلمت به صرت أسيره واعلم أن امناء الأسرار أقل وجودا من أمناء الاموال وحفظ الاموال أيسر من كتمان الاسرار لأن لسان ناطق ويشيعها كلام سابق وحمل الاسرار أثقل من حمل الأموال فإن الرجل يستقل بالجمل الثقيل فيحمله ويمشي به ولا يستطيع كتم السر وإن الرجل يكون سره في قلبه فيلحقه من القلق والكرب ما لا يلحقه من حمل الاثقال فإذا أذاعه استراح قلبه وسكن خاطره وكأنما ألقى عن نفسه حملا ثقيلا وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه القلوب أوعية والشفاء أقفالها والالسن مفاتيحها فليحفظ كل إنسان مفتاح سره ومن عجائب الأمور أن الأموال كلما كثرت خزائنها كان اوثق لها وأما الأسرار فإنها كلما كثرت خزائنها كان أضيع لها وكم

من إظهار سر أراق دم صاحبه ومنعه من بلوغ مآربه ولو كتمه أمن سطواته وقال أنو شروان من حصن سره فله بتحصينه خصلتان الظفر بحاجته والسلامة من السطوات وقيل كلما كثرت خزان الأسرار زادت ضياعا وقيل انفرد بسرك لا تودعه حازما فيزل ولاجاهلا فيخون وقال كعب بن سعد الغنوي
( ولست بمبد للرجال سريرتي ... ولا أنا عن أسرارهم بسئول
وقال أبو مسلم صاحب الدولة
( أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه ملوك بني مروان إذ جهدوا )
( ما زلت أسعى عليم في ديارهم ... والقوم في غفلة بالشام قد رقدوا )
( حتى ضربتهم بالسيف فانتبهوا ... من نومه لم ينمها قبلهم أحد )
( ومن رعا غنما في أرض مسبعة ... ونام عنها تولى رعيها الاسد )
وأسر رجل إلى صديقه حديثا ثم قال له أفهمت قال بل جهلت ثم قال له أحفظت قال بل نسيت وقيل لبعضهم كيف كتمانك للسر قالأجحد المخبر وأحلف للمستخبر وقال المهلب أدنى أخلاق الشريف كتمان السر وأعلى أخلاقه نسيان ماأسر إليه ومن أحسن ما قيل في كتمان السر قول الشاعر
( ولها سرائر في الضمير طويتها ... نسي الضمير بأنها في طية )
وقد أجازه الشيخ شمس الدين البدوي فقال
( إني كتمت حديث ليلى لم أبح ... يوما بظاهره ولا بخفيه )
( وحفظت عهد ودادها متمسكا ... في حبها برشاده أو غيه )

ولها سرائر في الضمير طويتها ... نسي الضمير بأنها في طيه )
وقيل كتمان الأسرار يدل على جواهر الرجال وكما أنه لا خير في آنية لا تمسك ما فيها فكذلك لا خير في إنسان لا يمسك سره قال الشاعر
( ومستودعي سرا كتمت مكانه ... عن الحس خوفا أن ينم به الحس )
( وخففت عنه من هوى النفس شهوة ... فأودعته من حيث لا يبلغ الحس
وقال قيس بن الحطيم
( أجود بمكنون التلاد وإنني ... بسري عمن يسألني لضنين
( وإن ضيع الاقوام سري فإنني ... كتوم لأسرار العشير أمين )
وقال جعفر بن عثمان
( يا ذا الذي أودعني سره ... لا ترج أن تسمعه مني )
( لم أجره قط علي فكرتي ... كأنه لم يجر في أذني
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول ما أفشيت سري أحد قط فأفشاه فلمته إذ كان صدري به أضيق وقال الأحنف بن قيس يضيق صدر الرجل بسره فإذا حدث به احدا قال اكتمه علي
قال الشاعر
( إذا المرء أفشى سره بلسانه ... ولام به غيره فهو أحمق )
( إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السر أضيق )
وقال آخر
( إذا ما ضاق صدرك عن حديث ... وأفشته الرجال فمن تلوم )
( وإن عاتبت من أفشى حديثي ... وسري عنده فأنا الملوم

وقال صالح بن عبد القدوس لا تودع سرك إلى طالبه فالطالب للسر مذيع ولا تودع مالك عند من يستدعيه فالطالب للوديعة خائن وقيل لأعرابي ما بلغ من حفظك للسر قال أفرقه تحت شغاف قلبي ثم أجمعه وأنساه كأني لم أسمعه وكان احزم الناس من لا يفشي سره إلى صديقه مخافة أن يقع بينهما شر فيفشيه عليه وقال حكيم قلوب الأحرار قبور الأسرار وقيل الطمأنينة إلى كل أحد قبل الاختبار حمق وقال بعضهم
( إذا ما غفرت الذنب يوما لصاحب ... فلست معيدا ما حييت له ذكرا )
( ولست إذا ما صاحب خان عهده ... وعندي له سر مذيعا له سرا
وأين هذا من قول القائل
( ولا تودع الاسرار أذني فإنما ... تصبن ماء في إناء مثلم ) أوالقائل
( ولا أكتم الاسرار لكن اذيعها ... ولا أدع الاسرار تعلو على قلبي )
( وإن قليل العقل من بات ليلة ... تقلبه الأسرار جنبا إلى جنب )
وقال آخر
( وإنك كلما استودعت سرا ... أنم من النسيم على الرياض )
وقال اسحاق بن إبراهيم الموصلي
( أناس أمناهم فنموا حديثنا ... فلما كتمنا السر عنهم تقولوا )
ولله در المتنبي حيث قال
( وللسر مني موضع لا يناله ... نديم ولا يفضي إليه شراب )
وقد اقتصرنا من ذلك على هذا القدر اليسير وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد وعلى وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين

الباب التاسع والثلاثون في الغدر والخيانة والسرقة والعداوة والبغضاء والحسد وفيه فصول
الفصل الأول
في الغدر والخيانة
قال رسول الله أعجل الاشياء عقوبة البغي وعنأبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله المكر والخديعة والخيانة في النار وقال ابو بكر الصديق رضي الله عنه ثلاث من كن فيه كن عليه البغي والنكث والمكر قال الله تعالى ( إنما بغيكم على أنفسكم ) وقال تعالى ( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ) وقال تعالى ( ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ) وكم أوقع القدر في المهالك من غادر وضاقت عليه من موارد الهلكات فسيحات المصادر وطوقه غدره وطوق خزي فهو على فكه غير قادر وأوقعه في خطة خسف وورطة حتف فما له من قوة ولاناصر ويشهد لصحة هذه الاسباب ما أحاطت به علوم ذوي الالباب من قصة ثعلبة بن حاطب الانصاري وتلخيص معناها أن ثعلبة هذا كان من أنصار النبي

فجاءه يوما وقال يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فقال له رسول الله ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ثم أتاه بعد ذلك مرة أخرى فقال يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فقال رسول الله يا ثعلبة أما لك في رسول الله أسوة حسنة والذي نفسي بيده لو أردت ان تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت ثم أتاه بعد ذلك مرة ثالثة فقال يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا والذي بعثك بالحق نبيا لئن رزقني الله مالا لاعطين كل ذي حق حقه وعاهد الله تعالى على ذلك فقال رسول الله اللهم ارزق ثعلبة ما قال فاتخذ ثعلبة غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها وهي تنمو كما ينمو الدود وكان ثعلبة لكثرة ملازمته للمسجد يقال له حمامة المسجد فلما كثرت الغنم وتنحى صار يصلي مع رسول الله والعصر ويصلي بقية الصلوات في غنمه فكثرت ونمت حتى بعد عن المدينة فصار لا يشهد إلا الجمعة ثم كثرت ونمت فتباعد أيضا عن المدينة حتى صار لا يشهد جمعة ولا جماعة فكان إذا كان يوم الجمعة خرج يتلقى الناس ويسألهم عن الاخبار فذكره رسول الله ذات يوم فقال مافعل ثعلبة قالوا يا رسول الله اتخذ غنما ما يسعها واد فقال رسول الله يا ويح ثعلبة فأنزل الله تعالى آية الصدقة فبعث رسول الله رجلين رجل من بني سليم ورجل من جهينة وكتب لهما أنصاب الصدقة وكيف يأخذانها وقال لهما مرا بثعلبة بن حاطب وبرجل آخر من بني سليم فخذا صدقاتهما فخرجا حتى اتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله فقال ما هذه إلا جزية أو ما هذه إلا اخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلي فانطلقا وسمع بهما السلمي فنظر إلى خيار إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها فلما رأياه قالا ما هذا قال خذاه فإن نفسي به طيبة فمرا على الناس وأخذا الصدقات ثم رجعا إلى ثعلبة فقال أروني كتابكما

فقرأه ثم قال ما هذه إلا جزية أو ما هذه إلا أخت الجزية إذهبا حتى أرى رأيا قال فذهبا من عنده وأقبلا على رسول الله فلما رآهما قال قبل أن يتكلما يا ويح ثعلبة فأنزل الله تعالى
( ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ) ( فلما أتاهم من فضله بخلوا وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب ) وكان عند رسول الله رجل من أقارب ثعلبة فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال ويحك يا ثعلبة قد نزل الله فيك كذا وكذا فخرج ثعلبة حتى أتى النبي فسأله أن يقبل صدقته فقال إن الله تعالى منعني أن أقبل منك صدقة فجعل ثعلبة يحثو التراب على رأسه ووجهه فقال رسول الله هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني فلما أبى رسول الله أن يقبل صدقته رجع إلى منزله وقبض رسول الله ولم يقبل منه شيئا ثم أتى إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين استخلف فقال قد علمت منزلتي من رسول الله وموضعي من الانصار فأقبل صدقتي فقال أبو بكر رضي الله عنه لم يقبلها رسول الله منك فلا أقبلها أنا فقبض أبو بكر رضي الله تعالى عنه ولم يقبلها فلما ولي عمر رضي الله عنه أتاه فقال يا أمير المؤمنين أقبل صدقتي فلم يقبلها منه وقال لم يقبلها رسول الله ولا أبو بكر رضي الله عنه فأنا لا أقبلها وقبض عمر رضي الله عنه ولم يقبلها ثم ولي عثمان ابن عفان رضي الله عنه فسأله أن يقبل صدقته فقال له لم يقبلها رسول الله ولا ابو بكر ولاعمر رضي الله عنهما فأنا لا أقبلها ثم هلك ثعلبة في خلافة عثمان رضي الله عنه
فانظر إلى سوء عاقبة غدره كيف أذاقه وبال أمره ووسمه بسمة عار قضت عليه بخسره وأعقبه نفاقا يخزيه يوم فاقته وفقره فأي خزي

أرجح من ترك الوفاء بالميثاق واي سوء أقبح من غدر يسوق إلى النفاق وأي عار أفضح من نقض العهد إذا عدت مساوي الاخلاق وكان يقال لم يغدر غادر قط إلا لصغر همته عن الوفاء واتضاع قدره عن احتمال المكاره في جنب نيل المكارم قال الشاعر
( غدرت بأمر كنت أنت جذبتنا ... إليه وبئس الشيمة الغدر بالعهد )
ولما حلف محمد الامين للمأمون في بيت الله الحرام وهما وليا عهد طالبه جعفر بن يحيى أن يقول خذلني الله إن خذلته فقال ذلك ثلاث مرات فقال الفضل بن الربيع قال لي الأمين في ذلك الوقت عند خروجه من بيت الله يا أبا العباس أجد نفسي أن امري لا يتم فقلت له ولم ذلك أعز الله الأمير قال لأني كنت أحلف وأنا أنوي الغدر وكان كذلك لم يتم أمره
وورد في أخبار العرب أن الضيزن بن معاوية بن قضاعة كان ملكا بين دجلة والفرات وكان له هناك قصر مشيد يعرف بالجوسق وبلغ ملكه الشام فأغار على مدينة سابور ذي الاكتاف فأخذها وأخذ أخت سابور وقتل منهم خلقا كثيرا ثمإن سابور جمع جيوشا وسار إلى ضيزن فأقام على الحصن أربع سنين لا يصل منه إلى شيء ثم أن النضيرة بنت الضيزن عركت أي حاضت فخرجت من الربض وكانت من أجمل أهل دهرها وكذلك كانوا يفعلون بنسائهم إذا حضن وكانوا سابور من أجمل أهل زمانه فرآها ورأته فعشقها وعشقته وأرسلت إليه تقول ما تجعل لي إن دللتك على ما تهدم به هذه المدينة وتقتل أبي فقال أحكمك فقالت عليك بحمامة مطوقة ورقاء فاكتب عليها بحيض جارية ثم أطلقها فإنها تقعد على حائط المدينة فتتداعى المدينة كلها وكان ذلك طلمسا لا يهدمها إلا هو ففعل ذلك فقالت له وأنا اسقي الحرس الخمر فإذا صرعوا فاقتلهم ففعل ذلك فتداعت المدينة وفتحها سابور عنوة وقتل الضيزن واحتمل ابنته النضيرة وأعرس بها فلما دخل بها لم تزل ليلتها تتضرر وتتململ في

فراشها وهو من حرير محشو بريش النعام فالتمس ما كان يؤذيها فإذا هو ورقة آس التصقت بعكنتها وأثرت فيها وقيل كان ينظر إلى مخ عظمها من صفاء بشرتها ثم إن سابور بعد ذلك غدر بها وقتلها قيل إنه أمر رجلا فركب فرسا جموحا وضفر غدائرها بذنبه ثم استركضه فقطعها قطعا قطعه الله ماأغدره وتقول العرب جزاني جزاء سنمار وهو ان أزدجرد بن سابور لما خاف على ولده بهرام وكان قبله لا يعيش له ولد سأل عن منزل صحيح مريء فدل على ظهر الجزيرة فدفع ابنه بهرام إلى النعمان وهو عاملة على ارض العرب وأمره أن يبني له جوسقا فامتثل أمره وبنى له جوسقا كأحسن ما يكون وكان الذي بنى الجوسق رجلا يقال له سنمار فلما فرغ من بنائه عجبوا من حسنه فقال لو علمت أنكم توفوني أجرته لبنيته بناء يدور مع الشمس حيث دارت فقالوا وإنك لتبني أحسن من هذا ولم تبنه ثم أمر به فطرح من أعلى الجوسق فتقطع فكانت العرب تقول جزاني جزاء سنمار وممن غدر عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله غدر بعلي رضي الله عنه وقتله وعمرو بن جرموز غدر بالزبير بن العوام رضي الله عنه وقتله وأبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة لعنه الله غدر بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقتله وجعل المنصور العهد إلى عيسى بن موسى ثم غدر به وأخره وقدم المهدي عليه فقال عيسى
( اينسى بنو العباس ذبي عنهم ... بسيفي ونار الحرب زاد سعيرها )
( فتحت لهم شرق البلاد وغربها ... فذل معاديها وعز نصيرها )
( أقطع أرحاما علي عزيزة ... وأبدي مكيدات لها وأثيرها )
( فلما وضعت الامر في مستقره ... ولاحت له شمس تلألأ نورها )
( دفعت عن الامر الذي استحقه وأوسق اوساقا من الغدر عيرها

وخرج قوم لصيد فطردوا ضبعة حتى ألجؤها إلى خباء أعرابي فأجارها وجعل يطعمها ويسقيها فبينما هو نائم ذات يوم إذ وثبت عليه فبقرت بطنه وهربت فجاء ابن عمه يطلبه فوجده ملقى فتبعها حتى قتلها وأنشد يقول
( ومن يصنع المعروف مع غير أهله ... يلاقي كما لاقى مجير أم عامر )
( اعد لها لما استجارت ببيته ... أحاليب البان اللقاح الدوائر )
( وأسمنها حتى إذا ما تمكنت ... فرته بانياب لها واظافر )
( فقل لذوي المعروف هذا جزاء من ... يجود بمعروف على غير شاكر )
وحكى بعضهم قال دخلت البادية فإذا أنا بعجوز بين يديها شاة مقتولة وإلى جانبها جرو ذئب فقالت أتدري ما هذا فقلت لا قالت هذا جرو ذئب أخذناه صغيرا وأدخلناه بيتنا وربيناه فلما كبر فعل بشاتي ما ترى وأنشدت
( بقرت شويهتي وفجعت قومي ... وأنت لشاتنا ابن ربيب )
( غذيت بدرها ونشأت معها ... فمن أنباك أن اباك ذيب )
( إذا كان الطباع طباع سوء ... فلا أدب يفيد ولا اديب
اللهم إنا نعوذ بك من البغي واهله ومن الغادر وفعله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الفصل الثاني
في السرقة والسراق
قيل مر عمر بن عبيد بجماعة وقوف فقال ما هذا قيل السلطان يقطع سارقا فقال لاإله إلا الله سارق العلانية يقطع سارق السر وأمر الإسكندر بصلب سارق فقال أيها الملك إني فعلت ما فعلت

وأنا كاره فقال وتصلب وأنت كاره وسرق مدني قميصا فأعطاه لابنه يبيعه فسرق منه فجاء له فقال بكم بعتة قال برأس المال وقال أكتل السلمي وكان لصا فاتكا
( وإني لأستحي من الله أن أرى ... أجرجر حبلي ليس فيه بعير )
( وأن أسأل المرء الدنيء بعيرة ... وأجمال ربي في البلاد كثير )
قال الفرزدق
( وإن أبا الكرشاء ليس بسارق ... ولكن متى ما يسرق القوم يأكل )
( وكان لعمرو بن دويرة البجلي أخ قد كلف ببنت عم له فتسور عليها الدار ذات ليلة فأخذه أخوتها وأتوا به خالد بن عبد الله القسري وجعلوه سارقا فسأله خالد فصدقهم ليدفع الفضيحة عن الجارية فهم خالد بقطعة فقال عمرو أخوه
( أخالد قد والله أوطئت عشوة ... وما العشق المظلوم فينا بسارق )
( أقر بما لم يأته المرء إنه ... رأى القطع خيرا من فضيحة عاشق )
فعفا عنه خالد وزوجه الجارية
الفصل الثالث
فيما جاء في العداوة والبغضاء )
قد ذكر الله عز و جل العداوة والبغضاء في كتابة العزيز فقال العلي تعالى ( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) وقال تعالى ( إن الشيطان للإنسان عدو مبين ) وقال تعالى ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ) وقال تعالى ( إن من أزواجكم

وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ) وقال رسول الله أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك وقال ابو بكر الصديق رضي الله عنه العداوة تتوارث وقال زياد بن عبدالله
( فلو اني بليت بهاشمي ... خؤلته بنو عبد المدان )
( صبرت على عداوته ولكن ... تعالوا فانظروا بمن ابتلانى
وبث رجل في وجه أبي عبيدة مكروها فأنشأ يقول
( فلو أن لحمي إذ وهي لعبت به ... سباع كرام أو ضباع وأذؤب )
( لهون وجدي أو لسلي مصيبتي ولكنما ... أودى بلحمي أكلب )
وقيل لكسري أي الناس أحب إليك أن يكون عاقلا قال عدوي قيل كيف ذلك قال لأنه إذا كان عاقلا كنت منه في عافية وأمن وقيل كونوا من المرء الدغل أخوف من الكاشح المعلن فإن مداواة أهل العلل الظاهرة من مداواة ما خفي وبطن وقالوا إياك أن تعادي من إذا شاء طرح ثيابه ودخل مع الملك في لحافه وقال أبو العتاهية
تنح عن القبيح ولا ترده ... ومن أوليته حسنا فزده )
( ستلقي من عدوك كل كيد ... إذا كاد العدو ولم تكده )
وكانت جليلة بنت مرة أخت جساس تحت كليب فقتل أخوها زوجها وهي حبلي بهجرس ابن كليب فلما كبر وشب قال
اصاب ابي خالي وماأنا بالذي ... اميل وأمري بين خالي ووالدي )
( واورث جساس بن مرة غصة ... إذا ما اعترتني حرها غير بارد )
ثم قال بعد ذلك
يا للرجال لقلب ماله جلد ... كيف العزاء وثاري عند جساس )

ثم حمل على خاله فقتله وقال
ألم ترني ثأرت أبي كليبا ... وقد يرجى المرشح للدخول غسلت العار عن جسم ابن بكر ... بجساس بن مرة ذي البتول بيت
( سن العداوة آباء لنا سلفوا ... فلن تبيد وللآباء أبناء )
ويقال دار عدوك لأحد أمرين إما لصداقة تؤمنك أو لفرصة تمكنك وكتب سويد إلي مصعب
( فبلغ مصعبا عني رسولي ... وهل تلقى النصيح بكل واد )
( تعلم أن أكثر من تناجي ... وإن ضحكوا إليك هم الاعادي )
ويقال فلان كثير المراق مر المذاق وقال الحجاج لخارجي والله إني لأبغضك قال أدخل الله الجنة أشدنا بغضا لصاحبه ولما أراد أنو شروان أن يقلد ابنه هرمز ولاية العهد استشار عظماء مملكته فأنكروا عليه وقال بعضهم وان إمة تركية وقد علمت في أخلاقهم ما علمت فقال إن الابناء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات وكانت أم قباذ تركية وقد رأيتم من حسن سيرته ما رأيتم فقيل هو قصير وذلك يذهب ببهاء الملك فقال إن قصره من رجليه ولا يكاد يرى إلا جالسا أو راكبا فلا يستبين ذلك فيه فقيل هو بغيض في الناس فقال أواه هلك ابني هرمز فقد قيل إذا كان في الإنسان خير واحد ولم يكن ذلك الخير المحبة الى الناس فلا خير فيه واذا كان فيه عيب واحد ولم يكن ذلك العيب البغض في الناس فلا عيب فيه
( ولست براء عيب ذي الود كله ... ولا بغض ما فيه إذا كنت راضيا )
( فعين الرضا عن كل عيب كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساويا
وفي المعنى قيل
( وعين البغض تبرز كل عيب ... وعين الحب لا تجد العيوبا )

وعن أبي حيان قال لقمان نقلت الصخور وحملت الحديد فلم أر شيئا أثقل من الدين وأكلت الطيبات وعانقت الحسان فلم أر شيئا ألذ من العافيه وأنا اقول لو نزحوا البحار وكنسوا القفار لوجدوها أهون من شماتة الأعداء خصوصا إذا كانوا مساهمين في نسب أو مجاورين في بلد اللهم إنا نعوذ بك من تتابع الإثم وسوء الفهم وشماتة ابن العم وقيل لأيوب عليه السلام أي شيء كان عليك في بلائك اشد قال شماتة الأعداء وأنشد الجاحظ
( تقول العاذلات تسل عنها ... وداو عليل قلبك بالسلو )
( وكيف ونظرة منها اختلاسا ... ألذ من الشماتة بالعدو )
وقال ابن أبي جهينة المهلبي
( كل المصائب قد تمر على الفتى ... فتهون غير شماتة الاعداء )
وقال الجاحظ ما رأيت سنانا أنفذ من شماتة الاعداء وقيل لما قبض رسول الله سمع بموته نساء من كندة وحضرموت فخضبن أيديهن وضربن بالدفوف فقال رجل منهم
( أبلغ أبا بكر إذا ما جئته ... أن البغايا من بني مرام )
( أظهرن في موت النبي شماتة ... وخضبن أيديهن بالغلام )
( فاقطع هديت أكفهن بصارم ... كالبرق او مض في متون غمام
فكتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى المهاجر عاملة فاخذهن وقطع أيديهن ويقال فلان يتربص بك الدوائر ويتمنى لك الغوائل ولا يؤمل صلاحا إلا في فسادك ولا رفعة إلا في سقوط حالك وقال حكيم لا تأمن عدوك وإن كان ضعيفا فإن القناة قد تقتل وإن عدمت السنان قال الشاعر

( فلا تأمن عدوك لو تراه ... أقل إذا نظرت من القراد )
( فإن الحرب ينشأ من جبان ... وإن النار تضرم من رماد
بيت مفرد
فمن لم يكن منكم مسيئا فإنه ... يشد على كف المسيء فيجلب )
وقال عبد الله بن سليمان بن وهب
كفاية الله خير من توقينا ... وعادة الله في الماضين تكفينا )
( كاد الاعادي فلا والله ما تركوا ... قولا وفعلا وتلقينا وتهجينا )
( ولم نزد نحن في سر وفي علن ... على مقالتنا يا ربنا اكفينا )
( فكان ذاك ورد الله حاسدنا ... بغيظة لم ينل تقديره فينا )
الفصل الرابع
في الحسد
قال الله تعالى ( أم يحسدون الناس على ماآتاهم الله من فضله وقال رسول الله استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود وقال علي رضي الله عنه الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له وقيل الحسود غضبان على القدر ويقال ثلاثة لا يهنأ لصاحبها عيش الحقد والحسد وسوء الخلق وقيل بئس الشعار الحسد وقيل لبعضهم ما بال فلان يبغضك قال لأنه شقيقي في النسب وجاري في البلد وشريكي في الصناعة فذكر جميع دواعي الحسد وقال أعرابي الحسد داء منصف يفعل في الحاسد أكثر من فعله في المحسود وهو مأخوذ من الحديث قاتل الله الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله وقال الفقيه أبو الليث السمرقندي رحمة الله تعالى عليه يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل حسده إلى المحسود

أولاها غم لا ينقطع الثانية مصيبة لا يؤجر عليها الثالثة مذمة لا يحمد عليها الرابعة سخط الرب الخامسة يغلق عنه باب التوفيق
ومن ذلك ما حكي أن رجلا من العرب دخل على المعتصم فقربه وأدناه وجعله نديمة وصار يدخل على حريمه من غير استئذان وكان له وزير حاسد فغار من البدوي وحسده وقال في نفسه إن لم أحتل على هذا البدوي في قتله أخذ بقلب أمير المؤمنين وأبعدني منه فصار يتلطف بالبدوي حتى أتى به الى منزله فطبخ له طعاما وأكثر فيه من الثوم فلما أكل البدوي منه قال له احذر أن تقترب من امير المؤمنين فيشم منك فيتأذى من ذلك فإنه يكره رائحته ثم ذهب الوزير إلى أمير المؤمنين فخلا به وقال يا أمير المؤمنين إن البدوي يقول عنك للناس إن امير المؤمنين أبخر وهلكت من رائحة فمه فلما دخل البدوي على أمير المؤمنين جعل كمه على فمه مخافة ان يشم منه رائحة الثوم فلما رآه أمير المؤمنين وهو يستر فمه بكمه قال إن الذي قاله الوزير عن هذا البدوي صحيح فكتب أمير المؤمنين كتابا إلى بعض عماله يقول فيه إذا وصل إليك كتابي هذا فاضرب رقبة حامله ثم دعا البدوي ودفع إليه الكتاب وقال له امض به إلى فلان وائتني بالجواب فامتثل البدوي ما رسم به أمير المؤمنين وأخذ الكتاب وخرج به من عنده فبينما هو بالباب إذ لقيه الوزير فقال أين تريد قال اتوجه بكتاب أمير المؤمنين إلى عامله فلان فقال الوزير في نفسه إن هذا البدوي يحصل له من هذا التقليد مال جزيل فقال له يا بدوي ما تقول فيمن يريحك من هذا التعب الذي يلحقك في سفرك ويعطيك ألفي دينار فقال أنت الكبير وأنت الحاكم ومهما رأيته من الرأي أفعل قال أعطني الكتاب فدفعه إليه فأعطاه الوزير ألفي دينار وسار بالكتاب إلى المكان الذي هو قاصده فلما قرأ العامل الكتاب أمر بضرب رقبة الوزير فبعد أيام تذكر الخليفة في أمر البدوي وسأل عن الوزير فأخبر بأن له أياما ما ظهر وأن البدوي بالمدينة مقيم فتعجب من ذلك وأمر بإحضار البدوي في فحضر فسأله عن حاله فأخبره بالقصة التي اتفقت له مع الوزير من أولها إلى آخرها فقال له أنت قلت عني للناس

إني أبخر فقال معاذ الله يا أمير المؤمنين أن اتحدث بما ليس لي به علم وإنما كان ذلك مكرا منه وحسدا وأعلمه كيف دخل به إلى بيته وأطعمه الثوم وما جرى له معه فقال أمير المؤمنين قاتل الله الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله ثم خلع على البدوي واتخذه وزيرا وراح الوزير بحسده وقال المغيرة شاعر آل المهلب
( آل المهلب قوم إن مدحتهم ... كانوا الاكارم آباء واجدادا )
( إن العرانين تلقاها محسدة ... ولا ترى للئام الناس حسادا )
وقال عمر رضي الله عنه يكفيك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك وقال مالك بن دينار شهادة القراء مقبولة في كل شيء إلا شهادة بعضهم على بعض فإنهم أشد تحاسدا من التيوس وعن انس رضي الله تعالى عنه رفعه إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب وقال منصور الفقيه
( منافسة الفتى فيما يزول ... على نقصان همته دليل )
( ومختار القليل أقل منه ... وكل فوائد الدنيا قليل )
يقول الله عز و جل الحاسد عدو نعمتي متسخط لفعلي غير راض بقسمي التي قسمت لعبادي قال الشاعر
( أبا حاسدا لي على نعمتي ... أتدري على من أسات الادب )
( أسأت على الله في حكمه ... لأنك لم ترض لي ما وهب )
( فأخزاك ربي بأن زادني ... وسد عليك وجوه الطلب )
وقال الاصمعي رأيت أعرابيا قد بلغ عمره مائة وعشرين سنة فقلت له ما أطول عمرك فقال تركت الحسد فبقيت وقالوا لا يخلوا السيد من ودود يمدح وحسود يقدح وقال ابن مسعود رضي الله

عنه إلا لا تعادوا نعم الله قيل ومن يعادي نعم الله قال الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله وقيل لعبد الله بن عروة لم لزمت البدو وتركت قومك فقال وهل بقي إلا حاسد على نعمتي أو شامت على نكبة وقال الشاعر
( يا طالب العيش في أمن وفي دعة ... رغدا بلا قتر صفوا بلا رنق )
( خلص فؤادك من غل ومن حسد ... فالغل في القلب مثل الغل في العنق )
وقال آخر
( اصبر على حسد الحسود ... د فإن صبرك قاتله )
( كالنار تأكل بعضها ... إن لم تجد ما تأكله )
وفي نوابغ الحكم الحسد حسك من تعلق به هلك ولبعضهم
( إني حسدت فزاد الله في حسدي ... لا عاش من عاش يوما غير محسود )
وقال نصار بن سيار
( إني نشأت وحسادي ذوو عدد ... يا ذا المعارج لاتنقص لهم عددا )
( إن يحسدوني على ما بي لما بهم ... فمثل ما بي مما يجلب الحسدا )
وكان عمر رضي الله عنه يقول نعوذ بالله من كل قدر وافق إرادة حاسد وقيل لأرسطاطاليس ما بال الحسود أشد غما قال لأنه أخذ بنصيبه من غموم الدنيا ويضاف إلى ذلك غمه لسرور الناس والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

الباب الاربعون في الشجاعة وثمرتها والحروب وتدبيرها وفضل الجهاد وشدة البأس والتحريض على القتال وفيه فصلان
الفصل الأول
في فضل الجهاد في سبيل الله وشدة البأس
قد أثنى الله تعالى على الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ووصف المجاهدين فقال تعالى ( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ) وندب إلى جهاد الأعداء ووعد عليه أفضل الجزاء والرأي في الحرب أمام الشجاعة قال رسول الله الحرب خدعة وقال ما من قطرة أحب إلى الله تعالى من قطرة دم في سبيله أو قطرة دمح في جوف ليل من خشيته وسمع رجل عبد الله بن قيس رضي الله عنه يقول قال رسول الله إن الجنة تحت ظلال السيوف فقال ياابا موسى أنت سمعت رسول الله يقوله قال نعم فرجع إلى أصحابه فقال اقرأ عليكم السلام ثم كسر جفن سيفه فألقاه ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قتل
وكتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد اعلم أن عليك عيونا من الله ترعاك وتراك فإذا لقيت العدو فاحرص على الموت توهب لك السلامة ولاتغسل الشهداء من دمائهم فإن دم الشهيد يكون له نورا يوم القيامة وعن انس رضي الله عنه قال قال رسول الله

حين انتهينا إلى خيبر الله اكبر خربت خيبر انا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين وعنه رفعه لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها وعن ابن مسعود رفعه إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل وقيل إن انس بن النضر عم انس بن مالك رضي الله عنه لم يشهد بدرا فلم يزل متحسرا يقول أول مشهد شهده رسول الله غيبت عنه فلما كان يوم أحد قال واها لريح الجنة دون أحد فقاتل حتى قتل فوجد في بدنه بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية فقالت أخته الربيع بنت النضر فما عرفت أخي إلا ببنانه وعن فضالة بنت عبيد رفعة كل ميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمي له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتنة القبر وعن سهل بن حنيف رفعه من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه فنسأل الله أن يرزقنا الشهادة ويجعلنا من الذين أحسنوا فلهم الحسنى وزيادة
الفصل الثاني
في الشجاعة وثمرتها والحروب وتدبيرها )
اعلم أن الشجاعة عماد الفضائل ومن فقدها لم تكمل فيه فضيلة ويعبر عنها بالصبر وقوة النفس قال الحكماء وأصل الخير كله في ثبات القلب والشجاعة عند اللقاء على ثلاثة اوجه الوجه الاول إذا التقى الجمعان وتزاحف العسكران وتكالحت الاحداق بالأحداق برز من الصف إلى وسط المعترك يحمل ويكر وينادي هل من مبارز والثاني إذا نشب القوم واختلطوا ولم يدر أحد منهم من اين يأتيه يكون رابط الجأش ساكن القلب حاضر اللب لم يخالطه الدهش ولا تأخذه الحيرة فينقلب تقلب المالك لأموره القائم على نفسه والثالث إذا

انهزم أصحابه يلزم الساقة ويضرب في وجوه القوم ويحول بينهم وبين عدوهم ويقوي قلوب أصحابه ويرجي الضعيف ويمدهم بالكلام الجميل ويشجع نفوسهم فمن وقع أقامه ومن وقف حمله ومن كبا به فرسه حماه حتى ييأس العدو منهم وهذا أحمدهم شجاعة وعن هذا قالوا إن المقاتل من وراء الفارين كالمستغفر من وراء الغافلين ومن أكرم الكرم الدفاع عن الحرم
وحكى سيدي أبو بكر الطرطوشي رحمة الله تعالى عليه في كتابه سراج الملوك قال كان شيوخ الجند يحكون لنا في بلادنا قالوا دارت حرب بين المسلمين والكفار ثم افترقوا فوجدوا في المعترك قطعة خودة قدر الثلث بما حوته من الرأس فقالوا إنه لم ير قط ضربة أقوى منها ولم يسمع بمثلها في جاهلية ولا إسلام فحملتها الروم وعلقتها في كنيسة لهم فكانوا إذا عيروا بانهزامهم يقولون لقينا أقواما هذا ضربهم فيرحل أبطال الروم إليها ليروها قالوا ومن الحزم أن لا يحتقر الرجل عدوه وإن كان ذليلا ولا يغفل عنه وإن كان حقيرا فكم برغوث أسهر فيلا ومنع الرقاد ملكا جليلا قال الشاعر
( فلا تحقرن عدوا رماك ... وإن كان في ساعديه قصر )
( فإن السيوف تحز الرقاب ... وتعجز عما تنال الإبر )
واعلموا ان الناس قد وضعوا في تدبير الحروب كتبا ورتبوا فيها ترتيبا ولنصف منها أشياء نبدأ منها أولا بما ذكره الله تعالى في القرآن العظيم قال الله تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) فقوله تعالى ( ما استطعتم ) مشتمل على كل ما هو مقدور البشر من العدة والآلة والحيلة وفسر النبي القوة حين مر على اناس يرمون فقال ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي إلا إن القوة الرمي وأفضل العدة أن تقدم بين يدي

اللقاء عملا صالحا من صدقة وصيام ورد المظالم وصلة الرحم ودعاء مخلص وأمر بمعروف ونهى عن منكر وأمثال ذلك والشأن كل الشأن في استجادة القواد وانتخاب الأمراء وأصحاب الألوية فقد قالت حكماء العجم أسد يقود ألف ثعلب خير من ثعلب يقود ألف أسد فلا ينبغي أن يقدم الجيش إلا الرجل ذو البسالة والنجدة والشجاعة والجرأة ثابت الجأش صارم القلب صادق البأس ممن قد توسط الحروب ومارس الرجال ومارسوه ونازل الاقران وقارع الابطال عارفا بمواضع الفرص خبيرا بمواضع القلب والميمنة والميسرة من الحروب فإنه إذا كان كذلك وصدر الكل عن رأيه كانوا جميعا كأنهم مثله فإنه إن رأى لقراع الكتائب وجها وإلا رد الغنم إلى الزربية
واعلم أن الحرب خدعة عند جميع العقلاء وكان عظماء الترك يقولون ينبغي للعاقل العظيم للقياد أن يكون فيه عدة أخلاق من البهائم شجاعة الديك وبحث الدجاجة وقلب الاسد وحملة الخنزير وروغان الثعلب وصبر الكلب على الجراح وحراسة الكركي وغارة الذئب وسمن نغير وهي دويبة تكون بخراسان تسمن على التعب والشقاء وكان يقال اشد خلق الله تعالى عشرة الجبال والحديد ينحت الجبال والنار تأكل الحديد والماء يطفيء النار والسحاب يحمل الماء والريح تصرف السحاب الإنسان يتقي الريح بجناحيه والسكر يصرع الانسان والنوم يذهب السكر والهم يمنع النوم فأشد خلق ربك الهم اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن
ومن الحيل في الحرب أن يبث جواسيسه في عسكر عدوه ليستعلم أخبارهم ويستميل قلوب رؤسائهم وذوي الشجاعة منهم فيدس إليهم ويعدهم وعدا جميلا ويقوي أطماعهم في نيل ما عنده من الهبات الفخيمة والولايات السنية وإن رأى وجها عاجلهم بالهدايا وسامهم إما الغدر بصحبهم وإما الأعتزال وقت اللقاء ويكتب على السهام أخبارا مزورة ويرمي بها في جيوشهم واعلم أن الحيلة لا ترد القضاء

والقدر وأن الدول إذا زالت صارت حيلتها وبالا عليها وإذا أذن الله تعالى في حلول البلاء كانت الآفة في الحيلة وقال الحكماء إذا نزل القضاء كان العطب في الحيلة ويغلب الضعف بإقبال دولته كما يغلب القوي ببقاء مدته فمن الحزم المألوف عند سواس الحروب أن تكون حماة الرجال وكماة الابطال في القلب فإنه إذا انكسر الجناحان كانت العيون ناظرة إلى القلب فإذا كانت رايته تخفق وطبوله تضرب كان حصنا للجناحين يأوي إليه كل منهزم وإذا انكسر القلب تمزق الجناحان مثال ذلك أن الطائر إذا انكسر احد جناحيه ترجى عودته ولو بعد حين وإذا انكسر الرأس ذهب الجناحان وقل عسكر انكسر قلبه فأفلح أوتراجع اللهم إلا ان تكون مكيدة من صاحب الجيش فيخلي القلب قصدا وتعمدا حتى إذا توسطه العدو واشتغل بنهبه انطلق عليه الجناحان فقد فعل ذلك رجال من اهل الحروب ويقال حبب إلي عدوك الفرار بأن لا تتبعهم إذا انهزموا ويقال الشجاع محبب حتى إلى عدوه والجبان مبغض حتى إلى أمه ولما أقبل كسرى بن هرمز إلى محاربة بهرام قال له صاحبه أما تستعد قال عدتي ثبات قلبي وإصابة رأيي ونصل سيفي ونصرة خالقي وخرج يزيد بن عبدالملك من بعض مقاصيره وعليه درع وذلك في أيام قتال يزيد بن المهلب فأنشده مسلمة قول الحطيئة
( قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت باطهار )
فقال يزيد إنما ذاك إذاحاربنا أكفاءنا وأما مثل هذا ونظرائه فلا فقام إليه مسلمة فقبله بين عينية وقيل لما مات ملك الفرس أرادوا أن يملكوا عليهم رجلا من آل ساسان فوفد عليهم بهرام جور فقال اعمدوا إلى أسدين جائعين فاطرحوا بينهما التاج فمن أخذه فهو الملك ففعلوا فدنا منهما فأهويا نحوه فأخذ برأس أحدهما فأدناه من رأس الآخر ثم نطحه به فقتلهما جميعا وشد على التاج فأخذه ووضعه على رأسه وملكته الفرس عليهم

وقيل لم يكن في العجم أرمي من الملك بهرام خرج يتصيد يوما وهو مردف حظية له كان يعشقها فعرضت له ظباء فقال في اي موضع تريدين ان اضع هذا السهم فقالت اريد أن تشبه ذكرانها بالأناث وأناثها بالذكران فرمى ظبيا ذكرا بنشابه ذات شعبتين فاقتلع قرنية ورمى ظبية بنشابتين أثبتهما في موضع القرنين ثم سألته أن يجمع بين ظلف الظبي وأذنه بنشابة فرمى أصل الاذن ببندقة ثم أهوى الظبي برجله إلى أذنه ليحتك فرماه بنشابه فوصل أذنه بظلفه ويقال إن من اعظم المكايد في الحرب الكمين وذلك أن الفارس لا يزال على حمية في الدفاع وحمي الذمار حتى يلتفت فيرى وراءه بندا منشورا ويسمع صوت الطبل فحينئذ يكون همة خلاص نفسه وعليك بانتخاب الفرسان واختيار الابطال ولا تنس قول الشاعر
( والناس ألف منهم كواحد ... وواحد كالألف إن امر عني
بل قد جرب ذلك فوجد الواحد خيرا من عشرة آلاف وسأحكي لك من ذلك ما ترى فيه العجب فمن ذلك لما التقى المستعين بن هود مع الطاغية بن روميل النصراني على مدينة وشقة من ثغور بلاد الاندلس وكان العسكران كالمتكافئين كل واحد منهما يقارب عشرين الف مقاتل خيل ورجل فحدث من حضر الوقعة من الاجناد قال لما دنا اللقاء قال الطاغية ابن روميل لمن يثق بعقله وممارسته للحروب من رجاله استعلم لي من في عسكر المسلمين من الشجعان الذين نعرفهم كما يعرفوننا ومن غاب منهم ومن حضر فذهب ثم رجع فقال له فيهم فلان وفلان فعد سبعة رجال فقال له انظر من في عسكري من الرجال المعروفين بالشجاعة ومن غاب منهم فعدهم فوجدهم ثمانية رجال لا يزيدون فقام الطاغية ضاحكا مسرورا وهو يقول ما ابيضك من يوم ثم ثارت الحرب بينهم فلم تزل المضاربة بين الفريقين لم يول احدهم دبره ولا تزحزح عن مقامه حتى فني أكثر العسكرين

ولم يفر واحد منهم قال فلما كان وقت العصر نظروا إلينا ساعة ثم حملوا علينا جملة وداخلوا مداخلة ففرقوا بيننا وصرنا شطرين وحالوا بيننا وبين أصحابنا فكان ذلك سبب وهننا وضعفنا ولم تقم الحرب إلا ساعة ونحن في خسارة معهم فأشار مقدم العسكر على السلطان أن ينجو بنفسه وانكسر عسكر المسلمين وتفرق جمعهم وملك العدو مدينة وشقة فليعتبر ذو الحزم والبصيرة من جمع يحتوي على اربعين الف مقاتل ولم يحضره من الشجعان المعدودين إلا خمسة عشر نفرا وليعتبر بضمان العلج بالظفر واستبشاره بالغنيمة لما زاد في أبطاله رجل واحد
وحكى سيدي أبو بكر الطرطوشي رحمة الله تعالى عليه قال سمعت استاذنا القاضي ابا الوليد يحيى قال بينما المنصور بن أبي عامر في بعض غزواته إذ وقف على نشز من الارض مرتفع فرأى جيوش المسلمين من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله قد ملأوا السهل والجبل فالتفت إلى مقدم العسكر وهو رجل يعرف بابن المضجعي فقال له كيف ترى هذا العسكر أيها الوزير قال أرى جمعا كثيرا وجيشا واسعا كبيرا فقال له المنصور ما ترى هل يكون في هذا الجيش ألف مقاتل من أهل الشجاعة والنجدة والبسالة فسكت ابن المضجعي قال له المنصور ما سكوتك اليس في هذا الجيش الف مقاتل قال لا فتعجب المنصور ثم قال فهل فيهم خمسمائة مقاتل من الابطال المعدودين قال لا فحنق المنصور ثم قال افيهم مائة رجل من الابطال قال لا قال أفيهم خمسون رجلا من الابطال قال لا قال فسبه المنصور واغلظ عليه وامر به فأخرج على اسوأ حال فلما توسطوا بلاد الروم اجتمعت الروم وتصاف

الجمعان فبرز علج من الروم بين الصفين شاكي السلاح وجعل يكر وبفر ويقول هل من مبارز فبرز إليه رجل من المسلمين فتجاولا ساعة فقتله العلج ففرح المشركون وصاحوا واضطرب المسلمون لها ثم جعل العلج يموج بين الصفين وينادي هل من مبارز اثنين لواحد فبرز إليه رجل من المسلمين فتجاولا ساعة فقتله العلج وجعل يكر ويحمل وينادي ويقول هل من مبارز ثلاثة لواحد فبرز إليه رجل من المسلمين فقتله العلج فصاح المشركون وذل المسلمون وكادت ان تكون كسرة فقيل للمنصور مالها إلا ابن المضجعي فبعث إليه فحضر فقال له المنصور إلا ترى ماصنع هذا العلج الكلب منذ اليوم فقال لقد رأيته فما الذي تريد قال ان تكفي المسلمين شره قال الآن يكفي المسلمون شره إن شاء الله تعالى ثم قصد إلى رجال يعرفهم فاستقبله رجل من اهل الثغور على فرس قد تهرت اوراكها هزالا وهو حامل قربة ماء بين يديه على الفرس والرجل في حليته ونفسه غير متصنع فقال له ابن المضجعي إلا ترى ما يصنع هذا العلج منذ اليوم قال قد رأيته فما الذي تريد قال اريد ان تكفي المسلمين شره قال حبا وكرامة ثم إنه وضع القربة بالارض وبرز إليه غير مكترث به فتجاولا ساعة فلم ير الناس إلا المسلم خارجا إليهم يركض ولا يدرون ما هناك وإذا برأس العلج يلعب بها في يده ثم القى الرأس بين يدي المنصور فقال له ابن المضجعي عن هؤلاء الرجال اخبرتك قال فرد ابن المضجعي إلى منزلته واكرمه ونصر الله جيوش المسلمين وعساكر الموحدين
حكى أنه كان للعرب فارس يقال له ابن فتحون وكان اشجع العرب والعجم في زمانه وكان المستعين يكرمه ويعظمه ويجري له في كل عطية خمسمائة دينار وكانت جيوش الكفار تهابه وتعرف منه الشجاعة وتخشى لقاءه فيحكى ان الرومي كان إذا سقى فرسه ولم يشرب يقول له ويلك لم لا تشرب هل رأيت ابن فتحون في الماء

فحسده نظراؤه على كثرة العطاء ومنزلته من السلطان فوشوا به عند المستعين فأبعده ومنعه من عطائه ثم ان المستعين أنشأ غزوة إلى بلاد الروم فتقابل المسلمو والمشركون صفوفا ثم برز علج إلى وسط الميدان ونادى وقال هل من مبارز فبرز إليه فارس من المسلمين فتجاولا ساعة فقتله الرومي فصاح المشركون سرورا وانكسرت نفوس المسلمين وجعل الكلب الرومي يجول بين الصفين وينادي هل من اثنين لواحد فخرج إليه فارس من المسلمين وجعل الكلب يجول بين الصفين وينادي ويقول ثلاثة لواحد فلم يجتريء أحد من المسلمين أن يخرج إليه وبقي الناس في حيرة فقيل للسلطان ما لها إلا ابو الوليد ابن فتحون فدعاه وتلطف به وقال له يا ابا الوليد اما ترى ما يصنع هذا العلج قال ها هو بعيني قال فما الحيلة فيه قال الساعة أكفي المسلمين شره فلبس قميص كتان واستوى على سرج فرسه بلاسلاح وأخذ بيده سوطا طويلا وفي طرفه عقدة معقودة ثم برز إليه فتعجب منه النصراني ثم حمل كل واحد منهما على صاحبه فلم تخط طعنة النصراني سرج ابن فتحون وإذا ابن فتحون وإذا ابن فتحون وإذا ابن فتحون متعلق برقبة الفرس ونزل إلى الارض لاشيء منه في السرج ثم انقلب في سرجه وحمل على العلج وضربه بالسوط فالتوى على عتقه فجذبه بيده من السرج فاقتلعه وجاء به يجره حتى القاه بين يدي المستعين فعلم المستعين أنه كان قد أخطأ في صنعه مع ابي الوليد بن فتحون فاعتذر إليه وأكرمه وأحسن إليه وبالغ في الأنعام عليه ورده إلى أحسن احواله وكان من اعز الناس إليه
وينبغي لقائد الجيش أن يخفى العلامة التي هو مشهور بها فإن عدوه قد يستعلم حيلته وألوان خيلة ورايته ولا يلزم خيمته ليلا ولا نهارا وليبدل زيه ويغير خيمته كي لا يلتمس عدوه غرة منه وإذا سكن الحرب فلا يمشي في النفر اليسير من قومه خارج عسكره فاه عيون عدوه متجسسة عليه وبهذا الوجه كسر المسلمون جيوش افريقية عند فتحها وذلك أن الحرب سكنت وسط النهار فجعل مقدم العدو

يمشي خارج عسكره يتميز عساكر المسلمين فجاء الخبر إلى عبد الله ابن ابي السرج وهو نائم في قبته فخرج فيمن وثق به من رجاله وحمل على العدو فقتل الملك وكان الفتح وبمثل هذا قهر ألب ارسلان ملك الترك ملك الروم وقمعه وقتل رجاله وأباد جمعه وكانت الروم قد جمعت جيوشا يقل أن يجمع لغيرهم من بعدهم مثلها وكان قد بلغ عددهم ستمائة الف كتائب متواصلة وعساكر مترادفة وكراديس يتلو بعضها بعضا لا يدركهم الطرف ولا يحصيهم العدد وقد استعدوا من الكراع والسلاح والمجانيق والآلات المعدة للحروب وفتح الحصون بما لا يحصى وكانوا قد قسموا بلاد المسمين الشام والعراق ومصر وخراسان وديار بكر ولم يشكوا أن الدولة قد دارت لهم وأن نجوم السعود قد خدمتهم ثم استقبلوا بلاد المسلمين فتواترت أخبارهم إلى بلاد المسلمين واضطربت لها ممالك أهل الإسلام فاحتشد للقائهم الملك ألب ارسلان وهو الذي يسمى الملك العادل وجمع مجموعة بمدينة أصبهان واستعد بما قدر عليه ثم خرج يؤمهم فلم يزل العسكران يتدانيان إلى أن عادت طلائع المسلمين إلى المسلمين وقالوا لألب أرسلان غدا يتراءى الجمعان فبات المسلمون ليلة الجمعة والروم في عدد لايحصيهم إلا الله الذي خلقهم وما المسلمون مم إلا أكلة جائع فبقي المسلمون وجلين لما دهمهم فلما أصبحوا صباح يوم الجمعة نظر بعضهم إلى بعض فهال المسلمين ما رأوا من كثرة العدو فأمر ألب أرسلان أن يعد المسلمين فبلغوا اثني عشر الفا كانوا كالشامة البيضاء في الثور الاسود فجمع ذوي الرأي من أهل الحرب والتدبير والشفقة على المسلمين والنظر في العواقب واستشارهم في استخلاص أصوب الرأي فتشاوروا برهة ثم اجتمع رأيهم على اللقاء قتوادع القوم وتحاللوا وناصحوا الإسلام واهله وتأهبوا أهبة اللقاء وقالو لألب أرسلان بسم الله نحمل عليهم فقال الب ارسلان يا معشر أهل الإسلام امهلوا فإن هذا يوم الجمعة والمسلمون يخطبون

المنابر ويدعون لنا في شرق البلاد وغربها فإذا زالت الشمس وعلمنا أن المسلمين قد صلوا ودعوا الله ان ينصر دينه حملنا عليهم إذ ذاك وكان الب أرسلان قد عرف خيمة ملك الروم وعلامته وزيه وزينته وفرسه ثم قال لرجاله لا يتخلف أحد منكم أن يفعل كفعلي ويتبع أثري ويضرب بسيفه ويرمى سهمه حيث اضرب بسيفي وارمي بسهمي ثم حمل برجاله حملة رجل واحد إلى خيمة ملك الروم فقتلوا من كان دونها ووصلوا إلى الملك فقتلوا من كان دونه وجعلوا ينادون بلسان الروم قتل الملك قتل الملك فسمعت الروم أن ملكهم قد قتل فتبددوا وتمزقوا كل بمزق وعمل السيف فيهم اياما وأخذ المسلمون اموالهم وغنائمهم وأتوا بالملك أسيرا بين يدي الب ارسلان والحبل في عنقه فقال له الب أرسلان ماذا كنت تصنع بي لو اسرتني قال وهل تشك أنني كنت اقتلك فقال له الب ارسلا انت اقل في عيني من ان اقتلك اذهبوا به فبيعوه لمن يزيد فيه فكان يقاد والحبل في عنقه وينادي عليه من يشتري ملك الروم وما زالوا كذلك يطوفون به على الخيام ومنازل المسلمين وينادون عليه بالدراهم والفلوس فلم يدفع فيه أحد شيئا حتى باعوه من إنسان بكلب فأخذه الذي ينادي عليه وأخذ الكلب وأتى بهما إلى ألب ارسلان وقال قد طفت به جميع العسكر وناديت عليه فلم يبذل أحد فيه شيئا سوى رجل واحد دفع فيه هذا الكلب فقال قد انصفك إن الكلب خير منه ثم امر الب ارسلان بعد ذلك باطلاقه وذهب إلى القسطنطينية فعزلته الروم وكحلوه بالنار فانظر ماذا يأتي على الملوك إذا عرفوا في الحرب من الحيلة والمكيدة اللهم انصر جيوش المسلمين وعساكر الموحدين وأهلك الكفرة والمشركين وانصر المسلمين نصرا عزيزا برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين

الباب الحادي والأربعون في ذكر أسماء الشجعان وذكر الأبطال وطبقاتهم وأخبارهم وذكر الجبناء وأخبارهم وذم الجبن
الطبقة الاولى الذين أدركوا الجاهلية والإسلام
حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه عم رسول الله أسد الله وأسد رسوله قتل في غزاة أحد رماه وحشي مولى جبير بن مطعم بحربه فقتله وكان فارس قريش غير مدافع وبطلها غير ممانع وعظم قتله على النبي ونذر أن يقتل به سبعين رجلا من قريش وكبر عليه في الصلاة سبعين تكبيرة
أمير المؤمنين علي بن طالب رضي الله عنه وكرم وجهه آية من آيات الله ومعجزة من معجزات رسول الله ومؤيد بالتأييد الإلهي كاشف الكروب ومجليها ومثبت قواعد الإسلام ومرسيها وهو المتقدم على ذوي الشجاعة كلهم بلا مرية ولا خلاف روي عنه رضي الله عنه أنه قال والذي نفس ابن ابي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون علي من موته على فراش وقال بعض العرب ما لقينا كتيبه فيها علي بن ابي طالب رضي الله عنه إلا اوصى بعضنا على بعض وقال رضي الله عنه لمعاوية قد دعوت الناس إلى الحرب فدع الناس جانبا واخرج إلي ليعلم اينا المران على قلبه والمغطى على بصره وأنا أبو الحسن قاتل جدك وخالك وأخيك شدخا يوم بدر وذلك السيف معي وبذلك القلب ألقى عدوي وقيل له كرم الله وجهه إذا جالت

الخيل فأين نطلبك قال حيث تركتموني وقيل له كيف تقتل الابطال قال لأني كنت القي الرجل فأقدر أني اقتله ويقدر هو اني قتلته فأكون أنا ونفسه عونا عليه وقال مصعب بن الزبير كان علي رضي الله عنه حذرا في الحروب شديد الروغان لا يكاد أحد يتمكن منه وكانت درعه صدرا لا ظهر لها فقيل له أما تخاف أن تؤتي من قبل ظهرك فقال إذا مكنت عدوي من ظهري فلا أبقى الله عليه إن ابقي علي قتله عبد الرحمن بن ملجم المرادي لعنه الله تعالى عليه غدره وهو في صلاة الصبح وسبب ذلك أن عبدالرحمن بن ملجم لعنه الله تزوج بقطام بن علقمة وكانت خارجية فقالت له لا أقنع إلا بصداق أسميه وهو ثلاث آلاف درهم وعبد وأمة وأن تقتل علي بن أبي طالب فقال لها لك ما سألت إلا علي بن أبي طالب وكيف لي به قالت تغتاله فإن سلمت أرحت الناس من شره وأقمت مع أهلك وإن اصبت دخلت الجنة فقال
( ثلاثة آلاف وعبد وقينة ... وضرب علي بالحسام المخذم )
( فلا مهر أغلى من علي وإن علا ... ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم
قيل أنه طعنه وهو داخل المسجد في الغلس وذلك في تاسع عشر رمضان المعظم سنة اربعين كفن رضي الله عنه في ثلاثة أثواب ودفن في الرحبة مما يلي باب كندة من أبواب المسجد قالوا ولما ضربه ابن ملجم لعنه الله ثار الحسن والحسين وعبدالله بن جعفر رضي الله عنهم فاحتضنوه وقام المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب فاخذه فأومأ علي رضي الله عنه إلى المغيرة أن صل بالناس فصلى بهم الفجر وأقبلت همدان فدخلوا على علي فقالوا يا امير المؤمنين لا تقوم لهم قائمة إن شاء الله تعالى فقال لا تفعلوا إنما النفس بالنفس قال ثم إن الحسن رضي الله عنه صلى الفجر وصعد المنبر فأراد الكلام فخنقته العبرة ثم نطق فقال الحمد لله على ما أحببنا وكرهنا وأشهد

أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأني احتسب عند الله عز و جل مصابي بأفضل الآباء رسول الله القائل من أصيب بمصيبة فليتسل بمصيبته في فإنها اعظم المصائب والله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل على عبده الفرقان لقد قبض في هذه الليلة رجل ما سبقه الأولون بعد رسول الله ولا يدركه الآخرون فعند الله نحتسب ما دخل علينا وعلى جميع أمة محمد فوالله لا أقول اليوم إلا حقا لقد دخلت مصيبة اليوم على جميع العباد والبلاد والشجر والدواب ولقد قبض في الليلة الني رفع فيها عيسى بن مريم عليهما السلام إلى السماء وقبض فيها موسى بن عمران ويوشع بن نون عليهما السلام وأنزل فيها القرآن على محمد ولقد كان رسول الله يبعثه في السرية ويسير جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره فما يرجع حتى يفتح الله عز و جل على يديه وما ترك صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم أراد ان يبتاع بها خادما لأهله إلا أن امور الله تعالى تجري على احوالها فما احسنها من الله وأسوأها من انفسكم إلا ان قريشا أعطت أزمتها شياطينها فقادتها بأعنتها إلى النار فمنهم من قاتل رسول الله حتى اظهره الله تعالى عليه ومنهم من اسر الضغينة حتى وجد عن النفاق أعوانا رفع الكتاب وجف القلم وأمور تقضي في كتاب قد خلا ثم أطرق الحسن فبكى الناس بكاء شديدا ثم نزل فجرد سيفه ودعا بابن ملجم فأقبل يخطر واضعا شعره على اذنيه حتى قام بين يديه فقال يا حسن إني ما عاهدت الله تعالى على عهد قط إلاوفيت به عاهدت الله تعالى على ان اقتل أباك وقد قتلته فإن تخلني أقتل معاوية فإن أنا قتلته أضع يدي على يدك وإن أقتل فهو الذي تريد فقال الحسن رضي الله عنه أما والله لا سبيل إلى بقائك ثم قام إليه فضربه بالسيف فاتقاه ابن ملجم بيد ثم أسرع بالسيف فيه فقتله
ومن الأبطال خالد بن الوليد بن المغيرة المخذومي رضي الله عنه سيف الله وسيف رسوله بطل مذكور وفارس مشهور في الجاهلية

والإسلام قتل مالك بن نويرة وقتل مسيلمة الكذاب لعنه الله وكان الفتح لخالد يوم اليمامة وهو الذي فتح دمشق وأكثر بلاد الشام وله وقائع عظيمة في الروم أيد الله بها الإسلام مات على فراشه وكان يقول لقد شهدت كذا وكذا أزحفا وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه أثر طعنة أو ضربة أو رمية وها انا اموت على فراشي لا نامت عين الجبان وكان ينشد ويرتجز ويقول
( لا ترعبونا بالسيوف المبرقه ... إن السهام بالردى مفرقة )
( والحرب دونها العقال مطلقة ... وخالد من دينه على ثقة ) رضي الله عنه
الزبير بن العوام رضي الله عنه حواري رسول الله وابن عمته بطل شجاع لا يماري وشهم لا يحاول قتله عمرو بن جرموز اغتاله وهو في الصلاة
عمرو بن معد يكرب الزبيدي فارس من فرسان الجاهلية وله مواقف مذكورة ومواطن مشهورة وأسلم ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام وشهد حروب الفرس وكان له فيها أفعال عظيمة وأحوال جسيمة وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رآه قال الحمد لله الذي خلقنا وخلق عمرا روي عنه رضي الله عنه أنه سأله يوما فقال له يا عمرو أي السلاح أفضل في الحرب قال فعن أيها تسأل قال ما تقول في السهام قال منها ما يخطيء ويصيب قال فما تقول في الرمح قال اخوك وربما خانك قال فما تقول في الترس قال هو الدائر وعليه تدور الدوائر قال فما تقول في السيف قال ذلك العدة عند الشدة وقيل إنه نزل يوم القادسية على النهر فقال لأصحابه إنني عابر على هذا الجسر قال فأن اسرعتم مقدار جزر ا لجزور وجدتموني وسيفي بيدي أقاتل به تلقاء وجهي وقد عرفني القوم أنا قائم بينهم وإن بطأتم وجدتموني قتيلا بينهم ثم انغمس

فحمل على القوم فقال بعضهم لبعض يا بني زبيد علام تدعون صاحبكم والله ما نظن أنكم تدركونه حيا فحلوه فانتبهوا إليه وقد صرع عن فرسه وقد أخذ برجل فرس رجل من العجم فأمسكها والفارس يضرب فرسه فلم تقدر أن تتحرك فلما رآنا ادركناه رمى الرجل نفسه وخلى فرسه فركبه عمرو وقال أنا أبو ثور كدتم والله تفقدونني فقالوا أين فرسك فقال رمى بنشابة فغار وشب فصرعني ويروي أنه حمل يوم القادسية على رستم وهو الذي كان قدمه يزدجرد ملك الفرس يوم القادسية على قتال المسلمين فاستقبله عمرو وكان رستم على فيل فضرب عمرو الفيل فقطع عرقوبه فسقط رستم وسقط الفيل عليه مع خرج كان فيه أربعون الف دينار فقتل رستموانهزمت العجم وقتل عمرو بنهاوند في وقعة الفرس بعد أن عمر حتى ضعف وكان من الشعراء المعدودين وفيه يقول العباس بن مرداس
( إذا مات عمرو قلت للخيل اوطئي ... زبيدا فقد اودى بنجدتها عمرو )
ومنهم طلحة الأسدي رضي الله عنه كان من أكبر الشجعان جاهلية وإسلاما ثم ارتد وتنبأ وجمع جمعا عظيما قفل خالد بن الوليد جمعه وكان يتكهن ثم عاد إلى الإسلام وشهد حرب القادسية وغيرها من الفتوح والمقداد بن الاسود رضي الله عنه كان من اشجع الفرسان شديد البأس قوي الجنان رابط الجأش وله في الشجعان اسم مشهور ووصف مذكور يعجز الواصف عن وصف صفاته رضي الله عنه وأرضاه وسعد بن أبي وقاص الزهري الأنصاري رضي الله عنه كان فارسا بطلا راميا وهو اول من رمى في سبيل الله بسهم ولما قتل عثمان ابن عفان رضي الله عنه اعتزل ولم يشهد الحرب بعده ومات حتف انفه أبو دجانة الانصاري رضي الله عنه الذي خرج يتبختر بين الصفين

فقال عليه الصلاة و السلام إنها لمشية يبغضها الله تعالى إلا في هذا الموضع والمثنى بن حارثة الشيباني رضي الله عنه هو اول من فتح حرب الفرس وأبو عبيد بن مسعود الثقفي رضي الله عنه قاتل القوم يوم قس الناطف في حرب القادسية وعمار بن ياسر رضي الله عنه صاحب رسول الله الذي قال فيه رسول الله الحق يدور مع عمار حيث دار وأخبر أنه تقتله الفئة الباغية فقتل بصفين مع علي رضي الله عنه هاشم بن عتبة رضي الله عنه من اكابر الشجعان صاحب راية علي رضي الله عنه مات مسموما في شربه من عسل فقال معاوية إن لله جنودا منها العسل القمقاع بن عمرو طاعن الفيل في عشية القادسية رضي الله عنه
الطبقة الثانية
عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنه قاتل جرجير ملك افريقية الذي كان يرى أنه أشجع اهل عصره قال عمر بن عبد العزيز لابن أبي مليكة صف لي عبد الله بن الزبير فقال والله ما رأيت جلدا قط ركب على لحم ولا لحما على عصب ولا عصبا على عظم مثل جلده ولحمه وعصبه ولا رأيت نفسا بين جنبين مثل نفس ركبت بين جنبيه ولقد قام يوما إلى الصلاة فمر حجر من حجارة المنجنيق بين لحييه وصدره فوالله ما خشع له بصره وقطع له قراءته ولا ركع دون الركوع كان يركع قتله الحجاج بعد أن حوصر بمكة وأسلمه أصحابه وعشيرته وصلبه الحجاج إلا إلى الله تصير الامور
ابو هاشم محمد بن علي بن ابي طالب بن الحنفية رضي الله عنه كان أبوه يلقيه في الوقائع ويتقي به العظائم وهو شديد البأس ثابت الجنان قيل له يوما ما بال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهك علي كرم الله وجهك يقحمك الحروب دون الحسن والحسين رضي الله عنهما فقال لأنهما كانا عينة

حذف

وكنت أنا يديه فكان يتقي عينيه بيديه وقيل إن اباه عليا رضي الله عنه اشتري درعا فاستطالها فأراد ان يقطع منها فقال له محمد ياأبت علم موضع القطع فعلم على موضع منها فقبض محمد بيده اليمنى على ذيلها وبالأخرى على موضع العلامة ثم جذبها فقطعها من الموضع الذي حده ابوه وكان عبد الله بن الزبير مع تقدمه في الشجاعة يحسده على قوته وإذا حدت بهذا الحديث غضب مات حتف أنفه بشعب رضوى عبد الله بن حازم السلمي رضي الله عنه وإلي خراسان شجيع مضر وفارسها في عصره قتله وكيع بن أبي سويد بخراسان في الفتنة وكيع بن أبي سويد قاتل عبد الله بن حازم المتقدم ذكره شجاع فاتك اهوج ولي خراسان قيل لما قتل عبد الله بن حازم ولم يتم امره لهوجه مات حتف أنفه مصعب بن الزبير بن العوام شجاع بطل جواد جاد بماله وبنفسه قتله عبيد الله بن زياد في الحروب التي كانت بينه وبين عبدالملك بن مروان عمير بن الحباب السلمي فارس الإسلام قتله بنو تغلب في الحرب التي كانت بينهم وبين قيس مسلمة بن عبدالملك ابن مروان فحل بني أمية وفارسها ووالي حروبها قيل أنه جلس يوما ليقضي بين الناس بمصر فكلمته امرأة فلم يقبل عليها فقالت ما رأيت أقل حياء من هذا قط فكشف عن ساقه فإذا فيها اثر تسع طعنات فقال لها هل ترين أثر هذا الطعن والله لو أخرت رجلي قيد شبر ما أصابتني واحدة منهن وما منعني من تأخيرها إلا الحياء وأنت تنحليني قلته المعتصم بطل شجاع فارس صنديد لم يكن في بني العباس أشجع منه ولا أشد قلبا قال ابن أبي داود كان المعتصم يقول لي ياأبا عبد الله عض على ساعدي بأكثر قوتك فأقول والله يا أمير المؤمنين ما تطيب تفسي بذلك فيقول أنه لا يضرني فأروم ذلك فإذا هو لا تعمل فيه الاسنة فكيف تعمل فيه الأسنان ويقال أنه طعنه بعض الخوارج وعليه درع فأقام المعتصم ظهره فقصم الرمح نصفين

وكان يشد يده على كتابة الدينار فيمحوها ويأخذ عمود الحديد فيلويه حتى يصير طوقا في العنق
إبراهيم بن الاشتر النخعي كان من الشجعان المعدودين حارب عبيد الله بن زياد وهو في أربعة آلاف وعبيد الله في سبعين الفا فظهر به وقتله بيده وهزم جيشه عبد الله بن الحر الجعفي شجاع شاعر فاتك له وقائع عظيمة هائلة وأخباره في الشجاعة مشهورة جحدر بن ربيعة العكلي كان بطلا شجاعا فاتكا مغيرا شاعرا قهر أهل اليمامة وأبادهم فبلغ ذلك الحجاج بن يوسف فكتب إلى عامله يوبخه بتغلب جحدر عليه ويأمر بالتجرد له حتى يقتله أو يحمله إليه أسيرا فوجه العامل إليه فتية من بني حنظلة وجعل لهم جعلا عظيما إن هم قتلوا جحدرا أو اتوا به اسيرا فتوجه الفتية في طلبه حتى إذا كانوا قريبا منه ارسلوا يقولون له أنهم يريدون الإنقطاع إليه والأرتفاق به فوثق بذلك منهم وسكن إلى قولهم فبينما هو معهم يوما إذ وثبوا عليه فشدوه وثاقا وقدموا به على العامل فوجه بهإلى الحجاج معهم فلما قدموا به عليه ومثل بين يديه قال له أنت جحدر قال نعم أصلح الله الامير قال ما جرأك على ما بلغني عنك قال اصلح الله الامير كلب الزمان وجفوة السلطان وجرأة الجنان قال وما بلغ من أمرك قال لو ابتلاني الامير وجعلني مع الفرسان لرأي منى يعجبه قال فتعجب الحجاج من ثبات عقله ومنطقه ثم قال يا جحدر إني قاذف بك في حاجر فيه أسد عظيم فإن قتلك كفانا مؤنتك وإن قتلته عفونا عنك قال اصلح الله الأمير قرب الفرج إن شاء الله تعالى فأمر به فصفدوه بالحديد ثم كتب إلى عامله أن يرتاد له أسدا ويحمله إليه فتحيل العامل وارتاد له اسدا كان كاسرا خبيثا قد افنى عامة المواشي فتحيلوا حتى أخذوه وصيروه في تابوت وسحبوه على عجل فلما قدموا به على الحجاج أمر به فألقى في الحاجر ولم يطعم شيئا ثلاثة ايام حتى جاع واستكلب ثم أمر بجحدر ان ينزلوه إليه فأعطوه سيفا

وأنزلوه إليه مقيدا وأشرف الحجاج والناس حوله ينظرون إلى الاسد ما هو صانع بجحدر فلما نظر الاسد إلى جحدر نهض ووثب وتمطى وزعق زعقة دويت منها الجبال وارتاعت أهل الأرض فشد عليه جحدر وهو ينشد ويقول
( ليث وليث في مجال ضنك ... كلاهما ذو قوة وسفك )
( وصولة وبطشة وفتك ... إن يكشف الله قناع الشك )
( فأنت لي في قبضتي وملكي )
ثم دنا منه وضربه بسيفه ففلق هامته فكبر الناس وأعجب الحجاج ذلك وقال لله درك ما أنجبك ثم أمر به فأخرج من الحاجز وفك عنه قيوده وقال له اختر إما أن تقيم معنا فنكرمك ونقرب من منزلتك وإما أن نأذن لك فتلحق ببلادك وأهلك على أن تضمن لنا أن لا تحدث بها حديا ولا تؤذي بها أحدا قال بل اختار صحبتك أيها الامير فجعله من سماره وخواصه ثم لم يلبث أن ولاه على اليمامة وكان من امره ما كان المهلب بن ابي صفرة كان من الشجعان ومن الابطال المعدودة وأولاده كلهم أنجاد ابطال إلا أن المغيرة من بينهم كان أشد تمكنا وكان المهلب يقول ما شهد معي المغيرة حربا إلا رأيت البشرى في وجهه وحمل عليه بعض الشجعان وفي يديه شجرة فلما رآها نكس رأسه على قربوس السرج وحمل من تحتها فبراها بسيفه وكان المهلب يقول اشجع الناس ثلاثة ابن الكليبة وأحمر قريش وراكب البغلة فابن الكليبة مصعب بن الزبير وأحمر قريش عمر بن عبيد الله بن معمر ما لقي خيلا قط إلا فرقها وراكب البغلة عباد بن الحصين ما كان قط في كربة إلا فرجها وهو من الإسلام وكان للمهلب في الحروب مكايد مشهورة ووقائعه أبادت الخوارج بعد ان كانوا قد استولوا على المسلمين وكان سيدا كريما مات حتف أنفه وكذلك ابنه المغيرة وفيه يقول زياد الاعجم

( مات المغيرة بعد طول تعرض ... للقتل بين اسنة وصفائح )
وكان في الخوارج فوارس مشهورة لا تثبت لهم الرجال وذكرهم يطول ويخرج عما أردناه فمنهم أبو بلال مرداس خرج في اربعين فهزم ألفين وشبيب الخارجي الذي غرق في الفرات نذرت امرأته غزالة أن تصلي في جامع الكوفة ركعتين تقرأ في الأولى البقرة وفي الثانية آل عمران فعبر بها جسر الفرات وأدخلها الجامع ووقف على بابه يحميها حتى وفت بنذرها والحجاج في الكوفة في خمسين ألفا ومنهم قطري بن الفجاءة كان رأس الخوارج وخاطبوه بأمير المؤمنين وعظموه وبجلوه وأشعاره في الشجاعة تدل على مكانه منها قتل في بعض وقائع الخوارج
الطبقة الثالثة
معن بن زائدة الشيباني قتله الخوارج بسجستان في ايام المهدي الوليد بن طريف الشيباني قتله يزيد بن مزيد عمرو بن حنيف كان من الفرسان المعدودة نقل عنه أنه كان يتصيد فتتبع حمار وحش وما زال يركض إلى أن حاذاه فجمع رجليه ووثب من على فرسه وصار على ظهر حمار الوحش وصار يحز عنقه بسيف أو سكين في يده حتى قتله أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي فارس بطل شاعر نديم جامع لما تفرق في غيره طعن فارسين رديفين فأنفذ الرمح من ظهريهما وحمل برمحه أربعة نفر وفيه يقول بكر بن النطاح
( قالوا وينظم فارسين بطعنه ... يوم اللقاء ولا يراه جليلا )
( لا تعجبوا لو كان مد قناته ... ميلا إذا نظم الفوراس ميلا )
وسأله يوما رجل شيئا فقال له اتسأل وجدك القائل

( ومن يفتقر منا يعش بحسامه ... ومن يفتقر من سائر الناس يسأل )
( وإنا لنلهو بالسيوف كما لهت ... فتاة بعقد أو سحاب قرنفل )
فخرج الرجل فجرد سيفه فلم يصادفه في طريقه إلا وكيل لأبي دلف ومعه مال جزيل فاستلبه منه وقتله فبلغ الخبر أبا دلف فقال دعوه فإني علمته على نفسي بكر بن النطاح بطل شجاع فارس فاتك له اشعار مشهورة واخبار مذكورة
ومما جاء في مدح السيف
قال رسول الله الخير في السيف والخير مع السيف والخير بالسيف وكان صمصام عمرو أشهر سيوف العرب وممن تمثل به نهشل فقال
( أخ ماجد ما خانني يوم مشهد ... كما سيف عمرو لم تخنه مضاربة )
ولما وهبه عمرو لخالد بن سعيد بن العاص عامل رسول الله على اليمن قال
( خليلي لم أخنه ولم يخني ... إذا ما صاب أوساط العظام )
( خليلي لمأهبه من قلاه ... ولكن المواهب للكرام )
( حبوت به كريما من قريش ... فسر به وصين عن اللئام )
( وودعت الصفي صفي نفسي ... على الصمصام أضعاف السلام )
ولم يزل في آل سعيد حتى اشتراه خالد بن عبد الله القسري بمال جزيل لهشام وكان قد كتب إليه فيه فلم يزل عند بني مروان ثم طلبه السفاح والمنصور والمهدي فلم يجدوه فجد الهادي في طلبه حتى ظفر به وكان مكتوبا عليه هذا البيت
( ذكر على ذكر يصول بصارم ... ذكر يمان في يمين يماني )
وقال ابن الرومي
( لم أر شيئا حاضرا نفعه ... للمرء كالدرهم والسيف )

( يقضي له الدرهم حاجاته ... والسيف يحميه من الحيف )
وقال زيد بن علي رضي الله عنهما
( السيف يعرف عزمي عند هزته ... والرمح بن خبر والله لي وزر )
( إنا لنأمل ما كانت أوائلنا ... من قبل تأمله إن ساعد القدر )
وقال عبدالله بن طاهر
( يبيت ضجيعي السيف طورا وتارة ... يعض بهامات الرجال مضاربة )
( أخو ثقة أرضاه في الروع صاحبا ... وفوق رضاه إنني أنا صاحبه )
( وليس أخو العلياء إلا فتى له ... بها كلف ما تستقر ركائبه )
وقدم عروة بن الزبير على عبد الملك بن مروان بعد قتل أخيه عبد الله فطلب منه سيف الزبير وقال له رده علي فإنه السيف الذي أعطاه رسول الله له يوم حنين فقال له عبد الملك أو تعرفه قال نعم قال بماذا قال أعرفه بما لا تعرف به سيف أبيك أعرفه بقول الشاعر
( ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب )
وقال الاجدع الهمداني
( لقد علمت نسوان همدان أنني ... لهن غداة الروع غير خذول )
( وأبذل في الهجاء وجهي وإنني ... له في سوى الهيجاء غير بذول )
وقال آخر
( عشرون الف فتى ما منهم أحد ... إلا كالف فتى مقدامة بطل )
( راحت مزاودهم مملوءة أملا ... ففرغوها وأوكوها من الاجل )

ومن أخبار الشجعان ما حكاه الفضل بن يزيد
قال نزل علينا بنو ثعلب في بعض السنين وكنت مشغوفا بأخبار العرب أن اسمعها وأجمعها فبينما أنا ادور في بعض احيائهم إذا أنا بامرأة واقفة في فناء خبائها وهي آخذة بيد غلام قلما رأيت مثله في حسنه وجماله له ذؤابتان كالسبج المنظوم وهي تعاتبه بلسان رطب وكلام عذب تحن إليه الاسماع وترتاح له القلوب وأكثر ما أسمع منها اي بني وهو يبتسم في وجهها قد غلب عليه الحياء والخجل كأنه جارية بكر لا يرد جوابا فاستحسنت ما رأيت واستحليت ما سمعت فدنوت منه وسلمت فرد علي السلام فوقفت انظر إليها فقالت يا حضري ما حاجتك فقلت الإستكثار مما اسمع والإستمتاع بما أرى من هذا الغلام فقالت يا حضري إن شئت سقت اليك من خبره ما هو أحسن من منظره فقلت قد شئت يرحمك الله فقالت حملته والرزق عسر والعيش نكد حملا خفيفا حتى مضت له تسعة أشهر وشاء الله عز و جل أن اضعه فوضعته خلقا سويا فوربك ما هو إلا أن صار ثالث أبويه حتى أفضل الله عز و جل وأعطى وأتى من الرزق بما كفى وأغنى ثم أرضعته حولين كاملين فلما استتم الرضاع نقلته من خرق المهد إلى فراش أبيه فربي كأنه شبل أسد أقيه برد الشتاء وحر الهجير حاتى اذا مضت له خمس سنين أسلمته إلى المؤدب فحفظه القرآن فتلاه وعلمه الشعر فرواه ورغب في مفاخر قومه وآبائه وأجداده فلما أن بلغ الحلم واشتد عظمه وكمل خلقه حملته على عتاق الخيل فتفرس وتمرس ولبس السلاح ومشى بين بويتات الحي الخيلاء فأخذ في قرى الضيف وإطعام الطعام وأنا عليه وجلة أشفق عليه من العيون أن تصيبه فاتفق أن نزلنا بمنهل من المناهل بين أحياء العرب فخرج فتيان الحي في طلب ثأر لهم وشاء الله تعالى أن اصابته وعكة

شغلته عن الخروج حتى إذا أمعن القوم ولم يبق في الحي غيره ونحن آمنون وادعون ما هو إلا ان ادبر الليل وأسفر الصباح حتى طلعت علينا غرر الجياد وطلائع العدو فما هو إلا هنيهة حتى احرزوا الاموال دون أهلها وهو يسألني عن الصوت وأنا استر عنه الخبر إشفاقا عليه وضنا به حتى إذا علت الاصوات وبرزت المخدرات رمى دثاره وثار كما يثور الأسد وأمر باسراج فرسه ولبس لأمة حربه وأخذ رمحه بيده ولحق حماة القوم فطعن أدناهم منه فرمى به ولحق أبعدهم منه فقتله فانصرفت وجوه الفرسان فرأوه صبيا صغيرا لا مدد وراءه فحملوا عليه فأقبل يؤم البيوت ونحن ندعو الله عز و جل له بالسلامة حتى إذا مدهم وراءه وامتدوا في أثره عطف عليهم ففرق شملهم وشتت جمعهم وقلل كثرتهم ومزقهم كل ممزق ومرق كما يمرق السهم وناداهم خلوا عن المال فوالله لا رجعت إلا به أو لأهلكن دونه فانصرفت إليه الاقران وتمايلت نحوه الفرسان وتميزت له الفتيان وحملوا عليه وقد رفعوا إليه الاسنة وعطفوا عليه بالأعنة فوثب عليهم وهو يهدر كما يهدر الفحل من وراء الابل وجعل لا يحمل على ناحية إلا حطمها ولا كتيبة إلا مزقها حتى لم يبق من القوم إلا من نجا به فرسه ثم ساق المال وأقبل به فكبر القوم عند رؤيته وفرح الناس بسلامته فوالله ما رأينا قط يوما كان اسمح صباحا وأحسن رواحا من ذلك اليوم ولقد سمعته يقول في وجوه فتيان الحي هذه الابيات
( تأملن فعلي هل رأيتن مثله ... إذا حشرجت نفس الجبان من الكرب )
( وضاقت عليه الأرض حتى كأنه ... من الخوف مسلوب العزيمة والقلب )
( ألم اعط كلا حقه ونصيبه ... من السمهري اللدن والمرهف العضب )
( أنا ابن أبي هند بن قيس بن مالك ... سليل المعالي والمكارم والسيب )
( أبي لي أن اعطي الظلامة مرهف ... وطرف قوي الظهر والجوف والجنب )

( وعزم صحيح لو ضربت بحده الجبال ... الرواسي لانحططن إلى الترب )
( وعرض نقي اتقى أن اعيبه ... وبيت شريف في ذرى ثعلب الغلب )
( فإن لم أقاتل دونكن واحتمي لكن وأحميكن بالطعن والضرب )
( فلا صدق اللاتي مشين إلى أبي ... يهنيه بالفارس البطل الندب
وقال الشاعر
( آراؤهم ووجوههم وسيوفهم ... في الحادثات إذا دجون نجوم )
( منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم )
وقال آخر
( فوارس قوالون للخيل اقدمي وليس على غير الرءوس مجال )
( بأيديهم سمر العوالي كأنما ... تشيب على أطرافهن ذبال )
وقال آخر
( قوم إذا اقتحموا العجاج رأيتهم ... شمسا وخلت وجوههم أقمارا )
( لا يعدلون برفدهم عن سائل ... عدل الزمان عليهم أو جارا )
( وإذا الصريخ دعاهم لملمة ... بذلوا النفوس وفارقوا الاعمارا )
ذكر الجبن والجبناء وأخبارهم وما جاء عنهم
قد استعاذ سيدنا رسول الله من الجبن فقال اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال نعوذ بالله مما استعاذ منه سيد الخلق رسول الله ويكفيك ان يقال في وصف الجبان إن احس بعصفور طار فؤاده وإن طنت بعوضة طال سهاده يفزع

من صرير الباب ويقلق من طنين الذباب إن نظر إليه شزرا أغمي عليه شهرا يحسب خفوق الرياح قعقعة الرماح قال الشاعر
( إذا صوت العصفور طار فؤاده ... وليث حديد الناب عند الثرائد )
وكان حسان بن ثابت رضي الله عنه من الجبناء روي عن ابن الزبير أنه قال كان حسان في قاع أطم مع النساء يوم الخندق فأتاهم في ذلك اليوم يهودي يطوف بالحصن فقالت صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطوف بالحصن وإني والله ما آمنه أن يدل على عوراتنا من وراءه من اليهود فأنزل إليه فاقتله فقال يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا قال فاعتجرت صفية ثم أخذت عمودا ونزلت من الحصن فضربته بالعمود حتى قتلته ورجعت إلىالحصن فقالت يا حسان قم إليه فاسلبه فإنه ما منعني من سلبه إلا أنه رجل فقال مالي بسلبه من حاجة
وقيل كان لفتى من قريش جارية مليحة الوجه حسنة الادب وكان يحبها حبا شديدا فأصابته إضاقة وفاقه فاحتاج إلى ثمنها فحملها إلى العراق وكان ذلك في زمن الحجاج بن يوسف فابتاعها منه الحجاج فوقعت منه بمنزلة فقدم عليه فتى من ثقيف من أقاربه فأنزله قريبا منه وأحسن إليه فدخل على الحجاج والجارية تكبسه وكان الفتى جميلا فجعلت الجارية تسارقه النظر ففطن الحجاج بها فوهبها له فأخذها وانصرف فباتت معه ليلتها وهربت بغلس فأصبح لا يدري أين هي وبلغ الحجاج ذلك فأمر مناديا أن ينادي برئت الذمة ممن رأى وصيفة من صفتها كذا وكذا أولم يحضرها فلم يلبث أن اتي له بها فقال لها الحجاج يا عدوة الله كنت عندي من أحب الناس إلي فاخترت ابن عمي شابا حسن الوجه ورأيتك تسارقينه النظر فعلمت أنك شغفت

به فوهبتك له فهربت من ليلتك فقالت يا سيدي اسمع قصتي ثم اصنع بي ماشئت قال هاتي ولا تخفى شيئا قالت كنت للفتى القرشي فاحتاج إلي ثمني فحملني إلى الكوفة فلما قربنا منها دنا مني فوقع علي فسمع زئير الاسد فوثب واخترط سيفه وحمل عليه وضربه فقتله وأتى برأسه ثم أقبل علي وما برد ما عنده ثم قضى حاجته وإن ابن عمك هذا الذي اخترته لي لما أظلم الليل قام إلي فلما علا بطني وقعت فأرة من السقف فضرط ثم غشي عليه فمكث زمانا طويلا وأنا أرش عليه الماء وهو لا يفيق فخفت أن يموت فتتهمني به فهربت فزعا منك فما ملك الحجاج نفسه من شدة الضحك وقال ويحك اكتمي هذا ولا تعلمي به أحدا قالت على ان لا تردني إليه قال لك ذلك
وحدث جار لأبي حنيفة النميري قال كان لأبي حنيفة سيف ليس بينه وبين العصا فرق وكان يسميه لعاب المنية فأشرفت عليه ذات ليلة وقد انتضاه وهو واقف على باب بيته وقد سمع حسا في دراه وهو يقول أيها المغتر بنا المجتريء علينا بئس والله ما اخترت لنفسك خير قليل وسيف صقيل وهو لعاب المنية الذي سمعت به أخرج بالعفو عنك قبل أن ادخل بالعقوبة عليك ثم فتح الباب على وجل فإذا كلب قد خرج فقال الحمد لله الذي مسخك كلبا وكفانا حربا وخرج المعتصم يوما إلى بعض متصيداته فظهر له أسد فقال لرجل من أصحابه اعجبه قوامه وسلاحه وتمام خلقه أفيك خيرا يا رجل قال لا فضحك المعتصم وقال قبح الله الجبان ورأى الإسكندر سميا له لا يزال ينهزم فقال له يا رجل إما أن تغير فعلك وإما أن تغير إسمك ووقع في بعض العساكر ضجة فوثب خراساني إلى دابته ليلجمها فصير اللجام في الذنب من الدهش وقال يخاطب الفرس هب جبهتك عرضت فناصيتك كيف طالت
وخرج أسلم بن زرعة الكلابي في الفين لمحاربة أبي بلال مرداس وكان مرداس في أربعين فانهزم اسلم منه فلاموه على ذلك وذمة

ابن أبي زياد فقال لأن يذمني ابن أبي زياد حيا أحب إلي من أن يمدحني ميتا وكان أسلم بعد ذلك إذا خرج إلى السوق ومر بصبيان صاحوا به أبو بلال وراءك فكبر ذلك عليه فشكاهم إلى ابن أبي زياد فأمر صاحب الشرطة أن يكفهم عنه وفي ذلك يقول بعضهم شعرا
( يقول جبان القوم في حال سكره ... وقد شرب الصهباء هل من مبارز )
( وأين الخيول الاعوجيات في الوغى ... أنازل منهم كل ليث مناهز )
( ففي السكر قيس وابن معدي وعامر ... وفي الصحو تلقاء كبعض العجائز )
هذا ما انتهى إلينا من هذا الباب والحمد لله الكريم الوهاب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطاهرين والحمد لله رب العالمين

الباب الثاني والاربعون في المدح والثناء وشكر النعمة والمكافأة وفيه فصول الفصل الأول
في المدح والثناء
المدح وصف الممدوح بأخلاق يمدح عليها صاحبها يكون نعتا حميدا وهذا يصح من المولى في حق عبده فقد قال الله تعالى في حق نبيه أيوب عليه الصلاة و السلام ( إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب ) وقال تعالى لنبيه محمد ( وإنك لعلى خلق عظيم ) و قال تعالى ( قد افلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ) إلى آخر الآية فعلى هذا يجوز مدح الإنسان بما فيه من الأخلاق الحميدة و أما قوله إذا رأيتم المادحين فاحثوا في وجوههم التراب فقد قال العتبي هو المدح الباطل والكذب واما مدح الرجل بما فيه فلا بأس به وقد مدح أبو طالب والعباس وحسان وكعب وغيرهم رسول الله ولم يبلغنا أنه حثا في وجه مادح ترابا وقد مدح هو المهاجرين و الأنصار رضي الله عنهم وفي حثو التراب معنيان أحدهما التغليظ في الرد عليه والثاني كأنه يقال له يكفيك التراب وكان ابو بكر الصديق رضي الله عنه إذا مدح قال اللهم أنت اعلم بي من نفسي

وأنا أعلم بنفسي منهم اللهم اجعلني خيرا مما يحسبون واغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون ومدح سارية الديلي رسول الله وهو سارية الذي أمره عمر رضي الله عنه على السرية وناداه في خطبته بقوله يا سارية الجبل فمن مدحه في رسول الله قوله
( فما حملت من ناقة فوق ظهرها ... ابر وأوفى ذمة من محمد )
وهو اصدق بيت قالته العرب ومن أحسن ما مدحه به حسان رضي الله عنه قوله
( وأحسن منك لم تر قط عيني ... وأجمل منك لم تلد النساء )
( خلقت مبرأ من كل عيب ... كأنك قد خلقت كما تشاء )
ومن احسن ما مدحه به عبدالله بن رواحة الانصاري رضي الله عنه قوله
( لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تنبيك بالخبر )
ولما حججت وزرته تطفلت على جنابه المعظم وامتداحته بأبيات مطولة وأنشدتها بين يديه بالحجرة الشريفة تجاه الصندوق الشريف وأنا مكشوف الرأس وأبكى من جملتها
( يا سيد السادات جئتك قاصدا ... ارجو رضاك وأحتمي بحماكا )
( والله يا خير الخلائق إن لي ... قلبا مشوقا لايروم سواكا )
( ووحق جاهك إنني بك مغرم ... والله يعلم إنني اهواكا )
( أنت الذي لولاك ما خلق امرؤ ... كلا ولا خلق الورى لولاكا )
( أنت الذي من نورك البدر اكتسى ... والشمس مشرقة بنور بهاكا )
( أنت الذي لما رفعت إلى السما ... بك قد سمت وتزينت لسراكا )
( أنت الذي ناداك ربك مرحبا ... ولقد دعاك لقربه وحباكا )
( أنت الذي فينا سألت شفاعة ... ناداك ربك لم تكن لسواكا )
( أنت الذي لما توسل آدم ... من ذنبه بك فاز وهو اباك )

( وبك الخليل دعا فعادت ناره ... بردا وقد خمدت بنور سناكا )
( ودعاك ايوب لضر مسه ... فأزيل عنه الضر حين دعاكا )
( وبك المسيح اتى بشيرا مخبرا ... بصفات حسنك مادحا لعلاكا )
( وكذاك موسى لم يزل متوسلا ... بك في القيامة مرتج لنداكا )
( والانبياء وكل خلق في الورى ... والرسل والاملاك تحت لواكا )
( لك معجزات أعجزت كل الورى ... وفضائل جلت فليس تحاكى )
( نطق الذراع بسمة لك معلنا ... والضب قد لباك حين اتاكا )
( والذئب جاءك والغزالة قد أتت ... بك تستجير وتحتمي بحماكا )
( وكذا الوحوش أتت إليك وسلمت ... وشكا البعير إليك حين رآكا )
( ودعوت أشجارا اتنك مطيعة وسعت إليك مجيبة لنداكا )
( والماء فاض براحتيك وسبحت ... صم الحصى بالفضل في يمناكا )
( وعليك ظللت الغمامة في الورى ... والجذع حن إلي كريم لقاكا )
( وكذاك لااثر لمشيك في الثرى ... والصخر قد غاصت به قدماكا )
( وشفيت ذا العاهات من امراضه ... وملأت كل الارض من جدواكا )
( ورددت عين قتادة بعد العمى ... وابن الحصين شفيته بشفاكا )
( وكذا حبيب وابن عفرا عندما ... جرحا شفيتهما بلمس يداكا )
( وعلي من رمد به داويته في خيبر فشفي بطيب لماكا )
( وسألت ربك في ابن جابر بعدما ... قد مات أحياه وقد أرضاكا )
( ومسست شاة لأم معبد بعدما ... نشفت فدرت من شفا رقياكا )
( ودعوت عام المحل ربك معلنا ... فانهل قطر السحب عند دعاكا )
( ودعوت كل الخلق فانقادوا إلى ... دعواك طوعا سامعين نداكا )
( وخفضت دين الكفر يا علم الهدى ... ورفعت دينك فاستقام هناكا )
( أعداك عادوا في القليب بجهلهم ... صرعى وقد حرموا الرضا بجفاكا )

( في يوم بدر قد أتتك ملائك ... من عند ربك قاتلت أعداكا )
( والفتح جاءك يوم فتحك مكة ... والنصر في الاحزاب قد وافاكا )
( هود ويونس من بهاك تجملا ... وجمال يوسف من ضياء سناكا )
( قد فقت يا طه جميع الانبيا ... نورا فسبحان الذي سواكا )
( والله يا ياسين مثلك لم يكن ... في العالمين وحق من نباكا )
( عن وصفك الشعراء يا مدثر ... عجزوا وكلوا عن صفات علاكا )
( إنجيل عيسى قد أتى بك مخبرا ... وأتى الكتاب لنا بمدح حلاكا )
( ماذا يقول المادحون وما عسى ... أن يجمع الكتاب من معناكا )
( والله لو إن البحار مدادهم ... والعشب أقلام جعلن لذاكا )
لم تقدر الثقلان تجمع ذره ... ابدا وما استطاعوا له إدراكا )
( لي فيك قلب مغرم يا سيدي ... وحشاشة محشوة بهواكا )
( فإذا سكت ففيك صمتي كله ... وإذا نطقت فمادح علياكا )
( وإذا سمعت فعنك قولا طيبا ... وإذا نظرت فلا أرى إلاكا
( يا مالكي كن شافعي من فاقتي ... إني فقير في الورى لغناكا )
( يا أكرم الثقلين يا كنز الورى ... جد لي بجودك وارضني برضاكا )
( انا طامع في الجواد منك ولم يكن ... لابن الخطيب من الانام سواكا )
( فعساك تشفع فيه عند حسابه ... فلقد غدا مستمسكا بعراكا )
( ولأنت أكرم شافع ومشفع ... ومن التجا لحماك نال وفاكا )
( فاجعل قراي شفاعة لي في غد فعسى ارى في الحشر تحت لواكا )
( صلى عليك الله يا خير الورى ... ما حن مشتاق إلي مثواكا )
( وعلى صحابتك الكرام جميعهم ... والتابعين وكل من والاكا )
وماذا عسى أن يقول المادحون في وصف من مدحه الله تعالى وأثنى عليه وقد قال أنا سيد ولد آدم ولا فخر والله لو أن

حذف

البحار مداد والاشجار أقلام وجميع الخلائق كتاب لما استطاعوا أن يجمعوا النزر اليسير من بعض صفاته ولكلوا عن الإتيان ببعض بعض وصف معجزاته ومدح رجل هشام بن عبدالملك فقال له يا هذا إنه قد نهى عن مدح الرجل في وجهه فقال ما مدحتك ولكن ذكرتك نعم الله عليك لتجدد لها شكرا فقال له هشام هذا أحسن من المدح ووصله وأكرمه وكتب رجل إلى عبدالله بن يحيى بن خاقان رأيت نفسي فيما أتعاطى من مدحك كالمخبر عن وضوء النهار الباهر والقمر الزاهر وايقنت أني حيث انتهى من القول منسوب إلى العجز مقصر عن الغاية فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك العجز مقصر عن الغاية فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك وقال الحرث بن ربيعة في رجل من آل المهلب
( فتى دهره شطران فيما ينوبه ... ففي بأسه شطر وفي وجوه شطر )
( فلا من بغاه الخير في عينه قذى ... ولا من زئير الحرب في أذنه وقر )
وقال أعرابي لرجل لا يذم بلد أنت تأويله ولا يشتكي زمان أنت فيه وكان الحجاج يستثقل زياد بن عمرو العكلي فلما قدم على عبدالملك بن مروان قال يا أمير المؤمنين إن الحجاج سيفك الذي لاينبو وسهمك الذي يبطش وخادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم فلم يكن بعد ذلك على قلب الحجاج أخف منه وقال رجل لآخر أنت بستان الدنيا فقال له وأنت النهر الذي يسقى منه ذلك البستان وقال رجل لأبي عمرو الزاهد صاحب كتاب الياقوتة في اللغة أنت والله عين الدنيا فقال له وأنت والله نور تلك العين وقال القاسم بن أمية بن أبي الصلت الثقفي
( قوم إذا نزل الغريب بدارهم ... تركوه رب صواهل وقيان )
( وإذا دعوتهم ليوم كريهة ... سدوا شعاع الشمس بالفرسان )

وقال أوس بن حاتم الطائي
( فإن تنكحي مادية الخير حاتما ... فما مثله فينا ولا في الأعاجم )
( فتى لا يزال الدهر أكبر همه فكاك أسير أو معونة غارم ) وقال ابن حمدون في آل المهلب
( آل المهلب معشر أمجاد ... ورثوا المكارم والوفاء فسادوا )
( شاد المهلب ما بنى آباؤه ... وأتى بنوه ما بناه فشادوا )
( وكذاك من طابت مغارس نبته ... وبنى له الآباء والأجداد )
وكان الفرزدق هجاء لعمر بن هبيرة فلما سجن ونقب له السجن وسار هو وبنوه تحت الأرض قال الفرزدق
( ولما رأيت الارض قد سد ظهرها ... ولم يبق إلا بطنها لك مخرجا )
( دعوت الذي ناداه يونس بعدما ... ثوى في ثلاث مظلمات ففرجا )
فقال ابن هبيرة ما رأيت أشرف من الفرزدق هجاني أميرا ومدحني أسيرا وقال سري بن عبد الرحمن الرفاء في خالد بن حاتم
( يا واحد العرب الذي دانت له ... قحطان قاطبة وساد نزارا )
( إني لأرجوا إن لقيتك سالما ... أن لا أعالج بعدك الاسفارا )
وقال كعب بن مالك الأنصاري في آل هاشم
( يا آل هاشم الإله حباكم ... ما ليس يبلغه اللسان المفصل )
( قوم لأصلهم السيادة كلها ... قدما وفرعهم النبي المرسل )
وقال الحسين بن دعبل الخزامي
( ملك الامور بجودة وحسامه ... شرفا يقود عدوه بزمامه )
( فأطاع أمر الجود في أمواله ... وأطاع أمر الله في أحكامه )

وقال آخر
( يلقي السيوف بصدره وبنحره ... ويقيم هامته مقام المغفر )
( ويقول للطرف اصطبر لسني القنا ... فعقرت ركن المجد إن لم تعقر )
( وإذا تراءى شخص ضيف مقبل ... مستربل أثواب محل أغبر )
( اومي إلى الكوماء هذا طارق ... نحرتني الاعداء إن لم تنحر )
وقال شاعر بني تميم
إذا لبسوا عمائمهم طووها ... على كرم وإن سفروا أناروا )
( يبيع ويشتري لهم سواهم ... ولكن بالطعان هم تجار )
( إذا ما كنت جار بني تميم ... فأنت لأكرم الثقلين جار
وقالت امرأة من بني نمير وقد حضرتها الوفاة وأهلها مجتمهون من ذا الذي يقول
( لعمري ما رماح بني نمير ... بطائشة الصدور ولا قصار )
قالوا زياد الاعجم قالت أشهدكم أن له الثلث من مالي وكان مالا كثيرا وأثني رجل على رجل فقال هو أفصح أهل زمانه إذا حدث وأحسنهم استماعا إذا حدث وأمسكهم عن الملاحاة إذا خولف يعطي صديقه النافلة ولا يسأله الفريضة له نفس عن الفحشاء محصورة وعلى المعالي مقصورة كالذهب الإبريز الذي يعز كل أوان والشمس المنيرة التي لا تخفى بكل مكان هو النجم المضيء للحيران والمنهل البارد العذب للعطشان وقال الحسن بن هانيء
( إذا نحن أثنينا عليك بصالح ... فأنت كما نثنى وفوق الذي نثني )
( وإن جرت الألفاظ يوما بمدحه ... لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني )

وله في الفضل بن الربيع
لقد نزلت أبا العباس منزلة ... ما إن ترى خلفها الابصار مطرحا
( وكلت بالدهر عينا غير غافلة ... بجود كفك تأسو كل ما جرحا )
وقال زياد الأعجم في محمد بن القاسم الثقفي
( إن المنابر أصبحت مختالة ... بمحمد بن القاسم بن محمد )
( قاد الجيوش لسبع عشرة حجة ... يا قرب سورة سؤدد من مولد )
ومن بدائع مدائح المتنبي قوله
( ليت المدائح تستوفي مناقبه ... فما كليب وأهل الاعصر الأول )
( خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل وقد وجدت مكان القول ذا سعة فإن وجدت لسانا قائلا فقل
ومدح أبو العتاهية عمرو بن العلاء فأعطاه سبعين الفا وخلع عليه خلعا سنية حتى إنه لم يستطع أن يقوم فغار الشعراء منه فجمعهم وقال يا لله العجب ما اشد حسد بعضكم لبعض إن أحدكم يأتينا ليمدحنا فيتغزل في قصيدته بخمسين بيتا فما يبلغنا حتى يذهب رونق شعره وقد تشبب أبو العتاهية بأبيات يسيرة ثم قال
( إني أمنت من الزمان وصرفه ... لما علقت من الأمير حبالا )
( لو يستطيع الناس من إجلاله ... جعلوا له حر الوجوه نعالا )
( إن المطايا تشتكيك لأنها قطعت إليك سباسبا ورمالا )
( فإذا وردن بنا وردن خفائفا ... وإذا صدرن بنا صدرن ثقالا )
( ووفد أبو نواس على الخصيب بمصر فأذن له وعنده الشعراء فانشد الشعراء أشعارهم فلما فرغوا قال ابو نواس أنشد إيها الأمير

قصيدة هي كعصا موسى تلقف ما صنعوا قال أنشدها فأنشده قصيدته التي منها قوله
( إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا ... فأي فتى بعد الخصيب نزور )
( فتى يشتري حسن الثناء بماله ... ويعلم أن الدائرات تدور )
( فما فاته جود ولا ضل دونه ... ولكن يسير الجود حيث يسير )
فاهتز الخصيب لها طربا وأمر له بألف دينار ووصيف ووصيفة
حكى أن أبا دلف سار يوما مع أخيه معقل فرأيا امرأتين تتماشيان فقالت إحداهما للأخرى هذا أبو دلف قالت نعم الذي يقول فيه الشاعر
( إنما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره )
( فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره )
فبكى ابو دلف حتى جرت دموعه فقال له معقل ملك يا أخي تبكي فقال لأني لم أقض حق الذي قال هذا قال أولم تعطه مائة ألف درهم قال والله ما في نفسي حسرة إلا لكوني لم اعطه مائة ألف دينار ويقال هذه المدحة فأين المنحة قال بعضهم
( إذا ما المدح صار بلا نوال ... من الممدوح كان هو الهجاء )
وامتدح محمد بن سلطان المعروف بابن جيوش محمد بن نصر صاحب حلب فأجازه بألف دينار ثم مات محمد بن نصر وقام ولده نصر مقامه فقصده محمد بن سلطان بقصيدة مدحة بها منها
( تباعدت عنكم حرمة لازهادة ... وسرت إليكم حين مسني الضر )
( فجاء أبو نصر بألف تصرمت ... وإني عليم أن سيخلفها نصر )
فلما فرغ من إنشادها قال نصر والله لو قال سيضعفها نصر

لاضعفتها له وأعطاه ألف دينار في طبق فضة ومدح بعض الشعراء وقيل هو البديع الهمذاني إنسانا فقال
( يكاد يحكيه صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا )
( والدهر لم لم يخن والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا )
وقال آخر
( أخو كرم يفضي الورى من بساطة ... إلى روض مجد بالسماح مجود )
( وكم لجباه الراغبين لديه من ... مجال سجود في مجالس جود )
ويقال فلان رقيق الجود ودخيله وزميل الكرم ونزيله وغزة الدهر وتحجيله مواهبه الانواء وصدره الدهناء عونه موقوف على اللهيف وغوثه مبذول للضعيف يطفو جوده على موجوده وهمته على قدرته ينابيع الجود تتفجر من أنامله وربيع السماح يضحك عن فواضله إن طلبت كريما في جوده مت قبل وجوده أو ماجدا في أخلاقه مت ولم تلاقه باسل تعود الاقدام حيث تزل الاقدام وشجاع يرى الاحجام عارا لا تمحوه الايام له خلق لو مازح البحر لنفي ملوحته وصفى كدورته خلق كنسيم الاشجار على صفحات الانهار واطيب من زمن الورد في الايام وأبهج من نور البدر في الظلام خلق يجمع الاهواء المتفرقة على محبته ويؤلف الآراء المتشتتة في مودته هو ملح الأرض إذا فسدت وعمارة الدنيا إذا خربت يحل دقائق الأشكال ويزيل جلائل الاشكال البيان أصغر صفاته والبلاغة عنوان خطراته كأنما أوحي التوفيق إلى صدره وحبس الصواب بين طبعه وفكره فهو يبعث بالكلام ويقوده بألين زمام حتى كأن الالفاظ تتحاسد في التسابق إلى خواطره والمعاني تتغاير في الإمتثال لأوامره يوجز فلا يخل ويطنب فلا يمل كلامه يشتد مرة حتى تقول الصخر أو أيبس ويلين

تارة حتى تقول الماء أو اسلس فهو إذا أنشأ وشى وإذا عبر حبر وإذا أوجز اعجز تاهت به الايام وباهت في يمينه الاقلام له أدب لو تصور شخصا لكان بالقلوب مختصا قال الشاعر
( له خلق على الايام يصفو ... كما تصفو على الزمن العقار ) وقال آخر
( لو كان يحوي الروض ناضر خلقه ... ما كان يذبل نوره بشتائه )
( أو قابل الافلاك طالع سعده ... ماصار نحس في نجوم سمائه ) وقال آخر
( ووجهك بدر في الغياهب مشرق ... وكفك في شهب السنين غمام )
( عجيب لبدر لا يزال أمامه ... سحاب ولا يغشاه منه ظلام واعجب من هذا غمام إذا سطا ... تلظى مكان البرق منه حسام )
وقال الحسين بن مطير الأسدي
( له يوم بؤس فيه الناس ابؤس ... ويوم نعيم فيه للناس انعم )
( فيمطر يوم الجود من كفه الندى ... ويمطر يوم البؤس من كفه الدم )
( فلو أن يوم البؤس خلى عقابه ... على الناس لم يصبح على الارض مجرم )
( ولو ان يوم الجود خلى يمينه ... عن المال لم يصبح على الارض معدم )
وللشيخ جمال الدين بن نباته
( والله ما عجبي لقدرك إنه ... قدر على باغي مداه بعيد )
( إلا لكونك لست تشكو وحشة ... في هذه الدنيا وأنت وحيد )

ولصفي الدين الحلي
( اثني فتتنيني صفاتك مظهرا ... عيا وكم أعيت صفاتك خاطبا )
( لو أنني والخلق جميعا ألسن ... نثني عليك لما قضينا الواجبا )
وللشيخ برهان الدين القيراطي
( اوصافكم تجري أحاديثها ... مجرى النجوم الزهر في الافق )
( كما أحاديث الندى عنكم ... تسندها الركبان من طرق )
وللشيخ جمال الدين بن نباته
( روت عنك اخبار المعالي محاسنا ... كفت بلسان الحال عن السن الحمد )
( فوجهك عن بشر وكفك عن عطا ... وخلقك عن نبل ورأيك عن سعد )
وقال غيره
( من زار بابك لم تبرح جوارحه ... تروي أحاديث ما اوليت من منن )
( فالعين عن قرة والكف عن صلة ... والقلب عن جابر والسمع عن حسن )
ولأبي فراس بن حمدان
( لئن خلق الانام لحب كأس ... ومزمار وطنبور وعود )
( فلم يخلق بنو حمدان الا ... لمجد او لبأس أو لجود )
وقال آخر
( إن الهبات التي جاد الكرام بها ... مطروقة وندى كفيك مبتكر )
( ما زلت تسبق حتى قال حاسدكم ... له طريق إلى العلياء مقتصر ) ولمحمد بن مناذر في آل برمك
( أتانا بنو الأملاك من آل برمك ... فيا طيب أخبار وأحسن منظر )
( لهم رحلة في كل عام إلى الندا ... وأخرى إلى البيت العتيق المنور )

( إذا نزلوا بطحاء مكة أشرقت ... بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر )
( فما خلقت إلا لجود أكفهم ... واقدمهم إلا لسعي مظفر )
( إذا رام يحيى الامر ذلت صعابه ... وناهيك من داع له ومدبر )
ولما عزل إبراهيم بن المنذر عن صدقات البصرة تلقاء مجنون وأنشد
( ليت شعري اي قوم أجدبوا ... فأغيثوا بك من بعد العجف )
( نظر الله لهم من بيننا ... وحرمناك بذنب قد سلف )
( يا ابا إسحاق سر في دعه ... وامض مصحوبا فما منك خلف )
( إنما أنت ربيع باكر ... حيثما صرفه الله انصرف ) وقال آخر
( لو كان يقعد فوق الشمس وارتفعوا ... قوم لقيل اقعدوا يا آل عباس )
( ثم ارتقوا في شعاع الشمس وارتفعوا ... إلى السماء فأنتم سادة الناس )
وللحسين بن مطير الاسدي في المهدي
( ويعبد الناس يا مهدي افضلهم ... ما كان في الناس إلا أنت معبود )
( أضحت يمينك من وجود مصورة ... لا بل يمينك منها صور الجود )
( لو أن من نوره مثقال خردلة ... في السود طرا إذن لابيضت السود ) وقال آخر
( أوليتني نعما وفضلا زائدا ... وبررتني حتى رأيتك والدا )
( أقسمت لو جاز السجود لمنعم ... ما كنت إلا راكعا لك ساجدا )
وقال آخر ثناؤك في الدنيا من المسك أعطر ... وحظك في الدنيا جزيل موقر )
( وكفك بحر والانامل أنهر ... وعى الله كفا فيه بحر وأنهر )

أعيذك بالرحمن من كل حاسد ... فلا زالت الحساد تغبى وتصغر )
( لساني قصير في مديحك سيدي ... لأني فقير والفقير مقصر )
الفصل الثاني من هذا الباب
في شكر النعمة
أما الشكر الواجب على جميع الخلائق فشكر القلب وهو ان يعلم العبد أن النعمة من الله عز و جل وأن لا نعمة على الخلق من أهل السموات والارض إلا وبدايتها من الله تعالى حتى يكون الشكر لله عن نفسك وعن غيرك والدليل على ان الشكر محله القلب وهو المعرفة قوله تعالى ( وما بكم من نعمة فمن الله ) أيقنوا أنها من الله وقيل الشكر معرفة العجز عن الشكر وقد روى أن داود عليه السلام قال إلهي كيف أشكرك وشكري لك نعمة من عندك فأوحى الله تعالى إليه الآن قد شكرتني وفي هذا يقال الشكر على الشكر أتم الشكر ولمحمود الوراق
( إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... علي له في مثلها يجب الشكر )
( فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ... وإن طالت الايام واتصل العمر )
( إذا مس بالسراء عم سرورها ... وإن مس بالضراء أعقبها الاجر )
( فما منهما إلا له فيه نعمة ... تضيق بها الأوهام والسر والجهر )
وفي مناجاة موسى عليه السلام إلهي خلقت آدم بيدك وفعلت وفعلت فكيف شكرك فقال إعلم إن ذلك مني فكانت معرفته بذلك شكره لي وأما شكر اللسان فقد قال الله تعالى ( وأما بنعمة ربك فحدث ) ويروى عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه قال قال رسول الله من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير

ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله والتحدث بالنعم شكر وقال عمر ابن عبدالعزيز رضي الله عنه تذكروا النعم فإن ذكرها شكر وأما الشكر الذي في الجوارح فقد قال الله تعالى ( اعملوا آل داود شكرا ) الآية فجعل العمل شكرا وروي ان النبي قام حتى تورمت قدماه فقيل له يا رسول الله أتفعل هذا بنفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا أكون عبدا لله شكورا وقال أبو هرون دخلت على ابي حازم فقلت له يرحمك الله ما شكر العينين قال إذا رأيت بهما خيرا ذكرته وإذا رأيت بهما شرا سترته قلت فما شكر الأذنين قال إذا سمعت بهما خيرا حفظته وإذا سمعت بهما شرا نسيته وفي حكمه إدريس عليه الصلاة و السلام لن يستطيع أحد أن يشكر الله على نعمة بمثل الأنعام على خلقه ليكون صانعا إلى الخلق مثل ما صنع الخالق إليه فإذا أردت تحرس دوام النعمة من الله تعالى عليك فأدم مواساة الفقراء وقد وعد الله تعالى عباده بالزيادة على الشكر فقال تعالى ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) وقد جعل لعبادة علامة يعرف بها الشاكر فمن لم يظهر عليه المزيد علمنا أنه لم يشكر فإذا رأينا الغني يشكر الله تعالى بلسانه وماله في نقصان علمنا أنه قد خل بالشكر إما أنه لا يزكى ماله أو يزكيه لغير أهله أو يؤخره عن وقته أو يمنع حقا واجبا عليه من كسوة عريان أو إطعام جائع أو شبه ذلك فيدخل في قول النبي لو صدق السائل ماأفلح من رده قال الله تعالى ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا مابأنفسهم ) وإذا غيروا مابهم من الطاعات غير الله ما بهم من الإحسان وقال بعض الحكماء من أعطى أربعا لم يمنع من أربع من أعطى الشكر لا يمنع المزيد ومن أعطى التوبة لا يمنع القبول ومن أعطى الإستخارة لم يمنع الخيرة ومن أعطى المشورة لم يمنع الصواب وقال المغيرة بن شعبة أشكر من أنعم عليك وأنعم على من شكرك فإنه لا بقاء

للنعم إذا كفرت ولا زوال لهاإذا شكرت وكان يقول الحسن ابن آدم متى تنفك من شكر النعمة وأنت مرتهن بها كلما شكرت نعمة تجد ذلك بالشكر أعظم منها عليك فأنت لا تنفك بالشكر من نعمة إلا إلى ما هو أعظم منها
وروى ان عثمان بن عفان رضي الله عنه دعى إلى أقوام ليأخذهم على ريبة فافترقوا قبل أن يأخذهم عثمان فأعتق رقبة شكرا لله تعالى إذ لم يجر على يديه فضيحة مسلم ويروى أن نملة قالت لسليمان بن داود عليهما السلام يا نبي الله أنا على قدري أشكر لله منك وكان راكبا على فرس ذلول فخر ساجدا لله تعالى ثم قال لولا أني أبجلك لسألتك عن أن تنزع مني ما اعطيتني وقال صدقة بن يسار بينما داود عليه السلام في محرابه إذ مرت به دودة فتفكر في خلقها وقال ما يعبأ الله بخلق هذه فأنطقها الله تعالى له فقال له يا داود تعجبك نفسك وأنا على قدر ما آتاني الله تعالى أذكر لله وأشكر له منك على ما آتاك وقال علي رضي الله عنه احذروا انفار النعم فما كل شارد مردود وعنه عليه السلام إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا اتصالها بقلة الشكر وقيل إذا قصرت يداك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر وقال حكيم الشكر ثلاث منازل ضمير القلب ونشر اللسان ومكافأة اليد قال الشاعر
( أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا )
وقال ابن عائشة كان يقال ما أنعم الله على عبد نعمة فظلم بها إلا كان له حقا على الله تعالى أن يزيلها عنه وأنشد أبو العباس بن عمارة في المعنى

( أعارك ماله لتقوم فيه ... بواجبه وتقضي بعض حقه )
( فلم تقصد لطاعته ولكن ... قويت على معاصيه برزقه ) وقال آخر ولو ان لي في كل منبت شعرة ... لسانا يطيل الشكر كنت مقصرا )
وقال محمد بن حبيب الراوية إذا قل الشكر خسر المن وروي إذا جحدت الصنيعة خسر الإمتنان وسئل بعض الحكماء ما أضيع الاشياء قال مطر الجود في أرض سبخه لا يجف ثراها ولا ينبت مرعاها وسراج يوقد في الشمس وجارية حسناء تزف إلى اعمى وصنيعة تسدي إلي من لا يشكرها وقال عبد الأعلى بن حماد دخلت على المتوكل فقال يا أبا يحيى قد هممنا أن نصلك بخير فتدافعته الامور فقلت يا أمير المؤمنين بلغني عن جعفر بن محمد الصادق أنه قال من لم يشكر الهمة لم يشكر النعمة وأنشدته
( لأشكرن لك معروفا هممت به ... فإن همك بالمعروف معروف )
( ولاألومك إن لم يمضه قدر ... فالشر بالقدر المحتوم مصروف )
وقال أبو فراس بن حمدان
( وما نعمة مكفورة قد صنعتها ... إلى غير ذي شكر تمانعني اخرى )
( سآتي جميلا ما حييت فإنني ... إذا لم أفد شكرا أفدت به أجرا )
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من امتطى الشكر بلغ به المزيد وقيل من جعل الحمد خاتمه النعمة جعله الله فاتحة للمزيد وقال ابن السماك النعمة من الله تعالى على عبده مجهولة فإذا فقدت عرفت وقيل من لم يشكر على النعمة فقد استدعى زوالها وكان يقال إذا كانت النعمة وسيمة فاجعل الشكر لها تميمة وقال حكيم لا تصطنعوا ثلاثة اللئيم فإنه بمنزلة الأرض السبخة والفاحش فإنه يرى أن الذي

صنعت إليه إنما هو لمخافة فحشه والاحمق فإنه لا يعرف قدر ماأسديت إليه وإذا اصطنعت الكريم فازرع المعروف واحصد الشكر ودخل أبو نخيلة على السفاح لينشده فقال ماعسيت أن تقول بعد قولك لمسلمة
( أمسلمة يا فخر كل خليفة ... ويا فارس الدنيا ويا جبل الأرض )
( شكرتك إن الشكر دين على الفتى ... وما كل من أوليته نعمة يقضي )
( وأحييت لي ذكري وما كان خاملا ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض )
وسمعه الرشيد فقال هكذا يكون شعر الأشراف مدح صاحبه ولم يضع نفسه وعن نصر بن سيار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي أنه قال من أنعم على رجل نعمة فلم يشكر له فدعا عليه استجيب له ثم قال نصر اللهم إني أنعمت علي بني سام فلم يشكروا اللهم اقتلهم فقتلوا كلهم وعن علي ابن الحسين رضي الله عنهما قال قال رسول الله إن المؤمن ليشبع من الطعام فيحمد الله تعالى فيعطيه من الاجر ما يعطي الصائم القائم إن الله شاكر يحب الشاكرين وعن محمد بن علي ما أنعم الله على عبد نعمة فعلم أنها من الله إلا كتب الله له شكرها قبل أن يحمده عليها ولا أذنب عبد ذنبا فعلم أن الله قد أطلع عليه إن شاء غفر له وإن شاء أخذه قبل أن يستغفره إلا غفر الله له قبل أن يستغفره وأولى رجل رجلا إعرابيا خيرا فقال لا أبلاك الله ببلاء يعجز عنه صبرك وأنعم عليك نعمة يعجز عنها شكرك وأنشد بعضهم وأجاد
( سأشكر لا أني أجازيك منعما ... بشكري ولكن كي يزاد لك الشكر )
( واذكر أياما لدي اصطنعتها ... وآخر ما يبقى على الشاكر الذكر )

وقال آخر
( أوليتني نعما أبوح بشكرها ... وكفيتني كل الامور بأسرها )
( فلأشكرنك ما حييت وإن أمت ... فلتشكرنك أعظمي في قبرها )
وقال آخر
( أيا رب قد احسنت عودا وبدأة ... إلي فلم ينهض بإحسانك الشكر )
( فمن كان ذا عذر لديك وحجة ... فعذري إقراري بأن ليس لي عذر )
وقال محمود الوراق
( إلهي لك الحمد الذي أنت أهله ... على نعم ما كنت قط لها أهلا )
( إن زدت تقصيرا تزدني تفضلا ... كأني بالتقصير أستوجب الفضلا )
وقد احسن نصيب في وصف الثناء والشكر بقوله
( فعاجوا وأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكنوا أثنت عليك الحقائب )
وقال رجل من غطفان
( الشكر افضل ما حاولت ملتمسا ... به الزيادة عند الله والناس )
وقيل شكر المنعم عليك وأنعم على الشاكر لك تستوجب من ربك الزيادة ومن اخيك المناصحة
الفصل الثالث من هذا الباب
في المكافأة
قال رسول الله من أسدى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تقدروا فادعوا له ولما قدم وفد النجاشي على رسول الله قام

يخدمهم بنفسه فقيل له يا رسول الله لو تركتنا كفيناك فقال كانوا لأصحابي مكرمين وقيل أتى رجل من الانصار إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال
( اذكر صنيعي إذ فاجأك ذو سفه ... يوم السقيفة والصديق مشغول )
فقال عمر بأعلى صوته ادن مني فدنا منه فأخذ بذراعه حتى استشرفه الناس وقال إلا إن هذا رد عني سفيها من قومه يوم السقيفة ثم حمله على نجيب وزاد في عطائه وولاه صدقة قومه وقرأ ( هل جزاء الإحسان إلا الاحسان ) وقال رجل لسعيد بن العاص وهو امير الكوفة لي يد عندك بيضاء قال وما هي قال كبت بك فرسك فتقدمت إليك قبل غلمانك فأخذت بعضدك وأركبتك وأسقيتك ماء قال فأين كنت إلى الآن قال حجبت عن الوصول إليك قال قد أمرنا لك بمائتي ألف درهم وبما يملكه الحاجب إذ مجبك عنا
وقال قطري بن الفجاءة الخارجي أسره الحجاج ثم من عليه فأطلقه فقيل له عاود قتال عدو الله فقال أهيهات شديدا مطلقها وأرق رقبة معتقها ثم قال
( أأقاتل الحجاج عن سلطانه ... بيد تقر بأنها مولاته )
( ماذا أقول إذا وقفت إزاءه ... في الصف واحتجت له فعلاته )
( أأقول جار علي لا إني إذا ... لأحق من جارت عليه ولاته )
( وتحدث الاقوام أن صنائعا ... غرست لدي فحنظلت نخلاته )
واجتاز الشافعي رحمه الله تعالى بمصر في سوق الحدادين فسقط

سوطه فقام إنسان فأخذه ومسحه وناوله إياه فقال لغلامه كم معك قال عشرة دنانير قال ادفعها إليه واعتذر له واستنشد عبد الملك عامر الشعبي فأنشده لغير ما شاعر حتى أنشد لحسان
( من سره شرف الحياة فلم يزل ... في عصبة من صالحي الانصار )
( البائعين نفوسهم لنبيهم ... بالمشرفي وبالقنا الخطار )
( الناظرين بأعين محمرة ... كالجمر غير كليلة الابصار )
فقام أنصاري فقال يا أمير المؤمنين استوجب عامر الصلة على ستون من الابل كما أعطينا حسان يوم قالها فقال عبد الملك وله عندي ستون ألفا وستون من الإبل وعن علي كرم الله وجهه احسنوا في عقب غيركم تحفظوا في عقبكم وقال المدائني رأيت رجلا يطوف بين الصفا والمروة على بغلة ثم رأيته ماشيا في سفر فسألته عن ذلك فقال ركبت حيث يمشي الناس فكان حقا على الله أن يرجلني حيث يركب الناس
ومما جاء في المكافأة
ما حكي عن الحسن بن سهل قال كنت يوما عند يحيى بن خالد البرمكي وقد خلا في مجلسه لأحكام أمر من امور الرشيد فبينما نحن جلوس إذ دخل عليه جماعة من أصحاب الحوائج فقضاها لهم ثم توجهوا لشأنهم فكان آخرهم قياما أحمد بنأبي خالد الأحوال فنظر يحيى إليه والتفت إلى الفضل ابنه وقال يا بني إن لأبيك مع ابي هذا الفتى حديثا فإذا فرغت من شغلي هذا فاذكرني أحدثك به فلما فرغ شغله وطعم قال له ابنه الفضل أعزك الله يا أبي امرتني أن

أذكرك حديث أبي خالد الاحوال قال نعم يا بني لما قدم أبوك من العراق أيام المهدي كان فقيرا لا يملك شيئا فاشتد بي الأمر إلى أن قال لي من في منزلي إنا فقد كتمنا حالنا وزاد ضررنا ولنا اليوم ثلاثة أيام ما عندنا شيء نقتات به قال فبكيت يا بني لذلك بكاء شديدا وبقيت ولهان وحيران مطرقا مفكرا ثم تذكرت منديلا كان عندي فقلت لهم ما حال المنديل فقالوا هو باق عندنا فقلت ادفعوه لي فأخذته ودفعته إلى بعض أصحابي وقلت له بعه بما تيسر فباعه بسبعة عشر درهما فدفعتها إلى أهلي وقلت أنفقوها إلى أن يرزق الله غيرها ثم بكرت من الغد إلى باب أبي خالد وهو يومئذ وزير المهدي فإذا الناس وقوف على داره ينتظرون خروجه فخرج عليهم راكبا فلما رآني سلم علي وقال كيف حالك فقلت ياأبا خالد ما حال رجل يبيع من منزله بالأمس منديلا بسبعة عشر درهما فنظر إلي نظرا شديدا وما أجابني جوابا فرجعت إلى اهلي كسير القلب وأخبرتهم بما اتفق لي مع أبي خالد فقالوا بئس والله ما فعلت توجهت إلى رجل كان يرتضيك لأمر جليل فكشفت له سرك وأطلعته على مكنون أمرك فأزريت عنده بنفسك وصغرت عنده منزلتك بعد أن كنت عنده جليلا فما يراك بعد اليوم إلا بهذه العين فقلت قد قضى الأمر الآن بما لا يمكن استدراكه فلما كان من الغد بكرت إلى باب الخليفة فلما بلغت الباب استقبلني رجل فقال لي قد ذكرت الساعة بباب أمير المؤمنين فلم ألتفت لقوله فاستقبلني آخر فقال لي كمقالة الأول ثم استقبلني حاجب أبي خالد فقال لي أين تكون قد امرني أبو خالد باجلاسك إلى أن يخرج من عند أمير المؤمنين فجلست حتى خرج فلما رآني دعاني وأمر لي بمركب فركبت وسرت معه إلى منزله فلما نزل قال علي بفلان وفلان الحناطين فأحضرا فقال لهما ألم تشتريا مني غلات السواد بثمانية عشر ألف ألف درهم قالا نعم قال ألم اشترط عليكما شركة رجل معكما قالا بلى قال هو هذا الرجل الذي اشترطت شركته لكما ثم قال لي قم معهما فلما خرجنا قالا لي ادخل معنا بعض المساجد حتى نكلمك في أمر يكون لك فيه

الربح الهنيء فدخلنا مسجدا فقالا لي إنك تحتاج في هذا الامر إلى وكلاء وأمناء وكيالين وأعوان ومؤن لم تقدر منها على شيء فهل لك أن تبيعن شركتك بمال نعجله فتنتفع به ويسقط عنك التعب والكلف فقلت لهما وكم تبذلان لي فقالا مائة ألف درهم فقلت لا أفعل فما زالا يزيداني وأنا لا أرضى إلى ان قالا لي ثلاثمائة ألف درهم ولا زيادة عندنا على هذا فقلت حتى أشاور ابا خالد قالا ذلك لك فرجعت إليه وأخبرته فدعا بهما وقال لهما هل وافقتماه على ما ذكر قال نعم قالا اذهبا فاقبضاه المال الساعة ثم قال لي أصلح أمرك وتهيأ فقد قلدتك العمل فأصلحت شأني وقلدني ما وعدني به فما زلت في زيادة حتى صار أمري إلي ما صار ثم قال لولده الفضل يا بني فما تقول في ابن من فعل بأبيك هذا الفعل وما جزاؤه قال حق لعمري وجب عليك له فقال والله يا ولدي ماأجد له مكافأة غير أني أعزل نفسي واوليه ففعل ذلك رضي الله عنه وهكذا تكون المكافأة
ومن ذلك ما حكى عن العباس صاحب شرطة المأمون قال دخلت يوما مجلس أمير المؤمنين ببغداد وبين يديه رجل مكبل بالحديد فلما رآني قال لي عباس قلت لبيك ياأمير المؤمنين قال خذ هذا إليك فاستوثق منه واحتفظ به وبكر بهإلي في غد واحترز عليه كل الإحتراز قال العباس فدعوت جماعة فحملوه ولم يقدر أن يتحرك فقلت في نفسي مع هذه الوصية التي أوصاني بها أمير المؤمنين من الأحتفاظ به ما يجب إلا أن يكون معي في بيتي فأمرتهم فتركوه في مجلس لي في داري ثم أخذت أسأله عن قضيته وعن حاله ومن أين هو فقال أنا من دمشق فقلت جزى الله دمشق وأهلها خيرا فمن أنت من أهلها قال وعمن تسأل فلت أتعرف فلانا قال ومن أين تعرف ذلك الرجل فقلت وقع لي معه قضية فقال ما كنت بالذي أعرفك خبره حتى تعرفني قضيتك معه فقال ويحك ما كنت مع بعض الولاة بدمشق فبغى أهلها وخرجوا علينا حتى أن الوالي تدلى في زنبيل من قصر الحجاج وهرب هو وأصحابه وهربت في جملة القوم فبينما أنا هارب في بعض الدروب وإذا بجماعة يعدون خلفي فما

زلت أعدو أمامهم حتى فتهم فمررت بهذا الرجل الذي ذكرته لك وهو جالس على باب داره فقلت أغثني أغاثك الله قال لا بأس عليك أدخل الدار فدخلت فقالت زوجته أدخل تلك المقصورة فدخلتها ووقف الرجل على باب الدار فما شعرت إلا وقد دخل والرجال معه يقولون هو والله عندك فقال دونكم الدار ففتشوها حتى لم يبق سوى تلك المقصورة وامرأته فيها فقالوا هو ههنا فصاحت بهم المرأة ونهرتهم فانصرفوا وخرج الرجل وجلس على باب داره ساعة وأنا قائم أرجف ما تحملني رجلاي من شدة الخوف فقالت المرأة اجلس لا بأس عليك فجلست فلم ألبث حتى دخل الرجل فقال لا تخف قد صرف الله عنك شرهم وصرت إلى الامن والدعة إن شاء الله تعالى فقلت له جزاك الله خيرا فما زال يعاشرني احسن معاشرة وأجملها وأفرد لي مكانا في داره ولم يحوجني إلى شيء ولم يفتر عن تفقد أحوالي فأقمت عنده أربعة أشهر في أرغد عيش وأهنئه إلى ان سكنت الفتنة وهدأت وزال أثرها فقلت له أتأذن لي في الخروج حتى أتفقد حال غلماني فلعلي أقف منهم على خبر فأخذ علي المواثيق بالرجوع إليه فخرجت وطلبت غلماني فلم أر لهم أثرا فرجعت إليه وأعلمته الخبر وهو مع هذا كله لا يعرفني ولا يسألني ولا يعرف اسمي ولا يخاطبني إلا بالكنية فقال علام تعزم فقلت عزمت على التوجه إلى بغداد فقال القافلة بعد ثلاثة أيام تخرج وها أنا قدأعلمتك فقلت له إنك تفضلت علي هذه المدة ولك علي عهد الله أني لا أنسى لك هذا الفضل ولأوفينك مهما استطعت قال فدعا غلاما له اسود وقال له اسرج الفرس الفلاني ثم جهز آلة السفر فقلت في نفسي أظن أنه يريد أن يخرج إلى ضيعة أو ناحية من النواحي فأقاموا يومهم ذلك في كد وتعب فلما كان يوم خروج القافلة جاءني السحر وقال لي يا فلان قم فإن القافلة تخرج الساعة وأكره أن تنفرد عنها فقلت في نفسي كيف أصنع وليس معي ما أتزود به ولا ما أكري به مركوبا ثم قمت فإذا هو وامرأته

يحملان بقجة من أفخر الملابس وخفين جديدين وآلة السفر ثم جاءني بسيف ومنطقة فشدهما في وسطي ثم قدم بغلا فحمل عليه صندوقين وفوقها فرش ودفع إلي نسخة ما في الصندوقين وفيهما خمسة الآف درهم وقدم إلي الفرس الذي كان جهزه وقال اركب وهذا الغلام الاسود يخدمك ويسوس مركوبك وأقبل هو وامرأته يعتذران إلي من التقصير في امري وركب معي يشيعني وانصرفت إلى بغداد وأنا أتوقع خبره لأفي بعهدي له في مجازاته ومكافأته وأشغلت مع أمير المؤمنين فلم أتفرغ أن ارسل إليه من يكشف خبره فلهذا أنا أسأل عنه
فلما سمع الرجل الحديث قال لقد أمكنك الله تعالى من الوفاء ومكافأته على فعله ومجازاته على صنيعه بلا كلفة عليك ولا مؤنة تلزمك فقلت وكيف ذلك قال أنا ذلك الرجل وإنما الضر الذي أنا فيه غير عليك حالي وما كنت تعرفه مني ثم لم يزل يذكر لي تفاصيل الاسباب حتى أثبت معرفته فما تمالكت أن قمت وقبلت رأسه ثم قلت له فما الذي أصارك إلى ما أرى فقال هاجت بدمشق فتنة مثل الفتنة التي كانت في أيامك فنسبت إلي وبعث أمير المؤمنين بجيوش فأصلحوا البلد وأخذت انا وضربت إلى أن اشرفت على الموت وقيدت وبعث بي إلي أمير المؤمينن وأمري عنده عظيم وخطبي لديه جسيم وهو قاتلي لا محالة وقد أخرجت من عند أهلي بلا وصية وقد تبعني من غلماني من ينصرف إلى أهلي بخبري وهو نازل عند فلان فإن رأيت أن تجعل من مكافأتك لي أن ترسل من يحضره لي حتى أوصيه بما أريد فإن أنت فعلت ذلك فقد جاوزت حد المكافأة وقمت لي بوفاء عهدك قال العباس قلت يصنع الله خيرا ثم أحضر حدادا في الليل فك قيوده وأزال ما كان فيه من الأنكال وأدخله حمام داره وألبسه من الثياب ما احتاج إليه ثم سير من أحضر إليه غلامه فلما رآه جعل يبكي ويوصيه فاستدعى العباس نائبه وقال علي بالفرس

الفلاني والفرس الفلاني والبغل الفلاني والبغلة الفلانية حتى عد عشرة ثم عشرة من الصناديق ومن الكسوة كذا وكذا ومن الطعام كذا وكذا قال ذلك الرجل وأحضر لي بدرة عشرة الاف درهم وكيسا فيه خمسة الاف دينار وقال لنائبه في الشرطة خذ هذا الرجل وشيعه الى حد الانبار فقلت له ان ذنبي عند امير المؤمنين عظيم وخطبي جسيم وان انت احتججت بأني هربت بعث أمير المؤمنين في طلبي كل من على بابه فأرد وأقتل فقال لي أنج بنفسك ودعني أدبر أمري فقلت والله ما أبرح من بغداد حتى أعلم ما يكون من خبرك فإن احتجت الى حضوري حضرت فقال لصاحب الشرطة إن كان الامر على ما يقول فليكن في موضع كذا فإن أنا سلمت في غداة غد أعلمته وإن أنا قتلت فقد وقيته بنفسي كما وقاني بنفسه وأنشدك الله أن لا يذهب من ماله درهم وتجتهد في إخراجه من بغداد قال الرجل فأخذني صاحب الشرطة وصيرني في مكان أثق به وتفرغ العباس لنفسه وتحنط وجهز له كفنا قال العباس فلم أفرغ من صلاة الصبح إلا وأرسل المأمون في طلبي ويقولون يقول لك أمير المؤمنين هات الرجل معك وقم قال فتوجهت الى دار أمير المؤمنين فاذا هو جالس وعليه ثيابه وهو ينتظرنا فقال أين الرجل فسكت فقال ويحك أين الرجل فقلت يا أمير المؤمنين اسمع مني فقال لله علي عهد لئن ذكرت إنه هرب لأضربن عنقك فقلت لا والله يا أمير المؤمنين ما هرب ولكن اسمع حديثي وحديثه ثم شأنك ما تريد أن تفعله في أمري قال قل فقلت يا أمير المؤمنين كان من حديثي معه كيت وكيت وقصصت عليه القصة جميعها وعرفته انني أريد أن أفي له وأكافئه على ما فعله معي وقلت أنا وسيدي ومولاي أمير المؤمنين بين أمرين إما ما فعله معي إما أن يصفح عني فأكون قد وفيت وكافأت وإما أن يقتلني فأقيه بنفسي وقد تحنطت وها كفني يا أمير المؤمنين فلما سمع المأمون الحديث قال ويلك لا جزاك الله عن نفسك خيرا انه فعل بك ما فعل من غير معرفة وتكافئه بعد المعرفة والعهد بهذا لا غير هلا عرفتي خبره فكنا نكافئه عنك ولا نقصر في وفائك له فقلت يا أمير المؤمنين إنه ههنا قد حلف

أن يبرح حتى يعرف سلامتي فإن احتجت إلى حضوره حضر فقال المأمون وهذه منه أعظم من الاولى إذهب الآن إليه فطيب نفسه وسكن روعه وائتني به حتى أتولى مكافأته قال العباس فأتيت إليه وقلت له ليزل خوفك إنأمير المؤمنين قال كيت وكيت فقال الحمد لله الذي لا يحمد على السراء والضراء سواه ثم قام فصلى ركعتين ثم ركب وجئنا فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين أقبل عليه وأدناه من مجلسه وحدثه حتى حضر الغداء وأكل معه وخلع عليه وعرض عليه أعمال دمشق فاستعفي فأمر له المأمون بعشرة أفراس بسروجها ولجمها وعشرة أبغال بآلاتها وعشر بدر وعشرة آلاف دينار وعشرة مماليك بدوابهم وكتب إلى عامله بدمشق بالوصية به وإطلاق خراجه وأمره بمكاتبته بأحوال دمشق فصارت كتبه تصل إلى المأمون وكلما وصلت خريطة البريد وفيها كتابة يقول لي يا عباس هذا كتاب صديقك والله تعالى أعلم
ومن عجائب هذا الاسلوب وغرائبه
ما أورده محمد بن القاسم الأنباري رحمه الله تعالى أن سوارا صاحب رحبة سوار وهو من المشهورين قال انصرفت يوما من دار الخليفة المهدي فلما دخلت منزلي دعوت بالطعام فلم تقبله نفسي فأمرت به فرفع ثم دعوت جارية كنت أحبها وأحب حديثها واشتغل بها فلم تطب نفسي فدخل وقت القائلة فلم يأخذني النوم فنهضت وأمرت ببغلة فأسرجت واحضرت فركبتها فلما خرجت من المنزل استقبلني وكيل لي ومعه مال فقلت ما هذا فقال ألفا درهم جبيتها من مستغلك الجديد قلت أمسكها معك واتبعني فأطلقت رأس البغلة حتى عبرت الجسر ثم مضيت في شارع دار الرقيق حتى انتهيت إلىالصحراء ثم رجعت إلى باب الأنبار وانتهيت إلى باب دار نظيف عليه شجرة وعلى الباب خادم فعطشت فقلت للخادم أعندك ماء

تسفينيه قال نعم ثم دخل وأحضر قلة نظيفة طيبة الرائحة عليها منديل فناولني فشربت وحضر وقت العصر فدخلت مسجدا على الباب فصليت فيه فلما قضيت صلاتي إذ أنا بأعمى يلتمس فقلت ما تريد يا هذا قال إياك أريد قلت فما حاجتك فجاء حتى جلس إلى جانبي وقال شممت منك رائحة طيبة فظننت أنك من أهل النعيم فاردت أن أحدثك بشيء فقلت قل قال ألا ترى إلى باب هذا القصر قلت نعم قال هذا قصر كان لأبي فباعه وخرج إلى خراسان وخرجت معه فزالت عنا النعم التي كنا فيها وعميت فقدفت هذه المدينة فأتيت صاحب هذا الدار لأسأله شيئا يصلني به وأتوصل إلى سوار فإنه كان صديقا لأبي فقلت ومن ابوك قال فلان بن فلان فعرفته فإذا هو كان من أصدق الناس إلي فقلت له يا هذا ان الله تعالى قد أتاك بسوار منعه من الطعام والنوم والقرار حتى جاء به فأقعده بين يديك ثم دعوت الوكيل فأخذت الدراهم منه فدفعتها إليه وقلت له إذا كان الغد فسر إلى منزلي ثم مضيت وقلت ما أحدث أمير المؤمنين بشيء أظرف من هذا فأتيته فاستأذنت عليه فأذن لي فلما دخلت عليه حدثته بما جرى لي فأعجبه ذلك وأمر لي بألفي دينار فأحضرت فقال ادفعها إلى الاعمى فنهضت لأقوم فقال اجلس فجلست فقال أعليك دين قلت نعم قال كم دينك قلت خمسون ألفا فحادثني ساعة وقال امض إلى منزلك فمضيت إلى منزلي فإذا بخادم معه خمسون ألفا وقال يقول لك أمير المؤمنين اقض بها دينك قال فقبضت منه ذلك فلما كان من الغد أبطأ على الاعمى وأتاني رسول المهدي يدعوني فجئته فقال قد فكرت البارحة في أمرك فقلت يقضي دينه ثم يحتاج إلى القرض أيضا وقد أمرت لك بخمسين الفا أخرى قال فقبضتها وانصرفت فجاءني الاعمى فدفعت إليه الألفي دينار وقلت له قد رزقك الله تعالى بكرمه وكافأك على إحسان أبيك وكافأني على إسداء المروف إليك ثم أعطيته شيئا آخر من مالي فأخذه وانصرف والله سبحانه وتعالى أعلم

ومما هو أوضح حسنا وأرجح معنى ما حكاه القاضي يحيى بن أكتم رحمة الله عليه قال دخلت يوما على الخليفة هرون الرشيد ولد المهدي وهو مطرق مفكر فقال لي أتعرف قائل هذا البيت
( الخير أبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد )
فقلت يا أمير المؤمنين إن لهذا البيت شأنا مع عبيد بن الأبرص فقال علي بعبيد فلما حضر بين يديه قال له أخبرني عن قضية هذا البيت فقال يا أمير المؤمنين كنت في بعض السنين حاجا فلما توسطت البادية في يوم شديد الحر سمعت ضجة عظيمة في القافلة ألحقت أولها بآخرها فسألت عن القصة فقال لي رجل من القوم تقدم تر ما بالناس فتقدمت إلى أول القافلة فإذا أنا بشجاع أسود فاغر فاه كالجذع وهو يخور كما يخور الثور ويرغو كرغاء البعير فهالني أمره وبقيت لا أهتدي إلى ما أصنع في أمره فعدلنا عن طريقه إلى ناحية أخرى فعارضنا ثانيا فعلمت أنه لسبب ولم يجسر أحد من القوم أن يقربه فقلت أفدي هذا العالم بنفسي وأتقرب إلى الله تعالى بخلاص هذه القافلة من هذا فأخذت قربة من الماء فتقلدتها وسللت سيفي وتقدمت فلما رآني قربت منه سكن وبقيت متوقعا منه وثبة يبتلعني فيها فلما رأى القربة فتح فاه فجعلت فم القربة فيه وصببت الماء كما يصب في الإناء فلما فرغت القربة تسيب في الرمل ومضى فتعجبت من تعرضه لنا وانصرافه عنا من غير سوء لحقنا منه ومضينا لحجنا ثم عدنا في طريقنا ذلك وحططنا في منزلنا ذلك في ليلة مظلمة مدلهمة فأخذت شيئا من الماء وعدلت إلى ناحية عن الطريق فقضيت حاجتي ثم توضأت وصليت وجلست أذكر الله تعالى فاخذتيي عيني فنمت مكاني فلما استيقظت

من النوم لم اجد للقافلة حسا وقد ارتحلوا وبقيت منفردا لم أر أحدا ولم أهتد إلى ما أفعله وأخذتني حيرة وجعلت أضطرب وإذا بصوت هاتف أسمع صوته ولا أرى شخصه يقول
( يا أيها الشخص المضل مركبة ... ما عنده من ذي رشاد يصحبه )
( دونك هذا البكر منا تركبه ... وبكرك الميمون حقا تجنبه )
( حتى إذا ما الليل زال غيهبه ... عند الصباح في الفلا تسيبه )
فنظرت فإذا انا ببكر قائم عندي وبكري إلى جانبي فأنخته وركبته وجنبت بكري فلما سرت قدر عشرة أميال لاحت لي القافلة وانفجر الفجر ووقف البكر فعلمت أنه قد حان نزولي فتحولت إلى بكري وقلت
( يا أيها البكر قد أنجيت من كرب ... ومن هموم تضل المدلج الهادي )
( ألا تخبرني بالله خالقنا ... من ذا الذي جاد بالمعروف في الوادي )
( وارجع حميدا فقد بلغتنا مننا ... بوركت من ذي سنام رائح غادي )
فالتفت البكر إلي وهو يقول
( أنا الشجاع الذي الفيتني رمضا ... والله يكشف ضر الحائر الصادي )
( فجدت بالماء لما ضن حاملة ... تكرما منك لم تمنن بانكاد )
( فالخير أبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد )
( هذا جزاؤك مني لا أمن به ... فاذهب حميدا رعاك الخالق الهادي )
فعجب الرشيد من قوله وامر بالقصة والأبيات فكتبت عنه وقال لا يضيع المعروف أين وضع والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب
تم الجزء الاول من كتاب المستطرف ويليه الجزء الثاني وأوله الباب الثالث والأربعون

بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الثالث والأربعون في الهجاء ومقدماته
القصد من الهجاء الوقوف على ملحه وما فيه من ألفاظ فصيحة ومعان بديعة لا التشفي بالاعراض والوقوع فيها وليس الهجاء دليلا على إساءة المهجو ولا صدق الشاعر فيما رماه به فما كل مذموم بذميم وقد يهجي الانسان بهتانا وظلما أو عبثا أو ارهابا
قال المتوكل لأبي العيناء كم تمدح الناس وتذمهم قال ما أحسنوا وأساؤا
وقد رضي الله تعالى على عبد من عبيده فمدحه فقال نعم العبد إنه أراب وغضب على آخر فقال مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم قيل الزنيم الملصق بالقوم وليس منهم وقال دعبل في المأمون بعد البيعة له وقتل الأمين
( إني من القوم الذين همو همو ... قتلوا أخاك وشرفوك بمقعد )
( شادوا لذكرك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد )
فقال المأمون ما أبهته ليت شعري متى كنت خاملا وفي حجر الخلافة ربيت وبدرها غذيت
ولما قتل جعفر بن يحيى بكى عليه أبو نواس فقيل له أتبكي على جعفر وأنت هجوته فقال كان ذلك لركوب الهوى وقد بلغه والله أني قلت

( ولست وإن أطنبت في وصف جعفر ... بأول إنسان خري في ثيابه )
فكتب يدفع إليه عشرة آلاف درهم يغسل بها ثيابه
ومن العبث بالهجو ما روي أن الحطيئة هم بهجاء فلم يجد من يستحقه فقال
( أبت شفتاي اليوم إلا تكلما ... بسوء فلا أدري لمن أنا قائله )
( أرى بي وجها قبح الله خلقه ... فقبح من وجه وقبح حامله )
وعبث بأمه فقال
( تنحي فاجلسي عنا بعيدا ... أراح الله منك العالمينا )
( أغربالا إذا استودعت سرا ... وكانونا على المتحدثينا )
( حياتك ما علمت حياة سوء ... وموتك قد يسر الصالحينا )
وقال رجل ما أبالي أهجيت أم مدحت فقال له الأحنف أرحت نفسك من تعب الكرام
وقال رجل لآخر إن هجوتني أتموت ابنتي قال لا قال أفتخرب ضيعتي قال لا قال فرجلي مع ساقي إلى حلقي في حر أمك قال ولم تركت رأسك قال لأنظر ما تصنع وأنا أقول إنما يخشى من الهجو من يخاف على عرضه وأما من لا يخاف على عرضه فقد يستوي عنده المدح والذم وبئس الرجل ذاك
وكان الرجل من نمير إذا قيل له ممن الرجل يقول من نمير وأمال بها عنقه فلما هجاهم جرير بقوله
( فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا )
صار إذا قيل لأحدهم ممن الرجل يقول من بني عامر وما لقيت قبيلة من العرب بهجو ما لقيت نمير بهجو جرير
وهجا ابن سام رجلا فقال
( يا طلوع الرقيب من غير إلف ... يا غريما أتى على ميعاد )
( يا ركودا في وقت غيم وصيف ... يا وجوه التجار يوم كساد )

وقصد ابن عيينة قبيصة المهلبي واستماحه فلم يسمح له بشيء فانصرف مغضبا فوجه إليه داود بن يزيد بن حاتم فترضاه وأحسن إليه فقال في ذلك
( داود محمود وأنت مذمم ... عجبا لذاك وأنتما من عود )
( ولرب عود قد يشق لمسجد ... نصفا وباقيه لحش يهودي )
( فالحش أنت له وذاك بمسجد ... كم بين موضع مسلح وسجود )
( هذا جزاؤك يا قبيص لأنه ... جادت يداه وأنت قبل حديد )
وله هجاء في خالد
( أبوك لنا غيث يغيث بوبله ... وأنت جراد لست تبقي ولا تذر )
( له أثر في المكرمات يسرنا ... وأنت تعفي دائما ذلك الأثر )
وقال المبرد في حقه لم يجتمع لأحد من المحدثين في بيت واحد هجاء رجل ومدح أبيه إلا له
ولما قعد حماد عجرد لتأديب ولد الأمين قال بشار بن برد
( قل للأمين جزاك الله صالحه ... لا يجمع الله بين السخل والذيب )
( السخل يعلم أن الذئب آكله ... والذئب يعلم ما بالسخل من طيب )
وقال فيه أيضا
( يا أبا الفضل لا تنم ... وقع الذئب في الغنم )
( إن حماد عجرد ... شيخ سوء قد اغتنم )
( بين فخديه حربة ... في غلاف من الأدم )
( إن رأى ثم غفلة ... يجمع الميم بالقلم )
فشاعت الأبيات فأمر الأمين باخراج حماد
وقال رجل لأخيه لأبويه لأهجونك هجاء يدخل معك في قبرك قال كيف تهجوني وأبوك أبي وأمك أمي قال أقول

ذ 6
( بني أمية هبوا طال نومكمو ... إن الخليفة يعقوب بن داود )
( ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين الماء والعود )
فدخل يعقوب على المهدي فأخبره أن بشارا هجاه فاغتاظ المهدي وانحدر إلى البصرة لينظر في أمرها فسمع أذانا في ضحى النهار فقال انظروا ما هذا وإذا به بشار وهو سكران فقال له يا زنديق عجب أن يكون هذا من غيرك ثم أمر به فضربه سبعين سوطا حتى أتلفه بها وألقي في سفينة فقال عين الشمقمق تراني حيث يقول ألقي في سفينة فقال عين الشمقمق تراني حيث يقول
( إن بشار بن برد ... تيس أعمى في سفينة )
فلما مات ألقيت جثته في الماء فحمله الماء فأخرجه إلى الدجلة فجاء بعض أهله فحملوه إلى البصرة وأخرجت جنازته فما تبعه أحد وتباشر عامة الناس بموته لما كان يلحقهم من الأذى منه
وخاصم أبو دلامة رجلا فارتفعا إلى عافية القاضي فلما رآه أبر دلامة أنشد يقول
( لقد خاصمتني دهاة الرجال ... وخاصمتها سنة وافيه )
( فا أدحض الله لي حجة ... ولا خيب الله لي قافيه )
( ومن خفت من جوره في القضاء ... فلست أخافك يا عافيه )
فقال عافية لأشكونك إلى أمير المؤمنين ولأعلمنه أنك هجوتني قال له أبو دلامة إذا والله يعزلك
قال ولم قال لأنك لا تعرف الهجاء من المدح قال فبلغ ذلك المنصور فضحك وأمر له بجائزة
ودخل أبو دلامة على المهدي وعنده إسماعيل بن علي وعيسى بن موسى والعباس بن محمد وجماعة من بني هاشم فقال له المهدي والله لئن لم تهج واحدا ممن في هذا البيت لأقطعن لسانك
فنظر إلى القوم وتحير في أمره وجعل ينظر إلى كل واحد فيغمزه بأن عليه رضاه قال

أبو دلامة فازددت حيرة فما رأيت أسلم لي من أن أهجو نفسي فقلت
( ألا أبلغ لديك أبا دلامة ... فلست من الكرام ولا كرامه )
( جمعت دمامة وجمعت لؤما ... كذاك اللؤم تتبعه الدمامه )
( إذا لبس العمامة قلت قردا ... وخنزيرا إذا نزع العمامه )
فضحك القوم ولم يبق منهم أحدا إلا أجازه
وقال ابن الأعرابي إن أهجى بيت قاله المحدثون قول محمد بن وهب في محمد بن هاشم
( لم تند كفاك من بذل النوال كما ... لم يند سيفك مذ قلدته بدم )
وهجا بعضهم القمر فقال يهدم العمر ويوجب أجرة المنزل ويشجب الألوان ويقرض الكتان ويضل الساري ويعين السارق ويفضح العاشق
ولابن منقذ في أبي طليب المصري وقد احترقت داره
( أنظر إلى الأيام كيف تسوقنا ... قسرا إلى الأقدار بالأقدار )
( ما أوقد ابن طليب قط بداره ... نارا وكان خرابها بالنار )
وكان للوجيه بن صورة المصري دلال الكتب دار بمصر موصوفة بالحسن فاحترقت فقال فيها ابن المنجم
( أقول وقد عاينت دار ابن صورة ... وللنار فيها وهجة تتضرم )
( فما هو إلا كافر طال عمره ... فجاءته لما استبطأته جهنم )
وقد أحسن الأديب كمال الدين علي بن محمد بن المبارك الشهير بابن الأعمى في ذم دار كان يسكنها حيث قال
( دار سكنت بها أقل صفاتها ... أن تكثر الحشرات في جنباتها )
( الخير عنها نازح متباعد ... والشر دان من جميع جهاتها )
( من بعض ما فيها البعوض عدمته ... كم أعدم الاجفان طيب سناتها )

( وتبيت تسعدها براغيث متى ... غنت لها رقصت على نغماتها )
( رقص بتنقيط ولكن قافه ... قد قدمت فيه على أخواتها )
( وبها ذباب كالضباب يسد عين ... الشمس ما طربي سوى غناتها )
( أين الصوارم والقنا من فتكها ... فينا وأين الأسد من وثباتها )
( وبها من الخطاف ما هو معجز ... أبصارنا عن وصف كيفياتها )
( وبها خفافيش تطير نهارها ... مع ليلها ليست على عاداتها )
( وبها من الجرذان ما قد قصرت ... عنه العتاق الجرد في حملاتها )
( وبها خنافس كالطنافس أفرشت ... في أرضها وعلت على جنباتها )
( لو شم أهل الحرب منتن فسوها ... أردى الكماة الصيد عن صهواتها )
( وبنات وردان وأشكال لها ... مما يفوت العين كنه ذواتها )
( أبدا تمص دماءن ا فكأنها ... حجامة لبدت على كاساتها )
( وبها من النمل السليماني ما ... قد قل ذو الشمس عن ذراتها )
( وما راعني شيء سوى وزغانها ... فتعوذوا الله من لدغاتها )
( سجعت على أوكارها فظننتها ... ورق الحمام سجعن في شجراتها )
( وبها زنابير تظن عقاربا ... حر السموم أخف من زفراتها )
( وبها عقارب كالأقارب ر تع ... فينا حمانا اله لدغ حماتها )
( كيف السبيل إلى النجاة ولا نجاة ... ولا حياة لمن رأى حياتها )
( منسوجة بالعنكبوت سماؤها ... والأرض قد نسجت على آفاتها )
( فضجيجها كالرعد في جنباتها ... وترابها كالرمل في خشناتها )
( والبوم عاكفة على أرجائها ... والدود يبحث في ثرى عرصاتها )
( والجن تأتيها إذا جن الدجى ... تحكي الخيول الجرد في حملاتها )
( والنار جزء من تلهب حرها ... وجهنم تعزى إلى لفحاتها )
( شاهدت مكتوبا على أرجائها ... ورأيت مسطورا على جنباتها )

( لا تقربوا منها وخافوها ولا ... تلقوا بأيديكم إلى هلكاتها )
( أبدا يقول الداخلون ببابها ... يا رب نج الناس من آفاتها )
( قالوا إذا ندب الغراب منازلا ... يتفرق السكان من ساحاتها )
( وبدارنا ألفا غراب ناعق ... كذب الرواة فأين صدق رواتها )
( صبرا لعل الله يعقب راحة ... للنفس إذ غلبت على شهواتها )
( دار تبيت الجن تحرس نفسها ... فيها وتندب باختلاف لغاتها )
( كم بت فيها مفردا والعين من ... شوق الصباح تسح من عبراتها )
( وأقول يا رب السموات العلا ... يا رازقا للوحش في فلواتها )
( أسكنتني بجهنم الدنيا ففي ... أخراي هب لي الخلد في جناتها )
( واجمع بمن أهواه شملي عاجلا ... يا جامع الأرواح بعد شتاتها )
ولبعضهم في بلان
( أشكوا إلى الله بلانا بليت به ... مست أنامله ظهري فأدماني )
( فلا يدلك تدليكا بمعرفة ... ولا يسرح تسريحا باحسان )
وللشيخ شمس الدين البدوي في بلان أيضا
( وبلان له ظهر يباهي ... به حد الشفار المرهفات )
( هرى جسمي فالبسه نجيعا ... على حلل الستور السابلات )
( ورام يلين أعضائي برفق ... فأيبسها وكسر فوقحاني )
( ولم أنظر له أبدا جميلا ... وذلك من عظيم المهلكات )
( وأعمى مقلتي بصنان أبط ... يفوح به على كل الجهات )
( فلا تجعل إلهي مثل هذا ... يغسلني إذا حانت وفاتي )
ولبعضهم في حمام
( وحمام دخلناه لأمر ... حكى سقرا وفيها المجرمونا )

( فيصطرخوا يقولوا أخرجونا ... فإن عدنا فانا ظالمونا )
وللشريف أبي يعلى الهاشمي البغدادي في نظام الملك يهدده بالهجاء يقول
( أيجمل يا نظام الملك أني ... أعاود من ذراك كما قدمت )
( وأصدر عن حياضك وهي نهب ... فأفواه السقاة وما وردت )
( يدل على فعالك سوء حالي ... ويخبر عن نوالك إن كتمت )
( إذا استخبرت ماذا نلت منه ... وقد عم الورى كرما سكت )
وممن عرض بالهجو في شعره الخوارزمي قال في أبي جعفر
( أبا جعفر لست بالمنصف ... ومثلك إن قال قولا يفي )
( فإن أنت أنجزت لي ما وعدت ... وإلا هجيت وأدخلت في )
( وقد علم الناس ما بعد في ... فغط الحديث ولا تكشف )
ومدح السراج الوراق إنسانا فلم يجزه فكتب يعرض له بالهجاء ويهدده يقول
( أعد مدحي علي وخذ سواه ... فقد أتعتبتني يا مستريح )
( ولا تغضب إذا أنشدت يوما ... سواه وقيل لي هذا صحيح )
وله أيضا يقول
( أعد مدحا كذبت عليك فيه ... وقد عوفيت بالحرمان عنه )
( ولكني سأصدق فيك قولا ... فلا يصعب عليك الحق منه )

وقال بعضهم في حجاج قدموا ولم يهدوا إليه شيئا
( مضوا ليحجوا والوجوه كأنها ... تكاد لفرط البشر أن توضح السبلا )
( وعادوا كأن القار فوق وجوههم ... فلا مرحبا بالقادمين ولا سهلا )
( وجاؤا وما جادوا بعود أراكة ... ولا وضعوا في كف طفل لنا نقلا )
وقال آخر
( إذا رمت هجوا في فلان تصدني ... خلائق قبح عنه لا تتزحزح )
( تجاوز قدر الهجو حتى كأنه ... بأقبح ما يهجى به المرء يمدح )
وهجا بعضهم امرأة فقال
( لها جسم برغوث وساق بعوضة ... ووجه كوجه القرد بل هو أقبح )
( تبرق عينيها إذا ما رأيتها ... وتعبس في وجه الضجيع وتكلح )
( لها منظر كالنار تحسب أنها ... إذا ضحكت في أوجه الناس تلفح )
( إذا عاين الشيطان صورة وجهها ... تعوذ منها حين يمسي ويصبح )
ولبعضهم في عظيم أنف
( لك وجه وفيه قطعة أنف ... كجدار قد دعموه ببغله )
( وهو كالقبر في المتال ولكن ... جعلوا نصفه على غير قبله )
وفيه أيضا
( رأينا للزكي جدار أنف ... يضاهي في تشامخه الجبالا )
( تصدى للهلاك لكي يراه ... فلولا عظمه لرأى الهلالا )
ولبعضهم في أبخر مخنث
( قالوا فلان به نتن فقلت لهم ... يا قوم قد حار فكري في مساويه )

( يا قوم لا تعجبوا من نتن نكهته ... فالأير يدفع ما فيه إلى فيه )
ولصفي الدين الحلي
( رأى فرسي اصطبل عيسى فقال لي ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلي )
( به لم أذق طعم الشعير كأنني ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل )
( تقعقع من برد الشتاء أضالعي ... لما نسجتها من جنوب وشمال )
وله أيضا
( ليهتك إن لي ولدأا وعبدا ... سواء في المقال وفي المقام )
( فهذا سابق من غير سين ... وهذا عاقل من غير لام )
وله في طبيب يدعى إسحاق
( مباضع إسحق الطبيب كأنها ... لها بفناء العالمين كفيل )
( معودة أن لا تسل نصالها ... فتغمد حتى يستباح قتيل )
وله في أحمق طويل اللسان
( لو أن قوة وجهه في قلبه ... قنص الأسود وجندل الأبطالا )
( أو كان طول لسانه بيمينه ... أفنى الكنوز وأنفذ الأموالا )
وهجا اعرابي رجلا ثم مدحه فقال
( إني مدحتك من فساد قريحتي ... وعلمت أن المدح فيك يضيع )
( لكن رأيت المسك عند فساده ... يدني إلى بيت الخلا فيضوع )
وقيل لبعضهم ما تقول في فلان وفلان قال هما الخمر والميسر إثمهما أكبر من نفعهما
وقيل لرجل كيف وجدت فلانا قال طويل اللسان في اللؤم قصير الباع في الكرم وثابا على الشر مناعا للخير
وسمع أعرابي قوله تعالى ( الأعراب أشد كفرا ونفاقا ) فانتفض ثم سمع قوله تعالى

( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر )
فقال الله أكبر هجانا ثم مدحنا وكذلك قال الشاعر
( هجوت زهيرا ثم إني مدحته ... وما زالت الأشراف تهجى وتمدح )
استب رجلان فقال أحدهما للآخر لو قطع زبك وعلق لم تبق زانية بالكوفة إلا عرفته
وقال أبو زيد العبدي
( ولقد قتلتك بالهجاء فلم تمت ... إن الكلاب طويلة الأعمار )
وقال المتوكل لأبي العيناء ما بقي أحد في المجلس إلا هجاك وذمك غيري فقال
( إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضبانا علي لئامها )

الباب الرابع والأربعون في الصدق والكذب وفيه فصلان
الفصل الأول
في الصدق
قال الله تعالى مبشرا للصادقين ( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ) وقال تعالى ( والصادقين والصادقات ) فمدحهم وبين لهم المغفرة والأجر العظيم
وقال عمر رضي الله عنه عليك بالصدق وإن قتلك
وما أحسن ما قيل في ذلك
( عليك بالصدق ولو أنه ... أحرقك الصدق بنار الوعيد )
( وابغ رضا المولى فأغبى الورى ... من أسخط المولى وأرضى العبيد )
وقال إسماعيل بن عبيد الله لما حضرت أبي الوفاة جمع بنيه فقال لهم يا بني عليكم بتقوى الله وعليكم بالقرآن فتعاهدوه وعليكم بالصدق حتى لو قتل أحدكم قتيلا ثم سئل عنه أقربه
والله ما كذبت كذبة قط مذ قرأت القرآن
وعن عائشة رضي الله عنها قالت سألت رسول الله بم يعرف المؤمن قال بوقاره ولين كلامه وصدق حديثه وقيل لكل شيء حلية وحلية النطق الصدق

وقال محمود الوراق
( الصدق منجاة لأربابه ... وقربة تدني من الرب )
وقيل الصدق عمود الدين وركن الأدب وأصل المروءة فلا تتم هذه الثلاثة إلا
به وقال أرسطاطاليس أحسن الكلام ما صدق فيه قائله وانتفع به سامعه
وقال المهلب بن أبي صفرة ما السيف الصارم في يد الشجاع بأعزله من الصدق وكان يقال على الصدوق فلان وقف لسانه على الصدق ويقال الصدق محمود من كل أحد إلا من الساعي
ويقال لو صدق عبد فيما بينه وبين الله تعالى حقيقة الصدق لأطلع على خزائن الغيب ولكان أمينا في السماوات والأرض
وقيل من لزم الصدق وعود لسانه به وفق
ويقال الصدق بالحر أحرى
وقال عتبة بن أبي سفيان إذا اجتمع في قلبك أمران لا تدري أيهما أصوب فانظر أيهما أقرب إلى هواك فخالفه فان الصواب أقرب إلى مخالفة الهوى
وقال أرسطا طاليس الموت مع الصدق خير من الحياة مع الكذب
وكان نقش خاتم ذي يزن وضع الخد للحق عز وامتدح ابن ميادة جعفر بن سليمان فأمر له بمائة ناقة فقبل يده وقال والله ما قبلت يد قرشي غيرك إلا واحد فقال أهو المنصور قال لا والله قال فمن هو قال الوليد بن يزيد قال فغضب
وقال والله ما قبلتها لله تعالى فقال والله ولا يدك ما قبلتها لله تعالى ولكن قبلتها لنفسي فقال والله لا ضرك الصدق عندي أعطوه مائة أخرى
وقال عامر العدواني في وصيته إني وجدت صدق الحديث طرفا من الغيب فاصدقوا يعني من لزم الصدق وعود لسانه وفق فلا يكاد ينطق بشيء يظنه إلا جاء على ظنه
وخطب بلال لأخيه امرأة قرشية فقال لأهلها نحن من قد عرفتم كنا عبدين فأعتقنا الله تعالى وكنا ضالين فهدانا الله تعالى وكنا فقيرين فأغنانا الله تعالى وأنا أخطب إليكم فلانة لأخي فان تنكحوها له فالحمد لله تعالى وإن تردونا فالله أكبر
فأقبل بعضهم على بعض فقالوا بلال ممن عرفتم سابقته ومشاهده ومكانه من رسول الله فزوجوا أخاه فزوجوه فلما

انصرفوا قال له أخوه يغفر الله لك أما كنت تذكر سوابقنا ومشاهدنا مع رسول الله وتترك ما عدا ذلك فقال مه يا أخي صدقت فأنكحك الصدق
وخطب الحجاج فأطال فقام رجل فقال الصلاة فان الوقت لا ينتظرك والرب لا يعذرك فأمر بحبسه فأتاه قومه زعموا أنه مجنون وسألوه أن يخلي سبيله فقال إن أقر بالجنون خليته فقيل له فقال معاذ الله لا أزعم أن الله ابتلاني وقد عافاني
فبلغ ذلك الحجاج فعفا عنه لصدقه
الفصل الثاني من هذا الباب
في الكذب وما جاء به
قال الله تعالى في الكاذبين ( ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ) وقال تعالى ( ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ) وقال رسول إياكم والكذب فان الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار وتحروا الصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله إذا كذب العبد كذبة تباعد الملكان عنه مسيرة ميل من نتن ما جاء به ويقال راوي الكذب أحد الكذابين
ويقال رأس المآثم الكذب وعمود الكذب البهتان
وقيل أمران لا ينفكان من الكذب كثرة المواعيد وشدة الاعتذار
وقال الحسن في قوله تعالى ( ولكم الويل مما تصفون )
وهي لكل واصف كذب إلى يوم القيامة
وقال الأصمعي قلت لكذاب أصدقت قط قال لولا أني أخاف أصدق في هذا لقلت لك لا فتعجب

وقال محمود بن أبي الجنود
( لي حلية فيمن ينم ... وليس في الكذاب حيلة )
( من كان يخلق ما يقول ... فحيلتي فيه قليلة )
ويقال فلان أكذب من لمعان السراب ومن سحاب تموز وكان بفارس محتسب يعرف بجراب الكذب وكان يقول إن منعت الكذب انشقت مرارتي وإني والله لأجد به مع ما يلحقني من عاره من المسرة ما لا أجده بالصدق مع ما ينالني من نفعه
وقال فيلسوف من عرف من نفسه الكذب لم يصدق الصادق فيما يقوله
ولبعضهم
( حسب الكذوب من البلية ... بعض ما يحكى عليه )
( فمتى سمعت بكذبة ... من غيره نسبت إليه )
وأضاف صيرفي قوما فأقبل يحدثهم فقال بعضهم نحن كما قال تعالى ( سماعون للكذب أكالون للسحت )
وعن عبد الله ابن السدي قال قلت لابن المبارك حدثنا حديثا قال ارجعوا فلست أحدثكم فقيل له إنك لم تحلف فقال لو حلفت لكفرت وحدثتكم ولكن لست أكذب فكان هذا أحب إلينا من الحديث وقال مجاهد يكتب على ابن آدم كل شيء حتى أنينه في سقمه وحتى أن الصبي ليبكي فتقول له أمه اسكت وأشتري لك كذا ثم لا تفعل فتكتب كذبة
وقال الفضيل ما من مضغة أحب إلى الله تعالى من اللسان إذا كان صدوقا ولا مضغة أبغض إلى الله تعالى من اللسان إذا كان كذوبا
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعا أعظم الخطايا اللسان الكذوب
قال الشاعر
( لا يكذب المرء إلا من مهانته ... أو فعله السوء أو من قلة الأدب )

( لبعض جيفة كلب خير رائحة ... من كذبة المرء في جد وفي لعب )
ولما نصب معاوية ضي الله تعالى عنه ابنه يزيد لولاية العهد أقعده في قبة حمراء وجعل الناس يسلمون على معاوية ثم يسلمون على يزيد حتى جاء رجل ففعل ذلك ثم رجع إلى معاوية فقال يا أمير المؤمنين أعلم إنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها والأحنف ساكت فقال معاوية مالك لا تقول يا أبا بحر فقال أخاف الله تعالى إن كذبت وأخافكم إن صدقت
فقال جزاك الله خيرا عما تقول ثم أمر له بألوف فلما خرج الأحنف لقيه ذلك الرجل بالباب فقال له يا أبا بحر إني لأعلم أن هذا من شرار خلق الله تعالى ولكنهم استوثقوا من الأموال بالأبواب والأقفال فلسنا نطمع في إخراجها إلا بما سمعت فقال له الأحنف يا هذا أمسك فان ذا الوجهين خليق أن لا يكون عند الله وجيها
وقيل إن الكذب يحمد إذا وصل بين المتقاطعين أو أصلح بين الزوجين ويذم الصدق إذا كان غيبة
وقد رفع الحرج عن الكاذب في الحرب وعن المصلح بين المرء وزوجه
وكان المهلب في حرب الخوارج يكذب لأصحابه يقوي بذلك جأشهم فكانوا إذا رأوه مقبلا إليهم قالوا جاءنا بكذب
وقال يحيى بن خالد رأينا شارب خمر نزع ولصا أقلع وصاحب فواحش رجع ولم نر كذابا صار صادقا
وكان عمر بن معد يكرب مشهورا بالكذب
وقيل لخلف الأحمر وكان شديد التعصب لليمن أكان ابن معد يكرب يكذب فقال كان يكذب في المقال ويصدق في الفعال
قيل إن بلالا لم يكذب مذ أسلم رضي الله تعالى عنه والحمد لله وحده

الباب الخامس والأربعون في بر الوالدين وذم العقوق وذكر الأولاد وما يحب لهم وعليهم وصلة الرحم والقرابات وذكر الأنساب وفيه فصول
الفصل الأول في بر الوالدين وذم العقوق
قال الله تعالى ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا )
وقال تعالى ( وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا )
وقال تعالى ( أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير )
وقال تعالى ( فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) وعن علي رضي الله تعالى عنه لو علم الله شيئا في العقوق أدنى من أف لحرمه فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فإن يدخل الجنة وليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار
وقيل إن رضا الرب في رضا الوالدين وسخط الرب في سخط الوالدين
وحكى أبو سهل عن ابي صالح عن ابي نجيح عن ربيعة عن عبد الرحمن عن عطاء بن أبي مسلم أن رسول الله قال من حج عن والده بعد وفاته كتب الله لوالده حجة وكتب له براءة من النار

رسول الله إياكم وعقوق الوالدين فان ريح الجنة يوجد من مسيرة خمسمائة عام ولا يجد ريحها عاق
وكان رجل من النساك يقبل كل يوم قدم أمه فأبطأ يوما على أخوته فسألوه فقال كنت أتمرغ في رياض الجنة فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات وبلغنا أن الله تعالى كلم موسى عليه السلام ثلاثة آلاف وخمسمائة كلمة فكان آخر كلامه يا رب أوصيني قال أوصيتك بأمك حسنا قال له سبع مرات
قال حسبي ثم قال يا موسى ألا إن رضاها رضاي وسخطها سخطي
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه لابن مهران لا تأتين أبواب السلاطين وإن أمرتهم بمعروف أو نهيتهم عن منكر ولا تخلون بامرأة وإن علمتها سورة من القرآن ولا تصحبن عاقا فإنه لن يقبلك وقد عق والديه
وقال فيلسوف من عق والديه عقه ولده
وقال المأمون لم أر أحدا أبر من الفضل بن يحيى بأبيه بلغ على بره له إنه كان لا يتوضأ إلا بماء سخن فمنعهم السجان من الوقود في ليلة باردة فلما أخذ يحيى مضجعه قام الفضل إلى قمقم نحاس فملأه ماء وأدناه من المصباح فلم يزل قائما وهو في يده إلى المصباح حتى استيقظ يحيى من منامه
وقيل طلب بعضهم من ولده أن يسقيه ماء فلما أتاه بالشربة نام أبوه فما زال الولد واقفا بالشربة في يده إلى الصباح حتى استيقظ أبوه من منامه
وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إن لي أما بلغ منها الكبر إنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطية فهل أديت حقها قال لا
لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك وأنت تصنعه وتتمنى فراقها
وقال ابن المنكدر بت أكبس رجل أبي وبات آخر يصلي ولا يسرني ليلته بليلتي وقيل إن محمد بن سيرين كان يكلم أمه كما يكلم الأمير الذي لا ينتصف منه وقيل لعلي ابن الحسين رضي الله تعالى عنه إنك من أبر الناس ولا تأكل مع أمك في صحفة فقال نخاف ان تسبق يدي يدها ما تسبق عيناها إليه فأكون قد عققتها

الفصل الثاني في الأولاد وحقوقهم وذكر النجباء والأذكياء والبلداء والأشقياء
قال رسول الله الولد ريحانة من الجنة
وقال الفضل ريح الولد من الجنة
وكان يقال ابنك ريحانتك سبعا ثم حاجبك سبعا ثم عدو أوصديق
وعن ابي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال قلت لسيدي رسول الله يا رسول الله هل يولد لأهل الجنة قال والذي نفس بيده إن الرجل يشتهي أن يكون له ولد فيكون حمله ووضعه وشبابه الذي ينتهي إليه في ساعة واحدة
وقيل من حق الولد على والده أن يوسع عليه حاله كي لا يفسق
وقال عمر رضي الله تعالى عنه إني لأكره نفسي على الجماع رجاء أن يخرج الله مني نسمة تسبحه وتذكره
وقال رضي الله تعالى عنه أكثروا من العيال فأنكم لا تدرون بمن ترزقون
وقال شبيب ابن شبة ذهب اللذات إلا من ثلاثة شم الصبيان وملاقاة الأحزان والخلوة مع النسوان
ودخل عمرو بن العاص على معاوية وعنده ابنته عائشة فقال من هذه يا أمير المؤمنين قال هذه تفاحة القلب فقال انبذها عنك فإنهن يلدن الأعداء ويقربن البعداء ويورثن الضغائن قال لا تقل يا عمرو ذلك فوالله ما مرض المرضى ولا ندب الموتى ولا أعان على الاخوان إلا هن فقال عمرو يا أمير المؤمنين إنك حببتهن إلي وقيل لرجل أي ولدك أحب إليك قال صغيرهم حتى يكبر ومريضهم حتى يبرأ وغائبهم حتى يحضر وقال ابن عامر لامرأته أمامة بنت الحكم الخزاعية إن ولدت غلاما فلك حكمك فلما ولدت قالت حكمي أن تطعم سبعة ايام كل يوم على ألف خوان من فالوذج وإن تعق بألف شاة ففعل لها ذلك وغضب معاوية على يزيد فهجره فقال الأحنف يا أمير المؤمنين أولادنا ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا ونحن لهم سماء ظليلة وأرض ذليلة وبهم نصول على كل جليلة فإن غضبوا فارضهم وإن سألوا فاعطهم وإن لم يسألوا فابتدئهم ولا تنظر إليهم شزرا فيملوا حياتك ويتمنوا وفاتك فقال معاوية يا غلام إذا رأيت يزيد فاقرأه السلام

واحمل إليه مائتي ألف درهم ومائتي ثوب فقال يزيد من عند أمير المؤمنين فقيل له الأحنف فقال يزيد بن معاوية علي به فقال يا أبا بحر كيف كانت القصة فحكاها له فشكر صنيعه وشاطره الصلة
حكى الكسائي أنه دخل على الرشيد يوما فأمر باحضار الأمين والمأمون ولديه قال فلم يلبث أن قليلا أن أقبلا ككوكبي أفق يزينهما هداهما ووقارهما وقد غضا أبصارهما حتى وقفا في مجلسه فسلما عليه بالخلافة ودعوا له بأحسن الدعاء فاستدناهما وأسند محمدا عن يمينه وعبد الله عن يساره ثم أمرني أن ألقي عليهما أبوابا من النحو فما سألتهما شيئا إلا أحسنا الجواب عنه فسره ذلك سرورا عظيما وقال كيف تراهما فقلت
( أرى قمري أفق وفرعين شامة ... يزينهما عرق كريم ومحتد )
( سليلي أمير المؤمنين وحائزي ... مواريث ما أبقي النبي محمد )
( يسدان انفاق النفاق بشيمة ... يزينهما حرم وسيف مهند )
ثم قلت ما رأيت أعز الله أمير المؤمنين أحدا من أبناء الخلافة ومعدن الرسالة وأغصان هذه الشجرة الزلالية آدب منهما ألسنا ولا أحسن ألفاظا ولا أشد اقتدارا على الكلام روية وحفظا منهما أسأل الله تعالى أن يزيد بهما الإسلام تأييدا وعزا ويدخل بهما على أهل الشرك ذلا وقمعا
وأمن الرشيد على دعائه ثم ضمهما إليه وجمع عليهما يديه فلم يبسطهما حتى رأيت الدموع تنحدر على صدره ثم أمرهما بالخروج وقال كأني بهما وقد دهم القضاء ونزلت مقادير السماء وقد تشتت أمرهما وافترقت كلمتهما بسفك الدماء وتهتك الستور
وكان يقال بنو أمية دن خل أخرج الله منه زق عسل يعني عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه
وسب أعرابي ولده وذكر له

حقه فقال يا أبتاه إن عظيم حقك علي لا يبطل صغير حقي عليك
قال سيدي عبد العزيز الديريني رحمه الله تعالى
( أحب بنيتي ووددت أني ... دفنت بنيتي في قاع لحد )
( وما بي أن تهون علي لكن ... مخافة أن تذوق الذل بعدي )
( فان زوجتها رجلا فقيرا ... أراها عنده والهم عندي )
( وإن زوجتها رجلا غنيا ... فيلطم خدها ويسب جدي )
( سألت الله يأخذها قريبا ... ولو كانت أحب الناس عندي )
وقال هرون بن علي بن يحيى المنجم
( أرى ابني تشابه من علي ... ومن يحيى وذاك به خليق )
( وإن يشبههما خلقا وخلقا ... فقد تسري إلى الشبه العروق )
وقال ابو النصر مولى بني سليم
( ونفرح بالمولود من آل برمك ... ولا سيما إن كان من ولد الفضل )
وقال الحسن بن زيد العلوي
( قالوا عقيم لم يولد له ولد ... والمرء يخلفه من بعده الولد )
( فقلت من علقت بالحرب همته ... عاف النساء ولم يكثر له عدد )
وكان الزبير بن العوام رضي الله عنه يرقص ولده ويقول
( أزهر من آل بني عتيق ... )
( مبارك من ولد الصديق ... )
( ألذه كما ألذ ريقي ... )

وكانت اعرابية ترقص ولدها وتقول
( يا حبذا ريح الولد ... ريح الخزامى في البلد )
( أهكذا كل ولد ... أم لم يلد مثلي أحد )
وكان أعرابي يرقص ولده ويقول
( أحبه حب الشحيح ماله ... )
( قد ذاق طعم الفقر ثم ناله ... )
( إذا أراد بذله بدا له ... )
وكان لأعرابي امرأتان فولدت أحداهما جارية والأخرى غلاما فرقصته أمه يوما وقالت معايرة لضرتها
( الحمد لله الحميد العالي ... أنقذني العام من الجوالي )
( من كل شوهاء كشن بالي ... لا تدفع الضيم عن العيال )
فسمعتها ضرتها فأقبلت ترقص ابنتها وتقول
( وما علي أن تكون جارية ... تغسل رأسي وتكون الفالية )
( وترفع الساقط من خمارية ... حتى إذا ما بلغت ثمانية )
( أزرتها بنقبة يمانية ... أنكحتها مروان أو معاوية )
( أصهار صدق ومهور غالية ... )
قال فسمعها مروان فتزوجها على مائة ألف مثقال وقال إن أمها حقيقة أن لا يكذب ظنها ويخان عهدها فقال معاوية لولا مروان سبقنا إليها لأضعفنا لها المهر ولكن لا نحرم الصلة فبعث إليها بمائتي ألف درهم والله أعلم

ومما جاء في الأولاد البلداء القليلي التوفيقي
قيل نظر أعرابي إلى ولد له قبيح المنظر فقال له يا بني إنك لست من زينة الحياة الدنيا
وقال رجل لولده وهو في المكتب في أي سورة أنت قال لا أقسم بهذا البلد ووالدي بلا ولد فقال لعمري من كنت أنت ولده فهو بلا ولد
وأرسل رجل ولده يشتري له رشاء للبئر طوله عشرون ذراعا فوصل إلى نصف الطريق ثم رجع فقال يا أبت عشرون في عرض كم قال في عرض مصيبتي فيك يا بني
وكان لرجل من الأعراب ولد اسمه حمزة فبينما هو يوما يمشي مع أبيه إذا برجل يصيح بشاب يا عبد الله فلم يجبه ذلك الشاب فقال ألا تسمع فقال يا عم كلنا عبيد الله فأي عبد تعني فالتفت أبو حمزة إليه وقال يا حمزة ألا تنظر إلى بلاغة هذا الشاب فلما كان من الغد إذا برجل ينادي شابا يا حمزة فقال حمزة بن الأعرابي كلنا حماميز الله فأي حمزة تعني فقال له أبوه ليس يعنيك يا من أخمد الله به ذكر أبيه
وكان لمحمد بن بشير الشاعر ابن جسيم فأرسله في حاجته فأبطأ عليه ثم عاد ولم يقضها فنظر إليه ثم قال
( عقله عقل طائر ... وهو في خلقه الجمل )
فأجابه
( مشبه بك يا أبي ... ليس لي عنك منتقل )
ونهى اعرابي ابنه عن شرب النبيذ فلم ينته وقال
( أمن شربة من ماء كرم شربتها ... غضبت علي الآن طابت لي الخمر )
( سأشرب فاسخط لارضيت كلاهما ... حبيب إلى قلبي عقوقك والسكر )
وقيل قال ذلك يزيد بن معاوية لأبيه حين نهاه عن شرب الخمر
ومما جاء في صلة الرحم
قال رسول الله صلة الرحم منهاة للولد مثراة للمال
وقيل وجد حجر حين حفر ابراهيم الخليل عليه السلام أساس البيت

عليه بالعبرانية أنا الله ذوبكة خلقت الرحم وشققت لها إسما من أسمائي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته أي قطعته
وقال رسول الله أعجل الخير ثوابا صلة الرحم
وحدثنا أبو سهل عن صالح بن جرير بن عبد الحميد عن منصور عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه كعب الأحبار أنه قال والذي فلق البحر لموسى بن عمران إن في التوراة لمكتوبا يا ابن آدم اتق ربك وبر والديك وصل رحمك أزد في عمرك وأيسر لك في يسيرك وأصرف عنك عسيرك
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي أنه قال صنائع المعروف تقي مصارع السوء وصدقة السر تطفئ غضب الرب جلا وعلا وصلة الرحم تزيد في العمر وذكر تمام الحديث
الفصل الثالث من هذا الباب في ذكر الأنساب والأقارب والعشيرة
قال عمر رضي الله عنه تعلموا أنسابكم تعرفوا بها أصولكم فتصلوا بها أرحامكم وقيل لو لم يكن من معرفة الأنساب إلا اعتزازها من صولة الأعداء وتنازع الأكفاء لكان تعلمها من أحزم الرأي وأفضل الثواب ألا ترى إلى قول قوم شعيب عليه السلام حيث قالوا ولولا رهطك لرجمناك فأبقوا عليه لرهطه
وقال عمر رضي الله عنه تعلموا العربية فإنها تزيد في المروءة وتعلموا النسب فرب رحم مجهولة قد وصلت بعرفان نسبها
وسئل عيسى عليه السلام أي الناس أشرف فقبض قبضتين من تراب وقال أي هاتين أشرف ثم جمعهما وطرحهما وقال الناس كلهم من تراب إن أكرمكم عند الله أتقاكم
كان أبو كبشة جد رسول الله من قبل أمه فلما خالف رسول الله دين قريش

قالوا نزعة عرق أبي كبشة حيث خالفهم في عبادة الشعري
وقال خالد بن عبد الله القشيري سألت واصل بن عطاء عن نسبه فقال نسبي الإسلام الذي من ضيعه فقد ضيع نسبه ومن حفظه فقد حفط نسبه فقال خالد وجه عبد وكلام حر
ومن كلام علي كرم الله وجهه أكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير فإنك بهم تصول وبهم تطول وهم العدة عند الشدة أكرم كريمهم وعد سقيمهم وأشركهم في أمورك ويسر عن معسرهم
وكان يقال إذا كان لك قريب فلم تمش إليه برجلك ولم تعطه من مالك فقد قطعته
ويقال حق الأقارب إعظام الأصغر للأكبر وحنو الأكبر على الأصغر
قال رسول الله حق كبير الأخوة على صغيرهم كحق الوالد على ولده قال بعضهم
( وإذا رزقت من النوافل ثروة ... فامنح عشيرتك الأداني فضلها )
( واعلم بأنك لم تسود فيهم ... حتى ترى دمث الخلائق سهلها )

الباب السادس والأربعون في الخلق وصفاتهم وأحوالهم وذكر الحسن والقبيح والقصر والألوان والثياب وما أشبه ذلك وفيه فصول
الفصل الأول
في الحسن ومحاسن الأخلاق
وإلى سيدنا محمد رسول الله ينتهي الحسن والجمال
كان سيدنا محمد ربعة من القوم لا بائنا من طول ولا تقتحمه عين من قصر أبيض اللون مشربا بحمرة أدعج العينين مفلج الثنايا دقيق المسربة أزهر الجبين واضح الخد أقنى الأنف كأن عنقه إبريق فضة ظاهر الوضاءة يتلألأ وجهه تلألؤ القمر شثن الكفين مسبح القدمين واسع الصدر من لبته إلى سرته شعر يجري كالقضيب ليس في بطنه ولا صدره شعر غير أشعر الذراعين والمنكبين لم يبلغ شيبه في رأسه ولحيته عشرين شعرة ضخم الكراديس أنور المتجرد إذا مشى كأنما ينحط من صبب وإذا التفت التفت جميعا بين كتفيه خاتم النبوة كأنه زر حجلة أو بيض حمامة لونه كلون جسده أبلج

حسن الخلق وسيما قسيما في جبينه زجج وفي عينيه دعج وفي عنقه سطع وفي لحيته كثافة إن صمت فعليه الوقار وإن تكلم سما وعلاه البهاء أجمل الناس وأبهاهم من بعيد وأحسنهم وأكملهم من قريب كأنما منطقه خرزات نظم يتحدرن
قال أنس رضي الله عنه ما رأيت من ذي لمة سوداء في حلة حمراء أحسن من رسول الله ومدحه حسان بن ثابت رضي الله عنه فقال
( وأحسن منك لم ترقط عيني ... وأجمل منك لم تلد النساء )
( خلقت مبرأ من كل عيب ... كأنك قد خلقت كما تشاء )
اللهم صلى وسلم عليه واجعله شفيعا لمن يصلي عليه
وقال ما حسن الله خلق عبد وخلقه إلا استحيا أن يطعم لحمه النار وقد كان المتوكل رحمه الله من أحسن الخلفاء العباسية وجها وأبهاهم منظرا وكان مصعب بن الزبير من أحسن الناس وجها
حكي إنه كان جالسا بفناء داره يوما بالبصرة فإذا جاءت امرأة فوقفت تنظر إليه فقال لها ما وقوفك يرحمك الله فقالت طفئ مصباحنا فجئنا نقتبس من وجهك مصباحا
وقيل لإعرابية ظريفة ما بال شفتيك مشفقة فقالت إن التين إذا حلا تشقق والورد يتشقق إذا مسه الندى وكانت لبابة بنت عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم من أجمل الناس وجها وكانت عند الوليد بن عتبة بن أبي سفيان فكانت تقول ما نظرت وجهي في مرآة مع إنسان إلا رحمته من حسن وجهي إلا الوليد فكنت إذا نظرت إلى وجهي مع وجهه رحمت وجهي من حسن وجهه قال الشاعر
( ولو أنها في عهد يوسف قطعت ... قلوب رجال لا أكف نساء )
وقال كثير
( لو أن عزة حاكمت شمس الضحى ... في الحسن عند موفق لقضى لها )

ومما جاء في محاسن الخلق منظوما على الترتيب من الفرق إلى القدم
ما قيل في الشعر كان يقال من تزوج امرأة أو اتخذ جارية فليتحسن من شعرها فإن الشعر الحسن أحد الوجهين قال بكر بن النطاح
( بيضاء تسحب من قيام شعرها ... وتغيب فيه وهو وجه أسحم )
( فكأنها فيه نهار ساطع ... وكأنه ليل عليها مظلم )
وللمتنبي
( نشرت ثلاث ذوائب من شعرها ... في ليلة فأرت ليالي أربعا )
( واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معا )
وله أيضا
( لبسن الوشي لا متجملات ... ولكن كي يصن به الجمالا )
( وصفرن الغدائر لا لحسن ... ولكن خفن في الشعر الضلالا )
وقال الصفدي
( لولا شفاعة شعره في صبه ... ما كان زار ولا أزال سقاما )
( لكن تنازل في الشفاعة عنده ... فعذا على أقدامه يترامى )
وقال ابن الصائغ
( ثنى غصنا ومد عليه فرعا ... كحظ حين أطلب منه وصلا )

( وبليله على الأرداف منه ... فلم أر مثل ذاك الفرع أصلا )
وقال آخر
( أرخى ثلاثا يوم حمامه ... ذوائبا تعبق منها الغوال )
( فقلت والقصد ذؤاباته ... واسهرى في ذي الليالي الطوال )
وقال آخر
( بدت ثريا قرطها وشعرها ... متصل بكعبها كما ترى )
( يا عجبا لشعرها لما ابتدى ... من الثريا فانتهى إلى الثرى )
وقال ابن المعتز
( توارت عن الواشي بليل ذوائب ... لها من محيا واضح تحته فجر )
( يغطى عليها شعرها بظلامه ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر )
ومما قيل في الأصداغ
قال ابن المعتز
( ريم يتيه بحسن صورته ... عبث النعاس بلحظ مقلته )
( وكأن عقرب صدغه وقفت ... لما دنت من ورد وجنته )
وقال العادلي
( وعهدي بالعقارب حين تشتو ... يخفف لدغها ويقل ضرا )
( فما بال الشتاء أتى وهذي ... عقارب صدغها تزداد شرا )
وقال آخر
( وما ضره نار بخديه ألهبت ... ولكن بها قلب المحب يعذب )
( عناقيد صدغيه بخديه تلتوي ... وأمواج ردفيه بخصريه تلعب )
( شربت الهوى صرفا زلالا وإنما ... لواحظه تسقى وقلبي يشرب )

وقال آخر
( حل القبا ولوى صدغيه فانعقدا ... واحيرتي بين محلول ومعقود )
( وأسكرتني ثناياه وريقته ... هل هذه الخمر من تلك العناقيد )
ومما قيل في مدح العذار قال أبو فراس بن حمدان
( يا من يلوم على هواه جهالة ... انظر إلى تلك السوالف تعذر )
( حسنت وطاب نسيمها فكأنها ... مسك تساقط فوق خد أحمر )
وقال محمد بن وهب
( صدودك والهوى هتكا استتاري ... وساعدني البكاء على اشتهاري )
( وكم أبصرت من حسن ولكن ... عليك لشقوتي وقع اختباري )
( ولم أخلع عذارا فيك إلا ... لما عاينت من خلع العذار )
وقال آخر
ومعذر رقت حواشي خده ... فقلوبنا وجدا عليه رقاق )
( لم يكس عارضه السواد وإنما ... نفضت عليه سوادها الأحداق )
وقال آخر
( ومهفهف راقت نصارة وجهه ... والعين تنظر منه أحسن منظر )
( أصلى بنار الخد عنبرخاله ... فبدا العذار دخان ذاك العنبر )
وقال آخر
( أصبحت سلطان القلوب ملاحة ... وجمال وجهك للبرية عسكر )
( طلعت طلائع وجنتيك مغيرة ... بالنصر يقدمها اللؤاء الأخضر )
وقال آخر
( يا ذا الذي خط العذار بخده ... خطين هاجا لوعة وبلابلا )

( ما صح عندي أن لحظك صارم ... حتى حملت بعارضيك حمائلا )
وقال آخر
( من لا رأى كعبة الحسن التي حرست ... بالنمل حيث مقام النحل في فمه )
( فلينظر النمل أضحى فوق عارضه ... يطوف سبعا وسبعا حول مبسمه )
وقال بدر الدين الدماميني
( تحدث ليل عارضه بأني ... سأسلوه وينصرم المزار )
( فأشرق صبح غرته ينادي ... حديث الليل يمحوه النهار )
وقال آخر
( وقالوا تسلى فقد شأنه ... عذار أراحك من صده )
( فقلت وهممتم ولكنني ... خلعت العذار على خده )
سيدي أبو الفضل بن أبي الوفاء
( على وجنتيه جنة ذات بهجة ... ترى لعيون الناس فيها تزاحما )
( حمى ورد خديه حماة عذاره ... فيا حسن ريحان العذار حماحمى )
وقال ابن نباتة
( وبمهجتي رشأ يميس قوامه ... فكأنه نشوان من شفتيه )
( شغف العذار بخده ورآه قد ... نعست لواحظه فدب عليه )
وقال الموصلي
( لحديث نبت العارضين حلاوة ... وطلاوة هامت بها العشاق )
( فإذا نهاني المرء قلت ترفقوا ... فاليكم هذا الحديث يساق )
وقال آخر
( أصبحت مكسورا بسهم لحاظه ... ومقيدا من صدغه ولسانه )
( حتى بدا سيف العذار مجردا ... فخشيت يقتلني وذا من شأنه )

وقال آخر
( يا صاح قد حضر المدام ومنيتي ... وحظيت بعد الهجر بالايناس )
( وكسا العذار الخد حسنا فاسقني ... واجعل حديثك كله في الكأس )
وقال ابن نباته
( وضعت سلاح الصبر عنه فما له ... يغازل بالألحاظ من لا يغازله )
( وسال عذار فوق خديه سائل ... على خده فليتق الله سائله )
ومما قيل في ذم العذار قال الشاعر
( غدا لما التحى ليلا بهيما ... وكان كأنه قمر منير )
( وقد كتب السواد بعارضيه ... لمن يقرأ وجاءكم النذير )
وقال آخر في ذمه
( قلت لأصحابي وقد مر بي ... منتقيا بعد الضيا بالظلم )
( بالله يا أهل ودي قفوا ... ثم انظروا كيف زوال النعم )
وقال آخر
( ما زال ينتف ريحانا بعارضه ... حتى استطال عليه صار يحلقه )
( كأنما طور سينا فوق عارضه ... طول الزمان فموسى لا يفارقه )
وقال آخر
( ما زال يحلف لي بلك ألية ... أن لا يزال مدى الزمان مصاحبي )
( لما جنى نزل العذار بخده ... فتعجبوا لسواد وجه الكاذب )
قال ابن المعتز
( يا رب إن لم يكن في وصل طمع ... ولم يكن فرج من طول جفوته )
( فاشفت السقام الذي في لحظه مقلته ... واستر ملاحة خديه بلحيته )

ومما قيل في الجبين والحواجب
قال خالد الكاتب
( لها من ظباء الرمل عين مريضة ... ومن ناضر الريحان خضرة حاجب )
( ومن يانع الأغصان قد وقامة ... ومن حالك الحبر اسوداد الذوائب )
وقال آخر
( غزاني الهوى في جيشه وجنوده ... وهب على الجيش من كل جانب )
( بميسرة أجنادها أعين المها ... وميمنة تقضي بزج الحواجب )
وقال آخر
( أيا قمرا تبسم عن أقاح ... ويا غصبا يميل مع الرياح )
( جبينك والمقبل والثنايا ... صباح في صباح في صباح )
ومما قيل في العيون
قال الأصمعي ما وصف أحد العيون بمثل ما وصف أحمد بن الرقاع في قوله
( وكأنها دون النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم )
( وسنان أقصده النعاس تلاعبت ... في جفنه سنة وليس بنائم )
وقال ابن المعتز
( عليم بما تحت العيون من الهوى ... سريع بكسر اللحظ والقلب جازع )
( فيجرح أحشائي بعين مريضة ... كما لان متن السيف والحد قاطع )
وقال الأخطل
( ولا تلمم بدار بني كليب ... ولا تقرب لها أبدا رحالا )
( ترى فيها بوارق مرهفات ... يكدن يكدن بالحرق الرجالا )

وقال أبو فراس وأحسن
( وبيض بألحاظ العيون كأنما ... هززن سيوفا واستللن خناجرا )
( تصدين لي يوما بمنعرج اللوى ... فغادرن قلبي بالتصبر غادرا )
( سفرن بدورا والتقين أهلة ... ومسن غصونا والتفتن جآذرا )
وقال آخر
( ومريض جفن ليس يصرف طرفه ... نحو امرئ إلا رماه بحتفه )
( قد قلت إذ أبصرته متمايلا ... والردف يجذب خصره من خلفه )
( يا من يسلم خصره من ردفه ... سلم فؤاد محبه من طرفه )
وقال أبو هتان
( أخو دنف رمته فاقصدته ... سهام من جفونك لا تطيش )
( فواتك لا يقال سوى احورار ... بهن ولا سوى الأهداب ريش )
( أصبن فؤاد مهجته فأضحى ... سقيما لا يموت ولا يعيش )
( كئيبا إن ترحل عنه جيش ... من البلوى أناخ به جيوش )
وقال آخر
( وجاؤا إليه بالتعاويذ والرقى ... فصبوا عليه الماء من شدة النكس )
( وقالوا به من أعين الجن نظرة ... ولو أنصفوا قالوا به أعين الأنس )
وقال عز الدين الموصلي
( لها عين لها غزو وغزل ... مكحلة ولي عين تباكت )
( وحاكت في فعائلها المواضي ... فيا لك مقلة غزلت وحاكت )
وقال برهان الدين القيراطي
( شبه السيف والسنان بعيني ... من لقتلي بين الأنام استحلا )
( فأتى السيف والسنان وقالا ... حدثا دون ذاك حاشى وكلا )

وله أيضا
( بأبي أهيف المعاطف لدن ... حسد الأسمر المثقف قده )
( ذو جفون مذ رمت منها كلاما ... كلمتني سيوفهن بحده )
وقال بدر الدين بن حبيب
( عيناه قد شهدت بأني مخطئ ... وأتت بخط عذاره تذكارا )
( يا حاكم الحب ائتد في قتلتي ... فالخط زور الشهود سكارى )
وقال جلال الدين بن خطيب داريا
( شهدت جفون معذبي بملالة ... مني وأن وداده تكليف )
( لكنني إلم أنأ عنه لأنه ... خبر رواه الجفن وهو ضعيف )
وقال الشيخ عز الدين الموصلي
( يا مقلة الحب مهلا ... فقد أخذت بثارك )
( وأنت يا وجنتيه ... لا تحرقيني بنارك )
وقال ابن الصائغ
( لمثلي من لواحظها سهام ... لها في القلب فتك أي فتك )
( إذا رامت تشك به فؤادا ... يموت المستهام بغير شك )
وقال الصلاح الصفدي
( يا عاذلي على عين محجبة ... خف سحر ناظرها فالسحر فيه خفى )

( وخذ فؤادي ودعه نصب مقلتها ... لا ترم نفسك بين السهم والهدف )
وقال آخر
( بسهم أجفانه رماني ... فذبت من هجره وبينه )
( إن مت ما لي سواه خصم ... لأنه قاتلي بعينه )
وقال آخر
( سهام الجفن كم قتلت لنفس ... مبراة من السلوى زكية )
( فما أقوى جفونك وهي مرضى ... وأقدرها على قتل البرية )
ومما قيل في الخال
للصلاح الصفدي
( بروحي خده المحمر أضحى ... عليه شامه شرط المحبة )
( كأن الحسن يعشقه قديما ... فنقطه بدينار وجبه )
ولابن الصائغ
( بروحي أفدي خاله فوق خده ... ومن أنا في الدنيا فأفديه بالمال )
( تبارك من أخلى من الشعر خده ... وأسكن كل الحسن في ذلك الخال )
للشيخ جمال الدين بن نباتة
( لله خال على خد الحبيب له ... في العاشقين كما شاء الهوى عبث )
( أورثته حبه القلب القتيل به ... وكان عهدي بأن الخال لا يرث )
وقال آخر
( يا سالبا قمر السماء جماله ... ألبستني في الحزن ثوب سمائه )
( أحرقت قلبي فارتمي بشرارة ... علقت بخدك فانطفت في مائه )
للشيخ تقي الدين بن حجة
( قلت للخال إذ بدا ... في نقا جيده السعيد )

( فزت يا عبد قال لي ... أنا عبد لكل جيد )
وقال ابن أيبك
( في الجانب الأيمن من خدها ... نقطة مسك اشتهى شمها )
( حسبته لما بدا خالها ... وجدته من حسنها عمها )
وقال الحسين بن الضحاك
( يا صائد الطير كم ذا ... باللحظ تضني وتسبي )
( نصبت نقطة خال ... فصدت طائر قلبي )
ومما قيل في الخدود
قال ابن المعتز
( صل بخدي خديك تلق عجيبا ... من معان يحار فيها الضمير )
( فبخديك للربيع رياض ... وبخدي للدموع غدير )
وقال آخر
( ورد الخدود ونرجس اللحظات ... وتصافح الشفتين في الخلوات )
( شيء أسر به وأعلم أنه ... وحياته أحلى من اللذات )
ومما قيل في الثغور
قال يوسف بن مسعود الصواف
( بروحي من ولى فولى بمهجتي ... وولى منامي وهو كالوصل شارد )
( حمى ثغره مني بسيف لحاظه ... وحتام يحمى ثغره وهو بارد )
وقال آخر
( أنفقت كنز مدامعي في ثغره ... وجمعت فيه كل معنى شارد )
( وطلبت منه جزاء ذلك قبلة ... فمضى وراح تغزلي في البارد )

وقال آخر
( رأى ثغر من أهوى عذولي فقال لي ... ولم يدر أن اللوم في خده يغري )
( شغلت بهذا وارتبطت بحسنه ... وأحسن ما كان الرباط على ثغر )
وقال ابن ريان
( لاحت على مبسمه المشتهى ... ثلاث شامات غدت في التثام )
( لا تعجبوا إن كثرت حوله ... فالمنهل العذب كثير الزحام )
ومما قيل في طيب الريق والنكهة
قال ذو الرمة
( أسيلة مجرى الدمع هيفاء طفلة ... عروب كايماض الغمام ابتسامها )
( كأن على فيها وما ذقت طعمه ... زجاجة خمر فيها مدامها )
وقال شهاب الدين الكردي
( ذكرت ريح حبيبي ... بشرب راح تعطر )
( وليس ذا بعجب ... فالشيء بالشيء يذكر )
وقال غيره
( رشفت ريقا حلوا ... ولم يكن لي صبر )
( وسوف أحظى بوصل ... فأول الغيث قطر )
وقال الصلاح الصفدي
( نقل الأراك بأن ريقه ثغره ... من قهوة مزجت بماء الكوثر )
( قد صح ما نقل الأراك لأنه ... يرويه نصا عن صحاح الجوهري )
وقال آخر
( ثلاث تجمعن في ثغرها ... ملاح أدلتها واضحة )

( فإن قيل ما هي قل لي أقل ... هي الطعم واللون والرائحة )
وقال آخر
( يا رب ممتنع الوصال محجب ... بستوره كالبدر بين غيومه )
( دارت مراشفه علي وكأسه ... فسكرت في الحالين من خرطومه )
وقال آخر
( أريقا من رضابك أم رحيقا ... رشفت فكدت منه لن أفيقا )
( وللصهباء أسماء ولكن ... جهلت بأن في الأسماء ريقا )
ومما قيل في حسن الحديث
قال البحتري
( ولما التقينا والنقا موعد لنا ... تعجب رائي الدر حسنا ولاقطه )
( فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه )
وقال سلم الخاسر
( ظللنا فبتنا عند أم محمد ... بيوم ولم نشرت شرابا ولا خمرا )
( إذا صمتت عنا ضجرنا لصمتها ... وإن نطقت هاجت لالبابنا سكرا )
وقال ابن الرومي
( يمسي ويصبح معرضا فكأنه ... ملك عزيز قاهر سلطانه )
( ليست اسائته بناقصة له ... در يساقطه إلي لسانه )
وما أحسن هذه الأبيات
وهي من طارف الشعر ووافره وناقده وجيد الكلام وبارع الوصف
( وكل حديث الناس إلا حديثها ... رجيع وفيما حدثتك الطرائف )
( جرحن باعناق الظباء واعين الجآذر ... وارتجت بهن الروادف )
( رجحن بأرداف ثقال وأسوق ... جزال وأعضاء عليها المطارف )

ومما قيل في رقة البشرة
قال ابن المعتز
( نضت عنها القميص لصب ماء ... فورد خدها فرط الحياء )
( وقابلت الهواء وقد تعرت ... بمعتدل أرق من الهواء )
( ومدت راحة كالماء منها ... إلى ماء عتيد في إناء )
( فلما قضت وطرا وهمت ... على عجل إلى أخذ الرداء )
( رأت شخص الرقيب على تدان ... فاسبلت الظلام على الضياء )
( فغاب الصبح منها تحت ليل ... وظل الماء يقطر فوق ماء )
وقال آخر
( تغير عن مودته وحالا ... وكان مواصلا فطوى الوصالا )
( وعلمه التدلل كيف هجري ... فليت الوصل كان له دلالا )
( ترى من فوق حقويه قضيبا ... إذ ما حركته خطاه مالا )
( إذا كلمته أثرت فيه ... وإن حركته فالخمر سالا )
وقال بشار
( وما ظفرت عيني غداة لقيتها ... بشيء سوى أطرافها والمحاجر )
( كحوراء من حور الجنان غريرة ... يرى وجهه في وجهها كل ناظر )
ومنه أخذ أبو نواس قوله
( نظرت إلى وجهه نظرة ... فأبصرت وجهي في وجهه )
وقال آخر
( توهمه قلبي فأصبح خده ... وفيه مكان الوهم من نظري أثر )
( ومر بفكري جسمه فجرحته ... ولم أر جسما قط تجرحه الفكر )

وقال آخر
( سقى الله روضا قد تبدى لناظر ... به شادن كالغصن يلهو ويمرح )
( وقد نضحت خداه من ماء ورد ... وكل إناء بالذي فيه ينضح )
وقال آخر
( وأهيف خده كسي احمرارا ... وحاز الحسن فهو بلا شبيه )
( فلو أخجلته بالقول جهدي ... لحمرة خده ما بان فيه )
ومما قيل في التقبيل
لمظفر الأعمى
( قبلته فتلظى جمر وجنته ... وفاح من عارضيه العنبر العبق )
( وجال بينهما ماء ولا عجب ... لا ينطفى ذا ولا ذا منه يحترق )
وقال آخر
( سألته في ثغره قبلة ... فقال ثغري لم يجز لثمه )
( فها كهافي الخد واقنع بها ... ما قارب الشيء له حكمه )
وقال صاحب حماة
( قال الذي تيمني ... قولوا لمن خبلته )
( يروم مني قبلة ... لو مات ما قبلته )
وللشيخ عز الدين الموصلي
( كالزرد المنظوم أصداغه ... وخده كالورد لما ورد )
( بالغت في اللثم وقبلته ... في الخد تقبيلا يفك الزرد )

وقال آخر
( رأيت الهلال على وجهه ... فلم أدر أيهما أنور )
( سوى أن ذاك بعيد المزار ... وهذا قريب لمن ينظر )
( وذاك يغيب وذا حاضر ... وما من يغيب كمن يحضر )
( ونفع الهلال قليل لنا ... ونفع الحبيب لنا أكثر )
وقال ابن صابر
( قبلت وجنته فألفت جيده ... خجلا وماس بعطفه المياس )
( فانهل من خديه فوق عذاره ... عرق يحاكي الطل فوق الآس )
( فكأنني استقطرت ورد خدوده ... بتصاعد الزفرات من أنفاسي )
وقال آخر
( قبلت رجل حبيبي ... فازور واحمر خدا )
( وقال تلثم رجلي ... لقد تنازلت جدا )
( فقلت ما جئت بدعا ... ولا تجاوزت حدا )
( رجل سعت بك نحوي ... حقوقها لا تؤدي )
ومما قيل في الوجه الحسن
قال ابن نباتة
( إنسية في مثال الجن تحسبها ... شمسا بدت بين تشريق وتغميم )
( شقت لها الشمس ثوبا من محاسنها ... فالوجه للشمس والعينان للريم )
وقال عبد الله بن أبي خبيص
( تصد من غير علة ... بالعز أضحت مذلة )
( كأنها حين تدنو ... شمس عليها مظلة )
( وأن أضاءت بليل ... تفوق نور الأهلة )

وقال آخر
( أقسم بالله وآياته ... ما نظرت عيني إلى مثله )
( ولا بدا وجهه طالعا ... الا سألت الله من فضله )
وقال آخر
( أقيمي مكان البدر إن أفل البدر ... وقومي مقام الشمس قد أمها الفجر )
( ففيك من الشمس المنيرة نورها ... وليس لها منك التبسم والثغر )
وقال عمر بن أبي ربيعة
( ذات حسن إن تغب شمس الضحى ... فلنا من وجهها عنها خلف )
( أجمع الناس على تفضيلها ... وهواهم في سوى هذا اختلف )
أخذ أبو تمام هذا المعنى فرده إلى المدح فقال
( لو أن إجماعنا في فضل سؤدده ... في الدين لم يختلف في الأمة اثنان )
وقال آخر
( يا مفردا في الحسن والشكل ... من دل عينيك على قتلي )
( البدر من شمس الضحى نوره ... والشمس من نورك تستملي )
وقال آخر
( ففي أربع مني حلت منك أربع ... فما أنا أدري أيها هاج لي كربي )
( أوجهك في عيني أم الريق في فمي ... أم النطق في سمعي أم الحب في قلبي )
فلما سمعه اسحق بن يعقوب الكندي قال هذا تقسيم فلسفي وجعله العلوي خمسة فقال
( وفي خمسة مني حلت منك خمسة ... فريقك منها في فمي طيب الرشف )
( ووجهك في عيني ولمسك في يدي ... ونطقك في سمعي وعرفك في أنفي )
وقال ابن نباتة
( أيها العاذل الغبي تأمل ... من غدا في صفاته القلب ذائب )

( وتعجب لطرة وجبين ... إن في الليل والنهار عجائب )
وقال محمود المخزومي
( رأيتك في الشمس المنيرة غدوة ... فكنت على عيني أبهى من الشمس )
( لأنك تزهو إن بدا الليل بهجة ... وشمس الضحى ليست تضيء إذا تمنى )
وقال آخر
( إذا احتجبت لم يكفك البدر وجهها ... وتكفيك فقد البدر إن غرب البدر )
( وحسبك من خمر مذاقة ريقها ... ووالله ما من ريقها حسبك الخمر )
ومما قيل في البنان المخضب قال ابن الرومي
( وقفت وقفة بباب الطاق ... ظبية من مخدرات العراق )
( بنت سبع وأربع وثلاث ... أسرت قلب صبها المشتاق )
( قلت من أنت يا غزال فقالت ... أنا من لطف صنعة الخلاق )
( لا ترم وصلنا فهذا بنان ... قد صبغناه من دم العشاق )
وقال الراضي بالله
( قالوا الرحيل فأنشبت أظفارها ... في خدها وقد اعتلقت خطابها )
( فظننت أن بنانها من فضة ... قطفت بنور بنفسج عنابها )
وقال آخر
( لما اعتنقنا للوداع وأعربت ... عبراتنا عنا بدمع ناطق )
( فرقن بين محاجر ومعاجر ... وجمعن بين بنفسج وشقائق )
وقال آخر
( ولما تلاقينا رأيت بنانها ... مخضبة تحكى عصارة عندم )
( فقلت خضبت الكف بعدي أهكذا ... يكون جزاء المستهام المنيم )
( فقالت وأذكت في الحشى لاعج الجوى ... مقالة من بالود لم يتبرم )
( بكيت دما يوم النوى فمسحته ... بكفي فاحمرت بناني من دمي )

حذف حذف حذف حذف حذف

وقال آخر
( دنوت عشية التوديع مني ... ولي عينان بالدم تجريان )
( فلم يمسحن إكراما جفوني ... ولكن رمن تخضيب البنان )
ومما قيل في النحور
قال دعبل
( أتاح لك الهوى بيضا حسانا ... تباهى بالعيون وبالنحور )
( نظرت إلى النحور فكدت تقضي ... فكيف إذا نظرت إلى الحضور )
ومما قيل في نعت النهود
قال العباس بن الأحنف
( والله لو أن القلوب كقلبها ... ما رق للولد الضعيف الوالد )
( جال الوشاح على قضيب زانه ... تفاح صدر ما حوته ناهد )
وقال آخر
( ومحبوبة عند الوداع رأيتها ... تنشف دمعا بالرداء الممسك )
( وتبكي حذار البين منها بدمعة ... تسيل على الخدين في حسن مسلك )
( فتحست مجرى الدمع من وجناتها ... بقية طل فوق ورد ممعك )
( وقد سفرت عن غرة بابلية ... وصدر به نهد بحق مفكك )
وقال عمر بن كلثوم
( تراك إذا دخلت على خلاء ... قد امتدت عيون الكاشحينا )
( لنهد مثل حق العاج حسنا ... حصينا من أكف اللامسينا )
وقال آخر
( بصدرها كوكبا در كأنهما ... ركنان لم يدنسا من لمس مستلم )

( صانتهما بستور من غلائلها ... فالناس في الحل والركنان في الحرم )
وقال آخر
( صدور فوقهن حقاق عاج ... ودر زانه حسن اتساق )
( يقول الناظرون إذا رأوه ... أهذا الحلي من هذي الحقاق )
( وما تلك الحقاق سوى ثدي ... جعلن من الحقاق على وفاق )
( نواهد لا يعد لهن عيب ... سوى منع المحب من العناق )
وقال آخر
( لقد فتكت عيون الغيد فينا ... ببيض مرهفات وهي سود )
( وتطعننا القدود إذا التقينا ... بسمر من اسنتها النهود )
ومما قيل في الأرداف والخصور
ابن الرومي
( وشربت كأس مدامة من كفها ... مقرونة بمدامة من ثغرها )
( وتمايلت فضحكت من أرادفها ... عجبا ولكني بكيت لخصرها )
الطنبغا المحاربي
( ردفه زاد في الثقالة حتى ... أقعد الخصر والقوام السويا )
( نهض الخصر والقوام وقالا ... فضعيفان يغلبان قويا )
وقال آخر
( يا خصره كم جفاء ... تبدي وأنت نحيل )
( يا ردفه ملت عني ... ما أنت إلا بخيل )
القيراطي
( بدت روادف بدري ... تحت الحنين لعيني )
( فقلت يا بدر هذا ... حقا خيال لحيني )

وقال آخر
( أسائلها أين الوشاح وقد سرت ... معطلة منه معطرة النشر )
( فقالت وأومت للسوار نحلته ... إلى معصمي لما تلقلق في خصري )
وقال آخر
( بيض وسمر مقلتاه وقده ... بدر وليل وجنتاه وشعره )
( أقسى من الحجر الأصم فؤاده ... وأرق من شكوى المتيم خصره )
وقال آخر
( رخيمات المقال مدللات ... جواعل في الثرى قضبا جذالا )
( جمعن فخامة وخلوص جيد ... رقدا بعد ذلك واعتدالا )
ومما قيل في المعاصم
قال عمر بن ابي ربيعة
( حسروا الوجوه بأذرع ومعاصم ... ورنوا بنجل للقلوب كوالم )
( حسروا الأكمة عن سواعد فضة ... فكأنما انتصبت متون صوارم )
ومما قيل في اعتدال القوام
قال صلاح الدين الصفدي
( تقول له الأغصان مذ هز عطفه ... أتزعم أن اللين عندك ما ثوى )
( فقم نحتكم للروض عند نسيمه ... لتقضي على من مال منا إلى الهوى )
وقيل ليس لأحد من شعراء العرب في نعت محاسن النساء من الأوصاف البارعة مع جودة السبك ورقة اللفظ ما لذي الرمة حتى كأنه حضري من أهل المدن لا من أهل الوبر وقال القاضي مجد الدين بن مكانس

( أقول لحبي قم ومل يا معذبي ... كميلة خود غير السكر حالها )
( ولا تلة عن شيء إذا ما حكيتها ... فقام كغصن البان لينا وما لها )
وقال آخر
( ومحكم أعطافه ... في قتل صب ما غوى )
( فاعجب لعادل قده ... في النفس يحكم بالهوى )
وقال آخر
( ومهفهف عني يميل ولم يمل ... يوما إلى فصحت من ألم الجوى )
( لم لا تميل إلي يا غصن النقا ... فأجاب كيف وأنت من أهل الهوى )
ومما قيل في الساق
قال ذو الرمة
( لم أنسه إذ قام يكشف عامدا ... عن ساقه كاللؤلؤ البراق )
( لا تعجبوا إن قام فيه قيامتي ... إن القيامة يوم كشف الساق )
وقال آخر
( جاءت بساق أبيض أملس ... كلؤلؤ يبدو لعشاقها )
وقال ابن منقذ
( بدر ولكنه قريب ... ظبي ولكنه أنيس )
( إن لم يكن قده قضيبا فما لأعطافه تميس )
ومما قيل في مشي النساء
قال بعضهم
( يهززن للمشي أطرافا مخضبة ... هز الشمال ضحى عيدان نسرين )
( أو كاهتزاز رديني تداوله ... أيدي الرجال فزاد المتن في اللين )

وقال آخر
( يمشين مشي قطا البطاح تأودا ... قب البطون رواجح الأكفال )
( فكأنهن إذا أردن زيارة ... يقلعن أرجلهن من أوحال )
ومما قيل في العناق وطيبه
لابن المعتز
( ما أقصر الليل على الرافد ... وأهون السقم على العائد )
( كأنني عانقت ريحانة ... تنفست في ليلها البارد )
( فلو ترانا في قميص الدجى ... حسبتنا في جسد واحد )
وقال آخر
( وموشح نازعت فضل وشاحه ... وأعرته من ساعدي وشاحا )
( بات الغيور يشق جلدة وجهه ... وأمال أعطافا علي ملاحا )
وقال ابن المعدل
( أقول وجنح الدجى مسبل ... والليل في كل فج يد )
( ونحن ضجيعان في مسجد ... فلله ما ضمنا المسجد )
( أيا غد إن كنت لي محسنا ... فلا تدن من ليلتي يا غد )
( ويا ليلة الوصل لا تقصري ... كما ليلة الهجر لا تنفد )
وقال آخر
( ليل رقيق الطرتين تظلمت ... كواكبه من بدره المتألق )
( لهونا بغزلان الصريمة تحته ... نميت الهوى ما بين صدر ومرفق )

قال ابن المعتز
( وكم عناق لنا وكم قبل ... مختلسات حذار مرتقب )
( نقر العصافير وهي خائفة ... من النواطير يانع الرطب )
( وقال ديك الجن
( ومعدولة مهما أمالت أزارها ... فغصن وأما قدها فقضيب )
( لها القمر الساري شقيق وإنها ... لتطلع أحيانا له فيغيب )
( أقول لها والليل مرخ سدوله ... وغصن الهوى غض النبات رطيب )
( لأنت المنى يا زين كل مليحة ... وأنت الهوى أدعى له فأجيب )
وقال علي بن الجهم
( سقى الله ليلا ضمنا بعد فرقة ... وأدنى فؤادا من فؤاد معذب )
( فبتنا جميعا لو تراق زجاجة ... من الخمر فيما بيننا لم تسرب )
وقال آخر
( يا ليل دم لي لا أريد براحا ... حسبي بوجه معذبي مصباحا )
( حسبي به نورا وحسبي ريقه ... خمرا وحسبي خده تفاحا )
( حسبي بمضحكه إذا استضحكته ... مستغنيا عن كل نجم لاحا )
( طوقته طوق العناق بساعد ... وجعلت كفي للثام وشاحا )
( هذا هو اليوم النعيم فخلنا ... متعانقين فلا نريد براحا )
وقال آخر
( ولم أنس ضمي للحبيب على رضا ... ورشفي رضابا كالرحيق المسلسل )
( ولا قوله لي عند تقبيل خده ... تنقل فلذات الهوى في التنقل )
ومما قيل في السمن
قال الربيع بن سليمان سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول ما رأيت سمينا عاقلا إلا محمد بن الحسن قال الشاعر

( لا أعشق الأبيض المنفوخ من سمن ... لكنني أعشق السمر المهازيلا )
( إني امرؤ أركب المهر المضمر في ... يوم الرهاب وغيري يركب الفيلا ) ومما قيل في مدح الألوان والثياب
مدح البياض قال رسول الله البياض نصف الحسن وكان أبيض أزهر اللون مشربا بحمرة
قال الشاعر
( بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول )
ومما قيل في مدح السواد قيل لبعضهم ما تقول في السواد ؟ قال النور في السواد أراد بذلك نور العينين في سوادهما وقال بعضهم
( قالوا تعشقتها سوداء قلت لهم ... لون العوالي ولون المسك والعود )
( إني امرؤ ليس شأن البيض مرتفعا ... عندي ولو خلت الدنيا من السود )
وقال الحيقطان
( لئن كنت جعد الرأس واللون فاحم ... فأني بسيط الكف والعرض أزهر )
( وإن سواد اللون ليس بضائري ... إذا كنت يوم الروع بالسيف أخطر )
دخل إبراهيم بن المهدي على المأمون فقال إنك لنعم الخليفة الأسود فقال إبراهيم نعم فتمثل المأمون ببيت نصيب فقال
( إن كنت عبدا فنفسي حرة كرما ... أو أسود اللون إني أبيض الخلق )
ثم قال يا عم أخرجنا الهزل إلى الجد فأنشد إبراهيم
( ليس يزرى السواد بالرجل الشهم ... ولا بالفتى الأريب الأديب )
( إن يكن للسواد فيك نصيب ... فبياض الأخلاق منك نصيبي )
وقال آخر
( لام العواذل في سوداء فاحمة ... كأنها في سواد القلب تمثال )

( وهام في الخال أقوام وما علموا ... أني أهيم بشخص كله خال )
وقيل لمدني كيف رغبتم في السواد ؟ فقال لو وجدنا بيضاء لسودناها
وقال آخر
( يكون الخال في خد قبيح ... فيكسوه الملاحة والجمالات )
( فكيف يلام ذو عشق على من ... يراها كلها في الخد خالا )
وقال آخر
( فاستحسنوا الخال في خد فقلت لهم ... إني عشقت مليحا كله خال )
وقال أبو حاتم المدني ينشد
( ومن يك معجبا ببنات كسرى ... فإني معجبا ببنات حام )
وتفاخرت حبشية ورومية فقالت الرومية أنا حبة كافور وأنت عدل فحم فقالت الحبشة أنا حبة مسك وأنت عدل ملح وقد قال الشاعر
( أحب لحبها السودان حتى ... أحب لحبها سود الكلاب )
وقال آخر
( أشبهك المسك وأشبهته ... قائمة في لونه قاعده )
( لا شك إذ لونكما واحد ... أنكما من طينة واحدة )
ومما قيل في الصفرة
قال الشاعر
( أصفراء كان الهجر منك مزاحا ... ليالي كان الود منك مباحا )
( كأن نساء الحي ما دمت فيهم ... قباحا فلما غبت صرن ملاحا )

وقال آخر
( قالوا به صفرة شانت محاسنة ... فقلت ما ذاك من عيب به نزلا )
( عيناه مطلوبة في ثار من قتلت ... فلست تلقاه إلا خائفا وجلا )
ومما قيل في طول اللحية
قيل إن اللحية الطويلة عش البراغيث
ونظر يزيد الشيباني إلى رجل ذي لحية عظيمة تلتف على صدره وإذا هو خاضب فقال له يا هذا إنك من لحيتك في مؤنة فقال أجل ولذلك أقول
( لها درهم للدهن في كل جمعة ... وآخر للحناء ينتدبان )
( ولولا نوال من يزيد بن مزيد ... لأصبح في حافاتها الحمنان )
وقال إسحاق بن خلف في قصير طويل اللحية
( ماشيت داود فاستضحكت من عجب ... كأنه والد يمشي بمولود )
( ما طول داود إلا طول لحيته ... يظن داود فيها غير موجود )
وقال ابن المقفع
( تأملت أسواق العراق فلم أجد ... دكاكينهم إلا عليها المواليا )
( جلوسا عليها ينفضون لحاءهم ... كما نفضت عجف البغال المخاليا )
ومما جاء في عظم الخلقة والطول والقصر قيل خرب القهندر فبرزت منه جماجم أموات فتصدعت جمجمة فانتثرت أسنانها فوزن السن منها فكان وزنها أربعة أرطال فأتى بها إلى ابن المبارك فجعل يقلبها ويتعجب من عظمها ثم قال
( إذا ما تذكرت أجسامهم ... تصاغرت النفس حتى تهون )

وأراد ملك الروم أن يباهي أهل الاسلام فبعث إلى معاوية رجلين أحدهما طويل والثاني قصير شديد القوة فدعا الطويل بقيس بن سعد بن عبادة فنزع قيس سراويله ورمى بها إليه فلبسها الطويل فبلغت ثدييه فلاموا قيسا على نزع السراويل فقال
( أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود )
( وكي لا يقولوا خان قيس وهذه ... سراويل عاد أحرزتها ثمود )
( وإلي من القوم اليمانين سيد ... وما الناس إلا سيد ومسود )
ثم دعا معاوية للرجل الشديد في قوته بمحمد بن الحنفية فخيره بين أن يقعد فيقيمه أو يقوم فيقعده فغلبه في الحالتين وانصرفا مغلوبين
وقيل كان سلمة بن مرة الناموسي أسر امرأ القيس بن النعمان اللخمي الملك وكان الناموسي قصيرا مقتحما واللخمي طويلا جسيما
فقالت بنت امرئ القيس يا هذا القصير أطلق أبي فسمعه سلمة بن مرة فقال
( لقد زعمت بنت امرئ القيس أنني ... قصير وقد أعيا أباها قصيرها )
( ورب طويل قد نزعت سلاحه ... وعانقته والخيل تدمى نحورها )
وقالوا عظم اللحية يدل على البله وعرضها على قلة العقل وصغرها على لطف الحركة وإذا وقع الحاجب على العين دل على الحسد والعين المتوسطة في حجمها تدل على الفطنة وحسن الخلف والمروءة والتي يطول تحديقها تدل على الحمق والتي تكسر طرفها تدل على خفة وطيش والشعر على الأذن يدل على جودة السمع والأذن الكبيرة المنتصبة تدل على حمق وهذيان
ومما قيل في القبح والدمامة
أراد رجل أن يكتب كتابا لبعض أصحابه فلم يجد من يرسله معه إلا رجلا وحش الصورة بشع المنظر فلم يقدر على تحليته لفرط دمامته فكتب إلى صاحبه يأتيك بهذا الكتاب آية على آيات الله تعالى وقدره فدعه يذهب إلى نار الله وسقره

ومر أبو الأسود الدؤلي بمجلس لبني بشير فقال بعض فتيانهم كأن وجهه وجه عجوز راحت إلى أهلها بطلاقها
وقال الجاحظ ما أخجلني قط إلا امرأة مرت بي إلى صائغ فقالت له اعمل مثل هذا فبقيت مبهوتا ثم سألت الصائغ فقال هذه المرأة أرادت أن أعمل صورة شيطان فقلت لا أدري كيف أصوره فأتت بك إلى لأصوره على صورتك وفي الجاحظ يقول الشاعر
( لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا ... ما كان إلا دون قبح الجاحظ )
( رجل ينوب عن الجحيم بوجهه ... وهو العمى في عين كل ملاحظ )
( ولو أن مرآة جلت تمثاله ... ورآه كان له كأعظم واعظ )
وقال الأصمعي رأيت بدوية من أحسن الناس وجها ولها زوج قبيح فقلت يا هذه أترضين أن تكوني تحت هذا ؟ فقالت يا هذا لعله أحسن فيما بينه وبين ربه فجعلني ثوابه وأسأت فيما بيني وبين ربي فجعله عذابي أفلا أرضى بما رضى الله به وحج مخنث فرأى رجلا قبيح الوجه يستغفر فقال يا حبيبي ما أراك أن تبخل بهاذا الوجه على جهنم وقال بعضهم لرجل طلع لي دمل في أقبح المواضع فقال له كذبت هذا وجهك ليس فيه شيء وخرج رجل قبيح الوجه إلى المتجر فدخل اليمن فلم ير فيها أحسن منه وجها فقال
( لم أر وجها حسنا ... منذ دخلت اليمنا )
( فيا شقاه بلدة ... أحسن من فيها أنا )
وخطب رجل عظيم الأنف امرأة فقال لها قد عرفت أني رجل كريم المعاشرة محتمل المكاره فقالت لا شك في احتمالك المكماره مع حملك هذا الأنف أربعين سنة
وقال الشاعر في رجل كبير الأنف
( لك وجه وفيه قطعة أنف ... كجدار قد أدعموه ببغله )
( وهو كالقبر في المثال ولكن ... جعلوا نصبه على غير قبله )

وقال آخر
( لك أنف من أنوف ... أنفت منه الأنوف )
( أنت في القدس تصلي ... وهو في البيت يطوف )
ومما جاء في الثقلاء
قال مطيع بن إياس
( قلت لعباس أخينا ... يا ثقيل الثقلاء )
( أنت في الصيف سموم ... وجليد في الشتاء )
( أنت في الأرض ثقيل ... وثقيل في السماء )
ومما جاء في الملابس وألوانها والعمائم ونحوها
قال الله تعالى ( وأما بنعمة ربك فحدث )
وقال تعالى ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد )
وقال رسول الله " إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " وقال الرسول " تعمموا تزدادوا جمالا " وقال الرسول " العمائم تيجان العرب "
وكان الزبير ابن العوام يقاتل يوم بدر وعليه عمامة صفراء فنزلت الملائكة وعليهم عمائم صفر قد أرخوها
وبعث رسول الله عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل فتخلف عن الجيش وأتى إلى رسول الله وعليه عمامة سوداء من خز فنقضها رسول الله وعممه بيده وأسدلها بين كتفيه قدر شبر وقال هكذا اعتم يا ابن عوف
وبعث ملك الروم

إلى النبي جبة ديباج فلبسها ثم كساها عثمان وكان سعيد بن المسيب يلبس الحلة بألف درهم ويدخل المسجد فقيل له في ذلك فقال إني أجالس ربي وقيل المروءة الظاهرة الثياب الطاهرة
وقيل البس البياض والسواد فان الدهر هكذا بياض نهار وسواد ليل
ومما قيل في لبس السواد قول أبي قيس
( رأيتك في السواد فقلت بدرا ... بدا في ظلمة الليل البهيم )
( وألقيت السواد فقلت شمس ... محت بشاعها ضوء النجوم )
وقدم تاجر إلى المدينة يحمل من خمر العراق فباع الجميع إلا السود فشكا إلى الدارمي ذلك وكان الدارمي قد نسك وتعبد فعمل بيتين وأمر من يغني بهما في المدينة وهما هذان البيتان
( قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا فعلت بزاهد متعبد )
( قد كان شمر للصلاة إزاره ... حتى قعدت له بباب المسجد )
قال فشاع الخبر في المدينة إن الدارمي رجع عن زهده وتعشق صاحبة الخمار الأسود فلم يبق في المدينة مليحة إلا اشترت لها خمارا أسود فلما أنفذ التاجر ما كان معه رجع الدارمي إلى تعبده وعمد إلى ثياب نسكه فلبسها وقال آخر في لابسة الأحمر
( وشمس من قضيب في كثيب ... تبدت في لباس جلناري )
( سقتني ريقها صرفا وحيت ... بوجنتها فهاجت جل ناري )
وقال آخر في لابسه ثوب خمري
( في ثوبها الخمري قد أقبلت ... بوجنة حمراء كالجمر )
( فملت سكرا حين أبصرتها ... لا تنكروا سكري من الخمر )
وقال الصنوبري في لابسة أخضر
( وجارية أدبتها الشطاره ... ترى الشمس من حسنها مستعاره )
( بدت في قميص لها أخضر ... كما ستر الورق الجلناره )

( فقلت لها ما اسم هذا اللباس ... فأبدت جوابا لطيف العبارة )
( شققنا مرائر قوم به ... فنحن نسميه شق المرارة )
وقال حكيم لابنه إياك أن تلبس ما يديم الملك نظره إليك به واعلم أن الوشي لا يلبسه إلا الأحمق أو ملك
وعليك بالبياض
وقيل لباس البخلاء الاستبرق لطول بقائه ولباس المترفين السندس لقلة بقائه ولباس المقتصدين الديباج لتوسط بقائه وقال بعض الأمراء لحاجبه أدخل علي عاقلا فأتاه برجل فقال بم عرفت عفله ؟ فقال رأيته يلبس الكتان في الصيف والقطن في الشتاء والملبوس في الحر والجديد في البرد وقيل كان لأبرويز عمامة طولها خمسون ذراعا إذا اتسخت ألقاها في النار فيحترق الوسخ ولا تحترق وكان له رداء حسن يتلون كل ساعة وسراويل مجوهرة وتكة من أنابيب الزمرد وقيل الأقبية لباس الفرس والقراطق لباس الهند والأزر لباس العرب
وسئل بعض العرب عن الثياب فقال الصفر أشكل والحمر أجمل والخضر أقبل والسود أهول والبيض أفضل وقال أفلاطون الصبغ الشقائقي والروائح الزعفرانية تسكن الغضب والصبغ الياقوتي والروائح الوردية تحرك السرور وإذا قرب اللون الأحمر إلى اللون الأصفر تحركت القوة العشقية وإذا مزجت الحمرة بالصفرة تحركت القوة الغريزية وإذا مزجت التفاحية بالحمرة تحركت الطبائع كلها وكان مصعب بن الزبير يقول لكل شيء راحة وراحة البيت كنسه وراحت الثوب طيه وقال بعض الأعراب رأيت في البصرة برودا كأنها نسجت بأنواع الربيع ودخل بعض العذريين على معاوية وعليه عباءة فازدراه فقال يا أمير المؤمنين إن العباءة لا تكلمك وإنما يكلمك من فيها
ومما قيل فيمن رذل لبسه وعرف نفسه
قال الأصمعي رأيت أعرابيا فاستنشدته فأنشدني أبياتا وروى أخبارا فتعجبت من جماله وسوء حاله فسكت سكتة ثم قال

( أأخي إن الحادثات ... عركنتي عرك الأديم )
( لا تنكرن أن قد رأيت ... أخاك في طمري عديم )
( إن كان أثوابي رثاث ... فإنهن على كريم )
قال بعضهم وقيل للشافعي رحمه الله تعالى
( علي ثياب لو تقاس جميعها ... بفلس لكان الفلس منهن أكثرا )
( وفيهن نفس لو يقاس ببعضها ... نفوس الورى كانت أجل وأكبرا )
( وما ضر نصل السيف أخلاق غمده ... إذا كان عضبا حيث وجهه برى )
ودخل بعضهم على الرشيد فازدراه فأنشده
( ترى الرجل الخفيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد هصور )
( ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير )
( لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير )
( يصرفه الصبي بغير وجه ... ويحبسه على الخسف الجرير )
( وتضربه الوليدة بالهراوي ... فلا عار عليه ولان نكير )
( فإن أك في شراركمو قليلا ... فاني في خياركمو كثير )
ويقال كل ما تشتهيه نفسك والبس ما تشتهيه الناس وقد نظمه من قال
( إن العيون رمتك إذ فاجأتها ... وعليك من مهن الثياب لباس )
( أما الطعام فكل لنفسك ما اشتهت ... واجعل لباسك ما اشتهته الناس )
وفي هذا القدر كفاية والله أعلم بالصواب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب السابع والاربعون في التختم والحلى والمصوغ والطيب والتطيب وما أشبه ذلك
ما جاء في التختم عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله يتختم في يمينه وقبض عليه الصلاة و السلام والخاتم في يمينه قال بعض من مدحه عليه الصلاة و السلام
( كف الرسالة ليس يخفى حسنها ... وتمام حسن الكف لبس الخاتم ) وذكر السلامي أن رسول الله كان يتختم في يمينه والخلفاء بعده فنقله معاوية رضي الله تعالى عنه إلى اليسار وأخذ الأموية بذلك ثم نقله السفاح إلى اليمين فبقي إلى أيام الرشيد رضي الله تعالى عنه فنقله إلى اليسار وأخذ الناس بذلك وعن علي رضي الله تعالى عنه عن النبي " تختموا بخواتيم العقيق فإنه لا يصيب أحدكم غم ما دام عليه ذلك " وبلغ عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أن ابنه اشترى فص خاتم بألف دينار فكتب إليه عزمت عليك إلا ما بعت خاتمك بألف دينار وجعلتها في بطن جائع واستعمل خاتما من ورق وانقش عليه رحم الله امرأ عرف قدر نفسه وكان خاتم علي رضي الله عنه من ورق ونقشه نعم القادر الله وكان لأبي نواس خاتمان أحدهما عقيق مربع وعليه مكتوب
( تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما )

حديد صيني عليه أشهد أن لا إله إلا الله مخلصا وأوصى عند موته أن يغسل الفص ويجعل في فمه
قال جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنه ما افتقرت يد تختمت بخاتم فيروزج وقيل الخواتم أربعه الياقوت للعطش والفيروزج للمال والعقيق للسنة والحديد الصيني للحرز وقيل للخوف والله سبحانه وتعالى أعلم
ذكر ما جاء في الحلى
قيل إن قرطي مارية بنت ظالم بن وهب بن الحرث بن معاوية كان فيهما درتان كبيض الحمام لم ير مثلهما ولم يدر قيمتهما
وقال محمد بعثني يوسف بن عمر إلى هشام بياقوتة حمراء يخرج طرفاها من كفي كانت للرائقة جارية خالد بن عبد الله القسري اشترتها بثلاثة وسبعين ألف دينار وحبة لؤلؤ أعظم ما يكون من الحب فدخلت عليه بهما فقال اكتب معك بوزنهما فقلت يا أمير المؤمنين هما أعظم من أن يكتب بوزنهما فقال صدقت وبعث معاوية إلى عائشة رضي الله تعالى عنها طوقا من ذهب فيه جوهرة قومت بمائة ألف دينار فقسمته بين أزواج النبي
وكان ملك العرب كلما مرت عليه سنة من سني ملكه زيدت في تاجه خرزة وكان يقال لها خرزات الملك
ذكر ما جاء في الطيب والتطيب
قال رسول الله " أطيب الطيب المسك " وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت كأني أنظر إلي وبيض الطيب في مفارق رسول الله وهو محرم وعن سهل بن سعد يرفعه " إن في الجنة لمرعى من مسك مثل مراعي دوابكم هذه " وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال دخل علينا رسول الله فنام فعرق فجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها فاستيقظ وقال يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين ؟ فقالت هذا عرقك نجعله في طيبنا وهو من أطيب ريحه الطيب وعن عمر رضي الله تعالى عنه قال لو كنت تاجرا ما اخترت على العطر إن فاتني ربحه لم يفتني ريحه وناول المتوكل فتى فارة المسك فقال

( لئن كان هذا طيبنا وهو طيب ... لقد طيبته من يديك الانامل ) وأهدى عبد الله بن جعفر لمعاوية قارورة من الغالية فسأله كم أنفق عليها فذكر مالا جزيلا فقال هذه غالية فسميت بذلك وشمها مالك بن سليمان بن خارجة من أخته هند بنت أسماء فقال علميني كيف تصنعين طيبك ؟ فقالت لا أفعل تريد أن تعلمه جواريك هو لك مني كلما أردته ثم قالت والله إني ما تعلمته إلا من شعرك حيث تقول
( أطيب الطيب عرف أم أبان ... فار مسك بعنبر مسحوق )
قال أبو قلابة كان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إذا خرج من بيته إلى المسجد عرف جيران الطريق أنه مر من طيب ريحه وعن الحسن ابن زيد الهاشمي عن أبيه قال رأيت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يطلي جسده فإذا مر في الطريق قال الناس أمر ابن عباس أم مر المسك ؟ وعنه عن أبيه قال رأيت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حين أحرم والغالية على صدغيه كأنها لزقة
وقال أبو الضحى رأيت على رأس الزبير من المسك ما لو كان لي لكان رأس مالي
وقيل لما بنى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه بفاطمة بنت عبد الملك أسرج في مسارجه تلك الليلة بالغالية
وقال الشعبي الرائحة الطيبة تزيد في العقل
وقال علي كرم الله تعالى وجهه تشمموا النرجس ولو في العام مرة فإن في قلب الانسان حالة لا يزيلها إلا النرجس
وكان الشعبي يقول إذا ورد الورد صدر البرد
وكانت الصحابة رضي الله تعالى عنهم يستحبون إذا قاموا من الليل أن يمسوا لحاهم بالطيب وكان من اختلف في طرقات المدينة وجد عرفا طيبا قيل ولذلك سميت طيبة وأقول واله ما طابت طيبة إلا بالقلب الطاهر وما أحسن ما قيل
( إذا لم أطب في طيبة عند طيب ... به طيبة طابت فأين أطيب )

وقيل إن فارة المسك دويبة شبيهة بالخشف تصاد لسرتها فاذا صادها الصياد عصب السرة بعصابة شديدة فيجتمع فيها دمها ثم يذبحها ثم يأخذ السرة فيدفنها في الشعير حتى يستحيل الدم المجتمع فيها مسكا ذكيا بعد أن كان لا يرام نتنا
وقد يوجد جرذان سود يقال لها فأرات المسك ليس عندها إلا رائحة لازمة لها
وحكي أن العنبر يأتي على طفاوة الماء لا يدري أحد معدنه فلا يأكله شيء إلا مات ولا ينقره طائر إلا بقي منقاره فيه ولا يقع عليه حيوان إلا نصلت أظفاره فيه والتجار والعطارون ربما وجدوا أظفارا فيه وقال الزمخشري عفا الله عنه سمعت ناسا من أهل مكة يقولون هو من زبد بحر سرنديب وأجود العنبر الأشهب ثم الأزرق وأدونه الأسود وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما ليس في العنبر زكاة إنما هو شيء نثره البحر وأما العود فأجوده المندلي وهو منسوب إلى مندل قرية من قرى الهند وأجوده أصلبه وامتحان رطبه أن تطبع فيه نقش الخاتم فان انطبع فرطب وإلا فلا ومن خصائصه أن رائحته تطبع في الثوب أسبوعا فلا يقمل ما دامت فيه وأما الكافور فهو ماء شجر بجزيرة الكافور يحزونه بالحديد فاذا خرج ظاهرا وضربه الهواء انعقد كالصموغ الجامدة على الاشجار وأما الند فمصنوع وهو العود المستقطر والعنبر واللبان
( لو كنت أحمل جمرا حين زرتكم ... لم ينكر الكلب إني صاحب الدار )
( لكن أتيت وريح المسك يقدمني ... والعنبر الند مشبوب على النار ) وكانت ملوك الفرس تأمر برفع الطيب أيام الورد
وكان المتوكل يلبس أيام الورد الثياب الموردة ويفرش الورد في مجلسه ويطيب جميع آلاته بالورد وقال الحسن بن سهل أمهات الرياحين تقوى بأمهات الطيب فالنرجس يقوى بالورد والورد يقوى بالمسك والبنفسج يقوى بالعنبر والريحان يقوى بالكافور والنسرين يقوى بالعود وقال جالينوس المسك يقوي القلب والعنبر يقوي الدماغ والكافور يقوي الرئة والعود يقوي المعدة والغالية تحل الزكام والصندل يحل

الأورام وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي قال لا تردوا الطيب فانه طيب الريح خفيف المحمل " تبخر بعض الأمراء وعنده أعرابي ففرطت من الأمير ريح خفيفة فأراد أن يعلم هل فطن بها الأعرابي أم لا ؟ فقال ما أطيب هذا المثلث ! قال نعم ولكنك ربعتها
وقال الأحنف إن شم رائحة المسك يحيي القلب وقال سلمة لابن عباس وعنده جعفر بن سليمان ما شمت أنفي من ريح مسك شممته من الناس إلا ريح كفك أطيب فأمر له بألف دينار ومائة مثقال مسك ومائة مثقال عنبر والله أعلم بالصواب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه وسلم

الباب الثامن والأربعون في الشباب والصحة والعافية وأخبار المعمرين وما أشبه ذلك وفيه فصول
الفصل الأول في الشباب وفضله
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال ما بعث الله نبيا إلا شابا ولا أوتي عالما إلا شابا ثم تلا هذه الآية ( قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ) وقد أخبر الله تعالى به ( ثم أتى يحيى بن زكريا الحكمة ) وقال تعالى ( وآتيناه الحكم صبيا ) وقال تعالى ( إذ آوى الفتية إلى الكهف ) وقال تعالى ( إنهم فتية آمنوا بربهم ) وقال تعالى ( وإذ قال موسى لفتاه ) وقال أنس رضي الله تعالى عنه قبض رسول الله وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء وقد قدم رسول الله أسامة بن زيد على جميع الأنصار وكبار المهاجرين على حداثة سنه وعتاب بن أسيد ولاه مكة وبها أكابر قريش وعبد الله بن عباس على جلالة قدره وحفظه من العلم
وقال بعض البلغاء الشباب باكورة الحياة وأطيب العيش أوائله كما أن أطيب الثمار بواكيرها والشباب أبلغ الشفعاء عند النساء وأكثر الوسائل لقلوبهن ولذلك قال الشاعر

( أحلى الرجال مع النساء مواقعا ... من كان أشبههم بهن خدودا )
وما بكت العرب على شيء ما بكت على الشباب ولو لم يكن هذا الشباب حميدا وزمانه حبيبا لوسامة صورته وبهجة منظره وجمال خلقته واعتدال قامته لما جاور الله في جنات خلده الشباب كما قال رسول الله " جردا مردا أبناء ثلاثين " وقد جاء في ذلك أشياء كثيرة ليس هذا موضع بسطها
الفصل الثاني في الشيب وفضله
أول من شاب سيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة و السلام وفي الخبر أن الله تعالى يقول " الشيب نوري وأنا أستحي أن أحرقه بناري " وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال جاء رجلان إلى النبي شيخ وشاب فتكلم الشاب قبل أن يتكلم الشيخ فقال عليه الصلاة و السلام " كبر كبر "
وبهذه الرواية من وقر كبيرا لكبر سنه آمنه الله من فزع يوم القيامة وعن أنس رضي الله عنه عن النبي أنه قال " يقول الله تعالى وعزتي وجلالي وفاقة خلقي إلى أني لأستحي من عبدي وأمتي يشيبان في الإسلام أن أعذبهما " ثم بكى فقيل له ما يبكيك يا رسول الله ؟ قال أبكي ممن يستحي الله منه وهو لا يستحي من الله وقال من بلغ ثمانين من هذه الأمة حرمه الله على النار
وقال إذا بلغ المؤمن ثمانين سنة فانه أسير الله في الأرض تكتب له الحسنات وتمحى عنه السيئات وقيل كان الرجل فيمن كان قبلكم لا يحتمل حتى يبلغ ثمانين سنة وقال ابن وهب إن أصغر من مات من ولد آدم ابن مائتي سنة فبكته الانس والجن لحداثة سنه وقال النخعي كان يقال إذا بلغ الرجل أربعين سنة على خلق لم يتغير عنه حتى يموت وعن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه " من أتى عليه أربعون سنة ثم لم يغلب خيره على شره فليتجهز إلى النار " وعن أنس رضي الله عنه قال قال ملك الموت لنوح عليه الصلاة و السلام يا أطول النبيين عمرا كيف وجدت الدنيا ولذتها ؟ قال كرجل دخل

بيت له بابان فقام وسط البيت ساعة ثم خرج من الباب الثاني
ويقال أطلع أكبر منك ولو بليلة وقال عبد العزيز بن مروان من لم يتعظ بثلاث لم ينته بشيء الإسلام والقرآن والشيب قال الشاعر
( يا عامر الدنيا على شيبه ... فيك أعاجيب لمن يجب )
( ما عذر من يعمر بنيانه ... وعمره منهدم يخرب )
وقال الشعبي الشيب علة لا يعاد منها ومصيبة لا يعزى عليها وقال الفرزدق
( ويقول كيف يميل مثلك للظبا ... وعليك من عظم المشيب عذار )
( والشيب ينقص في الشباب كأنه ... ليل يصيح بعارضيه نهار )
وقال أبو دلف في بياض اللحية
( تكونني هم لبيضاء نابته ... لها بغضة في مضمر القلب ثابته )
( ومن عجب أني إذا رمت قصها ... قصصت سواها وهي تضحك نابته )
وقال أيضا
( أرى شيب الرجال من الغواني ... بمبلغ شيبهن من الرجال )
وقال ابن المعتز
( فظللت أطلب وصلها بتذلل ... والشيب يغمزها بأن لا تفعلي )
قيل صاح شاب بشيخ أحدب بكم ابتعت هذا القوس يا عماه ؟ فقال يا بني إني أعطيتها بغير ثمن ومر رجل أشمط بامرأة عجيبة في الجمال فقال يا هذه إن كان لك زوج فبارك الله لك فيه وإلا فأعلمينا فقالت كأنك تخطبني ؟ قال نعم فقالت إن في عيبا قال وما هو ؟ قالت شيب في رأسي فثنى عنان دابته فقالت على رسلك فلا والله ما بلغت عشرين سنة ولا رأيت في رأسي شعرة

ولكنني أحببت أن أعلمك أني أكره منك مثل ما تكره مني فأنشد ويقال إنه لاين المعتز
( رأين الغواني الشيب لاح بمفرقي ... فأعرضن عني بالخدود النواضر )
وقال آخر
( سألتها قبلة يوما وقد نظرت ... شييبي وقد كنت ذا مال وذا نعم )
( فأعرضت ومالت وهي قائلة ... لا والذي أوجد الأشياء من عدم )
( ما كان لي في بياض الشيب من أرب ... أفي الحياة يكون القطن حشو فمي )
وقال آخر
( قالت أرى مسكة الشعر البهيم غدت ... كافورة قد أحالتها يد الزمن )
( فقلت طيب بطيب والتنقل في ... معادن الطيب أمر غير ممتهن )
( قالت صدقت وما أنكرت ذاك بذا ... ألمسك للشم والكافور للكفن )
وقال آخر
( قالت آراك خضبت الشيب قلت لها ... سترته عنك يا سمعي ويا بصري )
( فقهقهت ثم قالت من تعجبها ... تكاثر الغش حتى صار في الشعر )
وقال ابن نباتة
( تبسم الشيب بوجه الفتى ... يوجب سح الدمع من جفنه )
( وكيف لا يبكي على نفسه ... من ضحك الشيب على ذقنه )
وقال ابن المعتز
( فما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب في الرأس شامل )
وكان المأمون يتمثل بقول الشاعر
( رأت وضحا في الرأس مني فراعها ... فريقان مبيض به وبهيم )
( تفاريق شيب في السواد لوامع ... فيا حسن ليل لاح فيه نجوم )

ويقال في الرجل إذا شاب ليله عسعس وصبحه تنفس
( إذا نازع الشيب الشباب فاصلتا ... بسيفيهما فالشيب لا شك غالب )
وقال آخر
( ألا إن شيب العبد من نقرة القفا ... وشيب كرام الناس شيب المفارق )
وقال العتبي
( قالت عهدتك مجنونا فقلت لها ... أو الشباب جنون برؤه الكبر )
وقال علي بن ربيع
( كبرت ودق العظم مني وعقني ... بني وزالت عن فراشي العقائد )
( وأصبحت أعشى أخبط الأرض بالعصا ... يقودونني بين البيوت الولائد )
وقال آخر
( عريت من الشباب وكنت غصنا ... كما يعرى من الورق القضيب )
( ونحت على الشباب بدمع عيني ... فما نفع البكاء ولا النحيب )
( فيا ليت الشباب يعود يوما ... فاخبره بما فعل المشيب )
وقال ابن النقيب
( وكم كان من عين علي وحافظ ... وكم كان من واش لها ورقيب )
( فلما بدا شيبي اطمأنت قلوبهم ... ولم يحفظوني واكتفوا بمشيبي )
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ما شبهت الشباب إلا كشي كان في كمي فسقط
قال الشاعر
( شيئان لو بكت الدماء عليهما ... عيناك حتى يؤذنا بذهاب )
( لم يبلغا المعشار من حقيهما ... فقد الشباب وفرقة الأحباب )

وقال الجاحظ
( أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت في زمن الشباب )
( لقد كذبتك نفسك ليس ثوب ... دريس كالجديد من الثياب )
ومما جاء في الخضاب
قال " عليكم بالخضاب فانه أهيب لعدوكم وأعجب لنسائكم "
وعن أبي عامر الأنصاري رضي الله عنه رأيت أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يغير بالحناء والكتم
وقيل خضاب الحناء يصفي البصر ويذهب بالصداع ويزيد في البهاء
( تسود أعلاها وتأبى أصولها ... وليس إلى رد الشباب سبيل )
وقيل وفد عبد المطلب بن هاشم على سيف بن ذي يزن فقال له لو خضبت شعرك فلما رجع إلى مكة اختضب فقالت امرأته نبيلة ما أحسن هذا لو دام فقال
( ولو دام لي هذا الخضاب حمدته ... وكان بديلا من خليل قد انصرم )
( تمتعت منه والحياة قصيرة ... ولا بد من موت نبيلة أو هرم )
وقال آخر
( يا خاضب الشيب الذي ... في كل ثالثة يعود )
( إن الخضاب إذا نضا ... فكأنه شيب جديد )
( فدع المشيب وما يريد ... فلن يعود كما تريد )
وقال محمود الوراق
( فما منك الشباب ولست منه ... إذا سامتك لحيتك الخضابا )

الفصل الثالث في العافية والصحة
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله " إليك انتهت الأماني يا صاحب العافية "
وعنه أنه قال " أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة أن يقال له ألم أصح بدنك وأروك بالماء البارد " ؟ وقال علي رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى ( ثم لتسلئن يومئذ عن النعيم )
هو الأمن والصحة والعافية وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يسأل الله العباد عن الأبدان والأسماع والأبصار فيم استعملوها وهو أعلم بذلك وقال ابن عيينة من تمام النعمة طول الحياة في الصحة والأمن والسرور وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها لو رأيت ليلة القدر ما سألت الله إلا العفو والعافية وقال قبيصة بن ذؤيب كنا نسمع نداء عبد الملك بن مروان من وراء الحجرة في مرضه يا أهل النعم لا تستقلوا شيئا من النعم مع العافية ويقال البحر لا جوار له والملك لا صديق له والعافية لا ثمن لها قال ابن الرومي
( إذا ما كساك الدهر سربال صحة ... ولم تخل من قوت يحل ويقرب )
( فلا تغبطن أهل الكثير فإنما ... على قدر ما يعطيهم الدهر يسلب )
ويقال صحة الجسم أوفر القسم وذكر بعضهم العافية فقال وأي وطاء وأي عطاء وقال حكيم إن كان شيء فوق الحياة فالصحة وإن كان شيء مثل الحياة فالغني وإن كان شيء فوق الموت فالمرض وإن كان شيء مثل الموت فالفقر
وقال علي رضي الله تعالى عنه ما المبتلي الذي اشتد به البلاء بأحوج إلى الدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء
وقيل إن فأرة البيوت رأت فأرة الصحراء في شدة ومحنة فقالت لها ما تصنعين ههنا ؟ اذهبي معي إلى البيوت التي فيها أنواع النعيم والخصب فذهبت معها وإذا صاحب البيت الذي كانت تسكنه قد هيأ لها الرصد لبنة تحتها شحمة فاقتحمت لتأخذ الشحمة فوقعت عليها اللبنة فحطمتها

فهربت الفارة البرية وهزت رأسها متعجبة وقالت أرى نعمة كثيرة وبلاء شديدا إلا و أن الفقر والعافية أحب إلي من غنى يكون فيه الموت ثم فرت إلى البرية وكان عند رومي خنزير فربطه إلى أسطوانة ووضع العلف بين يديه ليسمنه وكان بجنبه أتان لها جحش وكان ذلك الجحش يلتقط من العلف ما يتناثر فقال لأمه يا أماه ما أطيب هذا العلف لو دام فقالت له يا بني لا تقربه فإن وراءه الطامة الكبرى فلما أراد الرومي أن يذبح الخنزير ووضع السكين على حلقه جعل يضرب وينفخ فهرب الجحش وأتى إلى أمه وأخرج لها أسنانه وقال ويلك يا أماه أنظري هل بقي في خلال أسناني شيء من ذلك العلف فاقلعيه فما أحسن القنع مع السلامة والله أعلم بالصواب
الفصل الرابع في أخبار المعمرين في الجاهلية والاسلام
قال الحسن رضي الله تعالى عنه أفضل الناس ثوابا يوم القيامة المؤمن المعمر
وقال رسول الله " ألا أنبئكم بخياركم ؟ قالوا بلي يا رسول الله قال أطولكم أعمارا في الإسلام إذا سددوا "
وزعموا أن تبعا الفزازي كان من المعمرين وإنه دخل على بعض خلفاء بني أمية فسأله عن عمره فقال عشت أربعمائة وعشرين سنة في فترة عيسى بن مريم عليه السلام في الجاهلية وستين في الاسلام
قال له أخبرني عما رأيت في سالف عمرك قال رأيت الدنيا ليلة في أثر ليلة ويوما في أثر يوم ورأيت الناس بين جامع مال مفرق ومفرق مال مجموع وبين قوي يظلم وضعيف يظلم وصغير يكبر وكبير يهرم وحي يموت وجنين يولد وكلهم بين مسرور بموجود ومحزون بمفقود
وقد قال ابن الجوزي إن آدم عليه السلام عاش ألف سنة وعاش ابنه شيث تسعمائة سنة وعاش ابنه مهلايبل ثمانمائة وخمسا وتسعين سنة وعاش ابنه إدريس ثلثمائة وخمسا وتسعين سنة وعاش ابنه هود تسعمائه واثنتين وستين سنة

ابنه متوشلخ تسعمائة وستين سنة وأما ابنه نوح عليه السلام فروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال عاش نوح عليه السلام ألفا وأربعمائة وخمسين عاما
وأما الخضر عليه السلام واسمه خضرون فهو أطول بني آدم عمرا
وذكر أن لقمان عليه السلام عاش ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة وكانت العرب لا تعد من الأعمار إلا ما بلغ مائة وعشرون سنة فما فوقها
وعاش أكثم بن صيفي ثلاثمائة وستين سنة وأدرك الإسلام وعاش سطيح سبعمائة سنة وعاش قس بن ساعدة الأيادي سبعمائة سنة وكان من حكماء العرب وعاش لبيد بن ربيعة الشاعر مائة وعشرين سنة وأدرك الإسلام وعاش دريد بن الصمة مائة وسبعين سنة حتى سقط حاجباه على عينيه وأدرك الإسلام ولم يسلم
ومن المعمرين عدي بن حاتم الطائي وزهير بن جنادة عاشا مائتين وعشرين سنة ومن المعمرين ذو الأصابع العذري عاش مائتين وعشرين سنة وهو أحد حكماء العرب في الجاهلية ومن المعمرين عمرو بن معد يكرب الزبيدي ومن المعمرين عبد المسيح بن نفيلة عاش ثلاثمائة وعشرين سنة وأدرك الإسلام وقد رأيت رجلا من أهل محلة مسير بالغربية وذكر أنه بلغ من العمر مائة وأربعين سنة وإن امرأته بلغت من العمر كذلك ولقد رأيت منه ما لم أر من بعض شبان هذا العصر في القوة وشدة البأس ورأيت له ولدا شيخا هو أشد قوة من ولده وذلك في صفر سنة تسع وعشرين وثمانمائة والله سبحانه وتعالى أعلم

الباب التاسع والاربعون في الاسماء والكنى والألقاب وما استحسن منها
فأشرف الأسماء وأعظمها بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى ( هل تعلم له سميا ) وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن رسول الله " من رفع قرطاسا من الأرض مكتوبا عليه بسم الله الرحمن الرحيم اجلالا له ولاسمه عن أن يداس كان عند الله من الصديقين وخفف عنه وعن والديه العذاب وإن كانا مشركين " وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يرن إبليس لعنه الله قط إلا ثلاث رنات رنة حين لعن وأخرج من ملكوت السموات والأرض ورنة حين ولد محمد ورنة حين أنزلت سورة الحمد وفي أولها بسم الله الرحمن الرحيم وعن رسول الله " لا يرد دعاء أوله بسم الله الرحمن الرحيم وإن أمتي يأتون يوم القيامة يقولون بسم الله الرحمن الرحيم فتثقل حسناتهم في الميزان فتقول الأمم ما أثقل موازين أمة محمد فتقول الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ابتداء كلامهم ثلاثة أسماء من أسماء الله تعالى لو وضعت في كفة الميزان ووضعت سيئات الخلق في كفة لرجحت كفة الأسماء "
وأما الأسماء والكنى
ففي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله " أحب أسمائكم إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة وينبغي أن تنادي من لا تعرف

اسمه بعبارة لطيفة لا يتأذى بها ولا يكون فيها كذب كقولك يا فقيه يا أخي يا فقير يا سيدي يا صاحب الثوب الفلاني أو البغل الفلاني أو الفرس الفلاني أو السيف الفلاني وما أشبه ذلك "
ودخل عبادة على المتوكل وبين يديه جام من ذهب فيه ألف مثقال فقال له أسألك عن شيء إن أجبتني عنه ابتداء من غير أن تفكر فلك الجام بما فيه فقال سل يا أمير المؤمنين قال أسألك عن شيء له اسم ولا كنية له وعن شيء له كنية ولا اسم له قال المنارة وأبو رياح فعجب المتوكل وأعطاه الجام بما فيه
وقيل لعثمان " ذو النورين " رضي الله عنه لأنه هو ورقية كانا أحسن زوجين في الاسلام وقيل لأنه تزوج برقية ثم بأم كلثوم ابنتي رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يوجد من تزوج بابنتي نبي غيره وكان قتادة بن النعمان الأنصاري رضي الله تعالى عنه أصيب في عينه يوم أحد فسقطت على خده فردها رسول الله فكانت أحسن وأصح من الأخرى فكانت تعتل أي ترمد عينه الباقية ولا تعتل عينه المردودة فقيل له ذو العينين
وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه كنيت بهرة صغيرة كنت أحملها في حجري فالعب بها وكان رسول الله يقول يا أبا هريرة واختلف في اسمه فقيل عبد الرحمن وقيل عبد شمس وقيل عمير وقيل سليمان وقال الشعبي رضي الله تعالى عنه كنيت الدجال أبو يوسف ذو الشهرة أبو دجانة الأنصاري رضي الله تعالى عنه كان له شهرة يلبسها بين الصفين ذو الرياستين الفضل بن سهل لأنه دبر أمر السيف والقلم وولي رياسة الجيوش والدواوين ودخل عليه شاعر يوم المهرجان وبين يديه الهدايا فقال
( واليوم يوم المهرجان ... هديتي فيه اللسان )
( لك دولتان حديثة ... وقديمة ورياستان )
( لك في الورى من هاشم ... نبت وبيت خسروان )
( علم الخليفة كيف أنت ... فصرت في هذا المكان ) فأمر له بجميع الهدايا المطيبون بنو عبد مناف وبنو أسد بن عبد العزى وزهرة بن كلاب ونعيم بن مرة والحرث بن فهر غمسوا أيديهم في

ثم تحالفوا شيبة جد عبد المطلب لقب بشيبة كانت في رأسه حين ولد قال حذافة بنو شيبة الحمد الذي كان وجهه يضيء ظلام الليل كالقمر البدر وقيل له عبد المطلب لأن عمه المطلب مر به في سوق مكة مردوفا له فجعلوا يقولون من هذا الذي وراءك فيقول عبد لي سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه اسمه عبد الله ولقباه العتيق والصديق لجماله وتصديقه بخبر الاسراء أو لأنه من صدق رسول الله سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه لقب بالفاروق لأنه قال يوم أسلم لا يعبد الله اليوم سرا فظهر به الاسلام وفرق بين الحق والباطل الكامل سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه لأنه كان يكتب ويحسن الرمي والعوم طلحة بن عبد الله رضي الله تعالى عنه كان يقال له طلحة الخير وطلحة الفياض وطلحة الطلحات لسخائه رشح الحجر وأبو الريان عبد الملك ابن مروان لقب بذلك لبخله وبجره عكة العسل سعيد بن العاص رضي الله تعالى عنه الحبر عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه لقب بذلك لعلمه كان يقال له مرة الحبر ومرة البحر
الأشدق عمرو بن سعيد لأنه كان مائل الشدق الفياض عكرمة بن ربعي لقب بذلك لسخائه المصطلق خزيمة بن سعد الخزاعي قيل له المصطلق لحسن صوته وشدته وكان أول من غنى من خزاعة راح يكذب لقب به المهلب لأنه كان يضع الحديث أيام الخوارج فيحدث به فاذا رأوه قالوا راح يكذب وأصل الغزال كان يكثر الجلوس في سوق الغزالين وكان يتتبع العجائز فيتصدق عليهم ولم يكن غزالا سليمان التميمي كان داره ومسجده في بني تميم ولم يكن منهم وهو شيباني أبو عمرو الشيباني لم يكن من بني شيبان وإنما كان يعلم يزيد بن مزيد الشيباني اليزيدي كان يعلم يزيد بن منصور الحميري فنسب إليه ذو القروح امرؤ القيس كان ملك الروم كساه المسمومة فقرحته وقالوا لم تكن الكنى لأحد من الأمم إلا العرب وهي مفاخرهم وقال بعضهم
( أكنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقبه والسودة اللقب )

في قوله تعالى ( فقولا له قولا لينا ) أي كنياه ولما ضرب موسى عليه الصلاة و السلام البحر ولم ينفلق أوحى الله تعالى إليه أن كنه فقال انفلق أبا خالد فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم
وأما الألقاب فقد قال الله تعالى ( ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ) سماه الله تعالى فسوقا واتفق العلماء رضي الله تعالى عنهم على جواز ذلك على وجه التعريف لمن لا يعرف إلا بذلك كالأعمش والأعمى والأعرج والأحول والأفطس والأقرع ونحو ذلك وقل من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب ولم يزل في الأمم كلها يجري في المخاطبات والمكاتبات من غير نكير
غير أنها كانت تطلق على حسب الموسومين وأما ما استحسن من تلقيب السفلة بالألقاب العلية حتى زال الفضل وذهب التفاوت وانقلب النقص والشرف شرعا واحدا فمنكر وهب أن العذر مبسوط في ذلك فما العذر في تلقيب من ليس من الدين في دبير ولا قبيل ولا له فيه ناقة ولا فصيل بل هو محتو على ما يضاد الدين وينافي كمال الدين وشرف الإسلام وهي لعمر الله الغصة التي لا تساغ والغبن الذي يعجز الصبر دونه فلا يستطاع نسأل الله تعالى إعزاز دينه وإعلاء كلمته وأن يصلح فسادنا ويوقظ غافلنا
الرجل يكنى باسم ولده والمرأة كذلك وإذا كنوا من لم يكن له ولد فعلى جهة التفاؤل وبناء الأمر على رجاء أن يعيش فيولد له وقد يكنون بما يلائم المكنى من غير الأولاد كقول رسول الله في علي رضي الله تعالى عنه أبو تراب وذلك أنه نام في غزوة ذي العشيرة فذهب به النوم فجاء رسول الله وهو متمرغ في التراب فقال له اجلس أبا تراب وكان أحب أسمائه إليه
وكقولهم أبي لهب لحمرة

خديه ولونه
وقال الزمخشري رحمه الله تعالى وسمعتهم يكنون الكبير الرأس والعمامة بأبي الرأس وأبي العمامة وسمعت العرب ينادون الطويل اللحية يا أبا الطويلة وسمعت عرب البحيرة يكنون بأسماء بناتهم كأبي زهو وأبي سلطانة وأبي ليلى ونحو ذلك ولا حرج في ذلك وقد تكنى جماعة من أفاضل الصحابة بأبي فلانة منهم سيدنا عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه كان له ثلاث كنى أبو عمرو وأبو عبد الله وأبو ليلى
ومنهم أبو أمامة وأبو رقية تميم الداري وأبو كريمة المقداد بن معد يكرب وكثير من الصحابة ومن التابعين رضوان الله عليهم أجمعين أبو عائشة مسروق بن الأجدع وكان لأنس أخ صغير وله نغير يلعب به فمات فدخل رسول الله فرآه حزينا فقال ما شأنه ؟ فقالوا مات نغيره فقال يا أبا عمير ما فعل النغير ونظر المأمون إلى غلام حسن في الموكب فسأله عن اسمه فقال لا أدري فقال
( تسميت لا أدري فإنك لا تدري ... بما فعل الحب المبرح في صدري ) وعن علي رضي الله تعالى عنه عن النبي " إذا سميتم الولد محمدا فاكرموه ووسعوا له في المجلس ولا تقبحوا له وجها "
وعنه ما من قوم كان بينهم مشورة فحضر من اسمه محمدا أو أحمد فادخلوه في مشورتهم إلا كان خيرا لهم وما من مائدة وضعت فحضر عليها من اسمه محمد أو أحمد إلا قدس الله ذلك المنزل في كل يوم مرتين كل ذلك ببركة هذا الاسم الشريف
ومما جاء في مدح الأسماء منظوما قال بعضهم في مليح اسمه ابراهيم
( رأيت حبيبي في المنام معانقي ... وذلك للمهجور مرتبة عليا )
( وقد رق لي من بعد هجر وقسوة ... وما ضر إبراهيم لو صدق الرؤيا )

وفيه أيضا
( لا زال بابك كعبة محجوجة ... وترابها فوق الجباه وسيم )
( حتى ينادي في البقاع بأسرها ... هذا المقام وأنت ابراهيم )
وفيه أيضا
( يا سمي الخليل إن فؤادي ... فيه من لوعة الغرام جحيم )
( وعجيب يا قاتلي أن قلبي ... فيه نار وأنت فيه مقيم )
ولبعضهم في مليح اسمه عمر
( يا أعدل الناس اسما كم تجور على ... فؤاد مضناك بالهجران والبين )
( أظنهم سرقوك القاف من قمر ... وأبدلوها بعين خيفة العين )
وفيه أيضا
( ما عليهم في الهوى لونظروا ... حين سموك فقالوا عمر )
( أبدلوا قافك عينا غلطا ... أخطأوا ما أنت إلا قمر )
ولبعضهم في مليح حامل شمعة موقودة اسمه عثمان
( وافى إلى بشمعة وضياؤها ... وضياؤه حكيا لنا القمرين )
( ناديته ما الاسم يا كل المنى ... فأجابني عثمان ذو النو رين )
ولبعضهم في مليح اسمه يوسف
( يا من سبى الشعراء نمل عذاره ... النجم يشهد لي بأني مدنف )
( صيرت قلبي من صدودك فاطرا ... فامنن علي بزورة يا يوسف )
وللصفي الحلي فيمن اسمه داود
( وثقت بأن قلبي من حديد ... وفيه على الهوى بأس شديد )
( فلان على هواك ولا عجيب ... إذا داود لان له الحديد )

وله فيمن اسمه موسى
( أتى موسى بآية خال خد ... حوته صوارم الحدق المراض )
( فآية ذا بياض في سواد ... وآية ذا سواد في بياض )
( فجاء بضد ما قد جاء موسى ... كليم الله في الحقب المواضي )
وللقيراطي في مليح اسمه بدر
( سموه بدرا وذاك لما ... أن فاق في حسنه وتما )
( وأجمع الناس إذا رأوه ... بأنه اسم على مسمى ) ولمؤلفه رحمه الله تعالى في قاضي القضاة علم الدين صالح البقليني
( وعظ الأنام أمامنا الحبر الذي ... سكب العلوم كبحر فضل طافح )
( فشفى القلوب بعلمه وبوعظه ... والعلم تشفي إن تكن من صالح ) وتوجهت مرة إلى بلناج لاجتمع بالحاج خليل بن منصور في ضرورة فلم أجده ولم يقم أحد من أخوته بقضاء ما توجهت بسببه فقلت
( خصال خليل كلهن حميدة ... وأوصافه تزري بكل جميل )
( فلا خير في بلتاج إن لم يكن بها ... ولا خير في الدنيا بغير خليل )
وقال آخر في مقبل
( يا من تحجب عن محب صادق ... ما زال عنه كل يوم يسأل )
( من لي بيوم فيه تسمح باللقا ... ويقال لي هذا حبيبك مقبل )
ولبعضهم في مليح اسمه محسن
( وأهيف يعلو على عشاقه ... برتبة من الجمال نالها )
( واسمه وهو العجيب محسن ... وكم دموع في الهوى أسالها )

صفي الدين الحلي في اسم حسين
( حبيبي وافر والشوق مني ... طويل والهوى عندي مديد )
( وأعجب أنني أهوى حسينا ... وشوق في محبته يزيد )
ومما قيل في أسماء النساء في فاطمة
( عجبت من فاتنة لم تزل ... لمرتجى الوصل لها فاطمة )
( تنكر ما ألقاه من وجدها ... وهي بشوقي والجوى عالمة )
ابن مكانس في اسم عائشة
( يا دهر خبرني بحقك واشفني ... فسهام فكري في أمورك طائشة )
( أيحل أني في المحبة ميت ... وحبيبتي من بعد موتي عائشة )
شمس الدين البديري في اسم حليمة
( ولما رأتني في هواها متيما ... أكابد من حر الغرام أليمه )
( فجادت بطيب الوصل منها ولم تجز ... ومن أين تدري الجور وهي حليمه )
ولبعضهم في اسم بركة ذو بيت
( لما نصب الهوى لقلبي شركة ... ناديت وقلبي تارك من تركه )
( يا قلب أفق ولا تمل لشركه ... تغنيك سنين ساعة من بركة )
مردوفا أيضا
( لما نصب الهوى لقلبي شركه ... في كل طريق )
( ناديت وقلبي تارك من تركه ... لو كن يفيق )
( يا قلب أفق ولا تمل للشركة ... ما الشرك يليق )
( تغنيك سنين ساعة من بركة ... عن كل صديق ) ولا تتبعت هذا المعنى لاحتجت إلى مجلدات ولكن فيما ذكرته كفاية والله الموفق وأسأله العناية وصلى الله على سيدنا ومحمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الخمسون فيما جاء في الأسفار والاغتراب وما قيل في الوداع والفراق والحث على ترك الاقامة بدار الهوان وحب الوطن والحنين إليه أما ما جاء في الاسفار والحث على ترك الاقامة بدار الهوان
فقد قال الله تعالى ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا ) الآية وفي الأثر سافروا تغنموا وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله " لو يعلم الناس رحمة الله للمسافر لأصبح الناس على ظهر سفر وهو ميزان الاخلاق إن الله بالمسافر رحيم " ويقال الحركة ولود والسكون عاقر وقال حكيم السفر يسفر عن أخلاق الرجال وكان بعضهم يريد السفر فيمنعه والده إشفاقا عليه فقال يوما
( ألا خلني لشاني ولا أكن ... على الأهل كلا إن ذا لشديد )
( تهيبني ريب المنون ولم أكن ... لأهرب عما ليس منه محيد )
( فلو كنت ذا مال لقرب مجلسي ... وقيل إذا أخطأت أنت رشيد )
( فدعني أجول الأرض عمري لعله ... يسر صديق أو يغاظ حسود ) وقال رسول الله " عليكم بالدلجة فان الأرض تطوى بالليل ولا تطوى بالنهار " وقال كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه كان رسول الله يكره أن يسافر الرجل في غير رفقة وقال

" الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب " وقال " إذا خرج ثلاثة في ركب فيلؤمروا أحدهم "
وقيل أغار حذيفة بن بدر على هجان النعمان بن المنذر بن ماء السماء وسار في ليلة مسافة ثماني ليال فضرب به المثل وقال قيس بن الحطيم
( هممنا بالاقامة ثم سرنا ... مسير حذيفة الخير بن بدر )
وسار ذكوان مولى عمر رضي الله تعالى عنه من مكة إلى المدينة في يوم وليلة وقال المأمون لا شيء ألذ من السفر في كفاية وعافية لأنك تحل كل يوم في محلة لم تحل فيها وتعاشر قوما لم تعرفهم
ومما قيل في ترك الاقامة بدار الهوان
قال الفرزدق
( وفي الأرض عن دار القلى متحول ... وكل بلاد أوطنتك بلاد )
وقال آخر
( وما هي إلا بلدة مثل بلدتي ... خيارهما ما كان عونا على دهر )
وقال آخر
( وإذا البلاد تغيرت عن حالها ... فدع المقام وبادر التحويلا )
( ليس المقام عليك فرضا واجبا ... في بلدة تدع العزيز ذليلا )
وقال الصفي الحلي
( تنقل فلذات الهوى في التنقل ... ورد كمل صاف لا تقف عند منهل )
( ففي الأرض أحباب وفيها منازل ... فلا تبك من ذكرى حبيب ومنزل )
( ولا تستمع قول امرئ القيس إنه ... مضل ومن ذا يهتدي بمضلل )
وقال عبد الله الجعدي
( فان تجف عني أو تزرني إهانة ... أجدعنك في الأرض الفريضة مذهبا )

ومما قيل في الوداع والفراق والشوق والبكاء
قال جرير
( لو كنت أعلم أن آخر عهدكم ... يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل ) وقيل لعمارة بن عقيل بن بلال بن جرير ما كان جدك صانعا في قوله فعلت ما لم أفعل ؟ قال كان يقلع عينيه حتى لا يرى مظعن أحبابه ثم أنشد يقول
( وما وجد مغلول بصنعاء موثق ... بساقيه من ماء الحديد كبول )
( قليل الموالي مسلم بجزيرة ... له بعد نومات العيون أليل )
( يقول له الحداد أنت معذب ... غداة غد أو مسلم فقتيل )
( بأكبر مني لوعة يوم راعني ... فراق حبيب ما إليه سبيل )
وقال الشاعر
( وما أم خشف طول يوم وليلة ... ببلقعة بيداء ظمآن صاديا )
( تهيم ولا تدري إلى أين تبتغي ... مولهة حزنا تجوز الفيافيا )
( أضر بها حر الهجير فلم تجد ... لغلتها من بارد الماء شافيا )
( اذا ابعدت عن خشفها انعطفت له ... فالفته ملهوف الجوانح طاويا )
( بأوجع مني يوم شدوا حمولهم ... ونادى مناد البين أن لا تلاقيا )
وقال عبد العزيز الماجشون وهو من فقهاء المدينة قال لي المهدي يا ماجشون ما قلت حين فارقت أحبابك قال قلت يا أمير المؤمنين
( لله باك على أحبابه جزعا ... قد كنت أحذر هذا قبل أن يقعا )
( ما كان والله شؤم الدهر يتركني ... حتى يجرعني من بعدهم جرعا )
( ان الزمان رأى إلف السرور لنا ... فدب بالبين فيما بيننا وسعى )

( فليصنع الدهر بي ما شاء مجتهدا ... فلا زيادة شيء فوق ما صنعا ) فقال والله لأعيننك فأعطاه عشرة آلاف دينار
( وقال آخر )
( وقفت يوم النوى منهم على بعد ... ولم أودعهم وجدا واشفاقا )
( إني خشيت على الاظعان من نفسي ... ومن دموعي إحراقا واغراقا )
( وقال عمر بن أحمد )
( أني الرحيل فحين جد ترحلت ... مهج النفوس له عن الاجساد )
( من لم يبت والبين يصدع قلبه ... لم يدر كيف تفتت الاكباد ) وحكى بعضهم قال دخلنا إلى دبر هرقل فنظرنا إلى مجنون في شباك وهو ينشد شعرا فقلنا له أحسنت فأومأ بيده إلى حجر يرمينا به وقال ألمثلي يقال أحسنت ففررنا منه فقال أقسمت عليكم الا ما رجعتم حتى أنشدكم فان أحسنت فقولوا أحسنت وان أنا أسأت فقولوا أسأت
فرجعنا إليه فأنشد يقول
( لما أناخوا قبيل الصبح عيسهمو ... وحملوها وسارت بالدمى الابل )
( وقلبت بخلال السجف ناظهرها ... يرنو إلي ودمع العين ينهمل )
( وودعت ببنان زانه عنهم ... ناديت لا حملت رجلاك يا جمل )
( يا حادي العيس عرج كي أودعهم ... يا حادي العيس في ترحالك الأجل )
( إني على العهد لم أنقص مودتهم ... ياليت شعري لطول البعد ما فعلوا )
فقلنا له ماتوا فقال والله وأنا أموت ! ثم شهق شهقة فاذا هو ميت رحمه الله تعالى
( وقال آخر )
( لما علمت بأن القوم قد رحلوا ... وراهب الدير بالناقوس مشتغل )

( شبكت عشري على رأسي وقلت له ... يا راهب الدير هل مرت بك الإبل )
( فحن لي وبكى رق لي ورثى ... وقال لي يا فتى ضاقت بك الحيل )
( إن الخيام التي قد جئت تطلبهم ... بالأمس كانوا هنا والآن قد رحلوا )
( وقال الشيخ الأكبر سيدي محي الدين بن عربي رحمه الله تعالى )
( ما رحلوا يوم ساروا البزل العيسا ... إلا وقد حملوا فيها الطواويا )
( من كل فاتكة الألحاظ مالكة ... تخالها فوق عرش الدر بلقيسا )
( إذا تمشت على صرح الزجاج ترى ... شمسا على فلك في حجر ادريسا )
( أسقفه من بنات الروم عاطلة ... ترى عليها من الأنوار ناموسا )
( وحشية ما لها أنس قد اتخذت ... في بيت خلوتها للذكر ناوسا )
( ان اومأت تطلب الانجيل تحسبهم ... قساقسا أو بطاريقا شماميسا )
( ناديت إذ رحلوا للبين ناقتها ... يا حادي العيس لا تحدو بها العيسا )
( غيبت أجناد صبري يوم بينهم ... على الطريق كراديسا كراديسا )
( ساروا وأصبحت أنعي الربع بعدهمو ... والوجد في القلب لا ينفك مغروسا )
وقال آخر
( ولما تبدت للرحيل جمالنا ... وجد بنا سير وفاضت مدامع )
( تبدت لنا مذعورة من خبائها ... وناظرها باللؤلؤ الرطب دامع )
( أشارت بأطراف البنان وودعت ... وأومت بعينيها متى أنت راجع )
( فقلت لها والله ما من مسافر ... يسيرويدري ما به الله صانع )
( فشالت نقاب الحسن من فوق وجهها ... فسالت من الطرف الكحيل مدامع )

( وقالت إلهي كن لي عليه خليفة ... فيارب ما خابت لديك الودائع )
( وقال آخر )
( يا راحلا وجميل الصبر ينبعه ... هل من سبيل إلى لقياك يتفق )
( ما أنصفتك دموعي وهي دامية ... ولا وفى لك قلبي وهو يحترق )
( وقال البغدادي )
( قالت وقد نالها للبين أوجعه ... والبين صعب على الأحباب موقعه )
( اجعل يديك على قلبي فقد ضعفت ... قواه عن حمل ما فيه واضلعه )
( واعطف على المطايا ساعة فعسى ... من شق الهوى بالبين يجمعه )
( كأنني يوم ولت حسرة وأسى ... غريق بحر يرى الشاطيء ويمنعه )
( وقال ابن البديري )
( قفا حاديا ليلى فاني وامق ... وتعجلا يوما على من يفارق )
( وزما مطاياها قبيل مسيرها ... ليلتذ منها بالتزود عاشق )
( ولا تزجرا بالسوق أظعان عيسها ... فان حبيبي للظعائن سائق )
( ولما التقينا والغرام يذيبنا ... ونحن كلانا في التفكر غارق )
( وقفنا ودمع العين يحجب بيننا ... تسارقني في نظرة وأسارق )
( فلا تسألا ما حل بالبين بيننا ... ولا تعجبا أنا مشوق وشائق )
( وقال أيضا )
( تذكرت ليلى حين شط مزارها ... وعادت منازلها خليات بلقع )
( بكرت عليها والقنا يقرع القنا ... وسمر العوالي للمنايا تشرع )
( وخالفت لوامي عليها وعذلي ... وخالفت سهدي والخليون هجع )
( ولم أستطع يوم النوى رد عبرة ... فؤادي أسى من حرها يتقطع )
( فقال خليلي إذ رأى الدمع دائما ... يفيض دما من مقلتي ليس يدفع )
( لئن كان هذا الدمع يجري صبابة ... على غير ليلى فهو دمع مضيع )

وقال آخر
( مددت إلى التوديع كفا ضعيفة ... وأخرى على الرمضاء فوق فؤادي )
( فلا كان هذا آخر العهد منكمو ... ولا كان ذا التوديع آخر زادي )
وقال آخر
( ولما وقفنا للوداع عشية ... وطرفي وقلبي دامع وخفوق )
( بكيت فاضحكت الرشاة شماتة ... كأني سحاب والوشاة بروق )
( ولمؤلفه رحمه الله تعالى (
( يا سادة في سويد القلب مسكنكم ... وفي منامي أرى أني أعانقهم )
( أوحشتمونا وعز الصبر بعدكمو ... يا من يعز علينا أن نفارقهم )
وقال آخر
( لو أن مالك عالم بذرى الهوى ... ومحله من أضلع العشاق )
( ما عذب العشاق إلا بالهوى ... وإذا استغاثوا غاثهم بفراق )
( وقال ابن الوردي )
( دهرنا أضحى ضنينا ... باللقا حتى ضنينا )
( يا ليالي الوصل عودي ... اجمعينا اجمعينا )
( وقال الشريف الرضي )
( عللاني بذكرهم واسقياني ... وامزجا لي دمعي بكأس دهاق )
( وخذا النوم من جفوني فإني ... قد خلعت الكرى على العشاق )

( وقال آخر عند ذلك )
( قالوا أترقد إذ عبنا فقلت لهم ... نعم وأشفق من دمعي على بصري )
( ما حق طرف هداني نحو حسنكمو ... أني أعذبه بالدمع والسهر )
وقال الموصلي
( فسدت لطول بعادكم أحلامنا ... وعقولنا وجفا الجفون منام )
( والطيف قد وعد الجفون بزورة ... يا حبذا إن صحت الأحلام )
ومما قيل في البكاء قال الشاعر
( رجوت طيف خياله ... وكيف لي بهجوع )
( والذاريات جفوني ... والمرسلات دموعي ) وقال آخر
( ارحم رحمت للوعتي ... وابعث خيالك في الكرى )
( ودموع عيني لا تسل ... عن حالها يا ما جرى )
وقال آخر
( إن عيني مذ غاب شخصك عنها ... يأمر السهد في كراها وينهى )
( بدموع كأنهن الغوادي ... لا تسل ما جرى على الخد منها )
وقال آخر
( يا قلب صبرا على الفراق ولو ... روعت ممن تحب بالبين )
( وأنت يا دمع إن ظهرت بما ... أخفيه من قلبي سقطت من عيني )

وقال آخر
( خاض العواذل في حديث مدامعي ... مما غدا كالبحر سرعة سيره )
( خبأته لأصون سر هواكمو ... حتى يخوضوا في حديث غيره )
وقال ابن المواز
( رحت يوم الفراق أجري دموعي ... حسرة إذ قضى الفراق ببيني )
( قيل كم إذا تجري دموعك تعمى ... أوقف الدمع قلت من بعد عيني )
وقال آخر
( لما لبست لبعده ثوب الضنى ... وغدوت من ثوب اصطباري عاريا )
( أجريت وقف مدامعي من بعده ... وجعلته وقفا عليه جاريا )
وقال آخر
( ولم أر مثلي غار من طول ليله ... عليه كأن الليل يعشقه معي )
( وما زلت أبكي في دجى الليل صبوة ... من الوجد حتى ابيض من فيض أدمعي )
وقال الموصلي
( عين أفاضت دموعي ... لطول صد وبين )
( ووجنة الخد قالت ... رأيت غسلي بعيني )
وقال آخر
( وما فارقت ليلى من مراد ... ولكن شقوة بلغت مداها )
( بكيت نعم بكيت وكل إلف ... إذا ماتت حبيبته بكاها ) وفي بعض الكتب السماوية أن مما عاقبت به عبادي أن ابتليتهم بفراق الأحبة

ومما جاء في الحنين إلى الوطن أما محبة الوطن فمستولية على الطباع مستدعية أشد الشوق إليها روي أن أبان قدم على النبي فقال يا أبان كيف تركت مكة ؟ قال تركت الأذخر وقد أعذق والنمام وقد أورق فاغرورقت عينا رسول الله وقال بلال رضي الله تعالى عنه
( ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... براد وحولي أذخر وجليل )
( وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل )
وقيل من علامة الرشد أن تكون النفس إلى بلدها تواقة وإلى مسقط رأسها مشتاقة
ومن حب الوطن ما حكي أن سيدنا يوسف عليه الصلاة و السلام أوصى بأن يحمل تابوته إلى مقابر آبائه فمنع أهل مصر أولياءه من ذلك فلما بعث موسى عليه الصلاة و السلام وأهلك الله تعالى فرعون لعنه الله حمله موسى إلى مقابر آبائه فقبره بالأرض المقدسة وأوصى الاسكندر رحمه الله تعالى أن تحمل رمته في تابوت من ذهب إلى بلاد الروم حبا لوطنه واعتل سابور ذو الأكتاف وكان أسيرا ببلاد الروم فقالت له بنت الملك وكانت قد عشقته ما تشتهي ؟ قال شربة من ماء دجلة وشمة من تراب اصطخر فأتته بعد أيام بشربة من ماء وقبضة من تراب وقالت له هذا من ماء دجلة ومن تربة أرضك فشرب واشتم بالوهم فنفعه من علته وقال الجاحظ كان النفر في زمن البرامكة إذا سافر أحدهم أخذ معه من تربة أرضه في جراب يتداوى به وما أحسن ما قال بعضهم
( بلاد ألفناها على كل حالة ... وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن )
( ونستعذب الأرض التي لا هوا بها ... ولا ماؤها عذب ولكنها وطن )

ووصف بعضهم بلاد الهند فقال بحرها در وجبالها ياقوت وشجرها عود وورقها عطر
وقال عبد الله بن سليمان في نهاوند أرضها مسك وترابها الزعفران وثمارها الفاكهة وحيطانها الشهد وقال الحجاج لعامله على أصبهان قد وليتك على بلدة حجرها الكحل وذبابها النحل وحشيشها الزعفران وكان يقال البصرة خزانة العرب وقبة الإسلام لانتقال قبائل العرب إليها واتخاذ المسلمين بها وطنا " ومركزا "
وكان أبو إسحاق الزجاج يقول بغداد حاضرة الدنيا وما سواها بادية وأنا أقول مصر كنانة الله في أرضه والسلام
ومما جاء في ذم السفر
قيل لرجل السفر قطعة من العذاب فقال بل العذاب قطعة من السفر وقال بعضهم
( كل العذاب قطعة من السفر ... يآرب فارددنا على خير الحضر )
وقيل لاعرابي ما الغبطة ؟ قال الكفاية مع لزوم الاوطان
ومر إياس بن معاوية بمكان فقال أسمع صوت كلب غريب فقيل له بم عرفت ذلك ؟ قال بخضوع صوته وشدة نباح غيره وأراد اعرابي السفر فقال لامرأته
( عدي السنين لغيبتي وتصبري ... وذري الشهور فانهن قصار ) فأجابته
( فاذكر صبابتنا اليك وشوقنا ... وارحم بناتك إنهن صغار ) فاقام وترك السفر
ويقال رب ملازم لمهنته فاز ببغيته وقال ابن الهيثم
( لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق ) وفيما ذكرته كفاية وأسأل الله التوفيق والهداية و صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الحادي والخمسون في ذكر الغنى وحب المال والافتخار بجمعه قال الله تعالى ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا )
وقيل الفقر رأس كل بلاء وداعية الى مقت الناس وهو مع ذلك مسلبة للمروءة مذهبة للحياء فمتى نزل الفقر بالرجل لم يجد بدا من ترك الحياء ومن فقد حياءه فقد مروءته ومن فقد مروءته مقت ومن مقت ازدري به ومن صار كذلك كان كلامه عليه لا له وقال رسول الله ان تذر ورثتك اغنياء خير من ان تذرهم عالة يتكففون الناس ) وفي الحديث ( لا خير فيمن لا يحب المال ليصل به رحمه ويؤدي به امانته ويستغني به عن خلق ربه ) وقال على كرم الله تعالى وجهه الفقر الموت الأكبر وقد استعاذ رسول الله من الكفر والفقر وعذاب القبر وقيل من حفظ دنياه حفظ الأكرمين دينه وعرضه قال الشاعر
( لا تلمني إذا وقيت الأواقي ... بالأواقي لماء وجهي واقي ) وقال لقمان لابنه يابني اكلت الحنظل وذقت الصبر فلم ار شيئا أمر من الفقر فان افتقرت فلا تحدث به الناس كيلا ينتقصوك ولكن اسأل الله تعالى من فضله فمن ذا الذي سأل الله فلم يعطه أو دعاه فلم يجبه أو تضرع اليه فلم يكشف ما به
وكان العباس رضي الله

تعالى عنه يقول الناس لصاحب المال الزم من الشعاع للشمس وهو عندهم أعذب من الماء وارفع من السماء وأحلى من الشهد وأزكى من الورد خطؤه صواب وسيئاته حسنات وقوله مقبول يرفع مجلسه ولا يمل حديثه والمفلس عند الناس اكذب من لمعان السراب واثقل من الرصاص لا يسئل عليه ان قدم ولا يسلم عنه ان غاب ان حضر اردوه وان غاب شتموه وان غضب صفعوه مصافحته تنقض الوضوء وقراءته تقطع الصلاة
وقال بعضهم طلبت الراحة لنفسي فلم أجد لها أروح من ترك ما لا يعنيها وتوحشت في البرية فلم أر وحشة أقر من قرين السوء وشهدت الزحوف وغالبت الأقران فلم أر قرينا أغلب للرجل من المرأة السوء ونظرت الى كل ما يذل القوي ويكسره فلم أر شيئا أذل له ولا أكبر من الفاقة
( وكل مقل حين يغدو لحاجة ... الى كل ما يلفى من الناس مذنب )
( وكانت بنو عمي يقولون مرحبا ... فلما رأوني معدما مات مرحب ) وقال آخر
( المال يرفع سقفا لا عماد له ... والفقر يهدم بيت العز والشرف ) وقال آخر
( جروح الليالي ما لهن طبيب ... وعيش الفتى بالفقر ليس يطيب )
( وحسبك ان المرء فى حال فقره ... تحمقه الاقوام وهو لبيب )
( ومن يغترر بالحادثات وصرفها ... يبت وهو مغلوب الفؤاد سليب )
( وما ضرني ان قال أخطأت جاهل ... إذا قال كل الناس أنت مصيب ) وقال آخر
( الفقر يزري بأقوام ذوي حسب ... وقد يسود بغير السيد المال ) وقال آخر
( لعمرك ان المال قد يجعل الفتى ... سنيلا وأن الفقر بالمرء قد يزري )

( وما رفع النفس الدنية كالغنى ... ولا وضع النفس النفيسة كالفقر ) وقال آخر
( إذا قل مال المرء لانت قناته ... وهان على الأدنى فكيف الأباعد )
وقال ابن الأحنف
( يمشي الفقير وكل شيء ضده ... والناس تغلق دونه أبوابها )
( وتراه مبغوضا وليس بمذنب ... ويرى العداوة لا يرى أسبابها )
( حتى الكلاب اذا رأت ذا ثروة ... خضعت لديه وحركت أذنابها )
( وإذا رأت يوما فقيرا عابرا ... نبحت عليه وكشرت أنيابها ) وقال آخر
( فقر الفتى يذهب أنواره ... مثل اصفرار الشمس عند المغيب )
( والله ما الانسان فى قومه ... إذا بلي بالفقر الا غريب ) وقال آخر
( إن الدراهم في الموطن كلها ... تكسو الرجال مهابة وجمالا )
( فهي اللسان لمن أراد فصاحة ... وهي السلاح لمن أراد قتالا ) وقال آخر
( ما الناس الا مع الدنيا وصاحبها ... فكلما انقلبت يوما به انقلبوا )
( يعظمون أخا الدنيا فان وثبت ... يوما عليه يما لا يشتهي وثبوا ) وقال بعض الفرس من زعم انه لا يحب المال فهو عندي كذاب . وقال الكناني
( أصبحت الدنيا لنا عبرة ... فالحمد لله على ذلكا )
( قد أجمع الناس على ذمها ... وما أرى منهم لها تاركا ) وقال الزمخشري
( وإذا رأيت صعوبة في مطلب ... فاحمل صعوبته على الدينار )

( وابعثه فيما تشتهيه فإنه ... حجر يلين قوة الأحجار )
قال الثوري رحمه الله تعالى لأن أخلف عشرة آلاف درهم يحاسبني الله عليها أحب إلي من أن أحتاج إلى لئيم وفي هذا المعنى قال الشاعر
( احفظ عرى مالك تحظى به ... ولا تفرط فيه تبقى ذليل )
( وإن يقولوا باخل بالعطا ... فالبخل خير من سؤال البخيل )
( واحفظ على نفسك من زلة ... يرى عزيز القوم فيها ذليل )
وأما ما جاء في الاحتراز على الأموال
فقد قالوا ينبغي لصاحب المال أن يحترز ويحتفظ عليه من المطمعين و المبرطحين والمحترفين والموهمين والمتنسمين
فأما المطمعون فهم الذين يتلقون أصحاب الاموال بالبشر والاكرام والتحية والاعظام إلى أن يأنسوا بهم ويعرفوهم بالمشاهدة وربما قضوا ما قدروا عليه من حوائجهم الى أن يألفوهم ويحصل بينهم سبب الصداقة ثم ان أحدهم يذكر لصاحب المال في معرض المقال أنه كسب فائدة كثيرة في معيشته ثم يمشي معه في الحديث الى ان يقول اني فكرت فيما عليك من المؤن والنفقات وهذا أمر يعود ضرره في المستقبل ان لم تساعد بالمكاسب وغرضي التقرب اليك ونصحك وخدمتك وأريد أن أوجه إليك فائدة من المتجر بشرط ان لا أضع يدي لك على مال بل يكون مالك تحت يدك أو تحت يد أحد من جهتك
ويخرج له في صفة الناصحين المشفقين فإذا أجابه الى ذلك كان أمره معه على قسمين أن ائتمنه وجعل المال بيده أعطاه اليسير منه على صفة أنه من الربح وطاول به الأوقات ودفع اليه في المدة الطويلة الشيء اليسير من ماله ثم يحتج عليه ببعض الآفات ويدعي الخسارة فإن لزمه صاحب المال قابحه وبرطل من جملة المال صاحب جاه فيدفعه ويقول هذا راباني فإن روعي

صاحب المال وفق بينهما على ان يكتب عليه ببقية المال وثيقة فلا يستوفي ما فيها الا في الاخرة وان هو لم يأتمنه وعول ان يكون القبض بيده والمتاع مخزونا لديه واطأ عليه البائعين والمشترين وحصل لنفسه وعمل ما يقول به فان حصل لصاحب المال أدنى ربح أوهمه ان مفاتيح الأرزاق بيده وان كسد المشترى او رخص احال الامر على الاقدار وقال ليس لي علم بالغيب ومن أشد المطمعين المتعرضون لصنعة الكيمياء وهم الطماعون المطمعون في عمل الذهب والفضة من غير معدنها فيجب أن يحذر التقرب منهم والاستماع لهم في شيء من حديثهم فإن كذبهم ظاهر وذلك أنهم يوهمون الغير أنهم ينيلونهم خيرا ويطلعونهم على صنعتهم ابتداء منهم لا لحاجة وهذا يستحيل ويحتجون بأن ما يلجئهم إلى ذلك إلا عدم الامكان وتعذر المكان فمنهم من يكون شوقه إلى أن يدخل إلى مكان ويترك عنده عدة لها قيمة فيأخذها وينسحب ومنهم من يشترط أن عمله لا ينتهي إلى مدة فيقنع في تلك المدة بالأكل غدرة وعشية وسبيله بعد ذلك إن كان معروفا قال فسد علي العمل من جهة كيت وكيت ويقول للذي ينفق عليه هل لك في المعاودة فان حمله الطمع ووافقه كان هذا له أتم غرض ثم يحتال آخر المدة على الفراق بأي سبب كان وإن كان منكورا غافل صاحب المكان وخرج هاربا ومن المطمعين قوم يجعلون في الجبال أمارات من ردم وحجر ويأتون إلى أصحاب الأموال ويقولون إنا نعرف علم كنز فيه من الإمارات كيت وكيت ثم يوقفونهم على ورقة متصنعة ويقولون نريد أن تأخذ لنا عدة تنفق علينا ومهما حصل من فضل الله تعالى لنا ولك فيوافقهم على ذلك ويوطن نفسه على أن المدة تكون قريبة فيعملون يوما أو يومين فيظهر لهم أكثر الامارات فيزداد طمعا ويعتقد الصحة ثم يدرجونه إلى أن ينفق عليهم ما شاء الله تعالى ويكون آخر أمرهم كصاحب الكيمياء وإن كانوا منكورين ورغبتهم الطمعة في قماشه أو في العدة التي معه فربما قتلوه هناك لأجل ذلك ومضوا فهذا أمر المطمعين

وأما المبرطحون فهم من الخونة والناس بهم أكثر غررا وذلك أنهم إذا ندب صاحب المال أحد منهم لشراء حاجة سارع فيها واحتاط في جودتها وتوفير كيلها أو وزنها أو درعها ووضع من أصل ثمنها شيئا وزنه من عنده حتى يبيض وجهه عند صاحب المال ويعتقد نصحه وأمانته ونجح مساعيه وكذلك إن ندبه لشيء يبيعه استظهر واستجاد النقد ولا يزال هكذا دأبه حتى يلقى مقاليد أموره إليه فيستعطفه ويفوز به ثم يغير الحال الأول في الباطن فينبغي لصاحب المال أن لا يغفل عنه
وأما المحترفون الموهمون فهم الذين يتعرضون لذوي الأموال فيظهرون لهم الغنى والكفاية ويباسطونهم مباسطة الأصدقاء ويعتمدون جودة اللباس ويستعملون كثيرا من الطيب ثم إن أحدهم يذكر أنه يربح الأرباح العظيمة فيما يعانيه ويذكر ذلك مع الغير ولا يزال كذلك حتى يثبت ويستقر في ذهن صاحب المال أنه يكتسب في كل سنة الجمل الكثيرة من المال وأنه لا يبالي إذا أنفق أو أكل أو شرب فتشره نفس صاحب المال لذلك فيقول له على سبيل المداعبة يا فلان تريد الدنيا كلها لنفسك
لم لا تشركنا في متاجرك هذه وأرباحك ؟ فيقول له أنت جبان يعز عليك إخراج الدينار وتظن أنك إن أظهرته خطف منك ولا تدري أنه مثل البازي إن أرسلته أكل وأطعمك وإن أمسكته لم يصد شيئا واحتجت إلى أن تطعمه وإلا مات وأنا والله لو كان عندي علم أنك تنبسط لهذا كنت فعلت معك خيرا كثيرا ولكن ما كان إلا هكذا وما كان لا كلام فيه والعمل في المستأنف فيشكره صاحب المال ويسأله أخذ المال فيمطله بتسليمه فيزداد فيه رغبة إلى أن يسلمه إليه فيكون حاله كحال المطمع إذا صار المال تحت يده
وأما المتنسمون فهم أهل الرياء المظهرون التعفف والنسك ومجانبة ومجانبة الحرام ومواظبة

الصلاة والصيام لكي يشتهر ذكرهم عند الخاص والعام ثم يلقون ذوي الأموال بالبشر والاكرام والتلطف في المقال ويمشون إلى أبواب الملوك على صفة التهاني بالأعياد وربما يأتي معه بأحد من الأولاد ويظهرون النزاهة والغنى ويجعلون الدين سلما إلى الدنيا وأكثر أغراضهم أن تودع عندهم الأموال وتفوض إليهم الوصايا ويجلهم العوام وتقبل شهادتهم الحكام وتندبهم الملوك إلى الوصايا والأموال وهؤلاء أشر من اللصوص والقطاع وذلك أن شهرة اللصوص والقطاع تدعو إلى الاحتراز منهم وتشبه هؤلاء بأهل الخير يحمل الناس على الاغترار بهم
قال الشاعر
( صلى وصام لأمر كان أمله ... حتى حواه فما صلى ولا صاما ) وقيل لا فقير أفقر من غنى يأمن الفقر قال الشاعر
( ألم تر أن الفقر يرجى له الغنى ... وأن الغنى يخشى عليه من الفقر ) وأوصى بعض الحكماء ولده فقال له يا بني عليك بطلب العلم وجمع المال فإن الناس طائفتان خاصة وعامة فالخاصة تكرمك للعلم والعامة تكرمك للمال وقال بعض الحكماء إذا افتقر الرجل اتهمه من كان به موثقا وأساء به الظن من كان ظنه حسنا ومن نزل به الفقر والفاقة لم يجد بدا من ترك الحياء ومن ذهب حياؤه ذهب بهاؤه وما من خلة هي للغنى مدح إلا وهي للفقير عيب فإن كان شجاعا سمي أهوج وإن كان مؤثرا سمي مفسدا وإن كان حليما سمي ضعيفا وإن كان وقورا سمي بليدا وإن كان لسنا سمي مهذارا وإن كان صموتا سمي عييا قال ابن كثير
( الناس أتباع من دامت له نعم ... والويل للمرء إن زلت به القدم )
( المال زين ومن قلت دراهمه ... حي كمن مات إلا أنه صنم )
( لما رأيت إخلائي وخالصتي ... والكل مستتر عني ومحتشم )
( أبدوا جفاء وإعراضا فقلت لهم ... أذنبت ذنبا فقالوا ذنبك العدم )

وكان ابن مقلة وزيرا لبعض الخلفاء فزور عنه يهودي كتابا إلى بلاد الكفار وضمنه أمورا من أسرار الدولة ثم تحيل اليهودي إلى أن وصل الكتاب إلى الخليفة فوقف عليه وكان عند ابن مقلة حظية هويت هذا اليهودي فأعطته درجا بخطه فلم يزل يجتهد حتى حاكى خطه ذلك الخط الذي كان في الدرج فلما قرأ الخليفة الكتاب أمر بقطع يد ابن مقلة وكان ذلك يوم عرفة وقد لبس خلعة العيد ومضى إلى داره وفي موكبه كل من في الدولة فلما قطعت يده وأصبح يوم العيد لم يأت أحد إليه ولا توجع له ثم اتضحت القضية في أثناء النهار للخليفة أنها من جهة اليهودي والجارية فقتلهما أشر قتلة ثم أرسل إلى ابن مقلة أموالا كثيرة وخلعا سنية وندم من فعله واعتذر إليه فكتب ابن مقلة على باب داره يقول
( تحالف الناس والزمان ... فحيث كان الزمان كانوا )
( عاداني الدهر نصف يوم ... فانكشف الناس لي وبانوا )
( يا أيها المعرضون عني ... عودوا فقد عاد لي الزمان ) ثم أقام بقية عمره يكتب بيده اليسرى
قال بعضهم
( إنما قوة الظهور النقود ... وبها يكمل الفتى ويسود )
( كم كريم أزرى به الدهر يوما ... ولئيم تسعى إليه الوفود ) والأطباء يعلمون أمراضا من علاجها اللعب بالدينار وشرب الأدوية والمساليق التي يغلى فيها الذهب
قال الشاعر
( احرص على الدرهم والعين ... تسلم من العيلة والدين )
( فقوة العين بإنسانها ... وقوة الإنسان بالعين ) واعلم أن القلب عمود البدن فإذا قوي القلب قوي سائر البدن وليس له قوة أشد من المال
وبالضد إذا ضعف الفقر له البدن

حكي أن ملكا رأى شيخا قد وثب وثبة عظيمة على نهر فتخطاه والشاب يعجز عن ذلك فعجب منه فاستحضره فحادثه في ذلك فأراه ألف دينار مربوطة على وسطه
وقال لقمان لابنه يا بني شيئان إذ أنت حفظتهما لا تبالي بما صنعت بعدهما دينك لمعادك ودرهمك لمعاشك
والكلام في هذا المعنى كثير
وقد اقتصرت منه على النزر اليسير وقد كان في الناس من يتظاهر بالغنى ويراه مروءة وفخرا
فمن ذلك ما حكي عن أحمد بن طولون أنه دخل يوما بعض بساتينه فرأى النرجس وقد تفتح زهرة فاستحسنة فدعا بغدائه فتغدى ثم دعا بشرابه فشرب فلما انتشى قال علي بألف مثقال من المسك فنثره على أوراق النرجس ولنذكر الآن نبذة من الذخائر والتحف
حكى الرشيد بن الزبير في كتابه الملقب بالعجائب والطرف أن أبا الوليد ذكر في كتابه المعروف بأخبار مكة أن رسول الله لما فتح مكة عام الفتح في سنة ثمان من الهجرة وجد في الجب الذي كان في الكعبة سبعين ألف أوقية من الذهب مما كان يهدى للبيت قيمتها ألف ألف وتسعمائة ألف وتسعون ألف دينار
وباع زهرة التميمي يوم القادسية منطقة كان قد قتل صاحبها بثمانين ألف دينار ولبس سلبه وقيمته خمسمائة ألف وخمسون ألفا
وأصاب رجل يوم القادسية راية كسرى فعوض عنها ثلاثين ألف دينار وكانت قيمتها ألف ألف دينار ومائتي ألف ووجد المستورد بن ربيعة يوم القادسية أبريق ذهب مرصعا بالجوهر فلم يدر أحد ما قيمته فقال رجل ن الفرس أنا آخذه بعشرة آلاف دينار ولم يعرف قيمته فذهب إلى سعد بن أبي وقاص فأعطاه إياه وقال لا تبعه إلا بعشرة آلاف دينار فباعه سعد بمائة ألف دينار ولما أتت الترك إلى عبد الله بن زياد ببخارى في سنة أربع وخمسين كان مع ملكهم امرأته خانون فلما هزمهم الله تعالى أعجلوها عن لبس خفها فلبست إحدى فردتيه ونسيت الأخرى فأصابها المسلمون فقومت بمائتي ألف دينار ولما فتح قتيبة بن مسلم بخارى في سنة تسع وثمانين وجد فيها قدر ذهب ينزل إليها بسلالم ودفع مصعب ابن الزبير حين

أحس بالقتل الى زياد مولاه فصا من ياقوت احمر وقال له انج به وكان قد قوم ذلك الفص بألف ألف درهم فأخذه زياد ورضه بين حجرين وقال والله لا ينتفع به أحد بعد مصعب
وذكر مصعب بن الزبير ان بعض عمال خراسان في ولايته ظهر على كنز فوجد فيه حلة كانت لبعض الأكاسرة مصوغه من الذهب مرصعة بالدر والجواهر والياقوت الأحمر والأصفر والزبر جد فحملها الى مصعب بن الزبير فخرج من قومها فبلغت قيمتها ألفي ألف دينار فقال إلى من ادفعها ؟ فقيل إلى نسائك وأهلك
فقال لا بل إلى رجل قدم عندنا يدا وأولانا جميلا ادع لي عبد الله بن أبي دريد فدفعها إليه
ولما صار موجود عماد الدولة في قبضة أمير الجيوش وجد في جملته دملج ذهب فيه جوهرة حمراء كالبيضة وزنها سبعة عشر مثقالا فأنفذها أمير الجيوش الى المستنصر فقومت بتسعين ألف دينار ووجد في بستان العباس بن الحسن الوزير مما أعد له من آلة الشرب يوم قتل سبعمائة صينية من ذهب وفضة ووجد له مائة الف مثقال عنبر
وترك هشام بن عبد الملك بعد موته اثنى عشر الف قميص وشي وعشرة آلاف تكة حرير وحملت كسوته لما حج على سبعمائة جمل وترك بعد وفاته احد عشر الف ألف دينا ولم تأت دولة بني العباس الا وجميع أولاده فقراء لا مال لواحد منهم وبين الدولة العباسية ووفاة هشام سبع سنين ولما قتل الأفضل بن أمير الجيوش في شهر رمضان سنة خمس عشرة وخمسمائة خلف بعده مائة ألف ألف دينار ومن الدراهم مائة وخمسين اردبا وخمسة وسبعين ألف ثوب ديباج ودواة من الذهب قوم ما عليها من الجواهر واليواقيت بمائتي ألف دينار وعشرة بيوت في كل بيت منها مسمار ذهب قيمته مائة دينار على كل مسمار عمامة لونا وخلف كعبة عنبر يجعل عليه ثيابه اذا نزعها وخلف عشرة صناديق مملوءة من الجوهر الفائق الذي لا يوجد مثله وخلف خمسمائة صندوق كبار لكسوة حشمه وخلف من الزبادي الصيني والبلور المحكم وسق مائة جمل وخلف عشرة آلاف ملعقة فضة وثلاثة آلاف ملعقة ذهب

آلاف زباية فضة كبار وصغار وأربع قدور ذهبا كل قدر وزنها مائة رطل وسبعمائة جام ذهبا بفصوص زمرد وألف خريطة مملوءة دراهم خارجا عن الارادب في كل خريطة عشرة الاف درهم وخلف من الخدم والرقيق والخيل والبغال والجمال وحلى النساء ما لا يحصى عدده الا الله تعالى وخلف ألف حسكة ذهبا وألفي حسكة فضة وثلاثة آلاف نرجسة ذهبا وخمسة آلاف نرجسة فضة وألف صورة ذهبا وألف صورة فضة منقوشة عمل المغرب وثلاثمائة تور ذهبا وأربعة آلاف تور فضة وخلف من البسط الرومية والأندلسية ما ملأ به خزائن الايوان وداخل قصر الزمرد وخلف من البقر والجاموس والأغنام ما يباع لبنه في كل سنة بثلاثين الف دينار وخلف من الحواصل المملوءة من الحبوب ما لا يحصى ولما احتوى الناصر على ذخائر قصر العاضد وجد فيه طبلا كان بالقرب من موضع العاضد محتفظا به فلما رأوه سخروا منه فضرب عليه انسان فضرط فضحكوا منه ثم أمسكه آخر وضربه فضرط فضحكوا عليه فكسروه استهزاء وسخرية ولم يدروا خاصيته وكانت الفائدة فيه أنه وضع للقولنج فلما أخبروا بخاصيته ندموا على كسره
وقد جمعت الملوك من الأموال والذخائر والتحف كنوزا لا تحصى وبعد ذلك ماتوا ونفذت ذخائرهم وفنيت أموالهم فسبحان من يدوم ملكه وبقاؤه
قال بعضهم
( هب الدنيا تقاد اليك عفوا ... اليس مصير ذلك للزوال ) فضمنت أنا هذا البيت وقلت
( أيا من عاش في الدنيا طويلا ... وأفنى العمر في قيل وقال )
( وأتعب نفسه فيما سيفني ... وجمع من حرام أو حلال )
( هب الدنيا تقاد اليك عفوا ... اليس مصير ذلك للزوال ) وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الثاني والخمسون في ذكر الفقر ومدحه قد دل قوله تعالى ( كلا ان الانسان ليطغى ان رآه استغنى ) على ذم الغنى ان كان سبب الطغيان
وسئل ابو حنيفة رحمه الله تعالى عن الغنى والفقر فقال وهل طغى من طغى من خلق الله عز و جل الا بالغنى وتلا هذه الآية المتقدمة والمحققون يرون الغنى والفقر من قبل النفس لا في المال وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يرون الفقر فضيلة وحدث الحسن رضي الله عنه أن رسول الله قال يدخل فقراء امتي الجنة قبل الأغنياء بأربعين عاما فقال جليس للحسن أمن الأغنياء أنا أو من الفقراء ؟ فقال هل تغديت اليوم ؟ فال نعم قال فهل عندك ما تتعشى به ؟ قال نقم قال فإذا أنت من الأغنياء وقال ابن عباس رضي الله عنهما كان النبي يبيت طاويا ليالي ما له ولا لأهله عشاء وكان عامة طعامه الشعير وكان تعصب الحجر على بطنه من الجوع وكان يأكل خبز الشعير غير منخول هذا وقد عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فأبى أن يقبلها صلوات الله وسلامه عليه وكان يقول ( اللهم توفني فقيرا ولا تتوفني غنيا واحشرني في زمرة المساكين ) وقال جابر رضي الله تعالى عنه دخل النبي على ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من وبر الإبل فبكي وقال ( تجرعي يا فاطمة مرارة الدنيا لنعيم الآخرة ) قال الله تعالى ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) وقال

موهبة من مواهب الآخرة وهبها الله تعالى لمن اختاره ولا يختار الا أولياء الله تعالى ) وفي الخبر اذ كان يوم القيامة يقول الله عز و جل لملائكته أدنوا الى أحبائي فتقول الملائكة ومن أحباؤك يا اله العالمين ؟ فيقول فقراء المؤمنين أحبائي فيدنونهم منه فيقول يا عبادي الصالحين إني ما زويت الدنيا عنكم لهوانكم على ولكن لكرامتكم تمتعوا بالنظر الي وتمتعوا ما شئتم فيقولون وعزتك وجلالك لقد أحسنت الينا بما زويت عنا منها ولقد أحسنت بما صرفت عنا فيأمر بهم فيكرمون ويحبرون ويزفون الى أعلى مراتب الجنان
وقال ( هل تنصرون الا بفقرائكم وضعفائكم والذي نفسي بيده ليدخلن فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائها بخمسمائة عام والأغنياء يحاسبون على زكاتهم ) وقال عليه الصلاة و السلام ( رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به لو أقسم على الله تعالي لأبره أي لو قال اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه الجنة ولم يعطه من الدنيا شيئا
وقال عليه الصلاة و السلام ( إن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به الذين اذا استأذنوا على الأمير لا يؤذن لهم وإن خطبوا النساء لم ينكحوا وإذا قالوا لم ينصت لهم
حوائج أحدهم تتلجلج في صدره لم قسم نوره على الناس يوم القيامة لوسعهم )
وروي عن خالد ين عبد العزيز أنه قال كان حيوة ين شريح من البكائين وكان ضيق الحال جدا فجلست اليه ذات يوم وهو جالس وحده يدعو فقلت له يرحمك الله لو دعوت الله تعالى ليوسع عليك في معيشتك قال فالتفت يمينا وشمالا فلم ير أحدا فأخذ حصاة من الأرض وقال اللهم اجعلها ذهبا فإذا هي تبرة في كفه ما رأيت أحسن منها قال فرمى بها الى وقال هو أعلم بما يصلح عباده فقلت ما أصنع بهذه ؟ قال انفقها على عيالك فهبته والله أن أرجها عليها وقال عون بن عبد الله صحبت الأغنياء فلم أجد فيهم أحدا أكثر مني هما لأني كنت أرى ثيابا أحسن من ثيابي ودابة أحسن من دابتي ثم صحبت الفقراء بعد ذلك فاسترحت
قال بعضهم
( وقد يهلك الأنسان كثرة ماله ... كما يذبح الطاوس من أجل ريشه )

عبد الله بن طاهر
( ألم تر أن الدهر يهدم مابنى ... ويأخذ ما أعطى ويفسد ما أسدى )
( فمن سره أن لا يرى ما يسوءه ... فلا يتخذ شيئا ينال به فقدا ) وكان من دعاء السلف رضي الله تعالى عنهم ( اللهم اني أعوذ بك من ذل الفقر وبطر الغني ) وقيل مكتوب على باب مدينة الرقة ويل لمن جمع المال من غير حقه وويلان لمن ورثه لمن لا يحمده وقدم على من لا يعذره ولما فتحت بلخ في زمن عمر رضي الله تعالى عنه وجد على بابها صخرة مكتوب فيها إنما يتبين الفقير من الغني بعد الانصراف من بين يدي الله تعالى أي بعد العرض قال الشاعر
( ومن يطلب الأعلى من العيش لم يزل ... حزينا على الدنيا رهين غبونها )
( إذا شئت أن تحيا سعيدا فلا تكن ... على حالة إلا رضيت بدونها )
وقال آخر
( ولا ترهبن الفقر ما عشت في غد ... لكل غد رزق من الله وارد )
وقال هارون بن جعفر الطالبي
( بوعدت همتي وقورب مالي ... ففعالي مقصر عن مقالي )
( ما اكتسى الناس مثل ثوب اقتناع ... وهو من بين ما اكتسوا سربالي )
( ولقد تعلم الحوادث أني ... ذو اصطبار على صروف الليالي ) وقال اعرابي من ولد في الفقر أبطره الغنى ومن ولد في الغنى لم يزده إلا تواضعا فما أحسن الفقر وأكثر ثوابه وأعظم أجر من رضي به وصبر عليه اللهم اجعلنا من الصابرين برحمتك يا أرحم الراحمين يارب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

الباب الثالث والخمسون في التلطف في السؤال وذكر من سئل فجاد
روى الإمام مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال " أعطوا السائل ولو جاء على فرس "
وما سئل عليه السلام شيئا قط فقال لا
وأتى إعرابي إلى علي رضي الله تعالى عنه فسأله شيئا فقال والله ما أصبح في بيتي شيء فضل عن قوتي فولى الاعرابي وهو يقول والله ليسألنك الله عن موقفي بين يديك يوم القيامة فبكى علي رضي الله تعالى عنه بكاء شديدا وأمر برده وقال يا قنبر ائتني بدرعي الفلانية فدفعها إلى الاعرابي وقال لا نخدعن عنها فطالما كشفت بها الكروب عن وجه رسول الله فقال قنبر يا أمير المؤمنين كان يجزيه عشرون درهما فقال يا قنبر والله ما يسرني أن لي زنة الدنيا ذهبا وفضة فتصدقت به وقبل الله مني ذلك وإنه يسألني عن موقف هذا بين يدي وقال علي رضي الله تعالى عنه إن لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف تعجيل السراح وقال مسلمة لنصيب سلني فقال كفك بالعطية أبسط من لساني بالمسألة فقال لحاجبه إدفع اليه ألف دينار وسأل رجل الحسن رضي الله تعالى عنه فقال له ما وسيلتك ؟ قال وسيلتي أني أتيتك عام أول فبررتني فقال مرحبا بمن توسل إلينا بنا ثم وصله وأكرمه
ويقال الكريم إذا سئل ارتاح واللئيم إذا سئل ارتاع
ولما وفد المهدي من الري إلى العراق امتدحه الشعراء فقال أبو دلامة
( إني نذرت لئن رأيتك قادما ... أرض العراق وأنت ذو وقر )

( لتصلين على النبي محمد ... ولتملأن دراهما حجري ) فقال المهدي صلى الله على محمد فقال أبو دلامة ما أسرعك للأولى وأبطأك عن الثانية فضحك وأمر ببدرة فصبت في حجره وسمع الرشيد أعرابيه بمكة تقول
( طحنتنا كلاكل الأعوام ... وبرتنا طوارق الأيام )
( فأتيناكمو نمد أكفا ... لالتقام من زادكم والطعام )
( فاطلبوا الأجر والمثوبة فينا ... أيها الزائرون بيت الحرام ) فبكى الرشيد وقال لمن معه سألتكم بالله تعالى إلا ما دفعتم إليها صدقاتكم فألقوا عليها الثياب حتى واربها كثرة وملأوا حجرها دراهم ودنانير
وسأل اعرابي بمكة وأحسن في سؤاله فقال أخ في الله وجار في بلد الله وطالب خير من عند الله فهل من أخ يواسيني في الله
قال الشاعر
( ليس في كل وهلة وأوان ... تتهيا صنائع الإحسان )
( فاذا أمكنت فبادر إليها ... حذرا من تعذر الامكان )
وقال البصري
( أضحت حوائجنا إليك مناخة ... معقولة برحابك الوصال )
( أطلق فديتك بالنجاح عقالها ... حتى تثور بنا بغير عقال ) وعن علي رضي الله تعالى عنه قال يا كميل مر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم ويدلجوا في حاجة من هو نائم فوالذي وسع سمعه الأصوات ما من أحد أودع قلبا سرورا إلا خلق الله تعالى من ذلك السرور لطفا فإذا نابته نائبة جرى إليها كالماء في انحداره حتى يطردها عنه كما تطرد غريبة الابل
وقال لجابر بن عبد الله يا جابر من كثرت نعم الله

عليه كثرت حوائج الناس إليه فإذا قام بما يجب لله فيها فقد عرضها للدوام والبقاء ومن لم يقم بما يجب لله فيها عرض نعمه لزوالها
وكان لبيد رحمه الله تعالى آلى على نفسه كلما هبت الصبا أن ينحر ويطعم وربما ذبح العتاق إذا ضاق الخناق فخطب الوليد بن عتبة يوما فقال قد علمت ما جعل أبو عقيل على نفسه فأعينوه على مروءته ثم بعث إليه بخمس من الابل وبهذه الأبيات
( أرى الجزار يشحذ مديتيه ... إذا هبت رياح بني عقيل )
( طويل الباع أبلج جعفري ... كريم الجد كالسيف الصقيل )
( وفي ابن الجعبري بما نواه ... على العلات بالمال القليل ) فدعا لبيد بنتا له خماسية وقال يا بنية إني تركت الشعر فأجيبي الأمير عني فقالت
( إذا هبت رياح بني عقيل ... تداعينا لهبتها الوليدا )
( طويل الباع أبلج عبشمي ... أعان على مروءته لبيدا )
( بأمثال الهضاب كأن رعيا ... عليها من بني حام قعودا )
( أبا وهب جزاك الله خيرا ... نحرناها وأطعمنا الثريدا )
( فعد إن الكريم له معاد ... وظني في ابن عتبة أن يعودا ) فقال لقد أحسنت والله يا بنية لولا أنك سألت وقلت عد فقالت يا أبت إن الملوك لا يستحيا منهم في المسئلة فقال والله لأنت في هذا أشعر مني
ووفد رجل من بني ضبة على عبد الملك فأشده
( والله ما ندري إذا ما فاتنا ... طلب إليك من الذي نتطلب )
( ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد ... أحدا سواك إلى المكارم ينسب )
( فاصبر لعادتك التي عودتنا ... أولا فارشدنا إلى من نذهب )

له بألف دينار فعاد إليه من قابل وقال يا أمير المؤمنين إن الروي لينازعني وإن الحياء يمنعني فأمر له بألف دينار وقال والله لو قلت حتى تنفد بيوت الأموال لأعطيتك
وقيل إن رجلا عرض للمنصور فسأله حاجة فلم يقضها فعرض له بعد ذلك فقال له المنصور أليس قد كلمتني مرة قبل هذه ؟ قال نعم يا أمير المؤمنين ولكن بعض الأوقات أسعد من بعض وبعض البقاع أعز من بعض فقال صدقت وقضى حاجته وأحسن إليه
وروي أن أبا دلامة الشاعر كان واقفا بين يدي السفاح في بعض الأيام فقال له سلني حاجتك
فقال كلب صيد فقال أعطوه إياه فقال ودابة أصيد عليها فقال أعطوه دابة فقال وغلاما يقود الكلب ويصيد به قال أعطوه غلاما قال وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه قال أعطوه جارية فقال هؤلاء يا أمير المؤمنين عيال ولا بد لهم من دار يسكنونها
فقال أعطوه دارا تجمعهم قال فان لم يكن لهم ضيعة فمن أين يعيشون ؟ قال قد أقطعته عشر ضياع عامرة وعشرة ضياع غامرة فقال ما الغامرة يا أمير المؤمنين ؟ قال ما لا نبات فيها قال قد أقطعتك يا أمير المؤمنين مائة ضيعة غامرة من فيافي بني أسد فضحك وقال اجعلوها كلها عامرة
فانظر إلى حذقه بالمسئلة ولطفه فيها كيف ابتدأ بكلب صيد فسهل القضية وجعل يأتي بمسئلة بعد مسألة على ترتيب وفكاهة حتى سأل ما سأله ولو سأل ذلك بديهة لما وصل إليه
وحكي عن المأمون أنه قال ليحيى بن أكثم يوما سر بنا نتفرج فسارا فبينما هما في الطريق وإذا بمقصبة خرج منها رجل بقصبة للمأمون يتظلم له فنفرت دابته فألقته على الأرض صريعا فأمر بضرب عنق ذلك الرجل فقال يا أمير المؤمنين إن المضطر يرتكب الصعب من الأمور وهو عالم به ويتجاوز حد الأدب وهو كاره لتجاوزه ولو أحسنت الأيام مطالبتي لأحسنت مطالبتك ولأنت علي ما لم تفعل أقدر مني على رد ما قد فعلت قال فبكى المأمون وقال بالله أعد علي

قلت فأعاده فالتفت المأمون إلى يحيى بن أكثم وقال أما تنظر إلى مخاطبة هذا الرجل بأصغريه ؟ والنبي يقول " المرء بأصغريه قلبه ولسانه "
والله لا وقفت لك إلا وأنا قائم على قدمي فوقف وأمر له بصلة جزيلة واعتذر إليه فلما هم المأمون بالانصراف قال الرجل يا أمير المؤمنين بيتان قد حضراني ثم أنشد يقول
( ما جاد بالوفر إلا وهو معتذر ... ولا عفا قط إلا وهو مقتدر )
( وكلما قصدوه زاد نائله ... كالنار يوخذ منها وهي تستعر )
وقيل إن بعض الحكماء لزم باب كسرى في حاجة دهرا فلم يوصل إليه فكتب أربعة أسطر في ورقة ودفعها للحاجب فكان في السطر الأول العديم لا يكون معه صبر على المطالبة وفي السطر الثاني الضرورة والأمل أقدماني عليك وفي السطر الثالث الانصراف من غير فائدة شماتة الأعداء وفي السطر الرابع أما نعم فمثمرة وأما لا فمريحة
فلما قرأها كسرى دفع له في كل سطر ألف دينار
وحكي أن رجلا كان جارا لابن عبيد الله فأصاب الناس قحط بالعراق حتى رحل أكثر الناس عنه فعزم جار ابن عبيد الله على الخروج من البلاد في طلب المعيشة وكانت له زوجة لا تقدر على السفر فلما رأت زوجها تهيأ للسفر قالت له إذا سافرت من الذي ينفق علينا ؟ قال إن لي على ابن عبيد الله دينار ومعي به أشهاد عليه شرعي فخذي الأشهاد وقدميه إليه فإذا قرأه أنفق عليك مما عنده حتى أحضر ثم ناولها رقعة كتب فيها هذه الأبيات يقول
( قالت وقد رأت الأحمال محدجة ... والبين قد جمع المشكو والشاكي )
( من لي إذا غبت في ذا المحل قلت لها ... الله وابن عبيد الله مولاكي ) فمضت إليه المرأة وحكت له ما قال زوجها وأخبرته بسفره وناولته الرقعة فقرأها وقال صدق زوجك وما زال ينفق عليها

بالبر والاحسان إلى أن قدم زوجها فشكره على فضله وإحسانه
وحكي أن مطيع بن أياس مدح معن بن زائدة بقصيدة حسنة ثم أنشدها بين يديه فلما فرغ من إنشاده أراد معن أن يباسطه فقال يا مطيع إن شئت أعطيناك وإن شئت مدحناك كما مدحتنا فاستحيا مطيع من اختيار الثواب وكره اختيار المدح وهو محتاج فلما خرج من عند معن أرسل إليه بهذين البيتين
( ثناء من أمير خير كسب ... لصاحب نعمة وأخي ثراء )
( ولكن الزمان برى عظامي ... ومالي كالدراهم من دواء ) فلما قرأها معن ضحك وقال ما مثل الدراهم من دواء وأمر له بصلة جزيلة ومال كثير قال الشاعر
( هززتك لا إني جعلتك ناسيا ... لأمري ولا إني أردت التقاضيا )
( ولكن رأيت السيف من بعد سله ... إلى الهز محتاجا وإن كان ماضيا )
وقال لآخر
( ماذا أقول إذا رجعت وقيل لي ... ماذا لقيت من الجراد الأفضل )
( إن قلت أعطاني كذبت وإن أقل ... بخل الجواد بماله لم يجمل )
( فاختر لنفسك ما أقول فانني ... لا بد أخبرهم وإن لم أسئل )
وقال آخر
( لنوائب الدنيا خبأتك فانتبه ... يا نائما من جملة النوام )
( أعلى الصراط تزيل لوعة كربتي ... أم في المعاد تجود بالانعام )

ومما يستحسن الحاقه بهذا الباب ذكر شيء مما جاء في ذم السؤال والنهي عنه
روي عن عبد الرحمن بن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله تعالى عنه قال كنا عند رسول الله تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال ألا تبايعون رسول الله ؟ فبسطنا أيدينا وكنا حديثي عهد بالمبايعة فقلنا قد بايعناك يا رسول الله فعلام يا رسول الله نبايعك ؟ قال أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وتقيموا الصلوات الخمس وتطيعوا الله وأسر كلمة خفية وهي ولا تسألوا الناس شيئا فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه رواه مسلم وقال رجل لابنه إياك أن تريق ماء وجهك عند من لا ماء في وجهه وكان لقمان يقول لولده يا بني إياك والسؤال فانه يذهب ماء الحياء من الوجه وأعظم من هذا استخفاف الناس بك وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام لأن تدخل يدك فم التنين إلى المرفق خير لك من أن تبسطها إلى غني قد نشأ في الفقر وقيل لأعرابي ما السقم الذي لا يبرأ والجرح الذي لا يندمل ؟ قال حاجة الكريم إلى اللئيم وقال أبو محلم السعدي
( إذا رماك الدهر في الضيق فانتجع ... قديم الغنى في الناس إنك حامده )
( ولا تطلبن الخير ممن أفاده ... حديثا ومن لا يورث المجد والده )
وقال رسول الله " مسألة الناس من الفواحش ما أحل من الفواحش غيرها " وقال عليه الصلاة و السلام " لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه "
قال الشاعر
( ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله ... عوضا ولو نال الغني بسؤال )
( وإذا السؤال مع النوال وزنته ... رجح السؤال وخف كل نوال )
وقال أحمد الأنباري
( لموت الفتى خير من البخل للغنى ... وللبخل خير من سؤال بخيل )

( لعمرك ما شيء لوجهك قيمة ... فلا تلق انسانا بوجه ذليل )
وقال سلم الخاسر
( إذا أذن الله في حاجة ... أتاك النجاح على رسله )
( فلا تسأل الناس من فضلهم ... ولكن سل الله من فضله )
ويقال أحب الناس إلى الله من سأله وأبغض الناس إلى الناس من احتاج إليهم وسألهم وفي هذا المعنى قيل
( لا تسألن من ابن آدم حاجة ... وسل الذي أبوابه لا تحجب )
( الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسئل يغضب ) وقال محمود الوراق
( شاد الملوك قصورهم وتحصنوا ... من كل طالب حاجة أو راغب )
( فارغب إلى ملك الملوك ولا تكن ... يا ذا الضراعة طالبا من طالب ) وقال ابن دقيق العيد
( وقائلة مات الكرام فمن لنا ... إذا عضنا الدهر الشديد بنابه )
( فقلت لها من كان غاية قصده ... سؤالا لمخلوق فليس بنابه )
( إذا مات من يرجى فمقصودنا الذي ... ترجينه باق فلو ذي ببابه ) وقال بعض أهل الفضل
( لما افتقرت لصحبي ما وجدتهمو ... لجأت لله لباني وأغناني )
( واها على بذل وجهي للورى سفها ... فلو بذلت إلى مولاي والاني ) وسأل رجل رجلا حاجة فلم يقضها فقال سألت فلانا حاجة أقل من قيمتة فردني رد أقبح من خلقته وسأل عروة مصعبا حاجة فلم يقضها

علم الله تعالى أن لكل قوم شيخا يفزعون إليه وأنا أفزع منك
ويقال لا شيء أوجع للأخيار من الوقوف بباب الأشرار وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى
( بلوت بني الدنيا فلم أر فيهم ... سوى من غدا والبخل ملء إهابه )
( فجردت من غمد القناعة صارما ... قطعت رجائي منهم بذبابه )
( فلا ذا يراني واقفا في طريقه ... ولا ذا يراني قاعدا عند بابه )
( غني بلا مال عن الناس كلهم ... وليس الغنى إلا عن الشيء لا به )
( إذا ظالما يستحسن الظلم مذهبا ... ولج عتوا في قبيح اكتسابه )
( فكله إلى صرف الليالي فإنها ... ستبدي له ما لم يكن في حسابه )
( فكم قد رأينا ظالما متمردا ... يرى النجم تيها تحت ظل ركابه )
( فعما قليل وهو في غفلاته ... أناخت صروف الحادثات ببابه )
( فأصبح لا مال ولا جاه يرتجى ... ولا حسنات تلتقي في كتابه )
( وجوزي بالأمر الذي كان فاعلا ... وصب عليه الله سوط عذابه ) وقال آخر
( لا تسألن إلى صديق حاجة ... فيحول عنك كما الزمان يحول )
( واستغن بالشيء القليل فانه ... ما صان عرضك لا يقال قليل )
( من عف خف على الصديق لقاؤه ... وأخو الحوائج وجهه مملول )
( وأخوك من وفرت ما في كفه ... ومتى علقت به فأنت ثقيل ) وقال آخر
( ليس جودا أعطيته بسؤال ... قد يهز السؤال غير جواد )
( إنما الجود ما أتاك ابتداء ... لم تذق فيه ذلة الترداد )

وقال آخر
( لا تحسبن الموت موت البلى ... إنما الموت سؤال الرجال )
( كلاهما موت ولكن ذا ... أخف من ذاك لذل السؤال ) وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه
( قنعت بالقوت من زماني ... وصنت نفسي عن الهوان )
( خوفا من الناس أن يقولوا ... فضل فلان على فلان )
( من كنت عن ماله غنيا ... فلا أبالي إذا جفاني )
( ومن رآني بعين نقص ... رأيته بالتي رآني )
( ومن رآني بعين تم ... رأيته كامل المعاني ) والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الرابع والخمسون في ذكر الهدايا والتحف وما أشبه ذلك
قال الله تعالى ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) فسرها بعضهم بالهدية وقال " تهادوا تحابوا فانها تجلب المحبة وتذهب الشحناء " وقال " الهدية مشتركة " وقال " من سألكم بالله فاعطوه ومن استعاذكم فأعيذوه ومن أهدى إليكم كراعا فاقبلوه " وكان يقبل الهدية ويثيب عليها ما هو خير منها وفي الأثر الهدية تجلب المودة إلى القلب والسمع والبصر ومن الأمثال إذا قدمت من سفر فأهد أهلك ولو حجرا
وقال الفضل بن سهل ما استرضى الغضبان ولا استعطف السلطان ولا سلبت السخائم ولا دفعت المغارم ولا استميل المحبوب ولا توقى المحذور بمثل الهدية وأتى فتح الموصلي بهدية وهي خمسون دينارا فقال حدثنا عطاء عن النبي أنه قال " من أتاه الله رزقا من غير مسألة ورده فكأنما رده على الله تعالى " وأهدى رسول الله هدية إلى عمر فردها فقال يا عمر لم رددت هديتي ؟ فقال رضي الله تعالى عنه إني سمعتك تقول خيركم من لم يقبل شيئا من الناس فقال يا عمر إنما ذاك ما كان عن ظهر مسألة فإما إذا أتاك من غير مسألة فإنما هو رزق ساقه الله إليك
وقالت أم حكيم الخزاعية سمعت رسول الله يقول " تهادوا فإنه يضاعف الحب ويذهب بغوائل الصدور "
ويقال في نشر المهاداة طي المعاداة

ذكر أنواع الهدايا للخلفاء وغيرهم ممن قصرت به قدرته فاهدى اليسير وكتب معه مكاتبة يعتذر بها أهدي إلى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام ثمانية أشياء متباينة في يوم واحد
فيلة من ملك الهند وجارية من ملك الترك وفرس من ملك العرب وجوهر من ملك الصين واستبرق من ملك الروم ودرة من ملك البحر وجرادة من ملك النمل وذرة من ملك البعوض
فتأمل ذلك وقال سبحان القادر على جمع الأضداد وأهدى ملك الروم إلى المأمون هدية فقال المأمون أهدوا له ما يكون ضعفها مائة مرة ليعلم عز الإسلام ونعمة الله تعالى علينا ففعلوا ذلك فلما عزموا على حملها قال ما أعز الأشياء عندهم ؟ قالوا المسك والسمور وقال وكم في الهدية من ذلك ؟ قالوا مائتا رطل مسكا ومائتا فروة سمور وأهدت قطر الندى إلى المعتضد بالله في يوم نيروز في سنة اثنتين وثمانين ومائتين هدية كان فيها عشرون صينية ذهب في عشرة منها مشام عنبر وزنها أربعة وثمانون رطلا وعشرون صينية فضة في عشرة منها مشام صندل زنتها نيف وثلاثون رطلا وخمس خلع وشى قيمتها خمسة آلاف دينار وعلمت شمامات ليوم النيروز بلغت النفقة عليها ثلاثة عشر ألف دينار
وأهدى يعقوب بن الليث الصفار إلى المعتمد على الله هدية في بعض السنين من جملتها عشرة بازات منها باز أبلق لم ير مثله ومائة مهر وعشرون صندوقا على عشر بغال فيهم طرائف الصين وغرائبه ومسجد فضة بدرابزين يصلي فيه خمسة عشر إنسانا ومائة رطل من مسك ومائة رطل عود هندي وأربعة آلاف ألف درهم وأهدت ثريا بنت الأوباري ملكة افرنجة وما والاها إلى المكتفي بالله في سنة ثلاث وسبعين ومائتين خمسين سيفا وخمسين رمحا وعشرين ثوبا منسوجا بالذهب وعشرين خادما صقلبيا وعشرين جارية صقلبية وعشرة كلاب كبار لا تطيقها السباع وستة بازات وسبع صقور

ومضرب حرير مثلون بجميع الألوان كلون قوس قزح يتلون في كل ساعة من ساعات النهار وثلاثة أطيار من الأطيار الافرنجية إذا نظرت إلى الطعام أو الشراب المسموم صاحت صياحا منكرا وصفقت بأجنحتها حتى يعلم ذلك وخرزا يجذب النصول بعد نبات اللحم عليها بغير وجع وحمارة وحشية عظيمة الخلقة في قدر البغل وآذانها شبه آذان البغل وهي مخططة تخطيطا عاما لجميع خلقتها
وأهدى قسطنطين ملك الروم إلى المستنصر بالله في سنة سبع وثلاثين وأربعمائة هدية عظيمة اشتملت قيمتها على ثلاثين قنطار من الذهب الأحمر كل قنطار منها عشرة آلاف دينار عربية قيمة ذلك ثلاثمائة ألف دينار عربية
وحكي أن الخيزران جارية المهدي كانت أديبة شاعرة فعزم المهدي على شرب دواء فأنفذت إليه جام بلور فيه شراب اختارته له مع وصيفة بكر بارعة الجمال وكتبت إليه تقول
( إذا خرج الإمام من الدواء ... وأعقب بالسلامة والشفاء )
( وأصلح حاله من بعد شرب ... بهذا الجام من هذا الطلاء )
( فينعم للتي قد أنفذته ... إليه بزورة بعد العشاء ) فسر بذلك ووقعت الجارية منه أعظم موقع وزار الخيزران وأقام عندها يومين وأهدى الصابي إلى عضد الدولة اسطرلابا في يوم المهرجان وكتب إليه يقول
( أهدى إليك بنو الأملاك واحتفلوا ... في مهرجان جديد أنت تبليه )
( لكن عبدك إبراهيم حين رأى ... سمو قدرك عن شيء يدانيه )
( لم يرض بالأرض يهديها إليك وقد ... أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه ) وأهدى رجل إلى المتوكل قارورة ذهب وكتب معها بأن الهدية إذا كانت من الصغير إلى الكبير فكلما لطفت ودقت كانت أبهى وأحسن وإذا كانت من الكبير إلى الصغير فكلما عظمت وجلت كانت أوقع وأنفع

مرة أبو الهذيل إلى موسى بن عمران دجاجة ووصفها له بصفات جليلة ثم لم يزل يذكرها وكلما ذكر شيء بجمال أو سمن قال هو أحسن أو أسمن من الدجاجة التي أهديتها إليكم وإن ذكر حادث قال ذلك قبل أن أهدي لكم الدجاجة بشهر وما كان بين ذلك وبين إهداء الدجاجة إلا أيام قلائل فصارت مثلا لمن يستعظم الهدية ويذكرها
قال الشاعر
( وإن امرأ أهدى إلي صنيعة ... وذكرنيها مرة للئيم ) وقال سفيان الثوري إذا أردت أن تتزوج فأهد للأم وكان سفيان يروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أهديت إليه هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها فأهدى إليه صديق له ثيابا من ثياب مصر وعنده قوم فذكروا الخبر فقال إنما ذلك فيما يؤكل ويشرب أما في ثياب مصر فلا وكتب الحمدوني إلى جارية اسمها برهان وقد حج مواليها فقال
( حجوا مواليك يا برهان واعتمروا ... وقد أتتك الهدايا من مواليك )
( فأطرفيني بما قد أطرفوك به ... ولا تكن طرفتي غير المساويك )
( ولست أقبل إلا ما جلوت به ... ثنيتيك وما رددت في فيك ) وكتب بعضهم إلى صديقه وقد أهدى إليه هدية يسيرة يقول
( تفضل بالقبول علي إني ... بعثت بما يقل العبد عندك ) وأهدى بعضهم إلى صديقه هدية في يوم نيروز وكتب إليه يقول هذا يوم جرت فيه العادة بألطاف العبيد للسادة وقدر الأمير يجل عما تحيط به المقدرة وفي سؤدده ما يوجب التفضل ببسط المعذرة وقد وجهت ما حضر علما بأنه لا يستكثر ما جل ولا يستقل لعبده ما قل فإن رأى أن يتطول بقبول القليل كتطوله باهداء الجزيل فعل وجعل يقول
( رأيت كثير ما يهدى إليكم ... قليلا فاقتصرت على الدعاء )

الحسن بن عمارة إن الأعمش يقع فيه ويقول ظالم ولي المظالم فأهدى إليه هدية فمدحه الأعمش بعد ذلك وقال الحمد لله الذي ولي علينا من يعرف حقوقنا فقيل له كنت تذمه ثم الآن تمدحه فقال حدثني خيثمه عن عبد الله أن رسول الله قال " جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها ) وقال عبد الملك ابن مروان ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها الكتاب يدل على عقل كاتبه والرسول يدل على عقل مرسله والهدية تدل على عقل مهديها
والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الخامس والخمسون في العمل والكسب والصناعات والحرف وما أشبه ذلك
أما العمل فقد روي عن النبي أنه قال " أفضل العمل أدومه وإن فل " وقال علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه قليل مدام عليه خير من كثير مملول وفي التوراة حرك يدك افتح لك باب الرزق
وكان إبراهيم بن أدهم يسقي ويرعى ويعمل بالكراء وبحفظ البساتين والمزارع ويحصد بالنهار ويصلي بالليل وعن علي رضي الله تعالى عنه قال جاء رجل إلى النبي فقال يا رسول الله ما ينفي عني حجة العلم ؟ قال العمل
وعنه أنه قال " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " وقال الأوزاعي إذا أراد الله بقوم سوء أعطاهم الجدل ومنعهم العمل وأنشد يقول
( وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ... ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل )

وقال بعض الحكماء لا شيء أحسن من عقل زانه حلم ومن عمل زانه علم ومن حلم زانه صدق ودخل بعض الخواص على إبراهيم بن صالح وهو أمير فلسطين فقال له عظني فقال له الولي بلغني رحمك الله أن الأعمال الأحياء تعرض على أقاربهم الموتى فانظر ماذا تعرض على رسول الله من عملك
فبكى إبراهيم حتى سالت دموعه وقيل من جد وجد وأنشدوا في المعنى
( إني رأيت وفي الأيام تجربة ... للصبر عاقبة محمودة الأثر )
( وقل من جد في أمر يحاوله ... واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر ) وتقول العرب فلان وثاب على الفرص وقال بعضهم
( وإني إذا باشرت أمرا أريده ... تدانت أقاصيه وهان أشده ) وعن أنس رضي الله تعالى عنه يتبع الميت ثلاث يرجع إثنان ويبقى واحد يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ولا يرجع عمله
وقال بعضهم العمل سعي الأركان إلى الله والنية سعي القلوب إلى الله والقلب ملك والأركان جنود ولا يحارب الملك إلا بالجنود ولا الجنود إلا بالملك وقيل الدنيا كلها ظلمات إلا موضع العلم والعلم كله هباء إلا موضع العمل والعمل كله هباء إلا موضع الاخلاص هذا هو العمل
وأما الكسب فقد جاء في تفسير قوله تعالى ( وعلمناه صنعة لبوس لكم ) أي دروع من الحديد وذلك أن داود عليه الصلاة و السلام كان يدور في الصحاري فإذا رأى من لا يعرفه تحدث معه في أمر داود فإذا سمعه عابه بشيء يصلحه من نفسه فسمع يوما من يقول إني لا أجد في داود عيبا إلا أنه يأكل من غير كسبه فعند ذلك صلى داود عليه الصلاة

في محرابه وتضرع بين يدي الله تعالى وسأله أن يعلمه ما يستعين به على قوته فعلمه الله تعالى صنعة الحديد وجعله في يده كالشمع فاحترفها واستعان بها على أمره وسار يحكم منها الدروع
وقال رسول الله ( جعل رزقي تحت ظل رمحي فكانت حرفته الجهاد ) وقال رسول الله " إن الله يحب العبد المحترف " وقال " إن الله تعالى يبغض العبد الصحيح الفارغ "
وقال عليه الصلاة والسالم " من اكتسب قوته ولم يسأل الناس لم يعذبه الله تعالى يوم القيامة " ولو تعلمون ما أعلم من المسألة لما سأل رجل رجلا شيئا وهو يجد قوت يومه وليس عند الله أحب من عبد يأكل من كسب يده إن اله تعالى يبغض كل فارغ من أعمال الدنيا والأخرة وعن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي " من بات كالا في طلب الحلال أصبح مغفورا له " وعن الحسن رحمه الله كسب الدرهم الحلال أشد من لقاء الزحف وقيل لمحمد بن مهران إن ههنا أقواما يقولون نجلس في بيوتنا وتأتينا أرزاقنا فقال هؤلاء قوم حمقى إن كان لهم مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن فليفعلوا وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة وقال أيضا إني لأرى الرجل فيعجبني فأقول أله حرفة فان قالوا لا سقط من عيني واشترى سليمان وسقا من طعام وهو ستون صاعا فقيل له في ذلك فقال إن النفس إذا أحرزت رزقها اطمأنت قال بعضهم في السعي
( خاطر بنفسك كي تصيب غنيمة ... إن الجلوس مع العيال قبيح ) وقيل إن أول من صنع لسان الميزان عبد الله بن عامر وكان الناس إنما يزنون بالشاهيني وعن أنس رضي الله عنه قال غلا السعر على عهد رسول الله فقالوا يا رسول الله سعر لنا فقال إن الله الخالق القابض المسعر الرازق وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس أحد يطلبني بمظلمة ظلمته بها في أهل ولا مال

وأما ما جاء في العجز والتواني فقد روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال من أطاع التواني ضيع الحقوق ومن العجز طلب ما فات مما لا يمكن استدراكه وترك ما أمكن مما تحمد عواقبه
قال الشاعر
( على المرء أن يسعى ويبذل جهده ... ويقضي إله الخلق ما كان قاضيا ) ومثله قوله
( على المرء أن يسعى ويبذل نفعه ... وليس عليه أن يساعده الدهر ) وقيل احذر مجالسة العاجز فانه من سكن إلى عاجز أعداه من عجزه وأمده من جزعه وعوده قلة الصبر ونساه ما في العواقب وليس للعجز ضد إلا الحزم
وقال بعض العلماء من الخذلان مسامرة الأماني ومن التوفيق بغض التواني وروي عن رسول الله أنه قال " باكروا في طلب الرزق والحوائج فان الغدو بركة ونجاح " وقال الامام الشافعي رضي الله تعالى عنه احرص على ما ينفعك ودع كلام الناس فانه لا سبيل إلى السلامة من ألسنة الناس وقال علي رضي الله تعالى عنه التواني مفتاح البؤس وبالعجز والكسل تولدت الفاقة ونتجت الهلكة ومن لم يطلب لم يجد وأفضى إلى الفساد وقال حكيم من دلائل العجز كثرة الاحالة على المقادير وقال بعض الحكماء الحركة بركة والتواني هلكة والكسل شؤم وكلب طائف خير من أسد رابض ومن لم يحترف لم يعتلف
وقيل من العجز والتواني تنتج الفاقة قال هلال بن العلاء الرفاء هذين البيتين من جملة أبيات
( كأن التواني أنكح العجز بنته ... وساق إليها حين زوجها مهرا )
( فراشا وطيئا ثم قال لها اتكي ... فإنكما لا بد أن تلدا الفقرا ) وقال آخر
( توكل على الرحمن في الأمر كله ... ولا ترغبن في العجز يوما عن الطلب )

( ألم تر أن الله قال لمريم ... وهزي إليك الجذع يساقط الرطب )
( ولو شاء أن تجنيه من غير هزه ... جنته ولكن كل رزق له سبب ) وسأل معاوية رضي الله عنه سعيد بن العاص عن المروءة فقال العفة والحرفة
وكان أيوب السختياني يقول يا فتيان احترفوا فإني لا آمن عليكم أن تحتاجوا إلى القوم يعني الأمراء وقال رجل للحسن إني أنشر مصحفي فاقرؤه بالنهار كله فقال اقرأه بالغداة والعشي ويكون يومك في صنعتك وما لا بد منه ومر رحمه الله تعالى باسكاف فقال يا هذا اعمل وكل فان الله يحب من يعمل ويأكل ولا يحب من يأكل ولا يعمل وقال أبو تمام
( أعاذلتي ما أحسن الليل مركبا ... وأحسن منه في الملمات راكبه )
( ذريني وأهوال الزمان أقاسها ... فأهواله العظمى تليها رغائبه )
( أرى عاجزا يدعى جليدا لقسمه ... ولو كلف المقوى لكلت مضاربه )
( وعفا يسمى عاجزا بعفافه ... ولولا التقى ما أعجزته مذاهبه )
( وليس بعجز المرء أخطأه الغنى ... ولا باحتيال أدرك المال كاسبه ) وقال آخر
( فلا تركن إلى كسل وعجز ... يحيل على المقادر والقضاء ) وقال اعرابي العاجز هو الشاب القليل الحيلة الملازم للأماني المستحيلة ويقال فلان يخدعه الشيطان عن الحزم فيمثل له التواني في صورة التوكل ويريه الهوينا باحالته على القدر وقال لقمان لابنه يا بني إياك والكسل والضجر فإنك إذا كسلت لم تؤد حقا وإذا ضجرت لم تصبر على حق وقال أبو العتاهية
( إذا وضع الراعي على الأرض صدره ... فحق على المعزى بأن تتبددا ) فالتواني هو الكسل وتضييع الحزم وعدم القيام على مصالح النفس

وترك التسبب والاحتراف والاحالة على المقادير وهذا من أقبح الأفعال
وأما التأني فانه خلاف التواني وهو الرفق ورفض العجلة والنظر في العواقب وقد قيل من نظر في عواقب الأمور سلم من آفات الدهور
ومما جاء في ذلك قوله تعالى ( ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ) وقال رسول الله " من أعطى حظه من الرفق أعطى حظه من الدنيا والآخرة " وقال عليه الصلاة و السلام لعائشة " عليك بالرفق فان الرفق لا يخالط شيئا إلا زانه ولا يفارق شيئا إلا شانه " وفي التوراة الرفق رأس الحكمة وقالوا العقل أصله التثبت وثمرته السلامة
ووجد على سيف مكتوبا التأني فيما لا يخاف الفوت أفضل من العجلة في إدراك الأمل وقال بعض الحكماء إذا شككت فاجزم وإذا استوضحت فاعزم وقالوا يد الرفق تجني ثمرة السلامة ويد العجلة تغرس شجرة الندامة وأنشدوا في ذلك
( قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل ) وقالوا التأني حصن السلامة والعجلة مفتاح الندامة وقالوا إذا لم يدرك الظفر بالرفق والتأني فبماذا يدرك ؟ وقال المهلب أتاة في عواقبها درك خير من عجلة في عواقبها فوت وقالوا من تأنى نال ما تمنى والرفق مفتاح النجاح وقال بعض الحكماء إياك والعجلة فانها تكنى أم الندامة لأن صاحبها يقول قبل أن يعلم ويجيب قبل أن يفهم ويعزم قبل أن يفكر ويحمد قبل أن يجرب وإن تصحب هذه الصفة أحد إلا صحب الندامة وجانب السلامة
وأما الصناعات والحرف وما يتعلق بها فقد روي عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال قال رسول الله " عمل الأبرار من الرجال الخياطة وعمل الأبرار من النساء الغزل "

وكان يخيط ثوبه ويخصف نعله ويحلب شاته ويعلف ناضحه وقال سعيد بن المسيب كان لقمان الحكيم خياطا وقيل كان إدريس عليه السلام خياطا ووقف علي بن أبي طالب كرم الله وجهه على خياط فقال له يا خياط ثكلتك الثواكل صلب الخيط ودقق الدروز وقارب الغروز فإني سمعت رسول الله يقول " يحشر الله الخياط الخائن وعليه قميص ورداء مما خاط وخان فيه واحذر السقاطات فان صاحب الثوب أحق بها ولا تتخذ بها الأيادي وتطلب المكافأة " وقال فيلسوف إن من القبيح أن يتولى امتحان الصناع من ليس بصانع وفي الحديث " أكذب أمتي الصواغون الصباغون وكذب الدلال مثل " وقالوا لكل أحد رأس مال ورأس مال الدلال الكذب وقال عبد الرحمن ابن شبل سمعت رسول الله يقول " التجار هم الفجار فقيل أليس الله تعالى قد أحل البيع ؟ قال نعم ولكن يحدثون فيكذبون ويحلفون فيحنثون " وقال الفضيل بخس الموازين سواد في الوجه يوم القيامة وإنما أهلكت القرون الأولى لأنهم أكلوا الربا وعطلوا الحدودونقصوا الكيل والميزان
وقال مجاهد في قوله تعالى ( واتبعك الأرذلون ) قيل هم الحاكة الاساكفة وقيل إن حائكا سأل إبراهيم الحربي ما تقول فيمن صلى العيد ولم يشتر ناطفا ما الذي يجب عليه " فتبسم إبراهيم ثم قال يتصدق بدرهمين فلما مضى قال ما علينا أن نفرح المساكين من مال هذا الأحمق وقيل لرجل هل فيكم حائك ؟ قال لا قيل فمن ينسج لكم ثيابكم ؟ قال كل منا ينسج لنفسه في بيته وكان أردشير ابن بابك لا يرتضي لمنادمته ذا صناعة ردئية كحائك وحجام ولو كان يعلم الغيب مثلا وقال كعب لا تستشيروا الحاكة فإن الله تعالى سلب عقولهم ونزع البركة من كسبهم لأن مريم عليها السلام مرت بجماعة

من الحياكين فسألتهم عن الطريق فدلوها على غير الطريق فقالت نزع الله البركة من كسبكم وقال أبو العتاهية
( ألا أنما التقوى هي العز والكرم ... وحبك للدنيا هو الذل والسقم )
( وليس على عبد تقي نقيصة ... إذا صحح التقوى وإن حاك او حجم ) وهذا ما أردناه سياقة في هذا الباب والله الموفق للصواب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب السادس والخمسون في شكوى الزمان وانقلابه بأهله والصبر على المكاره والتسلي عن نوائب الدهر وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في شكوى الزمان وانقلابه بأهله
روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال ما من يوم ولا ليلة ولا شهر ولا سنة إلا والذي قبله خير منه سمعت ذلك من نبيكم وكان معاوية رضي الله تعالى عنه يقول معروف زماننا منكر زمان قد مضى ومنكره معروف زمان لم يأت وكانت ناقة رسول الله العضباء لا تسبق فجاء اعرابي فسبقها فشق ذلك على الصحابة رضي الله عنهم فقال " إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من هذه الدنيا إلا وضعه " وحكي عن شيخ من همدان قال بعثني أهلي في الجاهلية إلى ذي الكلاع الحميري بهدايا فمكثت شهرا لا أصل إليه ثم بعد ذلك أشرف أشرافه من كوة فخر له من حول القصر سجدا ثم رأيته من بعد ذلك وقد هاجر إلى حمص واشترى بدرهم لحما وسمطه خلف دابته وهو القائل هذه الأبيات
( أف للدنيا إذا كانت كذا ... أنا منها في بلاء وأذى )
( إن صفا عيش امرئ في صحبها ... جرعته ممسيا كأس الردى )

( ولقد كنت إذا ما قيل من ... أنعم العالم عيشا قيل ذا ) وقال يونس بن ميسرة لا يأتي علينا زمان إلا بكينا منه ولا يتولى عنا زمان إلا بكينا عليه ومن قول ذلك
( رب يوم بكيت منه فلما ... صرت في غيره بكيت عليه ومثله
( وما مر يوم أرتجي فيه راحة ... فأخبره إلا بكيت على أمسي ) ومن كلام ابن الأعرابي
( عن الأيام عد فعن قليل ... ترى الأيام في صور الليالي ) وقال رضي الله عنه ما قال الناس لشيء طوبى إلا وقد خبأ له الدهر يوم سوء قال الشاعر
( فما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت أعهد ) ودخل داود عليه الصلاة و السلام غارا فوجد فيه رجلا ميتا وعند رأسه لوح مكتوب فيه أنا فلان ابن فلان الملك عشت ألف عام وبنيت ألف مدينة وافتضضت ألف بكر وهزمت ألف جيش ثم صار أمري إلى أن بعثت زنبيلا من الدراهم لي في رغيف فلم يوجد ثم بعثت زنبيلا من الجواهر فلم يوجد فدققت الجواهر واستفيتها فمت مكاني فمن أصبح وله رغيف وهو يحسب أن على وجه الأرض أغنى منه أماته الله كاماتني وذكر أن عبد الرحمن بن زياد لما ولي خراسان حاز من الأموال ما قدر لنفسه أنه إن عاش مائة سنة ينفق في كل يوم ألف درهم على نفسه أنه يكفيه فرؤي بعد مدة وقد احتاج إلى أن باع حلية مصحفه وأنفقها وقال هيثم بن خالد الطويل دخلت على صالح مولى منارة في يوم شات وهو جالس في قبة مغشاة بالسمور وجميع فروشها سمور وبين يديه كانون فضة يبخر فيه بالعود ثم رأيته بعد ذلك في رأس الجسر وهو يسأل الناس

ولما قتل عامر بن إسماعيل مروان بن محمد ونزل في داره وقعد على فرشه دخلت عليه عبدة بنت مروان فقالت يا عامر إن دهرا أنزل مروان عن فرشه وأقعدك عليه لقد أبلغ في عظتك وقال مالك بن دينار مررت بقصر تضرب فيه الجواري بالدفوف ويقلن
( إلا يا دار لا يدخلك حزن ... ولا يغدر بصاحبك الزمان )
( فنعم الدار تأوي كل ضيف ... إذا ما ضاق بالضيف المكان ) ثم مررت عليه بعد حين وهو خراب وبه عجوزا فسألتها عما كنت رأيت وسمعت فقالت يا عبد الله إن الله يغير ولا يتغير والموت غالب كل مخلوق قد والله دخل بها الحزن وذهب بأهلها الزمان وقال أبو العتاهية
( لئن كنت في الدنيا بصيرا فإنما ... بلاغك منها مثل زاد المسافر )
( إذا أبقت الدنيا على المرء دينه ... فما فاته منها فليس بضائر ) وقال عبد الملك بن عمير رأيت رأس الحسين رضي الله عنه بين يدي ابن زياد في قصر الكوفة ثم رأيت رأس زياد بين يدي المختار ثم رأيت رأس الختار بين يدي مصعب ثم رأيت رأس مصعب بين يدي عبد الملك قال سفيان فقلت له كم كان بين أول الرؤوس وآخرها ؟ قال اثنتا عشرة سنة
( إن للدهر صرعة فاحذرنها ... لا تبيتن قد أمنت الشرورا )
( قد يبيت الفتى معافى فيردى ... ولقد كان آمنا مسرورا ) وكان محمد بن عبد الله بن طاهر في قصره على الدجلة ينظر فاذا هو بحشيش في وسط الماء وفي وسطه قصبة على رأسها رقعة فدعا بها فإذا فيها مكتوب شعرا وهو للشافعي رضي الله تعالى عنه
( تاه الأعيرج واستعلى به البطر ... فقل له خير ما استعملته الحذر )
( أحسنن ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر )

( وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر ) قال فما انتفع بنفسه وأعجب ما وجد في السير خبر القاهر أحد الخلفاء وقلعه من الملك وخروجه إلى الجامع في بطانة جبة بغير ظهارة ومد يده يسأل الناس بعد أن كان ملكه لأقطار الأرض فتبارك الله يعز من يشاء ويذل من يشاء وقيل كان لمحمد المهلبي قبل اتصاله بالسلطان حال ضعيف فبينما هو في بعض أسفاره مع رفيق له من أصحاب الحرث والمحراث إلا أنه من أهل الأدب إذ أنشده يقول
( ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه )
( ألا رحم المهيمن نفس حر ... تصدق بالوفاة على أخيه ) قال فرثى له رفيقه وأحضر له بدرهم ما سد به رمقه وحفظ الأبيات وتفرقا ثم ترقى المهلبي إلى الوزارة وأخنى الدهر على ذلك الرجل الذي كان رفيقه فتوصل إلى إيصال رقعة إليه مكتوب فيها
( إلا قل للوزير فدته نفسي ... مقال مذكر ما قد نسيه )
( أتذكر إذ تقول لضنك عيش ... ألا موت يباع فأشتريه ) فلما قرأها نذكر فأمر له بسبعمائة درهم ووقع تحت رقعته ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) ثم قلده عملا يرتزق منه
ودخل مسلمة بن زيد بن وهب على عبد الملك بن مروان فقال له أي الزمان أدركته أفضل وأي الملوك أكمل ؟ فقال أما الملوك فلم أر إلا حامدا وذاما وما الزمان فيرفع أقواما ويضع آخرين وكلهم يذكر أنه يبلى جديدهم ويفرق عديدهم ويهرم صغيرهم ويهلك كبيرهم وقال حبيب بن أوس
( لم أبك من زمن لم أرض خلته ... إلا بكيت عليه حين ينصرم )

وقال آخر
( يا معرضا عني بوجه مدبر ... ووجوه دنياه عليه مقبلة )
( هل بعد حالك هذه من حالة ... أو غاية إلا انحطاط المنزلة ) وقال عبد الله بن عروة بن الزبير
( ذهب الذين إذا رأوني مقبلا ... بشوا إلي ورحبوا بالمقبل )
( وبقيث في خلف كأن حديثهم ... ولغ الكلاب تهارشت في المنزل ) وقال آخر في معناه
( يا منزلا عبث الزمان بأهله ... فأبادهم بتفرق لا يجمع )
( أين الذين عهدتهم بك مرة ... كان الزمان بهم يضر وينفع )
( أيام لا يغشى لذكرك مربع ... إلا وفيه للمكارم مرتع )
( ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقي الذين حياتهم لا تنفع ) وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي
( وإني رأيت الدهر منذ صحبته ... محاسنه مقرونة ومعايبه )
( إذا سرني في أول الأمر لم أزل ... على حذر من أن تذم عواقبه ) وقال بعضهم
( ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل أمر منكر )
( وبقيت في خلف يزين بعضه ... بعضا ليدفع معور عن معور )
( حلف الزمان ليأتين بمثلهم ... حنثت يمينك يا زمان فكفر )

يقال إذا أدبر الأمر أتى الشر من حيث يأتي الخير وكان يقال بتقلب الدهر تعرف جواهر الرجال ويقال زمام العافية بيد البلاء ورأس السلامة تحت جناح العطب وقال بعضهم نحن في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارا والشر إلا إقبالا والشيطان في هلاك الناس إلا طمعا اضرب بطرفك حيث شئت هل تنظر إلا فقيرا يكابد فقرا أو غنيا بدل نعمة الله كفرا أو بخيلا اتخذ بحق الله وفرا أو متمردا كان بسمعه عن سماع المواعظ وقرا وقال آخر نحن فلي زمان إذا ذكرنا الموتى حييت القلوب وإذا ذكرنا الأحياء ماتت القلوب ويؤيد ذلك قوله " لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر أخيه فيقول يا ليتني مكانه " ويقال لا يقاوم عز الولاية بذل العزل بيت
( ما من مسيئ وإن طالت إساءته ... إلا ويكفيك يوم من مساويه ) وقال الأمين
( يا نفس قد حق الحذر ... أين المفر من القدر )
( كل امرئ مما يخاف ... ويرتجيه على خطر )
( من يرتشف صفو الزمان ... يغص يوما بالكدر ) وقال بعضهم
( وقائلة ما بال وجهك قد نضت ... محاسنه والجسم بان شحوبه )
( فقلت لها هاتي من الناس واحدا ... صفا وقته والنائبات تنوبه ) وللأمير أبي علي بن منقذ
( أما والذي لا يملك الأمر غيره ... ومن هو بالسر المكتم أعلم )
( لئن كان كتمان المصائب مؤلما ... لإعلانها عندي أشد وأعظم )
( وبي كل ما يبكي العيون أقله ... وإن كنت منه دائما أبتسم )

وقال علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه وأيم الله ما كان قوم قط في خفض عيش فزال عنهم إلا بذنوب اقترفوها لأن الله تعالى ليس بظلام للعبيد ولو أن الناس حين ينزل بهم الفقر ويزول عنهم الغنى فزعوا إل ربهم بصدق نياتهم لرد عليهم كل شارد وأصلح لهم كل فاسد قال الشاعر
( يقولون الزمان به فساد ... وهم فسدوا وما فسد الزمان ) وكفى بالقرآن واعظا قال الله تعالى ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) والله سبحانه وتعالى أعلم
الفصل الثاني في الصبر على المكاره ومدح التثبت وذم الجزع
قد مدح الله تعالى الصبر في كتابه العزيز في مواضع كثيرة وأمر به وجعل أكثر الخيرات مضافا إلى الصبر وأثنى على فاعله وأخبر أنه سبحانه وتعالى معه وحث على التثبت في الأشياء ومجانبة الاستعجال فيها فمن ذلك قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة وإن الله مع الصابرين فبدأ بالصبر قبل الصلاة ثم جعل نفسه مع الصابرين دون المصلين قوله تعالى ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) ( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا ) وقوله تعالى ( وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ) وبالجملة فقد ذكر الله سبحانه وتعالى الصبر في كتابه العزيز في نيف وسبعين موضعا وأمر نبيه به فقال تعالى ( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم ) وقد روي عن النبي في ذلك أخبار كثيرة فمن ذلك قوله

في الصبر " وقوله عليه الصلاة و السلام " بالصبر يتوقع الفرج " وقوله " الأناة من الله تعالى والعجلة من الشيطان فمن هداه الله تعالى بنور توفيقه ألهمه الصبر في مواطن طلباته والتثبت في حركاته وسكناته وكثيرا ما أدرك الصابر مرامه أو كاد وفات المستعجل غرضه أو كاد " وقال الأشعث بن قيس دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فوجدته قد أثر فيه صبره على العبادة الشديدة ليلا ونهارا فقلت يا أمير المؤمنين إلى كم تصبر على مكابدة هذه الشدة ؟ فما زادني إلا أن قال
( اصبر على مضض الإدلاج في السحر ... وفي الروح إلى الطاعات في البكر )
( إني رأيت وفي الأيام تجربة ... للصبر عاقبة محمودة الأثر )
( وقل من جد في أمر يؤمله ... واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر ) فحفظتها منه وألزمت نفسي الصبر في الأمور فوجدت بركة ذلك وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي أنه قال " ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا حط الله بها من خطاياه " وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله " إذا أراد الله بعبد الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة " وقال " إن أعظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط " رواه الترمذي وقال حديث حسن وعن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن أنس بن مالك قال قال النبي " الضرب على الفخذ عند المصيبة يحبط الأجر والصبر عند الصدمة الأولى وعظم الأجر على قدر المصيبة ومن استرجع بعد مصيبته جدد الله له أجرها كيوم أصيب بها "

وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال احفظوا عني خمسا اثنتين واثنتين وواحدة لا يخافن أحدكم إلا ذنبه ولا يرجو إلا ربه ولا يستحي أحد منكم إذا سئل عن شيء وهو لا يعلم أن يقول لا أعلم وأعلموا أن الصبر من الأمور بمنزلة الرأس من الجسد إذا فارق الرأس الجسد فسد الجسد وإذا فارق الصبر الأمور فسدت الأمور وأيما رجل حبسه السلطان ظلما فمات في حبسه مات شهيدا فان ضربه فمات فهو شهيد
وروي في الخبر لما نزل قوله تعالى ( من يعمل سوء يجز به ) قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه يا رسول الله كيف الفرح بعد هذه الآية ؟ فقال رسول الله غفر الله لك يا أبا بكر أليس تمرض أليس يصيبك الأذى أليس تحزن قال بلى يا رسول الله قال فهذا ما تجزون به يعني جميع ما يصيبك من سوء يكون كفارة لك وبهذا اتضح لك أن العبد لا يدرك منزلة الأخيار إلا بالصبر على الشدة والبلاء
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال بينما رسول الله يصلي عند الكعبة وأبو جهل وأصحابه جلوس وقد نحرت جزور بالأمس فقال أبو جهل لعنه الله أيكم يقوم إلى سلا الجزور فيلقيه على كتفي محمد إذا سجد فانبعث أشقى القوم فأخذه وأتى به فلما سجد وضع بين كتفيه السلا والفرث والدم فضحكوا ساعة وأنا قائم أنظر فقلت لو كان لي منعة لطرحته عن ظهر رسول الله والنبي ساجد ما يرفع رأسه حتى انطلق انسان فأخبر فاطمة رضي الله عنها فجاءت فطرحته عن ظهره ثم أقبلت عليهم فسبتهم فلما قضى الصلاة رفع يديه فدعا عليهم فقال اللهم عليك بقريش ثلاث مرات فلما سمع القوم صوته ودعاءه ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته فقال اللهم عليك بأبي جهل وعتبة وشيبة وربيعة

والوليد وأمية بن خلف فقال علي رضي الله عنه والذي بعث محمدا بالحق رأيت الذين سماهم صرعى يوم بدر وكان الصالحون يفرحون بالشدة لأجل غفران الذنوب لأن فيها كفارة السيئات ورفع الدرجات وروي عن رسول الله أنه قال " ثلاث من رزقهن فقد رزق خيري الدنيا والآخرة الرضا بالقضاء والصبر على البلاء والدعاء في الرخاء
وحكي أن امرأة من بني إسرائيل لم يكن لها إلا دجاجة فسرقها سارق فصبرت وردت أمرها إلى الله ولم تدع عليه فلما ذبحها السارق ونتف ريشها نبت جميعه في وجهه فسعى في إزالته فلم يقدر على ذلك إلى أن أتى حبرا من أحبار بني إسرائيل فشكا له فقال لا أجد لك دواء إلا أن تدعو عليك هذه المرأة فأرسل إليها من قال لها أين دجاجتك ؟ فقالت سرقت فقال لقد آذاك من سرقها قالت قد فعل ولم تدع عليه قال وقد فجعك في بيضها قالت هو كذلك فما زال بها حتى أثار الغضب منها فدعت عليه فتساقط الريش من وجهه فقيل لذلك الحبر من أين علمت ذلك ؟ قال لأنها لما صبرت ولم تدع عليه انتصر الله لها فلما انتصرت لنفسها ودعت عليه سقط الريش من وجهه فالواجب على العبد أن يصبر على ما يصيبه من الشدة ويحمد الله ويعلم أن النصر مع الصبر وأن مع العسر يسرا وأن المصائب والرزايا إذا توالت أعقبها الفرج والفرح عاجلا
ومن أحسن ما قيل في ذلك من المنظوم
( وإذا مسك الزمان بضر ... عظمت دونه الخطوب وجلت )
( وأتت بعده نوائب أخرى ... سئمت نفسك الحياة وملت )
( فاصطبر وانتظر بلوغ الأماني ... فالرزايا إذا توالت تولت )
( وإذا أوهنت قواك وجلت ... كشفت عنك جملة وتخلت ) ولمحمد بن بشر الخارجي
( إن الأمور إذا اشتدت مسالكها ... فالصبر يفتح منها كل ما ارتجا )

( لا تيأسن وإن طالت مطالبه ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا ) ولزهير بن أبي سلمى
( ثلاث يعز الصبر عند حلولها ... ويذهل عنها عقل كل لبيب )
( خروج اضطرار من بلاد يحبها ... وفرقة أخوان وفقد حبيب ) وقال بعضهم
( عليك باظهار التجلد للعدا ... ولا تظهرن منك الذبول فتحقرا )
( أما تنظر الريحان يشمم ناضرا ... ويطرح في البيدا إذا ما تغيرا ) ولابن نباتة
( صبرا على نوب الزمان ... وإن أبي القلب الجريح )
( فلكل شيء آخر ... إما جميل أو قبيح ) وقال أبو الأسود وأجاد
( وإن امرء قد جرب الدهر لم يخف ... تقلب عصريه لغير لبيب )
( وما الدهر والأيام إلا كما ترى ... رزية مال أو فراق حبيب ) ومن كلام الحكماء ما جوهد الهوى بمثل الرأي ولا استنبط الرأي بمثل المشورة ولا حفظت النعم بمثل المواساة ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر وما استنجحت الأمور بمثل الصبر وقال نهشل
( ويوم كأن المصطلين بحره ... وإن لم يكن نار قيام على الجمر )
( صبرنا له صبرا جميلا وإنما ... تفرج أبواب الكريهة بالصبر ) قال ابن طاهر
( حذرتني وذا الحذر ... ليس يغني من القدر )
( ليس من يكتم الهوى ... مثل من باح واشتهر )

( إنما يعرف الهوى ... من على مره صبر )
( نفس يا نفس فاصبري ... فز بالصبر من صبر ) وكان يقال من تبصر تصبر وكان يقال إن نوائب الدهر لا تدفع إلا بعزائم الصبر وكان يقال لا دواء لداء الدهر إلا بالصبر ولله در القائل
( الدهر أدبني والصبر رباني ... والفوت أقنعني واليأس أغناني )
( وحنكتني من الأيام تجربة ... حتى نهيت الذي قد كان ينهاني ) وما أحسن ما قال محمود الوراق
( إني رأيت الصبر خير معول ... في النائبات لمن أراد معولا )
( ورأيت أسباب القناعة أكدت ... بعرى الغنى فجعلتها لي معقلا )
( فاذا نبا بي منزل جاوزته ... وجعلت منه غيره لي منزلا )
( وإذا غلا شيء علي تركته ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا ) وقال بعضهم
( إذا ما أتاك الدهر يوما بنكبة ... فافرغ لها صبرا ووسع لها صدرا )
( فان تصاريف الزمان عجيبة ... فيوما ترى يسرا ويوما ترى عسرا ) وقال بعضهم
( وما مستني عسر ففوضت أمره ... إلى الملك الجبار إلا تيسرا ) وما أحسن ما قيل
( الدهر لا يبقى على حالة ... لا بد أن يقبل أو يدبر )
( فان تلقاك بمكروهه ... فاصبر فان الدهر لا يصبر ) ونقل عن محمد بن الحسن رحمه الله قال كنت معتقلا بالكوفة فخرجت يوما من السجن مع بعض الرجال وقد زاد همي وكادت نفسي

أن تزهق وضاقت علي الأرض بما رحبت وإذا برجل عليه آثار العبادة قد أقبل علي ورأى ما أنا فيه من الكآبة فقال ما حالك ؟ فأخبرته القصة فقال الصبر الصبر فقد روي عن النبي أنه قال " الصبر ستر الكروب وعون على الخطوب " وروي عن ابن عمه علي رضي الله تعالى عنه أنه قال الصبر مطية لا تدبر وسيف لا يكل وأنا أقول
( ما أحسن الصبر في الدنيا وأجمله ... عند الإله وأنجاه من الجزع )
( من شد بالصبر كفا عند مؤلمه ... ألوت يداه بحبل غير منقطع ) فقلت بالله عليك زدني فقد وجدت بك راحة فقال ما يحضرني شيء عن النبي ولكني أقول
( أما والذي لا يعلم الغيب غيره ... ومن ليس في كل الأمور له كفو )
( لئن كان بدء الصبر مرا مذاقه ... لقد يجتني من بعده الثمر الحلو ) ثم ذهب فسألت عنه فما وجدت أحدا يعرفه ولا رآه أحد قبل ذلك في الكوفة ثم أخرجت في ذلك اليوم من السجن وقد حصل لي سرور عظيم بما سمعت منه وانتفعت به ووقع في نفسي أنه من الأبدال الصالحين قيضه الله تعالى لي يوقظني ويؤبني ويسليني وقيل إن رجلا كان يضرب بالسياط ويجلد جلدا بليغا ولم يتكلم ويصبر ولم يتأوه فوقف عليه بعض مشايخ الطريقة فقال له أما يؤلمك هذا الضرب الشديد ؟ فقال بلى قال لم لا تصيح ؟ فقال إن في هذا القوم الذين وقفوا علي صديقا لي يعتقد في الشجاعة والجلادة وهو يرقبني بعينه فأخشى إن ضجيت يذهب ماء وجهي عنده ويسوء ظنه بي فأنا أصبر على شدة الضرب وأحتمله لأجل ذلك قال الشاعر
( على قدر فضل المرء تأتي خطوبه ... ويحمد منه الصبر مما يصيبه )
( فمن قل فيما يلتقيه اصطباره ... لقد قل فيما يرتجيه نصيبه ) وقال رسول الله لعائشة رضي الله تعالى عنها يا عائشة إن الله تعالى لم يرض من أولى العزم من الرسل إلا بالصبر ولم يكلفني إلا ما كلفوا

به فقال عز و جل ( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ) وإني والله لأصبرن كما صبروا فان النبي لما صبر كما أمر أسفر وجه صبره عن ظفره ونصره وكذلك الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين الذين هم أولو العزم لما صبروا ظفروا وانتصروا وقد اختلف أهل العلم فيهم على أقوال كثيرة فقال مقاتل رضي الله تعالى عنه هم نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويونس وأيوب صلوات الله عليهم وقال قتادة هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام ويقال ما الذي صبروا عليه حتى سماهم الله تعالى أولي العزم فأقول ذكر ما صبروا عليه
أما نوح عليه الصلاة و السلام
فقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان نوح عليه الصلاة و السلام يضرب ثم يلف في لبد ويلقى في بيته يرون أنه قد مات ثم يعود ويخرج إلى قومه ويدعوهم إلى الله تعالى ولما أيس منهم ومن إيمانهم جاءه رجل كبير يتوكأ على عصاه ومعه ابنه فقال لابنه يا بني انظر إلى هذا الشيخ واعرفه ولا يغرك فقال له ابنه يا أبت مكني من العصا فأخذها من أبيه وضرب بها نوحا عليه الصلاة و السلام شج بها رأسه وسال الدم على وجهه فقال رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فان يكن لك فيهم حاجة فاهدهم وإلا فصبرني إلى أن تحكم فأوحى الله تعالى إليه ( إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا نبتئس بما كانوا يفعلون واصنع الفلك ) قال يارب وما الفلك ؟ قال بيت من خشب يجري على وجه الماء أنجي فيه أهل طاعتي وأغرق أهل معصيتي قال يارب وأين الماء ؟ قال أنا على كل شيء قدير قال يارب وأني الخشب ؟ قال اغرس الخشب فغرس الساج عشرين سنة وكف عن دعائهم وكفوا عن ضربه إلا أنهم كانوا

به فلما أدرك الشجر أمره ربه فقطعها وجففها وقال يا رب كيف اتخذ هذا البيت ؟ قال اجعله على ثلاث صور وبعث الله له جبريل فعلمه وأوحي الله تعالى اليه أن عجل بعمل السفينة فقد اشتد غضبي على من عصاني فلما فرغت السفينة جاء أمر الله سبحانه وتعالى بانتصار نوح ونجاته وإهلاك قومه وعذابهم إلا من آمن معه وفار التنور وظهر الماء على وجه الأرض وقذفت السماء بأمطار كأفواه القرب حتى عطم الماء وصارت أمواجه كالجبال وعلا فوق أعلى جبل في الأرض أربعين ذراعا وانتقم الله سبحانه وتعالى من الكافرين ونصر نبيه نوحا عليه الصلاة و السلام وفي تمام قصته وحديث السفينة كلام مبسوط لأهل التفسير ليس هذا موضع شرحه وبسطه فهذا زبدة صبر نوح عليه الصلاة و السلام وانتصاره على قومه
وأما ابراهيم عليه الصلاة و السلام
فإنه لما كسر أصنام قومه التي كانوا يعبدونها لم يروا في قتله ونصرة آلهتهم أبلغ من إحراقه فأخذوه وحبسوه ببيت ثم بنوا حائزا كالحوش طول جداره ستون ذراعا في سفح جبل عال ونادى مناد ملكهم أن احتطبوا لإحراق إبراهيم زمن تخلف عن الاحتطاب أحرقه فلم يتخلف منهم أحد وفعلوا ذلك أربعين يوما ليلا ونهارا حتى كاد الحطب يساوي رؤوس الجبال وسدوا أبواب ذلك الحائز وقذفوا فيه النار فارتفع لهبها حتى كان الطائر يمر بها فيحترق من شدة لهبها ثم بنوا بنيانا شامخا وبنوا فوقه منجنيقا ثم رفعوا ابراهيم على رأس البنيان فرفع ابراهيم عليه الصلاة و السلام طرفه الى السماء ودعا الله تعالى وقال ( حسبي الله ونعم الوكيل ) وقيل كان عمره يومئذ ستة وعشرين سنة فنزل اليه جبريل عليه الصلاة و السلام وقال يا إبراهيم ألك حاجة ؟ قال أما إليك فلا فقال جبريل سل ربك فقال حسبي من سؤالي علمه بحالي فقال الله تعالى ( يا نار كوني بردا وسلاما على ابراهيم )

فلما قذفوه فيها نزل معه جبريل عليه الصلاة و السلام فجلس به على الأرض وأخرج الله له ماء عذبا قال كعب ما أحرقت النار غير أكتافه وأقام في ذلك الموضع سبعة أيام وقيل أكثر من ذلك ونجاه الله تعالى ثم أهلك نمرود وقومه باخس الأشياء وانتقم منهم وظفر إبراهيم عليه الصلاة و السلام بهم فهذه ثمرة صبره على مثل هذه الحالة العظمى ولم يجزع منها وصبر وفوض أمره إلى الله تعالى في ذلك وتوكل عليه ووثق به ثم جاءته قصة ذبح ولده وأمره الله تعالى بذلك فقابل أمره بالتسليم والامتثال وسارع إلى ذبحه من غير إهمال ولا إمهال وقصته مشهورة وتفاصيل القصة في كتب التفسير مسطورة ظهر صدقه ورضاه ومبادرته الى طاعة مولاه وصبره على ما قدره وقضاه عوضه الله تعالى عن ذبح ولده أن فداء واتخذه خليلا من بين خلقه واجتباه وأما الذبيح صلوات الله وسلامه عليه فإنه صبر على بلية الذبح
وتلخيصها أن الله تعالى لما ابتلى إبراهيم عليه الصلاة و السلام بذبح ولده قال إني أريد أن أقرب قربانا " فأخذ ولده والسكين والحبل وانطلق فلما دخل بين الجبال قال ابنه أين قربانك يا أبت ؟ قال إن الله تعالى قد أمرني بذبحك فانظر ماذا ترى ( قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) يا أبت أشدد وثاقي كي لا أضطرب وأجمع ثيابك حتى لا يصل اليها رشاش الدم فتراه أمي فيشتد حزنها وأسرع إمرار السكين على حلقي ليكون أهون للموت علي وإذ لقيت أمي فاقرأ السلام عليها فأقبل إبراهيم عليه الصلاة و السلام على ولده يقبله ويبكي ويقول نعم العون أنت يا بني على ما أمر الله تعالى قال مجاهد لما أمر السكين على حلقه انقلبت السكين فقال يا أبت اطعن بها طعنا وقال السدي جعل الله حلقة كصحيفة من نحاس لا تعمل فيها السكين شيئا فلما ظهر فيهما صدق التسليم نودي أن يا إبراهيم هذا فداء ابنك فأتاه جبريل عليه السلام بكبش أملح

فأخذه وأطلق ولده وذبح الكبش فلا جرم أن جعل الذبيح نبيا بصبره وامتثاله لأمره
وأما يعقوب عليه الصلاة و السلام فإنه لما ابتلي بفراق ولده وذهاب بصره واشتداد حزنه قال فصبر جميل وكذلك يوسف صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لما ابتلاه الله تعالى بالقائه فى ظلمة الجب وبيعه كما تباع العبيد وفراقه لأبيه وإدخاله السجن وحبسه فيه بضع سنين وأنه تلقى ذلك كله بصبره وقبوله فلا جرم أورثهما صبرهما جمع شملهما واتساع القدرة بالملك في الدنيا مع ملك النبوة في الآخرة
وأما أيوب عليه الصلاة و السلام فإنه ابتلاه الله تعالى بهلاك أهله وماله وتتابع المرض المزمن والسقم المهلك حتى أفضى أمره إلى ما تضعف القوى البشرية من حمله ولنذكر شيئا مختصرا من ذلك وهو أن ملكا من ملوك بني إسرائيل كان يظلم الناس فنهاه جماعة من الأنبياء عن الظلم وسكت عنه أيوب عليه الصلاة و السلام فلم يكلمه ولم ينهه لأجل خيل كانت له في مملكته فأوحى الله تعالى إلى أيوب عليه الصلاة و السلام تركت نهيه عن الظلم لأجل خيلك لأطيلن بلاءك فقال إبليس لعنه الله يارب سلطني على أولاده وماله فسلطه فبث إبليس مردته من الشياطين فبعث بعضهم إلى دوابه ورعاتها فاحتملوها جميعا وقذفوها في البحر وبعث بعضهم إلى زرعه وجناته فأحرقوها وبعث بعضهم إلى منازله وفيها أولاده وكانوا ثلاثة عشر ولدا وخدمه وأهله فزلزلوها فهلكوا ثم جاء إبليس إلى أيوب عليه الصلاة و السلام وهو يصلي فتمثل له في صورة رجل من غلمانه فقال يا أيوب أنت تصلي ودوابك ورعاتك قد هبت عليها ريح عظيمة وقذفت الجميع في البحر وأحرقت زرعك وهدمت منازلك على أولادك وأهلك فهلك الجميع ما هذه الصلاة ؟ فالتفت إليه وقال الحمد لله الذي أعطاني ذلك كله ثم قبله مني ثم قام إلى صلاته فرجع إبليس

ثانيا فقال يارب سلطني على جسده فسلطه فنفخ في إبهام رجله فانتفخ ولا زال يسقط لحمه من شدة البلاء إلى أن بقي أمعاؤه تبين وهو مع ذلك كله صابر محتسب مفوض أمره إلى الله تعالى وكان الناس قد هجروه واستقذروه وألقوه خارجا عن البيوت من نتن ريحه وكنت زوجته رحمة بنت يوسف الصديق قد سلمت فترددت إليه متفقدة فجاءها إبليس يوما في صورة شيخ ومعه سخلة وقال لها ليذبح أيوب هذه السخلة على إسمي فيبرأ فجاءته فأخبرته فقال لها إن شفاني الله تعالى لأجلدنك مائة جلدة تأمريني أن أذبح لغير الله تعالى فطردها عنه فذهبت وبقي ليس له من يقوم به فلما رأى أنه لا طعام له ولا شراب ولا أحد من الناس يتفقده خر ساجدا لله تعالى وقال ( وأيوب إذ نادى ربه إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ) فلما علم الله تعالى منه ثباته على هذه البلوى طول هذه المدة وهي على ما قيل ثمان عشرة سنة وقيل غير ذلك وإنه تلقى جميع ذلك بالقبول وما شكا إلى مخلوق ما نزل به عاد الله تعالى بألطافه عليه فقال تعالى ( فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا ) وأفاض عليه من نعمه ما أنساه بلوى نقمه ومنحه من أقسام كرمه أن أفتاه في يمينه تحلة قسمه ومدحه في نص الكتاب فقال تعالى ( وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب ) فلو لم يكن الصبر من أعلى المراتب وأمنى المواهب لما أمر الله تعالى به رسله ذوي الحزم وسماهم بسبب صبرهم أولى العزم وفتح لهم بصبرهم أبواب مرادهم وسؤالهم ومنحهم من لدنه غاية أمرهم ومأمولهم ومرامهم فما أسعد من اهتدى بهداهم واقتدى بهم وإن قصر عن مداهم وقيل العسر يعقبه اليسر والشدة يعقبها الرخاء والتعب يعقبه الراحة والضيق

يعقبه السعة والصبر يعقبه الفرج وعند تناهي الشدة تنزل الرحمة والموفق من رزقه صبرا وأجرا والشقي من ساق القدر إليه جزعا ووزرا
ومما شنف السمع من نجح هذه الإشارة وأتحف النفع في نهج هذه العبارة ما روي عن الحسن البصري رضي الله تعالى عنه قال كنت بواسط فرأيت رجلا كأنه قد نبش من قبر فقلت ما دهاك يا هذا ؟ فقال أكتم على أمري حبسني الحجاج منذ ثلاث سنين فكنت في أضيق حال وأسوأ عيش وأقبح مكان وأنا مع ذلك كله صابر لا أتكلم فلما كان بالأمس أخرجت جماعة كانوا معي فضربت رقابهم وتحدث بعض أعوان السجن أن غدا تضرب عنقي فأخذني حزن شديد وبكاء مفرط وأجرى الله تعالى على لساني فقلت إلهي اشتد الضر وفقد الصبر وأنت المستعان ثم ذهب من الليل أكثره فأخذتني غشية وأنا بين اليقظان والنائم إذا آتاني آت فقال لي قم فصل ركعتين وقل يا من لا يشغله شيء عن شيء يا من أحاط علمه بما ذرأ وبرأ وأنت عالم بخفيات الأمور ومحصي وساوس الصدور وأنت بالمنزل الأعلى وعلمك محيط بالمنزل الأدنى تعاليت علوا كبيرا يا مغيث أغثني وفك أسري واكشف ضري فقد نفذ صبري فقمت وتوضأت في الحال وصليت ركعتين وتلوت ما سمعته منه ولم تختلف علي منه كلمة واحدة فما تم القول حتى سقط القيد من رجلي ونظرت إلى أبواب السجن فرأيتها قد فتحت فقمت فخرجت ولم يعارضني أحد فأنا والله طليق الرحمن وأعقبني الله بصبري فرجا وجعل لي من ذلك الضيق مخرجا ثم ودعني وانصرف يقصد الحجاز
وفيما يروى عن الله تعالى أنه أوحى إلى داود عليه الصلاة و السلام يا داود من صبر علينا وصل إلينا وقال بعض الرواة دخلت مدينة يقال لها دقار فبينما أنا أطوف في خرابها إذا رأيت مكتوبا بباب قصر خرب بماء الذهب واللازورد هذه الأبيات

( يا من ألح عليه الهم والفكر ... وغيرت حاله الأيام والغير )
( أما سمعت لما قد قيل في مثل ... عند الاياس فأين الله والقدر )
( ثم الخطوب إذا أحداثها طرقت ... فاصبر فقد فاز أقوام بما صبروا )
( وكل ضيق سيأتي بعده سعة ... وكل فوت وشيك بعده الظفر ) ولما حبس أبو أيوب في السجن خمس عشرة سنة ضاقت حيلته وقل صبره فكتب إلى بعض إخوانه يشكو إليه طول حبسه وقلة صبره فرد عليه جواب رقعته يقول
( صبرا أبا يوب صبر مبرح ... وإذا عجزت عن الخطوب فمن لها )
( إن الذي عقد الذي انعقدت به ... عقد المكاره فيك يملك حلها )
( صبرا فإن الصبر يعقب راحة ... ولعلها أن تنجلي ولعلها ) فأجابه أبو أيوب يقول
( صبرتني ووعظتني وأنا لها ... وستنجلي بل لا أقول لعلها )
( ويحلها من كان صاحب عقدها ... كرما به إذ كان يملك حلها ) فما لبث بعد ذلك أياما حتى أطلق مكرما وأنشدوا
إذا ابتليت فثق بالله وارض به ... إن الذي يكشف البلوى هو الله )
( اليأس يقطع أحيانا بصاحبه ... لا تيأسن فإن الصانع الله )
( إذا قضى الله فاستسلم لقدرته ... فما ترى حيلة فيما قضى الله )
الفصل الثالث من هذا الباب في التأسي في الشدة والتسلي عن نوائب الدهر
قال الثوري رحمه الله تعالى لم يفقه عندنا من لم يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة وقيل الهموم التي تعرض للقلوب كفارات للذنوب

حكيم رجلا يقول لآخر لا أراك الله مكروها فقال كأنك دعوت عليه بالموت فإن صاحب الدنيا لا بد أن يرى مكروها وتقول العرب ويل أهون من ويلين وقال ابن عيينة الدنيا كلها غموم فما كان فيها من سرور فهو ربح وقال العتبي إذا تناهى الغم إنقطع الدمع بدليل أنك لا ترى مضروبا بالسياط ولا مقدما لضرب العنق يبكي
وقيل تزوج مغن بنائحة فسمعها تقول اللهم أوسع لنا في الرزق فقال لها يا هذه إنما الدنيا فرح وحزن وقد أخذنا بطرفي ذلك فإن كان فرح دعوني وإن كان حزن دعوك وقال وهب بن منبه إذا سلك بك طريق البلاء سلك بك طريق الأنبياء وقال مطرف ما نزل بي مكروه قط فاستعظمته إلا ذكرت ذنوبي فاستصغرته وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه يرفعه " يود أهل العافية يوم القيامة أن لحومهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب الله تعالى لأهل البلاء " وروى أبو عتبة عن النبي قال " إذا أحب الله عبدا ابتلاه فإذا أحبه الحب البالغ اقتناه قالوا وما اقتناه ؟ قال لا يترك له مالا ولا ولدا " ومر موسى عليه الصلاة و السلام برجل كان يعرفه مطيعا لله عز و جل قد مزقت السباع لحمه وأضلاعه وكبده ملقاة على الأرض فوقف متعجبا فقال أي رب عبدك ابتليته بما أرى فأوحى الله تعالى إليه أنه سألني درجة لم يبلغها بعمله فأحببت أن أبتليه لأبلغه تلك الدرجة
وكان عروة بن الزبير صبورا حين ابتلي حكي أنه خرج إلى الوليد ابن يزيد فوطئ عظما فما بلغ إلى دمشق حتى بلغ به كل مذهب فجمع له الوليد الاطباء فأجمع رأيهم على قطع رجله فقالوا له اشرب مرقدا فقال ما أحب أن أغفل عن ذكر الله تعالى فأحمى له المنشار وقطعت رجله فقال ضعوها بين يدي ولم يتوجع ثم قال لئن كنت ابتليت في عضو فقد عوفيت في أعضاء فبينما هو كذلك إذ أتاه خبر ولده أنه أطلع من سطح على دواب الوليد فسقط بينها فمات فقال الحمد لله على كل حال لئن أخذت واحدا لقد أبقيت جماعة
وقدم على الوليد وفد من عبس فيهم شيخ ضرير فسأله عن حاله وسبب

ذهاب بصره فقال خرجت مع رفقة مسافرين ومعي مالي وعيالي ولا أعلم عبسيا يزيد ماله على مالي فعرسنا في بطن واد فطرقنا سيل فذهب ما كان لي من أهل ومال وولد غير صبي صغير وبعير فشرد البعير فوضعت الصغير على الأرض ومضيت لآخذ البعير فسمعت صيحة الصغير فرجعت إليه فإذا رأس الذئب في بطنه وهو يأكل فيه فرجعت إلى البعير فحكم وجهي برجليه فذهبت عيناي فأصبحت بلا عينين ولا ولد ولا مال ولا أهل فقال الوليد إذهبوا إلى عروة ليعلم أن في الدنيا من هو أعظم مصيبة منه وقيل الحوادث الممضة مكسبة لحظوظ جليلة أما ثواب مدخر أو تطهير من ذنب أو تنبيه من غفلة أو تعريف لقدر النعمة
قال البحتري يسلي محمد بن يوسف على حبسه
( وما هذه الأيام إلا منازل ... فمن منزل رحب إلى منزل ضنك )
( وقد دهمتك الحادثات وإنما ... صفا الذهب إلا بريز قبلك بالسبك )
( أما في نبي الله يوسف اسوة ... لمثلك محبوس عن الظلم والإفك )
( أقام جميل الصبر في السجن برهة ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك ) وقال علي بن الجهم لما حبسه المتوكل
( قالوا حبست فقلت ليس بضائري ... حبسي وأي مهند لا يغمد )
( والشمس لولا أنها محجوبة ... عن ناظريك لما أضاء الفرقد )
( والنار في أحجارها مخبوءة ... لا تصطلى إن لم تثرها الأزند )
( والحبس ما لم تغشه لدنية ... شنعاء نعم المنزل المتودد )
( بيت يجدد للكريم كرامة ... ويزار فيه ولا يزور ويحمد )
( لو لم يكن في الحبس إلا أنه ... لا تستذلك بالحجاب الأعبد )
( غر الليالي باديات عود ... والمال عارية يعار وينفد )
( ولكل حي معقب ولربما ... أجلى لك المكروه عما يحمد )
( لا يؤيسنك من تفرج نكبة ... خطب رماك به الزمان الأنكد )

( كم من عليل ق تخطاه الردى ... فنجا ومات طبيبه والعود )
( صبرا فان اليوم يعقبه غد ... ويد الخلافة لا تطاولها يد ) قال وأنشد اسحاق الموصلي في إبراهيم بن المهدي حين حبس
( هي المقادير تجري في أعنتها ... فاصبر فليس لها صبر على حال )
( يوما تريك خسيس الأصل ترفعه ... إلى العلاء ويوما تخفض العالي ) فما أمسى حتى وردت عليه الخلع السنية من المأمون رضي الله عنه وقال إبراهيم بن عيسى الكاتب في إبراهيم بن المدني حين عزل
( ليهن أبا إسحاق أسباب نعمة ... مجددة بالعزل والعزل أنبل )
( شهدت لقد منوا عليك وأحسنوا ... لأنك يوم العزل أعلى وأفضل ) وقال آخر
( قد زاد ملك سليمان فعاوده ... والشمس تنحط في المجرى وترتفع ) وقال أبو بكر الخوارزمي لمعزول الحمد لله الذي ابتلي في الصغير وهو المال وعافى في الكبير وهو الحال
( ولا عار إن زالت عن الحر نعمه ... ولكن عارا أن يزول التجمل ) وقيل المال حظ ينقص ثم يزيد وظل ينحسر ثم يعود وسئل بزرجمهر عن حاله في نكبته فقال عولت على أربعة أشياء أولها أني قلت القضاء والقدر لا بد من جريانهما الثاني أني قلت أن لم أصبر فما أصنع الثالث أني قلت قد كان يجوز أن يكون أعظم من هذا الرابع أني قلت لعل الفرج قريب والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب السابع والخمسون ما جاء في اليسر بعد العسر والفرج بعد الشدة والفرح والسرور ونحو ذلك مما يتعلق بهذا الباب
فمما يليق بهذا الباب من كتاب الله عز و جل قوله تعالى ( سيجعل الله بعد عسر يسرا ) وقوله تعالى ( وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد ) وقوله تعالى ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ) ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال لو كان العسر في حجر لدخل عليه اليسر حتى يخرجه وقال عليه الصلاة و السلام " عند تناهي الشدة يكون الفرج وعند تضايق البلاء يكون الرخاء " وقال علي رضي الله عنه عن النبي " أفضل عبادة أمتي انتظارها فرج الله تعالى " وقال الحسن لما نزل قوله تعالى ( فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ) قال النبي " أبشروا فلن يغلب عسر يسرين " ومن كلام الحكماء إن تيقنت لم يبق هم وقال أبو حاتم
( إذا اشتملت على البؤس القلوب ... وضاق بما به الصدر الرحيب )
( وأوطنت المكاره واطمأنت ... وأرست في مكامنه الخطوب )

( ولم نر لانكشاف الضر وجها ... ولا أغنى بحيلته الأريب )
( أتاك على قنوط منك غوث ... يمن به اللطيف المستجيب ) وقال آخر
( عسى الهم الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب )
( فيأمن خائف ويغاث عان ... ويأتي أهله النائي الغريب ) وقال آخر
( تصبر أيها العبد اللبيب ... لعلك بعد صبرك ما تخيب )
( وكل الحادثات إذا تناهت ... يكون وراءها فرج قريب ) وقال إبراهيم بن العباس
( ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعا وعند الله منها المخرج )
( ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكان يظنها لا تفرج ) وقال آخر
( لئن صدع البين المشتت شملنا ... فللبين حكم في الجموع صدوع )
( وللنجم من بعد الرجوع استقامة ... وللشمس من بعد الغروب طلوع )
( وإن نعمة زالت عن الحر وانقضت ... فإن بها بعد الزوال رجوع )
( فكن واثقا بالله واصبر لحكمه ... فان زوال الشر عنك سريع )
ولنذكر نبذة ممن حصل له الفرج بعد الشدة روي أن الوليد بن عبد الملك كتب إلى صالح بن عبد الله عامله على المدينة المنورة أن اخرج الحسن بن الحسن بن علي من السجن وكان محبوسا واضربه في مسجد رسول الله خمسمائة سوط فأخرجه إلى

المسجد واجتمع الناس وصعد صالح يقرأ عليهم الكتاب ثم نزل يأمر بضربه فبينما هو يقرأ الكتاب إذ جاء علي ين الحسين عليه السلام فأفرج له الناس حتى أتى الى جنب الحسن فقال يا ابن العم مالك ادع الله تعالى بدعاء الكرب يفرج الله عنك قال ما هو يا ابن العم ؟ فقال لا إله إلا الحليم الكريم لا إله إلا الله العلي العظيم سبحان رب السموات ورب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين ثم أنصرف عنه وأقبل الحسن يكررهما فلما فرغ صالح من قراءة الكتاب ونزل قال أراه في سجنه مظلوما أخرجوه وأنا أراجع أمير المؤمنين في أمره فأطلق بعد أيام وأتاه الفرج من عند الله تعالي وقال الربيع لما حبس المهدي موسى ابن جعفر رأى في المنام عليا رضي الله تعالى عنه وهو يقول يا محمد فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم قال الربيع فأرسل المهدي الى ليلا فراغني ذلك فجئته فإذا هو يقرأ هذه الآية وكان حسن الصوت فقص علي الرؤيا ثم قال ائتني بموسى ين جعفر فجئته يه فعانقه وأجلسه الى جانبه وقال يا أبا الحسن رأيت أمير المؤمنين يقرأ علي كذا فعاهدني أن لا تخرج علي ولا على أحد من ولدي فقال والله ما ذاك من شأني فقال صدقت ثم قال يا ربيع أعطه ثلاثة آلاف دينار ورده إلى أهله بالمدينة قال الربيع فأحكمت أمره ليلا فما أصبح إلا على الطريق وقال إسماعيل بن بشار
( وكل حر وإن طالت بليته ... يوما تفرج غماه وتنكشف ) وقال مسلم بن الوليد كنت يوما جالسا عند خياط بازاء منزلي فمر بي انسان أعرفه فقمت اليه وسلمت عليه وجئت به الى منزلي لاضيفه وليس معي درهم بل كان عندي زوج أخفاف فارسلتها مع جاريتي لبعض معارفها فباعهما بتسعة دراهم واشترت بها ما قلته لها من الخبز واللحم فجلسنا نأكل وإذا بالباب يطرق فنظرت من شق الباب وإذا بانسان يسأل هذا منزل فلان ؟ ففتحت الباب وخرجت فقال أنت مسلم بن الوليد قلت نعم واستشهدت له بالخياط على ذلك فاخرج لي كتابا وقال هذا من الأمير

يزيد ين مزيد فإذا فيه قد بعثنا لك بعشرة آلاف درهم لتكون في منزلك وثلاثة آلاف درهم تتجمل بها لقدومك علينا فأدخلته الى دراي وزدت في الطعام واشتريت فاكهة وجلسنا فأكلنا ثم وهبت لضيفي شيئا يشتري به هدية لأهله وتوجهنا الى باب يزيد بالرقة فوجدناه في الحمام فلما خرج إستؤذن لي عليه فدخلت فإذا هو جالس على كرسي وبيده مشط يسرح به لحيته فسلمت عليه فرد أحسن رد وقال ما الذي أقعدك عنا ؟ قلت قلة ذات اليد وأنشدته قصيدة مدحته بها قال أتدري لم أحضرتك ؟ قلت لا أدري قال كنت عند الرشيد منذ ليال أحادثه فقال لي يا يزيد من القائل فيك هذه الأبيات
( سل الخليفة سيفا من بني مضر ... يمضي فيخترق الاجسام والهاما )
( كالدهر لا ينثني عما يهم به ... قد أوسع الناس إنعاما وارغاما ) فقلت والله لا أدري يا أمير المؤمنين فقال سبحان الله أيقال فيك مثل هذا ولا تدري من قاله ؟ فسألت فقيل لي هو مسلم بن الوليد فأرسلت اليك فانهض بنا الى الرشيد فسرنا اليه واستؤذن لنا فدخلنا عليه فقبلت الأرض وسلمت فرد على السلام فأنشدته ما لي فيه من شعر فأمر لي بمائتي ألف درهم وأمر لي يزيد بمائة وتسعين ألف درهم و قال ما ينبغي لي أن اساوي أمير المؤمنين في العطاء فانظر الى هذا التيسير الجسيم بعد العسر العظيم وما أحسن ما قيل
( الامن والخوف أيام مداولة ... بين الانام وبعد الضيق تتسع ) ولما وجه سليمان بن عبد المملك محمد بن يزيد الى العراق ليطلق أهل السجون ويقسم الأموال ضيق على يزيد ين أبي مسلم فلما ولي يزيد ابن عبد الملك الخلافة ولي يزيد بن أبي مسلم أفريقية وكان محمد ين يزيد واليا عليها فاستخفى محمد بن يزيد فطلبه يزيد بن أبي مسلم وشدد في طلبه فأتى به اليه في شهر رمضان عند المغرب وكان في يد يزيد ين أبي مسلم عنقود عنب فقال لمحمد بن يزيد حين رآه يا محمد ين يزيد قال

قال طالما سألت الله أن يمكنني منك فقال وأنا والله طالما سألت الله أن يجيرني منك فقال والله ما أجارك ولا أعادك وان سبقني ملك الموت الى قبض روحك سبقته والله لا آكل هذه الحبة العنب حتى أقتلك ثم أمر به فكتف ووضع في النطع وقام السياف فأقيمت الصلاة فوضع العنقود من يده وتقدم ليصلي وكان أهل أفريقية قد أجمعوا على قتله فلما رفع رأسه ضربه رجل بعمود على رأسه فقتله وقيل لمحمد بن يزيد اذهب حيث شئت فسبحان من قتل الأمير وفك الأسير قال اسحق بن إبراهيم الموصلي رأيت رسول الله في النوم وهو يقول أطلق القاتل فارتعت لذلك ودعوت بالشموع ونظرت في أوراق السجن وإذا ورقة إنسان ادعى عليه بالقتل وأقربه فأمرت بإحضاره فلما رأيته وقد ارتاع فقلت له أن صدقتني أطلقتك فحدثني انه كان هو وجماعة من أصحابه يرتكبون كل عظيمة وأن عجوزا جاءت لهم بامرأة صارت عندهم صاحت الله الله وغشي عليها فلما أفاقت قالت أنشدك الله في أمري فان هذه العجوزة غرتني وقالت ان في هذه الدار نساء صالحات وأنا شريفة جدي رسول الله وأمي فاطمة وأبي الحسين بن علي فاحفظوهم في فقمت دونها وناضلت عنها فاشتد علي واحد من الجماعة وقال لا بدمنها وقاتلني فقتلته وخلصت الجارية من يده فقالت سترك الله كما سترتني وسمع الجيران الصيحة فدخلوا علينا فوجدوا الرجل مقتولا والسكين بيدي فامسكوني وأتوا بي إليك وهذا أمري فقال اسحق قد وهبتك لله ولرسوله فقال وحق اللذين وهبتني لهما لا أعود إلى معصية أبدا وأمر الحجاج بإحضار رجل من السجن فلما حضر أمر بضرب عنقه فقال أيها الأمير أخرني الى غد قال وأي فرج لك في تأخير يوم واحد ؟ ثم أمر برده إلى السجن فسمعه الحجاج في السجن يقول
( عسى فرج يأتي به الله إنه ... له كل يوم في خليقته أمر )

فقال الحجاج والله ما أخذه إلا من كتاب الله وهو قوله تعالى ( كل يوم هو في شأن ) وامر باطلاقه وقال بعض جلساء المعتمد كنا بين يديه ليلة فخفق رأسه بالنعاس فقال لا تبرحوا حتى أغفي سويعة فغفا ساعة ثم أفاق جزعا مرعوبا وقال امضوا الى السجن وائتوني بمنصور الجمال فجاؤا به فقال له كم لك في السجن ؟ قال سنة ونصف قال على ماذا ؟ قال أنا جمال من أهل الموصل وضاق علي الكسب ببلدي فأخذت جملي وتوجهت الى بلد غير بلدي لأعمل عليه فوجدت جماعة من الجند قد ظفروا بقوم غير مستقيمي الحال وهو مقدار عشرة أنفس وجدوهم يقطعون الطريق فدفع واحد منهم شيئا للأعوان فأطلقوه وأمسكوني عوضه وأخذوا جملي فناشدتهم الله فأبوا وسجنت أنا والقوم فأطلق بعضهم ومات بعضهم وبقيت أنا فدفع له المعتمد خمسمائة دينار وأجرى له ثلاثين دينارا في كل شهر وقال اجعلوه على جمالنا ثم قال أتدرون ما سبب فعلي هذا ؟ قلنا لا قال رأيت رسول الله وهو يقوم أطلق منصورا الجمال من السجن وأحسن اليه وأخذ الطاعون أهل بيت فسد بابه ففضل فيه طفل يرضع لم يشعر به أحد ففتح الباب بعد شهر فوجدوا الطفل قد عطف الله عليه كلبة ترضعه مع جرو لها فسبحان القادر على كل شئ لا إله غيره ولا معبود سواه قال الشاعر
( إذا تضايق أمر فانتظر فرجا ... فاضيق الأمر أدناه إلى الفرج ) ( وقال آخر )
( فلا تجزعن ان أظلم الدهر مرة ... فإن إعتكار الليل يؤذن بالفجر ) ( وقال آخر )
( لعمرك ما كل التعاطيل ضائرا ... ولا كل شغل فيه للمرء منفعه )

( إذا كانت الأرزاق في القرب والنوى ... عليك سواء فاغتنم لذة الدعه )
( فان ضقت فاصبر يفرج الله ما ترى ... ألا رب ضيق في عواقبه سعه ) وقال الرياشي ما اعتراني هم فأنشدت قول أبي العتاهية حيث قال
( هي الأيام والغير ... وأمر الله ينتظر )
( أتيأس أن ترى فرجا ... فأين الله والقدر )
( إلا سرى عني وهبت ريح الفرج ... )
ويروى أن سلطان صقلية أرق ذات ليلة ومنع النوم فأرسل إلى قاعد البحر وقال له انفذ الآن مركبا إلى أفريقية يأتوني بأخبارها فعمد القائد إلى مقدم مركب وأرسله فلما أصبحوا إذا بالمركب في موضعه كأنه لم يبرح فقال الملك لقائد البحر أليس قد فعلت ما أمرتك به ؟ قال نعم قد امتثلت أمرك وأنفذت مركبا فرجع بعد ساعة وسيحدثك مقدم المركب فأمر بإحضاره فجاء ومعه رجل فقال له الملك ما منعك أن تذهب حيث أمرت ؟ قال ذهبت بالمركب فبينما أنا في جوف الليل والرجال يجدفون أذا بصوت يقول يا الله يا الله يا غياث المستغيثين يكررها مرارا فلما استقر صوته في أسماعنا ناديناه مرارا لبيك لبيك وهو ينادي يا الله يا الله يا غياث المستغيثين فجدفنا بالمركب نوح الصوت فلقينا هذا الرجل غريقا في آخر رمق من الحياة فطلعنا به المركب وسألناه عن حاله فقال كنا مقلعين من أفريقية فغرقت سفينتنا منذ أيام وأشرفت على الموت وما زلت أصيح حتى أتاني الغوث من ناحيتكم فسبحان من أسهر سلطانا وأرقه في قصره لغريق في البحر حتى استخرجه من تلك الظلمات الثلاث ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الوحدة فسبحانه لا إله غيره ولا معبود سواه
وحكي سيدي أبو بكر الطرطوشي في كتابه سراج الملوك قال أخبرني أبو الوليد الباجي عن أبي ذر قال كنت أقرأ على الشيخ أبي حفص عمر بن أحمد بن شاهين ببغداد جزأ من الحديث في حانوت رجل عطار فبينما أنا جالس معه في الحانوت إذ جاء رجل من الطوافين ممن

يبيع العطر في طبق يحمله على يده فدفع إليه عشرة دراهم وقال له اعطني بها أشياء سماها له من العطر فأعطاه اياها فأخذها في طبقه وأراد أن يمضي فسقط الطبق من يده فانكب جميع ما فيه فبكى الطواف وجزع حتى رحمناه فقال أبو حفص لصاحب الحانوت لعلك تعينه على بعض هذه الأشياء فقال سمعا وطاعة فنزل وجمع له ما قدر على جمعه منها ودفع له ما عدم منها وأقبل الشيخ على الطواف يصبره ويقول له لا تجزع فأمر الدنيا أيسر من ذلك فقال الطواف أيها الشيخ ليس جزعي لضياع ما ضاع لقد علم الله تعالى أني كنت في القافلة الفلانية فضاع لي هميان فيه أربعة آلاف دينار ومعها فصوص قيمتها كذلك فما جزعت لضياعها حيث كان لي غيرها من المال ولكن ولد لي ولد في هذه الليلة فاحتجنا لامة ما تحتاج النفساء ولم يكن عندي غير هذه العشرة دراهم فخشيت أن أشتري بها حاجة النفساء فأبقى بلا رأس مال وأنا قد صرت شيخا كبيرا لا أقدر على التكسب فقلت في نفسي أشتري بها شيئا من العطر فأطوف به صدر النهار فعسى أستفضل شيئا أسد به رمق أهلي ويبقى رأس المال أتكسب به واشتريت هذا العطر فحين انكب الطبق علمت أنه لم يبق لي الا الفرار منهم فهذا الذي أوجب جزعي
قال أبو حفص وكان رجل الجند جالسا إلى جانبي يستوعب الحديث فقال للشيخ أبي حفص يا سيدي أريد أن تأتي بهذا الرجل إلى منزلي فظننا أن يعطيه شيئا قال فدخلنا إلى منزله فأقبل على الطواف وقال له عجبت من جزعك فأعاد عليه القصة فقال له الجندي وكنت في تلك القافلة ؟ قال نعم وكان فيها فلان وفلان فعلم الجندي صحة قوله فقال وما علامة الهميان وفي أي موضع سقط منك ؟ فوصف له المكان والعلامة قال الجندي إذا رأيته تعرفه قال نعم فأخرج الجندي له هميانا ووضعه بين يديه فحين رآه صاح وقال هذا همياني والله وعلامة صحة قولي أن فيه من الفصوص ما هو كيت وكيت ففتح الهميان فوجده كما ذكر فقال الجندي خذ مالك بارك الله لك فيه فقال الطواف إن هذه الفصوص قيمتها مثل الدنانير وأكثر فخذها وأنت في حل منها ونفسي طيبة بذلك فقال الجندي ما كنت

لآخذ على أمانتي مالا وبي أن يأخذ شيئا ثم دفعها للطواف جميعها فأخذها ومضى ودخل الطواف وهو من الفقراء وخرج وهو من الأغنياء اللهم أغن فقرنا ويسر أمرنا برحمتك يا أرحم الراحمين
وحكي أن الملك ناصر الدولة من آل حمدان كان يشكو وجع القولنج حتى أعيا الأطباء دواؤه لم يجدوا له شفاء فدسوا على قتله وأرصدوا له رجلا ومعه خنجر فلما كان في بعض دهاليز القصر وثب عليه ذلك الرجل وضربه بالخنجر فجاءت الضربة أسفل خاصرته فلم تخط المعي الذي فيه القولنج فخرج ما فيه من الخلط فعافاه الله تعالى وبرئ أحسن ما كان وبضد هذا ما حكاه أبو بكر الطرطوشي قال حدثنا القاضي أبو مروان الداراني بطرطوشة قال نزلت قافلة بقرية خربة من أعمال دانية فأووا إلى دار خربة هناك فاستكنوا فيها من الرياح والأمطار واستوقدوا نارهم وسووا معيشتهم وكان في تلك الخربة حائط مائل قد أشرف على الوقوع فقال رجل منهم يا هؤلاء لا تقعدوا تحت هذا الحائط ولا يدخلن أحد في هذه البقعة فأبوا إلا دخولها فاعتزلهم ذلك الرجل وبات خارجا عنهم ولم يقرب ذلك المكان فأصبحوا في عافية وحملوا على دوابهم فبينما هم كذلك إذ دخل ذلك الرجل إلى الدار لييقضي حاجته فخر عليه الحائط فمات لوقته
قال وأخبرني أبو القاسم بن حبيش بالموصل قال لقد جرت في هذه الدار وأشار إلى دار هناك قضية عجيبة قلت وما هي ؟ قال كان يسكن هذه الدار رجل من التجار ممن يسافر إلى الكوفة في تجارة الخز فاتفق أنه جعل جميع ما معه من الخز في خرج وحمله على حماره وسار مع القافلة فلما نزلت القافلة أراد انزال الخرج عن الحمار فثقل عليه فأمر انسانا هناك فأعانه على انزاله ثم جلس يأكل فاستدعى ذلك الرجل ليأكل معه فسأله عن أمره فأخبره أنه من أهل الكوفة وأنه خرج لحاجة عرضت له بغير نفقة ولا زاد فقال له الرجل كن رفيقي آنس بك وتعينني على سفري ونفقتك ومؤنتك علي فقال له الرجل وأنا أيضا أختار صحبتك وأرغب في مرافقتك فسار معه في سفره وخدمه أحسن خدمة إلى أن وصلا إلى تكريت فنزل الرفقة خارج المدينة ودخل

الناس إلى قضاء حوائجهم فقال التاجر لذلك الرجل احفظ حوائجنا حتى أدخل المدينة وأشتري ما نحتاج إليه ثم دخل المدينة وقضى جميع حوائجه ورجع فلم يجد القافلة ولا صاحبه ورحلت الرفقة ولم ير أحدا فظن أنه لما رحلت الرفقة رحل ذلك الخادم معهم فلم يزل يسير ويجد في السير في المشي إلى أن أدرك القافلة بعد جهد عظيم وتعب شديد فسألهم عن صاحبه فقالوا ما رأيناه ولا جاء معنا ولكنه ارتحل على أثرك فظننا أنك أمرته فكر الرجل راجعا إلى تكريت وسأل عن الرجل فلم يجد له أثرا ولا سمع له خبرا فيئس منه ورجع إلى الموصل مسلوب المال فوصلها نهارا فقيرا جائعا عريانا مجهودا فاستحى أن يدخلها نهارا فتشمت به الأعداء نعوذ بالله من شماتتهم وخشى أن يحزن الصديق إذا رآه على تلك الحالة فاستخفى إلى الليل ثم عاد إلى داره فطرق الباب فقيل له من هذا قال فلان يعني نفسه فأظهروا له سرورا عظيما وحاجة إليه وقالوا الحمد لله الذي جاء بك في هذا الوقت على ما نحن فيه من الضرورة والحاجة فانك أخذت مالك معك وما تركت لنا نفقة كافية واطلت سفرك واحتجنا وقد وضعت زوجتك اليوم والله ما وجدنا ما نشتري به شيئا للنفساء فأتنا بدقيق ودهن نسرج به علينا فلا سراج عندنا فلما سمع ذلك ازداد غما على غمه وكره أن يخبرهم بحاله فيحزنهم بذلك فأخذ وعاء للدهن ووعاء للدقيق وخرج إلى حانوت أمام داره وكان فيه رجل يبيع الدقيق والزيت والعسل ونحو ذلك وكان البياع أطفأ سراجه وأغلق حانوته ونام فناداه فعرفه فأجابه وشكر الله على سلامته فقال له افتح حانوتك وأعطنا ما نحتاج إليه من دقيق وعسل ودهن فنزل البياع إلى حانوته وأوقد المصباح ووقف يزن له ما طلب فبينما هو كذلك إذ حانت من التاجر التفاتة إلى قعر الحانوت فرأى خرجه الذي هرب به صاحبه فلم يملك نفسه أن وثب إليه والتزمه وقال يا عدو الله ائتني بمالي فقال له البياع ما هذا يا فلان ؟ والله ما علمتك متعديا وأنا أبدا ما جنيت عليك ولا على غيرك فما هذا الكلام قال هذا خرجي هرب به خادم كان يخدمني وأخذ حماري وجميع مالي فقال البياع والله ما لي علم غير أن رجلا ورد علي بعد العشاء واشترى مني عشاءه وأعطاني هذا

الخرج فجعلته في حانوتي وديعة إلى حين يصبح والحمار في دار جارنا والرجل في المسجد نائم قال له أحمل معي الخرج وامض بنا إلى الرجل فرفع الخرج على عاتقه ومضى معه إلى المسجد فإذا الرجل نائمن في المسجد فوكزه برجله فقام الرجل مرعوبا فقال مالك قال أين مالي يا خائن ؟ قال ها هو في خرجك فوالله ما أخذت منه ذرة قال فأين الحمار وآلته قال هو عند هذا الرجل الذي معك فعفا عنه وخلى سبيله ومضى بخرجه إلى داره فوجد متاعه سالما فوسع على أهله وأخبرهم بقصته فازداد سرورهم وفرحهم وتبركوا بذلك المولود فسبحان من لا يخيب من قصده ولا ينسى من ذكره
( ولنلحق بهذا الباب ذكر شيء مما جاء في التهنئة والبشائر )
كتب بعضهم إلى أخيه وقد أتاه خبرا استبشر به سمعت عنك خبرا سارا كتب في الألواح وامتزج بالأرواح وعد في جملة البشائر العظام وجرى في العروق وتمشي في العظام وكان خالد بن عبد الله القسري أخا هشام بن عبد الملك من الرضاع وكان يقول له اني لأرى فيك آثار الخلافة ولا تموت حتى تليها فقال له ان أنا وليتها فلك العراق فلما ولى أتاه فقام بين الصفين وقال يا أمير المؤمنين أعزل الله بعزته وأيدك بملائكته وبارك لك فيما ولاك ورعاك فيما استرعاك وجعل ولايتك على أهل الاسلام نعمة وعلى أهل الشرك نقمة لقد كانت الولاية إليك أشوق منك إليها وأنت لها أزين منها لك وما مثلها ومثلك إلا كما قال الأحوص هذه الأبيات
( وإن الدر زاد حسن وجوه ... كان للدر حسن وجهك زينا )
( وتزيدن أطيب الطيب طيبا ... إن تمسسه أين مثلك أينا ) ودخل على المهدي اعرابي فقال له فيم جئت ؟ قال أتيتك برسالة قال هاتها قال أتاني آت في منامي فقال ائت أمير المؤمنين فأبلغه هذه الأبيات
( لكم ارث الخلافة من قريش ... تزف إليكمو أبدا عروسا )

( إلى هرون تهدى بعد موسى ... تميس وما لها أن لا تميسا ) فقال المهدي يا غلام علي بالجواهر فحشا فاه حتى كاد ينشق ثم قال اكتبوا هذه الأبيات واجعلوها في بخانق صبياننا
قال إبراهيم الموصلي في تهنئة الرشيد بالخلافة
( ألم تر أن الشمس كانت مريضة ... فلما أتى هرون أشرق نورها )
( تلبست الدنيا جمالا بملكه ... فهرون واليها ويحيى وزيرها ) وغناه بهما من وراء الحجاب فوصله بمائة ألف دينار ويحيى بخمسين ألفا ودخل عطاء بن أبي صيفي على يزيد بن معاوية وهو أول من جمع بين التهنئة والتعزية فقال رزئت خليفة الله وأعطيت خلافة الله قضى معاوية نحبه فغفر الله ذنبه ووليت الرئاسة وكنت أحق بالسياسة فاحتسب عند الله أعظم الرزية واشكر الله على أعظم العطية ومر عمر ابن هبيرة بعد إطلاقه من السجن بالرقة فاذا امرأة من بني سليم على سطح لها تحادث جارة لها ليلا وهي تقول لا والذي أسأله أن يخلص عمر بن هبيرة مما هو فيه ما كان كذا فرمى إليها بصرة فيها مائة دينار وقال قد خلص الله عمر بن هبيرة فطيبي نفسا وقري عينا والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الثامن والخمسون في ذكر العبيد والاماء والخدم وفيه فصلان
الفصل الأول في مدح العبيد والاماء والاستيصاء بهم خيرا
عن علي رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله " أول من يدخل الجنة شهيد وعبد أحسن عبادة ربه ونصح لسيده وعن ابن عمر رضي الله عنه تعالى عنهما ( رفعه ) إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة ربه فله أجره مرتين " وكان زيد بن حارثة خادما لخديجة رضي الله تعالى عنها اشترى لها بسوق عكاظ فوهبته لرسول الله فجاءه أبوه يريد شراءه منه فقال رسول الله إن رضي بذلك فعلت فسئل زيد فقال ذل الرق مع صحابة رسول الله أحب إلى من عز الحرية مع مفارقته فقال رسول الله إذا اختارانا اخترناه فأعتقه وزوجه أم أيمن وبعدها زينب بنت جحش ون علي رضي الله تعالى عنه قال كان آخر كلام رسول الله " أوصيكم بالصلاة واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم " وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي كلكم عبيد الله وكل نسائكم أماء الله ولكن ليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي وعن ابن مسعود الأنصاري قال ضربت غلاما لي فسمعت من خلفي صوتا " اعلم يا أبا مسعود إن الله أقدر عليك منك عليه " فالتفت فإذا هو النبي فقلت يا رسول الله هو حر لوجه الله تعالى فقال أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار
وروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال جاء رجل إلى

رسول الله فقال يا رسول الله كم تعفو عن الخادم ؟ ثم أعاد عليه فصمت فلما كانت الثالثة قال له أعفو عنه كل يوم سبعين مرة وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال حدثني أبو القاسم نبي التوبة " من قذف مملوكه وهو برئ مما قال جلد له يوم القيامة حدا " وقيل أراد رجل بيع جاريته فبكت فقال لها مالك ؟ فقالت لو ملكت منك ما ملكت مني ما أخرجتك من يدي فأعتقها وتزوجها وقال أبو اليقظان إن قريشا لم تكن ترغب في أمهات الأولاد حتى ولدن ثلاثة هم خير أمل زمانهم علي بن الحسين والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وذلك أن عمر رضي الله تعالى عنه أتى ببنات يزدجرد بن شهرياربن كسرى مسبيات فأراد بيعهن فأعطاهن للدلال ينادي عليهن بالسوق فكشف عن وجه إحداهن فلطمته لطمة شديدة على وجهه فصاح واعمراه وشكا إليه فدعاهن عمر وأراد أن يضربهن بالدرة فقال علي رضي الله تعالى عنه يا أمير المؤمنين إن رسول الله قال " أكرموا عزيز قوم ذل وغني قوم افتقر " إن بنات الملوك لا يبعن ولكن قوموهن فقومهن وأعطاه أثمانهن وقسمهن بين الحسن بن علي ومحمد بن أبي بكر وعبد الله ابن عمر فولدن هؤلاء الثلاثة وقيل استبق بنو عبد الملك فسبقوا مسلمة وكان ابن أمة فتمثل عبد الملك بقول عمرو العبدي
( نهيتكمو أن تحملوا فوق خيلكم ... هجينا لكم يوم الرهان فيدرك )
( فتعثر كفاه ويسقط سوطه ... ويخدر ساقاه فما يتحرك )
( وهل يستوي المرآن هذا ابن حرة ... وهذا ابن أخرى ظهرها متشرك ) فقال له مسلمة يغفر الله لك يا أمير المؤمنين ليس هذا مثلي ولكن كما قال ابن المعمر هذه الأبيات
( فما أنكحونا طائعين بناتهم ... ولكن خطبناهم بأرماحنا فسرا )
( فما زادنا فيها السباء مذلة ... ولا كلفت خبزا ولا طبخت قدرا )

( وكم قد ترى فينا من ابن سبية ... إذا لقى الأبطال يطعنهم شزرا )
( ويأخذ ريان الطعان بكفه ... فيوردها بيضا ويصدرها حمرا ) فقبل رأسه وعينيه وقال أحسنت يا بني ذاك والله أنت وأمر له بمائة ألف درهم مثل ما أخذ السابق والله أعلم
الفصل الثاني في ذم العبيد والخدم
روي عن رسول الله أنه قال " بئس المال في آخر الزمان المماليك " وقال مجاهد إذا كثرت الخدم كثرت الشياطين وقال لقمان لابنه لا تأمنن امرأة على سر ولا تطأ خادما تريدها للخدمة ووصف بعضهم عبدا فقال يأكل فارها ويعمل كارها ويبغض قوما ويحب نوما وقيل لبعضهم ألك غلام ؟ فقال
( ومالي غلام فادعوا به ... سوى من أبوه أخو عمتي ) وقال أكثم
( الحر حر وإن مسه الضر ... والعبد عبد وإن ألبسته الدر ) ودعا بعض أهل الكوفة إخوانه وله جارية فقصرت فيما ينبغي لهم من الخدمة فقال
( إذا لم يكن في منزل المرء حرة ... رأى خللا فيما تولى الولائد )
( فلا يتخذ منهن حر قعيدة ... فهن لعمر الله بئس القعائد ) وكان لرجل غلام من أكسل الناس فأرسله يوما يشتري له عنبا وتينا فأبطأ عليه حتى عيل صبره ثم جاء بأحدهما فضربه وقال ينبغي لك إذا استقضيتك حاجة أن تقضي حاجتين فمرض الرجل

فأمر الغلام أن ييه بطبيب فغاب ثم جاء بالطبيب ومعه رجل آخر فسأله عنه فقال أما ضربتني وأمرتني أن أفضي حاجتين في حاجة فجئتك بالطبيب فان شفاك الله تعالى وإلا حفر لك هذا قبرك فهذا طبيب وهذا حفار وقيل كان عمرو الاعجمي يلي حكم السند فكتب إلى موسى الهادي إن رجلا من أشراف أهل الهند من آل المهلب ابن أبي صفرة اشترى غلاما أسود فرباه وتبناه فلما كبر وشب أشتد به هوى مولاته فراودها عن نفسها فأجابته فدخل مولاه يوما على غفلة منه من حيث لا يعلم فاذا هو على صدر مولاته فعمد إليه فجب ذكره وتركه يتشحط في دمه ثم أدركته عليه رقة وندم على ذلك فعالجه إلى أن برئ من علته فأقام الغلام بعدها مدة يطلب أن يأخذ ثأره من مولاه ويدبر عليه أمرا يكون فيه شفاء غليله وكان لمولاه إبنان أحدهما طفل والآخر يافع كأنهما الشمس والقمر فغاب الرجل يوما عن منزله لبعض الأمور فأخذ الأسود الصبيين فصعد بهما على ذروة سطح عال فنصبهما هناك وجعل يعللهما بالمطعم مرة وباللعب أخرى إلى أن دخل مولاه فرفع رأسه فرأى في شاهق مع الغلام فقال ويلك عرضت ابني للموت قال أجل والله الذي لا يحلف العبد بأعظم منه لئن لم تجب ذكرك مثل ما جببتني لأرمين بهما فقال الله الله يا ولدي في تربيتي لك قال دع هذا عنك فوالله ما هي إلا نفسي وإني لأسمح بها في شربة ماء فجعل يكرر عليه ويتضرع له وهو لا يقبل ذلك ويذهب الوالد يريد الصعود إليه فيدليهما من ذلك الشاهق فقال أبوهما ويلك فاصبر حتى أخرج مدية وأفعل ما أمرت ثم أسرع وأخذ مدية فجب نفسه وهو يراه فلما رأى الأسود ذلك رمى الصبيين من ذلك الشاهق فتقطعا وقال إن جبك لنفسك ثأري وقتل أولادك زيادة فيه فأخذ الأسود وكتب بخبره لموسى الهادي فكتب موسى لصاحب السند عمرو الأعجمي بقتل الغلام وقال ما سمعت بمثل هذا قط وأمر أن يخرج من مملكته كل أسود فما ترى أردأ من العبيد ولا أقل خيرا منهم وأكثرهم رداءة المولدون لو أحسنت إلى أحدهم الدهر كله بكل ما تصل يدك إليه أنكره كأن لم ير منك شيئا وكلما أحسنت إليه

تمرد وإن أسأت إليه خضع وذل وقد جربت أنا ذلك كثيرا وما أحسن ما قيل
( إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ) وقيل إن العبد إذا شبع فسق وإن جاع سرق وكان جدي لأمي يقول شر المال تربية العبيد والمولدون منهم ألأم من الزنوج وأردأ لأن المولد لا يعرف له أبا وربما يعرف الزنجي أبويه ويقال في المولد بغل لأنه مجنس والبغل تكون أمه فرسا وأبوه حمارا وبالعكس فلا تثق بمولد لأنه قل أن يكون فيه خير وإن كان فذاك نادر والنادر لا حكم له وأنا أستغفر الله العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب التاسع والخمسون في أخبار العرب الجاهلية و أوابدهم وذكر غرائب من عوائدهم وعجائب من أكاذيبهم
للهرب أوابد وعوائد كانوا يرونها فضلا وقد دل على بعضها القرآن العظيم وأكذب الله دعاويهم فيها فمن ذلك قوله تعالى ( وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ) قال أهل اللغة البحيرة ناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن وكان الأخير ذكرا بحروا أذنها أي شقوا أذنها وامتنعوا من ذكاتها ولا تمنع من ماء ولا مرعى وكان الرجل اذا اعتق عبدا وقال هو سائبة فلا عقد بينهما ولا ميراث وأما الوصيلة ففي الغنم كانت الشاة اذا ولدت أنثى فهي لهم وان ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم فان ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلا يذبح الذكر لآلهتهم فان ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلا يذبح لآلهتهم وأما الحام فالذكر من الابل كانت العرب إذا نتج من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا حمي ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى وقال تعالى ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) فالخمر ما خامر العقل ومنه سميت الخمر خمرا والميسر القمار والأنصاب حجارة كانت لهم يعبدونها وهي الأوثان واحداها نصب والأزلام سهام كانت

لهم مكتوب على بعضها أمرني ربي وعلى بعضها نهاني ربي فاذا أراد الرجل سفرا أو أمرا يهتم به ضرب بتلك القداح فاذا خرج الأمر مضى لحاجته واذا خرج النهي لم يمض ومن أوابدهم وأد البنات أي دفنهن أحياء كانوا في الجاهلية اذا رزق أحدهم أنثى وأدها وإذا بشر بها ضاق صدره وكظم وجهه وهو قوله تعالى ( واذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ) وقال تعالى ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ) وقد قيل إنهم كانوا يقتلونهن خوف العار وبمكة جبل يقال له أبو دلامة كانت قريش تئد فيه البنات وقيل إن صعصعة جد الفرزدق كان يشتري البنات ويفديهن من القتل كل بنت بناقتين عشراوين وجمل وفاخر الفرزدق رجلا عند بعض خلفاء بني أمية فقال أنا ابن محي الموني فأنكر الرجل ذلك فقال إن الله تعالى يقول ( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا )
وأما الرفادة في الحج فكانت خرجا تخرجه قريش في كل موسم من أموالهم الي قصي فيصنع به طعاما للحاج فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد وذلك أن قصيا فرضه على قريش فقال لهم حين أمرهم به يا معشر قريش إنكم جيران الله وأهل بيته وأهل الحرم وإن الحجاج ضيوف الله وزوار بيته وهم أحق الضيف بالكرامة فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم ففعلوا وكانوا يخرجون ذلك كل عام من أموالهم فيدفعونه اليهم وقيل أول من أقام الرفادة عبد المطلب وهو الذي حفر بئر زمزم و كانت مطمومة واستخرج منها الغزالين الذهب اللذين عليهما الدر والجوهر وغير ذلك من الحلى وسبعة أسياف وخمسة دروع سوابغ فضرب من الأسياف باب الكعبة وجعل أحد الغزالين الذهب صفائح الذهب وجعل الآخر في الكعبة

واعلم وفقني الله وإياك إنه لم يسمع بعجب أعظم من عجب سعيد بن زرارة وعبد الله بن زياد التميمي وابن سماك الاسدي الذين ضرب بهم المثل فأما سعيد ين زرارة فقيل إنه مرت به امرأة فقالت له يا عبد الله كيف الطريق الى مكان كذا فقال لها يا هنتاه مثلي يكون من عبيد الله ؟ وأما عبد الله بن زياد التميمي فقيل إنه خطب الناس بالببصرة فأحسن وأوجز فنودي منن نواحي المسجد كثر الله فينا مثلك فقال لقد كلفتم الله شططا وأما ابن سماك فإنه أضل راحلته فالتمسها فلم توجد فقال والله لئن لم يرد راحلتي على لا صليت له ابدا فوجدت وقد تعلق زمامها ببعض أغصان الشجر فقيل له قد رد الله عليك راحلتك فصل فقال انما كانت يميني يمينا قصدا فانظر رحمك الله الى هذا العجب كيف ذهب بهم حتى أفضى بهم الى الكفر وصاروا حديثا مستبشعا ومثلا بين العالمين مستشنعا نعوذ بالله من الخذلان المؤدي الى النيران ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم حكي عن الحجاج بن يوسف الثقفي انه قيل كيف وجدت منزلك بالعراق ؟ قال خير منزل ان الله أظفرني بأناس بلغني الأمل فيهم وأعانني على الانتقام منهم فكنت أتقرب اليه بدمائهم فقيل له من هم ؟ فذكر هؤلاء الثلاثة وذكر حديثهم ولا محالة أنها من محاسن الحجاج وأن قلت في جنب سيئاته والله تعالى أعلم
ذكر أديان العرب في الجاهلية كانت النصرانية في ربيعة وغسان وبعض قضاعة وكانت اليهودية في نمير وبني كنانة وبني الحرث بن كعب وكندة وكانت المجوسية في بني تميم منهم زرارة ابن عدي وابنه على وكان تزوج ابنته ثم ندم ومنهم الأقرع بن حابس كان مجوسيا وكانت الزندقة في قريش أخذوها من الجزيرة وكانت بنو حنيفة اتخذوا في الجاهلية صنما من حيس فعبدوه دهرا طويلا ثم أدركتهم مجاعة فأكلوه وقد قيل إن أول من غير

الحنيفية عمرو بن لحي أبو خزاعة وهو أنه رحل الى الشام فرأى العماليق يعبدون الأصنام فأعجبه ذلك فقال ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها ؟ قالوا هذه أصنام فتمطرنا فتمطرن ونستنصرها فتنصرنا فقال أعطوني منها صنما أسير به إلى أرض العرب فيعبدونه فأعطوه صنما يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه وقيل إن أول ما كانت عبادة الأحجار في بني إسماعيل وسبب ذلك أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حتى ضاقت عليهم وتفرقوا في البلاد وما من أحد إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم فحيثما نزلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة وأفضى ذلك بهم إلى أن عبدوا ما استحسنوه من الحجاره ثم خلفت الخلوف ونسوا ما كانوا عليه من دين إسماعيل فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلال وكانت قريش قد اتخذت صنما على بئر في جوف الكعبة يقال له هبل وأيضا اتخذوا أسافا ونائلة على موضع زمزم فينحرون عندها ويطعمون وكان أساف ونائلة رجلا وامرأة فوقع أساف على نائلة في الكعبة فيمسخهما الله حجرين واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه فإذا أراد الرجل سفرا تمسح به حين يركب وكان ذلك آخر ما يصنع إذا توجه إلى سفره وإذا قدم من سفره بدأ به قبل أن يدخل إلى أهله واتخذت العرب الأصنام وانهمكوا على عبادتها وكانت لقريش وبني كنانة العزى وكان حجابها بني شيبة وكانت اللات لثقيف بالطائف وكان حجابها بني مغيث من ثقيف وكانت مناة للأوس والخزرج من دان بدينهم وأما يغوث ويعوق ونسر فقيل إنهم كانوا أسماء أولاد آدم عليه الصلاة و السلام وكانوا أتقياء عبادا فمات أحدهم فحزنوا عليه حزنا شديدا فجاءهم الشيطان وحسن لهم أن يصوروا صورته في قبلة مسجدهم ليذكروه إذا أنظروه فكرهوا ذلك فقال اجعلوه في مؤخر المسجد ففعلوا وصوره من صفر ورصاص ثم مات آخر ففعلوا ذلك الى ان ماتوا كلهم فصورهم هناك وأقام من بعدهم على ذلك الى ان تركوا الدين وحسن لهم الشيطان عبادة شئ غير الله فقالوا له من نعبد ؟ قال آلهتكم المصورة في

مصلاكم فعبدوها الى أن بعث الله نوحا عليه الصلاة و السلام فنهاهم عن عبادتها فقالوا كما أخبر الله عنهم ( لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ) الآية ولما عم الطوفان الأرض طمها وعلا عليها التراب زمانا طويلا فأخرجها الشيطان لمشركي العرب فعبدوها وذكر الواحدي في الوسيط أن هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح عليهما الصلاة والسلام فسول الشيطان لقومهم بعد موتهم أن يصوروا صورهم ليكون أنشط وأشوق للعبادة كلما رأوهم ففعلوا ثم نشأ بعدهم قوم جهال بالأحوال فحسن لهم عبادتها وأن من سبقهم من قومهم عبدوها فسموها بأسمائهم وقال الواقدي كان ود على صورة رجل وسواع على صورة امرأة ويغوث صورة أسد ويعوق على صورة فرس ونسر على صورة نسر والله تعالى اعلم أي ذلك كان
ذكر أوابدهم الرتم شجر معروف كانت العرب اذا خرج أحدهم الى سفر عمد الى شجرة منه فيقعد غصنا منها فاذا عاد من سفره ووجده قد انحل قال قد خانتني امرأتي وان وجده على حالته قال لم تخني الرئمية ناقة كانت العرب اذا مات واحد منهم عقلوا ناقته عند قبره وسدوا عينيها حتى تموت يزعمون أنه إذا بعث من قبره ركبها التعمية والتفقئة كان الرجل اذا بلغت إبله ألفا قلع عين الفحل يقولون ان ذلك يدفع عنها العين فاذا ازدادت على الألف فقأ عينه الأخرى العرداء يصيب الابل شبه الجرب كانوا يكوون السليمة ويزعمون ان ذلك بيرئ داء من العر ضرب الثور عن البقر كانت البقر اذا امتنعت عن الشرب ضربوا الثور يزعمون أن الجن يركبون الثيران فيصدون البقر عن الشرب الهامة كانوا يزعمون أن الانسان اذا قتل ولم يؤخذ بثأره يخرج من رأسه طائر يسمى الهامة وهو كالبومة فلا يزال يصيح على قبره اسفوني الى ان يؤخذ بثأره

وكان للعرب مذاهب في الجاهليه في النفس وتنازع في كيفياتها فمنهم من زعم أن النفس هي الدم وأن الروح الهواء الذي في باطن جسم الانسان الذي منه نفسه وقالوا ان الميت لا يوجد فيه الدم وانما يوجد في الحياة مع الحرارة والرطوبة لأن كل حي فيه حرارة ورطوبة فإذا مات ذهبت حرارته وحل به اليبس والبرودة وطائفة منهم يزعمون ان النفس طائر ينشط من جسم الانسان اذا مات أو قتل ولا يزال متصورات في صورة الطائر يصرخ على قبره مستوحشا له وفي ذلك يقول بعضهم
( سلط الموت والمنون عليهم ... فلهم في صدى المقابر هام ) ثم جاء الاسلام والعرب ترى صحة أمر الهام حتى قال النبي ( لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هام ) وزعموا ان هذا الطائر يكون صغيرا ويكبر حتى يصير كضرب من البوم ويتوحش ويصرخ ويوجد في الديار المعطلة والنواويس ومصارع القتلى ويزعمون ان الهامة لا تزال عند ولد الميت لتعلم ما يكون من خبره فتخبر الميت والصفر زعموا ان الإنسان إذا جاع عض على شرسوفه الصفر وهي حية تكون في البطن تثنية الضربة زعموا ان الحية تموت في أول ضربة فإذا تثنيت عاشت
الغيلان والتغول للعرب في الغيلان والتغول أخبار وأقاويل يزعمون أن الغول يتغول لهم في الخلوات في أنواع الصور فيخاطبونها وتخاطبهم وزعمت طائفة من الناس أن الغول حيوان مشؤوم وأنه خرج منفردا لم يستأنس وتوحش وطلب القفار وهو يشبه الانسان والبهيمة ويتراءى لبعض السفار في اوقات الخلوات وفي الليل وحكي أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رآه في سفره الى الشام فضربه بالسيف وقال الجاحظ الغول كل شئ يتعرض للسيارة ويتلون في ضروب من الصور والثياب وفيه خلاف وقالوا إنه ذكر

وأنثى الا أن أكثر كلامهم أنه أنثى وأما القطرب في قولهم فهو نوع من الأشخاص المتشيطنة يعرف بهذا الاسم فيظهر في أكناف اليمن وصعيد مصر في أعاليه وربما أنه يلحق الانسان فينكحه فيدود دبره فيموت وربما نذا على الانسان وأمسكه فيقول أهل تلك النواحي التي ذكرناها أمنكوح هو أو مذعور ؟ فان كان قد نكحه أيسوا منه وإن كان قد ذعر سكن روعه وشجع قلبه واذا رآه الانسان وقع مغشيا عليه ومنهم من يظهر له فلا يكترث به لشهامته وثبات قلبه
ذكر الهواتف أما الهواتف فقد كانت كثرت في العرب وكان أكثرها أيام ولد سيدنا رسول الله وان من حكم الهواتف ان تهتف بصوت مسموع وجسم غير مرئي
ومن عجيب ما حكي من امر الهواتف ما حكاه ابو عمرو بن العلاء قال خرجنا حجاجا فصاحبنا رجل وجعل يقول في طريقه ليت شعري هل بغت علي فلما انصرفنا من مكة قالها في بعض الطريق فأجابه صوت في الظلام نعم نعم وناكها حجيه وهو رجل احمر ضخم في قفاه كيه فسكت الرجل فلما سرنا إلى البصرة أخبرنا ذلك الرجل قال دخل جيراني يسلمون علي فإذا فيهم رجل أحمر ضخم في قفاه كيه فقلت لأهلي من هذا ؟ قالت رجل كان ألطف جيراننا بنا فجزاه الله خيرا فسألتها عن اسمه فقالت حجية فقلت الحقي بأهلك وأما بكاء المقتول فكانت النساء لا يبكين المقتول حتى يؤخذ بثأره فاذا أخذ بثأره بكينه وأما رمي السن فكانوا يزعمون أن الغلام اذا ثغر فرمى سنه في عين المس بسبابته وإبهامه وقال أبدليني بأحسن منها فإنه يأمن من على أسنانه العوج والفلج

وما خضاب النحر فكانوا اذا أرسلوا الخيل على الصيد فسبق واحد منها خضبوا صدره بدم الصيد علامة وأما نصب الراية فكانت العرب تنصب الرايات على أبواب بيوتها لتعرف بها وأما جز النواصي فكانوا اذا أسروا رجلا ومنوا عليه وأطلقوه جزوا ناصيته
وأما الالتفات فكانوا يزعمون ان من خرج في سفر والتفت وراءه لم يتم سفره فان التفت تطيروا له وكانوا يقولون من علق عليه كعب الأرنب لم تصبه عين ولا سحر وذلك أن الجن تهرب من الأرانب لأنها تحيض وليست من مطايا الجن ويزعمون أن المرأة إذا أحبت رجلا وأحبها ثم لم يشق عليها رداءه وتشق عليه برقعها فسد حبهما ويزعمون أن الرجل اذا قدم قرية فخاف وباءها فوقف على بابها قبل ان يدخلها ونهق كما تنهق الحمير لم يصبه وباؤها ويزعمون ان الحرقوص وهو دويبة أكبر من البرغوث تدخل في فروج الأبكار فتفتضهن ويزعمون ان الرجل إذا ضل فقلب ثيابه اهتدى وكانوا يزعمون ان الناقة اذا نفرت وذكر اسم أمها فإنها تسكن وكانت لهم خرزة يزعمون ان العاشق اذا حكها وشرب ما يخرج منها صبر وتسمى السلوان ونكاح المقت من سنتهم وهو ان الرجل اذا مات قام ولده الاكبر فألقى ثوبه على امرأة أبيه فورث نكاحها فإن لم يكن له بها حاجة زوجها لبعض أخوته بمهر جديد فكانوا يرثون النكاح كما يرثون المال ولهم حكايات عجيبة وأحوال غريبة والله تعالى اعلم بالصواب واليه المرجع والمآب وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الستون في الكهنانة والقيافة والزجر والعرافة والفأل والفراسة والنوم والرؤية وما أشبه ذلك
اما الكهانة فكانت فاشية في الجاهلية حتى جاء الاسلام فلم يسمع فيه بكاهن وكان ذلك من معجزات النبوة وآياتها وللكهنة أخبار فمنهم سطيح ورد عليه عبد المسيح وهو يعالج الموت وأخبره على ما يزعمون بما جاء لأجله وذلك أن الموبذان رأى ابلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجله وانتشرت في بلادها فلما أصبح أعلم كسرى بذلك فتصبر كسرى تشجعا ثم رأى ان لا يكتم ذلك عن وزرائه ورؤساء مملكته فلبس ناجه وقعد على سريره وجمع وزراءه ورؤساء مملكته فأخبرهم بالخبر فبينما هم كذلك اذ ورد عليهم كتاب بخمود النيران وارتجاس الايوان فازدادوا غما على غمهم فكتب كسرى كتابا الى النعمان بن المنذر اما بعد فوجه الى رجلا عالما بما أريد ان أسأله عنه فوجه اليه عبد المسح الغساني فقال له كسرى أعندك علم بما أريد ان أسألك عنه ؟ قال ليخبرني الملك فان كان عندي علم منه والا أخبرته بمن يعلمه به فأخبره بما رآه الموبذان فقال علم ذلك عند كاهن يسكن مشارف الشام يقال له سطيح قال فأته فاسأله عما سألتك وائتني بالجواب فركب عبد المسيح وتوجه الى سطيح فوجده قد اشرف على الضريح فسلم عليه وحياه ولم يخبر عبد المسيح بما جاء بسببه غير أنه

أنشده شعرا يذكر فيه أنه جاء برسالة من قبل ملك العجم ولم يذكر له السبب فرفع رأسه وقال عبد المسيح على جمل يسيح الى سطيح بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الايوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان رأى ابلا صعابا تقود خيلا عرابا قطعت الدجلة وانتشرت في بلادها يا عبد المسيح اذا كثرت التلاوة وفاض وادي سماوة وغاضت بحيرة ساوة وخمدت نار فارس فليس الشام لسطيح شاما ولا العجم لعبد المسيح مقاما يرتفع امر العرب وأظن ان وقت ولادة محمد قد اقترب يملك منهم ملوكا وملكات بعدد الشرافات وكل ما هو آت آت ثم قضى سطيح مكانه فثار عبد المسيح الى راحلته وعاد فأخبر كسرى بذلك
وحكي أن ربيعه ين مضر اللخمي رأى مناما هاله فأراد تفسيره فقال له أهل مملكته ما يفسره لك الاشق وسطيح فأحضرهما وقال لسطيح اني رأيت مناما هالني فان عرفته فقد أصبحت تفسيره فقال رأيت جمجمة خرجت من ظلمة فوقعت بأرض نهمة فأكل منها كل ذات جمجمة فقال له الملك ما أخطأت شيئا ما تفسره قال ليهبطن بأرضك الحبش وتملك ما بين أبين إلى جرش فقال الملك ان هذا لغائط موجع فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده ؟ قال بل بعده بحين أكثر من ستين أو سبعين تمضي من السنين ثم يقتتلون بها أجمعين ويخرجون منها هاربين قال ومن ذا الذي يملك بعدهم ؟ قال أراه ذا يزن يخرج عليهم من عدن فما يترك منهم أحدا باليمن قال الملك فيدوم ذلك أم ينقطع ؟ قال بل ينقطع قال ومن يقطعه ؟ قال نبي زكي يأتيه الوحي من العلى قال وممن يكون هذا النبي ؟ قال من ولد عدنان بن فهر بن مالك بن النضر يكون في قومه الملك إلى آخر الدهر قال وهل للدهر من آخر ؟ قال نعم يوم يجمع فيه الأولون والآخرون ويسعد فيه المحسنون ويشقى المسيئون قال أو حق ما تخبر قال والشفق والقمر إذا اتسق ان ما أنبأتك به لحق ثم دعا بشق فقال مثل ما قال سطيح ومن ذلك ما حكي أن أمية بن عبد شمس دعا هاشم بن عبد مناف إلى المفاخرة فقال له هاشم أفاخرك على خمسين ناقة سود الحدق تنحر بمكة فرضي أمية بذلك وجعل بينهم الخزاعي الكاهن حكما فخبؤا إليه شيئا وخرجا إليه ومعهما جماعة

من قومهما فقالوا قد خبأنا لك خبيا فان علمته تحاكمنا إليك وان لم تعلمه تحاكمنا إلى غيرك فقال لقد خبأتم لي كيت وكيت قالوا صدقت أحكم بين هاشم بن عبد مناف وبين أمية بن عبد شمس أيهما أشرف بيتا ونسبا فقال والقمر الباهر والكوكب الزاهر والغمام الماطر وما بالجو طائر وما اهتدى بعلم مسافر لقد سبق هاشم أمية إلى المآثر ولأمية أواخر فأخذ هاشم الابل ونحرها وأطعهما من حضر وخرج أمية إلى الشام وأقام بها عشر سنين ويقال إنها أول عداوة وقعت بين بني هاشم وبني أمية
وحكي أن هند بنت عتبة بن ربيعة كانت تحت الفاكه بن المغبرة وكان الفاكه من فتيان قريش وكان له بيت ضيافة خارجا عن البيوت تغشاه الناس من غير إذن فخلا البيت ذات يوم واضطجع فيه هو وهند ثم نهض لحاجة فأقبل رجل ممن كن يغشى البيت فولجه فلما رأى هندا رجع هاربا فلما نظره الفاكه دخل عليها فضربها برجله وقال لها من هذا الذي خرج من عندك ؟ قالت ما رأيت أحدا قط وما انتبهت حتى أنبهتني قال فأردجعي إلى بيت أبيك وتكلم الناس فيها فقال أبوها يا بنية إن الناس قد أكثروا فيك الكلام فان يكن الرجل صادقا دسيت عليه من يقتله لينقطع كلام الناس وان يك كاذبا حاكمته إلى بعض كهان اليمن فقالت له لا والله ما هو علي بصادق فقال له يا فاكه انك قد رميت ابنتي بأمر عظيم فحاكمني إلى بعض كهان اليمن فخرج الفاكه في جمعة من بني مخزوم وخرج أبوها في جماعة من بني عبد مناف ومعهم هند ونسوة فلما شارفوا البلاد قالوا غدا نرد على هذا الرجل فتغيرت حالة هند فقال لها أبوها اني أرى حالك قد تغير وما هذا إلا لمكروه عندك فقالت لا والله ولكن أعرف انكم تأتون بشرا يخطئ ويصيب ولا آمنه أن يسمني بسيما تكون علي سبة فقال لها لا تخشي فسوف أختبره فصفر لفرسه حتى أدلى ثم أدخل في احليله حبة حنطة وربطه فلما أصبحوا قدموا على الرجل فأكرمهم ونحر لهم فلما تغدوا

له عتبة قد جئناك في أمر وقد خبأنا لك خبيئة نختبرك بها قال خبأتم لي تمرة في كمدة قال اني أريد أن أبين من هذا قال حبة بر في أحليل مهر قال فانظر في أمر هؤلاء النسوة فجعل يأتي إلى كل واحدة منهن ويضرب بيده على كتفها ويقول لها انهضي حتى بلغ هندا فقال انهضي غير رسحاء ولا زانية وستلدين ملكا اسمه معاوية فنهض اليها الفاكه فأخذ بيدها فجذبت يدها من يده وقالت اليك عني فوالله اني لأحرص أن يكون ذلك من غيرك فتزوجها أبو سفيان فولدت منه أمير المؤمنين معاوية رضي الله تعالى عنه
وأما القيافة فهي على ضربين قيافة البشر وقيافة الاثر فأما قيافة الشر فالاستدلال بصفات أعضاء الانسان وتختص بقوم من العرب يقال لهم بنو مدلج يعرض على أحدهم مولود في عشرين نفرا فيلحقه بأحدهم
وحكي عن بعض أبناء التجار أنه كان في بعض أسفاره راكبا على بعيره يقوده غلام أسود فمر بهؤلاء القبيلة فنظر إليه واحد منهم وقال ما أشبه الركب بالقائد قال ولد التاجر فوقع في نفسي من ذلك شيء فلما رجعت إلى أمي ذكرت لها القصة فقالت يا ولدي ان أباك كان شيخا كبيرا ذا مال وليس له ولد فخشيت أن يفوتنا ما له فمكنت هذا الغلام من نفسي فحملت بك ولولا أن هذا شيء ستعلمه غدا في الدار الآخرة لما أعلمتك به في الدنيا وأما قيافة الأثر فالاستدلال بالاقدام والحوافر والخفاف وقد اختص به قوم من العرب أرضهم ذات رمل إذا هرب منهم هارب أو دخل عليهم سارق تتبعوا آثار قدمه حتى يظفروا به ومن العجب أنهم يعرفون قدم الشاب من الشيخ والمرأة من الرجل والبكر من الثيب والغريب من المستوطن ويذكر أن في قطبة وثغر البرلس أقواما بهذه الصفة وقد وقعت من قريش حين خرج النبي وأبو بكر إلى الغار على صخر صلد وأحجار صم ولا طين ولا تراب تبين فيه الأقدام

فحجبهم الله تعالى عن نبيه بما كان من نسيج العنكبوت وما لحق القائف من الحيرة وقوله إلى ههنا انتهت الاقدام هذا ومعهم الجماعة من قريش أبصارهم سليمة ولولا أن هناك لطيفة لا يتساوى الانسان فيها يعني في علمها لما استأثر بعلم ذلك طائفة دون أخرى وقيل القيافة لبني مدلج في أحياء مضر واختلف رجلان من القافة في أمر بعير وهما بين مكة ومنى فقال أحدهما هو جمل وقال الآخر هي ناقة وقصدا يتبعان الاثر حتى دخلا شعب بني عامر فاذا بعير واقف فقال أحدهما لصاحبه أهو ذا ؟ قال نعم فوجداه خنثى فأصابا جميعا ومنهم من كان يخط الرمل في الأرض ويقول فيوافق قوله ما يأتي بعد وقال رجل شردت لي ابل فجئت إلى خراش فسألته عنها فأمر بنته أن تخط لي في الأرض فخطت ثم قامت فضحك خراش ثم قال أتدري قيامها لأي شيء ؟ قلت لا قال قد علمت أنك تجد ابلك وتتزوجها فاستحيت ثم خرجت فوجدت ابلي ثم تزوجتها وخرج عمرو بن عبد الله بن معمر ومعه مالك بن خراش الخزاعي غازيين فمرا بامرأة وهي تخط للناس في الأرض فضحك منها مالك هزوا وقال ما هذا ؟ فقالت أما والله لا تخرجي من سجستان حتى تموت وينزوج عمرو هذا زوجتك فكان كما ذكرت
وأما الزجر والعرافة فاحسنه ما روي إن كسرى أبرويز بعث إلى النبي حين بعث زاجرا ومصورا فقال للزاجر أنظر ما ترى في طريقك وعنده وقال للمصور أئتني بصورته فلما عاد إليه أعطاه المصور صورته فوضعها كسرى على وسادته ثم قال للزاجر ماذا رأيت ؟ قال ما رأيت ما أزجر به إلا أنه سيعلوا أمره عليك لأنك وضعت صورته على وسادتك
وبعث صاحب الروم إلى النبي رسولا وقال له انظر إليه ومل إلى جانبه وأنظر إلى ما بين كتفيه حتى ترى الخاتم والشامة فقدم الرسول فرأى النبي على نشز عال واضعا قدميه في الماء وعن يمينه علي رضي الله عنه فلما رآه رسول الله قال له تحول فانظر ما أمرت به فنظر

فلما رجع إلى صاحبه أخبره الخبر فقال ليعلون أمره وليملكن ما تحت قدمي فتفاءل بالنشز العلو وبالماء الحياة وقال المدايني وقع الطاعون بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان حين أتاها فخرج هاربا ونزل بقرية من قرى الصعيد فقدم عليه حين نزلها رسول لعبد الملك بن مروان فقال للرسول ما اسمك ؟ قال طالب بن مدرك فقال أواه ما أظن أني أرجع إلى الفسطاط فمات ولم يرجع وكانت نائلة بنت عمار الكلبي تحت معاوية فقال لفاختة بنت قرظة اذهبي فانظري إليها فذهبت ونظرت فقالت ما رأيت مثلها ولكني رأيت تحت سرتها خالا ليوضعن معه رأس زوجها في حجرها فطلقها معاوية وتزوجها بعده رجلان حبيب ابن مسلمة والنعمان بن بشير فقتل أحدهما ووضع رأسه في حجرها وبينما مروان بن محمد جالس في ايوانه يتفقد الأمور إذ تصدعت زجاجة من الايوان فوقعت منها الشمس على منكب مروان وكان هناك عراف وقيل قياف فقام فتبعه ثوبان مولى مروان فسأله فقال صدع الزجاج صدع السلطان ستذهب الشمس بملك مروان بقوم من الترك أو خراسان ذلك عندي واضح البرهان فما مضى غير شهرين حتى مضى ملك مروان
وروى المدايني أن عليا رضي الله عنه بعث معقلا في ثلاثة آلاف ليقيم بالرقة وذلك في وقعة صفين فسار حتى نزل الحديبية فبينما هو ذات يوم جالس إذ نظر إلى كبشين ينتطحان فجاء رجلان فأخذ كل واحد منهما كبشا فذهب به فقال شداد بن أبي ربيعة الخثعمي الزاجر إنكم لتصرفون من موجهكم هذا لا تغلبون ولا تغلبون أما ترى الكبشين كيف انتطحا حتى حجز بينهما فتفرقا ولا فضل لأحدهما على الآخر
وحكي ان الاسكندر ملك بعض البلاد فدخل فيها فوجد امرأة تنسج ثوبا فلما رأته قالت له أيها الملك قد أعطيت ملكا ذا طول وعرض ثم دخل عليها بعد ذلك فقالت ستعزل من الملك قال فغضب عند ذلك فقالت له لا تغضب فانك في المرة الأولى دخلت علي والشقة بيدي أدير طولها وعرضها ودخلت علي الآن والشقة في يدي أريد قطعها لأني

قد فرغت من نسجها فلا تغضب فان النفوس تعلم أشياء بعلامات قال الراوي فكان كذلك
وحكي أن سيف بن ذي يزن لما استنجد كسرى على قتال الحبشة بعث إليه بجيش عظيم فخرج اليهم ملك الحبشة وهو مسروق بن أبرهة في مائة ألف من الحبشة وكان بين عينيه ياقوتة حمراء بعلاقة من الذهب على تاجه تضيء كالنور وهو على فيل عظيم قال وكان في عسكر ذي يزن رجل يقال له زهير فتأمل ذلك منه ثم قال لأميره اصبر لتنظر ما يكون من أمره فقال فتحول مسروق من الفيل إلى جمل فقال أصبر فتحول بعد ذلك إلى فرس ثم إلى بغل ثم إلى حمار وكأنه أنف من مقاتلتهم على شيء من ذلك الا على حمار لما أنه استصغرهم وأستحقرهم وتفرس ذلك الرجل فيه من الانتقال من أعلى إلى أدنى وقال أحملوا عليهم فإن ملكهم قد ذهب فإنه انتقل من كبير إلى صغير فحملوا عليهم فكسروهم وقتل الملك
وحكي أنه كان عراف من الطرقيين ببغداد يخبر بما يسئل عنه فلم يخطئ فسأله رجل عن شخص محبوس هل ينطلق قال نعم ويخلع عليه قال فقلت له بأي شيء عرفت ذلك ؟ فقال إنك لما سألتني التفت يمينا وشمالا فوجدت رجلا على ظهره قربة ماء ففرغها ثم حملها على كتفه فأولت الماء بالمحبوس وتفريق بالانطلاق ووضعها على كتفه بالخلعة قال وكان الأمر كذلك
وأما الفأل فقد روي أن النبي كان يحب الفأل الصالح والاسم الحسن وروي أنه لما نزل المدينة على كلثوم دعا غلامين له يا بشار ويا سالم فقال لأبي بكر رضي الله تعالى عنه أبشر يا أبا بكر فقد سلمت لنا الدار وقال الأصمعي سألت ابن عون عن الفأل فقال هو أن يكون مريض فيسمع يا سالم أو طالب حاجة فيسمع يا واجد وما أشبه ذلك

وأما الطيرة فقد كن يحب الفال ويكره الطيرة وقيل ذكرت الطيرة عند رسول الله فقال من عرض له من هذه الطيرة شيء فليقل اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وعنه أنه قال ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له وعن ابن عباس رضي الله عنهما ( رفعه ) من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر وعن أبي هريرة رضي الله عنه من أتى كاهنا فصدقه فيما يقول أو أتى امرأته حائضا في دبرها فقد برئ مما نزل على محمد وأنشد المبرد هذه الأبيات يقول
( لا يعلم المرء ليلا ما يصبحه ... الا كواذب ما يجري به الفال )
( والفال والزجر والكهان كلهم ... مضللون ودون الغيب اقفال ) وقال لبيد
( لعمري ما تدري الطوارق بالحصى ... ولا زاجرت الطير ما الله صانع ) وقال آخر
( تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير وهو الثبور )
( بلى شيء يوافق بعض شيء ... أحايينا وباطله كثير ) وكانت العرب تتطير بأشياء كثيرة منها العطاس وسبب تطيرهم منه ان دابة يقال لها العاطوس كانوا يكرهونها وكانوا إذا ارادوا سفر خرجوا من الغلس والطير في أوكارها على الشجر فيطيرونها فإن أخذت

أخذوا يمينا وإن أخذوا شمالا أخذوا شمالا ومنه قوله امرئ القيس
( وقد اغتدى والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل )
( مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من على ) والعرب أعظم ما يتطيرون منه الغراب فالقول فيه أكثر من أن يطلب عليه شاهد ويسمونه حاتما لأنه يحتم عندهم بالفراق ويسمونه الأعور على جهة التطير بصرا وفيه يقول بعضهم
( إذا ما غراب البين صالح فقل به ... ترفق رماك الله يا طير بالبعد )
( لأنت على العشاق أقبح منظر ... وأبشع في الابصار من رؤية اللحد )
( تصيح ببين ثم تعثر ماشيا ... وتبرز في ثوب من الحزن مسود )
( متى صحت صح البين وانقطع الرجا ... كأنك من يوم الفراق على وعد ) وأعرض بعضهم عن الغراب وتطير بالإبل وسبب ذلك لكونها تحمل أثقال من ارتحل وفي ذلك قال بعضهم مفردا أجاد
( زعموا بأن مطيهم سبب النوى ... والمؤذنات بفرقة الأحباب ) وقالوا من تطير من شيء وقع فيه
وحكي عن ابراهيم بن المهدي قال أرسل إلي محمد بن زبيدة في ليلة من ليالي الصيف مقمرة يقول يا عم إني مشتاق إليك فاحضر الآن عندنا فجئته وقد بسط له على سطح زبيدة وعنده سليمان بن أبي جعفر وجاريته نعيم فقال لها غنينا شيئا فقد سررت بعمومتي فغنت وهي تقول هذه الأبيات
( همو قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما فعلت يوما بكسرى مرازبه )
( بني هاشم كيف التواصل بيننا ... وحبند أخيه سيفه ونجائبه )

قال فغضب وتطير وقال لها ما قصتك ويحك انتبهي وغني ما يسرني فغنت تقول
( كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأكثر حزما منك ضرج بالدم ) فقال لها ويحك ما هذا الغناء في هذه الليلة غني غيره فغنت تقول هذه الأبيات
( ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا وريب الدهر عداء )
( تبكي فراقهم عيني فأرقها ... إن التفرق للمشتاق بكاء ) قال فانتهرها وقال لها قومي إلى لعنة الله فقالت والله يا مولاي لم يجر على لساني غير هذا وما ظننت إلا أنك تحبه ثم إنها قامت من بين يديه وكان بين يديه قدح بلور وكان أبوه يحبه فأصابه طرف ردائها فانكسر قال إبراهيم بن المهدي فالتفت إلي وقال يا عمي أرى أن هذا آخر أمرنا فقلت كلا بل يبقيك الله يا أمير المؤمنين ويسرك فسمعت هاتفا يقول قضي الأمر الذي فيه تستفيان فقال لي أسمعت ما سمعت يا عم ؟ فقلت ما سمعت شيئا وما هذا إلا توهم فإذا الصوت قد علا فقال يا عم إذهب إلى بيتك فمحال أن يكون بعد هذا اجتماع قال فانصرفت من عنده وكان هذا آخر عهدي به وخرج أبو الشمقمق مع خالد بن يزيد بن مزيد وقد تقلد الموصل فلما أراد الدخول إليها اندق لواؤه في أول درب منها فتطير لذلك فأنشده أبو الشمقمق يقول
( ما كان مندق اللواء لريبة ... تخشى ولا أمر يكون مبذلا )
( لكن هذا الرمح ضعف متنه ... صغر الولاية فاستقل الموصلا ) فسر خالد وأمر لأبي الشمقمق بعشرة آلاف درهم ودخل الحجاج الكوفة متوجها إلى عبد الملك فصعد المنبر فانكسر تحت قدمه فعلم أنهم قد تطيروا له بذلك فالتفت إلى الناس قبل أن يحمد الله تعالى فقال شاهت الوجوه وتبت الأيدي ويؤتم بغضب من الله إذا انكسر عود جذع ضعيف

تحت قدم أسد شديد تفاءلتم بالشؤم وإني على أعداء الله تعالى لأنكد من الغراب الأبقع وأشأم من يوم نحس مستمر وإني لاعجب من لوط وقوله لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد فأي ركن أشد من الله تعالى أو ما علمتم ما أنا عليه من التوجه إلى أمير المؤمنين وقد وليت عليكم أخي محمد بن يوسف وأمرته بخلاف ما أمر به رسول الله معاذا في أهل اليمن فانه أمره أن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم وقد أمرته أن يسيء إلى محسنكم وأن لا يتجاوز عن مسيئكم وأنا أعلم أنكم تقولون بعدي لا أحسن الله له الصحابة وأنا معجل لكم الجواب لا أحسن الله عليكم الخلافة أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم وخرج بعض ملوك الفرس إلى الصيد فأول من استقبله أعور فضربه وأمر بحبسه ثم ذهب للصيد فاصطاد صيدا كثيرا فلما عاد استدعى بالأعور فأمر له بمال فقال لا حاجة لي به ولكن ائذن لي في الكلام فقال تكلم فقال أيها الملك إنك تلقيتني فضربتني وحبستني وتلقيتك فصدت وسلمت فأينا أشأم صباحا على صاحبه ؟ فضحك منه وأمر له بصلة
وحكي أيضا إن صاحب قرطبة أصابه وجع فأمر بعض جواريه أن تغنيه ليلهو عن وجعه فقالت
( هذي الليالي علمنا أن ستطوينا ... فشعشعينا بماء المزن واسقينا ) قال فتطير من ذلك وأمرها بالانصراف ولم يقم بعد ذلك غير خمسة أيام ومات
وحكي أن نور الدين محمودا وهمام الدين ركبا في يوم عيد وخرجا للتفرج فتجاولا في الكلام ثم قال محمودا يا من درى هل نعيش إلى مثل هذا اليوم ؟ فقال له همام الدين قل هل نعيش إلى آخر هذا الشهر فإن العام كثير قال فاجرى الله على منطقهما ما كان مقدرا في الأزل فمات أحدهما قبل تمام الشهر ومات الآخر قبل تمام العام

وأما الفراسة فقد قال الله تعالى ( إن في ذلك لآيات للمتوسمين ) وقال رسول الله " اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله " وقال علي رضي الله تعالى عنه ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه وقيل أشار ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على علي رضي الله تعالى عنه بشيء فلم يعمل به ثم ندم فقال يرحم الله ابن عباس كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق
وحكى أبو سعيد الخراز أنه كان في الحرم فقير ليس عليه إلا ما يستر عورته فانفت نفسي منه فتفرس ذلك مني فقرأ ( وأعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذوره ) فندمت واستغفرت الله في قلبي فتفرس ذلك أيضا فقرأ ( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده )
وحكي عن الشافعي ومحمد بن الحسن أنهما رأ يا رجلا فقال أحدهما إنه نجار وقال الآخر أنه حداد فسأله عن صنعته فقال كنت حدادا وأنا الآن نجار
وحكي ان شخصا من أهل القرآن سأل بعض العلماء مسألة فقال له إجلس فإني أشم من كلامك رائحة الكفر فاتفق بعد ذلك أنه سافر السائل فوصل إلى القسطنطينية فدخل في دين النصرانية قال من رآه ولقد رأيته متكئا على دكة وبيده مروحة يروح بها عليه فقلت السلام عليكم يا فلان فسلم علي وتعارفنا ثم قلت له بعد ذلك هل القرآن باق على حاله أم لا ؟ فقال له لا أذكر منه إلا آية واحدة وهي قوله تعالى ( ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ) قال فبكيت عليه وتركته وانصرفت وكان الحسن ابن السقاء من موالي بني سليم ولم يكن

في الأرض أحزر منه كان ينظر إلى السفينة فيحزر ما فيها فلا يخطئ وكان حذره للمكيول والموزون والمعدود سواء كان يقول في هذه الرمانة كذا وكذا حبة وزنتها كذا وكذا ويأخذ العود الآس فيقول فيه كذا وكذا ورقة فلا يخطئ وقالوا إذا رأيت الرجل يخرج بالغداة ويقول لشيء ما عند الله خير وأبقى فاعلم إن جواره وليمة ولم يدع إليها وإذا رأيت قوما يخرجون من عند قاض وهم يقولون ا شهدنا إلا بما علمنا فاعلم أن شهادتهم لم تقبل وإذا قيل للمتزوج صبيحة البناء على أهله كيف ما تقدمت عليه ؟ فقال الصلاح خير من كل شيء فاعلم أن امرأته قبيحة وإذا رأيت إنسانا يمشي ويلتفت فاعلم أنه يريد أن يحدث وإذا رأيت فقيرا يعدو ويهرول فاعلم أنه في حاجة غني وإذا رأيت رجلا خارجا من عند الوالي وهو يقول يد لله فوق أيديهم فاعلم أنه صفع ويقال عين المرء عنوان قلبه وكانوا يقولون عظم الجبين يدل على البله وعرضه يدل على قلة العقل وصغره يدل على لطف الحركة وإذا وقع الحاجب على العين دل على الحسد والعين المتوسطة في حجمها دليل الفطنة وحسن الخلق والمروءة والتي يطول تحديقها يدل على السمع والأذن الكبيرة المنتصبة تدل على حمق وهذيان وكانت الفرس إذ تقول فشا الموت في الوحوش دل على ضيقه وإذا فشا في الفأر دل على الخصب وإذا نعق غراب فجاوبته دجاجة عمر الخراب وإذا قوقت دجاجة فجاوبها غراب خرب العمار والله أعلم بكل شيء عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد أو عنده مفاتح الغيب لا يعلما إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين
وأما النوم والسهر وما جاء فيهما فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الرسول أنه قال " أشراف أتي حملة القرآن وأصحاب الليل وروي أن أم سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام قالت يا بني لا تكثر النوم بالليل

فان صاحب النوم يجيء يوم القيامة مفلسا وكان زمعة بن صالح ليلا طويلا فإذا أسحر نادى أهله
( يا أيها الركب المعرسونا ... أكل هذا الليل ترقدونا ) فيتواثبون بين باك وداع ومتضرع فإذا أصبح نادى عند الصباح يحمد القوم السرى ( وأنشدوا )
( يا أيها الراقد كم ترقد ... قم يا حبيبي قد دنا الموعد )
( وخذ من الليل وساعاته ... حظا إذا ما هجع الرقد )
( من نام حتى ينقضي ليله ... لم يبلغ المنزل أو يجهد )
( قل لذوي الألباب أهل التقى ... قنطرة الحشر لكم موعد ) وقيل أن نومة الضحى تورث الغم والخوف ونومة العصر تورث الجنون وأنشد بعضهم
( إلا إن نومات الضحى تورث الفتى ... غموما ونومات العصير جنون ) وعن العباس بن عبد المطلب أنه مر يوما بابنه وهو نائم نومةالضحى فوكزه برجله وقال له قم لا أنام الله عينك أتنام في ساعة يقسم الله تعالى فيها الرزق بين العبد ؟ أو ما سمعت ما قالت العرب أنها مكسلة مهزلة منسية للحاجة والنوم على ثلاثة أنواع نومة الخرق ونومة الخلق ونومة الحمق فنومة الخرق نومة الضحى ونومة الخلق هي التي أمر النبي بها أمته فقال قيلوا فان الشيطان لا تقيل ونومة الحمق النومة بعد العصر لا ينامها إلا سكران أو مجنون وكان هشام بن عبد الملك يقول لولده لا تصطبح بالنوم فانه شؤم ونكد وقال الثوري لطبيب دلني على شيء إذا أردت النوم جاءني فقال ادهن رأسك وأكثر من ذلك واتق الله وكان طاوس يقول لأن تختلف السياط على ظهري أحب إلي من أن أنام يوم الجمعة والإمام يخطب وكان شداد بن أوس يتلوى على فراشه كالحبة على المقلى ويقول اللهم إن النار منعتني النوم وأنشدوا في المعنى

( غيرت موضع مرقدي ... يوما ففارقني السكون )
( قل لي فأول ليلتي ... في حفرتي أني أكون ) وأنشد أبو دلف
( أمالكتي ردي علي رقاديا ... ونومي فقد شردته عن وساديا )
( أما تتقين الله في قتل عاشق ... أمت الكرى عنه فأحيا اللياليا ) وأنشد أبو غانم الثقفي
( رقدت رقاد الهيم حتى لو أنني ... يكون رقادي مغنما لغنيت ) فقيل لمن هذا ؟ فقال لرقاد من رقاد العرب وقيل ان نوم عبود يضرب به المثل وكان عبود هذا عبدا أسود قيل إنه نام اسبوعا وقل إنه تماوت على أهله وقال اندبوني لأعلم كيف تندبوني إذا أنا مت فسجى ونام وندب فإذا هو قد مات
وأما الرؤيا فقد قيل فيها أقاويل وهو أنهم قالوا أن النوم هو اجتماع الدم وانحداره إلى الكبد ومنهم من رأى ان ذلك هو سكون النفس وهدوء الروح ومنهم من زعم ان مايجده الانسان في نومه من الخواطر انما هو من الأطعمة والأغذية والطبائع وذهب جمهور الأطباء إلى أن الأحلام من الأخلاط وان ذلك بقدر مزاج كل واحد منها وقوته فالذي يغلب عليه الصفراء يرى بحورا وعيونا ومياها كثيرة ويرى أنه يسبح ويصيد سمكا ومن غلبت على مزاجه السوداء رأى في منامه أجداثا وأمواتا مكفنين بسواد وبكاء وأشياء مفزعة ومن غلب على مزاجه الدم رأى الخمر والرياحين وأنواع الملاهي والثياب المصبغة والذي يقع عليه التحقيق ان الرؤيا الصالحة كما قد جاء جزء من ستين جزء من النبوة وكان النبي أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق

الصبح والرؤيا على ضربين فمنهم من يرى رؤيا فتجيء على حالها لا تزيد ولا تنقص ومنهم من يرى الرؤيا في صورة مثل ضرب له
فمن ذلك ما حكي أن النبي رأى في الجنة غرفا فقال لمن هذه ؟ فقيل أبي جهل بن هشام فقال ما لأبي جهل والجنة والله لا يدخلها أبدا قال فأتاه عكرمة ولده مسلما فتأولها به وكذلك تأول في قتل الحسين لما رأى أن كلبا أبقع يلغ في دمه وكان ذلك بعد رؤياه عليه الصلاة و السلام بخمسين عاما وكذلك حين قال بأبي بكر رضي الله تعالى عنه اني رأيت كأني رقيت أنا وأنت درجا في الجنة فسبقتك بدرجتين ونصف فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه يا رسول الله أقبض بعدك بسنتين ونصف ورأت عائشة رضي الله تعالى عنها سقوط ثلاثة أقمار في حجرتها فأولها أبوها بموته وموت النبي وموت عمر رضي الله تعالى عنهما ودفنهم في حجرتها فكان الأمر كذلك
وحكي أن أم الشافعي رضي الله تعالى عنه لما حملت به رأت كأن المشتري خرج من فرجها وانقض بمصر ثم تفرق في كل بلد قطعة فأول بعالم يكون بمصر وينتشر علمه بأكثر البلاد فكان كذلك
وحكي أيضا ان عاملا أتى عمر رضي الله تعالى عنه فقال رأيت الشمس والقمر اقتتلا فقال له عمر مع من كنت ؟ قال مع القمر فقال مع الآية الممحوة والله لا وليت لي عملا فعزله ثم اتفق ان عليا رضي الله تعالى عنه وقع بينه وبين معاوية ما وقع فكان ذلك الرجل مع معاوية
وأما من مهر في تعبير الرؤيا فهو ابن سيرين جاءه رجل فقال له رأيت كأني اسقي شجرة زيتون زيتا فاستوى جالسا فقال ما التي تحتك ؟ قال عجلة اشتريتها وفي رواية جارية وأنا أطؤها فقال

أخاف أن تكون أمك فكشف عنها فوجدها أمه وجاءه رجل فقال رأيت كأن في يدي خاتما أختم به فروج النساء وأفواه الرجال فقال له أنت مؤذن تؤذن بالليل فتمنع الرجال والنساء من الاكل والوطء وجاءه رجل فقال رأيت جارة لي قد ذبحت في بيت من دارها فقال هي امرأة نكحت في ذلك البيت وكانت امرأة لصديق ذلك الرجل فاغتم لذلك ثم بلغه أن الرجل قدم في تلك الليلة وجامع زوجته في ذلك البيت وجاءه رجل معه جراب فقال له رأيت في النوم كأني أسد الزقاق سدا وثيقا شديدا فقال له أنت رأيت هذا ؟ قال نعم فقال لمن حضره ينبغي أن يكون هذا الرجل يخنق الصبيان وربما تكون في جرابه آلة الخنق فوثبوا عليه وفتشوا الجراب فوجدوا فيه أوتارا وحلقا فسلموه إلى السلطان وجاءته امرأة وهو يتغدى فقالت له رأيت في النوم كأن القمر دخل في الثريا ونادى مناد من خلق ان ائتني ابن سيرين فقص عليه فتقلصت يده وقال ويلك كيف رأيتي هذا ؟ فأعادت عليه فقال لاخته هذه تزعم اني أموت لسبعة أيام وأمسك يده على فؤاده وقام يتوجع ومات بعد سبعة أيام وجاءه رجل فقال رأيت كأني آخذ البيض وأقشره فآكل بياضه وألقي صفاره فقال ان صدق منامك فأنت نباش الموتى فكان ذلك
وحكي ان ابن سيرين رأى الجوزاء قد تقدمت على الثريا فجعل يوصي وقال يموت الحسن وأموت بعده وهو أشرف مني فمات الحسن ومات بعده بمائة يوم
وحكى أن رجلا رأى عيسى عليه السلام فقال له يا نبي الله صلبك حق قال نعم فعبره على بعضهم فقال تكذب رؤياك بقوله تعالى ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) ولكن هو عائد على الرائي فكان كذلك وأتى ابنة مغيث آت في المنام فقال لها
( لك البشيرى بولد ... أشبه شيء بالاسد ... إذا الرجال في كبد )
( تغالبوا على بلد ... كان له حظ الأسد )

المختار بن أبي عبيد وذلك في عام الهجرة وقال رجل لسعيد بن المسيب رأيت كأني بلت خلف المقام أربع مرات قال كذبت لست صاحب هذه الرؤيا قال هو عبد الملك فقال يلي أربعة من صلبه الخلافة وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه رأيت عليا رضي الله تعالى عنه في المنام فقال لي ناولني كتبك فناولته إياها فأخذها وبددها فأصبحت أخا كآبة فأتيت الجعد فأخبرته فقال سيرفع الله شأنك وينشر علمك
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي أنه قال من رآني في منامه فقد رآني حقا فإن فان الشيطان لا يتمثل بي وجاء إلى النبي فقال رأيت كأن رأسي قد قطع وأنا أنظر إليه فضحك رسول الله وقال بأي عين كنت تنظر إلى رأسك فلم يلبث رسول الله أن توفي وأولوا رأسه بنبيه ونظره إليه باتباع سنته وقال رجل لعلي بن الحسين رأيت كأني أبول في يدي فقال تحتك محرم فنظروا فإذا بينه وبين امرأته رضاع وقال أبو حنيفة رضي الله عنه رأيت كأني نبشت قبر رسول الله فضممت عظامه إلى صدري فهالني ذلك فسألت ابن سيرين فقال ما ينبغي لأحد من أهل هذا الزمان أن يرى هذه الرؤيا قلت أنا رأيتها قال إن صدقت رؤياك لتحيين سنة نبيك وقال النبي الرؤيا الصالحة بشارة للمؤمن بما له عند الله من الكرامة في الدنيا والآخرة وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال تضرعت إلى ربي سنة أن يرين أبي في النوم حتى رأيته وهو يمسح العرق عن جبينه فسألته فقال لولا رحمة الله لهلك أبوك إنه سألني عن عقال بعير للصدقة فسمع بذلك عمر بن عبد العزيز فصاح وضرب بيده على رأسه وقال فعل هذا بالتقي الطاهر فكيف بالمقترف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم أجمعين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله صحبه وسلم

الباب الحادي والستون في الحيل والخدائع المتوصل بها إلى بلوغ المقاصد والتيقظ والتبصر الحيلة من فوائد الآراء المحكمة وهي حسنة ما لم يستبح بها محظور وقد سئل بعض الفقهاء عن الحيل في الفقه فقال علمكم الله ذلك فانه قال ( وخذ بيدك ضغثا ) ( فاضرب به ولا تحنث ) وكان إذا أراد غزوة وروي بغيرها وكان يقول " الحرب خدعة " ولما أراد عمر رضي الله عنه قتل الهرمزان استسقى ماء فأتوه بقدح فيه ماء فأمسكه في يده واضطرب فقال له عمر لا بأس عليك حتى تشربه فألقى القدح من يده فأمر عمر بقتله فقال أولم تؤمني ؟ قال كيف أمنتك قال قلت لا بأس عليك حتى تشربه وقولك لا بأس عليك أمان ولم أشربه فقال عمر قاتلك الله أخذت مني أمانا ولم أشعر وقيل كان دهاة العرب أربعة كلهم ولدوا بالطائف معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة والسائب بن الأقرع وكان يقال الحاجة تفتح أبواب الحيل وكان يقال ليس العاقل الذي يحتال للأمور إذا وقع فيها بل العاقل الذي يحتال للأمور أن لا يقع فيها وقال الضحاك بن مزاحم النصراني لو أسلمت فقال ما زلت محبا للإسلام إلا أنه يمنعني منه حبي للخمر فقال أسلم وأشربها فلما أسلم قال له قد أسلمت فان شربتها حديناك وإن ارتددت قتلناك فاختر لنفسك فاختار الاسلام وحسن إسلامه فأخذه بالحلية

وقيل دليت من السماء سلسلة في أيام داود عليه الصلاة و السلام عند الصخرة التي في وسط بيت المقدس وكان الناس يتحاكمون عندها فمن مد يده اليها وهو صادق نالها ومن كان كاذبا لم ينلها إلى أن ظهرت فيهم الخديعة فارتفعت وذلك أن رجلا أودع رجلا جوهرة فخبأها في مكانه في عكازة ثم أن صاحبها طلبها من الذي أودعها عنده فأنكرها فتحاكما عند السلسلة فقال المدعي اللهم إن كنت صادقا فلتدن مني السلسلة فدنت منه فمسها فدفع المدعى عليه العكازة للمدعي وقال اللهم إن كنت تعلم إني رددت الجوهرة إليه فلتدن مني السلسلة فدنت منه فمسها فقال الناس قد سوت السلسلة بين الظالم والمظلوم فارتفعت بشؤم الخديعة وأوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة و السلام ( أن أحكم بين الناس بالبينة واليمين ) فبقي ذلك إلى قيام الساعة وكان المختار بن أبي عبيدة الثقفي من دهاة ثقيف وثقيف دهاة العرب قيل أنه وجه إبراهيم بن الأشتر إلى حرب عبيد الله بن زياد ثم دعا برجل من خواصه فدفع إليه حمامة بيضاء وقال له إن رأيت الأمر عليكم فارسلها ثم قال للناس إني لأجد في محكم الكتاب وفي اليقين والصواب أن الله ممدكم بملائكة غضاب صعاب تأتي في صور الحمام تحت السحاب فلما كادت الدائرة تكون على أصحابه عمد ذلك الرجل إلى الحمامة فأرسلها فتصايح الناس الملائكة الملائكة وحملوا فانتصروا وقتلوا ابن زياد وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال خرجت امرأتان ومعهما صبيان فعدا الذئب على صبي إحداهما فأكله فاختصما في الصبي الباقي إلى داود عليه الصلاة و السلام فقال كيف أمركما ؟ فقصتا عليه القصة فحكم به للكبرى منهما فاختصما إلى سليمان عليه الصلاة و السلام فقال ائتوني بسكين أشق الغلام نصفين لكل منهما نصف فقالت الصغرى أتشقه يا نبي الله ؟ قال نعم قالت لا تفعل ونصيبي فيه للكبرى فقال خذيه فهو ابنك وقضى به لها وجاء رجل إلى سليمان بن داود عليه الصلاة و السلام وقال يا نبي الله إن لي جيرانا يسرقون أوزي فلا أعرف السارق فنادى الصلاة جامعة ثم خطبهم وقال

في خطبته وإن أحدكم ليسرق أوز جاره ثم يدخل المسجد والريش على رأسه فمسح الرجل رأسه فقال سليمان خذوه فهو صاحبكم
وخطب المغيرة بن شعبة وفتى من العرب امرأة وكان شابا جميلا فأرسلت إليهما أن يحضرا عندها فحضرا وجلست بحيث تراهما وتسمع كلامهما فلما رأى المغيرة ذلك الشاب وعاين جماله علم أنها تؤثره عليه فأقبل على الفتى وقال لقد أوتيت جمالا فهل عندك غيره هذا ؟ قال نعم فعدد محاسنه ثم سكت فقال له المغيرة كيف حسابك مع أهلك ؟ قال ما يخفى علي منه شيء وإني لأستدرك منه أدق من الخردل فقال المغيرة لكني أضع البدرة في بيتي فينفقها أهلي على ما يريدون فلا أعلم بنفادها حتى يسألوني غيرها فقالت المرأة والله لهذا الشيخ الذي لا يحاسبني أحب إلى من هذا الذي يحصي علي مثقال الذرة فتزوجت المغيرة
وبلغ عضد الدولة أن قوما من الأكراد يقطعون الطريق ويقيمون في جبال شامخة ولا يقدر عليهم فاستدعى بعض التجار ودفع إليه بغلا عليه صندوقان فيهما حلوى مسمومة كثيرة الطيب في ظروف فاخرة ودنانير وافرة وأمره أن يسير مع القافلة ويظهر أن هذه هدية لأحد نساء الأمراء ففعل التاجر ذلك وسار أمام القافلة فنزل القوم فأخذوا الأمتعة والأموال وانفرد أحدهم بالبغل وصعد به الجبل فوجد به الحلوى فقبح على نفسه أن ينفرد بها دون أصحابه فاستدعاهم فأكلوا على مجاعة فماتوا عن آخرهم وأخذ أرباب الأموال أموالهم
وأتي لبعض الولاة برجلين قد اتهما بسرقة فأقامهما بين يديه ثم دعى بشربة ماء فجئ له بكوز فرماه بين يديه فارتاع أحدهما وثبت الآخر فقال للذي ارتاع اذهب إلى حال سبيلك وقال للآخر أنت أخذت المال وتلذذت به وتهدده فأقر فسئل عن ذلك فقال إن اللص قوي القلب والبرئ يجزع ولو تحرك عصفور لفزع منه
وقصد رجل الحج فاستودع إنسانا مالا فلما عاد طلبه منه

فجحده المستودع فأخبر بذلك القاضي أياسا فقال أعلم بأنك جئتني قال لا قال فعد إلي بعد يومين ثم إن القاضي إياسا بعث إلى ذلك الرجل فأحضره ثم قال له أعلم أنه قد تحصلت عندي أموال كثيرة لأيتام وغيرهم وودائع للناس وإني مسافر سفرا بعيدا وأريد أن أودعها عندك لما بلغني من دينك وتحصين منزلك فقال حبا وكرامة قال فاذهب وهيئ موضعا للمال وقوما يحملونه فذهب الرجل وجاء صاحب الوديعة فقال له القاضي إياس امض إلى صاحبك وقل له إدفع إلي مالي وإلا شكوتك للقاضي أياس فلما جاء وقال له ذلك دفع إليه ماله واعتذر إليه فأخذه وأتى إلى القاضي إياس وأخبره ثم بعد ذلك أتى الرجل وتبعه الحمالون لطلب الأموال التي ذكرها له القاضي فقال له القاضي بعد أن أخذ الرجل ماله منه بدا لي ترك السفر امض لشأنك لا أكثر الله في الناس مثلك ولما أراد شيرويه قتل أبيه ابرويز قال إبرويز للداخل عليه ليقتله إني لأدلك على شيء فيه غناك لوجوب حقك علي قال وما هو ؟ قال الصندوق الفلاني فلما قتله وذهب إلى شيرويه وأخبره الخبر فأخرج الصندوق فإذا فيه حق فيه حب ورقعة مكتوب فيها من تناول منه حبة واحدة افتض عشرة أبكار وكان لشيرويه غرام في الباه فتناول منه حبة فهلك من ساعته فكان أبرويز أول مقتول أخذ بثأره من قاتله ولما بايع الرشيد لأولاده الثلاثة بولاية العهد تخلف رجل مذكور من الفقهاء فقال له الرشيد لم تخلفت ؟ فقال عاقني عائق فقال اقرأوا عليه كتاب البيعة فقال يا أمير المؤمنين هذه البيعة في عنقي إلى قيام الساعة فلم يفهم الرشيد ما أراد وظن أنه إلى قيام الساعة يوم الحشر وما أراد الرجل إلا قيامه من المجلس وقال المغيرة بن شعبة لم يخدعني غير غلام من بني الحرث بن كعب فإني ذكرت امرأة منهم لأتزوجها فقال أيها الأمير لا خير لك فيها فقلت ولم ؟ قال رأيت رجلا يقبلها فاعرض عنها فتزوجها الفتى فلمته وقلت ألم تخبرني أنك رأيت رجلا يقبلها ؟ قال نعم رأيت أباها يقبلها وأتى رجل إلى الأحنف فلطمه فقال ما حملك على هذا ؟ فقال جعل

لي جعل على أن ألطم سيد بني تميم فقال لست بسيدهم عليك بحارثة ابن قدامة فانه سيدهم فمضى إليه فلطمه فقطعت يده
وقال الشعبي وجهني عبد الملك إلى ملك الروم فقال لي من أهل بيت الخلافة أنت ؟ قلت لا ولكني رجل من العرب فكتب إلى عبد الملك رقعة ودفعها إلي فلما قرأها عبد الملك قال لي أتدري ما فيها ؟ قلت لا قال فيها " العجب لقوم فيهم مثل هذا كيف يولون أمرهم غيره " قال أتدري ما أراد بهذا ؟ قلت لا قال حسدني عليك فأراد أن أقتلك فقلت إنما كبرت عنده يا أمير المؤمنين لأنه لم يترك شيئا إلا سألني عنه وأنا أجيبه فبلغ ملك الروم ما قاله عبد الملك للشعبي فقال لله أبوه ما عدا ما في نفسي ولما ولي عبد الملك بن مروان أخاه بشرا الكوفة وكان شابا ظريفا غزلا بعث معه بن زنباع وكان شيخا متورعا فثقل على بشر مرافقته فذكر ذلك لندمائه فتوصل بعض ندمائه إلى أن دخل بيت روح بن زنباع ليلا في خفية فكتب على حائط قريب في مجلسه هذه الأبيات
( يا روح من لبنيات وأرملة ... إذا نعاك لأهل المغرب الناعي )
( إن ابن مروان قد حانت منيته ... فاحتل بنفسك يا روح بن زنباع ) فتخوف من ذلك وخرج من الكوفة فلما وصل إلى عبد الملك أخبره بذلك فاستلقى على قفاه من شدة الضحك قال ثقلت على بشر وأصحابه فاحتالوا لك
ومن الحيل الطريفة ما حكي أن النبي لما فتح خيبر وأعرس بصفية وفرح المسلمون جاءه الحجاج بن علاط السلمي وكان أول من أسلم في تلك الأيام وشهد خيبر فقال يا رسول الله إن لي بمكة مالا عند صاحبتي أم شيبة ولي مال متفرق عند تجار مكة فأذن لي يا رسول الله في العود إلى مكة

أسبق خبر إسلامي إليهم فإني أخاف إن علموا بإسلامي أن يذهب جميع مالي بمكة فأذن لي لعلي أخلصه فأذن له رسول الله فقال يا رسول الله إني احتاج إلى أن أقول فقال له رسول الله قل وأنت في حل قال الحجاج فخرجت فلما انتهيت إلى الثنية ثنية البيضاء وجدت بها رجالا من قريش يتسمعون الأخبار وقد بلغهم أن رسول الله سار إلى خيبر فلما أبصروني قالوا هذا لعمر الله عنده الخبر أخبرنا يا حجاج فقد بلغنا أن القاطع يعنون محمدا قد سار إلى خيبر قال قلت إنه سار إلى خيبر وعندي من الخبر ما يسركم قال فأحدقوا حول ناقتي يقولون إيه يا حجاج ؟ قال فقلت هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط وأسر محمد وقالوا لا نقتله حتى نبعث به إلى مكة فيقتلونه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم قال فصاحوا بمكة قد جاءكم الخبر وهذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم قال فقلت أعينوني على جمع مالي من غرمائي فإني أريد أن اقدم خيبر فأغنم من ثقل محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى هناك فقاموا معي فجمعوا لي مالي كأحسن ما أحب فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر أقبل علي حتى وقف إلى جانبي وأنا في خيمة من خيام التجار فقال يا حجاج ما هذا الخبر الذي جئت به ؟ قال فقلت وهل عندك حفظ لما أودعه عندك من السر ؟ فقال نعم والله قال قلت استأخر عني حتى الفاك على خلاء فإني في جمع مالي كما ترى فانصرف عني حتى إذا فرغت من جمع كل شيء كان لي بمكة وأجمعت على الخروج لقيت العباس فقلت له احفظ علي حديثي يا أبا الفضل فإني أخشى أن يتبعوني فاكتم على ثلاثة أيام ثم قل ماشئت قال لك علي ذلك قال قلت والله ما تركت ابن أخيك إلا عروسا على ابنة ملكهم يعني صفية وقد افتتح خيبر وغنم ما فيها وصارت له ولأصحابه قال أحق ما تقول يا حجاج ؟ قال قلت أي والله ولقد أسلمت وما جئت إلا مسلما لآخذ مالي خوفا من أن أغلب عليه فإذا مضت ثلاثة فاظهر أمرك فهو والله على ما تحب قال فلما كان في اليوم الرابع لبس العباس حلة له وتخلق بالطيب

وأخذ عصاه ثم خرج حتى أتى الكعبة فطاف بها فلما رأوه قالوا يا أبا الفضل هذا والله هو التجلد لحر المصيبة قال كلا والذي حلفتم به لقد افتتح محمد خيبر وترك عروسا على ابنه ملكهم وأحرز أموالهم وما فيها فأصبحت له ولأصحابه قالوا من جاءك بهذا الخبر ؟ قال الذي جاءكم بما جاءكم به ولقد دخل عليكم مسلما وأخذ ماله وانطلق ليلحق محمدا وأصحابه ليكون معهم قالوا تفلت عدو الله أما والله لو علمنا به لكان لنا وله شأن قال ولم يلبثوا أن جاءهم الخبر بذلك فتوصل الحجاج بفطنته واحتياله إلى تخليصه وتحصيل
ماله ولما اجتمعت الاحزاب على حرب رسول الله عام الخندق وقصدوا المدينة وتظاهروا وهم في جمع كثير وجم غفير من قريش وغطفان وقبائل العرب وبني النضير وبني قريظة من اليهود ونازلوا رسول الله ومن معه من المسلمين واشتد الأمر واضطرب المسلمون وعظم الخوف على ما وصفه الله تعالى في قوله تعالى ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ) فجاء نعيم بن مسعود بن عامر الغطفاني إلى رسول الله فقال يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت فقال له رسول الله خذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان نديما لهم في الجاهلية فقال يا بني قريظة قد علمتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم قالوا صدقت لست عندنا بمتهم فقال لهم إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم فإن البلد بلدكم وبه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره وإن قريشا وغطفان قد جاؤا الحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه وأموالهم وأولادهم ونساؤهم بغير بلدكم وليسوا مثلكم لأنهم إن رأوا فرصة إغتنموها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل

ببلدكم ولا طاقة لمن به إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديهم ثقة لمن على أن تقاتلوا معهم محمدا قالوا أشرت بالرأي ثم أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب وكان إذ ذاك قائد المشركين من قريش ومن معه من كبراء قريش قد علمتم ودي لكم وفراقي محمدا وإنه قد بلغني أمر وأحببت أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموه علي قالوا نعم قال اعلموا أن معشر يهود بني قريظة قد ندموا على ما فعلوا فيما بينهم وبين محمد وقد أرسلوا إليه يقولون إنا قد ندمنا على نقض العهد الذي بيننا وبينك فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنسلمهم إليك فتضرب رقابهم ثم نكون معك على من بقي منهم فنستأصلهم فأرسل يقول نعم فان بعث إليكم يهود بني قريظة يلتمسون منكم رهائن من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا ثم خرج حتى أتى غطفان فقال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم فلما كانت ليلة السبت أرسل أبو ورؤس بني غطفان إلى بني قريظة يقولون لهم إنا لسنا بدار مقام وقد هلك الخف والحافر فاعتدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ فيما بيننا وبينه فأرسلوا يقولون لهم إن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا فإنا نخشى إن دهمتكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجال في بلدنا ولا طاقة لنا به فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان والله إن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحق فأرسلوا إلى بني قريظة يقولون إنا لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا فان كنتم تريدون القتال فأخرجوا وقاتلوا فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل إن الكلام الذي ذكره نعيم بن مسعود لحق وما يريد القوم إلا أن تقاتلوا فإن رأوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك شمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم فأرسلوا إلى قريش وغطفان إنا لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا فأبوا عليهم فخذل الله تعالى بينهم وأرسل

عليهم الريح فتفرقوا وارتحلوا وكان هذا من لطف الله تعالى أن ألهم نعيم بن مسعود هذه الفتنة وهداه إلى اليقظة التي عم نفعها وحسن وقعها
وأما ما جاء في التيقظ والتبصر في الأمور فقد قالت الحكماء من أيقظ نفسه وألبسها لباس التحفظ أيس عدوه من كيده له وقطع عنه أطماع الماكرين به وقالوا اليقظ حارس لا ينام وحافظ لا ينسام وحاكم لا يرتشى فمن تدرع بها أمن من الاختلال والغدر والجور والكيد والمكر وقيل إن كسرى أنو شروان كان أشد الناس تطلعا في خفايا الأمور وأعظم خلق الله تعالى في زمانه تفحصا وبحثا عن أسرار الصدور وكان يبث العيون على الرعايا والجواسيس في البلاد ليقف على حقائق الأحوال ويطلع على غوامض القضايا فيعلم المفسد فيقابله بالتأديب والمصلح فيجازيه الاحسان ويقول متى غفل الملك عن تعرف ذلك فليس له من الملك إلا اسمه وسقطت من القلوب هيبته
وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال خرج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ليلة من الليالي يطوف يتفقد أحوال المسلمين فرأى بيتا من الشعر مضروبا فلم يكن قد رآه بالأمس فدنا من ه فسمع فيه أنين امرأة ورأى رجلا قاعدا فدنا منه وقال له من الرجل ؟ فقال له رجل من البادية قدمت إلى أمير المؤمنين لأصيب من فضله قال فما هذا الأنين ؟ قال امرأة تتمخض قد أخذها الطلق قال فهل عندها أحد ؟ قال لا فانطلق عمر لرجل لا يعرفه فجاء إلى منزله فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب بنت فاطمة الزهراء رضي الله عنهما هل لك في أجر قد ساقه الله تعالى لك ؟ قالت وما هو ؟ قال امرأة تتمخض ليس عندها أحد قالت إن شئت قال فخذي معك ما يصلح للمرأة من الخرق والدهن وائتني بقدر وشحم وحبوب فجاءت به فحمل القدر ومشت خلفه حتى أتى البيت فقال ادخلي إلى المرأة ثم قال للرجل أوقد لي نارا ففعل فجعل عمر ينفخ

النار ويضرمها والدخان يخرج من خلال لحيته حتى أنضجها وولدت المرأة فقالت أم كلثوم رضي الله عنها بشر صاحبك يا أمير المؤمنين بغلام فلما سمعها الرجل تقول يا أمير المؤمنين ارتاع وخجل وقال واخجلتاه منك يا أمير المؤمنين أهكذا تفعل بنفسك ؟ قال يا أخا العرب من ولي شيئا من أمور المسلمين ينبغي له أن يتطلع على صغير أمورهم وكبيره فإنه عنها مسؤول ومتى غفل عنها خسر الدينا والآخرة ثم قام عمر رضي الله عنه وأخذ القدر من على النار وحملها الى باب البيت وأخذتها أم كلثوم وأطعمت المرأة فلما استقرت وسكنت طلعت أم كلثوم فقال عمر رضي الله عنه للرجل قم الى بيتك وكل ما في البرمة وفي غد ائت الينا فلما أصبح جاءه فجهزه بما أغناه به وانصرف وكان رضي الله عنه من شدة حرصه على تعرف الأحوال وإقامة قسطاس العدل وإزاحة أسباب الفساد وإصلاح الأمة يعس بنفسه ويباشر أمور الرعية سرا في كثير من الليالي حتى أنه في ليلة مظلمة خرج بنفسه فرأى في بعض البيوت ضوء سراج وسمع حديثا فوقف على الباب يتجسس فرأى عبدا أسود قدامه إناء فيه مزر وهو يشرب ومعه جماعة فهم بالدخول من الباب فلم يقدر من تحصين البيت فتسور على السطح ونزل إليهم من الدرجة ومعه الدرة فلما رأوه قاموا وفتحوا الباب وانهزموا فمسك الأسود فقال له يا أمير المؤمنين قد أخطأت وإني تائب فاقبل توبتي فقال أريد أن أضربك على خطيئتك فقال يا أمير المؤمنين إن كنت قد أخطأت في واحدة فأنت قد أخطأت فقال يا أمير المؤمنين إن كنت قد أخطأت في واحدة فأنت قد أخطأت في ثلاث فان الله تعالى قال ( ولا تجسسوا ) وأنت تجسست وقال تعالى ( وأتوا البيوت من أبوابها ) وأنت أتيت من السطح وقال تعالى ( ولا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ) وأنت دخلت وما سلمت فهب هذه لهذه وأنا تائب إلى الله تعالى على يدك أن لا أعود فأستتوبه فاستحسن كلامه

وله رضي الله تعالى عنه وقائع كثيرة مثل هذه
وكان معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه قد سلك طريق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في ذلك وكان زياد بن أبيه يسلك مسلك معاوية في ذلك حتى نقل عنه أن رجلا كلمه في حاجة له وجعل يتعرف إليه ويظن أن زيادا لا يعرفه فقال أنا فلان ابن فلان فتبسم زياد وقال له أتتعرف إلي وأنا أعرف بك منك بنفسك ؟ والله إني لأعرفك وأعرف أباك وأعرف أمك وأعرف جدك وجدتك وأعرف هذه البردة التي عليك وهي لفلان وقد أعارك إياها فبهت الرجل وارتعد حتى كاد يغشى عليه
ثم جاء بعدهم من اقتدى بهم وهو عبد الملك بن مروان والحجاج ولم يسلك بعدهما ذلك الطريق واقتفى آثار ذلك الفريق إلا المنصور ثاني خلفاء بني العباس ولي الخلافة بعد أخيه السفاح وهي في غاية الاضطراب فنصب العيون وأقام المتطلعين وبث في البلاد والنواحي من يكشف له حقائق الأمور والرعايا فاستقامت له الأمور ودانت له الجهات ولقد ابتلي في خلافته بأقوام نازعوه وأرادوا خلعه وتمردوا عليه وتكاثروا فلولا أن الله تعالى أعانه بتيقظه وتبصره ما ثبت له في الخلافة قدم ولا رفع له مع قصد أولئك القاصدين علم لكنه بث العيون فعرف من انطوى على خلافه فعالجه باتلافه واطلع على عزائم المعاندين فقط رؤوس عنادهم بأسيافه وكان بكمال يقظته يتلقى المحذور بدفعه دون رفعه ويعاجل المخوف بتفريق شمله قبل جمعه فذلت له الرقاب ولانت لخلافته الصعاب وقرر قواعدها وأحكمها بأوثق الأسباب فمن آثار يقظته وفطنته ما نقله عنه عقبة الأزدي قال دخلت مع الجند على المنصور فارتابني فلما خرج الجند أدناني وقال لي من أنت ؟ فقلت رجل من الأزد وأنا من جند أمير المؤمنين قدمت الآن مع عمر ابن حفص فقال إني لأرى لك هيبة وفيك نجابة وإني أريدك لأمر وأنا به معنى فإن كفيتنيه رفعتك فقلت إني لأرجو أن أصدق ظن أمير المؤمنين فقال أخف نفسك واحضر في يوم كذا قال فغبت

عنه إلى ذلك اليوم وحضرت فلم يترك عنده أحدا ثم قال لي اعلم أن بني عمنا هؤلاء قد أبوا إلا كيد ملكنا واغتياله ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا يكاتبونهم ويرسلون إليهم بصدقات أموالهم وألطاف بلادهم فخذ معك عينا من عندي وألطافا وكتبا واذهب حتى تأتي عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب فاقدم عليه متخشعا والكتب على ألسنة أهل تلك القرية والالطاف من عندهم إليه فإذا رآك فإنه سيردك ويقول لا أعرف هؤلاء القوم فاصبر عليه وعاوده وقل له قد سيروني سرا وسيروا معي ألطافا وعينا وكلما جبهك وأنكر أصبر عليه وعاوده واكشف باطن أمره قال عقبة فأخذت كتبه والعين والألطاف وتوجهت إلى جهة الحجاز حتى قدمت على عبد الله ابن الحسن فلقيته بالكتب فأنكرها ونهرني وقال ما أعرف هؤلاء القوم قال عقبة فلم أنصرف وعاودته القول وذكرت له اسم القرية وأسماء أولئك القوم وأن معي ألطافا وعينا فأنس بي وأخذ الكتب وما كان معي قال عقبة فتركته ذلك اليوم ثم سألته الجواب فقال أما كتاب فلا أكتب إلى أحد ولكن أنت كتابي إليهم فاقرئهم السلام وأخبرهم أن ابني محمدا وإبراهيم خارجان لهذا الأمر وقت كذا وكذا قال عقبة فخرجت من عنده وسرت حتى قدمت على المنصور فأخبرته بذلك فقال لي المنصور إني أريد الحج فإذا صرت بمكان كذا وكذا وتلقاني بنو الحسن وفيهم عبد الله فإني اعظمه وأكرمه وأرفعه وأحضر الطعام فإذا فرغ من أكله ونظرت إليه فتمثل بين يدي ووقف قدامه فإنه سيصرف وجهه عنك فدر حتى تقف من ورائه واغمز ظهره بابهام رجلك حتى يملأ عينيه منك ثم انصرف عنه وإياك أن يراك وهو يأكل ثم خرج المنصور يريد الحج حتى إذا قارب البلاد تلقاه بنو الحسن فأجلس عبد الله إلى جانبه وحادثه فطلب الطعام للغداء فأكلوا معه فلما فرغوا أمر برفعه فرفع ثم أقبل على عبد الله بن الحسن وقال يا أبا محمد قد علمت أن مما أعطيتني من العهود والمواثيق أنك لا تريدني بسوء ولا تكيد لي سلطانا قال فأنا على ذلك يا أمير

المؤمنين قال عقبة فلحظني المنصور بعينه وقمت حتى وفقت بين يدي عبد الله بن الحسن فاعرض عني فدرت من خلفه وغمزت ظهره بإبهام رجلي فرفع رأسه وملأ عينيه مني ثم وثب حتى جثى بين يدي المنصور وقال أقلني يا أمير المؤمنين أقالك الله فقال له المنصور لا أقالني الله إن لم أقتلك وأمر بحبسه وجعل يتطلب ولديه محمد وإبراهيم ويستعلم أخبارهما
قال علي الهاشمي صاحب غدائه دعاني المنصور يوما فإذا بين يديه جارية صفراء وقد دعا لها بأنواع العذاب وهو يقول لها ويلك إصدقيني فوالله ما أريد إلا الألفة ولئن صدقتيني لأصلن رحمه ولأتبعن البر إليه وإذا هو يسألها عن محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي ابن أبي طالب وهي تقول لا أعرف له مكانا فأمر بتعذيبها فلما بلغ العذاب منها أغمي عليها فقال كفوا عنها فلما رأى أن نفسها كادت تتلف قال ما دواء مثلها ؟ قالوا شم الطيب وصب الماء البارد على وجهها وأن تسقى السويق ففعلوا بها ذلك وعالج المنصور بعضه بيده فلما أفاقت سألها عنه فقالت لا أعلم فلما رأى إصرارها على الجحود قال لها أتعرفين فلانة الحجامة فلما سمعت منه ذلك تغير وجهها وقالت نعم يا أمير المؤمنين تلك من بني سليم قال صدقت هي والله أمتي إبتعتها بمالي ورزقي يجري عليها في كل شهر وكسوة شتائها وصيفها من عندي سيرتها وأمرتها أن تدخل منازلكم وتحجمكم وتتعرف أحوالكم وأخباركم ثم قال لها أتعرفين فلانا البقال ؟ قالت نعم يا أمير المؤمنين هو في بني فلان قال صدقت هو والله غلامي دفعت إليه مالا وأمرته أن يبتاع به ما يحتاج إليه من الأمتعة وأخبرني أن أمة لكم يوم كذا وكذا جاءت إليه بعد صلاة المغرب تسأله حناء وحوائج فقال لها ما تصنعين بهذا ؟ قالت كان محمد بن عبد الله بن الحسن في بعض الضياع بناحية البقيع وهو يدخل الليلة وأردنا هذا ليتخذ النساء ما يحتجن إليه عند دخول أزواجهن من المغيب فلما سمعت الجارية هذا الكلام من المنصور ارتعدت من شدة الخوف وأذعنت له بالحديث وحدثته بكل ما أراد والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الثاني والستون في ذكر الدواب والوحوش والطير والهوام والحشرات وما أشبه ذلك مرتبا على حرف المعجم
( حرف الهمزة ) ( الأسد ) من السباع والأنثى أسدة وله أسماء كثيرة فمن أشهرها أسامة والحرث وقسورة والغضنفر وحيدرة والليث والضرغام ومن كناه أبو الأبطال وأبو شبل وأبو العباس وهو أنواع منها ما وجهه وجه إنسان وشكل جسده كالبقر وله قرون سود نحو شبر ومنه ما هو أحمر كالعناب وغير ذلك وتلده أمه قطعة لحم وتستمر تحرسه ثلاثة أيام ثم يأتي أبوه فينفخ فيه فتنفرج أعضاؤه وتتشكل صورته ثم ترضعه وتستمر عيناه مغلوقة سبعة أيام ثم تفتتح ويقيم على تلك الحالة بين أبيه وأمه إلى ستة أشهر ثم يتكلف الكسب بعد ذلك وله صبر على الجوع والعطش وعنده شرف نفس يقال أنه لا يعاود فريسته ولا يأكل من فريسة غيره ولا يشرب من ماء ولغ فيه كلب وفي ذلك يقول بعضهم
( سأترك حبكم من غير بغض ... وذاك لكثرة الشركاء فيه )
( إذا وقع الذباب على طعام ... رفعت يدي ونفسي تشتهيه )
( وتجتنب الأسود ورود ماء ... إذا كان الكلاب يلغن فيه ) وإذا أكل نهش نهشا وريقه قليل جدا و لذلك يوصف بالبحر وعنده شجاعة وجبن وكرم فمن شجاعته الإقدام على الأمور وعدم الاكتراث بالغير ومن جبنه أنه يفر من صوت الديك والسنور

ويتحير عند رؤية النار ومن كرمه انه لا يقرب المرأة خصوصا إذا كانت حائضا وقيل أربع عيون تضئ بالليل عين الأسد وعين النمر وعين السنور وعين الأفعى
وروي أنه لما تلا رسول الله ( والنجم إذا هوى ) قال عتبة بن أبي لهب كفرت برب النجم يعني نفسه فقال رسول الله اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ينهشه فخرج مع أصحابه في عير الى الشام حتى إذا كانوا بمكان يقال له الزرقاء زأر الأسد فجعلت فرائصه ترتعد فقالوا له من أي شئ ترتعد فرائصك فوالله ما نحن وأنت إلا سواء ؟ فقال ان محمدا دعا علي و والله ما أظلت السماء من ذي لهجة أصدق من محمد ثم وضعوا العشاء فلم يدخل يده فيه ثم جاء النوم فحاطوا أنفسهم بمتاعهم وجعلوه بينهم وناموا فجاء الأسد يتهمس وشمهم رجلا رجلا حتى إنتهى اليه فضغطه ضغطة كانت إياها فسمع وهو بآخر رمق يقول ألم أقل لكم إن محمدا أصدق الناس ولبعضهم في الأسد
( عبوس شموس مصلخد مكابد ... جريء على الأقران للقرن قاهر )
( براثنه شثن وعيناه في الدجى ... كجمر الغضى في وجهه الشر ظاهر )
( يديل بأنياب حداد كأنها ... إذا قلص الأشداق عنها خناجر ) فائدة إذا أقبلت على واد مسبع فقل أعوذ بدانيال والجب من شر الأسد وسبب ذلك على ما قيل إن بختنصر رأى في نومه أن هلاكه يكون على يد مولود فجعل يأمر بقتل الأطفال فخافت أم دانيال عليه فجاءت الى بئر فألقته فيه فأرسل الله له أسدا يحرسه وقيل إن بختنصر توهم ذلك في دانيال فضري له أسدين وجعلهما في الجب وألقاه

فلم يؤذياه وصار يبصبصان حوله ويلحسانه فأقام ما شاء الله تعالى أن يقيم ثم اشتهى الطعام والشراب فأوحى الله تعالى إلى أرمياء بالشأم أن اذهب الى أخيك دانيال يحب كذا بمكان كذا قال أرمياء فسرت إلى ذلك الموضع فلما وقفت على رأس الجب ناديته فعرفني فقال من أرسلك إلي ؟ قلت أرسلني الله إليك بطعام وشراب فقال الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره والحمد لله الذي لا يخيب من قصده والحمد لله الذي وثق به لا يكله إلى غيره والحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحسانا وبالصبر نجاة وغفرانا والحمد لله الذي يكشف ضرنا بعد كربنا والحمد لله الذي هو ثقتنا حين تسوء ظنوننا بأعمالنا والحمد لله الذي هو رجاؤنا حين تنقطع الحيل عنا قال ثم صعد يه أرمياء من الجب وأقام عنده مدة ثم فارقه ورجع وحكي أن يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام مر بقبر دانيال عليه الصلاة و السلام فسمع منه صوتا يقول سبحان من تعزز بالقدرة وقهر العباد بالموت قال بعض الصالحين من قال هذه الكلمات استغفر له كل شئ
وحكي أن إبراهيم ين أدهم كان في سفره ومعه رفقة فخرج عليهم الأسد فقال لهم قولوا أللهم احرسنا بعينك التي لا تنام واحفظنا بركنك الذي لا يرام وارحمنا بقدرتك علينا فلا نهلك وأنت رجاؤنا يا ألله يا ألله يا ألله قال فولى الأسد هاربا وقيل لما حمل نوح عليه الصلاة و السلام في سفينته من كل زوجين اثنين قال أصحابه كيف نطمئن ومعنا الأسج ؟ فسلط الله عليه الحمى وهي أول حمى نزلت في الأرض ثم شكوا اليه المعذرة فأمر الله تعالى الخنزير لا فعطس فخرج منه الفأر فلما كثر وزاد ضرره فشكوا ذلك لنوح عليه الصلاة واللام فأمر الله سبحانه وتعالى الأسد فعطس فخرج منه الهر فحجب الفأر عنهم ويحرم أكل السبع لنهيه عليه الصلاة و السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير

خواصه فمن خواصه أن صوته يقتل التماسيح وشحمه من طلى به يده لم يقربه سبع ومرارة الذكر منه تحل المعقود ولحمه ينفع من الفالج واذا وضعت قطعة من جلده في صندوق لم يقربه سوس ولا أرضة واذا وضع على جلد غيره من السباع تساقط شعره وهو من الحيوان الذي يعيش ألف سنة على ما ذكر وعلامة ذلك كثرة سقوط أسنانه
( الإبل ) قيل ما خلق الله شيئا من الدواب خير من الإبل إن حملت أثقلت وإن سارت أبعدت وإن حلبت أروت وإن نحرت أشبعت وفي حديث ( الإبل عز لأهلها والغنم بركة والخيل معقود بنواصيها الخير الى يوم القيامة ) وهي من الحيوان العجيب وان كان عجبه قد سقط لكثرة مخالطته الناس وقد أطاعها الله للآدمي وغيره حتى قيل ان قطارا كان ببعض حبله دهن فمرت فأرة فجذبته فسار معها القطار بواسطة جذبها له وهي مراكب البر ولذلك قرنها الله تعالى بالسفن فقال تعالى ( وعليها وعلى الفلك تحملون ) ولما كانت مراكب البر والبر فيه ما ماؤه قليل وما ماؤه كثير جعل الله تعالى لها صبرا على العطش حتى قيل إنه يرتع ظمؤها الى عشر وفي الحديث ( لا تسبوا الإبل فانها من فنفس الله تعالى أي مما يوسع به على الناس ) حكاه ابن سيده والذي يعرف لا تسبوا الريح فانها من نفس الرحمن قال أصحاب الكلام في طبائع الحيوان ليس لشيء من الطحول مثل ما للجمل عند هيجانه فإنه يسوء خلقه فيظهر زبده ويقل رغاؤه فلو حمل عليه ثلاثة أضعاف عادته حمل ويقل أكله ويخرج له عند رغرئه شقشقة لا تعرف من أي شيء هي من أجزائه وهو من الأحرار حتى قيل إنه لا ينزو لا على أمه ولا على أخته حتى قيل إن بعض العرب ستر ناقته بثوب ثم أرسل عليها ولدها فلما عرف ذلك عمد إلى أحليله فأكله ثم حقد على صاحبه حتى قتله وليس له مرارة ولذلك كثر صبره وقيل يوجد على كبده شيء رقيق يشبه المرارة ينفع الغشاوة

في العين كحلا وفي معدته قوة حتى أنها تهضم الشوك وتستطيبه ويحل أكله بالنص والإجماع وأما تحريم يعقوب عليه الصلاة و السلام أكلها فباجتهاد منه وذلك أنه كان يسكن البوادي فاشتكى عرق النسا فلم يجد ما يل ائمه إلا ترك أكل لحومها فلذلك حرمها وأما انتقاض الوضوء بأكل لحمها فاختلف العلماء في ذلك فذهب الأكثرون إلى أنه لا ينقض وعليه الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأبي وابن عباس وأبوا الدرداء وأبو طلحة وعامر بن ربيعة وأبو أمامة وجماهير التابعين وبه أخذ مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وخالف في ذلك أحمد وإسحاق ويحيى بن يحيى وابن المنذر وابن خزيمة واختاره البيهقي وهو مذهب الشافعي القديم
خواصه قال ابن زهير وغيره أكل لحمه يزيد في الباه وفي الإنعاظ بعد الجماع وبوله يفيق السكران ووبره إذا أحرق وذر على دم سائل قطعه وقراده إذا ربط على كم عاشق يزول عشقه
( الأرضة ) بفتح الهمزة والراء دويبة صغيرة كنصف العدسة تأكل الخشب والورق ولما كان فعلها في الأرض أضيف اسمها إليها قال القزويني إذا أتى على الأرضة سنة نبت لها جناحان طويلان تطير بهما ويقال إنها الدبةالتي دلت الجن على موت سليمان عليه الصلاة و السلام ومن شأنها أنها تبني لنفسها بيتا من عيدان تجمعها مثل بيت العنكبوت منخرطا من أسفله إلى أعلاه وله في إحدى جهاته باب مربع ومنه تعلم الأوائل وضع النواويس لموتاهم والنمل عدوها وهو أصغر منها فيأتي من خلفها ويحتملها ويمشي بها إلى حجره لأنه إذا أتاها مستقبلا لا يغلبها
( الأرنب ) حيوان شبه العناق قصير اليدين طويل الرجلين يطأ الأرض على مؤخر قدميه وهو اسم يطلق على الذكر والأنثى وله شدة شبق وربما تسفد وهي حبلى ويكون عاما ذكرا وعاما أنثى ومن عجائبها أنها

تنام وعيناها مفتوحتان فيأتي الصياد فيظنها مستيقظة قيل من رأى أرنبا عند خروجه من بيته أول ما يخرج أو رآه عند قيامه من نومه واصطبح به لم تقض له حاجة في ذلك اليوم ومن عجيب أمره أن تحمل الأنثى منه باثنين وثلاثة وأربعة ولا تلد إلا تحت الأرض خوفا على أولادها من الإنسان وتحفر تحت الأرض الحفائر القوية حتى أنها تخرب الجدران وعند ولادتها ينتحل شعرها وهي تحضن الأولاد إلى عشرين يوما ومن طبعه إنه أبله وفيه قوة وشدة وفي سفاده حالة نزوة يصرخ الذكر والأنثى كالسنانير فإدا وقع منع الإنزال وقع على الأرض قليل الحركة وعند سفاده تدير له وجهها فإذا ملكها بعد ذلك فإنها تجري به وهو راكب عليها ويجري معها
فائدة ذكر ابن الأثير في الكامل أن صديقا له أصطاد أرنبا وله أنثيان وذكر وفرج وقيل التقطت الأرنب تمرة فاختلسها الثعلب فأكلها فانطلقا يتخاصمان إلى الضب فقالت الأرنب يا أبا حسل فقال سميعا دعوت قالت أتيناك لنختصم قال عادلا وحكيما قالت فاخرج إلينا قال في بيته يؤتى الحكم قالت إني وجدت تمرة حلوة قال فكليها قالت اختلسها الثعلب قال لنفسه بغي الخير قالت فلطمته قال بحقك أخذت قالت فلطمني قال اقتص قالت فاقض بيننا قال قد قضيت فذهبت أقواله أمثالا
ومن ذلك ما حكي أن عدي بن أرطأة أتى شريحا القاضي في مجلس حكمه فقال له أين أنت ؟ قال بينك وبين الحائط قال فاسمع مني قال للاستماع جلست قال إني تزوجت امرأة قال بالرفاه والبنين قال فشرط أهلها أن لا أخرجها من بينهم قال أوف لهم بالشرط قال فأنا أريد الخروج قال الشرط أملك قال أريد أن أذهب قال في حفظ الله قال فاقض بيننا قال قد فعلت قال فعلى من قضيت ؟ قال على ابن أمك قال بشهادة من ؟ قال ؟ بشهادة ابن أخت خالك
الخواص قال الجاحظ من علق عليه كعب أرنب لم تضره عين ولا

سحر وأكل دماغه يبرئ من الارتعاش العارض من البرد وإن شربت المرأة الحامل أنفحة الذكر ولدت ذكرا وإن شربت أنفحة الأنثى ولدت أنثى وإن علقت عليها زبلها لم تحمل والأرنب البحري من السموم فلا يحل أكله
( سقنقور ) دابة شكلها كالوزغة إذا أخذت وسلخت وملحت وشربت منها مثقال زاد في الباه وهر من الأشياء النفيسة عند أهل الهند يقال إنه يهدى إليهم فيذبحونه بسكين من الذهب ويحشونه من ملح مصر فإذا وضعوا منه مثقالا على لحم أو بيض نفع نفعا عظيما ( الأفعى ) الأنثى من الحيات والذكر أفعوان وهو يعيش ألف سنة على ما يقال ويعرف بالشجاع والأسود وهو أشر الحيات وأشرها حيات وأفاعي سجستان ومن عجيب ما يحكى عنها أنها لدغت إنسانا في رجله فانصدعت جبهته
وحكي أنها نهشت ناقة وفصيلها يرضع فمات قبل أمه وقيل لما دخل شبيب بن شبة على المنصور قال له يا شبيب أدخلت سجستان ؟ فقال له نعم قال صف لي أفاعيها قال يا أمير المؤمنين هي دقاق الأعناق صغار الأذناب مقلصة الرؤوس رتش برش كأنما كسين أعلام الحبرات كبارهن حتوف وصغارهن سيوف وقيل إنها تتدفن في التراب أربعة أشهر في البرد ثم تخرج وقد أظلمت عيناها فتمر بشجر الرازيانج وهو الشمر الأخضر فتحك عينيها به فيرجع إليها بصرها فسبحان من ألهمها ذلك وقال الزمخشري إذا عميت الأفعى بعد ألف سنة ألهما الله تعالى أن تأني البساتين وتلقي نفسها على هذه الشجرة وتحك عينيها بها فتبصر وقيل إذا قطع ذنبها عاد منا كان وإذا قلع نابها عاد بعد ثلاثة أيام وهي أعدي عدو للانسان وقال بعضهم رأيت حية قد ابتلعت كبشا عظيم القرنين فجعلت تضرب به الحجارة يمينا ويسارا حتى كسرت القرنين وابتلعته وقرنيه والله تعالى أعلم وقيل إذا قطع ذنب الحية تعيش إن سلمت من الذر وقيل إن بالحبشة حيات لها أجنحة تطير بها وقيل إن جلدها ينسلخ عنها في

كل سنة مرة وقيل إن الجلد لا ينسلخ وإنما الذي ينسلخ قشر فوق الجلد وغلاف يخلق لها كل عام وهي تبيض على عدد أضلاعها أي ثلاثين بيضة فيجتمع عليها النمل فيفسدها بقدرة الله تعالى إلا نادرا ومن عجيب أمرها أنها لا ترد المرء ولا ترده ولكنها إذا شمت رائحة الخمر فلا تكاد تصبر عنه مع أنه سبب هلاكها لأنها إذا شربت سكرت فتعرضت للقتل والذكر لا يقيم في الموضع وإنما تقيم الأنثى لأجل فراخها حتى تكتسب قوة فإذا قويت أخذتهم وإنسابت فأي جحر وجدته دخلت فيه وأخرجت صاحبه منه وعينها لا تدور وإذا قلعت عادت ومن عجيب أمرها أنها تهرب من الرجل العريان وتفرح بالنار وتقرب منها وتحب اللبن حبا شديدا وإذا دخلت بصدرها في جحر لا يستطيع أقوى الناس إخراجها منه ولو قطعت قطعا وليس لها قوائم ولا أظفار وإنما تقوى بظهرها لكثرة أضلاعها
وحكى عمر بن يحيى العلوي قال كنا في طريق مكة فأصاب رجلا منا استسقاء فاتفق العرب أن سرقوا منا فطار جمال على أحدها ذلك الرجل قال ثم بعد أيام جمعتنا المقادير فوجدته قد برئ فسألناه عن حاله فقال إن العرب لما أخذوني جعلوني في أواخر بيوتهم فكنت في حالة أتمنى فيها الموت وبينما أنا كذلك إذ أتوا يوما بأفاعي اصطادوها وقطعوا رؤوسها وأذنابها وشووها بعد ذلك فقلت في نفسي هؤلاء إعتادوها فلا تضرهم فلعلي إن أكلت منها مت فاسترحت فاستطعمتهم فأطعموني واحدة فلما استقرت في بطني أخذني النوم فنمت نوما ثقيلا ثم استيقظت وقد عرقت عرقا شديدا واندفعت طبيعتي نحو مائة مرة فلما أصبحت وجدت بطني قد ضمر وقد انقطع الألم فطلبت منهم مأكولا فأكلت وأقمت عندهم أياما فلما نشطت ووثقت من نفسي بالحركة أخذت في الطريق مع بعضهم وأتيت الكوفة
فائدة قيل إن الريحان الفارسي لم يكن قبل كسرى وإنما وجد في زمانه وسببه أن كسرى كان ذات يوم جالسا في بعض متفرجاته إذا

جاءته حية فانسابت ين يديه وتمرغت وصارت تتقلق مثل الذي يشتكي فأراد بعض الجند قتلها فمنعهم الملك ثم قال لهم انظروا أمرها فلما سمعت ذلك انسابت بين يديه فأمرهم أن يتبعوها إلى المكان الذي تريده قال فجاءت إلى بئر وصارت تنظر فيه قال فنظروا فإذا فيه حية عظيمة وعلى ظهرها عقرب أسود فنخسها بعضهم برمح فقتلها وتركوها ورجعوا فأخبروا الملك بذلك فلما كان الغد جاءت الحية للملك وفي فمها بزر فنثرته بين يدي الملك وذهبت فقال الملك إنها أرادت مكافأتنا اجعلوه في الأرض لننظر ما يكون من أمره قال ففعلوا ذلك فطلع منه الريحان قال فلما انتهى أمره أتوا به إلى الملك قال وكان به زكام فشمه فبرئ
لطيفة من غريب ما اتفق لعماد الدولة أنه لما ملك شبراز اجتمع عليه أصحابه وطلبوا منه مالا ولم يكن عندهم ما يرضيهم به فاغتم لذلك ونام مستلقيا على قفاه مفكرا في ذلك وإذا بحية عظيمة خرجت من سقف ذلك المجلس ودخلت في سقف آخر قال فطلب سلما وصعد لينظر المكان الذي خرجت منه فلما رآه وجد كوة فنطر في داخلها فإذا هي مطمورة فدخلها فوجد فيها صندوقا فيه خمسمائة ألف دينار فأمر بإخراجه وإنفاقه على عسكره
ومن ألطف ما اتفق له أيضا أنه كان بتلك البلد خياط أطروش وكان الملك الذي قبله قد أودع عنده وديعة مال قال فطلبه عماد الدولة ليخيط له على عادته لأنه هو الذي يخيط للملوك قال فتوهم الأطروش أنه غمز عليه بسبب الوديعة فلما حضر بين يدي عماد الدولة قال له إن فلانا الملك لم يدع عندي سوى اثني عشر صندوقا ولم أدر ما فيها فأمر باحضارها فأحضرها فأخذها عماد الدولة ووسع بها على جنده وتعجب من هاتين القضيتين فكانت هذه الأسباب من دلائل السعادة له وأمر النبي بقتل الحيات بعد أن تنذر ثلاث مرات وقيل ثلاثة أيام وأما سكان البيوت

فالانذار لها متعين وفي الحديث " من قتل حية فكأنما قتل مشركا ومن لبس خفا فلينفضه ومن آوى إلى فراشه فلينظفه
الخواص يقال أن دمها يجلو البصر وقلبه إذا علق على إنسان لا يؤثر فيه السحر وضرسها إذا علق على من به وجع الضرس سكن الأيمن للأيمن والأيسر للأيسر ولحمها قال بقراط الحكيم من أكله أمن من الأمراض الصعبة
( الأنيس ) وتسميه الرماة الأنسية لأنه من طيور الواجب عندهم وهو طير له لون حسن غذاؤه الفاكهة ومأواه الأنهار والبساتين والغياض وله صوت حسن كالقمري ( الأوز ) طير السباحة وفراخه تخرج من البيضة تسبح
الخواص في جوفه حصاة تنفع المبطون ودهنه ينفع من ذات الجنب وداء الثعلب إذا طلي به ولسانه ينفع لقطار البول وغذاؤه جيد إلا أنه بطيء الهضم ( الإيل ) بتشديد الياء المكسورة ذكر الوعل وله أسماء باختلاف اللغات وهو يشبه بقر الوحش وإذا خاف من الصياد رمى بنفسه من رأس الجبل ولا يتضرر بذلك وإذا لسعته حية ذهب إلى البحر فأكل السرطان فيشفى
خواصه إن السمك يحب رؤيته وهو يحب ذلك ولذلك أكثر ما يكون بقرب البحر والصيادون يعرفون ذلك فيلبسون جدله ليراهم السمك فيأتي لهم وهو مولع بأكل الحيات وربما لسعته فتسيل دموعه تحت محاجر عينيه حتى تصير نفرتين من كثرة ذلك ثم تجمد تلك الدموع فتصير كالشمع فتؤخذ وتجعل دواء للسم وهو الذي يسمى بالبنزهير الحيواني وأجوده الأصفر وأكثر ما يكون ببلاد الهند والسند وفارس وإذا وضع على لسعة الحيات أبرأها وإن وضعه الملسوع في فيه نفعه وهذا الحيوان لا تنبت قرناه إلا بعد سنتين وينبتان في أول الأمر مستقيمين

ثم بعد ذلك يحصل فيهما التشعب ولا يزال يزيد إلى ست سنين فحينئذ يصيران كنخلتين ثم بعد ذلك يلقيهما في كل سنة مرة ثم ينبتان قال أرسطو وهذا النوع يصاد بالصفير والأصوات المطربة فإنه يحب الطرب والصيادون يشغلونه بذلك ويأتونه من ورائه فإذا رأوه قد استرخت أذناه وثبوا عليه وقرنه مصمت واحليله من عصب لا عظم فيه ولا لحم وهو من الحيوان الذي يزيد في السمن فإذا حصل له ذلك فر من مكانه خوفا من الصيادين وحكمه حل أكله
الخواص إذا بخر بقرنه البيت طرد الهوام التي فيه وإذا أحرق واستاك به الذي به صفرة الأسنان زال ذلك عنه ومن علق عليه شيء منه ذهب نومه ومن خواصه أن دمه يفتت الحصاة التي بالمثانة شربا والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
( حرف الباء الموحدة ) ( باز ) كنيته أبو الأشعث وهو من أشد الحيوان تكبرا وأضيقها خلقا قال القزويني إنها لا تكون إلا أنثى وذكرها من غيرها إما من جنس الحدأة أو الشواهين ولأجل ذلك تختلف ألوانها وهو أصناف منها البازي والباشق والشاهين والبيدق والبقر والبازي آخرها مزاجا لأنه لا يصبر على العطش فلذلك لا يفارق الماء والأشجار المتسعة والظل والظليل وهو خفيف الجناح سريع الطيران تكثر أمراضه من كثرة طيرانه لأنه كلما طار انحط لحمه وهزل وأحسن أنواعه ما قل ريشه واحمرت عيناه مع حدة فيهما قال الشاعر
( لو استضاء المرء في إدلاجه ... بعينه كفته عن سراجه ) ودونه الأزرق الأحمر العينين والأصفر دونهما ومن صفاته المحمودة أن يكون طويل العنق عريض الصدر بعيد ما بين المنكبين شديد الانحطاط من الجو غليظ الذراعين مع قصر فيهما

لطيفة من عجيب أمره أن الرشيد خرج ذات يوم للصيد فأرسل بازا فغاب قليلا ثم أتي وفي فمه سمكة فأحضر الرشيد العلماء وسألهم عن ذلك فقال مقاتل يا أمير المؤمنين روينا عن جدك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال إن الجو معمور بأمم مختلفة الخلق وفيه دواب تبيض وتفرخ على هيئة السمك لها أجنحة ليست بذوات ريش فأجاز مقاتلا على ذلك وأكرمه ( باله ) سمكة عظيمة قال القزويني يقال إن طولها يبلغ خمسمائة ذراع وقال غيره خمسون ويقال لها العنبر وهي تظهر في بعض لأحايين لأصحاب المراكب فإذا رأوها طبلوا بالطبول حتى أنها تنفر لأن لها جناحين كالقناطر إذا نشرتها أغرقتهم فإذا بغت على حيوان البحر وزاد شرها أرسل الله عليها سمكة نحو الذراع تلتصق بأذنها ولا خلاص لها منهافتنزنل إلى قعر البحر وتضرب رأسها به حتى تموت ثم تطفو بعد ذلك فيقذفها الريح إلى الساحل فيأخذها أهله ويشقون جوفها ويستخرجون منها العنبر ( ببغاء ) هي أصناف كثيرة منها الأخضر والرمادي والأصفر والأبيض يتخذها الملوك والرؤساء لحسن لونها وصوتها وفصاحتها
حكي أنه أهدي لمعز الدولة درة بيضاء سوداء الرجلين والمنقار ويقال إن نوعا منها يقرأ القرآن
الخواص من أكل لسانها تفصح وإذا جفف دمها وجعل بين الصديقين حصلت بينهما الخصومة وزبلها يخلط بماء الحصرم ويكتحل به ينفع من الرمد وظلمة البصر ( بج ) طائر أبيض اللون يميل إلى الصفرة طويل المنقار كبير البطن أكثر أكله السمك ( يح ) طائر لطيف يأوي أطراف الماء وهو خلقة شريفة لم يوجد غالبا إلا اثنين فقط ( براق ) هو الدابة التي ركبها النبي وهو دون البغل وفوق الحمار أبيض اللون ( برذون ) نوع من الخيل دون الفرس العربي وفي الحديث أن النبي ركبه وكذا عمر رضي الله تعالى عنه فلما ركبه عمر جعل يتخلخل به فنزل عنه وضرب وجهه وقال لا أعلم والله علمك هذه الحيلاء ولم

يركب بزذونا قبله ولا بعده وكنيته أبو الأخطل لطول ذنبه وأنشد السراج الوراق في ذم البراذين يقول
( لصاحب الأحباس برذونة ... بعيدة العهد عن القرط )
( إذا رات خيلا على مربط ... تقول سبحانك يا معطي )
( تمشي إلى خلف إذا ما مشت ... كأنما تكتب بالقبطي )
الخواص إذا شربت امرأة دمه لم تحبل أبدا وزبله يخرج المشيمة والجنين الميت وإذا جفف وذر منه على من به الرعاف انقطع رعافه وكذا الجرح ( برغوث ) تفتح منه الباء وتضم وكنيته أبو طامر وأبو عدي وأبو وثاب وهو يثب إلى ورائه
حكي أنه يعرض له الطيران كالنمل وهو يطيل السفاد ويبيض ويفرخ وأصله أولا من التراب لا سيما في الأماكن المظلمة وسلطانه في أواخر الشتاء وأول فصل الربيع ويقال أنه على صورة الفيل وله أنياب وخرطوم وقال بعضهم دبيبها من تحتي أشد من عضها وليس ذلك بدبيب ولكن البرغوث خبيث يستلقي على ظهره ويرفع قوائمه فيزغزغ بها فيظن من لا علم له أنه يمشي تحت جنبيه وكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يفلي ثوبه فيلتقط البراغيث ويدع القمل فقال له أنس في ذلك فقال أبدأ بالفرسان وأكر على الرجالة وأنشد أعرابي
( ليل البراغيث أعياني وأنصبني ... لا بارك الله في ليل البراغيث )
( كأنهن وجلدي إذ خلون به ... أيتام سوء أغاروا في المواريث ) وقال أبو الرماح الأزدي
( تطاول بالفسطاط ليلي ولم يكن ... بوادي الغضى ليلي علي يطول )
( تؤرقني حدب قصار أذلة ... وإن الذي يؤذينه لذليل )

( إذا جلت بعض الليل منهن جولة ... تعلقن في رجلي حيث أجول )
( إذا ما قتلناهن أضعفن كثرة ... علينا ولا ينعى لهن قتيل )
( ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وليس لبرغوث علي سبيل ) وقال ابن أيبك الصفدي
( أشكو إلى الرحمن ما نالني ... من البراغيث الخفاف الثقال )
( تعصبوا بالليل لما دروا ... أني تقنعت بطيف الخيال ) ولا يسب البرغوث لما ورد أن النبي سمع رجلا يسب برغوثا فقال لا تسبه فإنه أيقظ نبيا إلى الصلاة الفجر
فائدة سئل مالك عن البرغوث من يقبض روحه فقال أله نفس قيل نعم قال الله يتوفى الأنفس حين موتها ولقد شكا عامل افريقية إلى عمر بن عبد العزيز شر الهام فكتب إليه إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليقرأ ( وما لنا ألا نتوكل على الله ) الآية وقال حنين بن إسحاق الحيلة في دفع البرغوث أن تأخذ شيئا من الكبريت فتدخن به في البيت فإنها تفر من ذلك وقيل يرش البيت بماء السذاب وقيل مشاق المراكب يحرق في البيت مع قشور النارنج ( بعوض ) قيل إنه أكثر أعضاء منه فان للفيل أربعة أرجل وللبعوض ستة ويزيد عليه بأربعة أجنحة وله خرطوم مجوف نافذ فإذا طعن به جسد إنسان استقي الدم وقذف به إلى جوفه فهو له كالبلعوم والحلقوم ومما ألهمه الله تعالى أنه إذا جلس على عضو انسان يتبع مسام العروق فإنها أرق وأسرع له في اخراج الدم وعنده شره في مصه حتى قيل إنه لا يمص شيئا فيتركه باختياره إلى أن ينشق أو يطار ومن عجيب أمره أنه ربما قتل البعير وغيره من ذوات الأربع فيتركه طريحا وقال الجاحظ من علم البعوض إن وراء جلد الجاموس دما وأن ذلك الدم غذاء لها وأنها إذا طعنت في ذلك الجلد الغليظ نفذ فيه خرطومها مع ضعفه ولو أنك طعنت فيه بمسلات شديدة المتن رهيفة الحد لانكسرت فسبحان من رزقها على ضعفها بقوته وقدرته قال بعضهم

( أقول لنازل البستان طوبى ... لعيشك لم تشك فيه البعوض )
( يململه فليس له قرار ... ويثخنه فليس له نهوض )
( حماه قرصه وطنينه أن ... يبيت وعينه فيها غموض )
( كأنك حين تهدى بالأغاني ... تكر وفي مسامعك العروض )
ومن الحكم التي أودعها الله تعالى إياها أن جعل الله فيها قوة الحافظة والفكر وحاسة اللمس والبصر والشم ومنفذ الغذاء وجوفا وعروقا ومخا وعظاما فسبحان من قدر فهدى ولم يترك شيئا سدى وقال الزمخشري في تفسير سورة البقرة في ذلك
( يا من يرى مد البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل )
( ويرى مناط عروقها في نحرها ... والمخ من تلك العظام النحل )
( ويرى خرير الدم في أوداجها ... متنقلا من مفصل في مفصل )
( ويرى وصول إذا الجنين ببطنها ... في ظلمة الأحشا بغير تمقل )
( ويرى مكان الوطء من أقدامها ... في سيرها وحثيثها المستعجل )
( ويرى ويسمع حس ما هو دونها ... في قاع بحر مظلم متهول )
( امنن علي بتوبة تمحو بها ... ما كان مني في الزمان الأول ) ( بغل ) معروف وكنيته أبو قموص وأبو حرون وله كنى غير ذلك كثيرة وهو مركب من الفرس والحمار ولذلك صار له صلابة الحمار وعظم الخيل وهو عقيم لا نسل له روى ابن عساكر في تاريخ دمشق عن علي كرم الله وجهه أنها كانت تتناسل فدعا عليها إبراهيم الخليل لأنها كانت تسرع في نقل الحطب لنار

المنجنيق فقطع الله نسلها وهو أشر الطباع لأنه تجاذبه الاعراق المتضادة والاخلاق المتباينة والعناصر المتباعدة ومن العجيب أن كل عضو فرضته منه كان بين الفرس والحمار
الخواص يقال إن حافر البغلة السوداء ينفع لطرد الفار إذا بخر به البيت وإذا سحق حافره بعد حرقه وخلط بدهن الآس وجعل على رأس الاقرع نبت شعره وزبله إذا شمه المزكوم زال زكامه على ما ذكر
( بقر ) هو حيوان شديد القوة خلقه الله تعالى لمنفعة الانسان وهو أنواع الجواميس وهي أكثر ألبانا وكل حيون انائه أرق أصواتا من ذكوره إلا البقر وأنثاه يضربها الفحل في السنة مرة وإذا اشتد شبقها تركت المرعى وذهبت وإذا طلع عليها الفحل التوت تحته إذا أخطأ المجرى لشدة صلابة ذكره قال المسعودي رأيت بالري البقر تحمل كالبعير فتبرك على ركبتيها ثم تثور بالحمل ( عجيبة ) حكي في الأحياء أن شخصا كان له بقرة وكان يشوب لبنها بالماء ويبيعه فجاء السيل في بعض الأودية وهي واقفة ترعى فمر عليها فغرقها فجلس صاحبها يندبها فقال لها بعض بنيه يا أبت لا تندبها فان المياه التي نخلطها بلبنها اجتمعت فغرقتها
فائدة ذكر ابن الفضل في كتاب عن وهب ابن منبه أنه قال لما خلق الله تعالى الأرض ماجت واضطربت كالسفينة فخلق الله تعالى ملكا في نهاية العظم والقوة وأمره أن يدخل تحتها ويجعلها على منكبيه فدخل وأخرج يدا من المشرق ويدا من المغرب وقبض على أطراف الأرض وأمسكها ثم لم يكن لقدميه قرار فخلق الله تعالى صخرة من ياقوتة حمراء في وسطها سبعة آلاف ثقب فخرج من كل ثقب بحر لا يعلم عظمه إلا الله تعالى ثم أمر الصخرة أن تدخل تحت قدمي الملك ثم لم يكن للصخرة قرار فخلق الله تعالى ثورا عظيما يقال له كيوثاء له أربعة آلاف عين ومثلها أنوف وآذان وافواه وألسنة وقوائم ما بين كل قائمتين منها مسيرة خمسمائة عام وأمر الله تعالى هذا الثور فدخل تحت الصخرة وحملها على ظهره وقرونه ثم لم يكن للثور قرار فخلق الله تعالى حوتا يقال له يهموت ثم أمره الله تعالى أن

يدخل تحته ثم جعل الحوت على ماء ثم جعل الماء على الهاء ثم جعل الهواء على ماء ايضا ثم جعل الماء على الثرى على الظلمة ثم انقطع علم الخلائق
الخواص شحم البقر إذا خلط بزرنيخ أحمر طرد العقارب وإذا طلي به إناء اجتمعت البراغيث إليه وإذاشرب لبنها زاد في الانعاظ وقرنها إذا سحق وجعل في طعام صاحب الحمى فأكله زالت الحمى ومرارتها إذا خلطت بماء الكراث نفعت من البواسير طلاء وإذا طلي به عل الأثر الأسود في البدن ازاله وخصيه الفحل إذا جففت وسحقت وجعلت في عسل وأكلت فانها تزيد في الباه وشعرها إذا احرق واستيك به نفع من وجع الاسنان وإذا خلط مع السكنجيين وشرب نفع من الطحال على ما ذكر ( بومة ) وكنيتها أم الخراب وأم الصبيان ومن طبعها أن تدخل على كل ير في وكره وتأكل أفراخه ولمعاداة الطيور لها يجعلها الصيادون في أشراكهم حتى يقع عليها الطير ونقل المسعودي عن الجاحظ أن البرمة لا تخرج بالنهار خوفا من العين لأنها تظن أنها حسناء وهي أصناف وكلها تحب الخلوة بنفسها
الخواص من خواصها أنها تنام باحدى عينيها والاخرى مفتوحة فإذا أخذت المفتوحة وجعلت تحت فص خاتم فمن لبسه لم ينم ما دام في يده وعكسها المغموضة وإذا أردت معرفة ذلك فالقهما في الماء فالراسبة للنوم والطافية لليقظة وإذا أخذ قلب البومة وجعل على الي اليسرى من المرأة وهي نائمة تحدثت بجميع بجميع ما فعلته في نومها ( بوقير ) طير أبيض يأتي منه في كل سنة طائفة إلى جبل بالصعيد يقال له جبل الطير فيه كوة فتجخهل من تلك الكوة فيمسك منها شيء فان أمسكت واحدة كان ذل العام متوسط الخصب وان أمسكت اثنتين كان كثير الخصب وإن لم تمسك شيئا كانت السنة مجذبة وأهل تلك الناحية تعرف ذلك وهذا الجبل بالقرب من بلدة مارية أم ابراهيم ولد النبي
( حرف التاء ) ( تمساح ) حيوان عجيب على صورة الضب له فم واسع وفيه ستون نابا وقيل ثمانون وبين كل نابين سن صغيره وهي انثى في

ذكر إذا أطبق فمه على شيء لا يفلته حتى يخلعه من موضعه وله لسان طويل وظهر كالسلحفاة ولا يعمل الحديد فيه وله أربعة أرجل وذنب طويل وهو لا يوجد إلا بنيل مصر وقال المسافرون أنه يوجد ببحر الهند وطوله في الغالب ستة أذرع إلى عشرة في عرض ذراعين أو ذراع ويقيم في البحر تحت الماء أربعة أشهر لا يظهر وذلك في زمن الشتاء ويتغوط من فيه في الغالب ويحصل في فيه الدود فيؤذيه فيلهمه الله تعالى فيخرج إلى بعض الجزائر ويفتح فاه فيرسل الله تعالى له طيرا يقال له القطقاط فيدخل في فيه فيأكل ما فيه من الدود فيحصل له راحة فعند ذلك يطبق فمه على الطير ليأكله فيضربه بريشتين خلقهما الله تعالى في جناحيه كريشة الفصاد فيؤلمه فيفتح فاه فيخرج ولذلك يضرب به المثل فيقال جازه مجازاة التماح وزعم بعض الباحثين عن أحوال التمساح أن له ستين نابا وستين عرقا ويسفد ستين مرة ويبيض ستين بيضة ويحضن ذلك ستين يوما ويعيش ستين سنة فإذا أفرخ فما صعد لجبل صار ورلا وما نزل البحر صار تمساحا وفكه الأسفل لا يستطيع تحريكه لأن فيه عظما متصلا بصدره وإذا أراد السفاد أخذ انثاه وطلع بها إلى البر وقلبها وجامعها فإذا قضى حاجته قلبها ثانيا لأنه لو تركها على تلك الحالة بقيت حتى تموت وما ذلك إلا أنها لا تستطيع الانقلاب ليبوسة ظهرها وصلابته وقد سلط الله تعالى عليه أضعف الحيوان وهو كلب الماء يقال انه يتبلط بالطين ويغافل التمساح ويقذف بنفسه في فيه فيبتلعه لنعومته فإذا حصل في جوفه ذاب ا عليه من سخونة بطنه فيعمد إلى أمعائه فيقطعها ويقطع مراق بطنه فيقتله
الخواص عينه تشد على من به رمد اليمنى لليمنى واليسرى لليسرى وشحمه إذا قطر في أذن من به صم نفعه
( تنين ) ضرب من الحيات وهو طويل كالنخلة السحوق وجسده كالليل أحمر العينين لهما بريق واسع الفم والجوف يبتلع الحيوان وأول أمره يكون حية متمردة ثم تطغى وتتسلط على حيوان البر فيستغيث منها فيأمر الله تعالى ملكا فيحملها ويلقيها في البحر فتقيم فيه مدة ثم تتسلط على حيوانه

فيستغيث منها إلى ربه فيأمر الله تعالى بإلقائها في النار فيعذب بها الكافرين وقيل يأمر الله تعالى بإلقائها على يأجوج ومأجوج وروى ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول يسلط الله على الكافرين في قبره تسعه وتسعين تنينا تنهشه وتلدغه حتى تقوم الساعة ولو أن تنينا نفخ على الأرض ما نبتت فيها خضراء
( حرف الثاء ) ( ثعلب ) وهو معروف ذو مكر وخديعة وله حيل في طلب الرزق فمن ذلك أن يتماوت وينفخ بطنه ويرفع قوائمه حتى يظن أنه مات فإذا قرب منه حيوان وثب عليه وصاده وحيلته هذه لا تتم على كلب الصيد
ومن حيلته انه إذا تعرض للقنفذ نفش القنفذ شوكه فيسلح هو عليه فيلم شوكه فيقبض على مراق بطنه ويأكله وسلحه أنتن من سلح الحباري
ومن لطيف أمره أنه إذا تسلطت عليه البراغيث حملها وجاء إلى الماء وقطع قطعة من صوفه وجعلها في فيه ونزل في الماء والبراغيث تطير قليلا قليلا حتى تجمتع في تلك الصوفة فيلقيها في الماء ويخرج وفروه أدفى الفرا وفيه الأبيض والرمادي وغير ذلك وذكر في عجائب المخلوقات أنه أهدى إلى أبي منصور الساماني ثعلب له جناحان من ريش إذا قرب الانسان منه نشرهما وإذا بعد لصقهما
لطيفة ذكر ابن الجوزي في آخر كتاب الأذكياء والحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء عن الشعبي أنه قال مرض الأسد فعادته السباع والوحوش ما خلا الثعلب فنم عليه الذئب فقال الأسد إذا حضر فاعلمني فلما حضر الثعلب أعلمه الذئب بذلك وكان قد أخبر بما قاله الذئب فقال الأسد أين كنت يا أبا الفوارس ؟ قال كنت أتطلب لك الدواء قال وأي شيء أصبته ؟ قال قيل لي خرزة في عرقوب أبي جعد قال فضرب الأسد بيده في ساق الذئب فأدماه ولم يجد شيئا فخرج ودمه يسيل على رجله وانسل الثعلب فمر به الذئب فناداه يا صاحب الخف الأحمر

قعدت عند ملوك فانظر ما يخرج منك فإن المجالس بالأمانات وقيل خرج الأسد والثعلب والذئب يتصيدون فاصطادوا حمار وحش وضبا وغزالا ثم جلسوا يقتسمون فقال الأسد للذئب اقسم علينا فقال حمار الوحش لي والغزال لأبي الحرث والضب للثعلب فضربه الأسد في فرضخمها فقال الثعلب أنا أقسم حمار الوحش لأبي الحرث يتغذى به والغزال لأبي الحرث يتعشى به والضب لأبي الحرث يتنقل به فيما بين ذلك فقال له الأسد لله درك من فرضي ما أعلمك بالفرائض من علمك هذا قال علمني التاج الأحمر الذي ألبسه هذا وأشار إلى الذئب
وحكي أن الثعلب مر في السحر بشجرة فرأى فوقها ديكا فقال له أما تنزل نصلي جماعة ؟ فقال إن الإمام نائم خلف الشجرة فأيقظه فنظر الثعلب فرأى الكلب فضرط وولى هاربا فناداه أما تأتي لنصلي ؟ فقال قد انتقض وضوئي فاصبر حتى أجدد لي وضوءا وأرجع
ومن العجيب في قسمة الأرزاق أن الذئب يصيد الثعلب فيأكله والثعلب يصيد القنفذ فيأكله والقنفذ يصيد الأفعى فيأكلها والافعى تصيد العصفور والعصفور يصيد الجراد والجراد يصيد الزنابير والزنابير تصيد النحل والنحل تصيد الذباب والذباب يصيد البعوض والبعوض يصيد النمل والنمل يأكل كل ما تيسر من صغير وكبير فتبارك الله الذي أتقن ما صنع
الخواص رأسه إذا ترك في برج حمام هرب الحمام منه ونابه يشهد على الصبي بحسن خلقه ومرارته تجعل منها في أنف المصروع يبرأ ولحمه ينفع من اللقوة والجذام وخصيته تشد على الصبي تنبت أسنانه وفروه أنفع شيء للمربوط ودمه إذا جعل على رأس أقرع نبت شعره لذا كان دون بلوغ وطحاله يشد على من به وجع الطحال يبرأ ( ثعبان ) هو الكبير من الحيات ذكرا كان أو انثى وهو عجيب الشأن في هلاك بني آدم يلتوي على ساق الانسان فيكسرها وليس له عدو إلا النمس ولولا النموس لأكلت الثعابين أهل مصر

لطيفة قيل إن عبد الله بن جدعان كان في ابتداء أمره صعلوكا وكان شريرا يفتك ويقتل وكان أبوه يعقل عنه فضجر من ذلك وأراد قتله فخرج هاربا على وجهه فتوصل لجبل فوجد فيه شقا فدخل فيه فوجد في صدره شيا كهيئة الثعبان فدنا منه وقال لعله يثب علي فيقتلني وأستريح قال فدنا منه فوجده مصنوعا من ذهب وعيناه ياقوتتان ثم وجد من داخله بيتا فيه جثث طوال بالية على أسرة الذهب والفضة وعند رؤوسهم لوح مكتوب فيه تاريخهم وإذا بهم رجال من جرهم وفي وسط البيت كوم من الياقوت الأحمر والزمرد والذهب والفضة واللؤلؤ فأخذ منه قدر ما يحل وعلم الشق وذهب إلى قومه فأغناهم ورجع فلم يدر مكان الشق قال رسول الله لقد كنت أستظل بجفنة عند عبد الله بن جدعان من الهجير قالت عائشة يا رسول الله هل ينفعه ذلك شيئا ؟ قال لا لأنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين
( حرف الجيم ) ( جراد ) حيوان معروف وليس له جهة مخصوصة وإنما يكون هائما هاربا وإذا أراد أن يبيض ذهب إلى بعض الصخور فضربها بذنبه فتنفرج له فيلقي بيضه فيها وله ستة أرجل وطرفا أرجله كالمنشار وهو ألوان عديدة وفيه خلقة عشرة من الجبابرة وجه فرس وعينا فيل وعنق ثور وقرنا إبل وصدر أسد وبطن عقرب وجناحا نسر وفخذ جمل ورجلا نعامة وذنب حية وهومن الحيوان الذي ينقاد إلى رئيسه كالعسكري إذا ظن أميره تتابع خلعه وفي الحديث ان جراده وقعت بين يدي رسول الله فإذا مكتوب على جناحها بالعبرانية نحن جند الله الأكبر ولنا تسعة وتسعون بيضة ولو تمت لنا المائة لاكلنا الدنيا بما فيها فقال عليه الصلاة و السلام " اللهم اقتل كبارها وأمت صغارها وأفسد بيضها وسد أفواهها عن مزارع المسلمين وعن معايشهم انك سميع الدعاء " قال فجاء جبريل فقال أنه قد استجيب لك في بعضها وفي الحديث أن رسول الله قال ان الله تعالى خلق ألف أمة ستمائة منها في البحر وأربعمائة في البر وان أول هلاك هذه الامة الجراد فإذا هلك الجراد تتابعت الامم مثل الدر إذا قطع سلكه قيل

طعام يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام الجراد وقلوب الشجر وكان يقول من أنعم منك يا يحيى وقد أجمع المسلمون على أكل لحمه ومن خواصه إن الإنسان إذا تبخر به نفعه من عسر البول ( جرو ) بكسر الجيم وفتحها وضمها وهو الصغير من أولاد الكلاب والسباع وقد كان أمر بقتل الكلاب وسببه أن جبريل عليه السلام وعده ليأتيه فتأخر قال فلقيه النبي بعد ذلك فقال ما أخرك عن وعدك فقال ما تأخرت ولكن لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب فأمر بقتلها وروى مسلم والطبراني عن خولة بزيادة ولفظها أن جروا دخل تحت سرير لي بيته فمات فمكث النبي أياما لا يأتيه الوحي قال لعله حدث في البيت شيء فخرج للمسجد فنزل عليه الوحي قالت خولة فقمت للبيت فوجدت الكلب تحت السرير
عجيبة حكي أن رجلا لم يولد له ولدفكان يأخذ أولاد الناس فيقتلهم فنهته زوجته عن ذلك وقالت يؤاخذك الله بذلك فقال لو آخذ لفعل في يوم كذا وصار يعدد افعاله لها فقالت له إن صاعك لم يمتلئ ولو امتلأ آخذك قال فخرج ذات يوم وإذا بغلامين يلعبان ومعهما جرو فأخذهما الرجل ودخل البيت فقتلهما وطرد الجرو قال فطلبهما أبوهما فلم يجدهما فانطلق إلى نبي لهم فأخبره بذلك فقال ألهما لعبة كان يلعبان بها قال جرو كلب قال ائتني به فأتاه به فجعل خاتمه بن عينيه ثم قال له اذهب خلفه فأي بيت دخله ادخل معه فإن اولادك فيه قال فجعل الجرو يجوب الدروب والحارات حتى دخل بيت القاتل فدخل الناس خلفه وإذا بالغلامين متعفران بدمهما وهو قائم يحفر لهما مكانا يدفنهما فيه فامسكوه وأتوا به لنبيهم فأمر بصلبه فلما رأته زوجته على الخشبة قالت ألم أحذرك من هذا اليوم تقول ما تقول الآن امتلأ صاعك وسيأتي الكلام على الكلب في حرف الكاف إن شاء الله تعالى
( جعل ) دويبة معروفة تسمى أبا جعران والزعقوق يعض البهائم في وجهها فتهرب منه وهو أكبر من الخنفساء شديد السواد في بطنه لون حمرة للذكر قرنان يوجد كثيرا في مراح البقر والجاموس قيل إنه يتولد من أخثائها

شأنه جمع الروث وادخاره ومن عجيب أمره أنه إذا شم الورد مات ويعيش بعوده للروث وله جناحان لا يكادان يريان إلا إذا طار وله ستة أرجل وسنام مرتفع جدا وهو يمشي القهقري ومن طبعه أنه يحرس النيام فإذا قام أحدهم يتغوط تبعه ليأكل من رجعية وذلك من شدة شهوته للغائط
( حرف الحاء ) ( حجل ) طير فوق الحمامة أغبر اللون أحمر المنقار والرجلين يسمى دجاج البر وهو صنفان نجدي وتهامي النجدي أغبر والتهامي أبيض وله شدة الطيران وإذا تقاتل ذكر أن تبعث الانثى الغالب له شدة شبق وافراخه تخرج من البيض كاسية ويعمر في الغالب عشرين سنة وإذا قوي على غيره أخذ بيضه فحضنه ومن سر الله تعالى أنه إذا أفرخ ذلك البيض تبع الفرخ أمه التي باضته ومن طبعه أنه يخدع غيره في قرقرته ولذلك يتخذه الصيادون في إشراكهم
غريبة قيل أن أبا نضر بن مروان أكل مع بعض مقدمي الأكراد فأتى على سماطه بحجلتين مشؤيتين فلما رآها ضحك فقال مم تضحك ؟ قال كنت اقطع الطريق في عنفوان شبابي فمر بي تاجر فأخذته فلما أردت قتله تضرع إلي فلم أقتله فلما علم أنه لا بد لي من قتله التفت يمينا وشمالا فرأى حجلتين كانتا بقربنا فقال اشهدا لي أنه قاتلي ظلما فقتلته فلما رأيت هاتين الحجلتين تذكرت حمقه في استشهاده بهما فقال أبو نصر والله لقد شهدتا عليك عند من أقادك بالرجل ثم أمر به فضربت عنقه
الخواص لحمها جيدة معتدل الهضم ومرارتها تنفع الغشاوة في العين وإذا سعط بها إنسان في كل شهر مرة جاد ذهنه وقل نسيانه وقوي بصره ( حدأة ) بكسر الحاء وفتح الدال مع همزة أخس الطير وتبيض بيضتين وربما باضت ثلاثا وتحضن عشرين يوما ومن ألوانها الأسود والرمادي وهي لا تصيد الا خطفا وفي طبعها أنها تقف في الطيران وهي أحسن الطير مجاورة لانها اذا جاعت لاتأكل أفراخ جارها ويقال إنها طرشاء وفي طبعها

أنها لا تخطف من الجهة اليمنى لانها عسراء وهي سنة ذكر وسنة انثى كالأرنب
( عجيبة ) روى الحافظ السلفي في فضائل الأعمال أن عاصم بن أبي النجود شيخ القراء في زمانه قال أصابتني خصاصة فجئت الى بعض اخواني فأخبرته بأمري فرأيت في وجهه الكراهة فخرجت من منزله الى الجبانة فصليت ما شاء الله ثم وضعت رأسي على الأرض وقلت يا سامع الأصوات يا مجيب الدعوات يا قاضي الحاجات اكفني بحلالك عن حرامك وأغنيني بفضلك عمن سواك قال فوالله ما رفعت رأسي حتى سمعت وقعة بقربي فإذا بحدأة قد طرحت كيسا أحمر فقمت فأخذته فإذا فيه ثمانون دينارا وجوهرة ملفوفة في قطن قال فاتجرت بذلك واشتريت لي عقارا وتزوجت
الخواص مرارتها تجفف في الظل وتنقع في إناء زجاج فمن لسع قطر منها في ذلك الموضع واكتحل مخالفا لجهة اللسع ثلاثة أميال أبرأته ودسمها إذا خلط بقليل من المسك وماء الورد وشرب على الريق نفع من ضيق النفس وإذا وضع في بيت لم تدخله حية ولا عقرب
( حرباء ) دويبة صغيرة على هيئة السمك ورأسها تشبه رأس العجل إذا رأت الإنسان انتفشت وكبرت ولها أربعة أرجل وسنام كهيئة الجمل ولها كنى كثيرة منها أم قرة ويقال لها جمل اليهود وهي أبدا تطلب الشمس فمن أجل ذلك يقال انها مجوسية وتستقبلها بوجهها وتدور معها كيفما دارت فإذا غابت الشمس أخذت في كسبها ومعاشها ويقال إن لسانها طويل نحو ذراع وهو مطوي في حلقها فذلك تخطف به ما بعد عنها من الذباب وتبتلعه والانثى من هذا النوع تسمى أم حبين ويقال أن الصبيان ينادونها أم حبين انشري برديك إن الأمير ناظر إليك وضارب بسوطه جنبيك فإذا زادوا عليها نشرت جناحيها وانتصبت على رجليها فإذا ازدادوا عليها أيضا نشرت أجنحة أحسن من تلك ملونة وإذا مشت تطأطئ برأسها وتتلون ألوانا ولذا يقال يتلون كالحرباء

( حمار أهلي ) معروف ليس في الحيوان من ينزو على غير جنسه إلا هو والفرس ونزوه بعد تمام ثلاثين شهرا وكنيته أبو محمود وأبو جحش وغير ذلك وهو أنواع فمنه ما هو لين الأعطاف سريع الحركة ومنه ما هو بضد ذلك ويوصف بالهداية إلى سلوك الطريق
( لطيفة ) في الحديث عن النبي أنه لما فتح خيبر أصاب حمارا أسود فكلمه فقال ما اسمك فقال يزيد بن شهاب أخرج الله تعالى من نسل جدي ستين حمارا كلها لا يركبها إلا نبي ولم يبق من الأنبياء غيرك وكنت أتوقعك لتركبني وأنا عند يهودي يجيع بطني ويضرب ظهري وكنت أعثر به عمدا فمساه النبي يعفورا وقال له أتشتهي الاناث ؟ قال لا وكان يركبه في حوايجه وإذا أراد حاجة عند إنسان أرسله اليه فيدفع الباب برأسه فيخرج صاحب البيت فيعرفه ويقضي حاجته فلما مات النبي ذهب الى بئر كانت لأبي الهيثم فتردى فيها جزعا على النبي فكانت قبره وقيل هذا الحديث منكر وقد ذكره السهيلي في التعريف والاعلام وللناس في ذمه ومدحه أقوال متباينة بحسب الأغراض فمن مدحه أن أبا صفوان وجد راكبا على حمار فقيل له في ذلك فقال عير هي من نسل الاكراد يحمل الرجل ويبلغ العقبة ويمنعني أن أكون جبارا في الأرض وقال آخر وأقل الدواب مؤنة وأكثرها معونة وأخفضها مهوى وأقربها مرتعا وكان حمار أبي يسارة مثلا في الصحة والقوة وهو حمار أسود حمل الناس عليه من منى إلى المزدلفة أربعين سنة وكان خالد بن صفوان والفضل بن عيسى الرقاشي يختاران ركوب الحمار ويجعلان أبا يسارة قدوة لهما وحجة ومن ذمه ما نقل عن عبد الحميد الكاتب انه قال لا تركب الحمار فإنه إ ن كان فارها أتعب يدك وإن كان بليدا اتعب رجلك وقيل ما ينبغي لمركب الدجال أن يكون مركبا للرجال وقال أعرابي الحمار بئس المطية إن أوقفته أدلى وأن تركته ولى كثير الروث قليل الغوث سريع إلى الفرارة بطيء في الغارة لا توقي به الدماء ولا تمهر به النساء ولا يحلب في الإناء قال الزمخشري
( إن الحمار ومن فوقه ... حماران شرهما الراكب )

العرب من لا يركبه أبدا ولو بلغت به الحاجة والجهد
فيل كان لرجل بالبادية حمار وكلب وديك فالديك يوقظه للصلاة والكلب يحرسه إذا نام والحمار يحمل أثاثه إذا رحل قال فجاء الثعلب فأكل الديك فقال عسى أن يكون خيرا ثم أصيب الكلب بعد ذلك فقال لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم عسى أن يكون خيرا ثم جاء الذئب فبقر بطن الحمار فقال عسى أن يكون خيرا قال ثم إن جيرانه من الحي أغير عليهم فأخذوا فأصبح ينظر إلى منازلهم وقد خلت فقيل لهم إنما أخذوا بأصوات دوابهم فقال إنما كانت الخيرة في هلاك ما عندي فمن عرف لطف الله رضي بفعله
( حمام ) هو أنواع كثيرة والكلام في الذي ألف البيوت وهو قسمان أحدهما بري وهو الذي يوجد في القرى والآخر أهلي وهو أنواع وأشكال فمنه الرواعب والمراعيش والشداد والغلاب والمنسوب ومن طبعه أنه يطلب وكره ولو كان في مسافة بعيدة ولا جل ذلك يحمل الأخبار ومنه من يقطع عشرة فراسخ في يوم واحد وربما صيد وغاب عن وطنه عشر سنين وهو على ثبات عقله وقوة حفظه حتى يجد فرصة فيطير ويعود إلى وطنه وسباع الطير تطلبه أشد الطلب وخوفه من الشاهين أشد من غيره وهو أطير منه لكن إذا أبصره يعتريه ما يعتري الحمار إذا رأى الأسد والشاة إذا رأت الذئب والفأر إذا رأى الهر ومن طبعه أنه لا يريد إلا ذكره إلى أن يهلك أو يفقد أحدهما ويحب الملاعبة والتقبيل ويسفد لتمام أربعة أشهر ويحمل أربعة عشر يوما ويبيض بيضتين ويحضن عشرين يوما ويخرج من إحدى البيضتين ذكر والأخرى أنثى واتخاذها في البيوت لا بأس به غير أنه لا يجوز تطييرها والاشتغال بها والارتقاء بها على الأسطحة وعليه حمل أمل العلم قوله عليه الصلاة و السلام ( شيطان يتبع شيطانة حين رأى شخصا يتبع حمامة فإن لم يحصل شيء مما ذكر جاز اتخاذها قال رسول الله ( اتخذوا الحمام في بيوتكم فإنها تلهي الجن عن صبيانكم واللعب بها من عمل قوم لوط ) وقال النخعي من لعب بالحمام لم يمت حتى يذوق ألم الفقر ولم يوجد شيء أبله من الحمام فإنه

تؤخذ أفراخه فتذبح في مكان ثم يعود في ذلك المكان ويبيض فيه ويفرخ وقال الجاحظ وللحمام من الفضيلة والفخر أن الحمامة قد تبتاع بخمسمائة دينار ولم يبلغ ذلك القدر شيء من الطير وغيره وهو الهادر الذي جاوز الغاية قالوا ولو دخلت بغداد والبصرة وجدت ذلك بلا معاناة ولو حدثت أن برذونا أو فرسا بيع بخمسمائة دينار لكان ذلك سمرا وقد تباع البيضة الواحدة من بيض ذلك الحمام بخمسة دنانير والفرخ بعشرين فمن كان له زوج منه قام في الغلة مقام ضيعة وأصحابه يبنون من أثمانه الدور والحوانيت وهو مع ذلك ملهى عجيب ومنظر أنيق
الخواص دمه ينفع الجراحات العارضة للعين والغشاوة ويقطع الرعاف ويبرئ حرق النار إذا خلط بالزيت منه وزبل الأحمر ينفع للسع العقرب إذا وضع عليه وإذا شرب منه مقدار درهمين مع ثلاثة دراهم دار صيني نفع من الحصاة
( حرف الخاء ) ( الخطاف ) أنواع كثيرة فمنه نوع دون العصفور رمادي اللون يسكن ساحل البحر ومنه ما لونه أخضر وتسميه أهل مصر الخطار ونوع طويل الأجنحة رقيق يألف الجبال ونوع أصفر يألف المساجد يسميه الناس السنونو وزعم بعضهم أنه الطير الأبابيل ويقال أن آدم عليه الصلاة و السلام لما أهبط إلى الأرض حصل له وحشة فخلق الله له هذا الطير يؤنسه فلأجل ذلك لا تجدها تفارق البيوت وهي تبني بيتها في أعلى مكان بالبيت وتحكم بنيانه وتطينه فإن لم تجد الطين ذهبت إلى البحر فتمرغت في التراب والماء وأتت فطينته وهي لا تزبل داخله بل على حافته أو خارجا عنه وعنده ورع كثير لأنه وإن ألف البيوت لا يشارك أهلها في أقواتهم ولا يلتمس منهم شيئا ولقد أحسن واصفه حيث يقول
( كن زاهدا فيما حوته يد الورى ... تبقى إلى كل الأنام حبيبا )
( وانظر إلى الخطاف حرم زادهم ... أضحى مقيما في البيوت ربيبا )

شأنه إنه لا يفرخ في عش عتيق بل يجدد له عشا وأصحاب اليرقان يلطخون أفراخه بالزعفران فيذهب فيأتي بحجر اليرقان ويلقيه في عشه لتوهمه أن اليرقان حصل لأولاده وهو حجر صغير فيه خطوط يعرفه غالب الناس فعند ذلك يأخذه من به اليرقان ويحكه ويستعمله ومن عجيب أمره إنه يكاد يموت من صوت الرعد وإذ عمي ذهب إلى شجرة يقال لها عين شمس فيتمرغ فيها فيفيق من غشوته ويفتح عينيه
لطيفة قيل إن خطافا وقف على قبة سليمان وتكلم مع خطافة وراودها عن نفسها فامتنعت فقال بها تتمنعين مني ولو شئت قلبت هذه القبة قال فسمع سليمان فدعاه وقال ما حملك على ما قلت ؟ فقال يا نبي الله إن العشاق لا يؤاخذون بأقوالهم
الخواص مرارته تسود الشعر ولحمه يورث السهر وقلبه يهيج الباه إذا أكل جافا ودمه يسكن الصداع خفاش طير يوجد في الأماكن المظلمة وذلك بعد الغروب وقبل العشاء لأنه لا يبصر نهارا ولا في ضوء القمر وقوته البعوض وهذا الوقت هو الذي يخرج فيه البعوض أيضا لطلب رزقه فيأكله الخفاش فيتسلط طالب رزق على طالب رزق وهو من الحيوان الشديد الطيران قيل إنه يطير الفرسخين في ساعة وهو يعمر مثل النسر وتعاديه الطيور فتقتله لأنه قيل إن عيسى عليه الصلاة و السلام لما سأله النصارى في طير لا عظم فيه صنع لهم ذلك بإذن الله تعالى فهي تكرهه لأنه مباين لخلقتها ومن طبعه الحنو على ولده حتى قيل إنه يرضعه وهو طائر ( خنزير ) حيوان معروف وله كنى كثيرة منها أبو جهم وأبو زرعة وأبو دلف وهو مشترك بين البهيمة والسبع لأنه ذو ناب ويأكل العشب والعلف وهو كثير الشبق حتى قيل أنه يجامع الأنثى وهي سائرة فيرى في مشيها ستة أرجل فيتوهم الرائي إنه حيوان بستة أرجل وليس كذلك والذكر مثله فمن غلب استقل بالنزو على الأنثى وتحرك أذنابها في زمن هيجانها وتطأطئ رأسها وتغير أصواتها وتحمل من نزوة واحدة وتحمل ستة أشهر وتضع عشرين ولدا وينزوا الذكر إذا بلغ ستة أشهر وقيل أربعة باختلاف البلاد وقيل ثمانية وإذا بلغت

الأنثى خمس عشرة سنة ولا تحمل وهذا الجنس أفسد الحيوان والذكر أقوى الفحول وليس لذوات الأربع ما للخنزير في نابه من القوة حتى قيل إنه يضرب به السيف والرمح فينقطع ما لافاه وإذا التقى ناباه من الطول مات لأنهما حينئذ يمنعانه من الأكل ومن عجيب أمره أنه ياكل الحيات ولا يؤثر فيه سمها وإذا عض كلبا سقط شعره وإذا مرض واطعم السرطان يفيق ومن عجيب أمره أنه إذا ربط على ظهره حمار وبال الحمار وهو على ظهره مات ولا يسلخ جلده إلا بالقلع مع شيء من لحمه على ما ذكروا ( خنفساء ) دويبة تتولد من عفونات الأرض وبينها وبين العقرب مودة وكنيتها أم فسو لأن كل من وضع يده عليها يشم رائحة كريهة
فائدة قيل إن رجلا رأى خنفساء فقال ما يصنع الله بهذه فابتلاه الله تعالى بقرحة عجز الأطباء فيها فبينما هو ذات يوم إذا بطرقي يقول من به وجع كذا إلى أن قال من به قرحة فخرج إليه ذلك الرجل فلما رأى ما به قال ائتوني بخنفساء فضحك منه الحاضرون فقال ائتوه بالذي يطلب فأتوه بها فأخذها فأحرقها وأخذ رمادها وجعل منه على تلك القرحة فبرئت فعلم ذلك المقروح أن الله تعالى ما خلق شيئا سدى وأن في أخس المخلوقات أهم الأدوية فسبحان القادر على كل شيء
الخواص إذا قطعت رؤوس الخنافس وجعلت في برج الحمام كثر الحمام في ذلك البرج والاكتحال بما في جوفها من الرطوبة يحد البصر ويجلو الغشاوة والبياض وإذا بخر المكان بورق الدلب هربت منه الخنافس على ما ذكر ( خيل ) جماعة الأفراس وسميت بذلك لأنها تختال في مشيتها وهي من الحيوان المشرف ولقد مدحها الله تعالى ووصى بها النبي عليه الصلاة و السلام فقال " الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة " وقال " عليكم باناثا الخيل فإن ظهورها عز وبطونها كنز " وروي عن ابن عباس أو علي رضي الله عنهما أن رسول الله قال لما أراد الله تعالى خلق الخيل أوحى إلى الريح الجنوب وقال إني

خالق منك خلقا فاجتمعي فاجتمعت فأتي جبريل فأخذ منها قبضة فخلق الله منها فرسا كميتا وقال خلقتك عربيا وفضلتك على سائر البهائم فالرزق بناصيتك والغنائم تقاد على ظهرك وبصهيلك أرهب المشركين وأعز المؤمنين ثم وسمه بغرة وتحجيل فلما خلق الله تعالى آدم قال يا آدم اختر أي الدابتين الفرس أو البراق فقال الفرس يارب فقال الله تعالى اخترت عزك وعز أولادك وفي الحديث " ما من فرس إلا ويقول في كل يوم اللهم من جعلتني له فاجعلني أحب أهله إليه " وقيل الخيل ثلاثة فرس للرحمن وهي المغزو عليها وفرس لك وهي التي تسابق عليها وفرس للشيطان وهي التي جعلت للخيلاء وفي الحديث " إن الملائكة لا تحضر شيئا من اللهو إلا في مسابقة الخيل وملاعبة الرجل أهله " ولقد سابق النبي على الخيل وقيل إن الذكر من الخيل أقوى من الأنثى ولا يرد علينا ركوب جبريل في قصة موسى وفرعون الأنثى لأن ذلك من حكمة الله تعالى حتى تبعتها أحصنهم فأغرقوا لأن الحصان إذا رأى الحجرة تبعها وقيل إن الله تعالى أمر نبيه موسى عليه الصلاة و السلام أن يعبر البحر فعبره وهم خلفه فأعمى أعينهم عن الماء فكانوا يرون بلقعا والخيل تراه ماء فلولا دخول جبريل البحر بفرسه لما دخلت خيلهم وهي أصناف منها الصافنات وهي التي إذا ربطت في مكان وقفت على إحدى رجليها وقلبت بعض الأخرى في الوقوف وقيل غير ذلك وكانت الصافنات ألف فرس لسليمان عليه الصلاة و السلام فعرضها يوما ففاتته الصلاة قيل صلاة العصر فأمر بعقرها فعوضه الله عنها الريح فكانت فرسه وقيل إنما عقرها على وجه القرى كالهدي وقيل إن الفرس لا يحب الماء الصافي ولا يضرب فيه بيده كما يضرب بها في الاء الكدر فرحا به فإنه يرى شخصه في الماء الصافي فيفزعه ولا يراه في الماء الكدر وقد قيل في الحث على حب الخيل
( أحبوا الخيل واصطبروا عليها ... فإن العز فيها والجمالا )
( إذا ما الخيل ضيعها أناس ... ربطناها فأشركت العيالا )

( نقاسمها المعيشة كل يوم ... وتكسبنا الأباعر والجمالا )
( حرف الدال ) ( دابة ) اسم لكل ما دب على الأرض وأما التي ذكرها الله تعالى في سورة سبأ فقيل الأرضة وقيل السوسة وسبب ذلك أن سليمان عليه الصلاة و السلام كان قد أمر الجن ببناء صرح فبنوه ودخل فيه وأراد أن يصفو له يوم واحد من دهره فدخل عليه شاب فقال له كيف دخلت من غير استئذان ؟ فقال أذن لي رب البيت فعلم سليمان أن رب البيت هو الله تعالى وإن الشاب ملك الموت أرسل ليقبض روحه فقال سبحان الله هذا اليوم طلبت فيه الصفاء فقال طلبت ما لم يخلق قال وكان قد بقي من بناء المسجد الأقصى بقية فقا له يا أخي يا عزرائيل امهلني حتى يفرغ قال ليس في أمر ربي مهلة قال فقبض روحه وكان من عادته الانقطاع في التعبد شهرين وثلاثة ثم يأتي فنيظر ما صنعت الجن فلما قبض كان متوكئا على عصاه واستمر ذلك مدة والجن تتوهم أنه مشرف عليها فتعمل كل يوم بقدر عشرة أيام حتى أراد الله ما أراد فسلط على العصا الأرضة فأكلتها فخر ميتا تفترقت الجن عنه وقيل إن واحدا منهم مر عليه فسلم فلم يجبه فدنا منه فلم يجد له نفسا فحركه فسقطت العصا فإذا هو ميت قال وكان عمره ثلاثا وخمسين سنة والعصا التي اتكأ عليها من خرنوب قال الله تعالى ( فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) قال فشكرت الجن الأرضة حتى قيل أنهم كانوا يأتونها بالماء حيث كانت وأما الدابة التي من أشراط الساعة فاختلف في أمرها فقيل تخرج من الصفا وهو الصحيح وقيل من الطائف وقيل من الحجر وطولها ستون ذراعا ذات قوائم وهي مختلفة الألوان وذلك في ليلة يكون الناس مجتمعين بمنى أو سائرين إلى منى ومعها عصا منوسى وخاتم سليمان

لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب تلحق المؤمن فتضربه بالعصا فتكتب في وجهه مؤمن وتدرك الكافر فتسمه بالخاتم وتكتب في وجهه كافر وروي أنها تخرج إذا انقطع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقل الخير
( داجن ) وهو ما يربيه الناس في البيوت من صغار الغنم والحمام والدجاج وغير ذلك وفي حديث الأفك ما نعلم لها قضية غير أنها جارية حديثة السن تعجن وتنام فتأتي الداجن فتأكل العجين ( دب ) من السباع وكنيته أبو جهل وأبو جهينة وغير ذلك ولا يخرج زمن الشتاء حتى يطيب الهواء وإذا جاع يمص يديه ورجليه فيندفع جدعه وهو كثير الشبق وينعزل بانثاه وتضع جروا واحدا وتصعد به إلى أعلى شجرة خوفا عليه من النمل لأنها تضعه قطعة لحم ثم لا تزال تلحسه وترفعه في الهواء حتى تنفرج أعضاؤه وتخشن ويصير له جلد وفي ولادتها صعوبة وربما ماتت منها وقد تلده ناقص الخلق شوقا منها للسفاد وهي من الحيوان الذي يدعو الانسان للفعل به وقيل إن الدب يقيم أولاده تحت شجرة الجوز ثم يصعد فيرمي بالجوز إليها إلى أن تشبع وربما قطع من الشجر الغصن العتل الضخم الذي لا يقطع إلا بالفأس والجهد ثم يشد به على الفارس فلا يضرب أحدا إلا قتله ( دجاجة ) وكنيتها أم ناصر الدين وأم الوليد وغير ذلك وإذا هرمت لم يبق لبيضها مخ وتوصف بقلة النوم قيل أن نومها بقدر ما تتنفس وعندها خوف في الليل ولأجل ذلك تطلب وقت الغروب مكانا عاليا وتخشى الثعلب قيل إنها إذا رأيته ألقت نفسها إليه من شدة الخوف ولا تخشى من بقية السباع وقيل يعرف الذكر من الأنثى بإمساك منقاره فإن تحرك فذكر وإلا فأنثى ومن الدجاج مايبيض في اليوم مرتين وهو من أسباب موتها ويستكمل خلق البيضة في بطن الدجاجة في عشرة أيام وفي الحديث أن النبي أمر باتخاذ الغنم للأغنياء وباتخاذ الدجاج للفقراء ومن العجيب في صنعة الله تعالى أن خلق الفروج من البياض وجع ل الصفار غذاء له كما خلق الطفل من المني وجعل دم الحيض غذاء له فتبارك الله أحسن الخالقين
الخواص لحم الدجاج الفتي يزيد في العقل ويصفي اللون ويزيد

في المني ويقيم الباه والمداومة عليه تورث النقرس والبواسير على ما ذكر
( دج ) طير كبير أغبر يكون بساحل البحر كثيرا وبالقرب من الإسكندرية والناس يصطادونه ويأكلونه ( دود ) إسم جنس ومنه دود القز ويقال لها الهندية ومن عجيب أمرها أنها تكون أولا مثل بزر التين ثم تصير دودا وذلك في أوائل فصل الربيع ويكون عند خروجه مثل الذر في قدره ولونه ويخرج في الأماكن الدافئة إذا كان مصرورا في حق وربما تأخر خروجه فتجعله النساء تحت ثديهن بصرته فيخرج وغذاؤه ورق التوت الأبيض قال ولا يزال يكبر حتى يصير بقدر أصبع ويتنقل السواد إلى البياض وكل ذلك في مدة ستين يوما قال ثم يأخذ في النسج بما يخرجه من فيه إلى أن ينفذ ما ف جوفه ثم يخرج شيئا كهيئة الفراش له جناحان لا يسكنان من الاضطراب وعند خروجه يهيج إلى السفاد ويلصق الذكر مؤخره إلى مؤخر الأنثى ويلتحمان مدة ثم يفترقان قال ويكون قد فرش لهما خرقة بيضاء فينشران البزر عليها ثم يموتان هذا إذا أريد منهما البزر وإن أريد الحرير تركا في الشمس بعد فراغهما من النسج فيموت وهو سريع العطب حتى إنه ليخشى عليه من صوت الرعد والعطاس ومس المرأة الحائض والرجل الجنب ورائحة الدخان والحر الشديد والبرد الشديد ونحو ذلك قال أبو الفتح البستي
( ألم تر أن المرء طول حياته ... معنى بأمر لا يزال يعالجه )
( كذلك دود القز يسنج دائما ... ويهلك غما وسط ما هو ناسجه ) وقال آخر
( يفنى الحريص بجمع المال مدته ... وللحوادث ما يبقى وما يدع )
( كدودة القز ما تبنيه يهلكها ... وغيرها بالذي تبنيه ينتفع )
( ديك ) وكنيته أبو حسان وأبةو حماد وغير ذلك ويسمى الأنيس والمؤانس ومن طبعه لا يألف زوجة واحدة وهو أبله الطبيعة لأنه إذا سقط من بيت أصحابه لا يهتدي إلى الرجوع إليه وفيه من الخصال الحميدة ما لا يحصر منها أنه يساوي بين أزواجه في الطعمة ويذكر الله

تعالى في الليل حتى قيل إنه ليوقته ويقسمه وربما لا يخرم في توقيته وفي الصحيح إذا سمعتم صياح الديك فاذكروا الله تعالى فإنه يصيح بصياح ديك للعرش وروى الغزالي عن ميمون بن مهران أن لله ملكا تحت العرش على صورة الديك فإذا مضى ثلث الليل الأول ضرب بجناحيه وقال ليقم المسملون فإذا مضى الثلث الثاني ضرب بجناحيه وقال ليقم الذاكرون فإذا كان السحر وطلع الفجر ضرب بجناحيه وقال ليقم الغافلون وعليهم أوزارهم وفي الحديث ان النبي قال " إن لله ديكا أبيض له جناحان موشحان بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ جناح بالمشرق وجناح بالمغرب ورأسه تحت العرش وقوائمه في الهواء فإذا كان ثلث الليل الأول خفق بجناحيه وقال سبحان الملك القدوس فإذا كان الثلث الثاني خفق بجناحيه وقال قدوس فإذا كان الثلث الثالث خفق بجناحيه وقال ربنا الرحمن الرحيم لا إله إلا هو " وروى الثعلبي باسناده عن النبي أنه قال ثلاثة أصوات يحبها الله تعالى صوت الديك وصوت قارئ القرآن وصوت المستغفر بالأسحار وفي الحديث " لا تسبوا الديك فإنه يؤقت للصلاة "
وزعم أهل التجربة أن الرجل إذا ذبح الديك الأبيض الأفرق لم يزل ينكب في أهله وماله
نادرة قيل كان لإبراهيم بن مزيد ديك وكان كريما عليه فجاء العيد وليس عنده شيء يضحي عليه فأمر امرأته بذبحه واتخاذ طعام منه وخرج إلى المصلى فأرادت المرأة تمسكه ففر فتبعته فصار يخترق من سطح إلى سطح وهي تتبعه فسألها جيرانها وهم هاشميون عن موجب ذبحه فذكرت لهم حال زوجها فقالوا ما نرضى أن يبلغ الاضطرار بأبي إسحاق إلى هذا القدر فأرسل إليه هذا شاة وهذا شاتين وهذا بقرة وهذا كبشا حتى امتلأت الدار فلما جاء ورأى ذلك قال ما هذا ؟ فقصت عليه زوجته القصة فقال إن هذا الديك لكريم على الله فإن إسماعيل نبي الله فدي بكبش واحد وهذا فدي بما أرى

( حرف الذال ) ( ذباب ) وكنتيه أبو جعفر وهو أصناف كثيرة يتولد من العفونة ومن عجيب أمره أنه يلقي رجيعه على الأبيض يسود وعلى الأسود يبيض ولا يقعد على شجرة الدباء وفي الحديث " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه فإن في إحدى جناحيه دواء وفي الأخرى داء وإن من طبعه أن يلقي نفسه بالجناح الذي فيه الداء
وحكي أن المنصور كان جالسا فألح عليه الذباب حتى أضجره فقال انظروا من بالباب من العلماء فقالوا مقاتل بن سليمان فدعا به ثم قال له هل تعلم لأي حكمة خلق الله الذباب ؟ قال ليذل به الجبابرة قال صدقت ثم أجازه ومن خصائص النبي أنه كان لا يقع عليه ذباب قط وقال المأمون قالوا أن الذباب إذا دلك به موضع لسعة الزنبور سكن ألمه فلسعني زنبور فحككت على موضعه أكثر من عشرين ذبابة فما سكن له ألم فقالوا هذا كان حتفا قاضيا ولولا هذا العلاج لقتلك
وقال الجاحظ من منافع الذباب أنها تحرق وتخلط بالكحل فإذا اكتحلت به المرأة كانت عينها أحسن ما يكون وقيل إن المواشط تستعمله ويأمرن به العرائس وقيل إن الذباب إذا مات وألقي عليه برادة الحديد عاش وإذا بخر البيت بورق القرع هرب منه الذباب
( ذئب ) حيوان معروف وكنيته أبو جعدة وأبو جاعد وأبو ثمامة لونه رمادي وهو من الحيوان الذي ينام بأحدى عينيه ويحرس بالأخرى حتى تمل فيغمضها ويفتح الأخرى كما قال بعض واصفيه
( ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع ) وإذا أراد السفاد اختفى ويطول في سفاده كالكلب وإذا جاع عوى فتجمع الذئاب حوله فمن هرب منها أكلوه وإذا خاف منه الإنسان طمع فيه وليس في الأرض أسد يعض على عظم إلا ويسمع

لتكسيره صوت بين لحييه إلا الذئب فإن لسانه يبري العظم بري السيف ولا يسمع له صوت وقيل إذا أدماه الأنسان فشم الذئب رائحة الدم لا يكاد ينجو منه وإن كان أشد الناس قلبا وأتمهم سلاحا كما أن الحية إذا خدشث طلبها الذر فلا تكاد تنجو منه وكالكلب إذا عض الإنسان يطلبه الفأر فيبول عليه فيكون في ذلك هلاكه فيحتال له بكل حيلة وقيل لا يعرف الالتحام عند السفاد إلا في الكلب والذئب وإذا هجم الصياد على الذئب والذئبة وهما ينسافدان قتلهما كيف شاء والله أعلم
( حرف الراء ) ( رخ ) طير عظيم الخلقة يوجد بجزائر الصين قال أبو حامد الأندلسي ذكر لي بعض المسافرين في البحر أنهم أرسوا بجزيرة فلما أصبحوا وجدوا في طرفها لمعانا وبريقا فتقدموا إليه وإذا هم بشيء مثل القبة قال فجعلوا يضربون فيه بالفؤوس إلى أن كسروه فوجدوه كهيئة البيضة وفيه فرخ عظيم قال فتعلقوا بريشه وجروه ونشبوا القدور وخرجوا يحتطبون من تلك الحزيرة حطبا يقال له حطب الشباب فلما أكلوا ذلك الطعام اسودت لحية ولمة كل ذي شيب قال فلما أصبحوا جاءهم الرخ فوجدهم قد صنعوا بفرخه ما صنعوا فذهب وأتى في رجليه بحجر عظيم وتبعهم بعدما ساروا في البحر وألقاه على سفينتهم فسبقت السفينة وكانت مشرعة بتسع قلوع ووقع الحجر في البحر فنجاهم الله تعالى منه وكان ذلك من لطف الله تعالى بهم قال وقد كان بقي معهم أصل ريشة قيل إنهم كانوا يجعلون فيها الماء فتسع مقدار قربة فسبحان الخالق الأكرم ( رخم ) طير أغبر أصفر المنقار معروف وهو من أشر الطيور ويقال أنها صماء وسبب ذلك ما قيل في بعض الحكايات إن موسى عليه الصلاة و السلام لما مات تكلمت بموته وكانت تعرف مكانه فأصمها الله تعالى حتى لا ترشد أحدا إلى موضعه

( حرف الزاي ) ( زرافة ) حيوان غريب الخلقة ولما كان مأكولها ورق الشجر خلق الله تعالى يديها أطول من رجليها وهي ألوان عجيبة يقال إنها متولدة من ثلاث حيوانات الناقة الوحشية والنقرة الوحشية والضبع فينزو الضبع على الناقة فيأتي بذكر فينزو ذلك الذكر على البقرة فتتولد منه الزرافة والصحيح أنها خلقة بذاتها ذكر وأنثى كبقية الحيوانات لأن الله تعالى لم يخلق شيئا إلا بحكمة
( زنبور ) حيوان فوق النحل له ألوان وقد أودعه الله حكمة في بنيانه بيته وذلك أنه يبنيه مربعا له أربعة أبواب كل باب مستقبل جهة من الرياح الأربع فإذا جاء الشتاء دخل تحت الأرض ويبقى إلى أيام الربيع فينفخ الله تعالى فيه الروح فيخرج ويطير وفي طبعه التهافت على الدم واللحم ومن خاصيته أنه إذا وضع في الزيت مات وفي الخل عاش ولسعته تزال بعصارة الملوخية
( حرف السين ) ( سعلاة ) نوع من المتشيطنة قال السهيلي هو حيوان يتراءى للناس بالنهار ويغول بالليل وأكثر ما يوجد بالغياض وإذا انفردت السعلاة بإنسان وأمسكته صارت ترقصه وتلعب به كما يلعب القط بالفأر قال وربما صادها الذئب وأكلها وهي حينئذ ترفع صوتها وتقول أدركوني فقد أخذني الذئب وربما قالت من ينقذني منه وله ألف دينار وأهل تلك الناحية يعرفون ذلك فلا يلتفتون إلى كلامها
( سمندل ) حيوان يوجد بأرض الصين ومن عجيب أمره أنه يبيض في النار ويفرخ فيها ويؤخذ وبره فينسج ويجعل منه المناشف وهذه المناشف إذا اتسخت جعلت في النار فتأكل النار وسخها ولا تحرقها حكي أن شخصا بل واحدة من هذه المناشف بالزيت وجعل