دعائي

قلت المدون تم بحمد الله وفضله ثم قلت: اللهم فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين اللهم لنا جميعا يا رب العالمين .وسبحان الله وبحمده  عدد خلقه وزنة عرشه  ورضا نفسه ومداد كلماته  } أقولها ما حييت وبعد موتي  والي يوم الحساب وارحم  واغفر اللهم لوالديَّ ومن مات من اخوتي واهلي والمؤمنين منذ خَلَقْتَ الخلق الي يوم الحساب آمين وفرِّجِ كربي وردَّ اليَّ عافيتي وارضي عني في الدارين  واعِنِّي علي أن اُنْفِقها في سبيلك يا ربي اللهم فرِّج كربي واكفني همي واكشف البأساء والضراء عني وعنا.. وردَّ إليَّ عافيتي وثبتني علي دينك الحق ولا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتوفنا مع الأبرار وألِّفْ بين قلوبنا اجمعين.يا عزيز يا غفار ... اللهم واشفني شفاءاً لا يُغَادر سقما واعفو عني وعافني وارحمني وفرج كربي واكفني همي واعتقني مما أصابني من مكروه أنت تعلمه واعتقني من النار وقني عذاب القبر وعذاب جهنم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال اللهم آمين /اللهم ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عُقَد لساني واغنني بك عمن سواك يارب . والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين آمين.

السبت، 20 أغسطس 2022

مجلد5.الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى احمد بن خالد الناصري

 

 5. الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى
أبو العباس أحمد بن خالد بن محمد الناصري
سنة الولادة 22/ذو الحجة/ 1250هـ /1835م/ سنة الوفاة


فراودوه على الإتيان فامتنع ثم بعث إليه ثانيا فأبى ثم ثالثا فأبى فكتب إليه بالعفو مرارا فلم يقبل وتصدى للخلاف وكشف وجه العصيان وصار يكتب لوالده بما يحفظه هكذا زعم الصياني ولا يخفى أن الرجل كان مناوئا له فلا ينبغي أن نسمع منه جميع ما ينسبه إليه والله أعلم بحقيقة الأمر
ثم إن السلطان بعث إليه شقيقه المولى مسلمة في عسكر وأمره أن ينزل بقربه ويضيق عليه ويمنعه النزول من الحرم ثم بعث إليه عسكرا آخر مع القائد العباس البخاري فنزلوا بقرب الحرم من الناحية الأخرى وضيقوا عليه حتى منعوه التصوف بكل حال وفي مدة مقامه هنالك أخذ في تأسيس داره وبناء مسجده ولا زالت جدرانها قائمة أسفل الجبل إلى الآن واستمر المولى يزيد محصورا هنالك إلى أن بلغه خبر وفاة أبيه رحمه الله فكان من أمره ما نذكره إن شاء الله وفاة أمير المؤمنين سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله
لما اعتصم المولى يزيد بضريح الشيخ عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه وراوده السلطان على النزول مرارا فأبى نهض إليه من مراكش وأراد أن يحضر عنده بنفسه لعله تسكن نفسه ويذهب ما بصدره من الجزع والنفرة وكان عند خروجه من مراكش به مرض خفيف فتحمل المشقة وجد السير فتزايد به المرض في الطريق فوصل إلى أعمال رباط الفتح في ستة أيام فأدركته منيته رحمه الله وهو في محفته على نحو نصف يوم أو أقل من رباط الفتح فأسرعوا به إلى داره من يومه ذلك وهو يوم الأحد الرابع والعشرون من رجب سنة أربع ومائتين وألف ومن الغد اجتمع الناس لجنازته وانحشروا من كل وجه فجهز ودفن بقبة من قباب داره وتأسف الناس لفقده خاصة وعامة رحمه الله ورضي عنه
____________________

بقية أخبار السلطان سيدي محمد ابن عبد الله ومآثره وسيرته
كان السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله محبا للعلماء وأهل الخير مقربا لهم لا يغيبون عن مجلسه في أكثر الأوقات وكان يحضر عنده جماعة من أعلام الوقت وأئمته منهم الفقيه العلامة المشارك أبو عبد الله محمد ابن الإمام سيدي عبد الله الغربي الرباطي والفقيه العلامة المحقق أبو عبد الله سيدي محمد المير السلاوي والفقيه الدراكة أبو عبد الله محمد الكامل الرشيدي والفقيه السيد أبو زيد عبد الرحمن المدعو بأبي خريص هؤلاء هم أهل مجلسه الذين كانوا يسردون له كتب الحديث ويخوضون في معانيها ويؤلفون له ما يستخرجه منها على مقتضى إشارته وكانت له عناية كبيرة بذلك وجلب من بلاد المشرق كتبا نفيسة من كتب الحديث لم تكن بالمغرب مثل مسند الإمام أحمد ومسند أبي حنيفة وغيرهما وألف رحمه الله في الحديث تآليف بإعانة الفقهاء الذين ذكرناهم آنفا منها كتاب مساند الأئمة الأربعة وهو كتاب نفيس في مجلد ضخم التزم فيه أن يخرج من الأحاديث ما اتفق على روايته الأئمة الأربعة أو ثلاثة منهم أو اثنان فإذا انفرد بالحديث إمام واحد أو رواه غيرهم لم يخرجه وهذا المنوال لم يسبق إليه رحمه الله وكان كثيرا ما يجلس بعد صلاة الجمعة في مقصورة الجامع بمراكش مع فقهائها ومن يحضره من علماء فاس وغيرهما للمذاكرة في الحديث الشريف وتفهمه ويحصل له بذلك النشاط التام وكان كثيرا ما يتأسف أثناء ذلك ويقول والله لقد ضيعنا عمرنا في البطالة ويتحسر على ما فاته من قراءة العلم أيام الشباب ولما فاته الاشتغال بفنون العلم في حال الصغر اعتكف أولا على سرد كتب التاريخ وأخبار الناس وأيام العرب ووقائعها إلى أن تملى من ذلك وبلغ فيه الغاية القصوى وكاد يحفظ ما في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني من كلام العرب وشعراء الجاهلية
____________________


والإسلام ولما ولاه الله أمر المسلمين بعد وفاة والده زهد في التاريخ والأدب بعد التضلع منهما وأقبل على سرد كتب الحديث والبحث عن غريبها وجلبها من أماكنها ومجالسة العلماء والمذاكرة معهم فيها ورتب رحمه الله لذلك أوقاتا مضبوطة لا تنخرم حذا بها حذو المنصور السعدي في أوقاته المرسومة عند الفشتالي في مناهل الصفا حتى أنه كان إذا خرج لزيارة أو صيد أو نزهة أيام الربيع وأقام الأسبوع ونحوه فإذا حانت الجمعة ودخل تحرى النزول بمنازل المنصور التي كان ينزل بها وقت خروجه لزيارة أغمات ونحوها ورجوعه ويقول هذه منازل المنصور رحمه الله وهو أستاذنا في مثل هذه الأمور ومن عجيب سيرته رحمه الله أنه كان يرى اشتغال طلبة العلم بقراءة المختصرات في فن الفقه وغيره وإعراضهم عن الأمهات المبسوطة الواضحة تضييع للأعمار في غير طائل وكان ينهى عن ذلك غاية ولا يترك من يقرأ مختصر خليل ومختصر ابن عرفة وأمثالهما ويبالغ في التشنيع على من اشتغل بشيء من ذلك حتى كاد الناس يتركون قراءة مختصر خليل وإنما كان يحض على كتاب الرسالة والتهذيب وأمثالهما حتى وضع في ذلك كتابا مبسوطا أعانه عليه أبو عبد الله الغربي وأبو عبد الله المير وغيرهما من أهل مجلسه
ولما أفضى الأمر إلى السلطان العادل المولى سليمان رحمه الله صار يحض الناس على التمسك بالمختصر ويبذل على حفظه وتعاطيه الأموال الطائلة والكل مأجور على نيته وقصده غير أنا نقول الرأي ما رأى السلطان سيدي محمد رحمه الله وقد نص جماعة من أكابر الأعلام النقاد مثل الإمام الحافظ أبي بكر بن العربي والشيخ النظار أبي إسحاق الشاطبي والعلامة الواعية أبي زيد عبد الرحمن بن خلدون وغيرهم أن سبب نضوب ماء العلم في الإسلام ونقصان ملكة أهله فيه إكباب الناس على تعاطي المختصرات الصعبة الفهم وإعراضهم عن كتب الأقدمين المبسوطة المعاني الواضحة الأدلة التي تحصل لمطالعها الملكة في أقرب مدة ولعمري لا يعلم هذا يقينا
____________________


إلا من جربه وذاقه وقد تقدم لنا في صدر هذا الكتاب أن ملوك بني عبد المؤمن كانوا يحملون الناس على الرجوع في الأحكام إلى الكتاب والسنة كل ذلك اعتناء بالعلم القديم ومحافظة على أصوله والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
وكان السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله ينهى عن قراءة كتب التوحيد المؤسسة على القواعد الكلامية المحررة على مذهب الأشعرية رضي الله عنهم وكان يحض الناس على مذهب السلف من الاكتفاء بالاعتقاد المأخوذ من ظاهر الكتاب والسنة بلا تأويل وكان يقول عن نفسه حسبما صرح به في آخر كتابه الموضوع في الأحاديث المخرجة من الأئمة الأربعة أنه مالكي مذهبا حنبلي اعتقادا يعني أنه لا يرى الخوض في علم الكلام على طريقة المتأخرين وله في ذلك أخبار ومجريات
قلت وهو مصيب أيضا في هذا فقد ذكر الإمام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه في كتاب الإحياء إن علم الكلام إنما هو بمنزلة الدواء لا يحتاج إليه إلا عند حدوث المرض فكذلك علم الكلام لا يحتاج إليه إلا عند حدوث البدعة في قطر وقد حرر الناس القدر المحتاج إليه في حق العامة وغيرهم والمبتدئين والمنتهين والأغبياء والأذكياء بما ليس هذا محل بسطه وكان السلطان سيدي محمد رحمه الله عالي الهمة يحب الفخر ويركب سنامه ويخاطب ملوك الترك مخاطبة الأكفاء ويخاطبونه مخاطبة السادة ويمدهم بالأموال والهدايا حتى علا صيته عندهم وحسبوه أكثر منهم مالا ورجالا وكان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر ويضع الأشياء مواضعها ويعرف مقادير الرجال ويؤدي حقوقهم ويتجاوز عن هفواتهم ويراعي لأهل السوابق سوابقهم ويتفقد أحوال خدامه في الصحة والمرض ولا يغفل عمن كان يعرفه قبل الملك وكان من الشجعان المذكورين في وقته يباشر الحروب بنفسه ويهزم الجيوش بهيبته وكان يقتني الرجال
____________________


ويصطنعهم ويعدهم لأيام الكريهة وينادي كل واحد باسمه وقت اللقاء والحضور عنده ويوجه كل بطل منهم مع قبيلة أو كتيبة من كتائب الجند ويعمل بقواعد السياسة في الحروب وكان إذا وجه أحدا ممن يعرف نجدته وكفايته ينشد قول ابن دريد
( والناس ألف منهم كواحد ** وواحد كالألف إن أمر عنا )
وبالجملة فقد كان رحمه الله من عظماء الملوك وخلد آثارا كثيرة بالمغرب فمن ذلك بمراكش تجديد ضريح الشيخ أبي العباس السبتي ومسجده ومدرسته وضريح الشيخ التباع ومسجده وضريح الشيخ الجزولي ومسجده وضريح الشيخ الغزواني ومسجده وضريح الشيخ ابن صالح ومسجده وضريح المولى علي الشريف ومسجده الأعظم وضريح الشيخ ميمون الصحراوي ومسجد الملوك ببريمة ومدرستاه وتجديد جامع المنصور والمسجد الأعظم بباب دكالة والمسجد الأعظم بباب هيلانة والمسجد الأعظم بالرحبة ومساجد القصبة ومدارسها الست ومسجد زاوية الشرادي ومسجد رباط شاكر ومدينة الصويرة بمساجدها ومدارسها وصقائلها وأبراجها وكل ما فيها ومسجد آسفي ومدرسته ومسجد مدينة تيط ومدينة آنفا ومسجدها ومدرستها وحمامها وصقائلها وأبراجها ومدينة فضالة ومسجدها ومدرستها والمصورية ومسجدها وجامع السنة برباط الفتح ومساجد أجدال الستة وأبراجه والصقالتين الكبيرتين بسلا ورباط الفتح ومسجد العرائش ومدرسته وصقائلها وأبراجها وسوقها وصقائل طنجة وأبراجها والمسجد الأزهر ومدرسته بإصطبل مكناسة ومسجد البردعيين بها وضريح الشيخ ابن عيسى وضريح الشيخ أبي عثمان سعيد ومسجده ومدرسة الصهريج ومدرسة الدار البيضاء ومسجد بريمة ومدرسته ومسجد هدراش ومسجد باب مراح وثلاثة أقواس بقنطرة وادي سبو خارج فاس وضريح الشيخ علي بن حرزهم وضريح الشيخ دراس بن إسماعيل
____________________


وضريح أبي عبد الله التاودي ومدرسة باب الجيسة ومسجد تازا ومدرسته وضريح المولى علي الشريف بسجلماسة وقصبة الدار البيضاء بها ومسجدها ومدرستها ومسجد الريصاني ومدرسته وأوقافه على المارستان بفاس ومراكش
فهذه الآثار كلها مما سمت إلى تخليد همته الشريفة بعضها أنشأها وبعضها أصلحه وجدده ورتب للأشراف بتافيلالت في كل سنة مائة ألف مثقال سوى ما ينعم به عليهم في أيام السنة متفرقا ورتب لأهل الحرمين الشريفين وشرفاء الحجاز واليمن مائة ألف مثقال أيضا في السنة ولشرفاء المغرب مائة ألف مثقال كذلك وأما الطلبة والمؤذنون والقراء وأئمة المساجد كانت تأتيهم صلاتهم في كل عيد وأما ما كان ينفقه في الجهاد على رؤساء البحر وطبجيته وما يضيره على المراكب الجهادية والآلات الحربية التي ملأ بها بلاد المغرب فشيء لا يحصيه الحصر وأما ما أنفقه من الأموال في فكاك أسرى المسلمين فأكثر من ذلك كله حتى لم يبق ببلاد الكفر أسير لا من المغرب ولا من المشرق ولقد بلغ عددهم في سنة مائتين وألف ثمانية وأربعين ألف أسير وزيادة وأوقافه بالحرمين الشريفين وكتبه العلمية المحبسة بهما لا زالت قائمة العين والأثر إلى الآن وأما اعتناؤه بالمراكب القرصانية فقد بلغ عددها في دولته عشرين كبارا من المربع وثلاثين من الفراكط والغلائط وبلغ رؤساء البحر عنده ستين رئيسا كلها بمراكبها وبحريتها وبلغ عسكر البحرية ألفا من المشارقة وثلاثة آلاف من المغاربة ومن الطبجية ألفين وبلغ عسكره من العبيد خمسة عشر ألفا ومن الأحرار سبعة آلاف وأما عسكر القبائل الذي كان يغزو من الجند فمن الحوز ثمانية آلاف ومن الغرب سبعة آلاف
وكانت له هيبة عظيمة في مشوره وموكبه يتحدث الناس بها وهابته ملوك الفرنج وطواغيتهم ووفدت عليه رسلهم بالهدايا والتحف يطلبون مسالمته في البحر بلغ ذلك رحمه الله بسياسته وعلو همته حتى عمت
____________________


مسالمته أجناس النصارى كلهم إلا المسكوب فإنه لم يسالمه لمحاربته للسلطان العثماني ولقد وجه رسله وهديته إلى طنجة فردها السلطان رحمه الله وأبى من مسالمته ووظف على الأجناس الوظائف فالتزموها وكانوا يؤدونها كل سنة واستمر ذلك من بعده إلى أن انقطع في هذه السنين المتأخرة وكانوا يستجلبون مرضاته بالهدايا والألطاف وكل ما يقدرون عليه ومهما كتب إلى طاغية في أمر سارع إليه ولو كان محرما في دينه ويحتال في قضاء الأغراض منهم بكل وجه أحبوا أم كرهوا وكان أعظم طواغيتهم طاغية النجليز وطاغية الفرنسيس فكانا يأنفون من أداء الضريبة علانية مثل غيرهم من الأجناس فكان رحمه الله يستخرجها منهم وأكثر منها بوجه لطيف وكان له عدة أولاد أكبرهم أبو الحسن علي والمأمون وهشام وعبد السلام هؤلاء لربة الدار المولاة فاطمة بنت عمه سليمان بن إسماعيل ثم عبد الرحمن أمه حره هوارية من هوارة السوس ثم يزيد ومسلمة أمهما علجة من سبي الإصبنيول ثم الحسن وعمر أمهما حرة من الأحلاف ثم عبد الواحد أمه حرة من أهل رباط الفتح ثم سليمان والطيب وموسى لحرة من الأحلاف أيضا ثم الحسن وعبد القادر لحرة من الأحلاف أيضا ثم عبد الله لحرة من عرب بني حسن ثم إبراهيم لعلجة رومية
ومما مدح به السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله من الشعر أرجوزة الأديب البليغ أبي العباس أحمد الونان المعروفة بالشمقمقبية التي يقول في مطلعها
( مهلا على رسلك حادي الأينق ** ولا تكلفها بما لم تطق )
وهذه الأرجوزة مشهورة بين الناس وهي من الشعر الفائق والنظم البديع الرائق أبان منشئها عن باع كبير وإطلاع غزير على أخبار العرب وأيامها وحكمها وأمثالها بحيث أن من حفظها وعرف مقاصدها أغنته عن غيرها من كتب الأدب وقد كنت في أيام التعاطي اعتنيت بتصحيح ألفاظها والتتبع لأخبارها وأمثالها والتنقير عن تلميحاتها وتلويحاتها حتى فضضت ختامها واستوعبت مبدأها وتمامها ثم شرعت في كتابة شرح عليها يحيط بمعانيها
____________________


ويستوعب دقائق مبانيها فكتبت منه نحو أربعة كراريس ثم عاقت الأقدار عن إتمامه نسأله سبحانه وتعالى أن يصرف عنا العوائق فيما ينفعنا في ديننا ودنيانا ويحفنا بالسعادة الدنيوية والأخروية في متقلبنا ومثوانا إنه ولي ذلك والقادر عليه
ومن وزراء السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله الوزير الشهير أبو عبد الله محمد العربي قادوس المدعو أفاندي كان من موالي السلطان وغرس نعمته وربي دولته وأصله من أعلاج الإصبنيول وكان شعلة من الذكاء والفطنة وركنا شديدا من أركان الدولة المحمدية في حسن التدبير والحزم الذي لا يعزب عنه من أمور الحضرة قليل ولا كثير وقد أدرك من فخامة الجاه وضخامة الرياسة غاية تفرد بها في وقته بحيث كانت الأعاظم من وجوه الدولة تقف ببابه اليومين والثلاثة فلا يتيسر لهم لقاؤه
ولما توفي السلطان سيدي محمد رحمه الله امتحن المولى يزيد هماما الوزير في جملة من امتحنه من أهل مراكش كما سيأتي الخبر عن دولة أمير المؤمنين المولى يزيد بن محمد وأوليته ونشأته رحمه الله
كان المولى يزيد هذا عند والده رحمه الله بعين العناية ملحوظا ومن النقائص محروسا ومحفوظا وكان عامة أهل المغرب وخاصتهم من الجند والرعية متشوفين له ومغتبطين به يهتفون باسمه ويلهجون بذكره لما كان عليه من الكرم والشجاعة والتمسك بمذاهب الفتوة والدين والاعتناء بجوائز أهل البيت ومحبة أهل الخير وإكرامهم وإقامة الصلوات لأوقاتها حضرا وسفرا لا يشغله عن ذلك شاغل فأصابته عين الكمال وصار ينتقل من حال إلى حال حتى خالطته جماعة من الأغمار كانوا في خدمته فلزموه وحسنوا له الاستبداد على والده والخروج عليه وأتوه من بين يديه ومن خلفه حتى وقر ذلك في صدره وارتسم فيه وكان ذلك على حين أوان الشبيبة وأخذها
____________________


منه مأخذها وكانت همته طماحة لا تقف به عند غاية فاستعجل الأمر قبل أوانه وخرج على والده بجبش العبيد حسبما مر ولسان حاله ينشد
( فإن يك عامر قد قال جهلا ** فإن مظنة الجهل الشباب )
فسقطت منزلته عند أبيه بعد أن بلغ من الحظوة لديه ما بلغ وكان يرشحه للخلافة ويقمه على كبار إخوته لما ظهر له من نجدته واقتداره وجوده في محل الجود ورغبته في الجهاد وولوعه بصناعة الرمي بالمهراس فأسند إليه أمر الطبجية والبحرية وصار يوجهه مع الرؤساء والطبجية إلى الثغور كل سنة ليقف على الملازمين لصقائلها وأبراجها ويعلمهم ما يحتاجون إلى تعلمه ولما رآه والده مغتبطا بذلك وتوسم فيه النجابة أقبل عليه بالعطاء ثم ولاه الكلام مع قناصل الأجناس الذين بالمراسي واستنابة في ذلك
وفي سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف ولاه السلطان على قبيلة كروان وهم يومئذ أعظم قبائل البربر خيلا ورجالا فأسند إليه أمرهم وتقدم إليه في أن يكفهم عن الحرب مع آيت أدراسن فسار إليهم واغتبطوا به واغتبط بهم وصار أحداثهم وأبناء أعيانهم يركبون معه للصيد فغمرهم بالعطاء وأنعم عليهم بالخيل والسلاح والكسي ولزموا مجلسه حتى أفسدوا قلبه وحسنوا له الانتزاء على الملك وقالوا هذا بيت المال الذي بقبة الخياطين هو في يدك وليس دونه مانع وبه يقوم ملكك ومتى استدعيت إخواننا آيت ومالو لم يتوقفوا عنك طرفة عين ولا يقوم لهم شيء من الجند وغيره ولم يزالوا يفتلون له في الذروة والغارب حتى شرهت نفسه وصار لا حديث له إلا في ذلك واطلع على ذلك قائد الودايا أبو محمد عبد القادر بن الخضر وكان محبا في جانب السلطان صادق الخدمة والطاعة له فكتب إليه بما عليه ولده مع جروان وأنهم يأتون إليه بالمائة والمائتين ويبيتون عنده بالقصبة ونحن خفنا أن يبرز من ولدك أمر فتعاقبنا عليه فأخبرناك بالواقع
____________________


ولما وصل كتابه إلى السلطان بعث للحين قائده العباس البخاري في مائة من الخيل للقبض على المولى يزيد وأصحابه وقد قلنا لك أن الجند والرعية معا كانوا مغتبطين بالمولى يزيد فلما وصل القائد العباس إلى سلا دس إلى المولى يزيد أنه مقبوض فلينج بنفسه فخرج المولى يزيد من مكناسة ليلا في خاصته وأصحابه من جروان وقصدوا آيت ومالو ولما وصل القائل العباس إلى مكناسة ألفاها مقفرة من المولى يزيد وشيعته فأقام بها وكتب إلى السلطان يعلمه بالخبر فبعث السلطان إلى المولى يزيد كاتبه أبا عثمان سعيد الشليخ فقدم عليه بزاوية آيت إسحاق لأنه لم يجد من قبائل آيت ومالو إلا مهاوش وشقيرين فتجاوزهم إلى الزاوية المذكورة ولما أتاه أبو عثمان المذكور بكتاب والده وأمانه سار معه إلى مراكش ولما وصل إليها دخل ضريح أبي العباس السبتي فاحترم به ثم عفا عنه السلطان واجتمع به فتنصل مما رمي به ونسب ذلك إلى سفهاء جروان وأنه لم يوافقهم على ذلك فأضمر السلطان الإيقاع بهم ولما قدم من مراكش سنة أربع وثمانين ومائة وألف قصدهم بالكريكرة وأوقع بهم وقتل منهم نحو الخمسمائة حسبما مر وأنزل المولى يزيد مع أخويه المولى علي والمولى عبد الرحمن بفاس فأقام بها مدة ثم حدثت حرب بينه وبين أخيه المولى عبد الرحمن بوسط فاس العليا وهلك فيما بينهما عدد وبلغ خبر ذلك إلى السلطان فقدم مكناسة وبعث من يقبض عليهما فقبض على المولى عبد الرحمن وأصحابه وفر المولى يزيد إلى ضريح المولى إدريس الأكبر بزرهون فأتى به الأشراف إلى والده فسامحه ثم سرح المولى عبد الرحمن وسأل عن أحوال أصحاب الأخوين معا ثم عرف صالحهم من طالحهم فأخرجهم من السجن وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وكانوا ثلاثين رجلا وسرح الباقين ونقل المولى عبد الرحمن إلى مكناسة وترك المولى يزيد بفاس ثم إن المولى عبد الرحمن كان يسابق يوما في الميدان ويلعب بالبارود فقتل رجلا من بني مطير فجاء إخوته إلى
____________________


قائدهم محمد بن محمد واعزيز فأدى ديته من عنده وعفوا وكتب عليهم سجلا بذلك وسكنت الهيعة فاتفق أن وجه السلطان قائده العباس إلى مكناسة لقتل أناس كانوا بسجن مكناسة فلما سمع به المولى عبد الرحمن ظن أنه قدم في شأن المطيري المقتول وأن خبره قد بلغ السلطان ففر من مكناسة ليلا إلى وجدة ثم إلى تلمسان واتصل خبر فراره بالسلطان فسأل عن السبب فأخبره القائد العباس بالواقع فبعث إليه الأمان فلم يثق ثم سار إلى تلمسان إلى سجلماسة فبعث إليه السلطان من يؤمنه ويأتي به إليه فلم يثق وفر إلى السوس فبعث إليه السلطان أمانا إلى السوس ففر إلى القبلة وأقام يتردد في قبائلها إلى أن توفي السلطان رحمه الله فجاء إلى تارودانت فأقام بها وطلب الأمر فلم يتم له أمر ومات رحمه الله وأما المولى يزيد فإنه أقام بفاس إلى أن استدعاه والده للقدوم عليه بمراكش فقدم عليه
ثم اتفق قيام العبيد على السلطان بسبب الإدالة التي أمرهم بتوجيهها إلى طنجة حسبما مر فبعث المولى يزيد لإصلاحهم وردهم عن غيهم فلما وصل إليهم استفزوه بقولهم وحركوا منه ما كان ساكنا واستخرجوا ما كان كامنا فبايعوه وخطبوا به حسبما مر الخبر عن ذلك مستوفى وانحرف قدور بن الخضر بالودايا عنه ولما فتح المولى يزيد بيت المال وأعطى العبيد بعث إلى الودايا بعطائهم يستهويهم به وكان شيئا كثيرا فردوه عليه وانضم محمد واعزيز في بربره إلى الودايا فقصدهم المولى يزيد والتقوا بالمشتهى من مكناسة فهزموه وقتل من العبيد ما ينيف على الخمسمائة ثم قدم السلطان في العساكر وجموع القبائل ففر المولى يزيد إلى زرهون فتبعه السلطان وزار المولى إدريس رضي الله عنه فشفع له الأشراف الأدارسة فيه فقبل شفاعتهم وعفا عنه حسبما مر ثم بعد هذا بعثه إلى المشرق وصدر منه بمكة في حق شيخ الركب ما صدر فكانت تلك الفعلة هي المخالفة وبها تبرأ السلطان منه ثم قفل من المشرق سنة ثلاث ومائتين وألف والتجأ إلى ضريح الشيخ عبد السلام بن مشيش إلى أن توفي والده حسبما قصصنا عليك من قبل وبالله التوفيق
____________________

بيعة أمير المؤمنين المولى يزيد بن محمد رحمه الله
لما توفي السلطان سيدي محمد رحمه الله في التاريخ المتقدم وبلغ خبر موته المولى يزيد وهو بالحرم المشيشي بايعه الأشراف هنالك وسائر أهل الجبل وتقدم إليه السابقون من الجند الذين كانوا محاصرين له فبايعوه واستتب أمره فتوجه إلى تطاوين إذ هي أقرب الثغور إليه فبايعه أهلها والقبائل المجاورة لها وأطلق الجند على يهود تطاوين فاستباحهم واصطلم نعمتهم ثم وفد عليه أهل طنجة والعرائش وآصيلا فقابلهم بما يجب ثم توجه إلى طنجة فخرج عسكرها للقائه ففرح بهم وأحسن إليهم وبها قدم عليه وفد أهل فاس من أشرافها وعلمائها وأعيانها فأكرمهم وولى عليهم أبا عبد الله محمد العربي الذيب ثم انتقل إلى العرائش فوفاه بها حاشية أبيه وخدمه ووجوه دولته بمتخلف والده وقبابه وخيله وبغاله وسائر أثاثه فأحسن إليهم وصاروا معه في ركابه إلى زرهون ولما وصل إليها قدم عليه أخوه المولى سليمان من تافيلالت بقبائل الصحراء عربها وبربرها ومعه بيعت أهل سجلماسة وكان قد استجار به محمد واعزيز فإنه كان خائفا على نفسه من المولى يزيد لانحرافه عنه أيام أبيه فسار في صحبته بقبائله ولما اجتمع بالسلطان سامحه وأبقاه على قومه ولما دخل مكناسة قدمت عليه قبائل الغرب كلها عربها وبربرها حتى عصاة آيت ومالو ودجالهم مهاوش فأعطى مهاوش وحده عشرة آلاف ريال وأعطى الذين قدموا معه مائة ألف ريال ثم قدمت عليه قبائل الحوز كله من عرب وبربر لم يتخلف عن بيعته أحد وقدم عليه أهل مراكش وأعمالها ببيعتهم ونصها
الحمد لله المنفرد بالملك والخلق والتدبير الذي أبدع الأشياء بحكمته واخترع الجليل منها والحقير الغني عن المعين والمرشد والوزير ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير يؤتي الملك من يشاء ويعز من يشاء وهو
____________________


المدبر القدير جاعل الملوك كفا للأكف العادية وولايتهم مرتعا للعباد في ظل الأمن والعافية وبيعتهم أمنا من الهرج والفساد وقمعا لأهل الشر والعناد فهم ظل الله على الأنام وحصن حصين للخاص والعام حسبما أفصح بذلك سيد الأنام عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام فتبارك الله ربنا الذي شرف هذا الوجود وزين هذا العالم الموجود بهذه الخلافة المباركة والإمامة الحسنية الهاشمية العلوية والطلعة القرشية المحمدية التي انصرفت الوجوه إلى قبلتها المشروعة واستبان الحق عند مبايعتها والانقياد لدعوتها المسموعة نحمده تعالى على ما من به علينا من هؤلاء الإمامة السعيدة ونشكره جل جلاله شكرا نستوجب به من الهنا أفضاله ومزيده ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له ليس في الوجود إلا فعله أجرى الأقدار على حسب ما افتضاه حكمه وعدله ونشهد أن سيدنا ونبينا ومولانا محمدا عبده ورسوله ومصطفاه من خلقه وخليله سيد المخلوقات كلها من إنس وجان المصفى من ذؤابة معد بن عدنان صاحب الشريعة المطهرة التي لا يختلف في فضلها اثنان والدين القويم الذي هو أفضل الأديان الذي اختصه الله ما بين الأنبياء بمزية التفضيل والتقديم وافترض على أمته الغراء فريضة الصلاة والتسليم وأثنى عليه في كتابه الحكيم فقال جل ثناؤه وتقدست صفاته وأسماؤه { وإنك لعلى خلق عظيم } القلم 4 صلى الله عليه صلاة متصلة الدوام متعاقبة بتعاقب الليالي والأيام وعلى آله الكرام الأطهار وصحابته النجباء البررة الأخيار الذين أوضحوا لنا الحق تبيانا وأسسوا لهذه الملة السمحة قواعد وأركانا وعلى من اقتفى أثرهم القويم واهتدى بهديهم المستقيم إلى يوم الدين أما بعد فإن الله تعالى جعل صلاح هذا العالم وأقطاره المعمورة ببني آدم منوطا بالأئمة الأعلام محوطا بالملوك الذين هم ظل الله على الأنام فطاعتهم ما داموا على الحق واتقوا الله سعادة والاعتصام بحبلهم إذ ذاك واجب وعبادة قال عز من قائل { يا أيها الذين آمنوا ل }
____________________


أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن ) النساء 59 وقال عليه السلام إن أمر عليكم عبد مجدع أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا وقال عليه السلام على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة وقال عليه السلام من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتل فقتلته جاهلية ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى مؤمنها ولا يفي لذي عهدها فليس مني ولست منه أخرجها مسلم كلها وقال عليه السلام السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه الضعيف وبه ينتصر المظلوم ومن أكرم سلطان الله في الدنيا أكرمه الله يوم القيامة أو كما قال وقال عليه السلام السلطان العدل المتواضع ظل الله ورمحه في الأرض يرفع الله له عمل سبعين صديقا ولما كان أهل بيت سيد المرسلين أعظم قريش في قلوب المؤمنين وأكرمهم منزلة عند رب العالمين أنالهم الله تعالى في خلقه فضلا كبيرا ومنحهم إجلالا ورفعة وتعظيما وتكبيرا قال الله تعالى { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } الأحزاب 33 وقال عليه الصلاة والسلام النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأمتي وإن ممن امتن الله به علينا من أهل هذا البيت الشريف الذي أولاه الله أشرف التعظيم وأعظم التشريف وقدمه تعالى لسلطانه العزيز ورفعه جل وعلا على منصة التبريز عميد المجد الذي لا يتناهى فخره ووحيد الحسب جل منصبه وقدره الإمام الذي ألقت له الإمامة زمامها وقدمته الأفاضل لفضله إمامها من جاءت له الخلافة تجر أذيالها وأخذها دون بني أبيه ولم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها ومن جبلت قلوب الخلائق على محبته وألقى له القبول في الأرض لمجده ولعلو همته السلطان السعيد الواثق بربه المعين الرشيد أبا المكارم والمفاخر سيدنا ومولانا يزيد ابن مولانا الإمام السلطان
____________________


الهمام المرحوم بالله سيدي محمد ابن أمير المؤمنين سيدنا ومولانا عبد الله ابن السلطان الجليل أمير المؤمنين مولانا إسماعيل ابن موالينا السادة الأشراف ذوي الفضل والكرم والإنصاف قدس الله أرواحهم في أعلى الجنان ومنحهم بفضله الرضا والرضوان أيد الله ببقائه الدين وطوق بسيفه الملحدين وكتب تحت لوائه المعتدين وكتب له النصر إلى يوم الدين وأعاذ به الأرض من لايدين بدين وأعاد بعدله أيام آبائه الخلفاء الراشدين وأسكن في القلوب سكينته ووقاره ومكن له في الوجود وجمع له أقطاره هو والله ممن فيه استحقاق ميراث آبائه الأعلام وتراث أجداده الكرام المجمع عليه أنه في هذه الأيام فرد هو الأنان وواحد وهكذا في الوجود الإمام الراقي في صبح سماء هذه الذروة المنيفة الباقي بعد الأئمة الماضين نعم الإمام ونعم الخليفة سلالة الأخيار وخلاصة أبناء النبي المختار أسمى الله إيالته الشريفة وأنار البسيطة بأنوار مملكته الشامخة المنيفة انعقد الإجماع من أهل هذه الحضرة المراكشية حاطها الله وما حولها من أهل السوس وكافة الرحامنة وغيرهم من قبائل عديدة حسبما تضمنته أسماء من يكتب اسمه منهم عقبه بخط من يكتب منهم أو خطوط العدول الثقات عمن لم يكن يحسن الكتابة وأذنوا لمن يكتب عنهم بيعة تم بمشيئة الله تمامها وعم بالصوب المغدق غمامها سعيدة ميمونة شريفة لها السلامة في الدين والدنيا مضمونة صحيحة شرعية ملحوظة مرعية دائبة دائمة لازمة جازمة صحيحة صريحة متعبة مريحة على الأمن والأمانة والعفاف والديانة وعلى ما بويع به مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده والأئمة المهتدون الموفون بعهده وعلى السمع والطاعة وملازمة السنة والجماعة قرت بها نواظرهم وشهدت بذلك على صفاء بواطنهم ظواهرهم وأعطوا بها صفقة أيديهم وأمضوها إمضاء يدينون به في السر والجهر والمنشط والمكره واليسر والعسكر أجمع عليها أرباب العقد
____________________


والحل وأصحاب الكلام فيما قل وجل ومن يوصف بعلم وقضاء ومن يرجع إليه في رد وإمضاء لم يخالف فيها إمام مسجد ولا خطيب ولا ذو فتوى يسأل فيجيب ولا من يجتهد في رأي فيخطىء أو يصيب ولا معروف بدين وصلاح ولا فرسان حرب وكفاح ولا طاعن برمح ولا ضارب بصفاح ولا ولاة الأمر والأحكام ولا حملة العلم الأعلام ولا حماة السيوف والأقلام ولا أعيان السادة الأشراف ولا أكابر الفقهاء ومن انخفض قدره ومن أناف بيعة تمت بها نعمة من وحد الله قائلين { الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } الأعراف 43 { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } الفتح 10 الآية فمن حضر خواص من ذكر وعوامهم قيد شهادته بمضمن العقد المنصوص ملتزما لجميع ما اقتضاه من العموم والخصوص باسطا كفه بالدعاء والابتهال والتضرع لذي العزة والجلال قائلا اللهم كما خصصت مولانا أمير المؤمنين بمزيد الكرامة وارتضيته لمقام الإمامة وانتخبته من أشراف الناس وصنت به وجوههم عن الباس فانصره اللهم نصرا مؤزرا واجعل نصيبه من عنايتك وكفايتك جزيلا موفرا وأن له في كل مرام فتحا مبينا وظفرا ميسرا معينا وأسعدنا اللهم بأيامه واكلأه بكلاءتك في ظعنه ومقامه واجعل بيعته المباركة بيعة تخلد بها مآثره تخليدا وتؤيد علوه وتأييده ونصره تأييدا وأبقه على الأنام شفيقا وبجميعهم بارا رفيقا وأعنه اللهم على ما وليته من أمور عبادك ومهد له أتم التمهيد في أقطار بلادك وكن له فيما يرضيك مؤيدا وظهيرا واجعل له من لدنك وليا وسلطانا نصيرا أجب دعاءنا إنك با مولانا ولي ذلك وبه قدير وأنت نعم المولى ونعم النصير وبالإجابة جدير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي الكبير وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين في ثامن عشر شعبان عام أربعة ومائتين وألف انتهت
____________________

انتقال الودايا من مكناسة إلى فاس وعبيد الثغور منها إلى مكناسة
لما كان السلطان المولى يزيد رحمه الله بمكناسة أمر الودايا أن ينتقلوا منها إلى فاس الجديد مسقط رؤوسهم ومنبت شوكتهم وبأسهم وبذل لهم خمسين ريالا للرأس إعانة لهم على نقلتهم فعادوا إلى فاس الجديد واستوطنوه بعد تغريبهم عنه بمكناسة ثلاثين سنة كما سبق ثم أمر عبيد الثغور أن ينتقلوا منها إلى مكناسة لتجتمع كلمتهم بها وأنعم على أهل كل ثغر منهم ببيت ماله الذي به فاقتسموه وانقلبوا إلى مكناسة مغتبطين نقض الصلح مع جيش الإصبنيول وحصاره سبتة
قال منويل القشتيلي في كتابه الموضوع في أخبار المغرب لما ولي المولى يزيد بن محمد رحمه الله أظهره معاداة الإصبنيول وصمم على حربهم فتفادى طاغيتهم من حربه بكل وجه وبعث باشدوره إليه بطنجة يهنئه بالملك ويتملق له فأعرض عن ذلك ولم يحفل به ولا بهديته بل عمد إلى من كان بمراسيه من نصارى الإصبنيول تجارا وفرايلية وغيرهم وقبض عليهم وسلكهم في السلاسل وساقهم إلى طنجة فحبسهم بها قال وكانت قراصين المسلمين الحربية يومئذ ستة عشر قرصانا وفيها من المدافع ثلاثمائة مدفع وستة مدافع
قلت قد تقدم أن القراصين أكثر من ذلك بكثير واستمر النصارى محبوسين بطنجة إلى أن اتفق أن كان قرصان للإصبنيول يطوف بساحل العرائش فظفر بمركب هنالك وأسر بعضهم وكان المولى يزيد يومئذ بالعرائش فنظر إليهم بمرآة الهند وهو على سطح داره إذ أسروهم وبعث الصريخ في أثرهم ففاتوه ثم وقع التفادي بينه وبين الطاغية في أولئك الأسرى بأسرى طنجة اه كلام منويل
____________________


ثم إن السلطان المولى يزيد رحمه الله زحف إلى سبتة واستنفر الناس لجهادها والمرابطة عليها واستصحب معه آلة الحرب من المدافع والمهاريس ونصب عليها سبعة أشبارات كان جلها لفنانشة سلا وأهرعت إليه المتطوعة من حاضر وباد ونسلوا إليه من كل حدب وواد وأقام على حصارها مدة ثم أفرج عنها وسار إلى ناحية مراكش لأمر اقتضى ذلك فلما وصل إلى مدينة آنفا بدا له من الرجوع فرجع ونزل عليها واستأنف الجد وأرهف الحد وأرسل إلى قبائل الحوز يستنفرهم للجهاد والمرابطة فتقاعدوا عنه بعد أن أشرف على فتحها وكان ما نذكره انتقاض أهل الحوز على السلطان المولى يزيد ابن محمد وبيعتهم لأخيه المولى هشام رحمهما الله
لما قدمت قبائل الحوز على السلطان المولى يزيد بمكناسة ظهر لهم منه بعض التجافي عنهم وأنزلهم في العطاء دون البربر والودايا وغيرهم فساءت ظنونهم به وانفسدت قلوبهم عليه ولما رجعوا إلى بلادهم تمشت رجالاتهم بعضها إلى بعض وخب الرحامنة في ذلك ووضعوا واتفقت كلمتهم مع أهل مراكش وعبدة وسائر قبائل الحوز فقدموا المولى هشام بن محمد للقيام بأمرهم وآتوه بيعتهم وطاعتهم ولما اتصل خبر ذلك بالمولى يزيد وهو محاصر لسبتة أقلع عنها وسار إلى الحوز فشرد قبائله ووصل إلى مراكش فدخلها عنوة يقال إن دخوله إليها كان من الباب المعروف بباب يغلى فاستباحها وقتل وسمل وكان الحادث بها عظيما ثم استجاش عليه المولى هشام قبائل دكالة وعبدة وقصده بمراكش فبرز إليه المولى يزيد ولما التقى الجمعان بموضع يقال له تازكورت انهزم جمع المولى هشام وتبعهم المولى يزيد فأصيب برصاصة في خده فرجع إلى مراكش يعالج جرحه فكان في ذلك حتفه رحمه الله وذلك أواخر جمادى الثانية سنة ست ومائتين وألف
____________________


ودفن بقبور الأشراف قبلي جامع المنصور من قصبة مراكش ولقد كان رحمه الله من فتيان آل علي وسمحائهم وأبطالهم له في النجدة والكفاية المحل الذي لا يجهل والسبق الذي لا يلحق والغبار الذي لا يشق ولا يضره تنقيص من نقصه من الحسدة عفا الله عنا وعنهم فإن مكان الرجل غير مكانهم وهمته العالية فوق تزويراتهم تغمد الله الجميع بعفوه وغفرانه آمين ولنذكر ما كان في هذه المدة من الأحداث
ففي شعبان سنة اثنتين وأربعين ومائة وألف توفي الفقيه العلامة القاضي بسلا أبو عبد الله محمد السوسي المنصوري ودفن قرب الولي الصالح سيدي مغيث من طالعة سلا وله شرح على مختصر السنوسي في المنطق وآخر على كبراه وفي ضحى يوم السبت الثامن والعشرين من المحرم فاتح سنة ثلاث وأربعين ومائة وألف توفي الفقيه المرابط البركة سيدي الحاج الغزواني ابن البغدادي من حفدة الولي الأشهر سيدي محمد الشرقي رضي الله عنه ودفن بداره بجوار سيدي مغيث أيضا
وفي يوم الأربعاء الثامن والعشرين من صفر سنة أربع وأربعين ومائة وألف توفي الفقيه العلامة الإمام صاحب التصانيف المفيدة والأجوبة العتيدة أبو عبد الله سيدي محمد بن عبد الرحمن بن زكري الفاسي رحمه الله ورضي عنه
وفي يوم الجمعة الرابع من رجب سنة ست وأربعين ومائة وألف كمل بناء قبة ولي الله تعالى أبي العباس سيدي الحاج أحمد بن عاشر رضي الله عنه على يد القائد أبي عبد الله الحوات وفي الشهر نفسه توفي الفقيه القاضي النوازلي أبو العباس سيدي أحمد الشدادي بزاوية زرهون
وفي سنة خمسين ومائة وألف ولد الشيخ أبو العباس أحمد التجاني شيخ الطائفة التجانية وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله وفيها كانت المجاعة العظيمة بالغرب والفتن ونهب الدور بالليل بفاس وغيرها وصار جل الناس لصوصا
____________________


فكان أهل اليسار لا ينامون لحراستهم دورهم وأمتعتهم وهلك من الجوع عددا لا حصر له حتى لقد أخبر صاحب المارستان أنه كفن في رجب وشعبان ورمضان ثمانين ألفا وزيادة سوى من كفنه أهله هذا بفاس وليقس عليها غيرها
وفي زوال يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شوال سنة ثمان وخمسين ومائة وألف توفي قاضي سلا الفقيه العلامة السيد أبو عمرو عثمان التواتي ودفن داخل روضة سيدي الحاج أحمد بن عاشر رضي الله عنه
وفي سنة ثلاث وستين ومائة وألف كان الوباء بالمغرب وانحباس المطر فلحق الناس من ذلك شدة ثم تداركهم الله بلطفه
وفي سنة تسع وستين ومائة وألف كانت الزلزلة العظيمة بالمغرب التي هدمت جل مكناسة وزرهون ومات فيها خلق كثير بحيث أحصي من العبيد وحدهم نحو خمسة آلاف وتكلم لويز مارية على هذه الزلزلة فقال إنها مكثت ربع ساعة وتشققت الأرض منها واضطراب البحر وفاض حتى ارتفع ماؤه على سور الجديدة وفرغ فيها ولما رجع البحر إلى مقره ترك عددا كثيرا من السمك بالبلد وفاض على مسارحهم ومزارعهم وأشباراتهم فنسف ذلك كله نسفا واضطربت المراكب والفلك بالمرسى فتكسرت كلها وفر نصارى البلد إلى الكنيسة وتركوا ديارهم منفتحة ومع ذلك لم يفقد منها شيء لاشتغال الناس بأنفسهم وتكلم صاحب نشر المثاني على هذه الزلزلة فقال وفي ضحوة يوم السبت السادس والعشرين من المحرم سنة تسع وستين ومائة وألف زلزلت الأرض زلزالها ومادت شرقا وغربا واستمرت كذلك نحو درج زماني وفاض ماء البرك والصهاريج على البيوت وتكدرت العيون ووقف ماء الأودية عن الجري وسقطت الدور وتصدعت الحيطان وأخذ الناس في هدم ما تصدع خوف سقوطه وفزع الناس وتركوا حوانيتهم وأمتعتهم ووقع بمدينة سلا أن ماء البحر انحصر عنه إلى أقصاه فجاء الناس ينظرون إليه فرجع الماء إلى جهة البر وتجاوز حده المعتاد بمسافة كبيرة
____________________


فأغرق جميع من كان خارج المدينة في تلك الجهة وصادف قافلة ذاهبة إلى مراكش فيها من الدواب والناس عدد كثير فأتلف الجميع ورمى بالقوارب والزوارق التي في الوادي إلى مسافة بعيدة جدا ثم بعد هذه بنحو ستة وعشرين يوما عادت زلزلة أخرى أشد من الأولى بعد صلاة العشاء هي التي أثرت في مكناسة غاية وهلك تحت الهدم بها نحو عشرة آلاف نفس وفعلت بفاس أيضا فعلا شنيعا انظر تمام كلامه فقد أطال في وصفها
وفي يوم الأحد التاسع والعشرين من رمضان سنة سبع وسبعين ومائة وألف انكسفت الشمس وبقي منها مثل الهلال ثم انجلت بعد حين
وفي فجر يوم الأحد الثامن والعشرين من ربيع الثاني سنة إحدى وثمانين ومائة وألف توفي الشريف البركة مولاي الطيب بن محمد الوزاني وعمره ينيف على الثمانين سنة وبعد صلاة العصر من يوم الأربعاء الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف انكسفت الشمس وظهرت النجوم لكثرة الظلام ثم انجلت ورجعت لحالها بعد نصف ساعة ونحوها
وفي أعوام تسعين ومائة وألف كانت المجاعة الكبيرة بالمغرب وانحبس المطر ووقع القحط وكثر الهرج ودام ذلك قريبا من سبع سنين
وفي أواخر ربيع الثاني سنة أربع وتسعين ومائة وألف توفي الشيخ العلامة الإمام المحقق البارع أبو عبد الله محمد بن الحسن بناني الفاسي الفقيه المشهور صاحب التآليف الحسان مثل حاشيته البديعة على شرح الشيخ عبد الباقي الزرقاني على مختصر خليل حكى العلامة الرهوني في حاشيته قال لما أخبر الشيخ التاودي ابن سودة بوفاته جاء فزعا وهو يبكي فلقيه بعض الناس فقال له الله يجعل البركة فيكم فقال لم تبق بركة بعد هذا الرجل وذلك لمعرفته بمكانته
وفي ضحى يوم السبت الثامن عشر من صفر سنة ست وتسعين ومائة وألف توفي الشريف البركة المولى أحمد بن الطيب الوزاني رحمه الله ونفعنا به وبأسلافه آمين
____________________

حدوث الفتنة بالمغرب وظهور الملوك الثلاثة من أولاد سيدي محمد بن عبد الله وما نشأ عن ذلك
لما قتل المولى يزيد رحمه الله بمراكش افترقت الكلمة بالمغرب فأقام أهل الحوز وأهل مراكش على التمسك بدعوة المولى هشام وشايعه على أمره القائد أبو زيد عبد الرحمن بن ناصر العبدي صاحب آسفي وأعمالها والقائد أبو عبد الله محمد الهاشمي بن علي بن العروسي الدكالي البوزراري وكان المولى مسلمة بن محمد شقيق المولى يزيد خليفة عنه ببلاد الهبط والجبل يدبر الأمر بثغورها وينظر في أمورها فلما اتصل به خبر وفاة أخيه دعا إلى نفسه أهل تلك البلاد فبايعوه واتفقت كلمتهم عليه ووصل خبر موت المولى يزبد إلى فاس وأعمالها فبايعوا المولى سليمان بن محمد رحمه الله وكان من أمره ما نذكره الخبر عن دولة أمير المؤمنين أبي الربيع المولى سليمان بن محمد رحمه الله
كان المولى سليمان بن محمد رحمه الله أعلق بقلب أبيه من سائر إخوته على ما قيل لسعيه فيما يرضي الله ورسوله ويرضي والده واشتغاله بالعلم والعكوف عليه بسجلماسة وغيرها ولم يلتفت قط إلى شيء مما كان يتعاطاه إخوته الكبار والصغار من أمور اللهو كالصيد والسماع ومعاقرة الندمان وما يزري بالمروءة ولم يأت فاحشة قط من صغره إلى كبره وكان رحمه الله يرى له ذلك ويثيبه عليه بالعطايا العظيمة والذخائر النفيسة والأصول المعتبرة التي تغل الألف وأكثر وينوه بذكره في المحافل ويبعث إليه بأعيان الفقهاء والأدباء إلى سجلماسة ليقرأ عليهم ويأخذ عنهم ويدعو له في كل موقف على رؤوس الأشهاد ويقول إن ولدي سليمان رضي الله عنه لم يبلغني عنه قط ما يكدر باطني عليه فأشهدكم أني عنه راض ونشأ رحمه الله نشأة حسنة
____________________


طيبة وكانت شمائل الملك لائحة عليه إلى أن أظفره الله به وكنا قدمنا أنه قدم على أخيه المولى يزيد بقبائل الصحراء فأجل مقدمه وأكرم وفادته فأقام المولى سليمان رحمه الله بفاس إلى أن كانت وفاة المولى يزيد في التاريخ المتقدم فاتصل خبر موته بأهل فاس ومكناسة فقاموا على ساق واتفق العبيد والودايا والبربر وأهل فاس على بيعته لما كان عليه من العلم والدين والفضل وسائر الأوصاف الحميدة التي تفرد بها عن غيره ولما قدم العبيد والبربر من مكناسة إلى فاس اجتمعوا بأعيان الودايا وأهل فاس ودخلوا ضريح المولى إدريس رضي الله عنه وبايعوا أمير المؤمنين المولى سليمان يوم الأثنين سابع عشر رجب سنة ست ومائتين وألف ولما تمت بيعته انتقل إلى فاس الجديد فاستقر بدار الملك منها وقدمت عليه وفود القبائل من العرب والبربر بهداياهم ثم قدم عليه بعدهم قبائل بني حسن وأهل الغرب ثم أهل العدوتين سلا ورباط الفتح وانحرف بعض أهل رباط الفتح عن بيعته كما سيأتي ثم قدم عليه أهل الثغور الهبطية بعد أن توقفوا عن بيعته مدة يسيرة لأنهم كانوا قد بايعوا المولى مسلمة كما مر
ونص بيعة أهل فاس الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الحمد لله الذي نظم بالخلافة شمل الدين والدنيا وأعلى قدرها على كل قدر فكانت لها الدرجة العليا وأشرق شمسها على العوالم وأنار بنورها المعالم وأصلح بها أمر المعاش والمعاد وألف بها بين قلوب العباد من الحاضر والباد وجعلها صونا للدماء والأموال والأعراض وغل بها أيدي الجبابرة فلم تصل إلى مفاسد الأغراض وقام بها أمر الخلق واستقام وأقيمت الشرائع والحدود والأحكام ونصب منارها علما هاديا وأقامه إلى الحق داعيا فأوى لظلها الوريف القوي والضعيف والمشروف والشريف فسبحان من قدر فهدى ولم يترك الإنسان سدى بل أمره ونهاه وحذره اتباع هواه وطوقه القيام بالنفل والفرض وهو أحكم
____________________


الحاكمين { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين } البقرة 25 فمن رحمته نصب الملوك ومهد الطريق للسير والسلوك ولو ترك الناس فوضى لأكل بعضهم بعضا وآل الأمر إلى الخراب وأفضى لولا الخلافة لم تؤمن لنا سبل وكان أضعفنا نهبا لقوانا والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للأنام أصل الوجود ومبدأه وغاية الكمال ومنتهاه سيد الأولياء وإمام الأنبياء وقائد الأصفياء وعلى آله أولي المجد العميم والقدر العظيم وأصحابه الخلفاء الراشدين والهداة المهتدين الذين شيدوا أركان الدين ومهدوا قواعده للمشيدين وأخبروا عنه وأسندوا إليه صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله اختص بهذا الأمر قريشا وأنزل عليه { والله يؤتي ملكه من يشاء } البقرة 247 هذا ولما قضى الله سبحانه وله البقاء والدوام بنزول ما لا بد منه من فجأة الحمام لمن كان قائما بهذا الأمر العظيم وانتقاله إلى دار عفوه ورضوانه العميم أسكنه الله فسيح الجنان وسقى ثراه سحائب الرحمة والغفران وجب على الناس نصب إمام لقوله عليه الصلاة والسلام من مات وليست في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية فجالت أفكارهم وخاصت عقولهم وأنظارهم فيمن يقدمون لهذا المنصب الأعظم ويسلك بهم السبيل الأقوم فهداهم التوفيق والتسديد والرأي الصالح السديد إلى من نشأ في عفة وصيانة ومروءة وديانة وعكوف على تحصيل العلم الشريف ودؤب على التحلي بحلى العمل المنيف مع نجدة ونباهة وذكاء وفطانة ونزاهة وعلو همة وقوة عزمة وتدبير وسياسة وخبره بالأمور وفراسة فتى جمع الله له بين الصرامة والحلم وزاده بسطة في العلم والجسم وألبسه الهيبة والوقار ورقاه أعلى رتب العز والفخار وهو السري المقدم الشهم الأبر الهمام ذو الأخلاق الطاهرة الزكية والمآثر الظاهرة السنية عالي القدر والشأن فريد العصر ووحيد الأوان أبو الربيع مولانا سليمان ابن مولانا أمير المؤمنين محمد ابن
____________________

مولانا أمير المؤمنين عبد الله ابن مولانا أمير المؤمنين إسماعيل ابن مولانا الشريف فانعقد الإجماع من أهل هذه الحضرة الإدريسية وما حولها من البقاع على تقدمه وإمامته واستبشروا بإمرته وخلافته وبادروا إلى تعيينه وبايعوه بيعة انعقد على ألوية النصر عقدها وطلع في أفق الهناء سعدها حضرها الصدور والأعيان وأهل الوجاهة في هذا الزمان وذوو الحل والعقد ومن إليهم القبول والرد من علماء وأعلام وأصحاب الفتاوى والأحكام وعظماء أشراف كرام ورماة كبرا وولاة أمرا ورؤساء أجناد والمتقدمين في كل ناد من عرب البدو والحضر وجيوش العبيد والبربر فانعقدت بحمد الله مؤسسة على التقوى واشتد بها عضد الإسلام وتقوى بيعة تامة محكمة الشروط وفية العهود وثيقة الربوط جارية على سنن السنة والجماعة سالمة من كل كلفة ومشقة وتباعة رضي الكل بها وارتضاها وألزم حكمها بالسمع والطاعة وأمضاها شهد بذلك الحاضرون على أنفسهم طوعا وأدوا إليه تعالى ما وجب عليهم شرعا جعلها الله رحمة على الخلق وأقام بها في البسيطة العدل والحق وأيد بعونه وتأييده وتوفيقه وتسديده من تلقاها بالقبول وأحيا به سنة سيدنا ومولانا الرسول صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم فهنيئا لأرضنا إذ ألقت مقاليدها إلى من يحمي حماها ويحقن دماها ويكبت عداها ويدفع رداها وينصر الشريعة ويشيد مبناها ويعلن بحقيقة الحق ويوضح معناها نصره الله ونصر به وأمات البدع والظلالة بسببه ودمر به شيعة الجور والفساد وأبقى الخلافة في بيته إلى يوم التناد وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيئين وعلى آله وأصحابه أجمعين والراوين عنهم والمتلقين منهم آمين وفي ثامن عشر رجب الفرد الحرام من ستة ومائتين وألف من هجرة المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام أفقر العبيد إلى الله سبحانه عبد الله تعالى محمد التاودي بن الطالب ابن سودة المري كان الله له وليا وبه حفيا أحمد بن التاودي المذكور أخذ
____________________


الله بيده وكان له في جميع الأمور وأناله الثواب والأجور وعبد الله تعالى محمد بن عبد السلام الفاسي لطف الله به آمين وعبد القادر بن أحمد بن العربي بن شقرون أمنه الله بمنه آمين ومحمد بن أحمد بنيس كان الله له وليا ونصيرا آمين وعبد ربه وأفقر عبيده إليه محمد بن عبد المجيد الفاسي لطف الله به وعبد ربه سبحانه يحيى بن المهدي الشفشاوني الحسني لطف الله به وعبد ربه علي بن إدريس كان الله له ولطف به آمين وعبد ربه تعالى محمد بن إبراهيم لطف الله به وعبد ربه سبحانه محمد بن مسعود الطرنباطي وفقه الله بمنه آمين وعبد ربه سبحانه سليمان بن أحمد الشهير بالفشتالي كان الله له وأصلح حاله وعبد ربه محمد الهادي بن زين العابدين العراقي الحسيني وفقه الله وعبد ربه سبحانه محمد التهامي طاهر الحسني وفقه الله آمين وعبد الملك بن الحسن الفضيلي الحسني لطف الله به آمين وعبد ربه إدريس بن هاشم الحسني الجوطي لطف الله به آمين انتهى حرب السلطان المولى سليمان لأخيه المولى مسلمة وطرده إلى بلاد المشرق
لما تمت بيعة السلطان المولى سليمان بن محمد رحمه الله بفاس باتفاق أهل الحل والعقد من الجند والعلماء والأشراف وسائر الأعيان تداعى أمر المولى مسلمة إلى الاختلال وكان أول ما ابتدأ به عمله بعد تلك البيعة المستعجلة أن بعث جريدة من الخيل إلى نظر القائد أبي عبد الله محمد الزعري إلى رباط الفتح وذلك باستدعاء محتسبها أبي الفضل العباس مرينو وأبي عبد الله محمد المكي بن العربي فرج من أهلها المنحرفين عن المولى سليمان إلى التمسك بدعوة المولى مسلمة وكان أهل رباط الفتح يومئذ على فرقتين فرقة دخلت في طاعة المولى سليمان وفرقة أقامت بالتمسك ببيعة المولى مسلمة
____________________


ولما اتصل بالمولى سليمان خبر مسير الزعري إلى رباط الفتح عقد لأخيه المولى الطيب على بني حسن وبعثه في اعتراضه فتوافى الجيشان معا برباط الفتح ووقعت الحرب فانهزم الزعري وشيعته وقتل العباس مرينو وفر المكي فرج إلى الزاوية التهامية فاستجار بها وقبض المولى الطيب على الزعري وجماعة من أصحابه ثم سرحه بأمر السلطان المولى سليمان واجتمعت كلمة أهل العدوتين على طاعته هكذا ساق صاحب البستان هذا الخبر وآل فرج يثبتونه ويقولون إن أصل هذه الفتنة أن آل مرينو كانت لهم الوجاهة مع المولى يزيد رحمه الله فسعوا عنده بآل فرج وقالوا له إنهم تقاعدوا على مال الوزير أبي عبد الله محمد العربي قادوس الذي أمنه عندهم فبطش بهم المولى يزيد وصادرهم واستحكمت العداوة يومئذ بينهم وبين آل مرينو فلما توفي المولى يزيد بادر آل مرينو ومن لافهم إلى بيعة المولى مسلمة وانحرف عنهم إلى بيعة المولى سليمان من لم يكن من حزبهم ولما قتل العباس مرينو عمد أوباش رباط الفتح إلى شلوه وربطوا في رجله حبلا وجروه في أسواق المدينة وعرضوه على حوانيتها حانوتا حانوتا إذ كان في حياته محتسبا رحمه الله وكان السلطان المولى سليمان في هذه المدة مقيما بفاس لم يتحرك منه ثم أن المولى مسلمة صاحب بلاد الهبط بعث ولده إلى آيت يمور وأمرهم أن يشنوا الغارة على أهل زرهون الذين هم في طاعة السلطان ففعلوا وكثر عيثهم في الرعايا فسار السلطان المولى سليمان إلى مكناسة واستنفر جيش العبيد وقبائل البربر ثم وافاه الودايا وأهل فاس وشراقة فاجتمع عليه الجم الغفير وصمد بهم إلى آيت يمور فألفاهم على نهر سبو بالموضع المعروف بالحجر الواقف فصمدت إليهم العساكر وأوقعت بهم وقعة شنعاء وفر ولد المولى مسلمة فلحق بأبيه ولجأ آيت يمور بقضهم وقضيضهم إلى جبل سلفات وبقيت حلتهم بماشيتها وأثاثها بيد السلطان فانتهبتها جيوشه من العبيد والودايا والبربر وبات السلطان هنالك ولما أصبح بعث إليه آيت يمور نساءهم وأولادهم للشفاعة وطلب العفو فعفا عنهم وثابوا إليه وبايعوه فأنعم عليهم بماشيتهم وزرعهم وعاد إلى فاس ثم
____________________


بلغه أن المولى مسلمة معسكر ببلاد الحياينة فنهض إليه من فاس فأوقع به فانهزم المولى مسلمة وجيشه ونهب جيش السلطان حلة الحياينة وجاؤوا تائبين فعفا عنهم ونظمهم في سلك الجماعة وتفرق عن المولى مسلمة كل من كان معه من عرب الخلط وأهل الجبل ولم يبق معه إلا خاصته وأولاده وابن أخيه المولى حسن بن يزيد فسار إلى جبل الزبيب فلم يقبلوه ثم انتقل إلى الريف فأهملوه ثم صعد إلى جبل بني يزناسن فطردوه ثم توجه إلى ندرومة فمنعه صاحبها من الوصول إلى الباي صاحب الجزائر وكان ذلك عن أمر منه فتوجه إلى تلمسان وأقام بها
قال صاحب البستان وهناك اجتمعت به في ضريح الشيخ أبي مدين بالعباد يعني حين قدم تلمسان مفارقا للسلطان المولى سليمان وزعم أن المولى مسلمة لما اجتمع به لامه على تخذيل الناس عن بيعته وحضه إياهم على بيعة أخيه المولى سليمان قال فبينت له حال المولى سليمان وما هو عليه من اتباع سيرة والده في العدل والرفق بالرعية وبذلك أحبه الناس فلما سمع كلامي بكى واعترف بالحق وتلا قوله تعالى { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير } الأعراف 188 ثم طلب من صاحب الجزائر أن يأذن له في الذهاب إلى المشرق والمرور بإيالته فأبى وبعث من أزعجه من تلمسان إلى سجلماسة
ولما اتصل خبره بالسلطان المولى سليمان وأنه عاد إلى سجلماسة أرسل إليه مالا وكسى وعين له قصبة ينزلها ورتب له ما يكفيه في كل شهر كسائر إخوته فلم يطب له مقام بها وسار إلى المشرق فاجتاز في طريقه بصاحب تونس الأمير حمودة باشا ابن علي باي
قال صاحب الخلاصة النقية قدم المولى مسلمة بن محمد على الأمير حمودة باشا شريدا أثر خلعه من مملكة فاس فأنزله أسنى منزلة وأجرى عليه جراية سلطانية وبالغ في بره اه ثم أن المولى مسلمة سافر إلى المشرق فأقام بمصر مدة ثم توجه إلى مكة فنزل على سلطانها صهره على أخته فأكرمه ورتب له جراية ثم عاد من مكة إلى مصر وساءت حاله في هذه المدة وضاقت عليه الأرض بما رحبت فرجع إلى تونس ونزل على حمودة
____________________


باشا المذكور فعاود إكرامه ثم طلب منه أن يشفع له عند أخيه المولى سليمان فكتب له بذلك فأخذ كتابه وانحدر إلى وهران وطلب من أميرها الشفاعة أيضا فكتب له وبعث بمكاتيب الأميرين إلى السلطان المولى سليمان فقبله وأمره أن يذهب إلى سجلماسة ينزل بها بدار والده ويرتب له ما يكفيه من مؤنة وكسوة ويقاسمه نعمته ويبقى بعيدا عن سماسرة الفتن حتى لا يجدوا سبيلا إلى إيقاد نار الفتنة فلما بلغه جواب أخيه لم يرض ذلك وعاد إلى المشرق فبقي يتردد به إلى أن وافته منيته واستراح من تعب الدنيا رحمه الله نهب عرب آنقاد لركب حاج المغرب وما نشأ عن ذلك
ثم بلغ السلطان المولى سليمان رحمه الله أن جماعة من التجار والحجاج الذين قدموا من المشرق خرجوا من وجدة متوجهين إلى فاس فلما توسطوا أرض آنقاد عدت عليهم عربها فنهبتهم فاستدعى السلطان رحمه الله الكاتب أبا القاسم الصياني وأمره بالمسير إلى وجدة يكون واليا بها ويصلح ما فسد من أعمالها فكره الصياني ذلك واستقال فلم يقله السلطان وعزم عليه في المسير إليها وعين له مائة فارس تذهب معه فامتثل راغما وأضمر أنه إن فارق السلطان يذهب إلى أحد الحرمين الشريفين فيقيم به بقية عمره وجمع موجوده وخرج فخرج معه قفل التجار الذي كان محصورا بفاس ولما توسطوا أرض آنكاد وجدوا العرب في انتظارهم فثأروا بهم وقاتلوهم فتماسكت خيل السلطان هنيئة ثم كثرهم العرب فهزموهم ولم يبق من تلك الخيل إلا قائدها في عشرة من إخوانه وانتهبت العرب ما كان في ذلك القفل من أمتعة التجار وسلعها ولم ينج من نجا منه إلا بنفسه قال الصياني فلجأنا إلى قصبة العيون وتفرق جمعنا وقتل منا سبعة نفر وجرح آخرون فبعثت من أتانا بالقتلى فدفناهم ثم سرحت قائد الخيل إلى وجدة مع بعض العرب الذين هنالك وطلعت أنا مع برابرة بني يزناسن وليس معي إلا مركوبي
____________________


وفرس آخر كان عليه مملوك لي قتل في المعركة قال ثم خلصت إلى وهران فنزلت عند الباي محمد باشا فأظهر التأسف والتوجع وراودني على المقام فأبيت ثم ذكر الصياني أنه بعد هذا ذهب إلى تلمسان واجتمع هنالك بالمولى مسلمة بن محمد وتلاوما وتعاتبا حسبما ذكرناه آنفا وكان ذلك أواخر سنة ست ومائتين وألف بعث السلطان المولى سليمان الجيوش إلى الحوز ونهوضه على أثرها إلى رباط الفتح وعوده إلى فاس
قد قدمنا أن أهل مراكش وقبائل الحوز كانوا متمسكين بدعوة المولى هشام بن محمد من لدن دولة المولى يزيد رحمه الله ولما صفت بلاد الغرب للسلطان المولى سليمان رحمه الله تاقت نفسه إلى تمهيد بلاد الحوز والاستيلاء عليها فعقد لأخيه المولى الطيب بن محمد على عشرة آلاف من الخيل وعين معه جماعة من قواد الجيش وبعثهم إلى قبائل الشاوية وذلك أواخر سنة سبع ومائتين وألف ثم زحف السلطان على أثرهم إلى رباط الفتح فمحا بقية آثار الفتنة التي نشأت بها وأقام ينتظر ما يكون من أمر أخيه
وفي سادس شوال من السنة صلى السلطان الجمعة بمسجد القصبة منها وكان هو الإمام وخطب خطبة بليغة تشتمل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحذير من الحرام واجتناب الآثام ووعد وأوعد وقال في آخر خطبته وانصر اللهم جيوش المسلمين وعساكرهم ودعا لكافة الأمة وصلى في الركعة الأولى بسورة الجمعة وفي الثانية بسورة الغاشية الخ ولما قدم المولى الطيب بلاد الشاوية تنافس قواد الجيش الذين معه وتنازعوا الرياسة وصار كل واحد منهم يرى أنه صاحب الأمر وكان من أعظمهم تهورا القائد الغنيمي كان من قواد المولى يزيد رحمه الله فأبقاه المولى سليمان على رياسته تألفا له فاستبد على سائر القواد في الرأي إذ كان رديف
____________________


الخليفة المولى الطيب وصاحب مشورته فلما كان وقت اللقاء تخاذلوا عنه وجروا عليه الهزيمة وتركوا أخبيتهم وأثاثهم بيد العدو ورجعوا مفلولين إلى السلطان برباط الفتح وهم عشرة آلاف فارس كما مر فما وسع السلطان رحمه الله إلا الرجوع بهم إلى فاس لتجديد آلة السفر والغزو ثانيا وإخلاف ما ضاع من الأخبية والسلاح والأثاث حسبما يذكر بعد إن شاء الله ثورة محمد بن عبد السلام الخمسي المعروف بزيطان بالجبل
لما كانت سنة ثمان ومائتين وألف ثار بقبيلة الأخماس من جبال عمارة رجل من طلبتها يقال له محمد بن عبد السلام ويدعى زيطان فاجتمعت عليه سماسرة الفتن من كل قبيلة وكثر تابعوه وكان السبب في ثورته أن القائد قاسما الصريدي كان واليا بتلك الناحية أيام المولى يزيد رحمه الله فلما بويع المولى سليمان ولى على تلك الناحية القائد الغنيمي المتقدم الذكر وكان عسوفا فيما قيل فقبض على القائد قاسم واستصفى أمواله وبث عليه العذاب كي يظهر ما بقي عنده حتى هلك في العذاب فثار زيطان واجتمعت عليه الغوغاء من أهل تلك البلاد ولما شرى داؤه بعث السلطان بجيش إلى القائد الغنيمي وأمره أن يقصد زيطان وجمعه فزحف إليه ببلاد غصاوة قرب وازان وأوغل في طلبه فنهاه من معه من رؤساء الجيش عن التورط بالناس في تلك الجبال والشعاب فلج واقتحمها بخيله وراميته ولما توسطها سالت عليه الشعاب بالرماة من كل جانب وهاجت الحرب وأحاط العدو بالجيش فقتلوا منهم وسلبوا كيف شاؤوا وردوهم على أعقابهم منهزمين ولما اتصل خبر الهزيمة بالسلطان اغتاظ وقبض على الغنيمي ومكن منه أولاد قاسم الصريدي فباشروا قتله بأيديهم واقتصوا منه بأبيهم وولى على قبائل الجبل أخاه المولى الطيب وفوض إليه أمر الثغوروأنزله طنجة وبقي المولى
____________________


الطيب يدبر أمر القبائل الجبلية وثغورها من تطاوين إلى طنجة إلى العرائش وكلما بدت له فرجة سدها أو فرصة انتهزها وحارب قبائل الفحص إلى أن استكانوا وانقادوا إلى الطاعة ثم حارب أهل حوز طنجة وآصيلا من بني يدير والأخماس من أصحاب زيطان فكانت الحرب بينهم سجالا
ثم لما دخلت سنة تسع ومائتين وألف أمد السلطان أخاه المولى الطيب بجيش وافاه بطنجة فخرج منها ومعه عسكرها وعسكر العرائش وصمد إلى بني جرفط عش الفساد ونزل على بلادهم وقاتلهم في عقر ديارهم فقتل مقاتلتهم وأحرق مداشرهم وانتهب أموالهم ومزقهم كل ممزق فجاؤوه خاضعين تائبين فعفا عنهم ثم تقدم إلى بني حرشن من بني يدير على تفيئة ذلك ففر الثائر زيطان إلى قبيلته بالأخماس وتسللت عنه القبائل التي كانت ملتفة عليه واستنزله المولى الطيب بالأمان فظفر به وبعث به إلى السلطان فأمضى له أمانة وولاه على قبيلته وصار من جملة خدام الدولة ونصحائها إلى أن ملك زمامها وتعين غيره للقيام بأمرها فأخر ونقله السلطان إلى تطاوين فسكنها ورتب له بها ما يكفيه وبقي إلى أواخر دولة السلطان المولى سليمان ولما خرج عليه المولى إبراهيم بن يزيد ودخل تطاوين كانت لزيطان هذا في التمسك بدعوة السلطان اليد البيضاء وأغنى غناء جميلا في تثبيت تلك القبائل وتسكينها ثم وفد على السلطان بطنجة سنة ست وثلاثين ومائتين وألف وقد طعن في السن فأحسن إليه غاية الإحسان وإلى الآن لا زال أهل الأخماس يستنصرون بحفدته ويعتقدون فيهم ما تعتقده آيت ومالو في آل مهاوش والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين
وفي ذي الحجة من هذه السنة أعني سنة تسع ومائتين وألف توفي العلامة الإمام السيد التاودي بن سودة المري الفاسي صاحب الحاشية على البخاري والحاشية على شرح الشيخ عبد الباقي الزرقاني على المختصر وشرح العاصمية والزقاقية وغير ذلك من التآليف المفيدة وكان رحمه الله خاتمة الشيوخ بفاس ومناقبه شهيرة
____________________

أخبار المولى هشام بن محمد بمراكش والحوز وما يتصل بذلك
قد قدمنا أن أهل مراكش وقبائل الحوز كانوا قد خرجوا على السلطان المولى يزيد وبايعوا أخاه المولى هشام بن محمد ولما قتل المولى يزيد بمراكش استقرت قدم المولى هشام بها وأطاعته قبائل الحوز كلها وكان وزيراه القائمان بأمره صاحب آسفي القائد عبد الرحمن بن ناصر العبدي وكان غاية في الجود وبسط الكف وصاحب دكالة والحوز القائد محمد الهاشمي بن العروسي وكان ذا شوكة بعصبيته وقومه فكان هذان القائدان إليهما النقض والإبرام في دولة المولى هشام هذا بكثرة ماله وعطائه وهذا بعصبيته وشدة شوكته فدانت للمولى هشام قبائل دكالة وعبدة وأحمر والشياظمة وحاحة وغير ذلك واستمر الحال على ذلك برهة من الدهر إلى أن افترقت عليه كلمة الرحامنة وتجنوا عليه بأنه قتل عاملهم القائد أبا محمد عبد الله بن محمد الرحماني غيلة على أنه كان مدبر دولته والقائم بأمره
قال أكنسوس هكذا شاع أن المولى هشاما هو الذي أمر بقتل عبد الله الرحماني وابن الداودي قال والذي تحدث به السلطان المولى سليمان مع بعض الناس هو أن الفرقة المنحرفة من الرحامنة قتلوه وأظهروا أن المولى هشاما هو الذي دس إليهم بذلك وكذلك أمر ابن الداودي والله أعلم ولما قتل القائد عبد الله خلعت الرحامنة طاعة المولى هشام وبايعت أخاه المولى حسين بن محمد وزحفوا به إلى مراكش فلم يرع المولى هشاما إلا طبولهم تقرع حول القصبة وأرهفوه وأعجلوه عن ركوب فرسه فخرج يسعى على قدميه إلى أن أتى ضريح الشيخ أبي العباس السبتي فعاذ به وثابت إليه نفسه وبعد أيام تسلل وسار في جماعة من حاشيته إلى آسفي ونزل على وزيره القائد عبد الرحمن بن ناصر فأكرم مثواه وأحسن نزله وغدا وراح في طاعته ومرضاته ودخل المولى حسين قصر الخلافة
____________________


بمراكش فاستولى على ما فيه من الذخيرة والأثاث من متاع المولى هشام ومتخلف المولى يزيد فاضطر أهل مراكش حينئذ إلى مبايعة المولى حسين والخطبة به وكان ذلك سنة تسع ومائتين وألف وافترقت الكلمة بالحوز فكان بعضه كعبدة وأحمر ودكالة مع المولى هشام وبعضه مثل الرحامنة وسائر قبائل حوز مراكش مع المولى حسين واتقدت نار الفتنة بين هؤلاء القبائل وتفانوا في الحروب إلى أن بلغ عدد القتلى بينهم أكثر من عشرين ألفا هذا كله والسلطان المولى سليمان مقيم بفاس معرض عن الحوز ومتربصين بأهله الدوائر إلى أن ملوا الحرب وملتهم وكان ذلك من سعادته فصاروا يتسللون إليه أرسالا ويسألونه الذهاب إلى بلادهم ليعطوه صفقة بيعتهم فكان يعدهم بذلك ويقول إذا فرغت من أمر الشاوية قدمت عليكم إن شاء الله ثورة المولى عبد الملك بن إدريس بآنفا والسبب في ذلك
كانت قبائل الشاوية منذ هزموا جيش المولى الطيب بن محمد وهم حذرون من سطوة السلطان عالمون بأنه غير تاركهم فعزموا على تلافي أمرهم عنده وأوفدوا عليه جماعات من أعيانهم المرة بعد المرة يسألونه أن يولي عليهم رجلا يكونون عند نظره ويقفون عند أمره ونهيه فولى عليهم ابن عمه وصهره على أخته المولى عبد الملك بن إدريس بن المنتصر ووجهه معهم فقدم المولى عبد الملك أرض تامسنا ونزل بمدينة آنفا وهي المسماة اليوم بالدار البيضاء وتولى القيام على مستفاد مرساها وصار يسهم فيه لأعيان الشاوية الذين معه وكان قصده بذلك أن يتألفهم على الطاعة والخدمة فلما حصل لهم ذلك السهم من المال تطاولوا إلى الزيادة عليه وقد قيل في المثل قديما لا تطعم العبد الكراع فيطمع في الذراع فصار المولى عبد الملك يقاسمهم المستفاد شق الأبلمة فلما بلغ السلطان ذلك كتب إليه يعاتبه على
____________________


فعله ثم نهض على تفئة ذلك من فاس يريد تامسنا إذ لم يشف المولى عبد الملك الغليل في ضبطها فلما بلغ كتاب السلطان المولى عبد الملك أنف من ذلك العتاب وكانت له وجاهة عند السلطان الأعظم سيدي محمد بن عبد الله وكان من كبار بني عمه وخواص قرابته ثم اتصل به الخبر بخروج السلطان من فاس فطارت نفسه شعاعا واستشار بطانته من الشاوية فقال لهم إن هذا الرجل قادم علينا لا محالة وليس له قصد إلا أنا وأنتم فما الرأي قالوا الرأي أن نبايعك ونحاربه قال ذلك الذي أريد فبايعوه ولما انفصل السلطان عن رباط الفتح بعث في مقدمته أخاه وخليفته المولى الطيب وعقد له على كتيبة من الخيل وتبعه السلطان على أثره ولما بات بقنطرة الحلاج جاءه الخبر بأن قبائل الشاوية قد بايعوا المولى عبد الملك بن إدريس واتصل بالمولى عبد الملك وهو بآنفا أن السلطان بائت بالقنطرة فتضاعف خوفه وفر فيمن بايعوه من أهل الشاوية وأخلى مدينة آنفا من خيله ورجله ففرح أهلها بخروجه من بين أظهرهم لئلا يعديهم جربه وبادروا بإخراج المدافع ليلا إعلاما للسلطان بفراره ثم أنفذوا إليه رسلهم بجلية الخبر فهش لهم السلطان وبعث معهم كتيبة من الخيل تقيم بآنفا وتقدم هو بالعساكر إلى قصبة علي بن الحسن فأغار على حلة مديونة وزناته فنهبها وامتلأت أيدي الجيش وأوغل المولى عبد الملك في الفرار إلى جهة أم الربيع وعاد السلطان بالنعم والماشية إلى رباط الفتح فدخلها مؤيدا منصورا ونقل تجار النصارى الذين كانوا بآنفا إلى رباط الفتح وأبطل مرساها واستمرت معطلة إلى دولة السلطان المولى عبد الرحمن بن هشام فأحياها كما سيأتي إن شاء الله ثم ارتحل السلطان المولى سليمان إلى مكناسة فاحتل بها وقال في ذلك العلامة الأديب أبو محمد عبد القادر بن شقرون
( مولاي أنت الذي صفت مشاربه ** إن تغز ناحية أوليتها جلدك )
( هذي البشائر وافت وهي قائلة ** أعوذ بالله من شر الذي حسدك )
____________________


( فاصعد على منبر الإقبال معتليا ** فالسعد أنجز ما كان به وعدك )
( وانهض إلى غاية الآمال تدركها ** فالآن قالت لك العلياء هات يدك )
( ولا تخف أبدا من سوء عاقبة ** فليس يفلح من بالسوء قد قصدك )
( ألبسك الملك العميم نائله ** من الرضى حللا قوى بها مددك )
( فضلا من الحكم الترضي حكومته ** جعلها كالشجا في حلق من جحدك )
( فاشكر صنيع الذي أولاك مكرمة ** تنل رضاه وتبلغ بالرضى رشدك ) قدوم عرب الرحامنة على السلطان المولى سليمان ومسيره إلى مراكش واستيلاؤه عليها
قد قدمنا أن أهل الحوز افترقت كلمتهم على قسمين فبعضهم بايع المولى حسين بن محمد وبعضهم أقام على بيعة أخيه المولى هشام وأنه نشأ عن ذلك حروب تفانى فيها الخلق
فلما كانت سنة عشر ومائتين وألف قدم على السلطان بمكناسة جماعة من أعيان الرحامنة مبايعين له وسائلين له المسير معهم إلى بلادهم لتجتمع كلمتهم عليه فوعدهم بأنه إذ فرغ من أمر الشاوية ومهد طريقه بها إلى الحوز سار إليهم ثم قوى عزمه رحمه الله فخرج في العساكر من مكناسة وقصد تامسنا فلما احتل بها قدم عليه أولاد أبي رزق وفر أولاد أبي عطية وأولاد حريز الذين عندهم المولى عبد الملك بن إدريس ولجؤوا إلى وادي أم الربيع فقصدهم السلطان هنالك وأوقع بهم وفر المولى عبد الملك إلى أخواله بالسوس فأقام عندهم إلى أن شفع فيه أخو السلطان المولى عبد السلام بن محمد وأخته الملاة صفية وكانت زوجة المولى عبد الملك فقبل السلطان شفاعتهما فعفا عنه وعاد إلى فاس واطمأن جنبه وأما الشاوية فإنهم قدموا على السلطان تائبين خاضعين فعفا عنهم وولى عليهم الأستاذ الغازي بن المدني المزمري فصلحت الأحوال على يده
____________________


ورجع السلطان إلى فاس مظفرا منصورا فأقام بها إلى أن دخلت سنة إحدى عشرة ومائتين وألف فتهيأ للغزو وخرج إلى بلاد دكالة فاستولى عليها وعلى مدينة آزمور وتيط وبايعه أهل تلك الناحية وقدم عليه أعيان دكالة تائبين وخرجوا من زمرة عبدة وسلطانهم المولى هشام وانتظموا في سلك الجماعة وهناك قدم عليه أعيان الرحامنة ثانية ببيعتهم فأكرم مقدمهم وزحف إلى مراكش وهم في ركانة فلما شارفها فر عنها سلطانها المولى حسين إلى زاوية المولى إبراهيم بن أحمد الأمغاري بالجبل فدخل السلطان المولى سليمان إلى مراكش واستولى عليها وبايعه أهلها وقدم عليها بها قبائل الحوز والدير وقبائل حاحة والسوس بهداياهم مغتبطين فسر بهم وأكرمهم وأصلح بين قبائل الحوز وجمع كلمتهم وأهدر دماءهم ومهد بلادهم ورتب حاميتها وأنزل بقصبة مراكش أهل الحوز الذين كانوا بها أيام والده ورتب لهم الجرايات وأمر بألف من عبيد السوس يأتون لسكنى القصبة واستقامت الأمور دخول آسفي وصاحبها القائد عبد الرحمن بن ناصر العبدي في طاعة السلطان المولى سليمان رحمه الله
كان عبد الرحمن بن ناصر هذا على ما وصفناه قبل من الوجاهة ونفوذ الكلمة بآسفي وأعمالها وكان مستوليا على جباية مرساها وخلد بها آثارا مثل الدار الكبرى التي على شاطىء البحر ومسجد الزاوية وغير ذلك وكان جوادا بالعطاء ولما استولى السلطان المولى سليمان رحمه الله على مراكش بعث إليه كاتبه أبا عبد الله محمد بن عثمان المكناسي ليأتيه به أو يأذن بحربه ولما وصل الكاتب المذكور إليه بآسفي ألفاه مريضا فاعتذر عن القدوم على السلطان بالمرض وكتب بيعته وأدى طاعته وانتقل المولى هشام عنه إلى زاوية الشرابي فأقام بها فبعث إليه السلطان من أمنه وجاء به إليه فلقاه مبرة وتكرمة وقدم إليه المراكب والكسي وأنزله بدار أخيه المولى المأمون
____________________


ريثما استراح ثم بعثه إلى رباط الفتح فاستوطنها ورتب له من الجراية ما يكفيه ولما قدم الكاتب ابن عثمان على السلطان ببيعة عبد الرحمن بن ناصر واعتذر له عنه بالمرض قبل ظاهر عذره وأرجأ أمره إلى يوم ما
وحكى صاحب الجيش أن المولى هشاما لما قدم على السلطان بمراكش ونزل بدار أخيه المولى المأمون أتاه السلطان بعد ثلاث إلى منزله راجلا لقرب المسافة ولما التقيا تعانقا وتراحما ثم جاء معه المولى هشام حتى دخلا بستان النيل من باب الرئيس ونصب له السلطان كرسيا جلس عليه وجلس هو أمامه إعظاما له لكونه أسن منه ثم صار يستدعيه صباحا ومساء فيجلسان ويتحدثان ثم يفترقان وكان لا يتغدى ولا يتعشى إلا وهو معه وكلما دخل عليه رفع مجلسه وأجله وإذا ذكره لا يذكره إلا بلفظ الأخوة بأن يقول أخي المولى هشام دون سائر بني أبيه ولما طلب المولى هشام منه السكنى برباط الفتح أجابه إليها وقضى مآربه وأزاح علله ثم عاد إلى مراكش فكانت منيته بها كما نذكره دخول الصويرة وأعمالها في طاعة السلطان المولى سليمان رحمه الله
كان من خبر دخول الصويرة وأعمالها في طاعة السلطان المولى سليمان رحمه الله أن الحاج محمد بن عبد الصادق المسجيني وهو من عبيد الصويرة كان قد قدم من الحج عامئذ فمر على السلطان المولى سليمان وهو بالغرب فدخل عليه فولاه على الصويرة وكتب له العهد بذلك وأمره بإخفائه حتى يختبر حال أهلها ويعلم أين هواهم إذ كان ذلك قبل أن يطأ السلطان بلاد الحوز ويستولي عليها وكانت الصويرة حينئذ من جملة النواحي التي إلى نظر عبد الرحمن بن ناصر ومن في حزبه وتحت غلبة حاحة وعصبيتها وكان الوالي بها يومئذ القائد أبو مروان عبد الملك بن بيهي الحاحي وكانت
____________________


له نباهة وذكر في قبائل حاحة وما اتصل بها فقدم ابن عبد الصادق الصويرة على أنه قدم من حجه لا غير فأراح بمنزله ثلاثا ثم جاء إلى باب القائد وأظهر عبد الملك بن بيهي وأقام من جملة الأعوان في الخدمة المخزنية إذ تلك هي وظيفته وخف في خدمة القائد المذكور واعتمل في مرضاته وأظهر من النصح ما قدر عليه ولازم الباب ليلا ونهارا فكان عبد الملك لا يخرج إلا ويجده قائما محتزما على الباب كما قال مسلم بن الوليد في فتى بني شيبان يزيد بن مزبد بن زائدة
( تراه في الأمن في درع مضاعفة ** لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل )
فلم يلبث أن حلى بعينيه وعظمت منزلته لديه فقدمه على الأعوان وعلى الحاشية حتى اتخذه صاحب رأيه وجعله عيبة سره وابن عبد الصادق في أثناء ذلك يحكم أمره مع إخوانه مسكينة وأهل آكادير سرا وأذنه صاغية لخبر السلطان متى يطأ بلاد الحوز فلما سمع بوصوله إلى دكالة واستيلائه على آزمور وتيط أفضى بأمر ولايته إلى خاصته وشيعته وواعدهم لمظاهرتهم إياه على أمره ليلة معلومة وعبد الملك لا علم له بما يراد به وكان ابن عبد الصادق فيما قيل قد أخذ عليه أنه إذا حدث أمر ولو ليلا يخرج إليه حتى يفاوضه فيما يكون عليه العمل فجاءه في تلك الليلة وقد هيأ جماعة من عبيد الصويرة الذين أعدهم للقيام معه وتركهم بحيث يسمعون كلامه إذا تكلم وقال لهم إذا سمعتموني أكلمه وأراجعه في القول فبادروه واقبضوا عليه ثم تقدم واستأذن على عبد الملك فخرج إليه وبينما هو يكلمه أحاط به العبيد وقبضوا عليه وعلى جماعة من أصحابه من حاحة الذين كانوا يخدمونه ولم يملكوهم من أنفسهم شيئا حتى أخرجوهم عن البلد في تلك الساعة ودفعوا لعبد الملك فرسه وأغلقوا الباب خلفه وصفا لهم أمر البلد ومن الغد جمع ابن عبد الصادق أهل الصويرة وقرأ عليهم كتاب السلطان بولايته عليهم فأذعنوا وأجابوا ولم يرق فيها محجمة دم ثم ورد الخبر عقب ذلك بدخول السلطان إلى مراكش واستيلائه عليها وبها تم له أمر المغرب وصفا له ملكه ولم يبق له فيها منازع وذلك بعد مضي خمس
____________________


سنين من ولايته رحمه الله ثم إنه استخلف أخاه المولى الطيب نائبا عنه بمراكش وقفل إلى فاس من عامه فمر على طريق تادلا وأمر عاملها القائد عبد الملك أن يغير على بني زمور وينهب أموالهم ويقبض على مقاتلتهم ويلقاه بهم إلى الصخرة فكرب القائد عبد الملك في الجيش الذي كان معه واحتال عليهم بأن أرسل إليهم بالقدوم عليه فرسانا فلما قدموا عليه أمر بالقبض عليهم وشدهم وثاقا وحاز خليهم وسلاحهم ثم أغار على حلتهم فنهبها وقدم على السلطان بمالهم ورقابهم وكانوا مائتي رجل بالتثنية فبعث بهم السلطان إلى مكناسة فسجنوا بها حتى صلحت أحوالهم بعد ذلك وسرحهم استرجاع السلطان المولى سليمان مدينة وجدة وأعمالها من يد الترك
وفي هذه السنة أعني سنة إحدى عشرة ومائتين وألف بعث السلطان المولى سليمان بالعساكر من فاس إلى وجدة فعقد على الودايا للقائد أبي السرور عياد بن أبي شفرة وعلى شراقة للقائد محمد بن خدة وعلى الأحلاف للقائد عبد الله بن الخضر وأمرهم أن يأتوا أرض وجدة ويدوخوها ويقاتلوا الترك الذين استحوذوا عليها ومانعوا دونها وكتب مع ذلك إلى الباي محمد باشا في أن يتخلى عنها وعن قبائلها التي كان يتصرف فيها أيام الفترة أو يأذن بالحرب فامتثل الباي محمد ذلك ولم يمانع بل كتب إلى نائبه بها أن يتركها لأربابها ويتخلى عن قبائل بني يزناسن وسقونة والمهاية وأولاد زكرى وأولاد علي ورأس العين فامتثل ودخل جيش السلطان لوجدة وجبى عامله زكواتها وأعشارها واستخلف نائبه بها وقفل بالعساكر على السلطان وهو بفاس وقد تمهد الملك ووشجت عروقه وألقى السعد بجرانه والحمد لله
وفي هذه السنة قدم الشيخ الفقيه المتصوف أبو العباس أحمد التجاني إلى
____________________


فاس فاستوطنها وكان الباي محمد بن عثمان صاحب وهران قد أزعجه من تلمسان إلى قرية أبي صمغون فأقام بها وأقبل أهلها عليه ثم لما مات الباي المذكور وولي بعده ابنه عثمان بن محمد سعى عنده بالشيخ التجاني فبعث إلى أهل أبي صمغون وتهددهم ليخرجوه ولما سمع بذلك الشيخ المذكور خرج مع بعض تلامذته وأولاده وسلك طريق الصحراء حتى احتل بفاس ولما دخلها بعث رسوله بكتابه إلى أمير المؤمنين المولى سليمان يعلمه بأنه هاجر إليه من جور الترك وظلمهم واستجار منهم بأهل البيت الكريم فقبله السلطان وأذن له في الدخول عليه والحضور بمجلسه ولما اجتمع به ورأى سمته ومشاركته في العلوم أقبل عليه واعتقده وأعطاه دارا معتبرة من دوره كان أنفق في عمارتها نحوا من عشرين ألف مثقال ورتب له ما يكفيه وأقبل عليه الخلق واشتهر أمره بفاس والمغرب وهو شيخ الطائفة التجانية رحمه الله ونفعنا به
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائتين وألف فيها خرج السلطان في العساكر من مكناسة يريد عبد الرحمن بن ناصر بآسفي وعزم على حربه إلا أن يؤدي الطاعة هو وقبيلته مباشرة طوعا أو كرها ولما عبر وادي أم الربيع قدم إليه القائد أبو السرور عياد بن أبي شفرة في جيش الودايا وقال له إذا قدمت عليه فأزعجه للمجيء فإن قدم فأقم أنت بآسفي وإن امتنع من المجيء فاكتب إلي وأقم هنالك حتى أقدم عليك فلما وصل إليه القائد عياد لم يسعه إلا المجيء لملاقاة السلطان فجاء وهو مريض في محفته ومعه جموعه وقبائله حتى اجتمع بالسلطان بالموضع المعروف بمائة بير وبير بين عبدة ودكالة فبايعه مباشرة وأدى الطاعة هو وإخوانه مباشرة كما اقترح السلطان وتحقق بأن تأخره إنما كان للمرض الذي به فوفى له السلطان بعهده وزاد في كرامته بوصوله معه إلى آسفي ودخوله إلى داره بعد تثبيط رؤساء الجيش له عن الدخول معه ثم عقد له على قبائله وأمره بقبض الواجب منهم زاد صاحب الجيش وشكره على إيوائه لأخيه المولى هشام ثم سار السلطان إلى مراكش فدخلها مظفرا منصورا
____________________


وفي هذه السنة حدث الوباء ببلاد المغرب وعم حاضره وبواديه ولما فشا بمراكش وأعمالها رجع السلطان إلى مكناسة وترك أخاه المولى الطيب نائبا عنه بها فبلغه أثناء الطريق وفاة كاتبه أبي عبد الله محمد بن عثمان تركه بمراكش مصابا بالوباء
قال صاحب البستان فلما وصل السلطان إلى مكناسة استقدمني من فاس فقدمت عليه وقلدني كتابته بعد أن أخرني عنها سنة وفي أثناء ذلك بلغه وفاة إخوته الأربعة خليفته المولى الطيب والمولى هشام والمولى حسين والمولى عبد الرحمن بالوباء الثلاثة الأول بمراكش والرابع بالسوس ودفن المولى هشام والمولى حسين بقبة إلى جنب الشيخ الجزولي رضي الله عنه وقبرهما مشهور بمراكش
قال صاحب البستان فبعثني السلطان إلى مراكش لآتيه بمتخلف إخوته الذين هلكوا بها ومتخلف الكاتب ابن عثمان وبعث معي خيلا وبغالا لأحمل المتخلف المذكور والوباء لا زال لم ينقطع قال فوصلت إلى مراكش وجمعت المتخلف ورجعت به إلى فاس وقد ارتفع الوباء وازدهرت الدنيا ودرت ألبان الجباية للسلطان وفي هذه المدة قدم على حضرة السلطان باشدور الإصبنيول فعقد معه شروط المهادنة وكان الذي تولى عقدها معه الكاتب ابن عثمان المكناسي قبل وفاته بيسير وهي ثمانية وثلاثون شرطا مرجعها إلى الصلح والأمان من الجانبين إلا أنها أشد بيسير من الشروط التي انعقدت مع السلطان المرحوم سيدي محمد رحمه الله من ذلك أن شروط سيدي محمد كانت تتضمن أنه إذا تشاجر مسلم ونصراني فالذي يفصل بينهما هو الحاكم إلا أن القنصل يحضر وقت الفصل عسى أن يدفع عن ابن جنسه بحجة إن كانت وصارت شروط السلطان المولى سليمان تتضمن أن كل واحد منهما يتولى أخذ الحق منه حاكمه ويدفعه لخصمه وإذا فر نصراني من سبتة أو مليلية أو نكور أو بادس وأراد إسلاما فلا بد من حضور القنصل إن كان وإلا فالعدول يسمعون منه ثم شأنه وما يريد
____________________


ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف فيها وجه السلطان كاتبه أبا عبد الله محمد الرهوني لجمع أموال المنقطعين فجمع منها ما قدر عليه وعاد سالما معافى
ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائتين وألف فيها أرسل السلطان كاتبه المذكور عاملا على السوس ومعه طائفة من الجند فجبى قبائله ورجع وأحبه أهل السوس لحسن سيرته ولين جانبه وفي هذه السنة في اليوم الثامن من ربيع الثاني منها توفي الفقيه العلامة الماهر أبو عبد الله محمد المير السلاوي وكان من أهل المشاركة والتحقيق والخط الحسن رحمه الله
ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائتين وألف فيها بعث السلطان العساكر لبرابرة آيت ومالو وعقد عليها للكاتب أبي عبد الله الحكماوي وبعث معه جماعة من قواد الجيش وقواد القبائل فلم يرضوا إمارته عليهم إذ كلهم كانوا أسن منه وفيهم من هو أعرف بأحوال البربر ومكايدهم فخذلوه وقت اللقاء وجروا عليه الهزيمة وأستولى البربر على أثاثهم ومدافعهم وجردوا الكثير منهم وقبضوا على الكاتب حتى أجاره بعض البربر فأبقوا عليه إلى أن بعثوا به إلى السلطان
ثم دخلت سنة ست عشرة ومائتين وألف فيها بعث السلطان الجيش إلى بلاد درعة مع كاتبه أبي العباس أحمد آشقراس فدخلها واستولى على قصورها المغصوبة وأخرج منها العرب والبربر وجبى أموالها ومهد نواحيها وأمن سبلها حتى صار ما بين السوس ودرعة والفائجة مجالا للتجارة وممرا لأبناء السبيل يغدون به ويروحون آمنين على أموالهم وأنفسهم
ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائتين وألف فيها بعث السلطان العساكر إلى بلاد الريف مع أخيه المولى عبد القادر والقائد محمد بن خدة الشرقي وقائد العسكر أحمد بن العربي فجبى قبائل الريف من قلعية وكبدانة وغيرهما عن ثلاث سنين سلفت ولما رجعت العساكر أغارت على المطالسة وبني أبي
____________________


يحيى بكسر الياء الأخيرة فاستاقوا ماشيتهم وسبيهم وقدموا بهما على السلطان فسرح السلطان السبي
ثم دخلت سنة ثمان عشرة وثمانين وألف فيها أغار آيت أدراسن على رفاق تافيلالت بطريق ملوية ونهبوا بعض القفل وذلك بسبب أن السلطان كان قد قبض على محمد بن محمد واعزيز وسجنه بالجزيرة وولى عليهم أخاه أبا عزة بن محمد واعزيز فلم يقبلوه وجمعوا كلمتهم على ابن عمه أبي عزة بن ناصر وكان منحرفا عن السلطان ومفارقا له فولوه أمرهم ولما رأى السلطان اعوجاجهم سرح لهم محمدا واعزيز وولاه عليهم وأمره بالقبض على أبي عزة بن ناصر فأبى فغضب السلطان عليه ثانية وهم به ففر محمد واعزيز وكشف وجه العصيان فنهض حينئذ إلى آيت أدراسن في العساكر وأرسل إلى قبائل آيت ومالو أن يأتوهم من خلفهم وتقدم هو حتى نزل بقرب آعليل ووقعت الحرب فنصر الله السلطان وانهزم آيت أدراسن ونهبت مواشيهم واحتوى البربر على حللهم وفر أولاد واعزيز الثلاثة برؤوسهم لآيت ومالو وشرعت العساكر في إخراج زروعهم إلى أن استصفوها وأمر السلطان بهدم قصورهم فهدمت وأعطى كروان بلادهم ورجع إلى فاس مظفرا منصورا ثم لم يقم بها إلا يسيرا حتى خرج إلى تازا وترك عامل فاس أبا العباس أحمد اليموري ببلاد الحياينة لقبض خراجهم ولما احتل بتازا جهز العساكر إلى وجدة مع الشيخ عبد الله بن الخضر لجباية قبائلها وجهز جيشا آخر مع عامل سجلماسة أبي عبد الله محمد الصريدي فنزل ملوية وجبى قبائلها وطلع إلى بلاد الصحراء مع أوديتها إلى ناحية فجيج فجبى أموال تلك النواحي ثم توجه إلى سجلماسة ففرق الجيش على أقاليم صحرائها درعة والفائجة وتدغة وفركلة وغريس وزيز والخندق ومدغرة والرتب فجبى أموال تلك القبائل كلها وقرر عماله ونوابه بكل إقليم منها ومهد طريق الصحراء ورجعت عساكره منصورة
____________________


ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائتين وألف فيها عزل السلطان القائد أبا العباس أحمد اليموري عن فاس وولى عليها صهره المولى حبيب بن عبد الهادي فقام بها أحسن قيام وكان ذا عقل ومروءة وسمت ودهاء وفيها توجه السلطان في العساكر إلى مراكش ولما احتل بها بعث جيشا إلى السوس لنظر الكاتب أبي عبد الله الرهوني وبعث جيشا آخر إلى عامل حاحة لنظر أبي العباس أحمد اليموري ثم خرج السلطان في جيش ثالث إلى ثغر الصويرة لمشاهدتها والوقوف على آثار والده بها فانتهى إليها وأقام بها أياما وفرق المال على جندها أحرارا وعبيدا ونظر في أمور مرساها وأمر بإصلاح ما لا بد منه فيها وعاد إلى الغرب مؤيدا منصورا فتنة الفقير أبي محمد عبد القادر ابن الشريف الفليتي واستحواذه على تلمسان وبيعته للسلطان المولى سليمان والسبب في ذلك
لما كانت سنة عشرين ومائتين وألف هاجت الفتنة بين عرب تلمسان والترك وكان السبب في ذلك أن باي وهران كان له انحراف عن الفقراء والمنتسبين وسوء اعتقاد فيهم فقتل بعض الطائفة الدرقاوية وأمر بالقبض على مقدمهم أبي محمد عبد القادر بن الشريف الفليتي تلميذ الشيخ الأكبر أبي عبد الله سيدي محمد العربي بن أحمد الدرقاوي شيخ الطائفة المذكورة ففر أبو محمد عبد القادر المذكور إلى الصحراء ونزل بحلة الأحرار فاجتمع عليه أهل طائفته وامتعضوا لمن قتل منهم ولنفي مقدمهم عن وطنه وعشيرته وامتعضت لهم عشائرهم من قبائل العرب الذي هنالك وزحفوا لحرب الترك على حين غفلة منهم فقتلوهم في كل وجه
ولما دخل فصل الربيع من السنة المذكورة بعث صاحب الجزائر عسكرا إلى باي وهران وأمره بغزو العرب فنهض إليهم ووقعت الحرب بينه
____________________


وبينهم فانهزم الترك ثانية ونهب العرب محلتهم وتبعوهم إلى وهران فحاصروهم ولما مني الباي منهم بالداء العضال كتب إلى السلطان المولى سليمان يعرفه بما دهاه منهم ويطلب منه أن يبعث إليهم شيخهم أبا عبد الله المذكور ليكفهم عنه ويراجعوا طاعة المخزن فبعث السلطان رحمه الله الشيخ المذكور ومعه الأمين الحاج الطاهر بادو المكناسي فانتهى الشيخ إلى ابن الشريف وهو في جموعه بظاهر وهران فشكا إلى الشيخ ما نال الفقراء والمنتسبين وسائر الرعيه من عسف الترك وجورهم وانتهائهم في ذلك إلى القتل والطرد عن الوطن فتوقف الشيخ وربما صدر منه بعض تقبيح لفعل الترك وما هم عليه فازدادت العرب بذلك تظاهرا على الترك وتكالبا عليهم فاتهم الباي السلطان بأنه الذي يغريهم لأنه كان ينتظر الفرج على يده ويرجو رقع الخرق من جهته فأخفق سعيه وحينئذ نصب مدافعه في وجه جموع العرب وفرقهم بالكور والضوبلي فانهزموا عن وهران وأبعدوا المفر ثم تذامروا وتحالفوا وزحفوا إلى تلمسان فنزلوا عليها وحاصروها وكان أهل تلمسان خصوصا وقبائلها عموما لهم التفات كبير إلى السلطان المولى سليمان رحمه الله لما أكرمه الله به من شرف النسب وطيب المنبت ولما اشتهر عنه من العدل والرفق بالرعية والشفقة عليها فكانوا يحبون الدخول في طاعته والانخراط في سلك رعيته فلما نزلت العرب على تلمسان تمشت الرسل بينهم وبين الحضر من أهلها واتفقوا على خلع طاعة الترك ومبايعة السلطان المولى سليمان ففتحوا باب المدينة ودخل ابن الشريف وطائفته وأخذ البيعة بها للسلطان المولى سليمان وخطب به على منابرها ووجه وفده وهديته إلى السلطان مع شيخه أبي عبد الله المذكور ثم نهد في عربه وحضره من أهل تلمسان لحرب الكرغلية الذين بالقصبة فأجحرهم بها وضيق عليهم فلم يبق للترك حينئذ شك في أن ذلك كله بأمر السلطان فكتبوا إلى الدولاتي وهو باشاهم الأعظم صاحب الجزائر يعلمونه بالواقع واستمرت الحرب بينهم
____________________


وبين ابن الشريف في وسط المدينة وعظم الخطب واشتد الكرب وقدم الشيخ على السلطان بوفد أهل تلمسان والعرب وهدية ابن الشريف وبيعته وأخبره بأن الناس في شدة من أمر الترك وأنهم قد تطارحوا على بابه وعلقت آمالهم به وراموا الاستظلال بظل عدله فرأى السلطان رحمه الله أن يسلك في حقهم وحق الترك مسلكا هو أرفق بالجميع فبعث القائد أبا السرور عياد بن أبي شفرة الوديي وأمره أن يحجز بين الحضر والترك حتى يقدم الباي إلى تلمسان ورد معه الوفد الذين قدموا مع الشيخ وتقدم إليه في القبض على ابن الشريف إن هو لم يرجع عن الحرب إلى السلم ثم كتب السلطان إلى الباي بما أزال شكه وأبطل وهمه ولما شارف القائد عياد تلمسان فر الشريف إلى منجاته ودخل القائد عياد المدينة فحجز بين الفريقين وقدم الباي إلى تلمسان فأصلح بينه وبين رعيته ومكنه من بلده وانقلب إلى حال سبيله ومع ذلك لم يتم للترك ما أرادوا من أجل القحط الذي كان قد عم حتى عدمت الأقوات وجلا أهل تلمسان عنها إلى بلاد المغرب وكذا عربها وأهل جبالها كلهم جلوا عن أوطانهم حتى لم يبق لباشا الترك مع من يتكلم فضلا عن أن يتأمر فجعل يكتب إلى السلطان ويرغب إليه أن يرد عليه أهل تلمسان وعربها فكلمهم السلطان رحمه الله في الرجوع فأبوا وقالوا نذهب إلى بلاد النصارى ولا نجاور الترك فنجمع علينا الجوع والقتل فرق لهم السلطان وتركهم بل جبرهم بأن صار يعينهم بالعطاء ويتخولهم بالصدقات المرة بعد المرة حتى كان عطاؤه إياهم كالراتب المفروض وعالج داءهم مع الترك إلى أن أخصبت بلادهم ورخصت أسعارهم فتراجعوا حينئذ إلى أوطانهم وكتب السلطان إلى الباي في شأنهم بالعدل وحسن السيرة فامتثل وكف أيدي الكرغلية عنهم ولم يبق منهم بالمغرب إلا من كان عليه دين للترك فلم يقدر على الرجوع لأن أرباب الديون لا يقيمون لهم وزنا ولا يعملون معهم شرعا والله أعلم
____________________

ذكر ما اتفق للسلطان المولى سليمان رحمه الله في وسط دولته من الخصب والأمن والسعادة واليمن
كان هذا السلطان رحمه الله موصوفا بالعدل معروفا بالخير مرفوع الذكر عند الخاصة والعامة قد ألقى الله عليه منه المحبة فأحبته القلوب ولهجت به الألسنة لحسن سيرته وطيب سريرته واتفق له في أواسط دولته من السعادة والأمن والعافية ورخاء الأسعار وابتهاج الزمان وتبلج أنوار السعد والإقبال ما جعله الناس تاريخا وتحدثوا به دهرا طويلا حتى صارت أيام السلطان المولى سليمان مثلا في ألسنة العامة ولقد أدركنا الجم الغفير ممن أدرك أواسط دولته فكلهم يثني عليها بملء فيه ويذهب في إطرائها كل مذهب لولا ما كدر آخرها من فتنة البربر التي جرت معها فتنا أخر كما نذكر بعد إن شاء الله
فمما هيأ الله له من أسباب الخير والسعادة أنه بويع مطلوبا لا طالبا ومرغوبا لا راغبا ثم لما بويع كان ثلاثة من إخوته كلهم يزاحمه في المنصب ثم لم يزل أمرهم يضعف وأمره يقوى إلى أن كفى الجميع من غير ضرب ولاطعن ولا بارز أحدا منهم قط ولا واجهه بسوء ومن ذلك أنه لما دخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف وجه السلطان عامله إلى صحراء فجيج وجبى أموالها واسترجع قصر المخزن الذي أغتصبه أهلها من يد العبيد الذين كانوا به أيام السلطان المولى إسماعيل رحمه الله ووجه في السنة المذكورة جيشا مع عامل فاس باعقيل السوسي ومعه جماعة من قواد القبائل إلى ناحية الشرق فنزل العامل مدينة وجدة وجبى تلك القبائل كلها ثم بدا له فنهض إلى عرب الأعشاش وكان ذلك خطأ منه في الرأي إذ كانت لهم شوكة وكان في غنى عن التعرض لهم بما در عليه من الجبايات الوافرة من تلك القبائل لكن الحرص لا يزال بصاحبه حتى يقطع عنقه فلما علموا بقصده إياهم عدلوا عن لقائه إلى المحلة فأغاروا عليه وانتهبوها فرجع أهلها منهزمين
____________________


من غير قتال وتركوا أثقالهم بيد العدو ولم يجتمعوا إلا على وادي ملوية ومن هناك انفض الأحلاف إلى بلادهم ووقف باعقيل بالجيش وأحجم عن القدوم خوفا من السلطان فبعث إليه من قبض عليه وأتاه به فنكبه وعزله عن فاس وولى عليها وصيفه ابن عبد الصادق ثم عزله وولى عليها محمد واعزيز
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف فيها خرج السلطان المولى سليمان بالعساكر إلى تادلا يريد بني موسى وآيت أعتاب ورفالة وبني عياط الذبح آووا بني موسى فبث السلطان عليهم العساكر فنهبوا بني موسى ومن آواهم من رفالة وبني عياط وأحرقوا مداشرهم وقطعوا أشجارهم وأبلغوا في النكاية إلى أن أذعنوا إلى الطاعة وجبوا زكواتهم وأعشارهم وعادوا منصورين وفي السنة المذكورة فتح على السلطان إقليم تيكرارين وتوات من أقصى الصحراء وجبى عامله خراجهم وعاد سالما معافى وفيها حدثت الحرب بين السلطان مصطفى بن عبد الحميد العثماني وبين الموسكوب فكتب العثماني إلى السلطان يطلب منه أن يشد عضده بأن يقيم قراصينه بباب البوغاز من مرسى طنجة لئلا تدخل قراصين الموسكوب منه وتعيث في الجزر التي هي في ملكة العثماني كما فعلت في دولة عمه السلطان مصطفى بن أحمد فأمر السلطان رحمه الله رؤساء قراصينه بالتهيىء والمقام هنالك ففعلوا ولم يظهر شيء حكى هذا الخبرصاحب البستان
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف فيها عقد السلطان لوصيفه القائد أحمد بن مبارك صاحب الطابع على جيش كثيف وضم إليه جماعة من قواد الجند والقبائل وسار حتى نزل على حدود بلاد آيت ومالو وأحاطت العساكر السلطانية بهم من كل جهة وكان ذلك في فصل الشتاء فمنعوهم من النزول إلى البسيط للمرعى وجلب الميرة إلى أن ضاعت مواشيهم وأذعنوا
____________________


لدفع ما وظف عليهم فدفعوا الماشية والكراع وخلى سبيلهم وفيها خرج السلطان من مكناسة لتفقد أحوال الثغور البحرية وكان المتولي على جمعها القائد الشهير أبو زيد عبد الرحمن بن علي أشعاش التطواني فعزله السلطان في هذه المرة وولى عليها القائد محمد السلاوي البخاري ثم ولاه على قبائل الغرب والجبال كلها وتتبع السلطان رحمه الله الثغور كلها وأحسن إلى أهلها
ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائتين وألف فيها خرج السلطان إلى تادلا يريد عرب ورديغة وقبائل البربر الذين هنالك فأغارت عساكر السلطان عليهم ووقعت بينهم حرب فظيعة هلك فيها عدد من الفريقين ثم انتصرت العساكر السلطانية عليهم فهزموهم ونهبوا أموالهم وألجؤوهم إلى الطاعة فجاؤوا تائبين فعفا عنهم ثم أنفذ جيشا كثيفا لآيت يسري بعد أن قبض منهم على عدد معتبر فشنوا الغارة عليهم وقاتلوهم فأذعنوا لإعطاء المال ولما بذلوه سرح لهم إخوانهم المقبوض عليهم وعاد السلطان مظفرا منصورا
ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائتين وألف فيها غزا السلطان بلاد الريف فنزل عين زورة وسرح الكتائب في قبائل الريف فحاربوها وهزموها وقتلوا مقاتلتها وسلبوا ذراريها وحرقوا مداشرها وألجؤوهم إلى الطاعة فقدموا على السلطان تائبين فعفا عنهم على أن يدفعوا ما ترتب عليهم ثم عين السلطان الأمناء الذين استوفوه منهم على التمام وعاد مظفرا منصورا وفي هذه السنين كلها كانت الرعية في غاية الطمأنينة والعافية والأمن والخصب والرخاء وكمال السرور والهناء حتى كانت هذه المدة غرة في جبهة ذلك العصر ودمية في محراب ذلك القصر ثم انعكست الأحوال وتراكمت الأهوال وعظمت الأوجال واتسع في الفتنة المجال وتم على هذا السلطان الجليل العالم النبيل في آخر عمره ما لم يتم على أحد من ملوك بني أبيه ولله الأمر من قبل ومن بعد
____________________

بدء هيجان فتنة البربر وما نشأ عنها من التفاقم الأكبر
لما دخلت سنة ست وعشرين ومائتين وألف قامت الفتنة بين قبائل البربر وكان ابتداؤها أولا بين آيت أدراسن وكروان وبين أعدائهم آيت ومالو أهل جبل فازاز ثم لما انتشبوا الحرب غدرت كروان بإخوانهم آيت أدراسن وانحازوا إلى آيت ومالو فانهزمت آيت أدراسن ووضع آيت ومالو فيهم السيف ونهبوا حلتهم بما فيها وتركوهم بالقاع مدقعين ولعصا الذل مهطعين ولم يفلت منهم إلا أصحاب الخيل الذين نجوا بنواصيها وقدموا على السلطان شاكين باكين فقام وقعد لذلك لما أوجب الله عليه من النظر لهم إذ هم رعيته وشيعته وشيعة والده من قبله فجهز العساكر لنصرتهم وعادوا إلى حرب كروان فظاهرهم آيت ومالو عليهم وهزموهم مرة أخرى ثم بعد هذا اتفقت البربر على حرب آيت أدراسن مناوأة للسلطان وبغضا في قائدهم محمد واعزيز الذي كان يوليه عليهم وبعثوا إلى دجالهم مهاوش المعد عندهم لأمثالها وتحالفوا عنده على معصية السلطان وطاعة الشيطان وعاثوا في الطرقات والرعايا واتسع الخرق وعظم الفتق فسارت إليهم العساكر من باب السلطان حتى نزلت بأحواز صفرو وكانت لنظر القائد محمد الصريدي الذي يبغضه البربر كبغض محمد واعزيز أو أكثر فكشفوا القناع في العصيان وزحفوا إلى الجيش وهو نازل حول صفرو فأحاطوا به وانتهبوه ففر من أفلت منه وتحصن الباقي بمدينة صفرو ونهبت القرى المجاورة لها وعاثوا في طرقات الصحراء فنهبوا من وجدوا بها مقبلا أو مدبرا وأعضل الداء وأعوز الدواء والسلطان مقيم بمكناسة يعالج دائهم فما نفع فيه ترياق وشمخت أنوف البربر وكلما بعث إليهم جيشا هزموه أو سرية انتهبوها قيل إن منشأ ذلك كان من أجل تمسك السلطان رحمه الله بمحمد واعزيز وجبرهم على طاعته وكانوا قد نفروا عنه لسوء سيرته فيهم
____________________


والمعروف من حال السلطان المولى سليمان رحمه الله خلاف هذا فإنه كان قلما تشكو رعية إليه بعاملها إلا ويعزله عنها تحريا للعدل واتهاما للعمال حتى لقد عيب عليه ذلك في بعض الأحوال من جهة السياسة ولما أعيا السلطان أمرهم تركهم فوضى ووكل القائد عياد بن أبي شفرة بتدبير أمرها وتوجه إلى مراكش فكان عياد على أمرهم أعجز وبسياستهم أجهل وصار يتألفهم بالعطاء ويجري المؤن على كل من يقدم عليه منهم من طعام وعلف ونحو ذلك فكان ذلك مما زاد في طغيانهم حتى كانوا ينهبون أموال الناس ومتاعهم بباب فاس ويدخلون لقبض الخفارة وأخذ الميرة وإذا تكلم أحد من أهل البلد قال القائد المذكور إن السلطان أمرني بذلك وربما عاقب من يعترض عليه وإنما أمره السلطان أن يسوسهم على الوجه الذي لا ضرر فيه على الدولة ولا على الرعية والله أعلم إجلاب السلطان المولى سليمان على برابرة كروان ورجوعه عنهم من آصرو وما نشأ عن ذلك
لما وصل السلطان إلى مراكش استنفر قبائل الحوز كلها وقدم بهم إلى مكناسة واستنفر قبائل الغرب من الأحلاف والحياينة وأهل الفحص وأهل الغرب وبني حسن وأهل الثغور وضرب البعث على جيش العبيد والودايا وشراقة وأولاد جامع واستصحب معه البربر الذين هم في طاعته حتى لم يبق أحد بالمغرب وخرج في هذا الجمع العظيم قاصدا كروان وهم يومئذ بتاسماكت ولما وصل إلى الموضع المعروف بآصرو وبقي بينهم وبينه نصف مرحلة بحيث صار يرى محلتهم ويرون محلته بدا له فرجع يريد آيت يوسي فكان ذلك الرجوع سبب الخذلان ولما رأته عيون كروان راجعا ظنوا به جبنا فجرؤوا على الجيش وتبعوه من خلفه إلى أن خالطوا أخريات
____________________


الناس فأوقعوا بهم وقتلوا ونهبوا وأين أوله بينهما مرحلة ولا علم للسابق بما جرى على اللاحق ثم نزل السلطان على آيت يوسي بقرب آعليل وصاروا بنو مكيلد أمامه وكروان من خلفه ولم يكن علم بما وقع في العسكر من النهب والقتل إلى أن ورد عليه منهزمة العبيد ليلا فأخبروه بما وقع وأن قائد عسكره أبا عبد الله محمد بن الشاهد قد قتل في جماعة من القواد وغيرهم ففت ذلك في عضده وتجلد رحمه الله ليلته تلك ولما أصبح ركبت العساكر وقصدت آيت ومالو الذين كانوا مع آيت يوسي ولما وقعت الحرب انهزم عسكر السلطان وألجأهم البربر إلى شعب لا منفذ له فترجلوا وتركوا الخيل ونجوا بأعناقهم وحمتهم آيت يمور وآيت أدراسن حتى خلصوهم وكانت حلتهم قريبا من العسكر فلو تبعوهم لوقعوا عليها ولما حصلت هذه المزية لهؤلاء البربر الذين هم شيعة السلطان ولم تظهر للعرب مزية حقدوا ذلك عليهم وصاروا كل من دنا من المحلة منهم قبضوا عليه وقتلوه وقالوا إن البربر كلهم سواء فلما وقع ذلك بشيعة السلطان امتعضوا ورفعوا أمرهم إليه فأمر كاتبه وعامله محمدا السلاوي أن ينظر في أمرهم فبحث القائد المذكور حتى اطلع على حقيقة الأمر وعلم فساد نية البربر لما وقع بهم من القتل وسط المحلة ورأى أن القصاص في ذلك الوقت متعذر وأن عاقبته غير مأمونة فأشار على السلطان بالرجوع قبل أن يتسع الخرق على الراقع فرجع وكان رجوعه أكبر غنيمة وكثرة هذه الجموع بلا ترتيب سبب تلك الهزيمة والأمر كله لله وهذه الوقعة تعرف عند الناس بوقعة آصرو إضافة إلى الموضع الذي انتهى إليه السلطان من بلاد البربر ثم رجع عنه وقد جعلها العامة تاريخا يقولون كان ذلك عام وقعة آصرو والله تعالى أعلم
____________________

مراسلة صاحب تونس حمودة باشا ابن علي باي للسلطان المولى سليمان رحمه الله وما اتفق في ذلك
وفي هذه المدة أو ما يقرب منها بعث صاحب تونس وهو الرئيس حمودة باشا ابن علي باي العالم الأديب الطائر الصيت الشيخ أبا إسحاق إبراهيم بن عبد القادر الرياحي إلى السلطان المولى سليمان رحمه الله فقدم عليه حضرة فاس ومعه هدية وكتاب يتضمن طلب الإمداد بالميرة لحدوث المسغبة بالبلاد التونسية فأعظم السلطان رحمه الله مقدم هذا الشيخ واهتزت له فاس وامتدح السلطان بقصيدة من جيد شعره يقول في أولها
( إن عز من خير الأنام مزار ** فلنا بزورة نجله استبشار )
ومن جملتها قوله
( هذا الخليفة وابن أكرم مرسل ** وسليل من تمطى له الأكوار )
( وخلاصة الأشراف والخلفاء من ** بيت البتول وحبذا الأظهار )
( وأجل وارث ملك إسماعيل من ** بطل شذا أخباره معطار )
( وأعز سلطان وأشرف مالك ** شرقت بملك يمينه الأحرار )
( وأحق من تحت السماء بأن يرى ** ملك البسيطة والورى أنصار )
( لكن إذا كل القلوب تحبه ** فلغيره الأجسام وهي نفار )
( هذا سليمان الرضي ابن محمد ** من أشرقت لجبينه الأنوار )
( هذا الذي رد الخلافة غضه ** وسما به للمسلمين منار )
( وأعز دين الله فهو بشكره ** في أيكها تترنم الأطيار )
فأعجب السلطان ومن حضر بها وأمده بمطلبه من الميرة وبهدية جليلة وآب الشيخ من سفارته بخير مآب
____________________

وصول كتاب صاحب الحجاز عبد الله بن سعود الوهابي إلى فاس وما قاله العلماء في ذلك
وفي هذه المدة أيضا وصل كتاب عبد الله بن سعود الوهابي النابع بجزيرة العرب المتغلب على الحرمين الشريفين المظهر لمذهب بهما إلى فاس المحروسة وأصل هذه الطائفة الوهابية كما عند صاحب التعريبات الشافية وغيره أن فقيرا من عرب نجد يقال له سليمان رأى في المنام كأن شعلة من نار خرجت من بدنه وانتشرت وصارت تأكل ما قابلها فقص رؤياه على بعض المعبرين ففسرها له بأن أحد أولاده يجدد دولة قوية فتحققت الرؤيا في ابن ابنه الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان فالمؤسس للمذهب هو محمد بن عبد الوهاب ولكن نسب إلى عبد الوهاب فلما كبر محمد احترمه أهل بلاده ثم أخبر بأنه قرشي ومن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وألف لهم قواعد وعقائد وهي عبادة الله واحد قديم قادر حق رحمان يثيب المطيع ويعاقب العاصي وأن القرآن قديم يجب اتباعه دون الفروع المستنبطة وأن محمدا رسول الله وحبيبه ولكن لا ينبغي وصفه بأوصاف المدح والتعظيم إذ لا يليق ذلك إلا بالقديم وأن الله تعالى حيث لم يرض بهذا الإشراك سخره ليهدي الناس إلى سواء الطريق فمن امتثل فبها ونعمت ومن أبى فهو جدير بالقتل فهذه أصول مذهبه وكان قد بثه أولا سرا فقلده أناس ثم سافر إلى الشام لهذا الأمر فلما لم يجد به مراده رجع إلى بلاد العرب بعد غيبته عنها ثلاث سنين فاتصل بشيخ من أشياخ عرب نجد يقال له عبد الله بن سعود وكان شهما كريم النفس فقلده وقام بنصرة مذهبه وقاتل عليه حتى أظهره واقتسم الرياسة هو ومحمد بن عبد الوهاب فابن عبد الوهاب صاحب الاجتهاد في مسائل الدين وابن سعود أمير الوهابية وصاحب حربهم ولا زال أمر هؤلاء الوهابية يظهر شيئا فشيئا إلى أن تغلبوا على الحجاز والحرمين الشريفين وسائر بلاد العرب ثم
____________________


قال صاحب التعريبات الشافية إن مساجد الوهابية خالية عن المنارات والقباب وغيرها من البدع المستحسنة لا يعظمون الأئمة ولا الأولياء ويدفنون موتاهم من غير مشهد واحتفال يأكلون خبز الشعير والتمر والجراد والسمك ولا يأكلون اللحم والأرز إلا نادرا ولا يشربون القهوة وملابسهم ومساكنهم غير مزينة اه
ولما استولى ابن سعود على الحرمين الشريفين بعث كتبه إلى الآفاق كالعراق والشام ومصر والمغرب يدعو الناس إلى اتباع مذهبه والتمسك بدعوته ولما وصل كتابه إلى تونس بعث مفتيها نسخة منه إلى علماء فاس فتصدى للجواب عنه الشيخ العلامة الأديب أبو الفيض حمدون بن الحاج
قال صاحب الجيش كان تصدي الشيخ أبي الفيض لذلك الجواب بأمر السلطان وعلى لسانه وذهب بجوابه ولده المولى إبراهيم بن سليمان حين سافر للحج قلت وهذا يقتضي أن كتاب ابن سعود ورد علة السلطان المولى سليمان بالقصد الأول لا أن نسخة منه وردت بواسطة علماء تونس والله تعالى أعلم حج المولى أبي اسحاق إبراهيم ابن السلطان المولى سليمان رحمه الله
وفي هذه السنة أعني سنة ست وعشرين ومائتين وألف وجه السلطان المولى سليمان رحمه الله ولده الأستاذ الأفضل المولى أبا اسحاق إبراهيم بن سليمان إلى الحجاز لأداء فريضة الحج مع الركب النبوي الذي جرت العادة بخروجه من فاس على هيئة بديعة من الاحتفال وإبراز الأخبية لظاهر البلد وقرع الطبول وإظهار الزينة وكانت الملوك تعنى بذلك وتختار له أصناف الناس من العلماء والأعيان والتجار والقاضي وشيخ الركب وغير ذلك مما يضاهي ركب مصر والشام وغيرهما فوجه السلطان ولده المذكور في جماعة
____________________


من علماء المغرب وأعيانه مثل الفقيه العلامة القاضي أبي الفضل العباس بن كيران والفقيه الشريف البركة المولى الأمين بن جعفر الحسني الرتبي والفقيه العلامة الشهير أبي عبد الله محمد العربي الساحلي وغيرهم من علماء المغرب وشيوخه فوصلوا إلى الحجاز وقضوا المناسك وزاروا الروضة المشرفة على حين تعذر ذلك وعدم استيفائه على ما ينبغي لاشتداد شوكة الوهابيين بالحجاز يومئذ ومضايقتهم لحجاج الآفاق في أمور حجهم وزياراتهم إلا على مقتضى مذهبهم
حكى صاحب الجيش أن المولى إبراهيم ذهب إلى الحج واستصحب معه جواب السلطان فكان سببا لتسهيل الأمر عليهم وعلى كل من تعلق بهم من الحجاج شرقا وغربا حتى قضوا مناسكهم وزيارتهم على الأمن والأمان والبر والإحسان قال حدثنا جماع وافرة ممن حج مع المولى إبراهيم في تلك السنة أنهم ما رأوا من ذلك السلطان يعني ابن سعود ما يخالف ما عرفوه من ظاهر الشريعة وإنما شاهدوا منه ومن أتباعه غاية الاستقامة والقيام بشعائر الإسلام من صلاة وطهارة وصيام ونهي عن المنكر الحرام وتنقية الحرمين الشريفين من القاذورات والآثام التي كانت تفعل بهما جهارا من غير نكير وذكروا أن حاله كحال آحاد الناس لا يتميز عن غيره بزي ولا مركوب ولالباس وأنه لما اجتمع بالشريف المولى إبراهيم أظهر له التعظيم الواجب لأهل البيت الكريم وجلس معه كجلوس أحد أصحابه وحاشيته وكان الذي تولى الكلام معه هو الفقيه القاضي أبو إسحاق إبراهيم الزداغي فكان من جملة ما قال ابن سعود لهم إن الناس يزعمون أننا مخالفون للسنة المحمدية فأي شيء رأيتمونا خالفنا من السنة وأي شيء سمعتموه عنا قبل اجتماعكم بنا فقال له القاضي بلغنا أنكم تقولون بالاستواء الذاتي المستلزم لجسمية المستوى فقال لهم معاذ الله إنما نقول كما قال مالك الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة فهل في هذا من مخالفة فالوا
____________________


لا وبمثل هذا نقول نحن أيضا ثم قال له القاضي وبلغنا عنكم أنكم تقولون بعدم حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحياة إخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم فلما سمع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ارتعد ورفع صوته بالصلاة عليه وقال معاذ الله إنما نقول إنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره وكذا غيره من الآنبياء حياة فوق حياة الشهداء ثم قال له القاضي وبلغنا أنكم تمنعون من زيارته صلى الله عليه وسلم وزيارة سائر الأموات مع ثبوتها في الصحاح التي لا يمكن إنكارها فقال معاذ الله أن ننكر ما ثبت في شرعنا وهل منعناكم أنتم لما عرفنا أنكم تعرفون كيفيتها وآدابها وإنما نمنع منها العامة الذين يشركون العبودية بالألوهية ويطلبون من الأموات أن تقضى لهم أغراضهم التي لا تقضيها إلا الربوبية وإنما سبيل الزيارة الاعتبار بحال الموتى وتذكر مصير الزائر إلى ما صار إليه المزور ثم يدعو له بالمغفرة ويستشفع به إلى الله تعالى ويسأل الله تعالى المنفرد بالإعطاء والمنع بجاه ذلك الميت إن كان ممن يليق أن يتشفع به هذا قول إمامنا أحمد بن حنبل رضي الله عنه ولما كان العوام في غاية البعد عن إدراك هذا المعنى منعناهم سدا للذريعة فأي مخالفة للسنة في هذا القدر أه
ثم قال صاحب الجيش هذا ما حدث به أولئك المذكورون سمعنا ذلك من بعضهم جماعة ثم سألنا الباقي أفرادا فاتفق خبرهم على ذلك اه
قلت مسألة زيارة قبور الأنبياء والأولياء مشهورة في كتب الأئمة وهي من القرب المرغوب فيها عند الجمهور ومنعها قوم من الحنابل وشدد تقي الدين ابن تيمية منهم فيها محتجا بقوله عليه الصلاة والسلام لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى وهو عند الجمهور مؤول بأن المعنى لا تشد الرحال لصلاة في مسجد إلا إلى ثلاثة مساجد اه وقد بسط القول في هذا صاحب المواهب اللدنية والقول الفصل أن التبرك بآثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأولياء رضي الله عنهم وزيارة مشاهدهم من الأمر المعروف عند أمة محمد صلى الله عليه وسلم المجمع عليه
____________________


خلفا وسلفا لا يسع إنكاره غير أن للزيارة آدابا تجب المحافظة عليها وشروطا لا بد من مراعاتها والوقوف لديها ثم القول بمنعها مطلقا سدا للذريعة في حق العامة إذ هم أكثر الناس وغولا في ذلك فيه نظر أما الأنبياء فلا ينبغي لعاقل أن يحرم نفسه من الوقوف على مشاهدهم والتبرك بتربتهم والاحتماء بحماهم ولا أن يقول بذلك لمزيد ارتفاع درجتهم عند الله تعالى ولندور اتفاق زيارتهم لأكثر الغرباء وأما الأولياء فالقول بمنع زيارتهم سدا للذريعة مع بيان العلة وإشهارها بين الناس حتى لا يلتبس عليهم المقصود قول وجيه لا تأباه قواعد الشريعة بل تقتضيه والله أعلم وهذا القول هو الذي رآه الشيخ الفقيه الصوفي أبو العباس أحمد التجاني رحمه الله حتى نهى أصحابه عن زيارة الأولياء
وأقول إن السلطان المولى سليمان رحمه الله كان يرى شيئا من ذلك ولأجله كتب رسالته المشهورة التي تكلم فيها على حال متفقرة الوقت وحذر فيها رضي الله عنه من الخروج عن السنة والتغالي في البدعة وبين فيها بعض آداب زيارة الأولياء وحذر من تغالي العوام في ذلك وأغلظ فيها مبالغة في النصح للمسلمين جزاه الله خيرا ومن كلامه فيها ما نصه تنبيه من الغلو البعيد ابتهال أهل مراكش بهذه الكلمة سبعة رجال فهل كان لسبعة رجال شيعة يطوفون عليهم إلى أن قال فعلينا أن نقتدي بسبعة رجال ولا نتخذهم آلهة لئلا يؤول الحال فيهم إلى ما آل إليه في يغوث ويعوق ونسرا إلى آخر كلامه وصدق رحمه الله فكم من ضلالة وكفر أصلها الغلو في التعظيم وما ضلت النصارى إلا من غلوهم في عيسى وأمه عليهما السلام قال الله تعالى { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق } النساء 17 الآية ومن ذلك قصة يغوث ويعوق ونسرا المشار إليها وهي مذكورة في الصحيح وفي كتب التفسير
وحكى ابن إسحاق في السيرة أن أصل حدوث عبادة الحجر في بلاد العرب أن آل إسماعيل عليه السلام لما كثروا حول الحرم وضاقت بهم
____________________


فجاج مكة تفرقوا في النواحي وأخذوا معهم أحجارا من الحرم تبركا بها فكان أحدهم يضع الحجر في بيته فيطوف ويتمسح به ويعظمه ثم توالت السنون وخلفت الخلوف فعبدوا تلك الأحجار ثم عبدوا غيرها وذهبت منهم ديانة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلا يسيرا جدا بقي فيهم إلى أن صبحهم الإسلام هذا معنى ما ذكره ابن إسحاق وقد تكلم الشاطبي وغيره من العلماء فيما يقرب من هذا وذكروا أن الغلو في التعظيم أصل من أصول الضلال ولو لم يكن في ذلك إلا قضية الشيعة لكان كافيا فالحاصل أن خير الأمور الوسط ومن هنا أيضا كان السلطان المولى سليمان رحمه الله قد أبطل بدعة المواسم بالمغرب وهي لعمري جديرة بالإبطال فسقى الله ثراه وجعل في عليين مثواه
ولما كان رمضان من سنة سبع وعشرين ومائتين وألف قدم المولى إبراهيم ابن السلطان المذكور من الحجاز ونزل بطنجة وكان قدومه في قرصان الإنجليز لأن والده رحمه الله كان قد وجهه إليه مع بضع قراصينه إلى الإسكندرية فصادفوه قد انحدر إلى جزيرة مالطة فركب المولى المذكور فيما خف من حاشيته في قرصان النجليز وسبق إلى طنجة فاحتل بها ثم سار إلى حضرة والده بمكناسة فأقام عنده ثلاثا ريثما استراح ثم انفصل عنه إلى داره بفاس فخرج لملاقاته جيش الودايا وأشراف فاس وأعلامها وسائر عامتها بفرح وسرور وكان يوم دخوله يوما مشهودا ولما وصل القوم الذين كانوا معه نشروا محاسنه وفضائله ومكارمه المحمودة وفواضله وما فعله من البر في طريق الحج خصوصا في مفاوز الحجاز فقد أنفق فيها على الضعفاء والمساكين ما لايحصى وشاع ذكره في الحرمين الشريفين وتجاوزهما إلى مصر والشام والعراقين ولما نفذ ما عنده استسلف من التجار الذين كانوا معه أموالا طائلة أنفقها في سبيل الله ولما قدم أربابها على السلطان عرفوه بما استسلفه منهم ولده وأطلعوه على حساباتهم فعرف أن ما فعله ولده صواب فأمر رحمه الله لأولئك التجار بقضاء ما أسلفوه وأن يزاد لهم مقدار ربحه
____________________


تطييبا لنفوسهم وقال إنما تتعاطون التجارة لتنموا أموالكم وتربحوا فلا ينبغي أن ننقصكم من ربحكم شيئا فأما نحن فربحنا هو ما أنفقه ولدنا قي سبيل الله
وقد مدح هذا النجل الأرضي جماعة من أدباء مصر وغيرها بقصائد نفيسة ومن جملة من مدحه الفقيه العلامة الأديب أبو إسحاق إبراهيم عبد القادر الرياحي التونسي فإنه بعث بقصيدة رائقة إلى والده السلطان المرحوم يمدح النجل المذكور ويهنئه بالقدوم وألم فيها بذكر السلطان فأعجبته وهزت من عطفه وأمر كتاب دولته أن يأخذوا منها نسخا وشرحها بعضهم ونصها
( هذي المنى فأنعم بطيب وصال ** فلطالما أضناك طول مطال )
( ماذا وكم أوليتني يا مخبري ** بقدومه من منة ونوالي )
( بشرتني بحياتي العظمى التي ** قد كنت أحسبها حديث خيال )
( بشرتني بابن الرسول لو إنما ** روحي ملكت بذلتها في الحال )
( بشرتني بسلالة الخلفاء من ** أمداحهم تثنى بكل مقال )
( من حبهم فرض الكتاب أما ترى ** إلا المودة حين يتلو التالي )
( من ضمهم شمل العباء وأذهبوا ** رجسا فيالك من مقام عالي )
( من قوموا أود المكارم بعد ما ** شادوا الهدى بمعارف ونصال )
( لولاهم كان الورى في ظلمة ** مدت غياهبها بكل ضلال )
( آباءك الأطهار فاقصد يا أبا ** إسحاق يا نجل المليك العالي )
( يا حبه وصفيه من قومه ** وخياره من سائر الأنجال )
( لو لم تكن أهلا لصفو وداده ** لم يستنبك لجدك المفضال )
( لكن توسم فيك كل فضيلة ** فحبى يمينك راية الإقبال )
( وأقام جودك بل وجودك زاد من ** يبغي ببيت الله حط رحال )
( أنت استطاعتهم فما عذر الذي ** ترك الزيارة خيفة الإقلال )
( وبك المشاعر أطربت طرب التي ** وجدت على وله فقيد فصال )
( ووصلتها رحما هناك قطيعة ** دهرا ولم تبلل به ببلال )
____________________


( وتأنس الحرمان منك بطلعة ** أغنتهما عن وابل هطال )
( كرم لكم أدريه يوم أفاضه ** عني سليمان باي سجال )
( وهب الألوف وكان أكرم منزل ** يسلى الغريب ببره المتوال )
( يوم التشرف لي بلثم يمينه ** وتمتعي من وجهه بجمال )
( وتلذذي بخطابه المعسول إذ ** حفت به للدرس أي رجال )
( لم أنسه يوما حسبت نعيمه ** بلذائذ الجنات ضرب مثال )
( عجبا له يحيي القلوب بعلمه ** ويميت جند الفقر منه بمال )
( وإذا تقلد للوغي فحسامه ** تعنو الرقاب له بدون قتال )
( تتلوه بالفتح المبين عساكر ** قد أرهفت بالنصر حد نصال )
( تخشى الملوك مقامه ولذكره ** رعبا تطير فرائص الأبطال )
( وينال آمله بخفض جناحه ** ماليس يخطر قط منه ببال )
( حتى سعى لصفي منهله الذي ** يسعى لمروته ذوو الأثقال )
( وأتت لمغربه الشريف مشارق ** والشمس تغرب لاقتضاء كمال )
( لما تكدر صفوها بضلاله ** جاءته كيما ترتوي بزلال )
( ومتى تخلف عاجز فبقلبه ** يسعى لفعل شعائر الإجلال )
( أمنية وقعت أشرت لذكرها ** في مدحه قدما بصدق مقال )
( تهوى المشارق أن تكون مغاربا ** لتنال من جدواه كل منال )
( يا فخر دين الله منه بناصر ** وسعادة الدنيا به من وال )
( لا تفتخر فاس ولا مراكش ** بولائه كل الأنام موال )
( أو ليس في كل البقاع ثناؤه ** ورد البكور وسحة الآصال )
( أو لم يشد للدين والعلماء ** والأشراف والصلحاء أي جلال )
( أو لم يعم بجوده أقطارها ** لا فرق بين جنوبها وشمال )
( أو لم يسر ركبانها بمحاسن ** ضاءت لها سرج بجنح ليال )
( أو ليس أحيا سنة العمرين في ** زمن إلى بدع الهوى ميال )
( شيم يهز الراسيات سماعها ** ويعجن في أنف الزمان غوال )
( أوصاف والدك الإمام المرتضى ** للدين والدنيا بحسن خلال )
____________________


( ذاك الربيع أبو الربيع ومن به ** حيى الهدى وشرائع الأفضال )
( كل الكمال له وأنت مقره ** والفرع عين الأصل عند مال )
( يا ابن المليك ابن المليك ابن المليك ** ابن المليك سلالة الأقيال )
( أنسيتم ذكر العباسية الأولى ** زالوا وما زالوا بعين جلال )
( لكم الفخار بذاته وسواكم ** مستمسك من فخركم بظلال )
( ولي الفخار بأن نسجت مديحكم ** حللا تجد وكل شيء بال )
( أملي معانيها على ودادكم ** فجرى به طبع كما السلسال )
( ولو أنني حاولت مدح سواكم ** عقل القريحة عنه أي عقال )
( فكأنما طبعي شريف حيثما ** لا يهتدي لسوى مديح الآل )
( أو قد درى أن المديح تعرض ** وسواكم لا يرتضي لسؤال )
( أبقاكم كهفا يلاذ بمجدكم ** مختاركم لإنالة الآمال ) )
( وأدام للإسلام والدك الذي ** هو رحمة وسعت بغير جدال )
( وعليكم وعلى الذي يهواكم ** أزكى الرضى من حضرة المتعال )
( ما دام ذكركم بكل صحيفة ** تبعا لأحمد سيد الإرسال )
( صلى عليه مسلما رب الورى ** وعلى مقدم حزبه والتالي )
وعزز هذه القصيدة بمثلها بحرا وقافية ورويا الفقيه العلامة الأديب أبو الفيض حمدون بن الحاج الفاسي يقول في مطلعها
( بشراك إبراهيم بالإقبال ** إقبال عز لم يكن بالبال )
وهي طويلة تركناها اختصارا وفي هذه السنة توفي الشريف البركة المولى علي ابن المولى أحمد الوزاني وذلك يوم الثلاثاء آخر يوم ربيع الأول سنة ست وعشرين ومائتين وألف غزو السلطان المولى سليمان بلاد الريف والسبب في ذلك
لما كانت سنة سبع وعشرين ومائتين وألف بلغ السلطان أن قبائل الريف من قلعية وغيرهم صاروا يبيعون الزرع للنصارى ويسوقونه من بلادهم فعقد لعامله على الثغور أبي عبد الله محمد السلاوي على جيش كثيف وأنفذه إليهم
____________________


فسار العامل المذكور وقصد قلعية عش الفساد ولما شارفها سرب إليهم العساكر فنهبوا أموالهم وحرقوا مداشرهم وانتسفوا أرضهم وديارهم وتركوهم أفقر من ابن المدلق ثم بث عماله في تلك القبائل فجبوها واستوفوا زكواتها وأعشارها وعاد ظافرا وفي هذه السنة وذلك صباح يوم الجمعة السابع عشر من محرم منها توفي الشيخ العلامة الإمام خاتمة المحققين بالمغرب سيدي محمد الطيب بن عبد المجيد بن عبد السلام ابن كيران الفاسي صاحب التآليف البديعة والحواشي المحررة مثل شرح الحكم العطائية وشرح السيرة النبوية وغير ذلك من التآليف المعروفة والموجودة بأيدي الناس
ثم لما دخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين وألف بلغ السلطان ثانيا أن أهل الريف لا زالوا مقيمين على بيع الزرع للنصارى وأنهم أضافوا إلى بيع الزرع بيع الماشية وقد كان السلطان منع النصارى من وسق ذلك بالمراسي فافتات هؤلاء القوم على السلطان وأعطوهم من ذلك ما أرادوا طمعا في الربح وكان السلطان قد تقدم إلى القائد محمد السلاوي في كفهم عن ذلك لأنه كان قد ولاه عليهم وأضافهم إلى من كان إلى نظره من أهل الجبل والثغور فكان لا يلتفت إليهم وربما قبض أهل المروءة منهم على سفلتهم ممن يتعاطى ذلك ويبعثون بهم إليه فيسرحهم على طمع فاتسع الخرق وصار كلهم يفعل ذلك ولما تحقق السلطان بفعلهم أمر رؤساء قراصينه أن يذهبوا إلى جهة الريف ومراسيها وكل من عثروا عليه بها من مراكب النصارى فليأخذوه فساروا وقبضوا على بعض النصارى فأسروهم ولم يقنعه ذلك حتى أمر بغزو الريف وعزم على النهوض إليهم بنفسه وأذن في الناس بذلك وجهز العساكر مع القائد محمد السلاوي ووجه معه ولده المولى إلراهيم بعساكر الثغور وعرب سفيان وبني مالك فساروا على طريق الجبل وخرج السلطان من فاس في السنة المذكورة ومعه السواد الأعظم فسلك الجادة إلى تازا وكارت حتى نفذ إلى بلاد الريف فلم يرعهم إلا العساكر محيطة بهم من كل وجه فنهبوهم وحرقوا مداشرهم واستخرجوا
____________________


أمراسهم ودفائنهم وولى السلطان عليهم أحمد بن عبد الصادق الريفي وتركه في بلادهم في حصة من العسكر يستخلص منهم الأموال وعاد السلطان إلى دار ملكه مؤيدا منصورا خروج السلطان المولى سليمان إلى بلاد الحوز وتمهيدها ثم دخوله مراكش
كان السلطان المولى سليمان رحمه الله قد ولى على قبائل تامسنا القائد كريران الحريزي فيقال إنه أساء السيرة فيهم فنبذوا طاعته وخرجوا عليه فقدم على السلطان مستصرخا عليهم فخرج إليهم في العساكر سنة ثلاثين ومائتين وألف وتقدم إلى جيرانهم من القبائل بأن يزحفوا إليهم من خلفهم ففعلوا وهجم هو عليهم من أمامهم وأوقع بهم وقعة شنعاء أتلفت موجودهم وأباحت نساءهم وأولادهم وفر منهم طائفة فعبروا وادي أم الربيع زمان مدة فهلك جلهم ثم ترك فيهم عامله في حصة من الجند وأمره باستخلاص الأموال منهم وتقدم هو إلى ناحية مراكش لقمع أهل الفساد من قبائل الحوز مثل دكالة وعبدة والشياظمة الذين خرجوا أيضا على عاملهم الحاج محمد بن عبد الصادق صاحب الصويرة فأصلح من شأنهم وعزله عنهم لما علمه من سوء سيرته فيهم ونقله من الصويرة إلى مراكش ثم منها إلى فاس فولى أخاه أبا العباس أحمد على عسكر القلعة بمراكش وعاد رحمه الله إلى الغرب
وفي هذه السنة في الثالث عشر من رمضان منها توفي الشيخ العلامة الفقيه الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف الحاج الرهوني صاحب الحاشية الكبيرة على مختصر الشيخ خليل وغيرها من التآليف النافعة والخطب البارعة وباعه في العلوم خصوصا الفقه مقرر معلوم رحمه الله ونفعنا به وفي ليلة الاثنين الخامس عشر من شوال من السنة المذكورة توفي الشيخ العالم العارف الإمام أبو العباس أحمد التجاني
____________________


شيخ الطائفة التجانية وكانت وفاته بفاس المحروسة وضريحه بها شهير عليه بناء حفيل رحمه الله ونفعنا به غزو السلطان المولى سليمان قبائل الصحراء وإيقاعة بآيت عطة والسبب في ذلك
لما كانت سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف بلغ السلطان المولى سليمان أن بعض قبائل الصحراء كعرب الصباح وبرابرة آيت عطه اشتغلوا بالفساد وعظم ضررهم واستولوا على قصور المخزن التي هنالك من عهد السلطان المولى إسماعيل فعقد لابنه المولى إبراهيم على جيش كثيف ووجهه إليهم فسار ونزل أولا على قصور العرب ونصب عليهم آلة الحرب فبددهم ثم زاد إلى قصور آيت عطه فنصب عليهم الآلة كذلك وضيق عليهم إلى أن طلبوا الأمان فأمنهم فطلبوا أن يفرج بالجيش عنهم قليلا حتى يخرجوا بعيالهم خوفا من معرة الجيش فأشفق لهم وأفرج عنهم وكان ذلك مكيدة منهم فلما نفس عن مخنقهم أدخلوا معهم ما شاؤوا من رجال وسلاح وقوت وتمادوا على الحرب فسقط في يد المولى إبراهيم وحمى أنفه وكان معه جماعة وافرة من أعيانهم رهنا عنده فقتل طائفة منهم وساق نحو المائة إلى فاس فقتلهم بباب المحروق ولما أنهى خبر فعلة البربر إلى السلطان عاب على ابنه إفراجه عنهم أولا وقتل الرهائن ثانيا ثم أنهم أوفدوا جماعة منهم على السلطان راغبين إلية أن يبقيهم بالقصور فردهم بالخيبة وقال لهم لا بد لي من الوصول إلى تلك القصور إن شاء الله حتى تكون لي أولكم ولما انسلخ رمضان من السنة وأقام سنة عيد الفطر شرع في تجهيز العساكر إلى الصحراء وقمع ظلمة آيت عطه ثم بعث في مقدمته السواد الاعظم من جيش العبيد وعقد عليهم لوصيفه الأنجب القائد أحمد بن مبارك صاحب الحاتم وبعث معه الطبجية بالمدافع والمهاريس وآلة الحصار والهدم فخرجوا من فاس في
____________________


زي فاخر وشوكة تامة وبعد انفصالهم عنها طرأ على السلطان من بعض الثغور البحرية خبر بأن عمارة العدو تروج بالبحر وتجتمع عند جبل طارق ولم ندر إلى أين تريد فتأخر السلطان عن الخروج حتى يتبين له أمر هذه العمارة ثم ورد الخبر اليقين بأنها قد قصدت ثغر الجزائر وأصاب الفرنج من هدم الأبراج وتخريب الدور والمساجد وحرق الأشجار شيئا كثيرا لكن لما رجعوا مفلولين مقتولين هان الأمر وصغرت المصيبة ولما جاء البشير بانهزام الفرنج عن الجزائر قوي عزم السلطان على متابعة من وجه من عسكره إلى الصحراء فخرج في غرة ذي القعدة من السنة المذكورة فيمن تخلف معه من العسكر وقبائل العرب والبربر وجد السيرإلى أن عمر وادي ملوية فلقيه البشير هنالك بخبر الفتح والاستيلاء على القصور وقتل أهلها وسبيهم ونهب بضائعهم وأمتعتهم فجد السير إلى أن خيم بأغريس ومنها كتب إلى القائد أحمد أن يوافيه بالجيش لبلاد فركلة للنزول على القصور الخربات التي بها آيت عطة فاجتمعوا مع السلطان بها ونصبوا عليها المدافع والمهاريس ودام الرمي عليها ثلاثة أيام حتى كثر الهدم والقتل وعاينوا الموت الأحمر فأرسلوا إلى السلطان النساء والصبيان للشفاعة في الخروج بؤوسهم فأمنهم ولما جن الليل خرجوا حاملين أولادهم على ظهورهم خوفا من معرة الجيش ولما أصبح السلطان أمر بنهب ما في القصور من القوت والمتاع والكراع وكمل فتح هذه الأماكن التي كانت نقمة لأهل ذلك القطر الصحراوي ولما من الله على السلطان بهذا الفتح شكر صنع الله له بأن فرق على العسكر وقبائل تلك الأقطار ما وسعهم من الخيرات
قال صاحب الجيش أعطى الشرفاء مائة ألف مثقال غير ما كان يعطيهم في كل سنة وقسم رحمه الله ذلك بخط يده فكتب لدار مولاي عبد الله كذا ولشريفات حموبكة كذا ولشرفاء تافيلالت كذا ولشرفاء تيزيمي وأولاد الزهراء كذا ولشرفاء الرتب كذا ولشرفاء مدغرة كذا ولشرفاء زيز
____________________


والخنق والقصابي كذا وأعطى الطلبة والعميان والمقعدين والزمنى وزوايا تافيلالت مائة ألف مثقال قسم ذلك بخط يده أيضا وجعل للفقيه المدرس أربعة أسهم ولغيره سهمين والسهم من كذا وللطالب الذي يحفظ القرآن برسمه حتى صفا لوحه سهمان ولغيره سهم والسهم من كذا ولا فرق بين الأحرار والحراطين ولكل واحد من الضعفاء والعمى والمقعدين كذا الأحرار والحراطين سواء وللزوايا كذا فلزاوية الشيخ سيدي الغازي كذا ولزاوية سيدي أبي بكر بن عمر كذا ولزاوية سيدي أحمد الحبيب كذا ولزاوية سيدي علي بن عبد الله كذا ولزاوية ضريح مولانا علي الشريف كذا ولمقبرة أخنسوس كذا ووجه المال مع الأمين السيد المعطي مرينو الرباطي وأمر الشرفاء أن يعينوا أربعين من ثقاتهم وأمنائهم حتى لا تقع زيادة فيما كتبه بيده ولا نقصان وأمر القاضي أن يعين عشرة من الطلبة وعشرة من العوام للقيام على تفرقة ذلك ثم أعطى المدرسين زيادة على ما تقدم وكذا الأئمة والمؤذنين ولم ينس أحدا كل ذلك بخط يده رحمه الله
قال صاحب الجيش ولا زال هذا الزمام عندي ثم بعد قضاء وطره من الزيارة والصلة توجه إلى مراكش على طريق الفائجة لتفقد أحوال جيش الحوز الذي كان وجهه من مراكش لإقليم درعة فبلغه أثناء الطريق أن آيت عطه الذين بدرعة لما سمعوا بقربه منهم خرجوا من القصور هاربين وتركوها يبابا وتحصنوا بجبل صاغرو ولما دخل السلطان مراكش سرح العساكر إلى السوس لتفقد أحواله وجباية أمواله وتمهيد أطرافه وأخذ هو رحمه الله في استصلاح قبائل الحوز من دكالة وعبدة والشياظمة فقتل وعزا وسجن وولى من ولى وطهر تلك الأعمال من ولاة السوء الذين كانوا بها وعاد إلى حضرته بفاس وكان دخوله إليها سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وألف ولما دخلها أخذ في تجهيز ولديه المولى علي والمولى عمر لأداء فريضة الحج إلى أن استوفى الغرض في ذلك وعين من يتوجه معهما من الخدم والتجار
____________________


وسائر الحاشية وخرجا مع الركب النبوي على الهيئة المعهودة في حفظ الله وفي هذه السنة عزل السلطان وصيفه ابن عبد الصادق عن فاس وولى عليها كاتبه أبا العباس أحمد الرفاعي الرباطي المدعو القسطالي كان يعلم أولاده فنقله عن ذلك إلى مرتبة الولاية وأوصاه أن يسير بالعدل في الضعفاء والمساكين ويشتد على الفجرة والمتمردين وفي هذه السنة عشية يوم الاثنين سابع ربيع الثاني منها توفي الشيخ العلامة المحقق الأديب البليغ أبو الفيض حمدون بن عبد الرحمن بن حمدون بن عبد الرحمن السلمي المرداسي الشهير بابن الحاج صاحب التآليف الحسنة والفوائد المستحسنة والخطب النافعة والحكم الجامعة رحمه الله ونفعنا به
وفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف عزل السلطان الفقيه أبا العباس عن فاس لعجزه عن القيام بالخطة وولى على فاس خديمه الحاج أبا عبد الله محمد الصفار من بيت رياسة وفي هذه السنة أبطل السلطان الجهاد في البحر ومنع رؤساءه من القرصنة به على الأجناس وفرق بعض قراصينه على الإيالات المجاورة مثل الجزائر وطرابلس وما بقي منها أنزل منها المدافع وغيرها من آلة الحرب وأعرض عن أمر البحر رأسا بعد أن كانت قراصين المغرب أكثر وأحسن من قراصين صاحب الجزائر وتونس قاله منويل وفي هذه السنة قدم ولدا السلطان المولى علي والمولى عمر من المشرق مع الركب ونزلوا بثغر طنجة وكان السلطان قد بعث إليهما بمركب من مراكب النجليز فانتهى إلى الإسكندرية وحملهما ومن معهما من الخدم والتجار وسائر الحاج ولما نزلوا بطنجة حدث الوباء بالمغرب فقال الناس إن ذلك بسببهم فانتشر أولا بتلك السواحل ومنها شاع في الحواضر والبوادي إلى أن بلغ فاسا ومكناسة في بقية العام
ولما دخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف شاع الوباء وكثر في بلاد الغرب فتوجه السلطان إلى مراكش وكان الأمر لا زال محتملا ثم زاد
____________________


وتفاحش حتى أصاب الناس منه أمر عظيم وفي هذا الوباء توفي الشيخ المرابط البركة سيدي العربي ابن الولي الأشهر سيدي المعطى بن الصالح الشرقاوي وضريحه شهير بأبي الجعد رحمه الله ونفعنا به وأسلافه آمين وقعة ظيان وما جرى فيها على السلطان المولى سليمان رحمه الله
لما وصل السلطان رحمه الله إلى مراكش سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف أقام بها إلى رجب منها ثم أخذ في الاستعداد لغزو برابرة فازاز وهم آيت ومالو بطن من صنهاجة وعرفت الوقعة بوقعة ظيان فخذ منهم فحشد السلطان رحمه الله عرب الحوز كلهم وكتب إلى العبيد بمكناسة يأمرهم أن يوافوه بتادلا وكتب إلى ولده وخليفته بفاس المولى إبراهيم أن يوافيه بها بجيش الودايا وشراقة وعرب الغرب وبرابرته وعسكر الثغور وكان الناس يومئذ في شدة من هذا الوباء الذي عم الحواضر والبوادي وكان السلطان لما أخذ في استنفار هذه القبائل لا علم له بتفاحش الوباء بالمغرب وكان الواجب على ابن السلطان أن يعلم أباه بما الناس فيه من فتنة الوباء فيعفيهم من الغزو أو يؤخره إلى يوم ما فجمع ولد السلطان الجموع وجلهم كاره وسار لميعاد أبيه فوافاه بتادلا فاجتمع للسلطان فيما يقال من الجيوش نحو ستين ألفا وزحف إلى البربر فانتهى إلى بسيط آدخسان وبها مزارع البربر وفدنها فأرسل السلطان الجيوش في تلك الزروع وكانت شيئا كثيرا فأتوا عليها وبعث البربر إليه بنسائهم وولدانهم للشفاعة وأن يدفعوا للسلطان كل ما يأمرهم به من المال وينصرف عنهم فأبى وزحف إليهم فقاتلهم يوما إلى الليل ولقد أخبرني من حضر الوقعة أن المقاتلة كانت في هذا اليوم من عرب الغرب ومن برابرة زمور وجروان وآيت أدراسن إلا أن القتل استحر في العرب دون البربر وذلك أن كبير زمور الحاج محمد بن الغازي دس إلى
____________________


ظيان بأنما نحن وأنتم واحد فإذا كان اللقاء فلا ترمونا ولا نرميكم إلا بالبارود وحده وذلك أن السلطان لما قدمهم للقتال في أول يوم منه وأخر عرب الحوز استرابوا بأنه إنما أراد أن يصدم بعضهم ببعض وتسلم له العرب ففعل ابن الغازي ما فعل ولما راح مقاتلة العرب مع العشي أخبروا السلطان بأن هؤلاء البربر الذين معه لا أمان فيهم وإنما ظلوا يترامون بالبارود لا غير ولأجل ذلك قد هلك من إخواننا كثير ولم يهلك منهم أحد فأسرها السلطان في نفسه ولم يبدها لهم ولما كان الغد وركب الناس للقتال أرسل إلى البربر أن لا يركب منهم أحد وقال لهم إني أردت أن أجرب العرب اليوم وأختبر فائدتهم فأظهروا الطاعة وتقدم العرب إلى القتال وأقام البربر في أخبيتهم إلى منتصف النهار ثم ركبوا خيولهم وتسابقوا إليها عن آخرهم قال المخبر بهذا الخبر شاهدتهم ساعة ركبوا فكنت لا ألتفت إلى جهة إلا رأيتها حمراء من كثرة سروجهم التي كانت على ظهور الخيل إذ ذاك ثم تصايحت البربر فيما بينها وتقدمت براياتها إلى الجهة التي فيها القتال وأتوا من خلف العرب الذين كانو في نحر العدو وهم يتصايحون فلم يردهم إلا صياح البربر من خلفهم وراياتهم قد أطلت عليهم من كل جهة وكانت شيئا كثيرا فظنوا أن ظيان قد التحفتهم من خلفهم فخشعت نفوسهم وفشلوا ورجعوا منهزمين لايلوي حميم على حميم فأخذتهم البربر من بين أيديهم ومن خلفهم يقتلون ويسلبون وحصل انزعاج كبير في المحلة وتمت الهزيمة عليها ولم يبق بها إلا جيش الودايا والعبيد هكذا أخبرني من شاهد هذه الوقعة ممن يوثق به
وساق صاحب الجيش الخبر عنها بأن قال كان انخذال برابرة زمور برأي كبيرهم الحاج محمد بن الغازي وكانت له وجاهة في الدولة وكان الحسن بن حمو واعزيز كبير آيت أدراسن يساميه في المنزلة ولما خرج المولى إبراهيم بن السلطان في هذه الغزوة كان ابن واعزيز قد حظي لديه حتى صار من أخص ندمائه فنفس ابن الغازي عليه ذلك ودبر بأن جر
____________________


الهزيمة على الجيش أجمع فإنه أظهر الفرار وقت اللقاء حتى سرى الفشل في الناس وانهزموا ثم عطفت البرابر مع العشي على محلة السلطان فشرعوا في نهبها وأحاط عسكر العبيد بها من كل جهة وصاروا يقاتلون البربر على أطراف الأخبية ولما أقبل المساء ترك العبيد الأخبية وأرزوا إلى أفراك السلطان وصار القتال على أفراك إلى وقت العشاء فهلك من العبيد خلق كثير وصار القتال بالسيوف والرماح وما زال أصحاب السلطان يترسون عليه بأنفسهم حتى عجزوا عن الدفاع وخلص البربر إلى السلطان وأراد رجل منهم يقال إنه من بني مكيلد أن يجرده فأعلمه بأنه السلطان فاستحلفه البربري فحلف له فنزل عن فرسه وأركبه وطار به إلى خيمته وكان البربر يلقونه وهو ذاهب به فيقولون من هذا الذي معك فيقول أخي أصابته جراحة ولما وصل به إلى خيمته أعلن بأنه السلطان فأقبلت نساء الحي من كل جهة يفرحن ويضربن بالدفوف ثم جعلن يتمسحن بأطرافه تبركا به وينظرون إليه إعجابا به حتى أضجرنه ولما جاء رجال الحي أعظموا حلوله بين أظهرهم وأجلوه وسعوا فيما يرضيه ويلائمه من وطاء ومطعم ومشرب بكل ما قدروا عليه فلم يقر له قرار معهم ويقال إنه بقي عندهم ثلاثا لا يأكل ولا يشرب أسفا على ما أصابه إلا أنه كان يسد رمقه بشيء من الحليب والتمر وتنصل البربر له مما شجر بينهم وبينه وأظهروا له غاية الخضوع والاستكانة حتى أنهم كتفوا نساءهم وقدموهن إليه مستشفعين بهن على عادتهم في ذلك وبعد ثلاث أركبوه وقدموا به في جماعة من الخيل إلى قصبة آكراي فنزلوا به قريبا منها وبعث رحمه الله إلى مكناسة يعلم الجيش بمكانه فجاؤوه مسرعين ودخل مكناسة بعد أن أحسن إلى ذلك الفتى البربري وإلى جميع أهل حيه غاية الإحسان وأمر رحمه الله أن يعطى لكل من أتى سليبا من المنهزمين حائك وثلاثون أوقية ففرق من ذلك شيئا كثيرا بباب منصور العلج من مكناسة وأصيب المولى إبراهيم ابن السلطان في هذه
____________________


الوقعة بجراحات معظمها في رأسه فحمل جريحا إلى فاس فمات بها وكانت مصيبته على السلطان أعظم مما أصابه في نفسه والأمر لله وحده
قال صاحب الجيش كان السلطان الحازم سيدي محمد بن عبد الله لا يرد الشفاعة في مثل هذا المقام وربما دس إلى من يظهر ذلك صورة حتى يكون نهوضه عن عز وذلك من حسن سياسته وكانت هذه الوقعة الفادحة سبب سقوط هيبة السلطان المولى سليمان من قلوب الرعية فلم يمتثل له بعدها أمر في عصاتها حتى لقي الله تعالى
ولما دخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين وألف كثر عيث البربر وإفسادهم السابلة واستحوذوا على مزارع مكناسة ومسارحها فنصب لهم السلطان رحمه الله حبالة الطمع وكادهم بها بأن صار كلما وفد عليه جماعة منهم كساها وأحسن إليها فتسامعوا بذلك فقادهم الطمع إلى أن وفد عليه منهم في مرة واحدة سبعمائة فارس من أعيانهم فقبض عليهم وجردهم من الخيل والسلاح وأودعهم السجن ثم أمر بالقبض على كل من وجد منهم بسوق مكناسة وصفرو فقبض بصفرو على نحو الثلاثمائة من آيت يوسي وقامت بسبب ذلك فتنة البربر على ساق فإنهم امتعضوا لمن قبض عليه من إخوانهم وزحفوا إلى مكناسة وحاصروها وجاؤوا معهم بدجالهم أبي بكر مهاوش وتحزبوا وصاروا يدا واحدة على كل من يتكلم بالعربية بالمغرب وكان مهاوش في هذه الأيام قد أمر أمره لأنه لما عزم السلطان على غزوهم كان يعدهم بأن الظهور يكون لهم فلما صدق عليهم ظنه اعتقدوه وافتتنوا به وزحفوا إلى مكناسة فضيقوا على السلطان بها فجعل رحمه الله يعالج أمرهم بالحرب تارة والسلم أخرى إلى أن طلبوا منه أن يسرح لهم إخوانهم ويرجعوا إلى الطاعة والدخول في الجماعة فسرحهم لهم على يد المرابط أبي محمد عبد الله بن حمزة العياشي فلما ظفروا بإخوانهم نقضوا العهد الذي أخذ عليهم المرابط المذكور وعادوا إلى العيث وإفساد السابلة ثم تبعهم على
____________________


ذلك قبائل العرب واختلط الحابل بالنابل واشتد الأمر وبلغ الحزام الطبيين ولله در العلامة أبي مروان عبد الملك التاجموعتي إذ يقول
( هم البرابر لا ترجو نوالهم ** وسل من الله تعجيل النوى لهم )
( لا بلغ الله قلبا منهم أملا ** وبلغ الله قلبي ما نوي لهم )
ثم لما سقطت هيبة السلطان وزال وقعه من القلوب سرى فساد القبائل إلى الجند فإن العبيد عادوا على كبيرهم القائد أحمد بن مبارك صاحب الخاتم فقتلوه افتياتا على السلطان مع أنه كان من أخص دولته لنجابته وكفايته وديانته واعتماد السلطان عليه في سائر مهماته ولما قتلوه اعتذروا للسلطان بأعذار كاذبة فقبل ظاهر عذرهم وطوى لهم على البت
قال أكنسوس كان القائد أحمد وأبواه وإخوته قد أعطاهم السلطان سيدي محمد بن عبد الله لابنه المولى سليمان فنشأ القائد أحمد في كفالته وتخلق بأخلاقه من زمن الصبا إلى مماته وكانت حياته مقرونة بسعادة السلطان العادل المولى سليمان فإنه من يوم قتل رحمه الله سنة خمس وثلاثين ومائتين وألف لم يلتئم شمل المملكة حتى توفي السلطان المذكور ذكر آل مهاوش وأوليتهم وما آل إليه أمرهم
أما الذي كان منهم في دولة السلطان سيدي محمد بن عبد الله فاسمه محمد وناصر والواو في لغة البربر بمعنى ابن وكان والده مرابطا من آيت مهاوش فرقة من آيت سخمان منهم وكان جده أبو بكر من أتباع الشيخ أبي العباس سيدي أحمد بن ناصر الدرعي رحمه الله وكان الشيخ المذكور قد جرى في مجلسه يوما ذكر الدجال فقال الشيخ لا يخرج الدجال حتى تخرج دجاجيل من جملتهم مهاوش ومعناه من جملتهم ولد هذا الرجل فكان الأمر كذلك فإنه لما شب محمد وناصر قرأ القرآن والعربية والفقه وحصل على طرف من علم الشريعة ثم تنسك وتزهد ولبس الخشن فيقال إنه حصل
____________________


له نوع من الكشف شاع به خبره عند البربر وأكبوا عليه واشتهر أمره أيام السلطان سيدي محمد بن عبد الله ولما انتهى أمره نهض إلى قبيلة جروان الذين كانوا يخدمونه فنهبهم بسببه وفر مهاوش إلى رؤوس الجبال وبقي مختفيا إلى أن بويع السلطان المولى يزيد رحمه الله وكان قد اتصل بمهاوش قبل ولايته وذلك حين فر من والده ولجأ إليه حسبما مر فآواه مهاوش وأحسن إليه
ولما بويع السلطان المذكور وفد عليه مهاوش في جماعة من قومه ففرح بهم المولى يزيد وأعطى مهاوش عشرة آلاف ريال وأعطى الذين قدموا معه مائة ألف ريال ولما هلك محمد وناصر هذا ترك عدة أولاد أكبرهم أبو بكر ومحمد والحسن إلا أنهم تبعوا سيرة أبيهم في مجرد التدجيل والتمويه على جهلة البربر وتثبيطهم على طاعة السلطان ولم يكن معهم ما كان مع والدهم من التظاهر بالخير والدين فأمر أمرهم عند أهل جبل فازاز واعتقدوهم ووقفوا عند إشارتهم ثم لما جاءت دولة السلطان المولى سليمان رحمه الله واتفقت له الهزيمة التي مر ذكرها وأمتلأت أيدي البربر من خيل المخزن وسلاحه وأثاث الجند وفرشه بطروا وظهر لهم إن ذلك إنما نالوه ببركة مهاوش لأنه كان يعدهم بشيء من ذلك فتمكن ناموسه من قلوبهم واستحكمت طاعتهم له وتمردوا على السلطان بسبب ما كانوا يسمعون منه إلا أن كيده كان قاصرا على أهل لسانه ووطنه لا يتعداهم إلى غيرهم ثم بعد ذلك بزمان انطفأ ذباله ولم يزل في انتقاص إلى الآن والله غالب على أمره حدوث الفتنة بفاس وقيامهم على عاملهم الصفار
لما توالت هذه الفتن على السلطان رحمه الله وانفتقت عليه الفتوق وصار الناس كأنهم فوضى لا سلطان لهم قام عامة أهل فاس على عاملهم الحاج محمد الصفار فأرادوا عزله وتعصبت له طائفة من أهل عدوته وافترقت
____________________


الكلمة بفاس حتى أدى ذلك إلى الحرب وسفك الدماء ونهب الدكاكين وتراموا بالرصاص من أعلى منار مسجد الرصيف وبلغ ذلك السلطان وهو يومئذ بمكناسة يعالج داء البربر فزاده ذلك وهنا على وهن فكتب إلى أهل فاس كتابا شحنه بالوعظ والعتب وأمر ابنه المولى عليا أن يقرأه عليهم فجمعهم وقرأه عليهم حتى سمعوه وفهموه ونص الكتاب المذكور بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم إلى أهل فاس السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد فإن العثماني بإصطنبول وأمره ممتثل بتلمسان والهند واليمن وما رأوه قط ولكن أمر الله يمتثلون { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن } النساء 59 وكان صلى الله عليه وسلم لا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح واعلموا أن العمال ثلاثة عامل أكل السحت وأطعمه الغوغاء والسفلة وعامل لم يأكل ولم يطعم غيره انتصف من الظالم وعامل أكل وحده ولم يطعم غيره فالأول تحبه العامة والسفلة ويبغضه الله والسلطان والصالحون والثاني يحبه الله ويكفيه ما أهمه من أمر السلطان والثالث كعمال اليوم يأكل وحده ويمنع رفده ولا ينصر المظلوم فهذا يبغضه الله ورسوله والسلطان والناس أجمعون وهذا معنى حديث أزهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس الخ
وحديث العمال ثلاثة الخ فلو كان للصفار مائدة خمر وطعام يأخذه من الأسواق ويتغذى عنده ويتعشى السفلة والفساق ويدعو اليوم ابن كيران وغدا ابن شقرون وبعده بنيس وابن جلون ويفرق عليهم من الذعائر لأحبوه وما قاموا عليه ولو أردتم النصيحة لله ولرسوله ولأميره لقدم علينا ثلاثة منكم أو ذكرتم ذلك لولدنا مولاي علي أصلحه الله فأخبرنا بذلك وقل للصفار الكلاب لا تتهارش إلى على الطعام والجيف فإذا رأت كلبا بباب دار سيده ولا شيء أمامه لم تعرج عليه وإن رأته يأكل فإن هو تعامى وأشركهم فيما يأكل أكلوا معه وسكتوا وإن هو قطب وجهه وكشر عن أنيابه تراموا عليه وغلبوه على ما في يده وهذا الصفار لم يتق الله ويزهد الزهد الذي ينصره الله به ولم يلاق الناس بوجه طلق ويطرف مما يأكله فسلطهم
____________________


الله عليه ولما رأى يوسف بن تاشفين النعمة التي فيها ابن عباد قال أكل أصحابه وأعوانه مثله فقالوا لا فقال إنهم يبغضونه ويسلمونه للمكاره لاستبداده دونهم ولتغيير المنكر شروط وما يعقلها إلا العالمون وكم من مرة قلنا لكم العلماء هو ينكرون ما ينكر ويعلموننا بما كان ولكن الجلوس بلا شغل والفراغ وعدم الحمد حملكم على ما يحرم عليكم الكلام فيه
( إن الشباب والفراغ والجده ** مفسده للمرء أي مفسدة )
وأما بيت مال الله والأحباس فالله حسيب من بدل وقد كنتم تتكلمون على المكس والحرير والقشينية وغير ذلك فأرى حكم الله من ذلك وانظروا لمن تعرفونه من العمال وأما الفسق فهو عادة وديدن كل من قام في الفتنة وكم مرة رمت قطعة فلم أجد إليه سبيلا لأن جل كبرائكم بالمصاري والعرصات وإنما أولي عليكم البراني لأنكم لا تحسدونه وإن أكل وحده والحاسد يريد زوال النعمة عن محسوده والتجار لأن التاجر لا يطمع في مال أحد ويكفيه الرفعة والجاه لنماء ماله وانظروا ما أجبتكم به وما كتبتم لنا به واعرضوه على فقهائكم فمن قال الحق منا ومن قال الباطل أخذتم بحظكم من الفتن ا هـ
وهذه الرسالة قد شرحها الفقيه أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد الكريم اليازغي وكان أهل فاس قد كتبوا إلى السلطان رحمه الله في شأن عاملهم الصفار المذكور واعتذروا عن خروجهم عليه بأنه اشتغل بما لا يرضي الله من الفسق ومد اليد إلى الحريم فأنكروا عليه فأجاب السلطان رحمه الله بالرسالة المذكورة خروج السلطان المولى سليمان من مكناسة إلى فاس وما لقي من سفهاء البربر في طريقه إليها
قد تقدم لنا أن البربر طلبوا من السلطان تسريح إخوانهم وأنه بذلك
____________________


تصلح أحوالهم ويراجعون الطاعة ولما سرحهم نكثوا العهد وازدادوا تمردا فلما أعيا السلطان أمرهم وكل أمرهم إلى الله وعزم على الخروج من مكناسة إلى فاس لما حدث بها من الشغب أيضا فولى على مكناسة وجند العبيد ولده المولى الحسن وكان له علم وحزم ثم خرج السلطان رحمه الله من مكناسة ليلا على خطر عظيم وأسرى ليلته ولم يعلم البربر بخروجه حتى أصبح وقد جاوز المهدومة وشارف وادي النجاة فتبعوه على الصعب والذلول ونهبوا كل من تخلف من الجيش واستولوا على كثير من روام السلطان وكان مع السلطان في تلك الليلة المرابط البركة أبو محمد عبد الله بن حمزة العياشي فجعل يكف البربر عن الجيش فلم يغن شيئا لأنه كان كلما كفهم من ناحية أغاروا من ناحية أخرى وخلص السلطان إلى فاس وقد ازداد حنقة على البربر فلما دخلها أمر بنهب دور البربر القاطنين بفاس فنهبوا كل من فيه رائحة البربرية ولو قديما فكان ذلك فتنة في الأرض وفسادا كبيرا وأقام السلطان بفاس إلى رجب من السنة المذكورة أعني سنة خمس وثلاثين ومائتين وألف ثم خرج لإصلاح نواحي بلاد الهبط فوصل في خرجته هذه إلى قصر كتامة فمهد تلك البلاد وأمن سبلها ورجع إلى رباط الفتح فقدم عليه بها قبائل الحوز على بكرة أبيهم من حاحا والشياظمة وعبدة والرحامنة وأهل السوس والسراغنة وزمران وأهل دكالة وقبائل الشاوية وتادلا وقدم عليه أيضا قبائل بني حسن وعبيد الديوان وقبض في هذه المرة على نحو المائة من زعير وأودعهم السجن ودخل شهر رمضان ففرق عمال القبائل كلا إلى عمله وأمرهم بالقدوم عليه لعيد الفطر ويستصحبوا زكواتهم وأعشارهم وكان قد عزم على المقام برباط الفتح إلى أن يقيم سنة العيد به وتجتمع عليه العساكر فيتوجه بها لغزو البربر ثم بدا له رحمه الله فسافر مع قبائل الحوز إلى مراكش في عاشر رمضان المذكور
____________________

ذكر ما حدث من الفتن بفاس وأعمالها بعد سفر السلطان المولى سليمان إلى مراكش
لما عزم السلطان المولى سليمان رحمه الله على السفر إلى مراكش ندب جند العبيد إلى السفر معه فتثاقلوا عليه وظهر منهم قلة المبالاة به وأحس منهم بذلك فأعرض عنهم وبعد يوم أو يومين انسل من بين أظهرهم وقصد محلة أهل الحوز فدخل قبة القائد محمد بن الجيلاني ولد محمد الصغير السرغيني وكان السلطان يطمئن إليه منذ كان رفيقه في نكبته عند ظيان إذا كان ابن الجيلاني المذكور مأسورا عندهم وسرحوه للسلطان فرافقه إلى مكناسة حسبما مر ولما احتل السلطان بمحلة أهل الحوز ازداد فساد نية العبيد وسافر السلطان إلى مراكش وترك مضاربه وأثاثه بيدهم فتوزعوها وعادوا إلى مكناسة وسمع الناس بما ارتكبه هؤلاء العبيد في حق السلطان فعاد شباب الفتنة إلى عنفوانه وسرى في الحواضر والبوادي سم أفعوانه فخب عبيد مكناسة بعد قدوم إخوانهم عليهم في الفتنة ووضعوا وامتنع عمال الغرب وبني حسن من دفع الزكوات والأعشار وطردوا جباة السلطان وعمد الودايا بفاس إلى حارة اليهود التي بين أظهرهم بفاس الجديد فانتهبوها واستصفوا موجودها وأخذوا ما كان تحت أيدي اليهود من كتان وحرير وفضة وذهب لتجار أهل فاس إذ كانوا يخيطون لهم ويصنعون ما تدعو الحاجة إلى خياطته وصنعته فضاعت في ذلك أموال لا يحصيها قلم حاسب ثم جردوهم رجالا ونساء وسبوا نساءهم وافتضوا أبكارهم وسفكوا دماءهم وشربوا الخمور في نهار رمضان وقتلوا الأطفال ازدحاما على النهب ثم تجاوزوا هذا كله إلى حفر البيوت على الدفائن فوقعوا بسبب ذلك على أموال طائلة ولما رأوا ذلك قبضوا على أعيانهم وتجارهم وصادروهم بالضرب والنكال ليدلوهم على ما دفنوه من المال ومن عنده يهودية حسناء حالوا بينه وبينها حتى يفتديها بالمال وكان هذا الحادث العظيم في الثالث عشر من رمضان سنة
____________________


خمس وثلاثين ومائتين وألف ولما فرغوا من اليهود التفتوا إلى أهل فاس فاستاقوا السرح وبهائم الحرث والجنات ومنعوا الداخل والخارج فقام بفاس هرج عظيم وغلقوا الأبواب ومالوا على من وجدوه من الودايا داخل البلد فأوقعوا بهم ونهبوهم وحمل الناس السلاح ونقلت البضائع والسلع من الأسواق إلى الدور خوفا عليها واجتمع أهل الحل والعقد منهم فعينوا من يقوم بأمرهم فقدم اللمطيون رجلا منهم يقال له الحاج أحمد الحارثي وقدم أهل العدوة رجلا منهم يقال له قدور المقرف وقدم أهل الأندلس رجلا منهم يقال له عبد الرحمن بن فارس فضبطوا البلد وبينما هم كذلك قدم عليهم جماعة من أعيان الودايا وتلافوا أمرهم معهم والتزموا رد ما نهبوه لهم من السرح وما نهب في جملة أموال اليهود مما كان يصنع عندهم فخمدت بذلك نار الفتنة بعض الشيء وقد قال أدباء الوقت في هذا الخطب الذي اتفق في هذه المدة جملة من الأشعار من ذلك قول الكاتب البارع أبي عبد الله محمد بن إدريس الفاسي
( أعين العين للمحبين داء ** والدوا في شفاهها والشفاء )
( فإذا ما رمين سهما لصب ** فالهوى قد هوى به والهواء )
( كيف يعدل نحو رأيي عذول ** من رمته ظبي اللحاظ الظباء )
( سعد ساعد أخا الغرام بقرب ** من سعاد فقد عناه العناء )
( زارني ضيف طيفها فشجاني ** وسرى الطيف للمحب حباء )
( هب شوقي أذهب نشر كباها ** وعرتني من ذكرها العرواء )
( فسقى عهدها العهاد وحيا ** الملك العادل الحياء الحياء )
( ليس إلا أبا الربيع ربيع ** خلقه الجود والجدي والوفاء )
( بسليمان قد سلمنا وسدنا ** فالعلي منزل له والعلاء )
( ملك ملك العلا والمعالي ** وسما فله الفخار سماء )
( غرة المجد درة العقد من قد ** راق من فضله السنا والسناء )
( نجل خير الورى وأفضل من فذ ** نبأت بظهوره الأنبياء )
____________________


( من إذا رجاه راج لنول ** قبل حل الحبى أتاه الحباء )
( خلق دمث وخلق بهي ** من ذكي نوره تغار ذكاء )
( كفه كفت الفساد وكفت ** كل عاد فما له أكفاء )
( راحة راحة لكل فقير ** بحياء تحيا به الأحياء )
( روضة راضت العلوم ولكن ** عرفها العرف والثراء الثناء )
( قد روى فضله الأفاضل طرا ** فعلى الفضل والرواة رواء )
( لأبي القاسم الظياني لديهم ** فضل سبق له علا وعلاء )
( جمع الوصف أحكم الوصف صدقا ** وأتاه الإنشاء كيف يشاء )
( صالح ناصح أمين رصين ** قد ثناه إلى علاك السناء )
( كيف لا يحسن السناء ويسمو ** في إمام له المعالي رداء )
( إنما هو معجز مستقل ** يقتدي بفعاله العقلاء )
( بسط العدل في البسيطة فالدين ** له بسطة به وارتقاء )
( وغدا بإقامة الدين فالغرب ** غريبا أنصاره الغرباء )
( لم يجد في البرابر الغلف برا ** شأنه البر في البدا والبراء )
( نقضوا العهد خالفوا الأمر والنهي ** إلا إنهم هو السفهاء )
خالفوا منتقى الخلائق جهلا ** بعماهم فلا عداهم عماء )
( عادة في جدودهم جددوها ** لهم الدهر الارتداد رداء )
( قد دعاهم مهاوش لضلال ** فعليهم وبالهم والوباء )
( شق جهلا عصا الإمام شقاقا ** وعصى الله لا هناه الهناء )
( واقتفى أثرهم الغواة ضلالا ** فغاباهم ما أن عليه غباء )
( وإذا خبثت أصول فروع ** لاح من فعلهم عليه لواء )
( وكذا العرب أعربوا عن مساوفهم ** في سوى الخروج سواء )
( نافقوا رافقوا الخبيثين كفرا ** همزوا لمزوا فليس براء )
( والودايا جاؤوا بادوء عيب ** داؤهم ماله الزمان دواء )
( قتلوا سلبوا أخافوا وحافوا ** ما ثناهم عن القبيح ثناء )
( ما رعوا ذمة ولا فعل ذم ** بل عراهم من الحياء عراء )
____________________


( وإمام الأنام يحلهم عنهم ** ويوالي وما يفيد الولاء )
( نهبوا حارة اليهود وهدوا ** دورهم وعرى النساء سباء )
( لو تراهم بين الرعايا عراة ** يحتذيهم رجالهم والنساء )
( خفروا ذمة النبي فذموا ** لعماء فلا سقاهم عماء )
( يا إمام الهدى عليك بقوم ** ملأ الغرب بغيهم والبغاء )
( قد طم ظلمهم وعم أذاهم ** وانجلى عنهم فحق الجلاء )
( كم سدلت عليهم أي ستر ** ووهبت فما أفاد العطاء )
( وحدوت إلى الرشاد فحادوا ** ودعوت فما أفاد الدعاء )
( نلت رشدا برشدهم وجهادا ** فأبى منهم الرشاد إباء ) )
( وإذا خذل الإله أناسا ** من محياهم يزول الحياء )
( فعبيد الإله خير عبيد ** قد كفى منهم الإمام كفاء )
( حاربوا ضاربوا على الحق راعوا ** ذمة الله لا عداهم علاء )
( فاتخذهم مواليا وجنودا ** واصطفيهم فإنهم أصفياء )
( قد أصاب الأعادي منهم عذاب ** ودهى منهم الدهاة دهاء )
( وإذا سخر الإله أناسا ** لسعيد فإنهم سعداء )
( يا إله الأنام خذ بيديه ** وأعنه فقد عناه العناء )
( فينام الأنام في ظل أمن ** ورداه للماردين رداء )
( وعليه السلام ما سار سار ** وشدت فوق ورقها الورقاء )
ثم حدث على تفئة ذلك فتنة أخرى بفاس بسبب نزاع جرى بين قاضيها الفقيه أبي الفضل عباس بن أحمد التاودي وبين مفتيها الفقيه أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الدكالي في قضية الشريفين الشفشاوني والعراقي من أهل فاس وهي معلومة فأنهى الأمر إلى السلطان فأخر الفقيه أبا عبد الله عن الفتوى فغضب للمفتي جماعة من المدرسين وطلبة العلم وتعصبوا له وتحزبوا على القاضي فكتبوا رسما يتضمن الشهادة بجوره وجهله ووضعوا خطوطهم وناطوا به قصيدة تتضمن الشكوى به وشرح حاله للسلطان ووجهوا بهما إليه ونص القصيدة
____________________


( يا أيها الملك الذي عدالته ** أحيت مآثرها الصديق أو عمرا )
( يا أيها الملك الذي مناقبه ** في غرة الدهر قد لاحت لنا قمرا )
( أنت الذي وضع الأشياء موضعها ** وفي العلوم الذي أحيا الذي اندثرا )
( أنت الذي صير الدين القويم كما ** أوصى به من سما الأملاك والبشرا )
( ولم يزل بك في عز وفي حرم ** يجني ذوو العلم من رياضة ثمرا )
( تذب عنه بأسياف وآونة ** بفكرة تحكم الأحكام والصورا )
( ومن يرم هدمه تأخذه صاعقة ** من راحتيك فلا تبقى له أثرا )
( وقد شكا الدين من هضم ومن كمد ** أصابه فهو يبكي الدمع منهمرا )
( سطت عليه يد القاضي الذي غمرت ** أقضية الجور منه البدو والحضرا )
( أعفى مراسمه جورا وأبدله ** جهلا بما يذهب الألباب والفكرا )
( جاء الولاية وهو من شبيبته ** يرى القضا حرفة يجني بها وطرا )
( فلم يكن همه فيه سوى قنص ** أو نخوة تترك الضعيف منكسرا )
( أما حقوق الورى فإنها عدم ** مجهولة جعلت منبوذة بعرا )
( فاستنقذت ملة المختار جدك من ** هذا الذي ما درى وردا ولا صدرا )
( يأتي الحكومة عباسا ومنقبضا ** مما به من سقام يجلب الكدرا )
( فلا يرى أرسم الخصمين من ملل ** لكن يحكم أوهاما بها جهرا )
( ويستبد برأيه وحيث بدت ** فتوى تبصره ألقى بها حجرا )
( ولا يمكن خصما قد دعاه إلى ** تسجيله ما رأى في الحكم معتبرا )
( ملت قلوب الورى منه وليس لهم ** إلاك يا من به الإسلام قد نصرا )
( ضجوا لعزتكم يشكون سيرته ** بعبرة تترك الفؤاد منفطرا )
( فأدركن يا عماد الدين صارمه ** رعية ترتجي من حلمكم مطرا )
( فأنزلنه لقد طغى بعزته ** ولم يخف في غد لظى ولا سقرا )
( واصرفه عنهم كصرفه ضعيفهم ** واعزله عزلا فإن الأمر قد أمرا )
( فأنت غيثهم إن أزمة أزمت ** وأنت كهفهم إن حادث ظهرا )
ولما وصل الرسم والقصيدة إلى السلطان رأى أن ذلك من التعصب الذي يحدث بين الأقران فرفضه لكمال أناته وعقله ولم يقبل شهادة عالم
____________________


على مثله فلما رأوا أن السلطان لم يساعدهم هجموا على القاضي وهو بمجلس حكمه وأرادوا قتله وسدد نحوه الشريف أبو عبد الله محمد الطاهر الكتاني كابوسا أخرجه فيه فأخطأه فانزعج القاضي ولزم بيته وقدموا مكانه الفقيه أبا عبد الله محمد بن عبد الرحمن الدلائي ثم عزلوه وولوا مكانه الفقيه أبا عبد الله محمد العربي بن أحمد الزرهوني فكانت عاقبة أمره أنه لما أفضى الأمر إلى السلطان المولى عبد الرحمن بن هشام رحمه الله نفاه إلى الصويرة والله تعالى أعلم خروج أهل فاس على السلطان المولى سليمان وبيعتهم للولى إبراهيم بن يزيد والسبب في ذلك
لما استمر السلطان المولى سليمان رحمه الله مقيما بمراكش والفتن بفاس وسائر بلاد الغرب قد تجاوزت مداها وعم أذاها ورفعت الشكايات إليه من فاس وغيرها بما الناس فيه من الكرب العظيم والخطب الجسيم كتب رحمه الله بخط يده كتابا إلى أهل فاس يرشدهم إلى ما فيه صلاحهم من حلف البربر والاعتماد عليهم في حراسة بلادهم وسائر مرافقهم كما كانوا قديما أيام الفترة في دولة السلطان المولى عبد الله إلى أن يفرغ من شأن الحوز ويقدم عليهم هكذا زعم صاحب البستان
قال أكنسوس كان مراد السلطان بذلك الكتاب تهييج أهل فاس على التمسك بطاعته وترغيبهم في محبته ونصرته وقد فعل مثل ذلك بمراكش فإنه جمع أعيانها وأعيان الرحامنة عقب صلاة الجمعة وقال لهم قد رأيتم ما جرت به الأقدار من فساد قلوب الرعية وتمادي القبائل على الغي والفساد ومن يوم رجعنا من وقعة ظيان ونحن نعالج أمر الناس فلم يزدادوا إلا فسادا وقد جرى على الملوك المتقدمين أكثر من هذا فلم ينقصهم ذلك عند رعيتهم بل قاموا معهم وأعانوهم على أهل الفساد حتى أصلحوهم وإني قد عجزت
____________________


بشهادة الله لأني ما وجدت معينا على الحق وكم مرة تحدثني نفسي أن أترك هذا الأمر وأتجرد لعبادة ربي حتى أموت فقال من حضر من أعيان الرحامنة وغيرهم يا مولانا بارك الله لنا في عمرك وجعلنا فداءك ونحن أمامك ووراءك فمرنا بما تشاء فقولك مطاع وأمرك ممتثل وما رأينا منك إلا الخير فسر السلطان بمقالتهم ودعا لهم بخير ولما فعل مع أهل مراكش هذا الأمر أراد أن يسلك مثله مع أهل فاس فوقع ما وقع ولما بعث السلطان بالكتاب المذكور إلى ابنه المولى علي بفاس أمره أن يقرأه على أهلها بمحضر الفقيه المفتي السيد محمد بن إبراهيم الدكالي والفقيه الشريف السيد محمد بن الطاهر الفيلالي والفقيه الكاتب السيد أبي القاسم الظياني والأمين السيد الحاج الطالب ابن جلون الفاسي فجمعهم المولى علي في المسجد الذي بباب داره بزقاق الحجر وقرأ عليهم الكتاب المذكور وكان المسجد غاصا بالخاصة والعامة فازدحموا عليه ليروا الكتاب بأعينهم وأكثروا عليه فضجر وقام ودخل داره وأغلقها عليه فقال بعض الناس إن السلطان قد خلع نفسه وقال لكم قدموا من ترضونه وقال آخرون إنه لم يخلع نفسه وجعل آخرون يقرعون باب المولى علي ويقولون أخرج إلينا كتاب السلطان حتى نقرأه ونعلم ما فيه فقال لهم إني أحرقته فازدادوا ريبة وصدقوا أن السلطان قد خلع نفسه واجتمع رؤساء أهل فاس منهم الحاج محمد بن عبد الرزيق والسيد محمد بن سليمان وعلال العافية وقدور بن عامر الجامعي ولم يكن من أهل فاس وإنما كان قاطنا بالطالعة وهؤلاء من أهل عدوة الأندلس وكذلك عيرهم من أهل عدوة القرويين واللمطيين ثم جمعوا الطلبة الذين حضروا قراءة الكتاب وألزموهم أن يكتب كل واحد منهم ما سمع فكتب لك واحد ما ظهر له ثم حازوا خطوطهم وخلصوا منها ما هو مرادهم وهو أن السلطان عجز وعزل نفسه وأمر الناس أن ينظروا لأنفسهم هذا والحرب قائمة بين أهل فاس والودايا
____________________


فكتب أهل فاس إلى قواد البربر يستنصرونهم على الودايا ويستقدمونهم للنظر والخوض معهم فيمن يتولى أمر الناس فقدم الحسن بن حمو واعزيز المطيري كبير آيت أدراسن في وجوه قومه وقدم الحاج محمد بن الغازي كبير زمور وبني حكم في وجوه قومه فاجتمعوا بأهل فاس وتفاوضوا في أمر البيعة فوقع اختيارهم على المولى إبراهيم بن يزيد وكان ذا سمت وانقباض وصهر السلطان على ابنته وكان يسكن بدرب ابن زيان قرب المدرسة العنانية فكان لا يخرج إلا من الجمعة إلى الجمعة يصلي بالمدرسة ثم يعود إلى داره فاختاروه لذلك من غير اختبار ولا تمحيص ثم قالوا إن السلطان لا بد له من مال ورجال فتكفل ابن واعزيز بالرجال وقال عندنا من الخيل والرجال ما لن يغلب من قلة وتكفل الحاج الطالب بن جلون بالمال وأحال على جماعة من التجار وسماهم وذكر أن السلطان لما عزم على السفر إلى مراكش ودع عندهم بواسطته مالا له بال ولما تم لهم ما أرادوا غدوا على المولى إبراهيم بن يزيد فأحضروه وشرطوا عليه شروطا منها إخراج الودايا من فاس الجديد وكانوا كلما شرطوا عليه شرطا حرك لهم رأسه أي نعم ثم بايعوه صبيحة الرابع والعشرين من محرم سنة ست وثلاثين ومائتين وألف ويقال إنهم لما خاطبوه أولا امتنع فقالوا له إن لم نبايعك بايعنا رجلا من آل المولى إدريس رضي الله عنه فخاف خروج الأمر من بيتهم وأجاب والله أعلم وحضر هذه البيعة الشريف سيدي الحاج العربي ابن علي الوزاني والشيخ أبو عبد الله سيدي محمد العربي الدرقاوي وكان ابن الغازي الزموري من أخص أتباعه وهو رئيس البربر في ذلك الوقت وعليه وعلى ابن واعزيز كانت تدور هذه الأمور وحضرها أيضا أبو بكر مهاوش كبير آيت ومالو ولما أحكموا أمرهم كتبوا إلى العبيد بمكناسة ليساعدوهم فامتنعوا إلا أن من كان يبغض السلطان منهم وعدهم سرا ثم كتبوا إلى الودايا بمثل ما كتبوا به إلى العبيد فكانوا عنها أبعد فبعث أهل فاس الشيخ
____________________


أبا عبد الله الدرقاوي إلى الودايا ليأتي بيعتهم وكان له فيهم أتباع فقبضوا عليه وأودعوه السجن وكتبوا بذلك إلى السلطان فما سخط ولا رضي واستمر المولى إبراهيم والبربر مقيمين بفاس إلى أن نفذ ما عندهم من المال الذي أظهره لهم الحاج الطالب ابن جلون فاتفق رأيهم على الخروج من فاس وكان من أمرهم ما نذكره مسير المولى إبراهيم بن يزيد إلى تطاوين ووفاته بها
لما نفذ ما كان عند المولى إبراهيم بن يزيد وشيعته من المال واستهلكوه في غير فائدة تفاوضوا فيما يصنعون فأجمع رأيهم على أن يسيروا إلى المراسي بقصد فتحها والاستيلاء على مالها فخرجوا بالمولى إبراهيم مستبدين عليه ضاربين على يده وإنما المتصرف والآمر والناهي هو أبو عبد الله محمد بن سليمان وأما ابن عبد الرزيق وجماعة من أصحابه الذين أسسوا هذا الأمر فإنهم هلكوا في حرب الودايا في عشية واحدة في وقعة ظهر المهراس وحزت رؤوسهم وبعث بها إلى السلطان بمراكش ولما برزوا من فاس مروا بآيت يمور ونزلوا بالولجة الطويلة وراودوا من هنالك من عرب بني حسن وأهل الغرب ودخيسة وأولاد نصير على الانخراط في سلكهم فأبوا عليهم وعزم القائد محمد بن يشو على أن يبيتهم بغارة شعواء تفرق جمعهم فدس إليهم محمد بن قاسم السفياني اللوشي وكان منحرفا عن السلطان بما عزم عليه ابن يشو وأشار عليهم أن يعبروا النهر إلى ناحيته ليحميهم ممن أرادهم فعبروا إليه وانضم إليهم فيمن معه وساروا إلى قصر كتامة فنزلوا بالكدية الإسماعيلية ومنها كتبوا إلى أهل الثغور والعرائش وطنجة وتطاوين يدعونهم إلى بيعة سلطانهم والدخول في حزبهم فأما أهل العرائش وطنجة فأجابوا بالمنع وقيل أن أهل العرائش بايعوا ووفد عليه بعضهم ولعل ذلك
____________________


كان في ثاني حال وأما أهل تطاوين فامتثلوا وكان قاضي طنجة أبو العباس أحمد الفلوس قد عزم على بيعة المولى إبراهيم فنذر به عاملها أبو عبد الله محمد العربي السعيدي فنفاه وقدم للقضاء مكانه الفقيه الأديب أبا البقاء خالد الطنجي ولما ورد على المولى إبراهيم وحزبه جواب أهل تطاوين بالقبول ساروا إليها فدخلوها واستولوا على مال المرسى وعلى مخازن السلطان وما فيها من سلاح وكتان وملف وغير ذلك فتوزعته البربر ثم انتهبوا ملاح اليهود واكتسحوه فعثروا فيه على أموال طائلة يقال إنهم وجدوا به عددا كثيرا من فنائق الضبلون والبندقي فكان ابن الغازي الزموري وغيره من رؤساء ذلك الجمع لا يعطون أصحابهم إلا البندقي فكثر جمعهم لذلك ولما مضت لهم من قدومهم تطاوين سبعة وأربعون يوما توفي المولى إبراهيم رحمه الله وكان قد دخلها مريضا يقاد به في المحفة فأخفوا موته ودفنوه بداره وكان من أمرهم ما نذكره بيعة المولى السعيد بن يزيد بتطاوين ورجوعه إلى فاس
لما توفي المولى إبراهيم بن يزيد اخفى رؤساء دولته موته ليلتين أو ثلاثا ثم دعوا أهل تطاوين إلى بيعة أخيه المولى السعيد بن يزيد فافترقت كلمتهم فمنهم من أبى ومنهم من أجاب فأحضر ابن سليمان وابن الغازي وأشياعهما من أبى من أهل تطاوين وألزموهم البيعة فالتزموها وكتبوها وأحكموا عقدها وكان المتولي يومئذ بتطاوين الحاج عبد الرحمن بن علي أشعاش فأخروه وولوا مكانه أبا عبد الله محمد العربي بن يوسف المسلماني وكان داهية شهما وبينما هم في ذلك ورد عليهم الخبر بمجيء السلطان من مراكش وأنه قد وصل إلى قصر كتامة ففت ذلك في عضدهم وخرجوا مبادرين إلى فاس على طريق الجبل وكان من أمرهم ما نذكره
____________________

مجيء السلطان المولى سليمان من مراكش إلى القصر ثم مسيره إلى فاس وحصاره إياها
كان السلطان المولى سليمان رحمه الله في هذه المدة مقيما بمراكش وكان العبيد قد ندموا على ما فرط منهم برباط الفتح من التخلف عن السلطان ونهب أثاثه حسبما مر فجعلوا يتسللون إليه من مكناسة مثنى وفرادى حتى اجتمع عنده جلهم لا سيما من كان منهم معروفا بعينه مثل القواد وأرباب الوظائف ولما بلغه ما كان من بيعة المولى إبراهيم بن يزيد تربص قليلا حتى إذا بلغه خروجه إلى المراسي قلق وخرج من مراكش في جيش العبيد وبعض قبائل الحوز يبادره إليها ولما وصل إلى رباط الفتح عبر إلى سلا ونزل برأس الماء ولما حضرت الجمعة دخل المدينة فصلى بالجامع الأعظم منها ودخل دار الحاج محمد بن عبد الله معنينو من أعيان أهل سلا واستصحب معه الفقيه المؤقت أبا العباس أحمد بن المكي الزواوي من أهل سلا أيضا بقصد القيام بوظيفة التوقيت ولما وصل السلطان إلى قصر كتامة أتاه الخبر بدخول المولى إبراهيم إلى تطاوين فأقام هنالك وكتب إلى الودايا وإلى من بقي بمكناسة يحضهم على التمسك بالطاعة وكتب إلى ولده المولى الطيب بفاس الجديد يأمره أن يبعث إليه بالفقيه الأديب أبي عبد الله محمد أكنسوس وهو صاحب كتاب الجيش
قال أكنسوس فقدمنا على السلطان بريصانة على مرحلتين من القصر قاصدا تطاوين ومحاصرة المولى إبراهيم بن يزيد بها قال فورد عليه كتاب من عند القائد أبي عبد الله العربي السعيدي صاحب طنجة بوفاة المولى إبراهيم وبيعة أخيه المولى السعيد وأنهم قد عادوا به إلى فاس ولما تحقق بذلك رجع على طريق القصر يؤم فاسا ويسابق السعيد إليها فوافياها في يوم واحد فنزل السعيد بجموعه بقنطرة سبو ودخل السلطان دار الإمارة بفاس الجديد مع الودايا ولما كان فجر الغد في تلك الليلة أغارت خيل الودايا
____________________


على محلة المولى السعيد بالقنطرة فانتسفوها بما فيها وقتلوا من البربر وأهل فاس وغيرهم خلقا كثيرا واحتووا على أموال طائلة مما كانت البربر قد نهبته من ملاح تطاوين وأفلت المولى السعيد وبطانته بجريعة الذقن ودخلوا فاسا فأغلقوها عليهم وثابت إليهم نفوسهم وفي هذه الأيام قتل المعلم الأكبر أبو العباس أحمد عنيقيد التطاوني وكان عجبا في صناعة الرمي بالمهراس وكان المولى السعيد قد أتى به من تطاوين ليحاصر به على فاس الجديد فدس إليه السلطان من قتله ناداه رجل وهو في محلة أصحابه ليلا يا فلان أجب مولانا السلطان فظن أنه دعي إلى المولى السعيد فقال ها أنا ذا وبرز من خبائه فرماه المنادي برصاصة كان فيها حتفه ثم عزم السلطان على محاصرة فاس حتى يفيئوا إلى أمر الله ولكن اكتفى من الحصار بمنعهم من الدخول والخروج وكان الودايا قد ألحوا عليه في أن يرميهم بالبنب فأبى رحمه الله وقال لو كانت البنبة التي نرميها تذهب حتى تقع بدار ابن سليمان أو بدار الطيب البياز أو غيرهما من رؤوس الفتنة لفعلنا ولكن إنما تقع في دار أرملة أو يتيم أو ضعيف حبسه العجز معهم ثم إن أهل فاس بدؤوا بالرمي وكان معهم سعيد العجل عارفا بالرمي فجعلوا يقصدون دار السلطان فوقعت بنبة بالموضع الذي كان يجلس فيه للقراءة ووقعت أخرى بالمدرسة التي بباب داره وكان بها جماعة من طبجية سلا ورباط الفتح فقتلت منهم أربع نفر منهم الباشا أبو عبد الله محمد بن محمد بن حسين فنيش السلاوي فعند ذلك حنق السلطان وأمر أن يؤتى بالمهاريس الكبار من طنجة من فرمة ثمانين إلى فرمة مائة فجيء بها ونصبها عليهم فكان القتال لا يفتر ليلا ونهارا والكور والبنب تختلف بين أهل البلدين في كل وقت واستمر الحال على ذلك قريبا من عشرة أشهر ولا يدخل أحد إلى فاس ولا يخرج منها إلا على خطر وفي أثناء هذه المدة نهض السلطان إلى طنجة للنظر في أمر تطاوين الخارجة عليه بعد أن تقدم إلى الودايا في الحصار والتضييق على فاس إلى
____________________


أن يعود إليهم ولما استقر بطنجة بعث إلى أهل تطاوين وراودهم على الرجوع إلى الطاعة فأبوا ولجوا في عصيانهم فبعث إليهم جيشا كثيفا مع القائد حمان الصريدي البخاري فنزل بوادي أبي صفيحة وحاصرهم مدة فكانت الحرب بينه وبينهم سجالا مرة له ومرة عليه وهلكت نفوس من أعيان تطاوين وغيرهم مجيء المولى عبد الرحمن بن هشام من الصويرة إلى الغرب واستخلافه بفاس وما تخلل ذلك
كان المولى عبد الرحمن بن هشام في ابتداء أمره بتافيلالت ولما توسم فيه عمه المولى سليمان مخايل الخير والنجابة استقدمه منها وولاه على الصويرة وأعمالها فكفاه أمرها وقام بشأنها ثم لما كان المولى سليمان بطنجة في هذه المرة واستعصى عليه أمر فاس وتطاوين وانصرم فصل الشتاء وأقبل فصل الربيع كتب إلى ابن أخيه المولى عبد الرحمن المذكور يأمره بالقدوم عليه في قبائل الحوز ويلقاه بهم برباط الفتح وكان غرض السلطان أن يزحف بهم إلى فاس إلا أن السياسة اقتضت أن يكون الأمر هكذا فجمع المولى عبد الرحمن قبائل الحوز وقواده وقدم بهم إلى رباط الفتح ولما لم يجدوا السلطان به تثاقلوا عن العبور مع المولى عبد الرحمن إلى بلاد الغرب لأن السلطان إنما وعدهم أن يلقوه برباط الفتح فكتب المولى عبد الرحمن إلى عمه يعلمه بصورة الحال وكان السلطان رحمه قد استوزر في هذه المدة الفقيه أبا عبد الله أكنسوس فبعثه إلى المولى عبد الرحمن وأصحبه مالا يفرقه على جيشه لينشطوا للقدوم وكان قدر المال خمسين أوقية لكل فارس وأمره إذا قدم أرض سلا أن ينزل عند عاملها أبي عبد الله محمد بن أبي عزة المعروف بأبي جميعة وبعث للمولى عبدالرحمن ليعبر إليه في وجوه الجيش لقبض الصلة ولا يذكر لهم سفرا فإذا قبضوها فليقرأ عليهم كتابه وكان مضمنه أنه يأمرهم بالقدوم عليه لقصر كتامة لقبض الكسوة
____________________


التي أتى بهامن طنجة وحينئذ يذهب معهم السلطان إلى الحوز ففعل الوزير ذلك كله وتقدم المولى عبد الرحمن في جيشه إلى قصركتامة
قال الوزير المذكور فلما جئنا القصر وجدنا السلطان لا زال مقيما بطنجة فتقدمت إليه وأعلمته بوصول المولى عبد الرحمن وجيشه إلى القصر فخرج السلطان من طنجة وجعل طريقه على آصيلا ولما بات بسوق الأحد بالغربية بعث إليه المولى المجذوب سيدي محمد بن مرزوق يدعوه للقدوم عليه والبيات عنده فأجاب دعوته ودخل عليه وتبرك به ومن هناك كتب إلى ابن أخيه المولى عبد الرحمن أن يتقدم بالجيش إلى العرائش ويلقاه به هنالك ففعل المولى عبد الرحمن وهناك اجتمع بعمه السلطان المولى سليمان فسر بمقدمه ودعا له بخير وأثنى عليه بمحضر أولئك الملأ من الناس ثم دعا السلطان قواد الحوز فيهم القائد عبد الملك بن بيهي والقائد علي بن محمد الشيظمي والسيد محمد بن الغنيمي نائبا عن الحاج حمان العبدي وكان في ركابه ابنه فضول بن حمان صغيرا والقائد بلعباس بن المزوار الدكالي البوزراري والحاج العربي بن رقية البوزراري والقائد محمد بن حديدة البوعزيزي والقائد المعطى الحمري والقائد الصديق ابن الفقيه العمراني ولم يكن فيهم من الرحامنة إلا الحاج المعطى بن محمد الحاج ولم يكن فيهم من السراغنة ولا من الشاوية أحد ولما اجتمعوا خرج عليهم السلطان وجلس على طنفسة ثم دعا بالقائد عبد الملك بن بيهي فأجلسه إلى جنبه ودعا له بخير ثم قال إنكم تعبتم في سبيل الله ونحن أتعب منكم ونسأل الله أن لا يضيع أجرنا وأجركم وأعلموا أنكم في طاعة الله وطاعة رسوله ولكم المزية التامة وقد وجب علينا الإحسان إليكم وقد ظهر لي أنكم حين وصلتم إلى هذا المحل لا ينبغي لكم أن ترجعوا بدون زيارة مولانا إدريس وكنت أردت أن أوجهكم إلى بلادكم من هنا ولكن أنا لايمكنني أن أرجع إلا بعد أن يحكم الله بيني وبين هؤلاء الخارجين عن الحق وأنتم لا يجمل بكم أن ترجعوا بغير سلطان فاصبروا قليلا وتمموا عملكم حتى تذهبوا إن شاء الله بسلطانكم فرحين مستبشرين
____________________


فقالوا كلهم سمعا وطاعة لا نفارقك حتى نرجع بك ولو مكثنا عشر سنين وعلى أثر هذا عقد السلطان لقائد خيل الجيش البخاري الحاج إبراهيم بن رزوق على مائتين من الخيل مفروضة من الحوزية والعبيد وأمره أن يسير إلى تطاوين ويقيم بمرتيل ويمنع أهلها من الوصول إلى المرسى ففعل وارتحل السلطان من العرائش يريد فاسا في قبائل الحوز فمر ببلاد سفيان ونزل بسوق الأربعاء منها قرب ضريح سيدي عيسى بن الحسن المصباحي فأصابه مرض هنالك وورد عليه الخبر بأن إبراهيم بن رزوق قد كاده صاحب تطاوين العربي بن يوسف حتى قبض عليه وعلى أصحابه وسلبهم وسجنهم فآلم هذا الخبر السلطان وزاده إلى ما به من المرض ثم أبل منه بعد أيام فنهض إلى فاس وعرج على طريق تازا ولما بات بسوق الخميس بالكور من بلاد الحياينة أغارت عليه غياثة ومن شايعهم من أهل تلك النواحي وكانوا قد دخلوا في بيعة أبي يزيد فداروا بالمحلة ونضحوها بالرصاص فقام السلطان وجعل يسكن الناس بنفسه ونهاهم عن الركوب والاضطراب فحفظ الله المحلة في تلك الليلة ولم يصب أحد من الناس ولا من الدواب وأصبحت قتلى العدو مصرعة حول المحلة ثم دخل السلطان مدينة تازا فوفد عليه بها أهل الريف وعرب آنقاد والصحراء وجعلوا يزدحمون عليه ليروا وجهه ويقولون إنه والله للسلطان لأن أهل فاس كانوا يشيعون موته ويكتبون بذلك إلى القبائل ثم تقدم السلطان إلى فاس فنزل بقنطرة وادي سبو وذلك أواخر رجب سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف وكان أهل فاس قد سئموا الحرب وعضهم الحصار وملوا دولة أبي يزيد فاختلفت كلمتهم عند ما قدم السلطان وهاجت الحرب داخل البلد بين شيعة السلطان وشيعة السعيد فكثرهم شيعة السلطان وفتحوا الباب وخرجوا إليه بالأشراف والصبيان والمصاحف وتهافتوا على فسطاطه تائبين خاضعين وجاء السعيد في جوار المولى عبد الرحمن بن هشام ومعه الأمين الحاج الطالب ابن جلون فكان جواب السلطان لهم أن قال { قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين } يوسف 92 وكان رحمه الله قد رأى
____________________


وهو سائر إلى فاس رؤيا وهي أنه دخل فاسا وزار تربة المولى إدريس رضي الله عنه وقلده سيفا وصعد المنار وأذن فكان من عجيب صنع الله أن فتح عليه فاسا ودخلها وزار المولى إدريس وأذن بمنارة على الهيئة التي رأى وجاء رجل من أولاد البقال فقلده سيفا تصديقا للرؤيا ولما دخل ضريح المولى إدريس وجد الشريف البركة سيدي الحاج العربي بن علي الوزاني هنالك فعاتبه السلطان عتابا خفيفا وزال ما بصدره عليه وانقطعت أسباب الفتن والحمد لله
واعلم أن ما صدر من أهل فاس ومن وافقهم على هذه البيعة لا لوم عليهم فيه وماكان من حق السلطان رحمه الله أن يبعث إليهم بذلك الكتاب الذي أوقعهم في حيص بيص وكان سببا لهذه الفتن وقول أكنسوس إن السلطان أراد تهييجهم على التمسك بطاعته كما فعل مع أهل مراكش ليس بشيء أو ما علم السلطان رحمه الله كلام الكبراء خصوصا الملوك مما تتوفر الدواعي على نقله وأن العامة إذا نقلته وضعته غالبا في غير محله وفي الصحيح أن عمر رضي الله عنه بلغه وهو بمنى أن رجلا قال والله لو قد مات عمر لبايعنا فلانا يريد رجلا من غير قريش فقال عمر رضي الله عنه لأقومن العشية فأحذر هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لا تفعل يا أمير المؤمنين فإن الموسم يجمع رعاع الناس يغلبون على مجلسك فأخاف أن يسمعوا منك كلمة فلا ينزلوها على وجهها ويطيروا بها عنك كل مطير فامهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة فتخلص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار فيحفظوا مقالتك وينزلوها على وجهها فقال عمر والله لأقومن به في أول مقام أقومه بالمدينة الحديث فانظر كيف منع عبد الرحمن عمر رضي الله عنه من الكلام بالموسم وبمحضر العامة خوفا من وقوع الفتنة وانقاد له عمر حيث علم أن ذلك هو الصواب وكان وقافا عند الحق هذا والناس ناس والزمان زمان وفي خير القرون فكيف في زمان قل علمه وكثر
____________________

جهله وغاض خيره وفاض شره وأمر السلطان متداع مختل والفتنة قائمة على ساق كما رأيت فلهذا قلنا ما كان من حق السلطان أن يبعث بذلك الكتاب الموجه بمقصدين المحتمل احتمالين ولكن قضاء الله غالب
ولما افتتح السلطان رحمه الله فاسا وصفا له أمرها عزم على النهوض إلى تطاوين فاستخلف على فاس وأعمالها ابن أخيه الفارس الأنجد السري الأسعد المولى عبد الرحمن بن هشام لعدالته وكفايته وحسن سياسته وأخذ معه المولى السعيد بن يزيد وخرج في جيش الودايا والعبيد وقبائل الحوز أوائل شعبان سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف فجعل طريقه على بلاد سفيان ولما وصل إلى الموضع المعروف بالحجر الواقف بين نهري سبو وورغة قدم عليه هنالك القائد أبو عبد الله محمد بن العامري اليحياوي في قومه بني حسن والقائد أبو عبد الله محمد المعتوجي السفياني وقاسم بن الخضر في قومهما سفيان وبني مالك وقدم عليه هنالك أولاد الشيخ أبي عبد الله سيدي العربي الدرقاوي صبية صغارا يشفعون في أبيهم ليسرحه لهم فوصلهم وكساهم وقال لهم والله ما سجنته ولا أمرت بسجنه ولكن اتركوه فسيسرحه الله الذي سجنه فكان الأمر كذلك فإنه بقي في السجن حتى توفي السلطان المولى سليمان وبويع المولى عبد الرحمن بن هشام فافتتح عمله بتسريحه ولما نزل السلطان رحمه بمشرع مسيعيدة من نهر سبو وفد عليه أهل تطاوين تائبين ومعهم قائدهم العربي بن يوسف المسلماني وكان الناس يظنون أنه ينكل به وبمن قام معه في الفتنة فلم يفل لهم إلا خيرا حتى لقد قال له ابن يوسف يا مولانا إن أهل تطاوين لم يفعلوا شيئا وإني أنا الذي فعلت يريد أن يبرئهم ويفديهم بنفسه فقال له السلطان رحمه الله ما عندك ما تفعل أنت ولا هم وإنما الفاعل هو الله تعالى وصفح عنهم وأحسن إليهم ولما صفا أمر تطاوين ولم يبق ببلاد الغرب منازع انقلب السلطان راجعا إلى الحوز وجد السير إلى مراكش فدخلها في رمضان من السنة المذكورة
____________________

وقعة زاوية الشرادي وما جرى فيها على السلطان المولى سليمان رحمه الله
هؤلاء الشراردة أصلهم من عرب معقل من الصحراء وهم طوائف زرارة والشبانات وهم الخلص منهم ويضاف لهم بعض أولاد دليم وتكنة وذوو بلال وغيرهم وكانت منازلهم في دولة السلطان الأعظم سيدي محمد بن عبد الله غربي مراكش على بعض يوم منها فنشأ فيهم الشيخ أبو العباس الشرادي من أهل الصلاح زمن أصحاب الشيخ سيدي أحمد بن ناصر الدرعي فاعتقدوه وربما ناله بعض الإحسان من السلطان المذكور ثم نشأ ابنه السيد أبي محمد بن أبي العباس فجرى مجرى أبيه وبنى الزاوية المنسوبة إليهم واعتقده قومه أيضا بل وغيرهم
فقد ذكر صاحب نشر المثاني أن السيد محمدا هذا لما قدم من الحج سنة سبع وسبعين ومائة وألف اجتاز بمدينة فاس فاجتمع عليه ناس منها وتلمذوا له وبنوا له زاوية بدرب الدرج من عدوة الأندلس وأثنى عليه وعلى أبيه فانظره ثم جاء ابنه المهدي بن محمد فسلك ذلك المسلك أيضا ونشأ في دولة السلطان المولى سليمان رحمه الله واتخذ شيئا من كتب العلم من غير أن يكون له فيه يد تعتبر ثم تظاهر بمعرفة السيميا والحدثان فازداد ناموسه وتمكن من جهلة قومه وربما نمى شيء من أمره إلى السلطان فتغافل عنه ثم لما قدم السلطان رحمه الله مراكش هذه المرة وجد أمره قد زاد واستفحل وكان الشراردة يومئذ قد حسنت حالهم فأثروا وكثروا وكان السلطان قد ولى عليهم رجلا منهم اسمه قاسم الشرادي فحدث بينه وبين المهدي ما يحدث بين المرابطين وأرباب الولاية وكان ربما التجأ جان إلى زاوية المهدي فيقبض عليه القائد ويخرجه منها فاستحكمت العداوة بين القائد وبين المهدي ثم جرى شنآن بين المهدي وبين بعض قرابته ففر ذلك القريب إلى مراكش وكان القائد قاسم بها فشكا إليه عمه المهدي فاغتنمها
____________________


القائد ودخل على السلطان فشرح له حال المهدي وما هو عليه من التهور والسمو بنفسه إلى المحل الذي لا يبلغه وأنه لا يستقيم أمر المخزن بتلك القبيلة معه ولم يزل به حتى أعطاه السلطان مائتين من الخيل أغار بها على الزاوية فانتهبوها على حين غفلة من أهلها وجلهم غائب في أعماله فتسامعوا بأن الخيل قد عاثت في ديارهم وجاؤوا على الصعب والذلول وأوقعوا بخيل المخزن واستلبوهم من خيلهم وسلاحهم وعادوا إلى مراكش راجلين فعظم ذلك على السلطان واغتاظ واتفق أن كان مع السلطان عامل مراكش أبو حفص عمر بن أبي ستة وعامل الرحامنة القائد قاسم الرحماني وكلاهما عدو للشراردة لا سيما الرحماني فشنعوا في ذلك بمحضر السلطان وأسدوا وألحموا في غزو الشراردة وتأديبهم حتى لا يعودوا لمثلها وفي أثناء ذلك ندم الشراردة على ما كان منهم وبعثوا إلى السلطان بالشفاعات وذبحوا عليه وعلى صلحاء مراكش فلم يقبل منهم ويقال إن ذلك لم يكن يبلغ السلطان لأن النقض والإبرام إنما كان لعمر بن أبي ستة وقاسم الرحماني وكان السلطان رحمه الله كالمغلوب على أمره معهما فلم يزالوا به حتى بعث إلى قبائل الحوز يستنفرهم لغزو الشراردة فاجتمعوا عليه وكان معه جيش الودايا وكبارهم مثل الطاهر بن مسعود الحساني والحاج محمد بن الطاهر وغيرهما ومعه القائد محمد بن العامري في بني حسن وغيرهم من قبائل الغرب
ولما أجمع السلطان الخروج إليهم قدم أمامه قاسما الرحماني إذ كان قد تكفل له بأن يكفيه أمر الشراردة وحده فكان متسرعا إليهم قبل كل أحد فرابط بعين دادة ثمانية عشر يوما والوسائط تتردد بين السلطان وبين الشراردة وكادت كلمتهم تختلف إذ قام فيهم رجل مرابط اسمه الحبيب من أولاد سيدي أحمد الزاوية وبعث نحو الأربعين من الشراردة إلى السلطان سعيا في الصلح فأشار الرحماني وابن أبي ستة فيما قيل على السلطان بالقبض
____________________


عليهم فقبض عليهم وحيزت خيلهم وسلاحهم فشرى الداء وأعوز الدواء ثم زحف السلطان وانتشبت الحرب أول النهار ولما اشتد الحر وكان الزمان زمان مصيف تحاجزوا ثم عاد قاسم الرحماني فأنشب الحرب مع العشي فكانت الدبرة عليه وقتل وحمل رأسه على رمح وانهزم جيش المخزن ووقع الفشل في المحلة فتفرقت القبائل وباتوا لا يلوون على شيء ولما طلع النهار لم يبق مع السلطان إلا جيش المخزن فزحف الشراردة إلى المحلة ورأوا السلطان قد بقي في قلة فطمعوا فيه وأنشبوا الحرب فانهزم الجيش الذين كانوا مع السلطان وتركوا المحلة بما فيها فتوزعتها الشراردة شذر مذر وانحاز السلطان في حاشيته وقصد مراكش فلقيتهم في طريقهم ساقية ماء حبستهم عن المرور وخالط الشراردة القوم الذين كانوا مع السلطان وجعلوا يستلبون من ظفروا به منهم وتراكم المنهزمة على السلطان ولجؤوا إليه وقتل الشراردة عمر بن أبي ستة خلف ظهره
ولما رأى السلطان رحمه الله ذلك نادى في الناس أن لا يقتل أحد نفسه على ولا على هذه الأسلاب أعطوهم منها ما شاؤوا واجتمع نحو العشرين من كبار الشراردة وتقدموا إلى السلطان فقالوا يا مولانا تحيز إلينا لئلا تصيبك العامة فانحاز إليهم وكان راكبا على بغلته فالتفوا عليه وساروا به إلى زاويتهم وأنزلوه بالدار المعروفة عندهم بدار الموسم واحترموه وغدوا وراحوا في خدمته وكان مع وصيفه فرجى صبيا صغيرا وهو الذي ولي إمارة فاس الجديد في دولة السلطان المولى عبد الرحمن بن هشام وكان معه أيضا عبد الخالق بن كريران الحريزي شابا كما بقل عذاره وبقي عندهم ثلاثة أيام وحضرت الجمعة فصلاها عندهم وخطبوا به ومن الغد ركبوا معه وصحبوه إلى مراكش إلى أن وصلوا إلى عين أبي عكاز فودعوه ورجعوا ومما قال لهم عند الوداع إن الذين أرادوا أن يفتحوا باب الفتنة على الناس قد سد الله أبوابها برؤوسهم يعني الرحامنة وبعد وصول السلطان إلى مراكش
____________________


بيوم أو نحوه عدا الرحامنة على محمد بن أبي ستة فقتلوه بسبب أن الشراردة كانوا قد أسروه ثم استحيوه واتخذوا عنده عهدا ويدا بأنه إذا أفضت إليه ولاية مراكش بعد أخيه عمر المقتول يحسن في إدارة أمرهم عند السلطان فسمع الرحامنة بذلك فقتلوه
قال صاحب الجيش لما عزم السلطان على الخروج إلى زاوية الشرادي بعثني قبل ذلك بثلاث إلى السوس في شأن ابن أخيه المولى بناصر بن عبد الرحمن وكان عاملا عليها فكثرت الشكايات به إلى السلطان فبعثني في شأنه فلما جئت تارودانت تربصت قليلا فلم يفجأنا إلا خبر الهزيمة على السلطان بالروايات المختلفة فقائل يقول إنه قد قتل وآخر يقول إنه قد مات حتف أنفه وآخر يقول لا بأس عليه ثم ورد علينا كتابان من عند السلطان أحدهما بخط الكاتب مطبوعا والآخر بخط يده تحقيقا لسلامته يقول فيه إن هذه الحركة ما وقعت إلا لهلاك الظلمة والملبسين علينا المظهرين للمحبة لنا وهم في الباطن أعدى الأعادي مثل قاسم الرحماني وفلان وفلان وأما أولاد أبي ستة فقد قتل زرارة عمر على رائحة الرحامنة وقتل الرحامنة محمدا على رائحة أهل السوس والشريف سيدي محمد بن عبد الجليل الوزاني أصابته رصاصة رعاية رحمه الله عليه والحاصل هان علينا كسر الخابية بموت الفار وقد أحسنت في التربص فاترك الأمر على طيته واصحب معك أشياخ السوس وعدهم منا بالإحسان ومساعدتهم على ما يطلبونه منا والسلام اه
ولما دخل السلطان مراكش راجع القوم الذين انهزموا عنه بصائرهم وأقبلوا إليه خاضعين تائبين وعلى أبوابه في العفو راغبين فما وسعه إلا الإعراض عن أفعالهم الذميمة وطاعتهم السقيمة ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم أمرهم بالتهيىء لغزو برابرة الغرب فتوجهوا إلى بلادهم ليأتوا بحصصهم إلى عيد المولد الكريم فانقضى أجله رحمه الله
____________________

وفاة أمير المؤمنين المولى سليمان بن محمد رحمه الله
كان أمير المؤمنين المولى سليمان رحمه الله في هذه المدة قد سئم الحياة ومل العيش وأراد أن يترك أمر الناس لابن أخيه المولى عبد الرحمن بن هشام ويتخلى هو لعبادة ربه إلى أن يأتيه اليقين قال ذلك غير مرة وتعددت فيه رسائله ومكاتيبه فمما كتبه في ذلك هذه الوصية التي يقول فيها الحمد لله لما رأيت ما وقع من الإلحاد في الدين واستيلاء الفسقة والجهلة على أمر المسلمين وقد قال عمر إن تابعناهم تابعناهم على ما لا نرضى وإلا وقع الخلاف وأولئك عدول وهؤلاء كلهم فساق وقال عمر فبايعنا أبا بكر فكان والله خير وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق أبي بكر يأبى الله ويدفع المسلمون ورشحه بتقديمه للصلاة إذ هي عماد الدين وقال أبو بكر للمسلمين بايعوا عمر وأخذ له البيعة في حياته فلزمت وصحت بعد موته وقال عمر هؤلاء الستة أفضل المسلمين وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم العبد صهيب وقال أبو عبيدة أمين هذه الأمة وقال ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر وقال في أبي بكر وعمر أكثر من هذا فصار المدح للتعريف واجبا ولإظهار حال الرجل لينتفع به فأقول جعله الله خالصا لوجهه الكريم ما أظن في أولاد مولانا الجد عبد الله ولا في أولاد سيدي محمد والدي رحمه الله ولا أولاد أولاده أفضل من مولاي عبد الرحمن بن هشام ولا أصلح لهذا الأمر منه لأنه إن شاء الله حفظه الله لا يشرب الخمر ويزني ولايكذب ولا يخون ولا يقدم على الدماء والأموال بلا موجب ولو ملك ملك المشرقين لأنها عبادة صهيبية ويصوم الفرض والنفل ويصلي الفرض والنفل وإنما أتيت به من الصويرة ليراه الناس ويعرفوه وأخرجته من تافيلالت لأظهره لهم لأن الدين النصيحة فإن اتبعه أهل الحق صلح أمرهم كما صلح سيدي محمد جده وأبوه حي ولا يحتاجون إلي أبدا ويغبطه أهل المغرب ويتبعونه إن شاء الله
____________________


وكان من اتبعه اتبع الهدى والنور ومن اتبع غيره اتبع الفتنة والضلال واحذر الناس أولاد يزيد كما حذر والدي وقد رأى من اتبعه أو اتبع أولاده كيف خاض الظلمة ونالته دعوة والده وخرج على الأمة وأما أنا فقد خفت قواي ووهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا حفظني الله في أولادي والمسلمين آمين نصيحة وصية سليمان بن محمد لطف الله به اه
وفي أثناء هذه المدة وقعت غدرة ذوي بلال في انتهابهم الصاكة الواردة من مرسى الصويرة وكان انتهابهم إياها باتفاق من الشياظمة الذين جاؤوا معها وقائدهم علي بن محمد الشيظمي هو الذي انتهب أكثرها وكان فيها من الذخائر النفيسة والأموال الثقيلة شيء كثير وهذه الوقعة هي التي هدت أركان السلطان المولى سليمان رحمه الله فاعتراه مرضه الذي كان سبب وفاته ولما أثقله المرض أعاد العهد للمولى عبد الرحمن بن هشام وبعث به إلى فاس إذ كان خليفة بها كما مر فدعا رحمه الله بصحيفة بيضاء ودعا بالطابع الكبير فجيء به ولم يحضره إلا أهله من النساء فطبع الصحيفة بيده وكتب بعض الكتاب وأكملته بعض حظاياه ممن كانت تحسن الكتابة ثم طواه وختم عليه ودعا القائد الجيلاني الرحماني الحويوي وكان قائد المشور وقال له ادع لي فارسين يذهبان بهذا الكتاب إلى فاس وقد عينت لهما سخرة كبيرة يقبضانها هناك إذا أسرعا السير فكان ذلك الكتاب هو العهد الذي قرىء بفاس ونصه الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم أخوالنا الودايا ورماة فاس وأعيانها ورؤساءها سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعلى ابن عمنا الفقيه القاضي مولاي أحمد والفقيهين ابن إبراهيم والآزمي وبعد فقد وجدت من نفسي ما ليس بتارك أحدا في الدنيا وهذه وصية أقدمها بين يدي أجلي والله ما بقي في قلبي مثقال ذرة على أحد من خلق الله لأن ذلك أمر قد قدره الله وسبق علمه به ولست فيه بأوحد وما وقع لمن قبلي أشنع وأقطع وإني قد عقدت
____________________


بين أخوالي وأهل فاس أخوة بحول الله لا تنفصم يرثها الأبناء عن الآباء وأوصي الجميع بما أوصى الله به الأولين { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا } النساء 131 { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله } الحشر 7 وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ولن تزال هذه الأمة بخير ما أخذوا بكتاب الله وقد عهدت لابن أخي مولاي عبد الرحمن بن هشام ورجوت الله أن يكون لي في هذا الأمر مثل ما لسليمان بن عبد الملك في عهده لعمر بن عبد العزيز { إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم } يس 12 من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة وقد انعقد الإجماع على عقد البيعة بالعهد والقاضي والفقيهان يبينون لكم هذا { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } النساء 59 وإني أشهد الله أني مقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الرحمن بن هشام وببيعته ألقاه وقد أديت لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما علي من النصيحة وأرجوا الله أن يثيبني بهذه النية الصحيحة وهو المطلع على ما في الضمائر والعالم بالسرائر والسلام وفي رابع ربيع النبوي عام ثمانية وثلاثين ومائتين وألف اه
ثم تمادى بالسلطان رحمه الله مرضه إلى أن توفي ثالث عشر ربيع الأول وهو الثاني من عيد المولد الكريم من السنة المذكورة ومات رحمه الله ثابت الذهن صحيح الميز على غاية من اليقين والفرح بلقاء ربه ودفن بضريح جده المولى علي الشريف بباب آيلان من مراكش وقد رثاه جماعة من أدباء العصر من ذلك قول الفقيه الأديب الكاتب البليغ أبي عبد الله محمد بن إدريس الفاسي
( نبأ عرى أوهى عرى الإيمان ** وأبان حسن الصبر عن إمكان )
( شقت لموقعه القلوب وزلزلت ** أرض النفوس ورج كل مكان )
____________________


( فقد الإمام أبي الربيع المرتضى ** جزعت لعظم مصابه الثقلان )
( وبكت عيون الدين ماء جفونها ** وجدا عليه وكل ذي إيمان )
( لم نعى الناعون خير خليفة ** وعرا الفؤاد طوارق الأحزان )
( مزقت ثوب تجلدي من فقده ** ونثرت در الدمع من أجفاني )
( عجبا لموت غاله إذ لم يخف ** فتك الملوك وسطوة السلطان )
( وسما لمنصبه المنيف ولم يهب ** غضب الجنود وغيرة الأعوان )
( لو كان ينفع خاض فرسان الوغا ** حرصا عليه مواقد النيران )
( وحموه بالنفس النفيسة إنما ** يحمون روح العدل والإحسان )
( لكن قضاء الله حم فلا يرى ** للمرء في دفع القضاء يدان )
( والموت مورد كل حي كأسه ** وسوى المهيمن في الحقيقة فان )
( إن غاب عنا شخصه فلقد ثوى ** فينا الثناء له بكل لسان )
( ومناقب ومفاخر ومآثر ** شاعت له في سائر الأوطان )
( ومعارف وعوارف ووسائل ** ومسائل قد أوضحت ومعاني )
( وبدور أولاد وآل قد قفوا ** آثاره في العلم والعرفان )
( تخذوا الديانة والصيانة شرعة ** وتقلدوا بصوارم الإيقان )
( أخلاقهم ووجوههم وأكفهم ** كالزهر والأزهار والأمزان )
( إن حاربوا أبدوا شجاعة جدهم ** أو خاطبوا أزروا على سحبان )
( من كل من جعل القرآن سميره ** وسما بوصف العلم والتبيان ) )
( كم آية ظهرت له وكرامة ** دامت دلائلها مدى الأزمان )
( قد كان أوحد دهره ولذاته ** في العدل والتمكين والإحسان )
( قد كان عالم عصره وفريده ** في الفهم والتحقيق والإتقان )
( قد كان فردا في البلاغة إن جرت ** أقلامه بهرت بسحر بيان )
( من للعلى من بعده من للنهي ** من للتقى وتلاوة القرآن )
( يا رمسه ما ذا حويت من العلى ** وطويت من علم ومن عرفان )
____________________


( يا رمس كم واريت من كرم ومن ** جود ومن فضل ومن إحسان )
( يا رمس كم حجبت عنا شمسه ** وضياؤها في سائر البلدان )
( ووسعت بحر علومه وسخائه ** فطمى بضيق بطنك البحران )
( فلو استطعت جعلت قلبي قبره ** حبا وأحشائي من الأكفان )
( ولو أن عمري في يدي لوهبته ** وفديته بالأهل والإخوان )
( لكن يخفف بعض أثقال الأسى ** علمي به في جنة الرضوان )
( فسقى ثراه من المواهب ديمة ** وهمت عليه سحائب الغفران )
( ورد الرسول بموت خير خليفة ** وولاية العهد الرفيع الشأن )
( فجزعت من حزن لما قد نابني ** وطربت من فرح بما أولاني )
( ما مات من ترك الخليفة بعده ** مثل المؤيد عابد الرحمن )
( ملك تسربل بالتقى حتى ارتقى ** من نهجه الأتقى على كيوان )
( يا واحدا في الفضل غير مشارك ** أقسمت ما لك في البرية ثان )
( لله بيعتك التي قد أشبهت ** فيما تواتر بيعة الرضوان )
( قد أحكمتها يد الشريعة والتقى ** بعرى النصوص وواضح البرهان )
( سعد الذي أضحى بها متمسكا ** وهوى العنيد بهوة الخسران )
( وجرى على التيسير أمرك فاستوى ** ملك الورى لك في أقل زمان )
( وأتت لنصرتك المغارب كلها ** فبعيدها لك في الحقيقة داني )
( عقدوا على النصح القلوب وإنما ** عقدوا بنصرك رايه الإيمان )
( لو شئت من أهل المشارق طاعة ** لأتوك من يمن ومن بغدان )
( هابتك أصناف الطغاة بزعمهم ** لما وثقت بنصرة الرحمن )
( وبسطت عدلك في الورى فكأنما ** قد عاش في أيامك العمران )
( يا أهل بيت المصطفى أوصافكم ** جلت عن الإحصاء والحسبان )
( طاب المديح مع الرثاء بذكركم ** فنظمته كقلائد العقيان )
____________________

بقية أخبار السلطان المولى سليمان رحمه الله ومآثره وسيرته
لما بويع أمير المؤمنين المولى سليمان رحمه الله رد الفروع إلى أصولها وأجرى الخلافة على قوانينها بإقامة العدل والرفق بالرعية والضعفاء والمساكين ومن وفور عقله وعدله إسقاط المكوس التي كانت موظفة على حواضر المغرب في الأبواب والأسواق وعلى السلع والغلل وعلى الجلد وعشبة الدخان فقد كان يقبض في ذلك أيام والده رحمه الله خمسمائة ألف مثقال معلومة مثبتة في الدفاتر مبيعة في ذمم عمال البلدان وقواد القبائل كل مدينة وما عليها ومن ذلك المكس كان صائر العسكر في الكسوة والسروج والسلاح والعدة والإقامة والخياطة والتنافيذ لوفود القبائل والعفاة والمؤنة للعسكر ولدور السلطان وسائر تعلقاته فكان ذلك المكس كافيا لصوائر الدولة كلها ولا يدخل بيت المال إلا مال المراسي وأعشار القبائل وزكواتهم وكان مستفاد هذا المكس يعادل مال المراسي وأعشار القبائل فزهد فيه هذا السلطان العادل فعوضه الله أكثر منه من الحلال المحض الذي هو الزكوات والأعشار من القبائل وزكوات أموال التجار والعشر المأخوذ من تجار النصارى وأهل الذمة بالمراسي وأما المسلمون فقد منعهم من التجارة بأرض العدو لئلا يؤدي ذلك إلى تعشير ما بأيديهم أو المشاجرة مع الأجناس هكذا بلغنا والله أعلم
وكانت القبائل في دولته قد تمولت ونمت مواشيها وكثرت الخيرات لديها من عدله وحسن سيرته فصارت القبيلة التي كانت تعطي عشرة آلاف مثقال مضاربة أيام والده يستخرج منها على النصاب الشرعي عشرون وثلاثون ألف مثقال وذلك من توفيق الله له وتمسكه بالعدل والحلم والجود والحياء وجميل الصبر وحسن السياسة والتأني في الأمور واجتنابه لما هو بضد ذلك
فأما الحلم فهو دأبه وطبعه وقد اتفق أهل عصره على أنه كان أحلم الناس في زمانه وأملك لنفسه عند الغضب من أن يقع في الخطأ ومذهبه
____________________


درء الحدود بالشبهات والتماس التأويل وقبول العذر حتى لقد حكى عنه أنه ما اعتمد البطش بأحد وتصدى لنكبته لغرض نفساني أو لحظ دنيوي وحسبك من حلمه ما قابل به الخارجين عليه
قال صاحب الجيش لما عزمت على الخروج من فاس أيام الفتنة لملاقاة السلطان المولى سليمان بقصر كتامة جئت إلى القاضي أبي الفضل عباس بن أحمد التاودي لأودعه فكان من جملة ما أوصاني به قال قل لمولانا السلطان يقول لك عباس إنا نخاف إذا ظفرت بهؤلاء الظلمة أن تصفح عنهم فلما اجتمعت بالسلطان أبلغته مقالة القاضي فقال كيف أصفح عنهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي عزيز لا أتركك تمسح سبلتك بمكة وتقول خدعت محمدا مرتين فلما فتح الله عليه فاسا كان جوابه أن قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين بل تعجل بالخروج منها مخافة أن يغريه بعض بطانته بأحد منهم فلعمري لقد صدق من قال إن التخلق يأتي دونه الخلق
وأما الدين والتقوى فذلك شعاره الذي يمتاز به ومذهبه الذي يدين الله به من أداء الفريضة لوقتها المختار حضرا وسفرا وقيام رمضان وإحياء لياليه بالإشفاع ينتقي لذلك الأساتيذ ومشايخ القراء ويجمع أعيان العلماء لسرد الحديث الشريف وتفهمه والمذاكرة فيه على مر الليالي والأيام ويتأكد ذلك عنده في رمضان ويشاركهم بغزارة علمه وحسن ملكته ويتناول راية السبق في فهم المسائل التي يعجز عنها غيره فيصيب المفصل ويواظب على صيام الأيام المستحبة من كل شهر ويعظم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء ويرفع مناصبهم على سائر رجال دولته ويجري عليهم الأرزاق ويعطيهم الدور المعتبرة والضياع المغلة ويحسن مع ذلك إلى من دونهم في المرتبة من المدرسين وطلبة العلم ويؤثر المعتنين منهم وذوي الفهم بمزيد البروتضعيف الجراية حتى لقد تنافس الناس في أيامه في اقتناء العلوم وانتحال صناعتها لاعتزاز العلم وأهله في دولته وسعة أرزاقهم
____________________


وأما صبره عند الشدائد واحتمال العظائم وتجلده عند حلول الخطب ونزول المقدور فحدث عن البحر ولا حرج وعن الجبل سكونا ورسوخ قدم
قال صاحب البستان ولو حدثنا بما شاهدناه منه لكان عجبا وأما العدل فإنه ما رئي في ملوك عصره أعدل منه ومن عجيب سيرته أنه كان يلزم العمال رد ما يقبضونه من الرعايا على وجه الظلم من غير إقامة بينة عليهم على ما جرى به عمل الفقهاء من قلب الحكم في الدعوى على الظلمة وأهل الجور حسبما ذكره الوانشريسي وغيره ومن عدله واقتصاده ما حكاه لنا الفقيه أبو العباس أحمد بن المكي الزواوي المؤقت بالمسجد الأعظم من سلا قال مر السلطان المولى سليمان بسلا سنة ست وثلاثين ومائتين وألف فنزل برأس الماء واستدعاني للقيام بوظيفة التوقيت عنده قال فدخلت عليه فإذا هو رجل طويل أبيض جميل الصورة ففاوضني في مسائل من التوقيت وكان يحسنه فأجبته عنها فأعجبه ذلك ثم وصلني بضبلونين وأخرج مجانته من جيبه ليحققها فرأيت مجدولها من صوف ثم حضرت صلاة العصر فتقدم وصلى بنا فرأيت سراويله مرقعة وكان إمام صلاته الراتب هو الفقيه السيد الحاج العربي الساحلي لكنه صلى بنا تلك الصلاة ولما فرغنا من الصلاة وانقلبنا إلى منازلنا جيء بالطعام وهو قصيعة من الكسكس عليها شيء من اللحم والخضرة وليس معها غيرها قال وكانت عادة المولى سليمان في السفر أن لا يتخذ كشينة أي مطبخا إنما هو طعام يسير يصنع له ولبعض الخواص مما يكفي من غير إسراف حتى أن الكتاب كانوا يقبضون ست موزونات ويعولون أنفسهم وكانت أقواتهم وأزوادهم خفيفة اه
وأما سياسته الخاصة في جبر القلوب واستئلاف الشارد وتسكين المرتاب وإرضاء الولي ومجاداة العدو والدفاع بالتي هي أحسن عند اشتباه الأمور ومعاناة الرجال بوجوده المكائد والحيل في الأمور التي لا ينفع فيها حرب ولا قوة فشيء لا يبلغ فيه شأوه ولا يشق غباره
وأما عادته في الحرب فقد أخذ فيها بسيرة العجم بحيث لا يباشر
____________________


الحروب بنفسه ويعمل بعمل أهل الصدر الأول فيقف في قلب الجيش كالجبل الراسي وأمراؤه يباشرون الحروف بأنفسهم في الميمنة والميسرة وهو ردء لهم كلما رأى فرجة سدها أو خللا أصلحه وهو كالصقر مطل على حومة الوغا فإذا أمكنته فرصة أنتهزها ومن شدة ثباته وعدم تزحزحه أنه كان لا يركب وقت الحرب إلا البغلة وبذلك جرى عليه في وقعة ظيان والشراردة ما جرى فكان حماته يفرون عنه بلا حياء ويبقى هو ثابتا رحمه الله
وأما جمعه لأشتات العلوم فلقد كان وارثا من ورثة الأنبياء حاملا للواء الشريعة جامعا مانعا إذا بوحث في الأخبار كان كجامع سفيان أو في الأشعار فكنابغة ذبيان أو في الفطنة والفراسة فكإياس أو في النجدة والرأي فكالمهلب وإذا خاض في السنة والكتاب أبدى ملكة مالك وابن شهاب ولو تصدى في الفقه للفتيا والتدريس لم يشك سامعه أنه ابن القاسم أو ابن إدريس وإذا تكلم في علوم القرآن أنهل بما يغمر مورد الظمآن
قال صاحب البستان ولا يعرف مقدار هذا السلطان إلا من تغرب عن الأوطان وحمل عصا التسيار ورمت به في الأقطار الأسفار وشاهد سيرة الملوك في العباد وما عمت به البلوى في سائر البلاد ولا يتحقق أهل المغرب بعدله إلا بعد مغيبه وفقده
( المرء ما دام حيا يستهان به ** ويعظم الرزء في حين يفتقد )
ومن آثاره الباقية وبناءاته العادية فبفاس المسجد الأعظم بالرصيف الذي لا نظير له كان حفر أساسه المولى يزيد واشتغل عنه وتركه فافتتح هو عمله ببنائه وتشييده وأبقاه دينا على الملوك وبنى مسجد الديوان كان صغيرا فهدمه وزاد فيه أملاكا وجعله مسجدا جامعا تقام فيه الجمعة وبنى مسجد الشرابليين زاد فيه ووسعه وجعله مسجدا جامعا كذلك وبنى مسجد الشيخ أبي الحسن بن غالب وضريحه وبنى ضريح الشيخ أبي محمد عبد الوهاب التازي وهدم مدرسة الوادي ومسجدها لتلاشيهما وجددهما على شكل آخر وجدد المدرسة العنانية وأصلح مسجد القصبة البالية وبيضه بالجص وزلجه وبنى باب الفتوح على هيئة ضخمة وباب بني مسافر والباب الجديد
____________________


على براح أبي الجلود وبنى القنطرة على الوادي بينهما وجدد قنطرة الرصيف مرتين وأصلح قنطرة وادي سبو وأصلح طرقات فاس الجديد كلها من داخل وخارج ورصفها بالحجارة وأصلح أبواب فاس الجديد كلها ورمم ما تلثم منها وجدد قصور الملك الخربة بها وزاد غيرها وأمر بتبييض مساجد الخطب وتبليط أرضها وبنى مسجد صفرو وجدد أسواره وبنى لأهله حماما به وبنى مسجد المنزل ببني يازغة وبنى مسجد وجدة وحماما بها وأصلح قلعتها ودار إمارتها وبنى مسجد وازان ومسجد تطاوين وأخرج أهل الذمة من جواره وبنى لهم حارة بطريق المدينة وبنى الصقائل والأبراج بطنجة وجدد مسجد آصيلا وأسوارها وجدد قصور الملك بمكناسة بعد تلاشيها وأصلح القناطر التي بين فاس ومكناسة وبنى قنطرة على وادي سيدي حرازم بخولان وبنى مسجد الجزارين بسلا ووقف عليه أوقافا تقوم بمصلحته وأخرج يهودها من وسط البلد من حومة باب حسين وبنى لهم حارة على حدتها غربي البلد وبنى المسجد الأعظم بحومة السويقة من رباط الفتح وبنى دار البحر لنزوله وبنى قنطرة وادي حصار بتامسنا وبنى مسجد أبي الجعد بتادلا وبنى قنطرة وادي أم الربيع وقنطرة تانسيفت بمراكش بعد سقوطها وبنى المسجد الأعظم الذي كان أسسه على بن يوسف اللمتوني بمراكش وبناه بناء ضخما وأزال منارته التي كانت به قديما وشيد منارة أخرى بديعة الحسن رائقة الصنعة وأكمل مسجد الرحبة الذي كان أسسه والده رحمه الله ومات قبل تمامه وجدد قصور والده بمراكش وأصلحها وصان القصبة وعمرها ثم ختم رحمه الله ديوانه بالحسنة العظيمة والمنقبة الفخيمة وهي عهده بالخلافة لابن أخيه المولى عبد الرحمن بن هشام على كثرة أولاده ووجود بعض إخوته ولعمري أن هذا العهد لمنقبة جليلة للعاهد والمعهود إليه أما العاهد فإنا لم نسمع بعد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأحد من خلفاء الأسلام وملوكه عدل بولاية العهد عن ولده المستحق لها إلى غيره حتى كان هذا الإمام الجليل الذي أحيا سيرة العمرين نعم قد عهد سليمان بن عبد الملك لابن عمه عمر بن عبد العزيز
____________________


رحمهما الله لكن حكى ابن الأثير أن سليمان لما حضرته الوفاة عزم أن يعهد لابن له صغير فوعظه رجاء بن حيوة فرجع عن ذلك وشاوره في ابنه داود وكان غازيا بالقسطنطينية فقال له رجاء لا تدري أحي هو أم ميت فحينئذ رجع إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأما المعهود إليه فإن في العهد إليه دون الأبناء والإخوة شاهدا عدلا على كمال فضله وإحرازه لخلال الخير وتبريزه فيها على من عداه من بني أبيه وعشيرته ولعمري أن ذلك لكذلك فإن المولى عبد الرحمن بن هشام رحمه الله قد اشتهرت ديانته وأمانته عند القاصي والدان حتى صار لا يختلف في عدالته اثنان
تم الجزء الثامن ويليه الجزء التاسع وأوله الخبر عن دولة أمير المؤمنين المولى عبد الرحمن بن هشام
____________________

بسم الله الرحمن الرحيم الدولة العلوية القسم الثالث الخبر عن دولة أمير المؤمنين المولى عبد الرحمن بن هشام وأوليته ونشأته
كان المولى عبد الرحمن بن هشام رحمه الله منذ نشأ وهو متمسك بالتقوى والعفاف متصف بالصيانة وجميل الأوصاف من الانقباض عن الخلق وملازمة العبادة والصوم وقيام الليل وترك ما لا يعني والجد في الأمور كلها حتى عرفت له هذه الشنشنة وتطابقت على حبه ومدحه القلوب والألسنة ولما نشأ هذه النشأة الطيبة أقبل عليه عمه السلطان المولى سليمان رحمه الله وضمه إليه واعتنى بشأنه ورفع منزلته حتى علا أولاده ولما بعث أولاده إلى الحرمين الشريفين بقصد أداء فريضة الحج بعثه في جملتهم فظهر له في تلك السفرة من الورع والدين والتمسك بأسباب اليقين ما رفع قدره وأشاع بالصلاح ذكره وكان السلطان رحمه الله قد أعطاه بضاعة ينفقها في سفرته تلك ويستعين بها على حجه فلما آب من سفره أتى بالبضاعة إلى عمه وقال له يا سيدي هذه البضاعة التي أعطيتني إنما أخذتها لأنفق منها إذا نفذ ما عندي وكانت معي بضاعة جمعتها بقصد إنفاقها في هذه الوجهة ولم أرد أن أخلطها بغيرها وقد حصلت الكفاية بها والحمد لله فعجب عمه من شأنه وازداد محبة وغبطة فيه ورد له البضاعة وطيبها له ودعا له بخير وكان في أول أمره مقيما بتافيلالت ثم استقدمه السلطان المولى سليمان في آخر عمره وولاه بثغر الصويرة وأعمالها
____________________


فقام بذلك أحسن قيام ثم استقدمه منها في فتنة ابني يزيد كما مر واستخلفه على حاضرة المغرب وأم أمصاره مدينة فاس فقرت بولايته العيون وطابت الأنفاس كل ذلك فعله به ترشيحا للأمر وتقديما له فيه على زيد وعمرو بيعة أمير المؤمنين المولى عبد الرحمن بن هشام رحمه الله
قد تقدم لنا أن السلطان المولى سليمان لما حضرته الوفاة جدد العهد لابن أخيه المولى عبد الرحمن بن هشام وبعث به إلى فاس ثم كانت وفاة السلطان عقب ذلك فوصل خبر وفاته إلى فاس في السادس والعشرين من ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف فحضر القاضي الشريف المولى أحمد بن عبد الملك والعلامة المفتي أبو عبد الله محمد بن إبراهيم والتاجر الأمير الحاج الطالب ابن جلون وسائر أعيان فاس من العلماء والأشراف وغيرهم وحضر أعيان الودايا وقوادهم ولما قرىء العهد ترحموا على السلطان المولى سليمان وبايعوا للسلطان المولى عبد الرحمن وسلموا عليه بالخلافة وتم أمره وسر الناس بذلك خاصة وعامة ثم ترادفت على حضرته بيعة أهل الديوان وسائر الجنود وحل من الملك العزيز في فلك السعود وكتبت البشائر بذلك إلى البلدان فوفدت بيعات أهل الأمصار وهداياهم ولم يتوقف عن هذه البيعة الشرعية أحد منهم واستبشر أهل المغرب بولايته وبان لهم مصداق يمنه وسعادته بتوالي الأمطار ورخص الأسعار والعافية آناء الليل وأطراف النهار ولما تمت هذه البيعة المباركة وحصل ما ذكرنا من الأمن والعافية وحسن الحال والرفاهية استوزر السلطان رحمه الله الفقيه العلامة الأديب أبا عبد الله محمد بن إدريس الفاسي فقال
( مولاي بشراك بالتأييد بشراكا ** قد أكمل الله بالتوفيق سراكا )
( الفتح والنصر قد وافاك جيشهما ** والسعد واليمن قد حيا محياكا )
( الله ألبسك الإقبال تكرمة ** وبالتقى والنهى والعلم حلاكا )
( فراسة الملك المرحوم قد صدقت ** لما تفرس فيك حين ولاكا )
____________________


( أعدت للدين والدنيا جمالهما ** فأصبحا في حلى من حسن مغناكا )
( وزادك الغيث غوثا في سحائبه ** فجاد بالقطر قطرا فيه مأواكا )
ثم وردت على السلطان تهنئة عالم إفريقية ومفتيها وأديبها الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن عبد القادر الرياحي بقصيدة يقول فيها
( نصر من الرحمن جل لعبده ** أيروم خلق نقض مبرم عقده )
( وعدت به الأقدار وهي نوافذ ** لا تحسبن الله مخلف وعده )
( والله أعلم حيث يجعل نصره ** في الشاكرين له سوابغ رفده )
( فلتبسم ثغر الهنا مستبشرا ** فالوقت ينطق عن سعادة جده )
( أن يمض مولانا سليمان الرضا ** وعليه تبكي الباكيات لفقده )
( العلم والتقوى وكل فضيلة ** منشورة طويت به في لحده )
( فلقد أقام لنا أبا زيد هدى ** نورا مبينا يستضاء برشده )
( لو لم يكن كفئا لما أوصى به ** وبنوه ترفل في ملابس مجده )
( سعدت به الأيام ثم أراد أن ** تبقى السعادة للورى من بعده )
( أعظم به نصرا يدوم سروره ** للخافقين سرى تضوع رنده )
( أهدى إلى الأعداء أقتل غصة ** والأوليا متنعمون بشهده )
( فاستبشروا باليمن من مرضاته ** واستمطروا نيل المنى من وده )
( ما هو إلا ابن الرسول وهل فتى ** في الناس يعدل عن مكارم جده )
( وتناسقت أسلافه كرما كما ** راق النواظر لؤلؤ في عقده )
( لا غرو أن جمع المحاسن كلها ** منهم فإرث الجمع حق لفرده )
( لا يأفك الخراص حيث يقول قد ** ذهب الزمان بعمره وبزيده )
( فبسيف ما ننسخ يقد أديمه ** حتى ولو وفى العيان برده )
( فلكم وكم من آخر زمنا له ** فضل عظيم لا يحاط بسرده )
( يا أهل فاس والمغارب كلها ** والشرق من مصر لغاية حده )
( يهنيكم هذا الزمان فإن في ** أيامه للدين مطلع سعده )
( والعلم والتقوى وكل معظم ** عند الشريعة فهو بالغ قصده )
( النور أوقد منهم أتراهم ** يرضون إلا باستدامة وقده )
____________________


( الله يبقي نوره متوقدا ** يفنى الزمان ولا فناء لخلده )
( ويخص مولانا الأمير بنعمة ** لا تنقضي وعناية من عنده )
( ويديمه ظلا وريفا كلما ** حمى الورى هرعوا لجنة برده )
( وحسام فتح كلما نهضت به ** عزماته فالنصر شاحذ حده )
( وتمام بدر كلما اقتعد السرى ** لم يسر إلا في منازل سعده )
( وعليه تسليم تأرج نده ** لكنه في الفضل عادم نده )
( ثم الصلاة على النبي وآله ** والحمد في بدء الكلام وعوده ) اجتماع البربر على بيعة السلطان المولى عبد الرحمن بن هشام والسبب في ذلك
قد تقدم لنا أن البربر بعد وقعة ظيان اتفقوا على مناوأة السلطان ومنابذته وأنهم صاروا يدا واحدة عليه وعلى كل من يتكلم بالعربية بالمغرب فلما توفي السلطان المولى سليمان وبويع السلطان المولى عبد الرحمن زاد البربر ذلك الحلف توكيدا وشدة وأعدوا لعصيانهم واعوجاجهم أكمل عدة لا سيما رئيسهم الحاج محمد بن الغازي الزموري فإنه لما فعل فعلته في وقعة ظيان من جرة الهزيمة على المولى سليمان ثم عززها بأختها من بيعته للمولى إبراهيم بن يزيد والإجلاب فيها بالقريب والبعيد خاف أن يأخذه بذلك من يأتي بعده من بني أبيه وعشيرته فجد في صرف وجوه البربر عن السلطان واستعان في ذلك بأبي بكر مهاوش فروض له رؤساء البربر حتى اجتمعت كلمتهم على أن لا يتركوا بأرض المغرب ذكرا للسلطان وحزبه وربما شايعهم على ذلك بعض غواة العرب مثل الصفافعة والتوازيط من بني حسن وزعير وجل عرب تادلا فلما أراد الله سبحانه نقض ما أبرموا ونثر ما جمعوا من ذلك ونظموا جعل لذلك سببا وهو أن الشيخ أبا عبد الله الدرقاوي كان مسجونا عند الودايا كما تقدم في أخبار فتنة ابني يزيد واستمر في السجن
____________________


إلى أن بويع المولى عبد الرحمن وكان ابن الغازي من أصحاب الشيخ المذكور وممن له فيه اعتقاد كبير فوفد عليه أولاد الشيخ ونزلوا عليه لكي يسعى في تسريح والدهم وألحوا عليه فلم يجد بدا من إظهار الطاعة للسلطان والدخول في الجماعة فوفد على السلطان في جمع من وجوه قومه بهديتهم وبيعتهم فلما رأى باقي البربر الذين حالفوه من آيت أدراسن وجروان أنه قدم على السلطان ظهر لهم خيانته فنبذوا ذلك العهد وسارعوا إلى بيعة السلطان وخدمته بأموالهم وأنفسهم فقدم عليه الحسن بن حمو واعزيز كبير آيت أدراسن في وجوه قومه وأدى الطاعة ودخل في حزب الجماعة وعليه وعلى ابن الغازي كان يدور أمر البربر في ذلك الوقت فخذل الله فيما بينهم وجمع كلمتهم على السلطان من غير ضرب ولا طعن ولا إيجاف بخيل ولا رجل فقابلهم السلطان بغاية الإحسان لا سيما ابن الغازي فإنه إستخلصه وجعله عمدة رأيه وعيبة سيره حتى كان لا يقطع أمرا دونه بعد أن سرح له الشيخ أبا عبد الله الدرقاوي رحمه الله
ثم إن السلطان زوج ابن الغازي بإحدى حظايا عمه السلطان المرحوم وهي ابنة القائد عمر بن أبي ستة فعلا قدر ابن الغازي في الدولة بذلك واطمأن إلى السلطان بعد أن كان يسايره على أوفاز وذهب معه إلى مراكش مرتين حسبما نذكره بعد إن شاء الله نهوض السلطان المولى عبد الرحمن لتفقد أحوال الرعية ووصوله إلى رباط الفتح
لما فرغ السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله من أمر الوفود والتهاني بحضرة فاس التفت إلى النظر في أحوال الرعية وتثقيف أطراف المملكة فولى على فاس وصيفه أبا جمعة بن سالم الذي كان بوابا على الدار الكبرى بفاس الجديد ثم لما عزم على السفر عزله وولى مكانه ابن عمه سيدي
____________________


محمد بن الطيب ثم نهض من فاس الجديد بقصد تفقد الممالك فجعل طريقه على بلاد سفيان وسار حتى وصل إلى قصر كتامة وعسكر هنالك بالكدية الإسماعيلية وبها وفد عليه المولى عبد السلام ابن السلطان المولى سليمان رحمه الله في جماعة من الأشراف والكتاب فيهم أبو عبد الله أكنسوس وكان المولى عبد السلام المذكور قد قدم من تافيلالت إلى مراكش عقب وفاة والده بقصد أخذ البيعة على أهل مراكش لأخيه المولى عبد الواحد بن سليمان وكان قد بويع بتافيلالت وأعطوه صفقة أيمانهم فلما صادف المولى عبد السلام الأمر قد تم للسلطان المولى عبد الرحمن واجتمعت كلمة أهل المغرب عليه سقط في يده فأعرض عما جاء لأجله وتدارك أمره عند السلطان بالوفادة عليه والدخول في بيعته
قال أكنسوس لما قدمنا على السلطان المولى عبد الرحمن من مراكش إلى قصر كتامة أمر بإدخالي عليه لشدة تشوفه إلى أخبار السلطان المرحوم المولى سليمان فدخلت عليه وجلست بين يديه نحو ساعتين وسألني عن كل شاذة وفاذة قال ثم دخلت عليه بعد صلاة المغرب وسألني عن بقية الأخبار ثم ذكر أولاد عمه السلطان المرحوم وقال والله لا يرون مني إلا الخير ثم بعد يومين أو ثلاثة نهض إلى رباط الفتح فاستقر بها ثم وفدت عليه قبائل الحوز ورؤساؤها فعيد هنالك عيد الفطر من سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف ثم رجع إلى فاس ومعه أعيان قبائل الحوز الذين وفدوا عليه ولما احتل بفاس قدم عليه عمه المولى موسى بن محمد مع جماعة من أهل مراكش وفيهم المولى عبد الواحد بن سليمان المبايع بسجلماسة فأكرمهم وأجلهم ولم يلم أحدا من شيعة المولى عبد الواحد ولكن عفا وصفح وقابل بالإحسان ثم ولى على مراكش ابن عمه المولى مبارك بن علي بن محمد وبعثه في صحبتهم فقدمها وتصرف في أمرها إلى أن كان منه ما نذكره ثم أمر السلطان رحمه الله بشراء دار أبي محمد عبد السلام شقشاق الفاسي وكانت مجاورة لقبة المولى إدريس رضي الله عنه بينها وبين القيسارية ثم
____________________


أمر بهدمها وزيادتها في مسجد المولى إدريس رضي الله عنه وجمع الصناع والعملة على ذلك فتأنقوا فيه ما شاؤوا حتى جاء أحسن من المسجد القديم وكان الذي تولى القيام على ذلك الشريف المولى الهاشمي بن ملوك البلغيني فكمل ذلك في مدة يسيرة على غاية من الإبداع والإتقان وكتب الله أجر ذلك في صحيفة السلطان وفي هذه المدة توفي الشيخ الأكبر العارف الأشهر أبو عبد الله سيدي محمد العربي بن أحمد الدرقاوي رضي الله عنه وكانت وفاته ليلة الثلاثاء الثالث والعشرين من صفر سنة تسع وثلاثين ومائتين وألف ودفن يوم الثلاثاء بأبي بريح من بلاد غمارة وقبره شهير وكان رضي الله عنه عجيب الحال كبير الشأن ورسائله موجودة في أيدي الناس وله فيها نفس مبارك نفعنا الله به وبأمثاله خروج السلطان المولى عبد الرحمن إلى مكناسة ونقله آيت يمور إلى الحوز ومسيره إلى مراكش
لما سافر السلطان المولى عبد الرحمن السفرة الأولى إلى رباط الفتح كان قصده أن ينظر في أحوال الرعايا وما هي عليه حتى يكون على بصيرة فيما يأتي ويذر من أمرها ثم لما عاد إلى فاس استعد الاستعداد التام بقصد تدويخ المغرب وتمهيد أقطاره ولم شعثه وتدارك رمقه إذ كانت الفتنة أيام الفترة قد أحالت حاله وكسفت باله وكان المولى مبارك بن علي صاحب مراكش قد استولت عليه بطانة السوء وكثرت به الشكايات إلى السلطان فعزم السلطان رحمه الله على إعمال السفر إلى مراكش فخرج من فاس وقصد أولا مكناسة فلما دنا منها خرج العبيد إلى لقائه بالأعلام مرفوعة على العصي وكانوا جماعة يسيرة فقال لهم السلطان رحمه الله أين جند عبيد البخاري فقالوا هذه البركة التي أشأرتها الفتنة وعلى الله ثم عليك الخلف فدخل السلطان رحمه الله مكناسة وتفقد بيت مالها فألقاه أنقى من الراحة ووجد العبيد على غاية من القلة والخصاصة حتى لقد باعوا الخيل والسلاح وأكلوا
____________________


أثمانها فأنعشهم وجدد رسمهم وقواهم بالخيل والسلاح والجرايات حتى صلح أمرهم وذهب فقرهم
قال صاحب الجيش وحاصل الأمر أن هذا السلطان رحمه الله وجد الدولة قد ترادفت عليها الهزاهز وصارت بعد حسن الشبيبة إلى قبح العجائز قد تفانت رجالها وضاق مجالها وذلك من وقعة ظيان إلى موت السلطان المولى سليمان فلما جاء الله بهذا السلطان المؤيد لم يجد بها إلا رمقا قليلا وخيالا عليلا قد وهت دعائمها وأشرفت على الانهدام المفضي إلى حالة الانعدام فأمده الله بضروب السعادة الخارقة للعادة فقام بأعبائها بلا مال ولا رجال والعناية من الله تساعده والفشل يباعده حتى أقام بناء الملك الإسماعيلي على أساسه ورد روحه إلى الجسد بعد خمود أنفاسه ولما قضى رحمه الله أربه من مكناسة صرف عزمه إلى آيت يمور وكانوا نازلين بجبل سلفات وبالولجة الطويلة من عهد السلطان سيدي محمد رحمه الله فعفوا وكثروا وأطغاهم نزولهم بتلك الأرض العجيبة ذات المزارع الخصيبة فأضروا بجيرانهم من أهل زرهون وأهل الغرب وغيرهم فأمر السلطان رحمه الله القائد أبا عبد الله محمد بن يشو المالكي العروي أن يحتال في كيادهم والإيقاع بهم ففعل وقبض على نحو الأربعمائة منهم وبعث بهم إلى السلطان ثم نقلهم السلطان إلى حوز مراكش وسار إلى رباط الفتح فاحتل به وعقد لأخيه المولى المأمون بن هشام على مراكش وولاه عليها مكان المولى مبارك بن علي
ثم خرج السلطان من رباط الفتح قاصدا مراكش فمر بقبائل الشاوية وساس أمرهم بما اقتضاه الحال وقتل الهاشمي بن العباس الزياني وكان هذا قد قتل قائد الشاوية أبا إسحاق إبراهيم الوراوي احتال عليه بأن دعاه للاصطياد فلما خلا به رماه برصاصة فقتله بالموضع المعروف بتادارت قرب مديونة فأمر السلطان رحمه الله بالهاشمي أن تضرب عنقه بذلك الموضع وذلك بعد أن ولاه على قبيلته مدة ثم مر بقبائل دكالة فأوقع بالعونات وتقدم إلى مراكش فلما دخلها بعث من جاء بمحمد بن سليمان الفاسي موقد نار
____________________


فتنة إبراهيم بن يزيد فأتى به من سجن الجزيرة فضربت عنقه ونصب رأسه على باب الخميس من مراكش وكان مسجونا معه أبو عبد الله محمد الطيب البياز الفاسي فأخرجه السلطان من السجن ومن عليه إذ لم يكن على مذهب ابن سليمان بل كان صاحب مروءة وجد في الأمور ولذلك استخدمه السلطان رحمه الله فجعله أمينا على مرسى طنجة أولا ثم ولاه على فاس ثانيا والله تعالى أعلم نكبة ابن الغازي الزموري وما آل إليه أمره
قد قدمنا أن الحاج محمد بن الغازي الزموري كان قد بايع السلطان المولى عبد الرحمن وسعى في سراح الشيخ أبي عبد الله الدرقاوي رضي الله عنه وأن السلطان استخلصه وصاهره بإحدى حظايا عمه المولى سليمان رحمه الله لما وصل معه إلى مراكش ثم اضطرب كلام أكنسوس في أن السلطان قبض على ابن الغازي في أول قدمة قدمها معه إلى مراكش أو بعدها وكان السبب في ذلك أن ابن الغازي المذكور كانت له دالة على السلطان قد جاوزت الحد الذي ينبغي أن تسير به الرعية مع الملوك وكانت عادته أن يحضر بالغداة والعشي إلى باب السلطان كغيره من كبار الدولة ووجوهها على العادة في ذلك فلما كان في بعض الليالي وهو راجع إلى منزله رصده بعض العبيد بالطريق فرماه برصاصة فأخطأه فوصل إلى منزله وقد ارتاب بالسلطان فمن دونه من أهل الدولة وحملته دالته على أن أطلق لسانه وأبرق وأرعد وتألى وأوعد وبلغ ذلك السلطان فأغضى له عنها ثم أفضى به التهور إلى أن انقطع عن الحضور بباب السلطان غضبا على الدولة فأطال له السلطان الرسن كي يرجع فلم يرجع وبلغ السلطان أنه يحتال في الفرار فعاجله بالقبض عليه وبعث به إلى جزيرة الصويرة التي هي سجن أهل الجرائم العظام فسجن بها مدة ثم أصبح ذات يوم ميتا وذلك في سنة أربعين ومائتين وألف على ما قيل
____________________


وفي هذه السنة انعقدت الشروط بين السلطان رحمه الله وبني جنس الصاردو وهي ثمانية وعشرون شرطا كلها ترجع إلى تمام الصلح ودوام الأمن والمجاملة في التجارات وسائر أنواع المخالطات والثالث عشر منها يتضمن لزوم مراكب المسلمين أن تعمل الكرنتينة إن تعين موجبها عند دخول مرسى من مراسي الصاردو وكذلك هم أيضا ولاية الشريف سيدي محمد بن الطيب على تامسنا ودكالة وأعمالها
كان السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله قد ولى ابن عمه الشريف سيدي محمد بن الطيب بن محمد بن عبد الله على فاس فأقام بها مدة ثم ولاه على قبائل تامسنا ودكالة بأسرها وفوض إليه النظر في أمرها وكان سيدي محمد هذا ذا شدة وشكيمة على العصاة دوسري البطش حجاجي السيف وكان قد اتخذ كلابا ضخاما تسميها العامة القناجر يوهم الناس أنه إذا غضب على أحد ألقاه إليها فتفترسه وكان ربما جيء إليه بالجاني فيقوم إليه ويباشر ذبحه بيده حتى لقد حز أصبعه في ذبحه لبعض الجناة فقدم سيدي محمد هذا تامسنا وأوقع بأولاد حريز وقعة شنعاء فقبض على جماعة كبيرة منهم وضرب منهم نحو مائتي رقبة وهدم قصبة كريران الحريزي المسماة بمرجانة فتسامعت القبائل بسطوته فذعروا واقشعرت جلودهم لهيبته ثم زحف إلى دكالة ومعه بعض مساجين أهل تامسنا فلما وصل إلى شاطىء وادي آزمور أحضر أولئك المساجين فقطع البعض وقتل البعض ثم عبر الوادي ونزل بآزمور فازداد الناس رعبا منه وخشعت له قبائل دكالة بأسرها ثم تقدم إلى الجديدة فاحتل بها وكانت يومئذ خربة لا زالت على الهيئة التي فتحت عليها أيام السلطان سيدي محمد رحمه الله وكانت تسمى قبل الفتح بالبريجة فلما فتحت وتهدم صورها بالمينى صار الناس يسمونها بالمهدومة فأمر سيدي محمد بن الطيب ببناء سورها وترميم ما تلثم منها وسماها
____________________


الجديدة وتهدد من يسميها بغير ذلك فسميت الجديدة من يومئذ وهو الذي بنى القبيبة الصغرى المقابلة لباب المسجد الجامع بها
ثم لما صفا للسلطان أمر هذه البلاد بسبب ابن الطيب وبسبب ما حدث في المغرب من الجوع الذي أهلك الناس وكاد يأتي عليهم بعثه إلى الصحراء لتدويخ أهلها وجباية زكواتها وأعشارها فذهب إليها وعاد مخففا فولاه السلطان على وجدة فأقام بها يسيرا ورجع بلا طائل شروع السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله في غرس أجدال بحضرة مراكش
لما صفا للسلطان رحمه الله أمر المغرب شرع في غرس آجدال غربي مراكش وهو بستان عظيم جدا يشتمل على جنات كثيرة معروفة بحدودها وأسمائها وأكرتها وتشتمل كل واحدة منها على نوع أو أنواع من الأشجار المثمرة النفاعة من زيتون ورمان وتفاح وليمون وعنب وتين وجوز ولوز وغير ذلك وكل نوع منها يغل ألوفا في السنة بحيث أن غلة الليمون وحده تباع بخمسين ألفا وأكثر إذا كانت صالحة وفي خلال هذه الجنات من قطع الأزهار والرياحين والبقول المختلفة اللون والطعم والرائحة والخاصية ما لا يأتي عليه الحصر حتى أن منها ما لا يعرفه جل أهل المغرب ولا رأوه قط لكونه جلب من أقطار أخرى وفي وسطه برك عظام تسير فيها القوارب والفلك وتصب فيه العيون كأمثال الأنهار لسقي تلك الجنات وعليه من الأرحاء شيء كثير وتلك البرك منها ما ضلعها الواحد يكون مائتين خطوة وأقل وأكثر وفي داخله أيضا من المنتزهات الكسروية والقباب القيصرية والمقاعد المروانية ما يستوقف الطرف ويستغرق الوصف مثل دار الهناء والدار البيضاء والصالحة والزاهرة وغير ذلك ويتصل به جنان رضوان الفائق بحسنه وقبابه ومقاعده البهية على ذلك كله والحاصل أن هذا البستان
____________________


جنة من جنان الدنيا يزري بشعب بوان وينسى ذكر غمدان إلى جنة المنارة والعافية وغير ذلك من منتزهات مراكش العجيبة التي أنشأتها هذه الدولة في إبان الإقبال والشبيبة
ولما شرع السلطان رحمه الله في غرس هذا البستان جلب له العين الآتية من بلاد مسفيوة المسماة بتاسلطانت وهي من أعذب العيون ماء وأخفها وأنفعها للبدن وكانت مسفيوة متغلبة على هذه العين من لدن دولة السلطان سيدي محمد بن عبد الله يعمدون إليها بالليل فيفرقونها سواقي على جناتهم ومزارعهم فكان ذلك دأبهم إلى أن جاء السلطان المولى سليمان فأعياه أمرهم فيها فأقطعهم إياها على ألف مثقال يؤدونه كل سنة فلما جاء السلطان المولى عبد الرحمن انتزعها منهم رغما عليهم وجاء بها تشق الوهاد والربى حتى ألقت جرانها بأجدال السعيد وعم نفعها وريها القريب منه والبعيد وفي ذلك يقول الوزير أبو عبد الله محمد بن إدريس رحمه الله
( وردت وكان لها السعود مواجها ** والحسن مقصورا على مواجها )
( وبدت طلائع بشرها من قبلها ** كالشمس طالعة لدى أبراجها )
( وتسير ما بين الأباطح والربى ** ترمي فريد الدر من أمواجها )
( وتصوغ من صافي النضار سبائكا ** حلت بها الأعطاف من أثباجها )
( هبطت إليك من الجبال وطالما ** تعبت ملوك الأرض في إخراجها )
( وأتتك راغبة تجر ذيولها ** وتفيض غمر النيل من أفواجها )
( تنساب مثل الأفعوان وتنثني ** كالغصن بين وهادها وفجاجها )
( خطب الملوك نكاحها فتمنعت ** وأتتك واهبة حلال زواجها )
( فلتهنك الخود الرفيع فخارها ** وليهنها أن صرت من أزواجها )
( حراء عباسية بدوية ** نشرت ذوائبها على ديباجها )
( وافتك وافدة وقد صبغ الحيا ** وجناتها وجرى على أدراجها )
( فكأنها بلقيس جاءت صرحها ** لكنه صرح بغير زجاجها )
( عرفت أناملك الشريفة أبحرا ** غرقت بحار الأرض في عجاجها )
____________________


( فأتتك طالبة الأمان لنفسها ** لتنال بعض الطيب من ثجاحها )
( لبتك إذ سمعت نداك وأقبلت ** مرهوبة تستن من إزعاجها )
( ونزعتها بالقهر من غصابها ** والسابقون رضوا ببعض خراجها )
واعلم أن هذه الأخبار التي سردناها من أول هذه الدولة السعيدة إلى هنا تبعنا في جلها أبا عبد الله أكنسوس وقد ساقها رحمه الله مجردة عن التاريخ الذي هو المقصود بالذات من الفن ونحن لما لم نعثر في الوقت على ما يحقق لنا تواريخها رتبناها بحسب ما أدى إليه الفكر والروية وأثبتناها لئلا تذهب فائدتها بالكلية وعلى كل حال فهي في حدود الأربعين من مائة التاريخ والله أعلم ولاية القائد أبي العلاء إدريس بن حمان الجراري على وجدة وأعمالها
قد قدمنا أن السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله كان قد ولى ابن عمه سيدي محمد بن الطيب على وجدة ورجع عنها بلا طائل وكانت ولاية هذا الثغر عند السلطان من أهم الولايات وأخصها بمزيد الاعتناء لبعدها عن دار الملك ومتاخمتها لمملكة الترك فكانت ثغرا من الثغور ولكثرة قبائلها واختلاف آراء أهلها وتعدد عصبياتهم في العرب والبربر ففكر السلطان رحمه الله فيمن يكفيه هذا المهم ويسد له هذا المسد فوقع اختياره على القائد الأنجد أبي العلاء إدريس بن حمان بن العربي الوديي الجراري فرماها به وجعل أمرها إليه وعول في شأنها عليه وكان هذا الرجل نسيج وحده وقريع دهره في جودة الرأي وإدارة الأمور على وجهها وإجرائها على مقتضى صوابها ومحبة السلطان ونصحه فولاه عليها في أوائل سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف فقام بأمرها أحسن قيام واستوفى جباية أهل المداشر منها والخيام ثم حمله نصحه وصدق خدمته على أن يستأذن السلطان في أن يكون يكاتبه بجميع ما يحدث في تلك البلاد من الأمور الداخلة في الدولة
____________________


والخارجة عنها ليكون السلطان على بال من ذلك الثغر فاستأذن في ذلك بواسطة الوزير أبي عبد الله بن إدريس فكان من جواب الوزير له أن قال حسبما وقفت عليه بخطه إني أخبرت سيدنا المنصور بالله بما كتبت في شأنه فأعجبه ذلك وقال لا بأس به وليكن خفيا من غير شعور أحد ليطلع سيدنا على الأمور ويكون على بصيرة فيها فلا تقصر في ذلك واجتهد في إصلاح ما ولاك وأعظم ذلك وأهمه أمان الطريق وخمود الفتنة حتى لا يصل من تلك الناحية إلا الخير فأنت من فضل الله ذو رأي وبصيرة بالأمور وخصوصا تلك النواحي والله يوفقك ويسددك وهذه النواحي بخير وعافية وفي نعم من الله وافية قد نزل فيها المطر الغزير وكثر الخصب وحرث الناس الحرث الكثير وسيدنا بمكناسة الزيتون ولا ما يشوش البال غير أن والدته المقدسة صارت إلى عفو الله ورحمته وذلك قبل تاريخه بشهر ونحن على المحبة والسلام في الخامس والعشرين من جمادى الثانية سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف محمد بن إدريس لطف الله به انتهى لفظ الكتاب المذكور
وفي هذه المدة كان السلطان رحمه الله قد استعمل الشيخ أبا زيان بن الشاوي الأحلافي على تازا وأعمالها وأوصاه بالتعاون على أمر الخدمة السلطانية بالقائد إدريس فكانا في إدارة الأمور بتلك النواحي كفرسي رهان ولكن التبريز إنما هو للقائد إدريس ولما دخل رمضان من السنة المذكورة عزم السلطان رحمه الله على المسير إلى بلاد الشرق وجدة وأعمالها للوقوف على تلك التخوم بنفسه والنظر في أمورها برأيه إذ لم يكن وطأها قبل ذلك فاستنفر القبائل لحضور عيد الفطر والنهوض إليها ولما حضر العيد وفد على السلطان جماعة من بني يزناسن وعرب آنقاد فباحثهم رحمه الله عن حال بلادهم فشكوا قلة الخصب فصده ذلك عن المسير إليهم ووعدهم بأنه سيطأ أرضهم من العام القابل في أول يناير ثم صرف رحمه الله وجهته تلك إلى التطواف على مراسي المغرب والنظر في أمورها وإحياء مراسم الجهاد بها فخرج من مكناسة منتصف شوال من السنة أعني سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف فمر بأرضات من أعمال وازان وصار إلى تطاوين ثم إلى طنجة ثم
____________________


أصيلا وزار وليها أبا عبد الله محمد بن مرزوق وتبرك به ثم مر بالعرائش وهكذا تتبع الثغور ثغرا ثغرا إلى آسفي وفي أثناء ذلك ورد عليه الخبر بانتقاض الشراردة على المولى المأمون صاحب مراكش وخروجهم عن الطاعة وإفسادهم السابلة ونهبهم الرفاق وأبدؤوا في ذلك وأعادوا حتى كانوا يصلون إلى جنات مراكش فسدد السلطان رحمه الله قصده نحوهم وكان من أمره معهم ما نذكره فتح زاوية الشرادى والسبب الداعي إلى غزوها
قد قدمنا ما كان من أمر المهدي بن الشرادي الزراري مع السلطان المولى سليمان رحمه الله بما فيه كفاية ثم لما بويع السلطان المولى عبد الرحمن بايعه المهدي في جملة الناس ولما قدم السلطان مراكش قدمته الأولى لقيه الشراردة في خمسمائة فارس بمشرع ابن حمى مؤدين الطاعة ففرح السلطان بهم وأكرم وفادتهم ولما عزموا على الرجوع كان في جملة ما قال لهم السلطان رحمه الله إن ما فات قد مات وما نهب في أيام الفتنة فهو هدر ومن الآن من فعل شيئا يخاف على نفسه فرجع الشراردة إلى بلادهم وعيد السلطان بمراكش عيد المولد فحضرت الوفود وحضر الشراردة في جملتهم وساقوا للسلطان خمسة عشر جملا من الكتان وخمسة أحمال من الملف وأربعة آلاف مثقال عينا مما كانوا نهبوه من صاكة الصويرة قبيل وفاة السلطان المولى سليمان رحمه الله حسبما أشرنا إليه قبل فكان من تمام إحسان السلطان إليهم وتألفه إياهم أن قال لهم افرضوا لي مائتي فارس منكم تذهب إلى درعة وهذا الكتان والملف هو كسوتهم والمال صائرهم ففعلوا وكساهم السلطان وأنعم عليهم ثم لما ولى أخاه المولى المأمون على مراكش مرضوا في طاعته ودعا المهدي تهوره إلى أن شكاه إلى السلطان وهو بمكناسة يومئذ ويعتد عليه بأنه يأخذ منهم الزكوات والأعشار على غير وجهها الشرعي وأنه ولي عليهم أربعة عمال أو خمسة عوض عامل واحد
____________________


كان يتولى عليهم فأغضى السلطان عن ذلك وبالغ في الأنة القول له في كتابه ووعده بأنه إذا وصل إلى مراكش يشكيه من أخيه وفي أثناء ذلك وقبل وصول كتاب السلطان إليه أغرى إخوانه بالخروج عن طاعة السلطان والاشتغال بما يسخط الله ويرضي الشيطان فانبثت خيولهم في الطرقات ومخروها مخرا وانتسفوها نسفا وعمدوا إلى قوادهم الذين ولاهم المولى المأمون عليهم فقبضوا عليهم وأودعوهم السجن وانتهبوا دورهم ووصل المسافرون والتجارإلى باب السلطان مجردين عراة يشكون ما دهمهم من أمر الشراردة وتكاثر عليه شذاذهم فحينئذ استأنف السلطان جده وأرهف حده وكتب إلى أخيه المولى المأمون باستنفار قبائل الحوز وجمعها عليه حتى يقدم عليه وسار السلطان في جيش العبيد والودايا وآيت أدراسن وزمور وعرب بني حسن وبني مالك وسفيان وكتب إلى الشاوية ودكالة أن تكون خيلهم معدة حين يمر بهم وكان المهدي قد عظم ناموسه و تمكن من جهلة قومه وكاد يتجاوزهم إلى غيرهم حتى صار يعرض أو يصرح بأنه المهدي المنتظر وكان السبب الأقوى في طغيانه وطغيان قومه ما اتفق له في هزيمة السلطان المولى سليمان رحمه الله فظن المهدي وشراردته أن لا غالب لهم من الله ولما برز السلطان رحمه الله من رباط الفتح لقيه ركب الحجاج الذين انتهبهم هشتوكة والشياظمة الذين بأحواز آزمور وكانت العادة يومئذ بالمغرب أن ركاب الحاج تأتي من آفاق المغرب فتجتمع بفاس ومنها يخرج الركب على الهيئة المعهودة في ذلك الزمان فلما وصل هؤلاء الحجاج من أهل السوس وغيرهم إلى الشياظمة وهشتوكة انتهبوهم وجردوهم من المخيط والمحيط فسمع السلطان رحمه الله شكواهم وامتعض لانتهاك حرمتهم وزحف إلى هؤلاء المفسدين فأوقع بهم وقعة شنعاء بالموضع المعروف بفرقالة من أعمال آزمور حتى كانوا يلقون أنفسهم في البحر طلبا للنجاة بعد أن أثروا في المحلة أول النهار ثم كانت الكرة عليهم وحكم السلطان السيف في رقابهم وامتلأت أيدي العسكر من أثاثهم وماشيتهم وكانت هذه الوقعة طليعة الفتح ومقدمة الظفر ثم عبر إلى آزمور ومنها إلى الجديدة ثم سار مع الساحل
____________________


حتى وصل إلى آسفي فزار الشيخ أبا محمد صالح رضي الله عنه وعطف إلى الزاوية الشرادية فبغتها وطلعت عليها راياته المنصورة بالله مع الصباح ولم يعرج على مراكش وقبل نزول الجيش وضرب الأخبية أنشبت الحرب معهم فتقاتلوا وتحاجزوا مع الظهر وكان الزمان زمان مصيف ودامت الحرب سبعة أيام ونصب عليهم السلطان المدافع والمهاريس العظام وفي اليوم الخامس من تلك الأيام كان عيد المولد الكريم يوم الأربعاء من سنة أربع وأربعين ومائتين وألف فأراد السلطان رحمه الله أن يعفي الناس من الحرب ذلك اليوم فحمل الشراردة طغيانهم وبغيهم على أن تقدموا للجيش وأنشبوا الحرب فأمر السلطان بالزحف إليهم والنكاية فيهم وكان المعلم الأكبر أبو عبد الله محمد بن عبد الله ملاح السلاوي حاضرا في هذه الوقعة فتقدم إليه السلطان بالوصاة بالجد والاجتهاد في الرمي فرمى عليهم في ذلك اليوم مائتين وثمانين بنبة كلها في وسط الزاوية تتفرقع عند نزولها فتأتي على ما جاورها من جدار وغيره حتى شاهدوا في ذلك اليوم الموت الأحمر وكانوا هم أيضا يرمون بالكور والبنب من المدافع والمهاريس التي استولوا عليها في محلة السلطان المولى سليمان ثم لما كان عشي الجمعة السابع من أيام الحرب افترقت كلمتهم وعزم المهدي على الفرار فقال له أصحابه كيف تفر وتتركنا وأين ما كنت تعدنا فقال لهم أما أنتم فالذي أورثكم أسلافكم هو الخدمة مع السلطان فلا تستنكفوا منها وأما أنا فالذي عندي وسمعته من آبائي أن الحرب تدوم على هذه القرية سبعة أيام ثم يستولي عليها السلطان الذي يجيء من ناحية البحر وهو هذا في كلام آخر تكهن لهم فيه واعتقد الجهلة صدقه بعد أن أتلفوا عليه نفوسهم وأموالهم ومن يضلل الله فما له من هاد ولما جن الليل ركب فيما قيل على حمار وركب معه شرذمة من أصحابه نحو العشرين فارسا فشيعوه إلى الموضع المعروف بتيزكي فودعهم وذهب إلى السوس بعد أن سفك الدم الحرام وانتهب المال الحرام وملأ صحيفته من الآثام نسأل الله العفو والعافية ولما فر المهدي عنهم تفرقوا شذر مذر وباتوا يتحملون بنسائهم وأولادهم إلى منجاتهم والذين صعب عليهم الخروج
____________________


اجتمعوا وساروا إلى القواد الأربعة فسرحوهم ورغبوا إليهم في الوساطة عند السلطان فأصبحوا على أطراف المحلة يستأذنون على المولى المأمون فأذن لهم ودخلوا عليه وشفعوا فيمن بقي منهم وطلبوا الأمان فأمنهم ثم تقدموا إلى السلطان فاستأذنوا فأذن لهم ودخلوا وأخبروا بما عقد لهم المولى المأمون من الأمان فأمضاه لهم ثم أمر السلطان بجمع الشراردة الذين بقوا بالقصبة فجمع له منهم نحو الألفين وعاثت الجيوش في بيوتهم وأمتعتهم
وقيل إن السلطان رحمه الله لم يؤمنهم ولما قبض عليهم عزم على تحكيم السيف في رقابهم فاستفتى العلماء فيهم فتحاموا الإفتاء بإراقة الدم حتى أن منهم من أفتى وهو الفقيه أبو عبد الله محمد بن المرابط المراكشي بأنهم تابوا قبل القدرة عليهم فتوقف السلطان رحمه الله عن قتلهم وكان وقافا عند الحق دائرا مع الشرع حيث دار ثم أمر رحمه الله بالاحتياط على عيال المهدي وأولاده فاحتيط عليهم فجيء بهم إليه وبعثهم إلى مكناسة فأنزلوا بدار القائد محمد بن الشاهد البخاري الذي هلك في وقعة آعليل مع السلطان المولى سليمان وأمر السلطان بسور القصبة فهدم إبرارا لقسمه وحيزت المدافع والمهاريس التي كانت منصوبة عليه ولما انقضى أمر الحرب وتم الفتح هلك المعلم محمد ملاح نفطت فيه بنبة فقتلته وقتلت جماعة معه فوقف السلطان عليه بنفسه حتى أقبر وأحسن إلى أولاده بعد ذلك ورأيت بخط الوزير ابن إدريس في بعض مكاتيبه ما نصه واعلم أن الله سبحانه قد فتح علينا الزاوية الشرادية وأهلك أهلها الظالمين ولم تبق لهم باقية ولا زالت العساكر مقيمة على هدمها وتخريبها وقد قبض منهم على أكثر من ستمائة رجل وربحت الناس بما وجدت فيها من الأثاث والذخائر والأنعام اه
ثم إن السلطان رحمه الله فرق مساجين الشراردة فسجن بعضهم برباط الفتح وبعضهم بمكناسة وبعضهم بفاس ثم بعد مضي نحو السنة سرحهم ونقلهم إلى بسيط آزغار وجمع إخوانهم من القبائل فضمهم إليهم ولا زالوا
____________________


موطنين به إلى الآن وأما المهدي فإنه ذهب إلى السوس وانتهى إلى آيت باعمران من ولتيتة فنزل على مرابطها أبي عبد الله محمد آعجلي الباعمراني واستمر عنده ثلاث سنين وضاقت عليه الأرض بما رحبت ثم بعث من شفع له عند أمير المؤمنين فقبل السلطان شفاعته وجاء المهدي في قيده إلى أن دخل على السلطان بمراكش وبكى أمامه وتضرع فسامحه السلطان ثم بعثه إلى مكناسة فاجتمع بأولاده وبعد مدة يسيرة ولاه السلطان على إخوانه
قال أكنسوس عاملهم بالإساءة فعادت محبتهم له عداوة وضجوا إلى السلطان منه فعزله ثم حج المهدي بإذن السلطان ورجع فولاه أيضا فلم يقبلوه ثم سجن ثم سرح وتقلبت به الأحوال وتأخرت وفاته إلى أوائل شوال من سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف في أول دولة سلطان العصر وإمام النصر أمير المؤمنين المولى الحسن بن محمد رضي الله عنه ولما تم فتح الزاوية المذكورة قال شعراء العصر في ذلك فمنهم الفقيه الأديب أبو عبد الله أكنسوس قال
( بشائر لا تحيط بها الشروح ** كأن سميعها فنن مروح )
( سقى ربع البشير بها غمام ** يباكرها هتون أو يروح )
( تفديه المحافل وهو يشدو ** فتوح في مضمنها فتوح )
( وتأمل أن تقبله الغواني ** تذيل له المباسم أو تبيح )
( بشائر كاد يسمعها دفين ** ويسري في الجماد بهن روح )
( شفى المولى المؤيد كل صدر ** به من قبل وقعتها جروح )
( وأدرك ثار عصبته وأضحى ** لعزة قدره شرف صريح )
( لقد حسم الفساد بكل أرض ** فساد به لنا الدين السميح )
( وزر على زرارة كل خزي ** تشق له المجاسد إذ تنوح )
( وقد كانت تصر على ازورار ** وكانت لا ينهنهها قبيح )
( ومن كانت مراكبه جماحا ** فسحقا حين تصرعه الجموح )
( أتيح لهم لحينهم جهول ** غوى للضلال له جنوح )
____________________


( يقودهم إلى العصيان سرا ** ويظهر أنه البر النصوح )
( يحدثهم إذا ما حم خطب ** حديثا كان مصدره سطيح )
( هو الدجال في سمت وفعل ** فمن يدعوه مهديا وقوح )
( فأهلكه الإمام فكان عيسى ** كذا الدجال يهلكه المسيح )
( فصير دار منعته فلاتا ** على أطلالها البوم السنيح )
( وفر عن الذمار على حمار ** عليل العرض جؤجؤه صحيح )
( فيالؤم الذليل فلا وهين ** فيعذر بالفرار ولا جريح )
( وخير من جباة في هوان ** يبوء به الفتى موت مريح )
( أيطمع في النجاة فلا نجاة ** سيدركه الهزيز المستبيح )
( إذا كان الشراب له بحارا ** تخوض إليه سلهبة سبوح )
( ستدركه العزائم من إمام ** تدك له المعاقل والصروح )
( إمام قد أعاد لنا سرورا وجاد لنا به الزمن الشحيح )
( أعز الله ملك بني علي ** بصولته وتم له الوضوح )
( وجرد من جلالته حساما ** يزيل به الضلالة أو يزيح )
( وقد كان الخلائق في ظلام ** فلاح على الخلائق منه بوح )
( وأصبحت الأباطح باسمات ** وكان على مناظرها كلوح )
( أعز معود للنصر ساع ** إلى العلياء مسعاه نجيح )
( يخاطر في منال العز دأبا ** برأي كل مدركه رجيح )
( فرايات السعود عليه نشر ** وساحات الفخار لديه جوح )
( أبا زيد فأنت لنا ملاذ ** وجاهك في المهم لنا فسيح )
( فقد زانت مآثرك الليالي ** ولاح لعدلك الوجه المليح )
( وهذا الدهر كالطوفان موجا ** وطاعتك السفين وأنت نوح )
( وأنت خليفة الرحمن من لا ** تؤمنه فمشربه نشوح )
( كما أن الشبانة حين زاغت ** وهب لها من الطغيان ريح )
( عصفت عليهم باليأس تزجي ** كتائب كالسحاب إذا تلوح )
( فألقيت الجران على ذراهم ** بجيش كلهم بطل مشيح )
____________________


( فجاء العفو منك وهم ثلاث ** أسير أو كسير أو ذبيح )
( وقد قسمت بلادهم بعدل ** ودورهم كما قسم الوطيح )
( وقد نظمت مكايدهم قديما ** بني سعد وزيدان نطيح )
( فظنوا آل إسماعيل يرنو ** لغير الحزم طرفهم الطموح )
( وما علموا بأنكم سيوف ** لحدكم نجيعهم سفوح )
( أبا زيد إذا تبقى عليهم ** بصفح ربما ندم الصفوح )
( فلا تحلم فإن الجرح يكوي ** طريا بالمحاور أو يقيح )
( فلا زالت بك الدنيا عروسا ** ومجدك من مفارقها يفوح )
ومن ذلك قول بعضهم ولعله الفقيه أبو محمد عبد الله الديماني قال
( بشرى تقر بأعين الإيمان ** كالوصل ينسخ دولة الهجران )
( جاد الزمان بها على مقداركم ** فتقاصرت عنها خطا الأذهان )
( أين المفر لمن عنا عن أمركم ** أترى البغاث تفوت ما لعقبان )
( الأمر أمر الله غير منازع ** لاح الصباح لمن له عينان )
( يا من يطالب أمرهم بدلائل ** أتطالب البرهان بالبرهان )
( إن كنت تجهل فالحسام معلم ** يشفي البريء به ويشقي الجاني )
( كم من غوي قد عتا عن أمرهم ** كزرارة فمضى إلى الخسران )
( أين المفر لمن عتا عن أمركم ** يوم الكفاح إذا التقى الجمعان )
( لم يمنع الأعداء منهم معقل ** لو أنهم صعدوا إلى كيوان )
( لكنهم باؤوا بأخسر صفقة ** فكأنهم غصبوا أبا غبشان )
( جيش تسد وفوده مسرى الصبا ** وتهد وطأته ذرى ثهلان )
( يا مالكا ملأ الوجود محاسنا ** لا تختفي عن أعين العميان )
( أجريت بين المعتقين مكارما ** يسلوا الغريب بها عن الأوطان )
( لوقيل للغيث اعترف لم يعترف ** إلا بفضل نداكم الهتان )
( إنسان عين الدهر أنت وإنما ** تكميل شكل العين بالإنسان )
( ذكراك بالأفواه تعذب كاللما ** وتخف كالبشرى على الآذان )
( أيقظت جفن الحق من إغفائه ** وأقمت ميلة عطفه الكسلان )
____________________


( ألقى لك الزمن العصى زمامه ** وعنا لطاعة أمرك الثقلان )
( فالدهر دونك دافع ومدافع ** وصروفه لكم من العبدان )
( فإذا أشرتم في الزمان لمقصد ** كان القضاء لكم من الأعوان )
( أخلصت للرحمن في طاعاته ** فلذا دعيت بعابد الرحمن )
( ألقيت رحلي في ذراك مخيما ** فجريت في الآمال طوع عنان )
( وتركت أوطاني وجئت وإنما ** من فرط حبك غبت عن أوطاني )
( يا ليت قومي يعلمون بأنني ** من جودكم أرد الفرات الثاني )
( لا زلتم في أسعد مبسوطة ** مقبوضة عنها يد الحدثان )
واستمر السلطان مقيما بمراكش مدة طويلة وبعث أخاه المولى المأمون بن هشام لقطر السوس فجباه
ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائتين وألف ففي شعبان منها عقد السلطان الصلح مع جنس النابريال ويقال له استرياك وهي اثنا عشر شرطا مضمنها المخالطة بالبيع والشراء وغير ذلك مع الأمان والاحترام من الجانبين والآخر منها مضمنه الصلح الدائم على هذه الشروط لا يفسده أمر يحدث بعده ولا يقع فيه زيادة ولا نقصان ثم حدثت الفتنة عقب هذا بيسير على ما نذكره هجوم جنس النابريال على ثغر العرائش والسبب في ذلك
قد قدمنا أن السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله قد طاف في آخر سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف على ثغور المغرب ومراسيه وأنه أراد إحياء سنة الجهاد في البحر التي كان أغفلها السلطان المولى سليمان رحمه الله وأمر أعني المولى عبد الرحمن بإنشاء أساطيل تضم إلى ما كان قد بقي من آثار جده سيدي محمد بن عبد الله وأذن لرؤساء البحار من أهل العدوتين
____________________


سلا ورباط الفتح أن يخرجوا في القراصين الجهادية للتطواف بسواحل المغرب وما جاورها فخرج الرئيسان الحاج عبد الرحمن باركاش والحاج عبد الرحمن بريطل فصادفوا بعض مراكب النابريال فاستاقوها غنيمة إذ لم يجدوا معها ورقة الباصبورط المعهودة عندهم وعثروا فيها على شيء كثير من الزيت وغيرها وكان بعضها قد جيء به إلى مرسى العدوتين وبعضها إلى مرسى العرائش فهجم النابريال على مرسى العرائش بستة قراصين يوم الأربعاء الثالث من ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومائتين وألف ورمى عليها من الكور شيئا كثيرا من الضحى إلى الاصفرار وعمد في أثناء ذلك إلى سبعة قوارب فشحنها بنحو خمسمائة من العسكر ونزلوا إلى البر من جهة الموضع المعروف بالمقصرة وتقدموا صفوفا قد انتشب بعضهم في بعض بمخاطيف من حديد لئلا يفروا ومشوا إلى مراكب السلطان التي كانت مرساة بداخل الوادي وهم يقرعون طنابيرهم ويصفرون ومراكبهم التي في البحر ترمي بالضوبلي مع امتداد الوادي لتمنع من يريد العبور إليهم فانتهوا إلى المراكب وأوقدوا فيها النار وقصدوا بذلك أخذ ثأرهم فيما انتزع منهم فلم يكن إلا كلا ولا حتى انثال عليهم المسلمون من كل جهة من أهل الساحل وغيرهم وعبر إليهم أهل العرائش وأحوازها سبحا في الوادي وعلى ظهر الفلك إلى أن خالطوهم وفتكوا فيهم فتكة بكرا وكان هنالك جملة من الحصادة يحصدون الزروع في الفدن فشهدوا الوقعة وأبلوا بلاء حسنا حتى كانوا يحتزون رؤوس النابريال بمناجلهم وقد ذكر منويل هذه الوقعة وبسطها وقال إن النابريال قتل منهم ثلاثة وأربعون سوى الأسرى وتركوا مدفعا واحدا وشيئا كثيرا من العدة وأفلت الباقي منهم إلى مراكبهم وذهبوا يلتفتون وراءهم
واعلم أن هذه الوقعة هي التي كانت سببا في إعراض السلطان المولى عبد الرحمن عن الغزو في البحر والاعتناء بشأنه فإنه رحمه الله لما أراد إحياء هذه السنة صادف إبان قيام شوكة الفرنج ووفور عددهم وأدواتهم
____________________


البحرية وصار الغزو في البحر يثير الخصومة والدفاع والتجادل والنزاع ويهيج الضغن بين الدولة العلية ودول الأجناس الموالية لها حتى كاد عقد المهادنة ينفصم وأكد ذلك اتفاق استيلاء الفرنسيس على ثغر الجزائر وهو ما هو فوجم السلطان رحمه الله وأعمل فكره ورويته فظهر له التوقف عن أمر البحر رعيا للمصلحة الوقتية ولقلة المنفعة العائدة من غزو المراكب الإسلامية وانضم إلى ذلك إعلان الدول الكبار من الفرنج مثل النجليز والفرنسيس بأن لا تكون المراكب إلا لمن يقوم بضبط قوانين البحر التي يستقيم بها أمره وتحمد معها العاقبة وتدوم بحفظها المودة على مقتضى الشروط ومن مهمات ذلك ترتيب القناصل بالمراسي التي تريد الدولة دخول مراكبها إليها وتجارتها فيها أي دولة كانت ومن هذه المهمات ما قد لا يساعد عليه الشرع أو الطبع مثل الكرنتينات وما يترتب عليها إلى غير ذلك مما فيه هوس كبير فاشتد عزم السلطان رحمه الله على ترك ما يفضي إلى ذلك وتأكد لديه إهماله لتوفر هذه الأسباب ولعمري أن تركه لمصلحة كبيرة لمن أمعن النظر فيها وما يعقلها إلا العالمون وأما فتنة النابريال هذه فإنها تفاصلت بواسطة النجليز حيث وجه باشدوره مع باشدور النابريال فقدما على السلطان رحمه الله مكناسة في شهر ربيع الأول سنة ست وأربعين ومائتين وألف استيلاء الفرنسيس على ثغر الجزائر وما ترتب على ذلك من دخول أهل تلمسان في بيعة السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله
كان استيلاء طاغية الفرنسيس على ثغر الجزائر في آخر المحرم فاتح سنة ست وأربعين ومائتين وألف وكان السبب في ذلك أن أتراك الجزائر كانوا يومئذ مع الفرنسيس على طرفي نقيض قد تعددت بينهم الوقعات برا وبحرا وكثرت بينهم الذحول والترات وكان الترك يؤذونهم أشد الإذاية وأمير
____________________


الجزائر يومئذ واسمه أحمد باشا قد أمر أمره وأراد الاستبداد على الدولة العثمانية وربما شكا طاغية الفرنسيس إلى السلطان محمود العثماني فقال له شأنك وإياه فهجم الفرنسيس في العدد والعدد على ثغر الجزائر فاستولى عليه بعد مقاتلات ومجاولات في التاريخ المتقدم وكان السلطان المولى عبد الرحمن يومئذ بمراكش فاتصل به خبر الجزائر في أوائل صفر فنهض إلى مكناسة في التاريخ المذكور ولما وقع بأهل الجزائر ما وقع اجتمع أهل تلمسان وتفاوضوا في شأنهم واتفقوا على أن يدخلوا في بيعة السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله فجاؤوا إلى عامله بوجدة القائد أبي العلاء إدريس بن حمان الجواري وعرضوا عليه أن يتوسط لهم عند السلطان في قبول بيعتهم والنظر لهم بما يصلح شأنهم ويحفظ من العدو جانبهم ثم عينوا جماعة منهم للوفادة على السلطان تأكيدا للطلب واستعجالا لحصول هذا الأرب فقدموا على السلطان بمكناسة غرة ربيع الأول من السنة المذكورة فأكرم السلطان وفادتهم وأجل مقدمهم ولما صرحوا له عن مرادهم توقف في ذلك رحمه الله وكان هواه إلى قبولهم أميل إلا أنه أراد أن يبني ذلك على صريح الشرع كما هي عادته فاستفتى علماء فاس فأفتى جلهم بنقيض المقصود ورخص له بعضهم في ذلك فأخذ السلطان رحمه الله بقول المرخص مع أن أهل تلمسان لما بلغهم فتوى أهل فاس كتبوا إلى السلطان في الرد عليهم ما نصه
ليعلم سيدنا قطب المجد ومركزه ومحل الفخر ومحرزه أساس الشرف الباذخ ومنبعه وبساط الفضل الشامخ ومجمعه السلطان الأعظم الأمجد الأفخم نجل الملوك العظام سيدنا ومولانا عبد الرحمن بن هشام أبقى الله سيدنا للمسلمين ذخرا ومنحه مودة وأجرا أن فتوى ساداتنا علماء فاس مبنية على غير أساس لأنهم اعتقدوا أن في عنقنا للإمام العثماني بيعة وهذا لو صح لكان علينا حجة وليس الأمر كذلك وإنما له مجرد الاسم هنالك وعامل الجزائر إنما كان متغلبا وبالدين متلاعبا فأهلكه الله بظلمه وتطاوله على عباد الله وجوره وفسقه إن الله يمهل على الظالم حتى يأخذه
____________________


فإذا أخذه لم يفلته ويدل على تغلبه واستقلاله عدم وقوفه عند أمر العثماني وامتثاله بل لا يكترث به أصلا ولا يتبع له قولا ولا فعلا كيف وقد أمره أن يعقد مع النصارى صلحا فلم يقبل له قولا ولا نصحا وطلب منه بعض الأموال ليستعين بها على ما حل به مع النصارى من الأهوال فامتنع غاية الامتناع ولم يمكنه من شبر منها فضلا عن الباع حتى أخذها العدو الكافر وهذا جزاء كل فاسق فاجر مال جمع من حرام سلط الله عليه الأعداء اللئام وهذا كله من هذا المتغلب متواتر مشاهد بالعيان مستغن عن إقامة الدليل والبرهان الناس كلهم عبيد الله وإماؤه والسلطان واحد منهم ملكه الله أمرهم ابتلاء وامتحانا فإن قام فيهم بالعدل والرحمة والإنصاف والصلاح مثل سيدنا نصره الله فهو خليفة الله في أرضه وظل الله على عبيده وله الدرجة عند الله تعالى وإن قام فيهم بالجور والعسف والطغيان والفساد مثل هذا المتغلب فهو متجاسر على الله في مملكته ومتسلط ومتكبر في الأرض بغير الحق ومتعرض لعقوبة الله الشديدة وسخطه هذا وعلى فرض تسليم أن للعثماني في عنقنا بيعة فلا تكون علينا حجة لأنه تباعد علينا قطره فلم يغن عنا شيئا ملكه لما بيننا وبينه من المفاوز والقفار والبحار والقرى والمدن والأمصار وربما قرب محله من جهة البحر لكن منعه الآن من ركوبه الكفار على أنه ثبت بتواتر الأخبار البالغة حد الكثرة والانتشار أنه مشتغل لنفسه ومقره عاجز عن الدفع عن إيالته القريبة من محله حتى أنه هادن النصارى خمس سنين على عدد كثير من المئين وأعطى فيه منهم ضامنا ليكون في المدة المذكورة على نفسه وحشمه آمنا فكيف يمكنه مع هذا الدفاع عن قطرنا وناحيتنا وبلدنا وأدل دليل على بعده عن هذا المرام خبر مصر ونواحي الشام فقد استولى عليها أعداء الدين مدة تزيد على الخمس سنين فلم يجد لهم نفعا ولا ملك عنهم دفعا حتى استعان بالعدو الكافر والله تعالى قد يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر هذا ونص الأبي في شرح مسلم مفصح عن مثل قضيتنا ومعلم على أن الإمام إذا لم ينفذ في ناحية أمره جاز إقامة غيره فيها ونصره فانتظار نصرته يؤدي إلى الهلاك كيف وقد تطاولت
____________________


إليها الأعناق وتشوفت إليها من كل جانب العيون والأحداق فأعرضنا عن الكل صفحا وطوينا عنه الجوانب كشحا مقبلين إلى عتبة باب سيدنا نصره الله وسدته داخلين تحت طاعته ملتزمين لخدمته متوافقين مع القبائل والأمصار وأهل الرأي والاستبصار لعلمنا أن سيدنا نصره الله المتأهل في هذا الأمر العريق الجدير بالإمامة الحقيق كيف وقد ورثها كابرا عن كابر وإليهم انتهت المآثر والمفاخر فنطلب من سيدنا نصره الله أن يلتزم لنا بفضله من هذه البيعة القبول مستشفعين بجاه جده الرسول صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وصحابته المنتخبين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين اه
ولما وقف السلطان رحمه الله على هذا الكلام قبل بيعتهم والتزمها وعقد عليهم لابن عمه المولى علي بن سليمان وأضاف إليه كتيبة من الجند من أعيان الودايا والعبيد ووجه الجميع مع أهل تلمسان بعد إكرامهم وتمام الإحسان إليهم وكتب إلى عامله القائد إدريس يستوصيه بالجميع خيرا ويكون بصيرة عليهم وأشركه في النظر والرأي مع المولى علي بل الاعتماد في الحقيقة إنما كان عليه وقد وقفت على كتاب الوزير أبي عبد الله بن إدريس بخط يده للقائد المذكور في هذه القضية يقول فيه ما نصه الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله محبنا وخال سيدنا الأرضى السيد إدريس بن حمان الجراري سلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته عن خير سيدنا أيده الله وبعد فقد وصلنا كتابك صحبة أعيان تلمسان وقبائل أحوازها فوقفنا معهم كل الوقوف وبذلنا المجهود فوق الطاقة وقبلهم مولانا وقابلهم بالإحسان والإكرام كما هو شأنه ذهابا وإيابا وهاهم وجههم مولانا مكرمين ورشح ابن عمه مولاي عليا للخلافة عليهم لما يعلم من عقله ودرايته وسياسته وأنه ذو نفس أبية لكون تلك النواحي لا يصلح لها إلا من اتصف بهذه الأوصاف ليميزوا حالة الساعة مع ما كانوا فيه وكما رشح مولانا ابن عمه المذكور رشحك لتكون واسطة بينهم وبينه لكون الأوصاف المذكورة موجودة فيك فكن عند الظن بك وإياك والطمع وازهدوا فيما في أيدي
____________________


الناس وكل ما تحتاجون إليه مما لا بد منه أخبرونا به يصلكم ولا تكتموا عنا شاذة ولا فاذة واعلم أن مولانا انتخبك من وسط أبناء جنسك وقربك منه ولا زلت لديه في الترقي فالله الله فكن عند الظن بك بارك الله فيك آمين وقد أكرم سيدنا كل واحد بما يناسبه من الكسوة وصنع لهم في كل بلد دخلوه مهرجانا وأدخلهم سيدنا لوسط داره وجميع جناته وأماكن المملكة التي لا يدخلها إلا الخاصة غايته أنهم نالوا من العناية فوق الظن ووقفنا معهم فوق ما تحب وفيهم الكفاية ولم يبق إلا ما عندك فكن عند الظن بك فإن سيدنا نصره الله جرب غيرك وطرحه وهذا معيارك نسأل الله أن يكون معيار التبر الخالص وما وعدك به سيدنا سيرد عليك حين تستقر بالبلد ويحسن تصرفك على عين الحاضر والبادي وفي وصية سيدنا في كتابه الشريف مقنع وعلى المحبة والسلام في ثالث عشر ربيع الثاني عام ستة وأربعين ومائتين وألف محمد بن إدريس لطف الله به اه نص الكتاب بحروفه
ولما وصل المولى علي إلى تلمسان وجه السلطان في أثره خمسمائة فارس ومائة رام وجماعة وافرة من حذاق الطبجية من أهل سلا ورباط الفتح فيهم ولد عامل سلا محمد ابن الحاج محمد أبي جميعة وكان من النجباء ثم لما دخل المولى علي تلمسان واستقر بها فرح به الحضر من أهل تلمسان واغتبطوا به وقدمت عليه الوفود من كل ناحية وأخذ عليهم البيعة للسلطان هو والقائد إدريس وانحرف عنه الكرغلية من الترك الذين كانوا إدالة بقصبة تلمسان من لدن قديم وحاصرهم المولى علي وقاتلهم مدة إلى أن ظفر بهم واستولى على ما في أيديهم وانحرف عنه أيضا قبيلتا الدوائر والزمالة من عرب تلك الناحية ويقال إن أصلهم من جند كان للمولى إسماعيل رحمه الله بعثه إدالة بتلك الناحية واستمروا هنالك وتناسلوا إلى هذا التاريخ فأظفر الله المولى عليا بهم وانتهب الجيش متاعهم ومتاع الكرغلية من قبلهم ونشأ عن ذلك من الفساد ما نذكره بعد هذا إن شاء الله
____________________


وفي أوائل رمضان من السنة المذكورة خرج القائد إدريس من تلمسان في جماعة من الجيش الذين معه بقصد تدويخ القبائل الذين هنالك وأخذ البيعة على من لم يكن بايع منهم وكان الذين بايعوا هم أهل معسكر والحشم والمشاشيل منهم وبنو شقران والمرابطون أهل غريس وورغية وتحليت وحميان وغير هؤلاء ونص بيعتهم الحمد لله الذي أنار الخلافة وجه الزمان وأطلع في صحيفة غرته طوالع السعد واليمن والأمان وهدى من ارتضاه من الأنام للدخول تحت ظل راية مولانا الإمام والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه الطيبين وبعد فلما وفد على حضرة مولانا الخليفة أبي الحسن علي ابن أمير المؤمنين مولانا سليمان أعلى الله ثراه في عليين جميع القبائل المسطرة يمنته وقرأ عليهم كتاب مولانا المنصور ذي اللواء المنشور والسيف المشهور أمير المؤمنين مولانا عبد الرحمن ابن مولانا هشام أدام الله رعيه وجعل فيما يرضيه سعيه بمحضر خليفته الطالب الأرشد الماجد الأسعد القائد السيد إدريس الجواري وتلقوه بالإجلال والتعظيم والتبجيل والتكريم أشهدوا على أنفسهم أنهم عقدوا البيعة لمولانا الإمام أيده الله وأدام عزه وعلاه والتزموها بالسمع والطاعة وفي جيدهم انتظموها بيعة تامة مستوفية الشروط وافية العهود وثيقة الربوط قبلها الكل وارتضاها وأوجب العمل بمقتضاها فمن سمع ما ذكر ممن ذكر قيده في مهل جمادى الثانية عام ستة وأربعين ومائتين وألف وبعده علامة العدلين المتلقيين من رؤساء القبائل المذكورة فهولاء الذين بايعوا ومن لم يكن بايع بعد فهم الذين خرج القائد إدريس المذكور لأخذ البيعة عليهم كما قلنا
والحاصل أن السلطان رحمه الله كان قد اعتنى بأمر هذه الناحية غاية الاعتناء وبذل المجهود في إمدادها بالعدد والعدد والمال مرة بعد أخرى وبعث الشريف البركة سيدي الحاج العربي بن علي الوزاني إلى أهل تلك البلاد يدعوهم إلى الطاعة ويحضهم على الدخول في أمر الجماعة لكونهم كان لهم فيه وفي سلفه اعتقاد كبير وبعث الشريف الأخير أبا محمد عبد
____________________


السلام البوعناني فولاه خطة الحسبة بتلمسان وبعث من الكسي والرايات والأعلام والمدافع والمهاريس والبارود والرصاص شيئا كثيرا لكن لم يكن إلا ما أراده الله تعالى فافترقت كلمة العرب الذين هنالك لضعف إيمانهم وقلة همتهم فجلهم مال إلى الدخول في حزب النصارى عندما استولوا على مدينة وهران في هذه الأيام ثم سرى ذلك الاختلاف في قواد جيش السلطان فتنافسوا وتحاسدوا وكثر القيل والقال منهم على السلطان ثم ختموا عملهم بانتهاب أثاث الكرغلية وتقاعدهم عليه ثم بانتهاب مال الزمالة والدوائر وماشيتهم في جوار الشريف سيدي الحاج العربي بن علي الوزاني وفسد العمل وخاب الأمل فحينئذ رأى السلطان رحمه الله استرجاع تلك الجيوش التي لم يبق طمع في صلاحها بعد أن أمر بالقبض على القائد إدريس لكونه سعى به عنده وأنه شارك في نهب الكرغلية والزمالة والدوائر وتقاعد على النفيس من أثاثهم فرجعت الحلة وكان رجوعها في آخر رمضان من السنة المذكورة وفي هذه السنة منتصف جمادى الثانية منها حدثت زلزلة بقرية من قرى تلمسان تسمى البليدة فجعلت عاليها سافلها وهلك أهلها والأمر لله كيف شاء فعل خروج جيش الودايا على السلطان المولى عبد الرحمن والسبب في ذلك
كان خروج جيش الودايا على السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله في المحرم فاتح سنة سبع وأربعين ومائتين وألف وكان السبب في ذلك أن الطاهر بن مسعود المغفري الحساني والحاج محمد بن الطاهر الغفري العقيلي والحاج محمد بن فرحون الجراري كانوا من كبار قواد هذا الجيش وأعيانه وكان السلطان رحمه الله يبعثهم في المهمات ويستكفي بهم في الأقطار النائية والجهات وكانوا هم يظهرون للسلطان الطاعة وهم في الباطن منحرفون عنه بسبب أن الدالة التي كانوا يدلون بها على السلطان المولى
____________________


سليمان رحمه الله انقطعت عنهم مع السلطان المولى عبد الرحمن وزالت من أيديهم فكانوا يمرضون في الطاعة بعض الأحيان والسلطان يطويهم على غرهم ويلبسهم على عرهم إلى أن كان البعث إلى تلمسان فوجههم إليه فيمن وجه من أعيان الجيش ورؤسائه فكانت قوارصهم لا تنقطع عن الدولة وشغبهم لا يفتر من التطاول والصولة ثم كان نهب الزمالة والدوائر فأبدؤوا في ذلك وأعادوا وشايعهم على فعلهم القائد أحمد بن المحجوب البخاري وأظهروا عدم المبالاة بالسلطان وخليفته وعامله وكانت بينهم وبين القائد إدريس الجراري منافسة باطنية فخاف من الاعتراض عليهم فيما ارتكبوه من النهب أن يسدوا برأسه هذا الخرق فأسعفهم وانتهب معهم وكان ما قدمناه من استرجاع السلطان لذلك الجيش وبعث من قبض على القائد إدريس بوجدة وجيء به إلى تازا فسجن بها ولما وصل جيش تلمسان إلى عنق الجمل قرب فاس خرج إليهم القائد الطيب الوديني البخاري وكان واليا على فاس فقيل أراد أن يقبض عليهم بإذن من السلطان وقيل أراد أن يحوز منهم أرحلهم وحقائبهم التي ملؤوها من النهب وكان الودايا والعبيد لما فعلوا فعلتهم تحالفوا وتعاهدوا على أن يكونوا يدا واحدا على من أرادهم بسوء كائنا من كان فلما خرج إليهم الطيب الوديني تجهموه وهموا به فرجع أدراجه وأنهى ذلك إلى السلطان فأغضى عنهم ثم بعد أيام عزم السلطان على القبض على الحاج محمد بن الطاهر العقيلي فأحس هو بذلك فذهب إلى الطاهر بن مسعود وتطارح عليه وقال له إني مقبوض لا محالة فإن ولاك السلطان من أمري شيئا فأحسن ولا تؤاخذني بما كان مني إليك وقد كان الطاهر بن مسعود قبل هذه المدة عاملا بتارودانت فعزله السلطان بابن الطاهر فأساء إليه فلهذا قال له ما قال فقال الطاهر بن مسعود وأنت مقبوض قال نعم قال علي وعلي لا جرى عليك أمر تكرهه ما دمت حيا ثم إن السلطان أحضر الحاج محمد بن الطاهر وأحمد بن المحجوب فقرعهما وأمر بالقبض عليهما فقبض أعوان الودايا على أخيهم وقبض أعوان العبيد على أخيهم وخرجوا بهما إلى السجن مع العشي وكان الطاهر بن مسعود قد
____________________


ترصد بباب دار السلطان للحاج محمد بن الطاهر ليفتكه وصاحبه فلما خرجا قام الطاهر بن مسعود إلى الأعوان فراودهم على إطلاق المسجونين فأبوا وقالوا إنهما مسجونان عن أمر السلطان فتصامم عن ذلك واستل خنجره وضرب إدريس البواب الوديي على ترقوته فخدشه وانتزع منه المسجون وتقدم لافتكاك أحمد بن المحجوب فأبى وانتهره وقال لا أخالف أمر السلطان وكان الودايا يظنون قيام العبيد معهم لحلفهم السابق فخذل الله فيما بينهم ثم أسرع الطاهر وابن الطاهر إلى فرسيهما فركباهما ونجوا إلى ناحية دار الدبيبغ وثارت المغافرة بباب دار السلطان وحملوا السلاح وأخرجوا البارود والرصاص وقامت شيعة السلطان لمدافعتهم فكثرهم الودايا وهزموهم حتى أغلقوا عليهم باب المشور وسأل السلطان عن الهيعة فأعلم بالخبر وكان معه الحسن بن حمو واعزيز فقال له يا مولانا إن هؤلاء ما جسروا على هذا الفعل ببابك حتى عزموا على ما هو أكثر فدعا السلطان بفرسه وركبه مع الغروب وخرج من باب البجاة ومعه ابن واعزيز وبعض أصحابه خيلا ورجلا ولما علم الودايا بخروج السلطان ركبوا بقضهم وقضيضهم من فاس الجديد ومن قصبة شراقة فأدركوا السلطان عند قنطرة عياد فنزلوا إلى الأرض يقبلون حوافر فرسه ويتشفعون له ويتبرؤون من فعل أولئك السفهاء وكان الحال إذ ذاك حال مطر خفيف والشمس قد غربت أو كادت تغرب فساعدهم رحمه الله على الرجوع وأشار عليه الحاج محمد بن فرحون بأن يذهب معه إلى قصبة شراقة وكانت يومئذ لأهل السوس فذهب معه إلى داره من غير أن يطمئن إليه ولكن ذلك الذي اقتضاه الحال في تلك الساعة ولما استقر بدار ابن فرحون اجتمع عليه المغافرة والودايا وأهل السوس وأساء عليه المغافرة الأدب بل عزموا على الفتك به ولكن الله تعالى وقاه شرهم فاختلفت كلمتهم وتذامر أهل السوس فيما بينهم وقالوا لا يبيتن السلطان الليلة إلا بداره واستنهضوه فنهض رحمه الله وركب فرسه وصحبوه إلى داره في ذلك الليل فاستقر بها وبعد ذلك بأيام انتقل السلطان إلى بستان أبي الجلود خارج فاس الجديد على حين غفلة من الودايا وانحاز
____________________


شيعة السلطان إليه من العبيد وغيرهم ونزل جلهم بفاس القديم وبقي الودايا وحدهم بفاس الجديد ثم استدعى السلطان عبيد مكناسة فقدموا عليه ولما علم الودايا بعزم السلطان على الخروج من بين أظهرهم ساءهم ذلك وعلموا أنه إن خرج من بين أظهرهم لا يتركهم حتى يوقع بهم فراودوه على المقام وتنصلوا وأظهروا التوبة وتقدم سفهاؤهم إلى العبيد فأنشبوا معهم الحرب وهلك من الفريقين عدد ثم تدارك السلطان أمرهم وتلطف وطيب أنفسهم وأجمع على الخروج إلى مكناسة فخرج بثقله وأثاثه وأمواله وسلك طريق قبقب وعقبة المساجين كأنه يريد بلاد الغرب وخرج لتشييعه جماعة وافرة من أعيان الودايا ثم أنهم ندموا ونكسوا على رؤوسهم وربما سمعوا من العبيد بعض كلام فحميت أنوفهم وتحزبوا وأوقعوا بالعبيد فانهزموا عن السلطان وانتهب الودايا خيرته وأثاثه وقام عقالهم دون العيال حتى ردوه إلى الدار محفوظا مصونا ولم يفعلوا أحسن منها وأما المال والأثاث فقد أتى عليه النهب وكان شيئا كثيرا وتقدم السلطان رحمه الله لطيته وتبعه سفيه من سفهاء الودايا كان أراد الفتك فيه فحماه الله منه ووصل السلطان رحمه الله إلى مكناسة فاستقر بها واتصل خبر هذه الفتنة بالقائد إدريس بن حمان الجراري وهو مسجون بتازا فاحتال على سراح نفسه بأن افتعل كتابا على لسان السلطان وبعث به إلى عامل تازا فسرحه وكان السلطان رحمه الله قد بعث إلى القائد إدريس المذكور وهو بتلمسان أربع ورقات مختوما عليها بالخاتم السلطاني الكبير وأمره السلطان رحمه الله أن يحتفظ بتلك الورقات ولا يستعمل واحدة منهن إلا في أهم المهمات مما يتوقف عليه غرض السلطان والدولة ولا تمكن مشاورته فيه لبعد المسافة بين فاس وتلمسان فعمد القائد إدريس إلى واحدة من تلك الورقات فكتب فيها بتسريحه فسرح وجاء يجد السير إلى فاس وبنفس وصوله كتب إلى السلطان يعلمه بما صنع وأنه لا زال على ما يعهد مولانا من بذل النصح والسعي في صلاح السلطان والجيش فأجابه السلطان رحمه الله بما نصه
وبعد فقد وصلنا كتابك وعرفنا ما فيه والحمد لله على سلامتك وما
____________________


وجهنا لك إلا بقصد أن نسرحك لأننا تحققنا أنك كنت مغلوبا عليك فلا عهدة عليك بل من تمام عقلك مساعدتك لمن نهب ولو منعتهم من ذلك لتفاقم الأمر هنالك وأنت عليك الأمان ظاهرا وباطنا في الحال والاستقبال فلا تخش من شيء أبدا فإنك ممن نتهمه بالدين والعقل والصدق وقد عاينت وسمعت ما صدر من إخواننا من النزعة الشيطانية ولا ينبغي أن نقابلهم بمثل ما قابلنا به من لاعقل له منهم وإن قابلناهم به لا نلتقي أبدا وأنت اسع في الخير والصلاح ما أمكنك وتحمل لهم عنا بالأمن من كل ما يخافونه من جانبنا فجسارتهم أولى من صلاح القبائل فقف على ساق الجد لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير مما طلعت عليه الشمس والسلام في السابع عشر من المحرم فاتح عام سبعة وأربعين ومائتين وألف انتهى لفظ الكتاب الشريف
ثم إن القائد إدريس أحسن القيام على عيال السلطان الذين بقوا بفاس الجديد وكان فيهم حظيته المولاة فاطمة بنت المولى سليمان وتقدم القائد إدريس إلى أمين الصائر من قبل وقال له ما كنت تدفع إلى دار السلطان كل يوم من دقيق ولحم وإدام وغير ذلك فاكتب لي بقدره وابعث إلى به فأحصاه الأمين المذكور وبعث إليه به فصار يبعث بذلك القدر إلى دار السلطان كل يوم وانقطع الماء ذات يوم عن دار السلطان فكان القائد إدريس يحمل قرب الماء إليها كل يوم وأصلح القنوات وجد في ذلك حتى رجع الماء إلى مجراه ثم إن السلطان رحمه الله استنفر قبائل الغرب كلها حوزا وغربا وثغورا فقدموا مكناسة على بكرة أبيهم وسمع الودايا بذلك فاستدعوا الشريف سيدي محمد بن الطيب من بعض الأعمال والتفوا عليه وبايعوه فحينئذ تبرأت منهم القبائل التي كانت تعدهم بالقيام معهم من مجاوريهم لأن سيدي محمد بن الطيب كانت قبائل المغرب قد تناذرته منذ أيام ولايته على تامسنا ودكالة وفعله بأهلها الأفاعيل فكان مبغضا عند العامة وزحف السلطان إلى فاس الجديد فحاصرهم بها ونصب عليهم المدافع والمهاريس وتعاقب عليهم الرمي بها من محلة السلطان بعين قادوس ومن بستيون أبي الجلود وبستيون
____________________


باب الجيسة وبستيون باب الفتوح ودام الحصار أربعين يوما والحرب لا تنقطع في كل وقت وكان الودايا يرمون أيضا بالكور والبنب وابلى بنوحسن في تلك الأيام البلاء الحسن ثم إن السلطان عزم على البناء عليهم وجلب اللواحين فشرعوا في العمل وسئم الودايا الحرب وملوها فأذعنوا إلى الصلح وسعى في الوساطة بينهم وبين السلطان الأمين الحاج الطالب ابن جلون الفاسي فأمنهم السلطان على شرط الخروج من فاس الجديد فأذعنوا ثم بعثوا شفاعاتهم بالمشايخ والصبيان والألواح على رؤوسها ومعهم سلطانهم ابن الطيب فسامح رحمه الله الجميع وقال لهم في جملة ما قال الحمد لله إذ لم أغلبكم ولم تغلبوني لأني لو غلبتكم لذبحت هذه الجيوش أولادكم ولم أقدر أن أردها عنكم ولو غلبتموني لفعلتم كل ما تقدرون عليه فهذا من لطف الله بي وبكم
قلت وهذا كلام دال على وفور عقل السلطان رحمه الله وكمال شفقته ورحمته ثم لما عزم السلطان على النهوض إلى مكناسة ولى على جيش الودايا كله القائد إدريس بن حمان الجراري وذلك في الحادي والعشرين من جمادى الثانية سنة سبع وأربعين ومائتين وألف ثم نهض إلى مكناسة فاحتل بها ولما حضر عيد الفطر قدمت الوفود على السلطان بمكناسة واستقامت الأحوال وكتب رحمه الله إلى القائد إدريس أن يحضر العيد في جماعة وافرة من إخوانه نحو الخمسمائة فحضروا ودخلوا على السلطان ذات عشية بالمشور فوبخهم حتى ظن الناس أنه يقبض عليهم ثم سرحهم فعادوا إلى فاس الجديد ولما عزم السلطان رحمه الله على النهوض إلى مراكش قدم أولا فاسا ونزل خارج البلد ونظر في شأنه وشأن الجيش والرعية ثم ارتحل يريد مراكش فلما انفصل عن فاس بيوم أو يومين كتب إلى القائد إدريس يأمره أن يبعث إليه بالطاهر بن مسعود والحاج محمد بن الطاهر يذهبان معه إلى مراكش بقصد الخدمة بها مع ولده وخليفته سيدي محمد بن عبد الرحمن فذهبا على فرسيهما مسرحين إلا أنهما كانا حذرين من السلطان لما قدما من الفعل الشنيع الذي كان سبب هذه الفتنة العظيمة فقدما مراكش وترتبا في
____________________


الخدمة مع الخليفة المذكور وانسلخت هذه السنة وفيها عزل السلطان وزيره الفقيه أبا عبد الله محمد بن إدريس وامتحنه وبقي عاطلا مدة ثم رده إلى خطته وكان السلطان في مدة تأخيره إياه قد استوزر مكانه الفقيه العلامة الأديب السيد المختار بن عبد الملك الجامعي فقام بأعباء الخطة وبرز فيها رحمه الله وفيها بنى السلطان رحمه الله المارستان الكبير على ضريح ولي الله تعالى أبي العباس أحمد بن عاشر بسلا وكان على ضريح الولي المذكور القبة والمسجد فقط فأدار السلطان رحمه الله على ذلك كله مارستانا كبيرا وبنى به مسجدا آخر وبيوتا للمرضى تنيف على العشرين وأجرى إليه الماء وجعل ميضأة بإزاء المسجد للرجال وأخرى شرقيها للنساء فجاء ذلك من أحسن الأعمال وكتب الله أجره في صحيفة السلطان
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف ففي صفر منها ورد على القائد إدريس كتاب من عند السلطان وهو يومئذ لا زال برباط الفتح يأمره أن يبعث إليه بالحاج محمد بن فرحون الجراري فوصل إليه مسرحا فقبض عليه وبعثه إلى الصويرة وبإثر ذلك ورد على السلطان كتاب من عند ولده سيدي محمد يعلمه بأنه قبض على الطاهر بن مسعود والحاج محمد بن الطاهر لكونهما لم يقلعا عن ضلالهما وشيطنتهما حتى أنهما عزما على اغتياله بمصلى عيد الأضحى من السنة الفارطة فحماه الله منهما ولما وصل السلطان إلى مراكش صار يكتب إلى القائد إدريس برؤوس الفتنة والقبض عليهم واحدا بعد واحد إلى أن استوفى جلهم وكان القائد إدريس في هذه المدة قد أحس بأن باطن السلطان لا زال متغيرا على الودايا فألح عليه في البحث والاستكشاف عما هو مضمره لهم وما يريد بهم وما الذي يجلب رضاه عنهم ويصفي باطنه عليهم فكتب إليه السلطان رحمه الله كتابا أفصح فيه عن مراده يقول فيه بعد الافتتاح والطابع الشريف بينه وبين الخطاب ما نصه خالنا الأرضى القائد إدريس الجراري سلام عليك ورحمة الله تعالى وبعد فاعلم بأنك طلبت منا مشافهة وكتابة أن نعرب لك عن مرادنا
____________________


ونطالعك بغاية قصدنا وأمنيتنا في الجيش وما يجلب رضانا عنهم وكنا نجيبك عن ذلك جوابا إقناعيا لعدم وثوقنا وقتئذ بصدق لهجتك وكان يخيل لنا أنك تباحثنا على جهة الاطلاع على خبيئة أمرنا والآن اتضح ما أنت عليه من الصدق ووفور المحبة وخلوص النية حتى صرت به كأحد أولادنا
( وليس يصح في الأذهان شيء ** إذا احتاج النهار إلى دليل )
وعليه فأنت أولى من نبثه سرنا ولا ندخر عنه شيئا من دخيلة أمرنا فاعلم أرشدك الله أن من بارزنا بالسوء قولا وفعلا من ذلك الجيش هم المغافرة كافة واستوى في ذلك كبيرهم وصغيرهم قويهم وضعيفهم ولم يلف منهم رجل رشيد ولو ساعدهم الودايا وأهل السوس وخلوا بينهم وبين هواهم لكان ما أرادوه من تلف مهجتنا ولكن الله سلم ولا يخفى على أحد ما استوجبوه لذلك شرعا وطبعا ولسالف خدمتهم وكظم الغيظ المرغب فيه ارتكبنا في جانبهم أخف ما أوجبه الله تعالى على أمثالهم قال جل علاه { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا } المائدة 33 الآية وقد آليت على نفسي وأشهدت الله وملائكته أن لا يضمني سور فاس الجديد والمغافرة به فهذا هو محض الصدق والآن بين لنا كيف يكون العمل في ذلك وما نقدم وما نؤخر لأن المراد قضاء الغرض من غير مشقة ولا فضيحة للجيش وهل تفشي هذا أو تكتمه وعلى تقدير امتثالهم عين لنا أي محل ينتقلون إليه من ثغور إيالتنا كالرباط وغيره أو قصبة مراكش فإن النفس لم تسمح بهم بالكلية بل المراد زجرهم وإقامة بعض حق الله فيهم ويحصل لنا الاطمئنان والسكينة ونبر قسمنا فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين وما ذكرت من أنا عاهدناك ووعدناك بالإحسان والتنويه بشأنك فإنه وعد صدق لا مرية فيه إن شاء الله وكيف وقد استوجبت منا كل جميل وقدمك لمعالي الأمور عقلك وصدقك ولو ألفينا في الجيش مثلك لضممنا عليه البراجم والرواجب وفعلنا في جانبه ما هو الواجب وقد اقتصرت حيث طلبت أن تكون بمنزلة القائد قدور بن الخضر عند سيدي الكبير رحمهما الله فأنت
____________________


عندنا بمنزلة أعظم من منزلته واليد التي اتخذت عندنا أعظم مما اتخذ هو عند سيدي الكبير قدس الله سره فقد جازاه على الصدق فقط أما أنت فقد شاركته في هذه المرتبة وفقته بما هو أعظم وهو إحسانك لعيالنا وأولادنا ولولا أنت لهلكوا جوعا فلا يكفر هذه الضيعة إلا لئيم وحاشانا الله من ذلك فطب نفسا وقر عينا فلك عندنا من المكانة والخطوة مالو اطلعت على حقيقته لطربت سرورا ونشاطا وسترى إذا انجلى الغبار ولا زال أهلنا يتذكرون إحسانك إليهم بحضرتنا ويلتمسون لك الدعاء الصالح من جانبنا وفي الحديث ما معناه أن أمرأة من بني اسرائيل أبصرت كلبا يلعق الحمئة من شدة العطش فسقته فغفر الله لها فكيف بمن أسدى معروفا لجماعة انقطع رجاؤهم إلا من الله والله لن يخزيك الله أبدا والسلام في ثامن عشر رمضان المعظم عام ثمانية وأربعين ومائتين وألف اه نص الكتاب ثم إن الله تعالى هيأ للسلطان أمره في الودايا وألهمه رشده فيهم فأمر أولا بنقل رحى المغافرة إلى قصبة الشرادي من أعمال مراكش وظن الناس أنه يقتصر على ذلك لأنه رحمه الله لم يكن يظهر إلا أنه يريد نقل المغافرة فقط ثم نقل رحى الودايا إلى العرائش وأحوازها ثم ردهم إلى جبل سلفات ثم بعد ذلك بمدة يسيرة نقل رحى أهل السوس إلى رباط الفتح فأنزل حلتهم بالمنصورية على شاطىء وادي النفيفيخ وقوادهم ووجوههم بقصبة رباط الفتح ثم رد الحلة بعد مضي ست سنين إلى قصبة تمارة قرب رباط الفتح وكانت متلاشية فأمر السلطان بعد سنتين أو ثلاث بترميمها وإصلاحها وكان رحمه الله قد أسقط هذا الجند الوديي من الجندية وأعرض عنه بالكلية سنين ثم استردهم في حدود الستين كما سيأتي ولما أخلى السلطان فاسا الجديد من جيش الودايا بأسره وكان بمراكش بعث بالطاهر بن مسعود وبالحاج محمد بن الطاهر فسجنا به مدة ثم قدمت عريفة الدار الحاجة زويدة بكتاب من عند السلطان على ولده سيدي محمد بفاس يتضمن الأمر بقتل الطاهر وابن الطاهر بالمحل الذي افتك فيه الأول الثاني فأخرجا إلى المحل المذكور وحضر
____________________


الوصيف القائد فرجى وقدم الطاهر بن مسعود فأخرجت فيه عمارة وحز رأسه ثم قدم الحاج محمد بن الطاهر ففعل به مثل صاحبه فيقال إنه زهقت نفسه قبل القتل لأنه لم يسل منه دم وأما الطاهر بن مسعود فسال منه دم كثير وأمر سيدي محمد ولد السلطان بمواراته فووري وأما ابن الطاهر فإنه رمي على المزبلة ووكل به الحرس إلى أن أكلته الكلاب ولم يبق إلا رجلاه بالقيد وكان ذلك في حدود خمسين ومائتين وألف وأما ابن فرحون وأصحابه فإنهم استمروا في سجن الجزيرة إلى أن هلكوا
واعلم أن هذه الوقعة الهائلة دالة على كمال عقل السلطان ووفور حلمه وفضله حتى أنه ما عامل هؤلاء القوم الذين آذوه أشد الإذاية إلا ببعض البعض مما استوجبوه كما قال وكما رأيت وعلمت ونسأله سبحانه وتعالى أن يتغمدنا والمسلمين برحمته ويقينا وإياهم مصارع السوء وينيلنا الأمن في الدنيا والفوز في الآخرة بجنته إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير ظهور الحاج عبد القادر بن محيي الدين المختار بالمغرب الأوسط وبعض أخباره
لما رجع جيش السلطان من تلمسان مع المولى على بن سليمان حسبما مر بقي أهل تلمسان فوضى ورجعت الحرب بين الحضر من أهلها والكرغلية جذعة وهاجت الفتن بين قبائل العرب الذين هنالك واختلط الحابل بالنابل وكان الفقيه المرابط محيي الدين عبد القادر المختاري نسبة إلى أحد أجداده المشهورين بتلك الناحية نازلا وسط حلة الحشم عند المشاشيل منهم وكان متظاهرا بالخير وتدريس العلم واتخذ زاوية لطلبة العلم وقراء القرآن فاشتهر عند أولئك القبائل واعتقدوه فلما دهم العدو أهل تلك البلاد وجاشت فيما بينهم الفتن اجتمع الحشم وبعض بني عامر وتفاوضوا فيما نزل بهم فأجمع رأيهم على بيعة الشيخ محيي الدين المذكور فذهبوا إليه
____________________


وعرضوا عليه ما في أنفسهم فتجافى عن منصب الرياسة وأظهر الورع واعتذر بأنه قد شاخ وذهب منه الأطيبان وإنما هو هامة اليوم أو غد فسدكوا به وتطارحوا عليه فأشار عليهم بولده الحاج عبد القادر بن محيي الدين وكان له يومئذ عدة أولاد ليس الحاج عبد القادر أكبرهم ولا أعلمهم ولا أصلحهم وإنما كان فيه مضاء وإقدام فأسعفوه بشرط أن يكون نظره منسحبا عليه ومشيرا بما تدعو الضرورة إليه ولما تم أمر الحاج عبد القادر جمع كتيبة من بني عامر والحشم وزحف إلى وهران وكانت يومئذ في ملكة النصارى قد استولوا عليها منذ ستة أشهر أو سبعة فأوقع بهم وقعة شنعاء قتل فيها وأسر وأبلغ في النكاية ورجع مظفرا منصورا فتيمنوا به وأحبوه وتمكن منهم ناموسه واتخذ عسكرا من الحشم وبني عامر لا بأس به ولما سمع به أهل تلمسان وهم أحوج ما كانوا إلى من يقوم بأمرهم وفدوا عليه وأخبروه بما كان منهم من مبايعة السلطان المولى عبد الرحمن صاحب مراكش وفاس وأنهم يبايعونه على بيعته والإعلان بدعوته فأجابهم الحاج عبد القادر إلى ذلك وأخذ عليهم البيعة وأظهر الطاعة والانقياد للسلطان المولى عبد الرحمن وخطب به على منابر تلمسان وغيرها وولى على تلمسان وأعمالها وزيره أبا عبد الله محمد البوحميدي الولهاصي وكتب إلى السلطان يعلمه بأنه بعض خدمه وقائد من قواد جنده واستقام أمر الحاج عبد القادر وثبتت قدمه في تلك الإيالة التلمسانية ثم إن قبيلتي الزمالة والدوائر الذين قدمنا ذكرهم انحرفوا عن الحاج عبد القادر لأسباب منها أنهم كانوا معادين للحشم ولما قرب الحاج عبد القادر الحشم وجعلهم جنده ازدادت عداوتهم ونفرتهم عن الحاج عبد القادر وساروا إلى وهران وأعلنوا بدعوة الفرنسيس فقبلهم وحماهم وحدثت بينه وبين الحاج عبد القادر بسببهم حروب صعبة
حدثني الأمين السيد الحاج عبد الكريم ابن الحاج أحمد الرزيني التطاوني قال ذهبت سنة سبع وأربعين ومائتين وألف إلى مدينة وهران بقصد التجارة بها وذلك عقب استيلاء الفرنسيس عليها قال وكنت يومئذ في سن
____________________


الشباب حين بقل عذاري فأقمت بها مدة وكان الحاج عبد القادر بن محيي الدين إذ ذاك مهادنا لكبير الفرنسيس بوهران والجزائر قد أنزل كل واحد منهما ببلد الآخر قنصله وتجاره على العادة في ذلك أيام الهدنة فلما كان ذات يوم ورد الخبر بأن قبيلتي الزمالة والدوائر من إيالة الحاج عبد القادر وهم نحو الألفين كانوا قد فروا منه ونزلوا حول مدينة وهران مستجيرين بالفرنسيس وقد رفعوا سنجقة وأعلنوا بأنهم تحت حكمه ومن جملة رعيته فبعث إليهم الفرنسيس يعلمهم بأنه قد قبلهم ولا يصيبهم مكروه فلما كان من الغد بعث الحاج عبد القادر مع كبير دولته الحاج الحبيب ولد المهر المعسكري كتابا إلى الفرنسيس يقول فيه إنك قد علمت أن هؤلاء القوم الذين فروا إليك هم رعيتي ومن إيالتي وعليه فلا بد أن تردهم علي وإلا فالحرب بيني وبينك فامتنع الفرنسيس من ردهم وأجاب إلى الحرب واتفقوا أن يخرج كل منهما إلى الآخر تجاره الذين في أرضه وأن من بقي منهم بعد ثلاث فهو هدر واتفقوا أيضا على أن يكون القنصلان آخر من يخرج وأن يكون خروجهما في ساعة معلومة من الليل بحيث يلتقيان على المحدة التي بين أرض المسلمين وأرض النصارى ففعلوا وخلص كل إلى مأمنه
ولما انقضى الأجل تزاحفوا للقتال في يوم معلوم فكانت بينهم حرب يشيب لها الوليد ولما كان عشي النهار سمع الناس من داخل البلد ضوضاء وجلبة عظيمة وبارودا كثيرا وإذا بالحاج عبد القادر هزم الكفار هزيمة شنعاء حتى ألجأهم إلى سور البلد وازدحموا على أبوابه وركب بعضهم بعضا وجاءت خيالتهم من خلفهم فركبوهم أيضا ومشوا عليهم ورفسوهم بخيلهم فهلك بهذا الازدحام من الفرنسيس نحو أربعة آلاف دون الذين هلكوا خارج البلد بالكور والرصاص والتوافل والرماح واستولى المسلمون على معسكر النصارى بما فيه من مدافع وعجلات وفساطيط وأخبية وأثاث وكانت فتكة بكرا قال الحاج عبد الكريم المذكور وكنت في تلك المدة مساكنا لبعض كبراء عسكر الفرنسيس في دار واحدة فلما انقضت الوقعة بيوم أو يومين سألته كم تراه يكون هلك من عسكر الفرنسيس في هذه الوقعة قال أقرب لك أم
____________________


أبعد قلت بل أقرب قال أنا كبير من كبراء العسكر وتحت نظري ثمان عشرة مائة بقي منها في هذه الوقعة ثمانية عشر عسكريا انتهى كلام هذا المخبر
ثم إن الزمالة والدوائر لجوا في موالاة الفرنسيس وأحكموا أمرهم معه وولوا عليهم رجلا منهم يقال له المصطفى بن إسماعيل كان هو السبب الأكبر في تملك الفرنسيس بلاد المغرب الأوسط وجل الحروب التي كانت تكون بين المسلمين والنصارى في تلك المدة على يده إلى أن قتل منتصف سنة تسع وخمسين ومائتين وألف ضاعف الله عليه غضبه ونقمته ولما اتصل بالسلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله ما عليه الحاج عبد القادر من جهاد عدو الدين وحماية بيضة المسلمين أعجبه حاله وحسنت منزلته عنده لأنه رأى أنه قد قام بنصرة الإسلام على حين لا ناصر له فصار السلطان رحمه الله يمده بالخيل والسلاح والمال المرة بعد المرة على يد الأمين الحاج الطالب بن جلون الفاسي وغيره وطالت الحرب بينه وبين الفرنسيس واستولى الفرنسيس في بعض الكرات على تلمسان وضايقه الحاج عبد القادر فيها حتى أخرجه منها ثم استردها الفرنسيس بعد معارك شديدة ومواقف صعبة إلا أن ضرر الحاج عبد القادر للفرنسيس كان مقصورا على قتل النفوس واستلاب الأموال وأما الفرنسيس فكان ضرره بالمسلمين عائدا على تملك بلادهم وتنقصها من أطرافها ودام ذلك مدة من ست عشرة سنة
وبالجملة فلقد كان الحاج عبد القادر هذا في أول أمره على ما ينبغي من المثابرة على الجهاد والدرء في نحر العدو ولولا أنه انعكس حاله في آخر الأمر وخلصت الأرض للفرنسيس والله غالب على أمره
وفي سنة خمسين ومائتين وألف ولد مؤلف هذا الكتاب أحمد بن خالد الناصري السلاوي أخبرتني والدتي الست فاطمة بنت الفقيه السيد محمد بن محمد بن قاسم بن زروق الحسني الإدريسي الجباري أني ولدت بعد طلوع الفجر صبيحة يوم السبت الثاني والعشرين من ذي الحجة من السنة
____________________


المذكورة وفي محرم فاتح سنة إحدى وخمسين ومائتين وألف توفي الوزير الشهير السيد المختار بن عبد الملك الجامعي بمراكش واستوزر السلطان بعده الفقيه أبا عبد الله محمد بن علي الحاجي النكنافي مدة يسيرة ثم أخره ورد وزيره الأقدم أبا عبد الله محمد بن إدريس رحم الله الجميع وفي هذه السنة كان الوباء بالمغرب بالإسهال والقيء وغور العينين وبرودة الأطراف
وفي سنة اثنتين وخمسين ومائتين وألف ورد سؤال من عند الحاج عبد القادر بن محيي الدين إلى علماء فاس يقول فيه ما نصه
الحمد لله سادتنا الأعلام أئمة الهدى ومصابيح الظلام فقهاء الحضرة الإدريسية ومرمى المطالب ومحط الرحال العيسية أطباء أدواء الدين ومحقين حقه ومبطلين باطله ومنتجين قضاياه المتخيلة عقيمة وباطلة جوابكم أبقاكم الله فيما عظم به الخطب واشتد به الكرب بوطن الجزائر الذي صار لغربال الكفار جزائر وذلك أن العدو الكافر يحاول ملك المسلمين مع استرقاقهم بالسيف وتارة بحيل سياسته ومن المسلمين من يداخلهم ويبايعهم ويجلب الخيل إليهم ولا يخلو من دلالتهم على عورات المسلمين ويطالعهم ومن أحياء العرب المجاورين لهم من يفعل ذلك ويتمالؤون على الجحود والإنكار فإذا طلبوا بتعيينه جعجعوا والحال أنهم يعلمون منهم الأعين والآثار فما حكم الله في الفريقين في أنفسهم وأموالهم فهل لهم من عقاب أم يتركون على حالهم وما الحكم فيمن يتخلف عن المدافعة عن الحريم والأولاد إذا استنفره نائب الإمام للدفاع والجلاد فهل يعاقبون وكيف عقابهم ولا يتأتى بغير قتالهم وهل تؤخذ أموالهم وأسلابهم كيف العمل فيمن يمنع الزكاة أو يمنع بعضها من التحقق بعمارة ذمته في الحال فهل يصدق مع قلة الدين في هذا الزمان أم يكون للاجتهاد فيه مجال ومن أين يرزق الجيش المدافع عن المسلمين الساد ثغورهم عن المغيرين ولا بيت مال وما يجمع من الزكاة لا يفي بشبعهم فضلا
____________________


عن كسوتهم وسلاحهم وخيلهم ومؤنتهم وزيهم فهل تترك فيستبيح الكافر الوطن أم يكون ما يلزمهم على جماعة المسلمين وإذا كان فهل على العموم أم على الأغنياء فقط ولا يمكن اختصاص الأغنياء لجفوة الأعراب وجهلهم وهل يعد مانع المعونة باغيا أم لا وما حكم أموال البغاة وهل القول بعدم ردها يجوز العمل به أم لا أجيبوا عما ذكرنا وعما يناسب المقام والحال مما لم يحضرنا داووا عللنا أبقاكم الله فقد ضاق من هذه الأمور الذرع وكاد القائم بأمر المسلمين لضيق الأسباب أن يتخلى عن الأمر ويطرح ثوب الإمارة والدرع مأجورين والسلام في تاسع عشر من ذي الحجة من السنة المذكورة صدره عن إذن الحاج عبد القادر بن محيي الدين لطف الله به
وقد أجاب عن هذا السؤال بإشارة السلطان الفقيه العلامة أبو الحسن علي بن عبد السلام مديدش التسولي بجواب طويل يشتمل على خمس كراريس وزيادة وهو موجود بأيدي الناس ولأجل ما كان يصل من هذه الأمور من جانب الحاج عبد القادر كان السلطان رحمه الله يبذل مجهوده في إمداده بالخيل والسلاح والمال وغير ذلك ثم لم يكن إلا ما أراده الله
وفي سنة ثلاث وخمسين ومائتين وألف بعد ظهر يوم السبت العشرين من ربيع الأول منها توفي الفقيه العلامة المتفنن المحدث أبو العباس أحمد بن الحاج المكي السدراتي السلاوي ودفن صبيحة يوم الأحد في الجبانة التي قرب ضريح ولي الله تعالى سيدي الحاج أحمد بن عاشر وشهد جنازته خلق كثير وأمهم الفقيه العلامة القاضي أبو عبد الله محمد الهاشمي طوبى وللفقيه أبي العباس المذكور شرح حفيل على موطأ الإمام مالك رضي الله عنه وهو موجود بأيدي الناس
وفي سنة أربع وخمسين بعدها وذلك صبيحة يوم الجمعة السادس والعشرين من رمضان منها توفي الفقيه العلامة القاضي أبو عبد الله طوبى المذكور آنفا وكان رحمه الله من قضاة العدل وأهل العلم بالنوازل والأحكام محمود السيرة ذا سكينة ووقار
____________________


وفي سنة ست وخمسين ومائتين وألف وذلك في سابع جمادى الأولى منها كمل بناء المنار بالمسجد الأعظم من سلا وكان المنار الذي قبله قد أصابته صاعقة تداعت لها أركانه فأمر السلطان رحمه الله بنقضه وإعادته جديدا فأعيد على هيئة متقنة أحسن مما كان وأعظم وصير عليه بواسطة أمناء مرسى العدوتين ثلاثة آلاف مثقال وأربعمائة مثقال وأربعة وعشرون مثقالا وست أواق وثلث الأوقية والريال الكبير يومئذ من سعر ست عشرة أوقية وكان جل الصائر من بيت المال وأقله من مال الحبس وكان الذي يتولى النظارة يومئذ والقيام على البناء عامل سلا الأبر الأخير السيد الحاج أحمد بن محمد بن الهاشمي عواد
وفي سنة ثمان وخمسين ومائتين وألف توفي الفقيه العلامة المحقق البارع أبو الحسن علي بن عبد السلام التسولي المدعو مديدش صاحب الشرح الكبير على تحفة ابن عاصم في الأحكام وشرح الشامل وحاشية الزقاقية وغير ذلك من التآليف الحسان رحمه الله ونفعنا به
وفي منتصف سنة تسع وخمسين ومائتين وألف غزا السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله قبيلة زمور الشلح وكانوا قد تجاوزوا الحد في الإفساد وإخافة العباد والبلاد فأوقع بهم وقعة شنعاء كسرت من حدهم وفلت من غربهم وكتب السلطان رحمه الله في ذلك إلى ولده وخليفته سيدي محمد كتابا من إنشاء وزيره أبي عبد الله بن إدريس يقول فيه ما نصه ولدنا الأرضى الأبر الأرشد سيدي محمد أصلحك الله وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد فقد كنا أردنا الإبقاء على قبيلة زمور رحمة وإشفاقا وحملهم على الاستقامة بالإرهاب من الشدة في بعض الأمور هداية وإرفاقا فلم يرد الله بهم خيرا لفساد نيتهم وخبث طويتهم واتكالهم على حولهم وقوتهم فما رأوا منا لينا وسدادا إلا ازدادوا شدة وفسادا ولا أظهرنا لهم عظة وإرشادا إلا أظهروا تطاولا وعنادا وما أخرنا المحلة المنصورة عن الركوب إليهم إبقاء وألفا إلا ظنوا ذلك عجزا وضعفا قد طمس الإعجاب منهم بصرا وسمعا ولم يروا أن الله قد أهلك من قبلهم من القرون من هو أشد منهم قوة وأكثر جمعا
____________________


( إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا )
( ووضع الندا في موضع السيف بالعلى ** مضربه كوضع السيف في موضع الندا )
فلما رأينا لجاجهم في عمالهم وعدم رجوعهم عن هواهم وأنهم لم يعتبروا بجلائهم عن بلادهم ولا بما أصابهم من الفتنة في أنفسهم وأولادهم ولم يراعوا ما نهب من زرعهم القائم والحصيد ولا ما استخرج من مخزونهم الكثير العتيد رأينا قتالهم شرعا وجهادهم ذبا عن الدين ودفعا فاعتمدنا على حول الله وقوته وأمرنا بالزيادة عليهم في الأخذ والتضييق والمبالغة في النهب والتحريق وتركهم محصورين في أوعارهم ومقهورين في أوكارهم إذ رب مطاولة أبلغ من مصاولة فتوالت عليهم الغارات وتتابعت عليهم النكبات لا يجدون إلى الراحة سبيلا أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا ففي كل يوم تثمر العوالي رؤوس رؤسائهم وتتخطف أيدي المنايا أهل بأسائهم وكلما رادوهم إقداما وطلبا ازدادوا توغلا في الجبال وهربا حتى نهكتهم الحرب وضرستهم موالاة الطعن والضرب وضاع بالحصار الكسب والمال ولحق الضرر الأولاد والعيال فجعلوا يرحلون لقبائل جوارهم طالبين لحلفهم وجوارهم وبلغ البؤس فيهم غايته وأظهر الله فيهم آيته وهم في خلال هذا كل حين يتشفعون ويتذللون في قبول توبتهم ويتضرعون ونحن نظهر لهم التمنع والإباية لنبني أمرهم على أساس الجد ونجازيهم على ما ارتكبوه من خلف الوعد فلما أنجزت القهرية فيهم وعدها وبلغت العقوبة فيهم حدها قابلنا إساءتهم بالإحسان وراعينا فيهم وجه المساكين والنساء والصبيان فولينا عليهم منهم ثلاثة عمال ووظفنا عليهم خمسين ألف مثقال وشرطنا عليهم تقويم مائتين من الحراك مثل قبائل الطاعة والتزام الصلاح والخدمة جهد الاستطاعة فقاموا بذلك أحسن قيام وأعطوا المراهين في أداء المال بعد أيام وكان أخذهم بعد تقديم الأعذار وتكرير الإنذار وعفونا عنهم عفو غلب واقتدار ورب عقاب أنتج حسن طاعة وتوبة نصوح تداركت ما سلف من التفريط والإضاعة وفي الناس من لا يصلح إلا مع التشديد وربك يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد
____________________


( وما عن رضى منها عطية أسلمت ** ولكنها قد قادها للهدى القهر )
( أردنا بها الإبقاء فازداد عجبها ** وأدبها التشديد والفتك والأسر )
ولو قيدوا النعمة بالشكر لأمنوا الزوال { وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال } الرعد 11 والسلام في فاتح رجب الفرد الحرام عام تسعة وخمسين ومائتين وألف اه نص الكتاب الشريف انتقاض الهدنة مع الفرنسيس وتمحيص المسلمين بإيسلي قرب وجدة والسبب في ذلك
كانت الهدنة معقودة بين هذه الدولة الشريفة وبين جنس الفرنسيس من لدن دولة السلطان الأعظم سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله ولما حدث الشنآن بين ترك الجزائر والفرنسيس واستولى الفرنسيس على ثغورهم جاء أهل تلمسان إلى السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله راغبين في بيعته والدخول في طاعته فقبلهم بعد التوقف والمشاورة كما مر ولما أعرى جيش السلطان تلمسان واجتمع أهل ذلك القطر على الحاج عبد القادر محيي الدين تحت كلمة السلطان بر به وأحسن إليه وقاوم الفرنسيس بتلك البلاد أشد المقاومة إلا أن فائدة حربه كانت تظهر في قتل النفوس واستلاب الأموال وفائدة حرب الفرنسيس كانت تظهر في انتقاص الأرض والاستيلاء عليها وشتان ما بينهما
ولما كانت سنة تسع وخمسين ومائتين وألف تم استيلاء الفرنسيس على جميع بلاد المغرب الأوسط وصار الحاج عبد القادر يتنقل في أطرافها فتارة بالصحراء وتارة ببني يزناسن وتارة بوجدة والريف وغير ذلك وربما استكثر في هذه التنقلات بمن هو من رعية السلطان أو جنده فمد الفرنسيس يده إلى إيالة السلطان رحمه الله فشن الغارة على بني يزناسن وعلى وجدة وأعمالها المرة بعد المرة ثم اقتحم وجدة على حين غفلة من أهلها وانتهبها وكثر عيثه
____________________


في الحدود فكلم من جانب السلطان رحمه الله فيما ارتكبه من إيالته فتعلل بأن الهدنة قد انتقضت بإمداد الحاج عبد القادر بالخيل والسلاح والمال المرة بعد المرة وبمحاربة جيش السلطان المرابط على الحدود له وبمحاربة بني يزناسن له مع الحاج عبد القادر وغير ذلك مما اعتد به وكان الحاج عبد القادر في هذه المدة قد فسدت نيته أيضا في السلطان وفي الجهاد مع أنه ما كان لجهاده ثمرة ورام الاستقلال وأخذ في استفساد القبائل الذين هنالك وتحقق السلطان بأمره وشرى الشر وتفاقم الأمر فعمد السلطان رحمه الله على حرب الفرنسيس وتقدم إلى أهل الثغور بالاستعداد والحراسة وإرهاف الحد لما عسى أن يحدث ثم عقد لابن عمه المولى المأمون بن الشريف على كتيبة من الجند ووجهها إلى ناحية وجدة وعززه بالفقيه أبي الحسن علي بن الجناوي من أعيان رباط الفتح فكانت لهم مناوشة مع رابطة الفرنسيس التي هنالك ثم أخذ السلطان رحمه الله في أسباب الغزو والاستعداد التام وحشد الجنود واتخاذ الرايات والبنود واستنفار القبائل وقال في ذلك الوزير ابن إدريس أشعارا يستنفر بها أهل المغرب ويحضهم على الجهاد وإيقاظ العزائم له من ذلك قوله
( يا أهل مغربنا حق النفير لكم ** إلى الجهاد فما في الحق من غلط )
( فالشرك من جنبات الشرق جاوركم ** من بعد ما سلم أهل الدين بالشطط )
( فلا يغرنكم من لين جانبه ** ما عاد قبل على الإسلام بالسخط )
( فعنده من ضروب المكر ما عجزت ** عن دركه فكرة الشبان والشمط )
( فواتح المكر تبدو من خواتمه ** فعنده المكر والمكروه في نمط )
( وأنتم القصد لا تبقن في دعة ** إن السكون إلى الأعدا من السقط )
( من جاور الشر لا يعدم بوائقه ** كيف الحياة مع الحيات في سقط )
( قد يغبط الحر في عز يخلده ** وليس حي على ذل بمغتبط )
وفي هذا الشعر تضمين بيت ابن العسال وهو مشهور فاجتمع للسلطان رحمه الله في هذا الاستنفار ثلاثون ألف فارس تزيد قليلا أو تنقص قليلا فيها
____________________


الجند وحصص القبائل في أكمل شكة وأحسن زي ولم يشهدها من الودايا سوى نفر يسير لأنهم كانوا في زاوية الإهمال عند السلطان ثم عقد رحمه الله على هذه الجنود لولده وخليفته سيدي محمد بن عبد الرحمن وسار حتى نزل بوادي إيسلي من أعمال وجدة وكان الحاج عبد القادر لا زال جائلا في تلك الناحية ومعه نحو خمسمائة فارس ممن كان قد بقي معه من أهل المغرب الأوسط لأن حاله كان قد أخذ في التراجع والانحطاط ولم تبق له هنالك كبير فائدة بل انقلب نفعه ضررا وحزمه خورا بفساد نيته واستفساده لجند السلطان ورعيته ولما احتل الخليفة سيدي محمد بإيسلي وعسكر به جاءه الحاج عبد القادر يستأذن عليه في الاجتماع به فأذن له واجتمع به وهو على فرسه فدار بينهما كلام كان من جملته أن قال الحاج عبد القادر إن هذه الفرش والأثاث والشارة التي جئتم بها حتى وضعتموها بباب جيش العدو ليس من الرأي في شيء ومهما نسيتم فلا تنسوا أن لا تلاقوا العدو إلا وأنتم متحملون منكمشون بحيث لا يبقى لكم خباء مضروب على الأرض وإلا فإن العدو مني رأى الأخبية مضروبة لم ينته دون الوصول إليها ولو أفنى عليها عساكره وبين كيف كان هو يقاتله وكان هذا الكلام منه صوابا إلا أنه لم ينجع في القوم لانفساد البواطن ولا حول ولا قوة إلا بالله وربما انتهره بعض حاشية الخليفة على التفصح بمحضره والإشارة عليه فبل استيشاره فرجع الحاج عبد القادر عوده على بدئه وانتبذ ناحية في جيشه ولسان حاله يقول لم آمر بها ولم تسؤني ولما كانت الليلة التي وقعت الحرب صبيحتها جاء رجلان من أعراب تلك الناحية وطلبوا الدخول على الحاجب وهو الفقيه السيد الطيب بن اليماني المدعو بأبي عشرين فدخلا عليه وقالا إن العدو عازم على أن يصبحكم غدا إن شاء الله فاستعدوا له وأعلموا الأمير فيقال إن الحاجب قال إن الأمير الآن نائم ولست بالذي أوقظه ثم جاء عقب ذلك أربعة أناس آخرون يعلمون بأمر العدو فكان سبيلهم سبيل الأولين ولما طلع الفجر وصلى الخليفة الصبح جاء عشرة من الخيل قيل من العرب وقيل من حرس الخليفة فأعلموا بمجيء العدو وأنهم تركوه قد أخذ
____________________


في الرحيل فأمر الخليفة رحمه الله الناس بالركوب والاستعداد وأن لا يبقى بالمحلة إلا الرماة وكانوا دون الألف وبعث إلى بني يزناسن بالركوب فركبوا في ألوف كادت تساوي جيش الخليفة وصارت الخيل نحو العدو مصطفة مد البصر وراياتها تخفق على هيئة عجيبة وترتيب بديع وكان الخليفة سائرا في وسطهم ناشرا المظلة على رأسه راكبا على فرس أبيض وعليه طيلسان أرجواني قد تميز بزيه وشارته ولما تقارب الجيشان جعلت الفرسان تبرز من الصفوف كأنما تتعجل القتال فأمر الخليفة رحمه الله بالسكينة والوقار والسير بسير الناس
ثم لما التقى الجمعان وانتشبت الحرب رصد العدو الخليفة وقصده بالرمي مرات عديدة حتى سقطت بنبة أمام حامل المظلة وجمح فرسه به وكاد يسقط ولما رأى الخليفة ذلك غير زيه بأن أسقط المظلة ودعا بفرس كميت فركبه ولبس طيلسانا آخر فاختفى حينئذ وكان المسلمون قد أحسنوا دفاع العدو وصدموه صدمة قوية برقت لهم بها بارقة وكانت خيلهم تنفر من صوت المدافع ولكنهم كانوا يقحمونها إقحاما وثبتوا في نحر العدو مقدار ساعة ولما التفتوا إلى جهة الخليفة ولم يروه بسبب تغير زيه خشعت نفوسهم وقال المرجفون إن الخليفة قد هلك فماج الناس بعضهم في بعض وتسابق الشراردة إلى المحلة فعمدوا إلى الخباء الذي فيه المال فانتهبوه وتقاتلوا عليه وتبعهم غيرهم ممن كان الرعب قد ملك قلبه وجعل الناس يتسللون حتى ظهر الفشل في الجيش من كل جهة فتقدم بعض الحاشية إلى الخليفة وقال له يا مولانا إن الناس قد انهزموا وهم الآن بالمحلة يقتل بعضهم بعضا ويسلب بعضهم بعضا فقال يا سبحان الله والتفت فرأى ما هاله من أمر الناس فرجع عوده على بدئه وانهزم من كان قد بقي معه عن آخرهم وتبعهم العدو يرمي الكور والضوبلي من غير فترة وثبت الله بعض الطبجية بالمحلة ولكن سال الوادي فطم على القرى ونفذ أمر الله ولم يهزم المسلمين إلا المسلمون كما رأيت ولما استولى العدو على المحلة فر النهاب الذين كانوا
____________________


بها وبقيت في يده بما فيها وكانت مصيبة عظيمة وفجيعة كبيرة لم تفجع الدولة الشريفة بمثلها وكان هذا الحادث العظيم في الساعة العاشرة من النهار منتصف شعبان سنة ستين ومائتين وألف ولما رجع المنهزمة تفرقوا شذر مذر وأهلك الناس العطش والجوع والتعب حتى كان نساء عرب آنكاد يستلبنهم كيف شئن وانتهى الخليفة إلى تازا فأقام بها أربعة أيام ريثما اجتمع إليه الرماة وضعاف الجيش ثم قدم فاسا وكان السلطان رحمه الله قادما من مراكش إلى فاس فاتصل به خبر الوقعة وهو برباط الفتح فنهض إلى فاس مجدا واتصل به في أثناء طريقه خبر وقعتين اثنتين أخريين وهما هجوم الفرنسيس على طنجة والصويرة ورميه إياهما بألوف من الكور والبنب ووقع بالصويرة حادث عظيم بسبب الغوغاء الذين بالبلد والشياظمة المجاورين لهم فإنهم لما رأوا العدو دخل الجزيرة ظنوا أنه سيدخل البلد فمدوا أيديهم للنهب وكان ذلك أولا في اليهود ثم عم غيرهم وكان ما كان مما لست أذكره فكان هذا مما زاد غيظ السلطان وكمده فعمد إلى جماعة من قواد الجيش وحلق لحاهم تأديبا لهم
وذكر منويل هذه الوقعة فزعم أن عساكر الفرنسيس كانت يومئذ عشرة آلاف وإنه كان غرضه محاربة الذين كانوا يحاربونه على أطراف البلاد حتى لقد أعطى خط يده للنجليز أنه إذا حارب وغلب لا يتملك من أرض المغرب شيئا قال فلذلك لما وقعت الهزيمة بعث بإثرها رسله يطلب الصلح مع أن السلطان المولى عبد الرحمن لم يظهر عجزا ولا فل ذلك من غربه بل استأنف الجد وشرع في جمع العدد اه كلامه
ثم إن السلطان رحمه الله هادن الفرنسيس على يد الفقيه أبي سلهام بن علي آزطوط عامل طنجة والعرائش على شروط ثمانية من جملتها نفي الحاج عبد القادر من تلك البلاد لما في بقائه هنالك من آثاره الفتنة بين الدولتين بلا فائدة ودعت المصلحة الوقتية السلطان رحمه الله إلى أن أسقط عن جنس
____________________


الدينمرك وجنس السويد ما كانا يؤديانه إلى الدولة العلية كل سنة فالأول خمسة وعشرون ألف ريال والثاني عشرون ألف ريال وكذلك أسقط عن غيرهم وظائف أخر والأمور كلها بيد الله { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } الأنبياء 23
وفي سنة إحدى وستين ومائتين وألف أخذت السكة في الارتفاع وكان الريال الكبير ذو المدفع بست عشرة أوقية والريال الصغير الإفرنك بخمس عشرة أوقية والبندقي بثلاثين أوقية والدرهم الصغير بأربع موزونات والكبير بست موزونات ولما أخذت السكة في الارتفاع أخذت الأسعار في الارتفاع أيضا وحاول السلطان رحمه الله حصرها فلم تنحصر وعلة ذلك والله أعلم أنه لما وقع مع الفرنسيس هذا الصلح وأسقط السلطان عن الأجناس ما كانت تؤديه كثر خطارهم وتجارهم بمراسي المغرب وازدادت مخالطتهم وممازجتهم لأهله وكثرت تجارتهم في السلع التي كانوا ممنوعين منها وانفتح لهم باب كان مسدودا عليهم من قبل فظهر أثر ذلك في السكة وفي السلع أما السكة فلأن سكتهم كانت هي الغالبة وهي أكثر روجانا من سكة المغرب فلا بد أن يكون الحكم والتأثير لها والتجار يعتبرون فيها من الفضول والأرباح الناشئة عن تغاير القطرين ما لا يهتدي إليه غيرهم من العامة وتبعهم على ذلك تجار المسلمين وأما السلع فلأن تجار النصاري يغالون في أثمانها أكثر من غيرهم كما هو مشاهد ثم ما دامت بلاد الفرنج مترقية في التمدن وحسن الترتيب واتساع الأمن والعدل إلا وسككنا وأسعارنا دائمة الترقي في الغلاء على نسبة كثرة المخالطة واتساع مادة البيع والشراء فتأمله والله الموفق
وفي هذه السنة ثار أهل رباط الفتح على عاملهم الحاج محمد بن الحاج محمد السوسي وكان السبب في ذلك أن الحاج محمد بن الحاج الطاهر الزبدي من أهل الوجاهة بالرباط ومتبوع العقب فيها وكان كثيرا ما يجالس
____________________


العامل المذكور ويدلي عنده بالصداقة والمودة فيقال إنه تشفع عنده في بعض أهل البلد فرد شفاعته فغضب الزبدي وعظم عليه ذلك وكان أهل البلد قد سئموا ملكة السوسي ومرضوا في طاعته لأسباب تعدها الرعية على العمال فجاء الزبدي إلى منزله وجمع جماعة من أعيان البلد ممن يعلم انحرافهم عن العامل المذكور وأطعمهم وأطلعهم على خبيئة صدره في أمر العامل فوجدهم إليه سراعا فتحالفوا وتعاهدوا على أن لا يبقى متوليا عليهم بحال ثم مشوا إليه وأنذروه وتقدموا إليه بأن يلزم بيته ثم أجمع رأيهم على تقديم الزبدي مكانه فقدموه وضبط أمر البلد واتصل الخبر بالسلطان رحمه الله وهو بفاس فقام وقعد وكتب إليهم بالوعظ والتقريع فصموا عن سماعه وتمادوا على شأنهم ثم بعث إليهم القائد الطيب الوديني البخاري يتولى عليهم ويقبض على أهل الفساد منهم فأفحشوا عليه وطردوه من البلد مع العشي فعبر إلى سلا في مطر غزير ورجع إلى السلطان فأعلمه الخبر فاحتال السلطان رحمه الله بأن بعث الفقيه الكاتب أبا عبد الله محمد العربي بن المختار الجامعي فقدم رباط الفتح وجمع أعيانها وخيرهم فيمن يتولى عليهم فاختاروا الزبدي فولاه السلطان عليهم وحمدوا سيرته وبعد نحو ستة أشهر قدم السلطان رباط الفتح وتريث بها مدة حتى نقر عن رؤوس الفتنة فقبض عليهم وعلى قائدهم الزبدي وبعث بهم إلى فاس فسجنوا بها ثم سرحوا بعد حين
وفي سنة اثنتين وستين ومائتين وألف نهض السلطان من فاس ونهض الخليفة سيدي محمد من مراكش والتقيا بمشرع أبي الأعوان من دكالة وعيدا هنالك عيد المولد الكريم ثم سار السلطان إلى مراكش وانحدر الخليفة إلى فاس وفي هذا العيد بعث أبو عبد الله أكنسوس إلى السلطان بالقصيدة
وفي سنة ثلاث وستين ومائتين وألف تم بناء البرج الكبير بسلا المعروف بالصقالة الجديدة وكان السلطان رحمه الله شرع في بنائه زمان انتقاض الصلح مع الفرنسيس وتم في هذه المدة على أكمل الأحوال وأحسنها
____________________

بقية أخبار الحاج عبد القادر وانقراض أمره وما آل إليه حاله
قد قدمنا ما كان من فساد نية الحاج عبد القادر وأنه رام الاستبداد بل والتملك على المغرب فلما كانت الهزيمة بإيسلي ازداد طمعه فصار يدعو أهل النواحي إلى مبايعته والدخول في طاعته وكاتب الخواص من أهل فاس والدولة وكاتبوه على ما قيل ثم احتال بأن بعث جماعة وافرة من الحشم وبني عامر شيعته إلى السلطان قدمهم أمامه في صورة هراب مستجيرين بالسلطان فقبلهم السلطان وأنزلهم على نهر سبو ثم تقدم الحاج عبد القادر حتى وصل إلى القعدة الحمراء بين التسول والبرانس وكان قصده أن يجتمع بشيعته ويصل يدهم بيده ويتم له ما أراد فلما أطلع السلطان على دسيسته بعث إلى أولئك الجماعة عسكرا من الشراردة عليهم القائد إبراهيم بن أحمد الأكحل فاجتاحوهم بعد جهد جهيد وقتال شديد من ذلك أنهم اعتصموا بربوة وجعلوا يقاتلون على حريمهم وكانوا رماة لا تسقط لهم رصاصة في الأرض فكانوا كلما توجهت إليهم طائفة من الجيش استأصلوها بالرصاص وكانوا يجمعون موتاهم وينصبونهم أشبارا يتترسون به ويقاتلون من خلفه ولما أعيا الجيش أمرهم حملوا عليهم حملة واحدة حتى خالطوهم في معتصمهم وجالدوهم بالسيوف وطاعنوهم بالرماح والتوافل وانقطع البارود فكانوا يقتلون أبناءهم ونساءهم بأيديهم فرارا من السبي والعار ثم جعلوا يقتلون أنفسهم حين تحققوا أنهم في قبضة الأسار وبعد هذا وجه السلطان ولده سيدي محمدا لحسم دائه في جيش كثيف وكان رئيس الجيش وكبيره بعد الخليفة القائد محمد بن عبد الكريم الشرقي المدعو أبا محمد وكان له ذكر في الشجاعة والرأي ولما وصل الخليفة إلى سلوان بعث إليه الحاج عبد القادر جماعة فيهم وزيره أبو عبد الله البوحميدي يتنصل مما رمي به وأنه لا زال على الطاعة والخدمة للسلطان وقدموا إلى الخليفة هدية ثم وقع الاتفاق على أن يقدموا على السلطان رحمه الله فينهوا إليه الأمر والعمل على ما قال
____________________


فوجه معهم الخليفة من يصحبهم إلى أبيه بفاس وفي أثناء ذلك عمد الحاج عبد القادر ذات ليلة إلى طائفة من جنده نحو الخمس عشرة مائة على ما قيل كلهم بطل مجرب انتقاهم انتقاء وكان جيش الخليفة منقسما قسمين بعضه معه وبعضه مع أخيه المولى أحمد فضمد الحاج عبد القادر إليهما
( في ليلة من جمادى ذات أندية ** لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا )
بتلك العصبة الذين هم فتيان الكريهة ومساعير الهيجاء وجمرات الحرب كالما شهد بهم الوقائع وخاض غمرات الموت مع الفرنسيس وغيره فلم يقف بهم إلا بين المجلتين وأطلقوا الرصاص مثل المطر وأرسلوا حراقيات على الجمال وتهاويل مفزعة فماج الناس في ذلك الظلام الغاسق ونزل بهم من الهول ما يقصر اللسان عن وصفه وقام الخليفة فجعل يسكن الناس بنفسه ويمنعهم من الركوب خوف الفرار وأمر العسكر والطبجية بالرمي بالكور والضوبلي فكانوا يرمون إلى جهة محلة المولى أحمد ظنا منهم أن العدو لا زال مقابلهم ومحلة المولى أحمد يرمون إلى جهتهم كذلك فهلك من المحلتين بسبب ذلك بشر كثير وأما الحاج عبد القادر فإنه فر في أصحابه بعد أن حملوا الكثير من موتاهم معهم وكان للقائد محمد في تلك الليلة ذكر ولما أصبح الناس وتفقدوا حالهم وجدوا فيهم من الجرحى نحو الألف ومن القتلى ما يقرب ذلك وأصبح حول المحلة من قتلى أصحاب الحاج عبد القادر الذين أجهضهم القتال عن حملهم نحو الخمسين وأسروا نفرا أحياء فشاهدوا من طمأنينتهم عند القتل ما قضوا منه العجب ووجدوا عليهم كسى رفيعة مطرزة بالصقلى والحرير ونحو ذلك فلقد كان للرجل اعتناء بالجيش كما نرى ثم إن الخليفة رحمه الله أمر باتباع الحاج عبد القادر فتبعته الكتائب المختارة فكان اللقاء ثانيا بمشرع الرحائل من وادي ملوية قرب البحر عند مسقط ملوية في البحر فصدمته الجيوش صدمة أخرى فنى فيها كماته وكسرت شوكته وفل حده وخشعت نفسه وأيس من جبر حاله ففر إلى الفرنسيس ولجأ إليه وترك محلته بما فيها فاستولى جيش الخليفة عليها
____________________


حكى من حضر أن الخيل كان يطردون الجماعة من أصحاب الحاج عبد القادر وهم راجلون ليأسروهم فما كانوا يدركونهم إلا بعد المسافة البعيدة جدا والحاصل أن مقام هذا الرجل في الشجاعة معروف وبصارته بمكائد الحرب معلومة لولا ما ذكرناه من انعكاس حاله ورومه الاستبداد وخلعه طاعة الإمام الحق الذي كانت بيعته في عنقه
واعلم أنه قد يقف بعض المنتقدين على ما حكيناه من أخبار هذا الرجل فينسبنا إلى تعصب وسوء أدب والجواب أنا ما حكينا إلا الواقع وأيضا فلقد قال لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله حضرت يوما بين يدي السلطان أبي عنان في بعض وفاداتي عليه لغرض الرسالة وجرى ذكر بعض أعدائه فقلت ما أعتقد في إطراء ذلك العدو وما عرفته من فضله فأنكر علي بعض الحاضرين ممن لا يحطب إلا في حبل السلطان فصرفت وجهي وقلت أيدكم الله تحقير عدو السلطان بين يديه ليس من السياسة في شيء بل غير ذلك أحق وأولى فإن كان السلطان قد غلب عدوه كان قد غلب غير حقير وهو الأولى بفخره وجلالة قدره وإن غلبه العدو لم يغلبه حقير فيكون أشد للحسرة وآكد للفضيحة فوافق رحمه الله على ذلك واستحسنه وشكر عليه وخجل المعترض اه
ولما كان هذا الفتح كتب السلطان إلى البلاد وزينت الأسواق وأعلمت المفرحات ونص ما كتب به السلطان بعد الافتتاح وبعد فإن الفاسد الفتان وخليفة الشيطان أبعد في الجسارة وامتطى مطي الخسارة واستوسع سبيل العناد واستضل سبيل الرشاد وقال من أشد منه قوة وسولت له نفسه الأمارة الاتصاف بالإمارة وأراد شق عصا الإسلام وصدع مهج الأنام فأعلن بكل قبيح واستشكل كل صريح واستبطن المكر والخداع وفاق فيه عابدي ود وسواع وشاع في طرف الإيالة ضرره وساء مخبره وهو في خلال ذلك يظهر مظاهر يستهوي بها أهل الجهالة والعماية والضلالة فأيسنا من رشده وعرفنا مضمر قصده فجهزنا له محلة منصورة ذات أعلام منشورة جعلنا في وسطها ولدنا الأبر سيدي محمد أصلحه الله وأسندنا إليه
____________________


أمرها وقلدناه تدبيرها وعهدنا إليه أن يسعى في حقن الدماء جهد الإمكان ويحتال على إقامة أود هذا الفتان وأن يعالج داءه بكل دواء وأن لا يتبع فيه الأغراض والأهواء وأن يجعل القتال آخر عمله وعدمه غاية أمله فلما رأى عدو نفسه إحاطة الجيوش به وجه وفدا من قبله يدعي التوبة فيما مضى والكون على وفق المقتضى فأجبناهم بأن أحب الحديث إلى الله أصدقه إن صاحبكم هذا إن أراد الخير لنفسه واحتاط لدينه وعمل لرمسه يختار أحد أمرين أما أن يدخل لإيالتنا هو ومن معه آمنين على أنفسهم ومالهم لهم وما لنا وعليهم ما علينا أو يصحر فطلبوا منا الإمهال حتى يوجهوا بعضهم يخبرونه بالملاقاة ويستدركون الأمر قبل الفوات فأجبناهم إلى ذلك فما وصلوا حتى ضرب على المحلة ليلا فرده الله بالخيبة وأشوه أوبة وترك قتلاه صرعى بعد ما حمل منهم عددا وجعل يدفن منهم في قفوله ويخفي ما حل به في أفوله فتقدمت إليه المحلة الغالبة بالله وقاتلته قتالا أذاقته فيه الوبال والخبال فكانت الكرة عليه فأجفل إجفال النعام واستدبر المعركة وهام ومات من خاصته ورؤسائه وأهل شدته وذوي بأسائه عدد معتبر ومن هو أدهى وأمر وعادت جموعه جمع تكسير وجيوشه موزعة بين قتيل وأسير وسخر بهم بعد أن كانوا ساخرين وغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ومن الله أستمد التوفيق والهداية إلى أرشد طريق والسلام في الثاني والعشرين من محرم الحرام فاتح سنة أربع وستين ومائتين وألف اه نص الكتاب الشريف وأما الحاج عبد القادر فإنه فر إلى الفرنسيس كما قلنا فبقي عنده مدة
قال صاحب قطف الزهور ما صورته لما فر الحاج عبد القادر إلى الفرنسيس بقي عندهم ست سنين ثم أعتقه نابليون الثالث وعين له مرتبا سنويا يدفع إليه من بيت مال الدولة فسكن دمشق الشام ولم يزل قاطنا بها إلى هذا اليوم اه قلت وهو الآن في قيد الحياة حسبما يبلغنا والله تعالى يتولى أمر المسلمين ويتداركهم بلطفه وفضله آمين
____________________


قال أبو عبد الله أكنسوس وفي ضحى يوم الإثنين الرابع من المحرم فاتح سنة أربع وستين ومائتين وألف توفي الوزير الأعظم الفقيه الأجل الأكرم إمام عملة اليراع ومقدم حملة ذلك الشراع مقلد الدولة بقلائد النثار والنظام في المواقف العظام والمزري ببدائعه وأوابده وروائعه ببديع الزمان والفتح بن خاقان أبو عبد الله محمد بن إدريس جدد الله عليه ملابس الرضا كلما لاح نجم وأضا فولى السلطان مكانه الفقيه النجيب ذا الأخلاق العاطرة والأنامل الواكفة الماطرة والرأي الأصيل والأمر المحبوك والباطن الصافي الذي يحاكيه الذهب المسبوك أبو عبد الله محمد العربي بن المختار الجامعي ثم لما قدم السلطان رحمه الله لحضرة مراكش آخر قدمة قدمها سنة سبعين ومائتين وألف عزله وولى مكانه الفقيه الكاتب اليحيى النزيه أبا عبد الله محمد بن عبد الله الصفار التطاوني
وفي أوائل رمضان من هذه السنة أعني سنة أربع وستين ومائتين وألف خرج السلطان رحمه الله من فاس إلى ناحية وجدة فوصل إلى عين زورة فوقف على تلك النواحي وأصلح من شأنها وعاد إلى فاس ليلة عيد الأضحى من السنة
وفي سنة خمس وستين ومائتين وألف كانت فتنة عرب عامر بأحواز سلا وفتنة عرب زعير بأحواز رباط الفتح وكلب هاتان القبيلتان على المدينتين وألحوا عليهما بالغارات والنهب والمبالغة في العيث والإفساد بالطرقات والجنات واستافوا السرح مرارا وبقي النتاج عند أربابه حتى هلك ضياعا إلى غير ذلك ولما تجاوزوا الحد في الطغيان بعث السلطان وصيفه الباشا فرجى صاحب فاس الجديد فأوقع بعامر وقعة شنعاء رابع يوم النحر من السنة ومزقهم شذر مذر بعد أن تحصنوا بالغراك فيما بين سلا والمهدية
وفي هذه السنة حج ولد السلطان المولى الرشيد والمولى سليمان واعتنى بشأنهما صاحب مصر وصاحب الحجاز غاية ورجعا من السنة القابلة وفي هذه السنة ظهر الكوكب ذو الذنب كان يطلع في ناحية المغرب ويغرب بعد
____________________


العشاء مدة من شهر ونحوه ففزع الناس من ذلك وتخوفوه كما قال أبو تمام
( وخوفوا الناس من دهياء مظلمة ** إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب )
وفي سنة ست وستين ومائتين وألف أحدث السلطان المكس بفاس وغيرها من الأمصار أحدثه أولا في الجلد على يد المصطفى الدكالي بن الجيلاني الرباطي والمكي القباج الفاسي ثم أحدثه في البهائم ثم تفاحش أمره في دولة ابنه السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن رحمه الله وهلم جرا
وفي هذه السنة وذلك ليلة السادس والعشرين من رمضان توفي ولي الله أبو عبد الله سيدي عبد القادر العلمي البركة الشهير صاحب الأزجال الملحونة وكانت وفاته بمكناسة الزيتون ودفن بحومة سيدي أبي الطيب وعليه بناء حفيل إلى الغاية رحمه الله ورضي عنه وفي هذه السنة بعث السلطان ولده المولى عبد القادر وهو ابن اثنتي عشرة سنة إلى سلا بقصد القراءة بها فنزل بدار قاضيها أبي عبد الله محمد بن حسون عواد وكتب إليه السلطان رحمه الله بأن يعود الولد المذكور الخشن من المطعم والملبس وأن لا يمكنه من شرب الأتاي إلا مرة أو مرتين في الجمعة وفي هذه السنة أيضا كان الغلاء الكبير والجوع المفرط وكان أكثره بقبائل الحوز من ابن مسكين وعبدة ودكالة وغيرهم فأهرعت هذه القبائل إلى بلاد الغرب والفحص وأكلت الناس الجيف والميتة والنبات وصار يعرف عند أهل البادية بعام الخبيزي وعام يرني وكان الرجل يأكل ولا يشبع وإذا أمعن في الأكل وتضلع شبعا لم تمض إلا هنيهة حتى تضطرم أحشاؤه جوعا وكان المد بسلا ورباط الفتح وهو مد كبير جدا قد بلغ ثمانية عشر مثقالا فجعله العامة تاريخا يقولون كان ذلك عام ثمانية عشر مثقالا
وفي سنة سبع وستين ومائتين وألف وذلك ليلة الأربعاء الثالث والعشرين من ربيع الثاني منها توفي الفقيه العلامة القاضي بسلا أبو عبد الله محمد بن حسون عواد ودفن بزاوية الشيخ سيدي أحمد بن عبد القادر التستاوتي من
____________________


حومة باب أحسين من المدينة المذكورة وكان رحمه الله عارفا بالفقه والحديث والنحو قد أفنى عمره في جمع الكتب ونسخها وخطه معتمد سالم من التصحيف وكانت فيه شفقة على الضعفاء والأشراف وذوي البيوتات كثير البرور بهم والإحسان إليهم رحمه الله وفي يوم الأربعاء فاتح هذه السنة توفي الشريف البركة الأفضل أبو عبد الله سيدي الحاج العربي بن علي الوزاني وكان جليل القدر شهير الذكر نفعنا الله به وبأسلافه
وفي سنة ثمان وستين ومائتين وألف هجم الفرنسيس على ثغر سلا وذلك بسبب مركبين وردا إلى مرسى العدوتين مملوءين قمحا وكانت السنة سنة مسغبة فنشب المركبان بساحل سلا فتسارعت العامة إليهما وانتهبوهما ثم تجاوزوا ذلك إلى ألواح المركبين وآلتهما فتوزعوها وكان المركبان لتجار الفرنسيس فتكلموا في شأنهما مع السلطان رحمه الله فكتب إلى عامل سلا أبي عبد الله محمد بن عبد الهادي زنيبر يستكشفه عن الخبر فجحد ذلك ظنا منه أنه يدفع بذلك عن البلد ولما لم يحصل الفرنسيس بالكلام مع السلطان على طائل هجم على سلا يوم الثلاثاء مهل صفر من السنة المذكورة في خمسة بابورات وقاباق كبير ويقال له النابيوس يشتمل على نحو ستين مدفعا أو أكثر ومن الغد زحف بمراكبه حتى سامت بها البلد في الساعة العاشرة من النهار وشرع في رمي الكور والبنب إلا واحدا منها فإنه تباعد قليلا وبقي ينظر قيل هو للنجليز وكان ترادف الكور والبنب على البلد على صورة فظيعة مثل الرعد القاصف تكاد تنهد له الجبال وكان في أول النهار لا يفتر وبعد الزوال صار تتخلله فترات يسيرة واستمر الحال على ذلك إلى أن غربت الشمس ومضى نحو نصف ساعة وكانت مدة الرمي ثماني ساعات ونصفا وبذل الناس مجهودهم في مقابلتهم بالرمي وفي آخر النهار عجز الناس وبقي يرمي وحده واستشهد من المسلمين نحو سبعة أنفس وكان الكور والبنب الذي رمى به العدو في ذلك اليوم شيئا كثيرا فالمقلل يقول سبعة آلاف والمكثر يقول اثنا عشر ألفا وكان البنب يتفرقع بعد مدة وقتل أناسا ووقع في المسجد الأعظم ومناره كور كثير خرق
____________________


السقوف والحيطان وكذا في دور أهل البلد فأنعم السلطان على الناس بإصلاحها من بيت المال
وقد ساق منويل خبر هذه القصة وقال إنه لما انقضى للفرنسيس الزاد يعني الكور والبارود أقلع ليلا لأنه خاف إن لم يذهب طوعا ذهب كرها ولما اتصل الخبر بالسلطان رحمه الله وهو يومئذ بفاس كتب كتابا يقول فيه ما نصه الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه عبد الرحمن بن هشام الله وليه خديمنا الأرضى الطالب محمد بن عبد الهادي زنيبر وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد فقد وصلنا كتابك مخبرا بما صدر من مراكب عدو الله الفرنسيس من استرسال الرمي على المدينة من ضحى النهار إلى قرب العشاء ثم أقلعوا بالخيبة والهوان وردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا ومنح الله المسلمين من الصبر والثبات واليقين ماقرت به عين الدين وكان قذا في عين أهل الشرك المعتدين واستشهد من المجاهدين من ختم الله له بالسعادة الأبدية والحياة السرمدية فالحمد لله على إعزاز دينه ونصر ملة نبيه ولا زالت والحمد لله مشكاة الإسلام ساطعة الأنوار مشيدة المنار { والله متم نوره ولو كره الكافرون } الصف 8 ولا يخفى عليكم ما ورد من اآيات القرآنية والأحاديث النبوية في فضل الجهاد في سبيل الله والصبر لإعلاء كلمة الله وقد قمتم بالواجب عليكم في ذلك وكنتم عن الظن بكم وأتيتم بالمطلوب منكم أصلحكم الله ورضي عنكم ومن قتل فقد أكرمه الله بالنعيم الذي لا نفاد له وكل ما تلف يخلفه الله فما كان في الله تلفه فعليه سبحانه خلفه فزيدوا في التيقظ والصبر أعانكم الله وقد أمرنا خدامنا أمناء العدوتين بتوجبه معلمين للغابة لقطع الكراريط وكتبنا لخديمنا ابن الحفيان بإنزال خيام بقربهم يأوون إليها حسبما طلبت ولا تعدمون شيئا مما يخصكم إن شاء الله وما ذكرت من اجتماع أهل المدينة عندك مع القاضي والأمين راغبين في الكتب لحضرتنا العلية بالإنعام عليهم بما يصلحون به صقالتهم ومساجدهم ودورهم وأسوارهم فها نحن كتبنا لأمناء العدوتين بالقدوم عليكم والتطواف على المحال المتهدمة دور
____________________


وغيرها بمحضرك مع القاضي والعدول وتقويم إصلاح كل محل بالمناسب وأما الجامع الكبير وسيدي ابن عاشر فييسرون لهما الإقامة وعن تيسيرها يشرعون في إصلاحهما وأما الصقالة الجديدة والسور فيشرعون الآن في إصلاحهما إصلاحا متقنا بالطابية الجيدة التي لا يؤثر الكور فيها شيئا ويجعلون لها ساترا على كيفية بحيث يكون الضارب في أمان ولا تتراخوا في ذلك ونحن على نية إحداث بستيون جيد إن شاء الله عند منتهى السور من جهة الصقالة الجديدة فالعزم العزم والحزم الحزم ويصلك كتاب اقرأه على خداما أهل سلا والسلام في ثامن صفر عام ثمانية وستين ومائتين وألف انتهى نص الكتاب الشريف وقد أحدث السلطان رحمه الله هذا البستيون فجاء في غاية الجودة والمتانة والحسن وهو أثر من آثار الدول العظام
وفي هذه السنة ورد كتاب من السلطان في شأن حصر السكة يقول فيه ما نصه وبعد فقد طالما حاولنا حصر الزيادة في السكة وحذرنا وأنذرنا وأوعدنا من تعدى فيها حدا أو مد فيها بغير ما عينا يدا فلم يزد الناس إلا تطاولا فيها وإقداما عليها فاستخرنا الله في أمرها فظهر لنا أن نزيد فيها ما تواطأ الناس على زيادته ولم يرجعوا عنه تتميما للأعذار وتكميلا للإنذار فمن وقف عند ما حددنا ولم يحد عما أبرمنا فقد اختار سلامة نفسه وماله ومن تعدى وافتات في ذلك بأدنى شيء فقد سعى في هلاك نفسه ويناله من الوبال والنكال ما يتركه عبرة لمن اعتبر وتذكرة لم تذكر وقد أعذر من أنذر وها نحن جعلنا للبندقي أربعين أوقية وللضبلون اثنين وثلاثين مثقالا وللريال ذي المدفع عشرين أوقية وللذي لا مدفع فيه تسع عشرة أوقية وللبسيطة التي بالمدفع خمس أواق وللتي لا مدفع فيها أربع أواق وللدرهم الرباعي أربع موزونات ونصف موزونة وللدرهم السداسي سبع موزونات فعلى هذا العمل فأعلموا به من إلى نظركم وفي إيالتكم ومروهم بالوقوف عنده ومن حاد عنه وشممتم عليه رائحة الخوض والتعدي فيه ازجروه زجرا شديدا وأعلمونا والسلام في رابع عشر ربيع الثاني عام ثمانية وستين ومائتين وألف
____________________


وفي سنة تسع وستين ومائتين وألف غزا السلطان رحمه الله قبيلة زمور الثلج وكان بمكناسة فكتب أولا لابنه وخليفته سيدي محمد بمراكش فنهض منها ومر على تادلا فأوقع ببني موسى وقطع منهم أربعة وستين رأسا وقبض على مائة وخمسين مسجونا وكانوا قد قتلوا عاملهم أبا العباس أحمد بن زيدوح ثم دخل الخليفة رباط الفتح يوم الاثنين الحادي عشر من شوال من السنة المذكورة فأقام به إلى يوم السبت السادس عشر منه ثم عبر الوادي ونزل بقرميم من أعمال سلا ثم سار من الغد وبات بسيدي علال البحراوي فأقام هنالك يومين ثم رحل فنزل بتيفلت وأقام أياما ثم تقدم إلى دار ابن الغازي وكان السلطان رحمه الله قد خرج من مكناسة فنزل الخمسينات وشن الغارات على زمور فتوغلوا في الجبال فانتسف السلطان أموالهم وأكل زروعهم حتى أشجاهم ثم ارتحل عنهم إلى مراكش وارتحل الخليفة إلى فاس وذلك في السادس والعشرين من ذي القعدة من السنة ومن هذا التاريخ صار السلطان والخليفة رحمهما الله يغزوانهم كل سنة ويجتمعان عليهم فتنتسف الجنود زروعهم وأموالهم حتى أضر بهم الحال وأشرفوا على الهلاك وكادت تعدم عندهم الأقوات وأذعنوا إلى الطاعة طوعا وكرها ولما نهض السلطان عنهم في هذه المرة كتب كتابا يقول فيه وبعد فإن فساد زمور يعرفه الخاص والعام والجمهور أشد سوادا من الليل وأقوى مضاهاة بالسيل وطالما ذكرناهم ووعظناهم وحذرناهم وأنذرناهم وغضضنا الطرف عنهم مقابلين شدتهم باللين وتحريكهم بالتسكين فأطغاهم العجب وأبطرهم وغطى الشر سمعهم وبصرهم { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا } المائدة 41 ولما رأينا ضلالهم لم يسفر عنه صبح الإقلاع وشعائر الإسلام استولت عليها يد الضياع استنهضنا إليهم الجيوش المنصورة التي لم تزل ألوية الفتح أمامها بحول الله منشورة واستقدمنا ولدنا الأبر سيدي محمدا حفظه الله من مراكش في جيش يقدمه اليمن والإقبال ويسوقه السعد في المقام والترحال ونهضنا نحن من مكناسة الزيتون في جيش شحن الفضاء وملأ النواحي والأرجاء خيلا ورجالا خفافا وثقالا وكنا فيما تقدم
____________________


نحارب هؤلاء المفسدين في المحل المشهور بالخميسات فكانت المحال لا تستوعبهم قتلا ونهبا وتشريدا وضربا فرأينا هذه المرة أن ننزل عليهم أولا بعين العرمة محل أفسدهم على الإطلاق والشمول والاستغراق فخيمنا بها أياما ثم رحلنا منها ونزلنا بمحصى ثم رحلنا منه ونزلنا الخميسات وفي خلال مقامنا ورحيلنا حل ولدنا سيدي محمد حفظه الله من الرباط ونزل بتيفلت محل المفسدين ومحط رحال البغاة المعتدين وتقاربت المحلتان فعظمت على المفسدين بذلك النكاية وبلغت فيهم الحد والنهاية واشتغلت المحال بأكل زروعهم وتبديدها واستخراج خباياهم قديمها وجديدها وهم حيارى ينظرون وإلى ما حل بهم من البلاء يبصرون وكلما عزموا على المدافعة رجعوا بالهوان وتخطفت رؤوس زعمائهم العقبان فعجزوا إذا وخرجوا من بلادهم وأيقنوا أن الشقاء المكتوب عليهم حكم بطردهم وبعادهم ولم يبق بها أنيس إلا اليعافير والا العيس وتحصنوا بأوعارهم المعلومة وصياصيهم المشؤومة في جبال تنقبت بالغيوم وكادت تصافح النجوم فضاق بهم الحال وهلك العيال وضاعت الأموال جوعا وعطشا وتصرف فيهم البلاء كيف شاء ومع تحصنهم بتلك الأوعار وملتف تلك الأشجار كانت الجيوش تود أن تقتحمها عليهم وتهب نفيس أعمارها في أخذهم ونحن قد هبنا الرفق الذي يزين وتركنا الخرق الذي يشين فأمرنا بالإمساك عنهم حتى تلفظهم أوعارهم وتحرقهم نارهم فلما طال بهم الأمد وتجرعوا حمى الكمد استجاروا بولدنا سيدي محمد حفظه الله فشفع عندنا فيهم فقبلنا شفاعته على شروط قبلوها وحقوق التزموها ومثالب نبذوها وجنحنا إلى الحلم والعفو اللذين أمر الله بهما وأسندنا أمرهم إلى ولدنا المذكور قطعا لأعذارهم ونهضنا عنهم والحمد لله محتسبين والله أسال توفيق المسلمين أجمعين آمين في السادس والعشرين من ذي القعدة الحرام عام تسعة وستين ومائتين وألف اه نص الكتاب الشريف
وفي هذه السنة ظهر الكوكب ذو الذنب أيضا وفي أوائلها استوزر السلطان رحمه الله الفقيه العلامة الأفضل أبا عبد الله محمد بن عبد الله
____________________


الصفار التطاوني عقب قدومه إلى مراكش وفيها تم بناء البستيون العظيم بسلا الموضوع بالزاوية الشمالية منها على شاطىء البحر وكان الصائر عليه بأمر السلطان من أحباس المسجد الأعظم برباط الفتح خمسون ألف مثقال أو ما يقرب منها وفيها أيضا وقعت نادرة بفاس وهي أن الإمام كان يخطب يوم الجمعة بمسجد القرويين فسقط بالصف الثالث منه قطعة من الجبص المبني به السقف تزن نحو ربع قنطار ففر الناس الذين كانوا بذلك الصف فرآهم الذين من خلفهم ففروا لفرارهم فرآهم غيرهم ففعلوا مثلهم حتى تقوضت صفوف المسجد كلها وخرجوا يتسابقون إلى الأبواب ووقع عليها ازدحام شديد وجاوزت مقدمتهم سوق الشماعين وتركوا نعالهم ولبدهم وطيالسهم بل وقلانسهم وضاع من المصاحف والأجزاء ودلائل الخيرات ما لا يحصى كل ذلك وهم لا يدرون ما وقع وما تراجعوا إلا بعد حين ثورة إبراهيم يسمور اليزدكي بالصحراء
لما كانت أواسط إحدى وسبعين ومائتين وألف ظهر إبراهيم يسمور اليزدكي بصحراء تافيلالت وكان السبب في ذلك أن برابرة الصحراء يومئذ كانوا حزيين حزب آيت عطة ولهم العزة والكثرة بذلك القطر وحزب آيت يفلمان وهم دون ذلك وكانت آيت عطة تؤذي الأشراف بتلك الناحية وتسيء جوارهم فقام إبراهيم هذا في آيت يفلمان وجنح إلى الأشراف وبالغ في إكرامهم والإحسان إليهم وصار يأمر قومه بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويذكر السلطان بخير ويحض قومه على طاعته حتى اشتهر بذلك القطر وكثر الثناء عليه واتفق أن حدث في أثناء ذلك بينهم وبين آيت عطة شنآن فزحف إليهم إبراهيم وأوقع بهم وقعة بعد العهد بمثلها فازداد قومه فيه محبة وغبطة وعلقت به آمال الأشراف وأحبوه لأن غلبة آيت عطة يومئذ كانت من الأمر الغريب وانضم إلى ذلك بسط يده بالعطاء للبعيد والقريب واتصل خبره بالسلطان وكان من طبعه رحمه الله محبة أهل الخير والجنوح لهم فأقبل عليه
____________________


ورفع من قدره وولاه على تلك الناحية فاشتد أمره وطار ذكره وسرت فيه نخوة الرياسة فأراد الاستبداد واستحال حاله إلى الفساد حتى صار يرد على السلطان أوامره ثم تدنى قليلا قليلا من أطراف المملكة وقوي حسه بالمغرب فكتب إليه السلطان رحمه الله الكتائب وبعث البعوث فقاتلوه برهة ثم قبض الله بعض قرابته فاغتاله واحتز رأسه وجاء به متقربا إلى السلطان وهو يومئذ بمراكش فأمر السلطان بإعمال المفرحات واستدعى أهل مراكش على طبقاتهم فأفاض عليهم النعم وغمرهم بالإحسان غمر الديم
نادرة كان ممن استدعاه السلطان رحمه الله في هذا الصنيع أهل المدارس من طلبة العلم المتغربين بها فجلسوا ناحية من القوم ولما خرج الطعام من دار السلطان وفرق على طبقات الناس اتفق تأخيره عن هؤلاء الطلبة واتفق أيضا أن سأل بعض الحاشية بعض الأعوان القائمين على الطعام فقال له من الذي بقي بدون إطعام فقال لم يبق إلا الطلبة والطحانون وكان كذلك فسمعه أحد الطلبة فقال لأصحابه ألا تسمعون إلى ما يقول هذا فقالوا وما قال قال لهم قال إنه لم يبق إلا أنتم والطحانون فقد شوركتم معهم بالعطف بالواو والله لا جلستم وقاموا مغضبين فتبعهم بعض حاشية السلطان واستعطفهم فلم يرجعوا واتصل الخبر بالسلطان فقال دعهم فسنصلح شأنهم ومن الغد دعاهم إلى بستان الوزير إبن إدريس داخل باب الرب من مراكش وأفاض عليهم من النعم ما غمرهم ثلاثة أيام حتى رضوا ثم عمدوا إلى ثمار البستان فاستلبوها عن آخرها وهذه القصة تدل على كرم طبع السلطان رحمه الله وسعة أخلاقه وتعظيمه للعلم وأهله وقد ذكرت بهذه النادرة قول القائل
( إذا شوركت في أمر بدون ** فلا يك منك في هذا نفور )
( ففي الحيوان يجتمع اضطرارا ** أرسطاليس والكلب العقور )
وتحقيق مسألة هذا العطف مذكور في باب الفصل والوصل من علم المعاني وبستان ابن إدريس هذا هو الذي يقول فيه أبو عبد الله أكنسوس رحمه الله
____________________


( ألمم بمغنى اليمن من ذا المجلس ** وأدر بساحته نجوم الأكؤس )
( واسعد فإن الدهر أسعد أهله ** وأحلهم فيه حلول المعرس )
( واشرب هنيء البال في جنباته ** يغنيك عن جيرون أهل المقدس )
( واصرف عن الزهراء ذكرك ساليا ** وعن الخورنق والرسوم الدرس )
( لو قلت ما نالت بدائع حسنه ** غرف البديع وحق مجدك لم تس )
( نصر تحف به المحاسن كلها ** وتحار في مرآه عين الأكيس )
( فإذا أردت إصابة الأغراض من ** كل المنى أو كل معنى أنفس )
( أرسل مهام اللفظ في أكنافه ** إن الحنايا الحدب فيه كالقس )
( لا شيء أهنى من تفيىء ظله ** المخضل أو من زهره المتنفس )
( تتمثل الأزهار في أنهاره ** مثل المجرة والنجوم النكس )
( وترى الجداول تلتوي بغصونه ** تحكي البرين عن الغواني الميس )
( طابت حسى الكاسات تحت ظلاله ** وتسابقوا اللذات نحو المحتس )
( يا منزلا قد خصصته سعادة ** واستبدلته أنعما من أبؤس )
( أصبحت مأوى للوزير محمد ** نجل الأدارسة الكرام المغرس )
( إنسان عين الكون من لبست به ** رتب العلى أبهى وأبهج ملبس )
( يا أيها البحر الذي من فيضه ** كل الأماني والغنى للمفلس )
( يهنيك ذا القصر الذي أنشأته ** بالسعد في عام انشراح الأنفس )
( قابل قدور الدوح في جنباته ** بالغيد ترفل في بهي السندس )
( ومتى شربت زلاله فامزج به ** راح المراشف من أغن ألعس )
( لا زلت تشرف من مطالع سعده ** كالبدر يظهر من خلال الحندس )
( والدهر يخدم جانبيك ويحتمي ** بجلالك العالي الأعز الأقعس )
وفي هذه السنة أعني سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف كان الوباء بالمغرب وهو إسهال مفرط يعتري الشخص ويصحبه وجع حاد في البطن والساقين ويعقبه تشنج وبرودة واسوداد لون فإذا تمادى بالشخص حتى جاوز أربعا وعشرين ساعة فالغالب السلامة وإلا فهو الحتف وفي هذا الوباء مات
____________________


شيخ الطريقة أبا عبد الله سيدي محمد الحراق التطاوني وبموته أقلع الوباء من تلك البلدة ومات به بسلا منتصف ذي القعدة من السنة مائة وعشرون نفسا وفي هذا اليوم توفي عامل سلا أبو عبد الله محمد بن عبد الهادي زنيبر
وفي سنة اثنتين وسبعين ومائتين وألف التفت الخليفة سيدي محمد بن عبد الرحمن إلى عرب الخلط فاستعملهم في الجندية بعد أن كانوا في عداد القبائل الغارمة من لدن المنصور السعدي فاعتنى بهم الخليفة المذكور ونقلهم من بلاد سفيان وبني مالك وأحواز العرائش وأنزلهم بزقوطة ووادي مكس من أعمال مكناسة وكساهم وأجرى عليهم الجرايات ثم اختل أمرهم بعد سنتين أو ثلاث
وفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف ورد كتاب من السلطان رحمه الله يقول فيه بعد الافتتاح ما نصه خديمنا الأرضى الطالب عبد العزيز محبوبة وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد فبوصول كتابنا هذا إليك عين عشرين من الولدان النجباء لتعلم علم تاطبجيت وانظر لهم معلما ماهرا أو معلمين من طبجية البلد يعلمهم ويشرعون في التعلم الآن فيبدؤون بمقدماته ثم يتدربون منها إلى الأخذ في تعلم رماية المدفع والمهراس وهكذا حتى ينجبوا ويمهروا في الصنعة ويصيروا قادرين على الخدمة ونطلب الله أن يعينهم ويفتح بصائرهم وهؤلاء العشرين يكونون زائدين على من هنالك من الطبجية ونأمر الأمناء أن يرتبوا لهم إعانة على ذلك خمس عشرة أوقية في كل شهر للواحد ثم من ظهرت نجابته منهم وفاق غيره فإنا نزيده في المرتب كما نأمرهم أن يرتبوا لمعلمهم واحد أو أثنين ثلاثين أوقية للواحد في كل شهر زيادة على راتبهم المعلوم واعتن بأمرهم غاية الاعتناء وقد كتبنا لغيركم من المراسي مثل هذا وسننظر من تظهر ثمرته واعتناؤه والسلام في عشرين من ذي القعدة عام ثلاث وسبعين ومائتين وألف اه نص الكتاب الشريف
____________________


وفي هذه السنة انعقدت الشروط بين السلطان وبين النجليز وهي قسمان قسم في أمور التجارة وبيان الصاكة والأعشار وأن لا تعطى من أعيان السلع إلا إذا أراد التاجر ذلك عن طيب نفسه وهي خمسة عشر شرطا وقسم في أمور الهدنة بشمول الأمن والاحترام لرعيتي الجانبين في أي موضع كانوا وهي ثمانية وثلاثون شرطا وكان المباشر لعقدها أبو عبد الله محمد الخطيب التطاوني بطنجة بعث السلطان المولى عبد الرحمن أولاده إلى الحجاز وما اتفق لهم في ذلك
وفي سنة أربع وسبعين ومائتين وألف بعث السلطان رحمه الله أولاده إلى الحجاز بقصد أداء فريضة الحج وهم المولى علي والمولى إبراهيم والمولى عبد الله والمولى جعفر وابن عمهم المولى أبو بكر بن عبد الواحد بن محمد بن عبد الله وبالغ السلطان رحمه الله في حسن تجهيزهم بما لم يتقدم مثله لإخوتهم الذين حجوا قبلهم لا من الأموال ولا من الرجال ولا من الأدوات والمراكب الفارهة والمرافق العديدة وبعث معهم من الأموال شيئا كثيرا لأشراف الحرمين ولخواص معينين من الفقهاء والمجاورين ووجه أكابر التجار والأمناء العارفين بعوائد البلاد والأقاليم والأمم مثل الحاج محمد بن الحاج أحمد الرزيني التطاوني والحاج محمد بن جنان البارودي التلمساني وبعث معهم قاضي مكناسة الفقيه العلامة السيد المهدي بن الطالب بن سودة المري الفاسي وأخاه الفقيه العلامة السيد أحمد بن سودة في جملة من الفقهاء يقرؤون عليهم
أخبرني الحاج عبد الكريم بن الحاج أحمد الرزيني وهو أخو الحاج محمد المذكور آنفا أن السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله لما عزم على بعث أولاده إلى الحجاز استدعى الأمين الحاج محمد المذكور فدخل عليه
____________________


فأوصاه بما تنبغي الوصاة به وأخبره أن المال الذي عينه للنفقة على الأولاد المذكورين هي نفقة جمعت من حلال بعضها من أصول بتافيلالت وبعضها من غيرها مما هو حلال وقال له احتفظ بذلك المال واجعل السخاء فيه بمنزلة الملح في الطعام اه ولما عزم الأولاد المذكورين على الانفصال إلى وجهتهم أصحبهم السلطان رحمه الله وصية كافية يقول فيها ما نصه الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أولادنا عبد الله وإبراهيم وعليا وأبا بكر وجعفرا وفقنا الله وإياكم للعمل بطاعته وحفظكم وأرشدكم وتولاكم وكان لكم في سائر أحوالكم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد فإنه لما كانت الأولاد قطع الأكباد وعماد الظهور وثمار القلوب وشفاء الصدور وجب أن يكون لهم الآباء السماء الظليلة والسحابة المنيلة وخير الآباء للأبناء ما لم تدعه المودة للتفريط في الحقوق وخير الأبناء للآباء ما لم يدعه التقصير إلى المخالفة والعقوق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولاد من رياحين الجنة وقال القائل
( وإنما أولادنا بيننا أكبادنا ** تمشي على الأرض )
( إن هبت الريح على بعضهم ** تمتنع العين من الغمض )
هذا وإن أولى ما زود به والد ولده وصية يتخذها في سفره إمامه ومعتمده فاعلموا أنا وجهناكم لحج بيت الله الحرام وزيارة قبر نبيه عليه الصلاة والسلام واستودعناكم الله الذي لا تضيع ودائعه فاقدروا قدر هذه الوجهة التي قصدتموها واعرفوا حق هذه العبادة التي يممتموها فتوجهوا لها بحسن النية راجين من الله سبحانه بلوغ القصد والأمنية وأوصيكم بتقوى الله في السر والعلانية فإن خير الزاد التقوى وبما أوصى به إبراهيم بنيه { يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } البقرة 132 وبما قال لقمان لابنه وهو يعظه { يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم } { يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر } لقمان 13 ، 17 الآية واستوصوا بعضكم بعضا خيرا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة وأخوكم مولاي عبد الله أكبركم فكونوا عند إشارته فإن للسن حقا في
____________________


التقدم وفي الحديث الشريف كبر كبر ومنذ نوينا توجيهكم لهذه الوجهة السعيدة ونحن نجيل الفكر فيمن نوجهه معكم حتى وقع اختيارنا على خديمنا الحاج محمد الرزيني لكونه نعم الرجل واجتمع فيه من الأوصاف المحمودة ما افترق في غيره فكونوا له بمنزلة الأولاد البررة وليكن لكم بمنزلة الوالد الشفيق كما قال القائل
( وكان لها أبو حسن علي ** أبا برا ونحن له بنين )
وآزرناه بالحاج أبي جنان البارودي لمروءته وحسن هديه وسمته وكلاهما خير والحمد لله وآثرناكم على أنفسنا بالفقيه الأوحد المشارك السيد المهدي ابن سودة وتوجه معه أخوه وهو أيضا ممن يشفع بعلمه فأوفوا كل واحد منهم قسطه ومستحقه مما أرشد إليه الرسول فهذب وأدب إذ قال ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه وحافظوا على دينكم واشتغلوا بما يعنيكم واتركوا ما لا يعنيكم ففي الحديث الشريف من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه واعكفوا على قراءتكم ولا تضيعوا الأوقات في البطالة خصوصا ما يتعلق بالعبادة التي أنتم بصددها فمن الآن اصرفوا كليتكم لقراءة المناسك وابدؤوا بأسهلها وأقربها مناسك المرشد المعين ثم منها إلى ما هو أوسع فروعا وأكثر مسائل وعلى الفقيه السيد المهدي المذكور أن لا يألو جهدا ونصيحة في تعليمكم والقراءة معكم واجعلوا أيضا وقتا مع أخيه فإنه من طلبة الوقت المدرسين فلم يبق لكم عذر في التقصير والبطالة وكل من توجه معكم من الأصحاب والأتباع والدايات فهو في رعايتكم وفي الحديث كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فعلموهم أمر دينهم ومناسك حجهم وخاطبوهم في ذلك على قدر ما يفهمون ليكون عملهم في صحيفتكم وفي الحديث خيركم من تعلم وعلم وفيه أيضا لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس وتحلوا بحلية أهل الفضل والكمال وكونوا على ما ينبغي من الأدب مع الخلق ومع الخالق وهذبوا أخلاقكم وهشوا وبشوا لملاقاة الناس وعاملوا كل واحد بما يستحقه ولا زال الناس يذكرون هنالك أخاكم مولاي سليمان
____________________


أصلحه الله ويدعون له في تلك الأماكن الشريفة لما رأوا من سعة أخلاقه وحسن بشره وبشاشته مع الناس ونعهد إليكم أن لا تتركونا من الدعاء في أي موطن حللتموه من تلك المواطن الشريفة خصوصا عند الملتزم والمقام وغيرهما من الأماكن التي ترجى إجابة الدعاء عندها وتوبوا عنا في استلام الحجر الأسعد وفي زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والتسليم عليه وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعليكم بالاستقامة في جميع أموركم وسلوك سبيل الموافقة والائتلاف وترك المشاجرة والاختلاف ومخالفة الهوى والنفس والشيطان فإن له مزيد تسلط بالشر في طرق الخير فكونوا في جميعها على حذر قال تعالى { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا } فاطر 6 نسأل الله لكم الحفظ والسلامة والأمن والعافية ذهابا وإيابا في أنفسكم ودينكم ودنياكم ونستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتم عملكم فتوجهوا في حفظ الله على مهل حتى تصلوا إلى القصر وأقيموا به في جوار أبي الحسن بن غالب نفعنا الله وإياكم ببركاته كما فعل إخوانكم قبل فإن المقام بالقصر خير من المقام بطنجة حتى يقدم البابور ويكتب لكم الخطيب بالإعلام وحينئذ توجهوا إليها راشدين وقد كتبنا بذلك للطالب محمد الخطيب وطالعوا الحاج محمد الرزيني على كتابنا هذا حين تتلاقوا معه إن شاء الله واعلموا أننا عينا عشرين ألف ريال بقصد أن يشتري بها حبس في سبيل الله عشرة آلاف ريال يشتري بها ما يكون حبسا بمكة وعشرة آلاف ريال يشتري بها ما يكون حبسا في سبيل الله بالمدينة المنورة وهي من جملة ما حاز الحاج محمد الرزيني ورفيقه فيما حازا من الصائر رجاء أن يبقى أجر ذلك جاريا منتفعا به إن شاء الله والسلام في السادس من رمضان المعظم عام أربعة وسبعين ومائتين وألف
قال أكنسوس وكان ركوبهم من طنجة في قرصان النجليز فلما بلغوا إلى الإسكندرية تلقاهم صاحب مصر بغاية الفرح والسرور وفوق ما يوصف من الإكرام والبرور وأنزلهم في أعز مساكنه وأبهاها وأبهجها وأشهاها وأعد فيها كل ما يحتاج إليه من أواني الفضة والذهب وفرش الحرير
____________________


والديباج والنفائس الغريبة ورتب لهم الرواتب العالية من أنواع الأطعمة والأشربة الفاخرة التي تناسب أقدارهم وأباح لهم الدخول إلى كل محل أرادوا رؤيته من الأبنية والمصانع والرياض والبساتين الملوكية التي يتعجب من رؤيتها وتنقل أخبارها فشاهدوا من ذلك ما لا يكشف حقيقته اللسان وما لا يظن أن تناله قدرة الإنسان ثم ركبوا في بحر القلزم إلى جدة فقضوا مناسكهم وشفوا غلتهم من مباشرة شعائر الشريعة المطهرة من الطواف والسعي والوقوف وزيارة المشاهد المباركة وتوجهوا إلى أعظم المقاصد وأسناها التي هي لنفوس المؤمنين غاية منأها زيارة شفيع الأمم في الموقف الأعظم وكانوا صادفوا بمكة وخما وفساد هواء مات منه كثير من الحجاج الأفاقين فمات من أصحابهم جملة ومات من أولاد السلطان المولى إبراهيم والمولى جعفر الأول بمكة والثاني بالمدينة وسلم الله الباقي وأكرمه وأعلى مقامه وعظمه وجمع له بين شرف الحياة وثواب احتساب مصيبته لمن مات ولما فازوا بزيارة سيد الأرضين والسموات ووافقتهم السعادة في ذلك المقام الذي تتضاءل دونه جميع المقامات وأدركوا ما أملوه من لثم تراب أشرف البقاع وأكرم الحجر وانفجر عليهم من كرم الله ما انفجر ونال كل واحد ما كان يؤمله ويرجوه فخرجوا من المدينة راجعين بكل خير وغسلوا بالدموع ما كانوا عفروه في تلك الأماكن من الوجوه ولكن نالتهم مشقة فادحة من عتاة الأعراب في المسافة التي بين المدينة وينبع لأنهم انفردوا عن الركب عند الرجوع ولولا لطف الله لاستؤصلوا عن آخرهم ولقد كانت نجاتهم من تلك الشدة من أعجب العجاب وفي خلوصهم منها عبرة لأولي الألباب فإنهم كمن بعث بعد مماته وإقباره وانقطاع أنفاسه وأخباره والحمد لله الذي لا تخفر ذمته ولا تنتهك حرمته فلما بلغوا ينبع وجدوا المراكب التي تحملهم في انتظارهم فركبوا قافلين ورياح السلامة تسوقهم وأرباح التجارة والسعادة قد تكفل بها سوقهم فلما وردوا حضرة مراكش تحت ظلال السلامة وقد نشر عليهم القبول بنوده وأعلامه باتوا بقنطرة تانسيفت وفي الغد ركبت الخيول والعساكر السلطانية لتلقيهم وخرج أهل
____________________


مراكش في زيهم وزينتهم وكان يوم لقائهم يوما مشهودا وموسما من المواسم المعظمة معدودا اه
وفي سنة خمس وسبعين ومائتين وألف وذلك يوم الجمعة السابع عشر من محرم منها توفي عالم فاس والمغرب والمجيد في صناعة التدريس والتحرير لا سيما مختصر الشيخ خليل الفقيه العلامة الأوحد أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الفيلالي الفاسي وكان المصاب به خصوصا عند طلبة العلم عظيما ولم يترك بعده في إجادة تحرير المسائل الفقهية مثله رحمه الله ونفعنا به وفي ليلة السادس من شعبان منها بعد العشاء الأخيرة زلزلت الأرض زلزالا يسيرا وفي رابع شوال من هذه السنة ورد المجاهد أبو محمد عبد الله بن محمد بن العربي فنيش السلاوي من مدينة لوندرة إلى ثغر سلا ومعه مركب موسوق فيه سبعة عشر مدفعا ومهراسان عظيمان من المعدن وأشياء أخر من آلة الحرب وكان جلبه لذلك بأمر السلطان المولى عبد الرحمن لعمارة البستيون الجديد بسلا الذي قدمنا ذكره قبل والله تعالى أعلم
وفي هذه السنة ظهر الكوكب ذو الذنب أيضا وهي المرة الثالثة في هذه المدة وفاة أمير المؤمنين المولى عبد الرحمن بن هشام رحمه الله
كان أمير المؤمنين المولى عبد الرحمن رحمه الله قد قدم مراكش فاتح سنة سبعين ومائتين وألف ولأول دخوله عزل الوزير أبا عبد الله الجامعي ورتب مكانه الفقيه أبا عبد الله غريط أياما يسيرة ثم استوزر الفقيه أبا عبد الله الصفار التطاوني واستمر السلطان مقيما بمراكش إلى آخر سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف فغزا زمور الشلح واجتمع عليها هو والخليفة سيدي محمد على العادة ثم صار الخليفة إلى مراكش وانحدر السلطان إلى مكناسة فاستمر مقيما بها يغزو زمور الشلح ويعود إليها وربما ذهب في بعض
____________________


الأحيان إلى فاس إلى أن دخلت سنة ست وسبعين ومائتين وألف فمرض مرض موته وقد كان ابتدأ به وهو منازل لزمور فنهض عنها إلى مكناسة وتمادى به مرضه إلى أن توفي يوم الاثنين التاسع والعشرين من محرم فاتح سنة ست وسبعين ومائتين وألف ودفن بين العشاءين أول ليلة من صفر بضريح السلطان الأعظم المولى إسماعيل رحم الله الجميع بمنه وقد كنت رثيته بقصيدة شذت عني الآن وأولها
( أمن طيف ذات الخال قلبك هائم ** ودمعك هام واكتئابك دائم )
( وهل أذكرتك النائبات عشائرا ** عفت منهم بعد المعالي معالم )
ورثاه الفقيه أبو عبد الله أكنسوس بقوله
( هذي الحياة شبيهة الأحلام ** ما الناس إن حققت غير نيام )
( حسب الفتى إن كان يعقل أن يرى ** منه لآدام رؤية استعلام )
( فيرى بداية كل حي تنتهي ** أبدا وإن طال المدا لتمام )
( والنفس من حجب الهوى في غفلة ** عما يراد بها من الأحكام )
( أوليس يكفي ما يرى متعاقبا ** بين الورى من سطوة الأيام )
( من لم يصب في نفسه فمصابه ** بحبيبه حكما على إلزام )
( بعد الشبيبة شيبة يخشى لها ** ذو صحة أن يبتلى بسقام )
( دار أريد بها العبور لغيرها ** ويظنها المغرور دار مقام )
( منع البقاء بها تخالف حالها ** وتكرر الإشراق والإظلام )
( لو كان ينجو من رداها مالك ** في كثرة الأنصار والخدام )
( لنجا أمير المؤمنين ومن غدا ** أعلى ملوك الأرض نجل هشام )
( خير السلاطين الذين تقدموا ** في الغرب أوفي الشرق أو في الشام )
( سر الإله ورحمة منشورة ** كانت سرادق ملة الإسلام )
( قصدته عادية الحمام فما عدت ** إن هددت علما من الأعلام )
( لم تحجب الحجاب منها طارقا ** كلا ولا دفعت يد الأقوام )
( والملك في عز مهيب شامخ ** وإمامه في جرأة الضرغام )
____________________


( عجبا لها لم تخش من فتكاته ** والأسد تزأر حوله وتحامي )
( عجبا لها لم تستح من وجهه ** والوجه أبهج من بدور تمام )
( عجبا لها لم ترع طول قيامه ** متهجدا لله خير قيام )
( تبا لها لم تدر من فجعت به ** من معتق وأرامل الأيتام )
( أسفا على ذات الجلال وأنه ** لأجل من أسف وفرط هيام )
( يا مالكا كانت لنا أيامه ** ظلا ظليلا دائم الإنعام )
( لا ضير أنك قد رحلت ميمما ** دار الهناء وجنة الإكرام )
( في حضرة تغدو عليك بشائر ** من حورها بتحية وسلام )
( ضاجعت في تلك القصور كواعبا ** درية الألوان والأجسام )
( تسقيك صرف السلسبيل مروقا ** وتدير كأسا من مدام مدام )
( فلك الرضى فانعم بما أعطيته ** ولك الهناء بنيل كل مرام ) بقية أخبار أمير المؤمنين المولى عبد الرحمن وسيرته ومآثره
يكفيك أيها الواقف على أخبار هذا الإمام الجليل السري النبيل من مناقبه خصلتان إحداهما شهادة عمه السلطان المولى سليمان له بالتقوى والعدالة والمحافظة على خصال الخير ونوافله حتى قدمه على بنيه حسبما مر ذلك كله مستوفى والثانية إقامته صلب هذه الدولة الشريفة بعد إشرافها على الاختلال وردها إلى شبابها بعد أن حان منها الزوال والارتحال كما رأيته أيضا فعلى التحقيق أن المولى عبد الرحمن رحمه الله هو المولى إسماعيل الثاني وأما حزمه وضبطه وكمال عقله وتأنيه في الأمور ووضعه الأشياء مواضعها وتبصره في مبادئها وعواقبها وإجراؤها على قوانينها فما أظنك تجهل منه شيئا بعد أن قصصنا عليك ما مضى من أخباره رحمه الله وقد رأيت كيف نزلت به النوازل وترادفت عليه الهزاهز من غير معين يذكر أو وزير يعتبر إلا في القليل النادر فقام رحمه الله بأعباء ذلك كله وعالج حلوه ومره حتى رد النصاب الملكي
____________________


إلى أصله وأحل عزه في محله وأما ورعه وصبره وحياؤه وتوقفه في الدماء توقفا تاما إلا إذا حصحص الحق وصرح الشرع فكل ذلك أمر معلوم يعلمه الخصوص والعموم وأما آثاره بالمغرب فشيء كثير من ذلك ما افتتح به ولايته من بناء ما تهدم من مرسى طنجة وصير عليه مالا عظيما حتى أعاده أحسن وأحصن مما كان ومن ذلك تجديد الحرم الإدريسي بفاس وبناء مسجده وتوسعته وتنميقه حسبما مر ومن ذلك البرجان العظيمان بسلا وأشبار الكبير المواجه للبحر منها والمارستان الكبير بضريح الشيخ ابن عاشر والمنار الشهير بالمسجد الأعظم منها وخزين البارود بالقليعة وغير ذلك وأشبار الكبير برباط الفتح وبنى بأعمالها لحفظها وتأمين طرقها قصبتين كبيرتين إحداهما الصخيرات والأخرى قصبة أبي زنيقة فأمن الناس بهما وارتفقوا بالتردد إليهما وجدد ما تهدم من أبراج الصويرة واعتنى بها وصير عليها أموالا ثقالا فجاءت في غاية الإتقان والحصانة ومن آثاره بمراكش آجدال الشهير وتجديد جامع المنصور بالقصبة بعد أن لم يبق منه إلا الاسم فأعاده إلى حالته الأولى على ضخامته وانفساحه وعلو بنائه وتجديد جامع الكتبيين مرتين وإصلاح قبة الشيخ أبي العباس السبتي رضي الله عنه والزيادة في جامع الشيخ أبي إسحاق البلفيقي بسوق الدقاقين منها وهدم جامع الوسطى وإعادته على شكل بديع وهيئة حسنة وبناء جامع أبي حسون وإقامة الجمعة به كما كانت أولا وبناء جامع القنارية والزيادة فيه ومن آثاره بحضرة فاس العليا تجديد بستان آمنة المرينية
قال أكنسوس وكان هذا البستان خرابا تألفه الوحوش مع أنه بباب دار السلطان وفي سرة الحضرة وقد كان في الدول المرينية على هيئة بهية فيه ظهرت زينة تلك الدولة وضخامتها وفيه مقاعدهم ومنازلهم العالية ومجالسهم المشرفة على بساتين المستقى إلى أن قال وبالجملة فقد كانت تلك العرصة منية من زينة الحياة الدنيا وجنة حائزة من البهجة المرتبة العليا ثم أخنت عليها الأيام بصروفها ومحت من تلك الرسوم جميع حروفها فرآها
____________________


الملوك قبل مولانا المؤيد فلم يرقوا لحالها ولا أنقذوها من أوحالها مع أنها في جوارهم وعقر ديارهم فعطف الله عليها هذا السلطان المبارك فأعاد بعد الممات محياها وأبرز من ظلمات العدم جميل محياها الخبر عن دولة أمير المؤمنين سيدي محمد بن عبد الرحمن رحمه الله
كان سيدي محمد بن عبد الرحمن بن هشام رحمه الله بعين الرضى من والده منذ نشأ وشب وكان متميزا عن سائر إخوته بشدة البرور بأبيه ومتصفا بالسكينة والوقار والصلاح والتقوى وسائر خصال الخير واستخلفه أبوه صغيرا فجرى على السنن الأقوم وحمدت سيرته ولما رأى منه السلطان رحمه الله مخايل النجابة والصلاح فوض إليه وألقى بزمام مملكته بيديه ولم يدخر عنه شيئا من أمور الملك ووظائفه فاستلحق في أيام أبيه واستركب واتخذ العساكر وجند الأجناد وقدم وأخر وخفض ورفع وأعطى ومنع حتى كأنه ملك مستقل وكانت العادة أنه إذا كان السلطان بمراكش كان سيدي محمد هذا بفاس أو بمكناسة وبالعكس فلما مرض السلطان رحمه الله مرض موته بمكناسة كان سيدي محمد بمراكش فلم يرعه إلا ورود الكتب عليه من أخيه المولى العباس ومن الوزير أبي عبد الله الصفار أن السلطان قد أشرف ووقع اليأس منه فنهض سيدي محمد من مراكش منزعجا وجد السير لعله يدرك حياة أبيه فلما كان ببلاد السراغنة على مرحلتين من مراكش اتصل به الخبر بوفاة السلطان رحمه الله ثم قدمت عليه بيعة أهل الحضرتين فاس ومكناسة وجميع الجيش البخاري وسائر أهل الحل والعقد من أعيان القبائل والبربر فاسترجع السلطان لمصابه وشكر الله إذ أبقى أمر المسلمين في نصابه وكتب بالخبر إلى مراكش وبعث بالبيعة الواردة عليه فاجتمع أهل مراكش على طبقاتهم بجامع الكتبيين وحضر عامل البلد يومئذ أبو العباس أحمد بن عمر بن أبي ستة وقائد الجيش السوسي بالقصبة أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد
____________________


الجراوي وقواد الحوز من الرحامنة وغيرهم فقرىء كتاب السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن بالأخبار بموت والده واجتماع الناس على بيعته فارتفعت الأصوات بالترحم على السلطان الصائر إلى عالم الرضى والرحمة وبالنصر لهذا الذي اختاره الله لحماية الأمة وكتب أهل مراكش بيعتهم من إنشاء أبي عبد الله أكنسوس وكذا الجيش السوسي وأهل الحوز وقدموا على السلطان سيدي محمد بمكناسة مؤدين الطاعة داخلين فيما دخلت فيه الجماعة فأكرم وفادتهم وأجل مقدمهم وأفاض عليهم من الإحسان ما غمرهم وكان مما قيل في تهنئته بالملك قول أبي عبد الله أكنسوس
( وجوه الأماني حسنها متجدد ** ومنظرها يحكيه خد مورد )
( قضى الحب في كل القلوب بأنها ** مماليك أرباب الجمال وأعبد )
( وكم من عصي للهوى متعفف ** يفر من السود العيون ويبعد )
( تصيده ظبي على حين غفلة ** مهفهف مستن الوشاحين أغيد )
( فأصبح مفقود الفؤاد مخبلا ** وأي فؤاد عاشق ليس يفقد )
( ولله في أسر الغرام ونهره ** نفوس ضعاف ليلهن مسهد )
( إذا الليل أضواها تكنفها الهوى ** وليس لها غير الكواعب منجد )
( وذي ظمأ بين الضلوع يجنه ** إلى رشفات للصبابة تبرد )
( تراءى له من منحنى الجزع برقه ** فظن بأن الجزع ثغر منضد )
( وتذكره تلك البروق مباسما ** عليهن مرفض الجفان معقد )
( يراقب أسراب النجوم بمقلة ** تقسمها شطرين نسر وفرقد )
( ويهفو لأيام العقيق فتنثني ** مدامعه مثل العقيق تبدد )
( وهل يتناهى عهد من سكن اللوى ** إذا العيش غض والحبائب تسعد )
( وما زالت الأيام تغري بنا النوى ** وتنفي الذي نهواه عنا وتبعد )
( ولست أبالي للزمان صروفه ** وكهفي أمير المؤمنين محمد )
( خليفة رب العالمين بأرضه ** وصارمه الشاكي الشبات المهند )
( إمام تولى الله تشييد ملكه ** وناهيك ملكا بالإله يشيد )
( وصفوة هذا الخلق من آل هاشم ** وأعلى ذوي التيجان فخرا وأمجد )
____________________


( وأرحبهم في العز باعا وفي العلى ** وأكثرهم في الفضل حظا وأزيد )
( أتته عروس الملك عاشقة له ** وكم عاشق عنها يذاذ ويطرد )
( وألقت على شوق إليه زمامها ** فطاب لها منه الجناب الممهد )
( فأصبحت الأيام تزهو بعدله ** وتنعم في ظل الهناء وتسعد )
( ففي بابه مأوى المكارم والندى ** وفي بابه الخيرات تولي وتوجد )
( ودولته للعز والنصر مألف ** وحضرته للأمن واليمن موعد )
( تذل ملوك العالمين لبأسه ** وتركع مهما أبصرته وتسجد )
( له راحة في الجود ما الغيث عندها ** وما البحر والدر النفيس المقلد )
( له أنعم تأوي إلى ظلها المنى ** وتسحب أذيال السماح وترفد )
( وعزم على الخيرات ليس بسامع ** مقالة من في المكرمات يزهد )
( ورأي ينير الخطب عند اعتكاره ** ويفسخ ما أيدي النوائب تعقد )
( ووجه إذا ما لاح أيقنت أنه ** محيا له وقت السعادة مولد )
( حيي كثير الابتسام مبارك ** يكبر ربي إن بدا ويوحد )
( أهز بهذا المدح منه معاطفا ** تجر ذيول الفخر إن هو يحمد )
( له العسكر الجرار تبرق في الوغا ** صوارم منه والمدافع ترعد )
( يعد إلى الأعداء كل كتيبة ** من الرعد يحدوها الوشيح المسدد )
( وكل كمى كالغضنفر مغضبا ** وكل صقيل وهو ماض مجرد )
( يبد العدا قبل اللقاء مهابة ** فصارمه يفري الطلى وهو مغمد )
( هو الملك المشهور بالحلم والدها ** وبالعلم والشهب الدراري تشهد )
( تشد لإدراك الغنى عند بابه ** ركائب أنضاها الدؤب المشدد )
( يحدث عنه الوفد عند صدوره ** أحاديث من بحر إذا البحر يزيد )
( إلى مجده آمالنا قد تطاولت ** وليس لها إلا حماه المؤيد )
( فيا ملكا يحمي الرعية بأسه ** ويحييهم بالبذل والبذل أرغد )
( يدبر فيهم كل يوم مصالحا ** تعود بما يرضون والعود أحمد )
( ويشملهم بالعدل والفضل والندا ** ويصلح بالصمصام من هو مفسد )
( هنيئا لك الملك الجديد فإنه ** يدوم بحمد الله وهو مسرمد )
____________________


( هنيئا لنا نحن العبيد فإننا ** بسؤدد مولانا الإمام نسود )
( ودونك يا خير السلاطين كاعبا ** بديعة حسن للنهي تتودد )
( تدير كؤوس الراح دون تأثم ** إذا هي أثناء المحافل تنشد )
( فلا زلت ما بين الملوك مخيرا ** كما اختبر ما بين المعادن عسجد )
وفي هذه الأيام ظهر المولى عبد الرحمن بن سليمان بن محمد وقرب من فاس طالبا للملك قيل إن بعض أبناء عمه بفاس ومكناسة لما توفي السلطان رحمه الله كاتبوه واستحثوه للقدوم وواطأهم على ذلك بعض عبيد البخاري وبعض البربر الذين بأحواز مكناسة ولما قرب من فاس كان الفقيه أبو عبد الله محمد العربي بن المختار الجامعي يومئذ يلي أمر شراقة بها فقام في ذلك أحسن قيام وحمل الناس على الثبات والتمسك بطاعة أمير المؤمنين سيدي محمد بن عبد الرحمن فكان ذلك سببا في سكون هذه الفتنة وانحسام مادتها فرجع المولى عبد الرحمن بن سليمان عوده على بدئه وآيس من بلوغ قصده وأقام بزاوية العياشي عند البربر إلى أن أضمحل أمره ولما قدم السلطان سيدي محمد رحمه الله من مراكش إلى مكناسة اجتاز بمدينة سلا ونزل برأس الماء في الثالث والعشرين من صفر سنة ست وسبعين ومائتين وألف وبعد الزوال دخل في جماعة من حاشيته وزار الشيخ أبا محمد عبد الله بن حسون والشيخ أبا العباس أحمد بن عاشر رضي الله عنهما ودخل البستيون الكبير ورأى مدافعه منصوبة على عجلات الحديد وكانت تغوص في الأرض إذا جرت من شدة ثقل المدافع فأشار بأن يفرش لها بساط من العود الجيد المحكم الصنعة والتركيب حتى يتأتى جريانها عليه بلا كلفة فصنعت لها كما أشار رحمه الله وقد كنت مدحته بقصيدة لم يبق على ذكري الآن منها إلا بيتان وهما
( حوى العلويون المعالي كلها ** وما منهم إلا ذرى المجد صاعد )
( ولكن أمير المؤمنين محمد ** هو البدر في العلياء وهي الفراقد )
____________________

انتقاض الصلح مع الإصبنيول واستيلاؤه على تطاوين ورجوعه عنها والسبب في ذلك
كان السبب في انتقاض الصلح مع جنس الإصبنيول أن العادة كانت جارية مع أهل سبتة من النصارى وأهل اللانجرة من المسلمين أن يتخذ كل من الفريقين محلا للحراسة على المحدة التي بينهما وكان النصارى يتخذون هنالك بيوتا صغارا من اللوح والمسلمون يتخذون أخصاصا من البردى ونحوه فلما كان آخر دولة السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله بنى نصارى سبتة على المحدة بيتا من حجر وطين وجعلوا فيه علامة طاغيتهم المسماة عندهم بالكرونة فتقدم إليهم أهل اللانجرة وقالوا لهم لا بد أن تهدموا هذا البيت الذي لم تجر العادة ببنائه وترجعوا إلى حالتكم الأولى من اتخاذ بيوت الخشب فامتنع النصارى من ذلك فعمد أهل اللانجرة إلى ذلك البيت فهدموه وإلى تلك الكرونة فنجسوها بالعذرة وقتلوا منهم أناسا وضيقوا على أهل سبتة بالغارات حتى كانوا يصلون إلى السور فرفع أهل سبتة أمرهم إلى كبيرهم بطنجة فكلم كبيرهم نائب السلطان بها وهو يومئذ أبو عبد الله محمد ابن الحاج عبد الله الخطيب التطاوني وشكا إليه ما نال أهل سبتة من عيث اللانجرة فدافعه الخطيب فلم يندفع وقال لا بد من حضور اثني عشر رجلا منهم بطنجة وسماهم بأسمائهم ولا بد من قتلهم جزاء على فعلهم فعظم الأمر على الخطيب وربما كلم في ذلك باشدور النجليز فقال له أحضر هؤلاء المطلوبين على عين الأجناس وإذا حضروا وظهر حق الإصبنيول فأنا ضامن أن لا يصيبهم شيء فأعجب الخطيب ذلك وعزم عليه فاتصل الخبر بأهل اللانجرة وأن الخطيب عازم على أن يكتب إلى السلطان في شأن اثني عشر رجلا منهم بأعيانهم فمشوا إلى الشريف سيدي الحاج عبد السلام بن العربي الوزاني وقالوا له إن الخطيب لا ينصح السلطان ولا المسلمين وإن كل ما قاله النصارى يساعدهم عليه حتى جسرهم علينا ونحن جئناك لتعلم السلطان بأمرنا وتسأله أن يمدنا بالقبائل المجاورة لنا ونحن نكفيه
____________________


هذا المهم وفي أثناء هذه المدة توفي السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله وولي ابنه سيدي محمد وقدم مكناسة واجتمعت كلمة أهل المغرب عليه فكتب له الشريف سيدي الحاج عبد السلام بأمر أهل اللانجرة وقرر له مطلبهم فشاور السلطان في ذلك بعض حاشيته فمال إلى الحرب وذلك كان الراجح عند السلطان لأنه عظم عليه أن يمكن العدو من اثني عشرا من المسلمين وفق اقتراحه واختياره يقتلهم بمحضر الملأ من نواب الأجناس ورأى رحمه الله أن لا يمكنه من مطلبه حتى يعذر فيه فاستخار الله تعالى وبعث خديمه الحاج محمد بن الحاج الطاهر الزبدي الرباطي إلى الخطيب بطنجة وأمره أن ينظر في القضية ويستكشف الحال وأن لا يجنح إلى الصلح إلا إذا لم يجد عنه محيصا وكثر المتنصحون لدى السلطان وهونوا عليه أمر العدو جدا مع أنه ليس من السياسة تهوين أمر العدو وتحقيره ولو كان هينا حقيرا فوصل الزبدي إلى طنجة واجتمع بالخطيب وفاوضه في القضية فوجد الخطيب جانحا إلى السلم فأبى أن يساعده على ذلك وأظهر كتاب السلطان بتفويض النظر إليه في النازلة فتأخر الخطيب عنها وترك الخوض والكلام فيها وآخر الأمر أن الزبدي انفصل مع نائب الإصبنيول على الحرب وذهب إلى حال سبيله وأزال الإصبنيول سنجقه من طنجة وركب إلى بلاده في الحين وكتب الزبدي إلى السلطان بالخبر فكتب السلطان إلى الثغور يخبرهم بما عقده مع الإصبنيول من الحرب وأمرهم أن يكونوا على حذر وأن يأخذوا أهبتهم للجهاد وفتح السلطان بيت المال وأبدأ وأعاد في تفريق المال والسلاح والكسي وقدم أولا القائد المأمون الزراري إلى تطاوين في نحو مائة فارس وخمسمائة من رماة العسكر فرابطوا خارج تطاوين إلى جهة سبتة ثم برز جيش الإصبنيول من سبتة في نحو عشرين ألفا من العسكر في غاية الاستعداد وكمال الشوكة ونزل على طرف المحدة داخل أرضه وكان خروجه يوم السبت أواسط ربيع الأول سنة ست وسبعين ومائتين وألف فنهض إليه أهل اللانجرة ومن جاورهم من قبائل الجبل وتسامع الناس بذلك فقدموا من كل جهة حتى اجتمع منهم نحو
____________________


الخمسة آلاف وزحفوا إلى العدو وقاتلوه نحو نصف شهر وكل يوم يقتل منه ضعف ما يقتل من المسلمين لأن حربه كان زحفا بالصف وحربهم كان مطاردة بالكر والفر فلا بد أن يهلك منه أكثر مما يهلك من المسلمين غير أنهم لم يتمكنوا من مخالطته في معسكره ولا من هزيمته لأنه كان يحصن على نفسه بأشبارات والمتارزات بخناشى الرمل وغيرها غاية التحصين ثم بعث السلطان رحمه الله أخاه الفقيه العلامة المولى العباس في كتيبة من الخيل نحو الخمسمائة فارس فنزل بموضع يعرف بعين الدالية قرب طنجة ثم بعد أيام زحف إلى العدو فنزل بمدشر يقال له البيوت باللانجرة واستمر القتال بين المسلمين والنصارى على نحو ماسبق نحو العشرة أيام ثم انتقل المسلمون إلى موضع آخر يعرف بأبي كدان خوفا من كرة العدو ودهمه إياهم فكان ذلك مما جرأ العدو عليهم وأظهر الفشل فيهم وقاتلوا هنالك نحو الخمسة عشر يوما ثم إن العدو اجتمع يوما وتحمل بخيله ورجله وزحف إلى المسلمين فصدمهم بجميع قوته وشوكته فصبروا له وصدقوه اللقاء فردوه على عقبه ولما لم يستقم له ذلك جمع نفسه ذات ليلة من غير شعور من المسلمين وركب البحر ونزل بمحل يعرف بالفنيدق لأنه كان هنالك فندق قديم وكان العدو في تنقلاته هذه لا يفارق الساحل ليحمي ظهره بمراكبه البحرية وكان بين الفندق ومحلة المسلمين نحو ساعة ونصف فأشار أهل الرأي على المولى العباس بأن يتأخر فليلا لكون العدو قد ضايقه فتأخر المولى العباس بالجيش إلى موضع يعرف بمجاز الحصا فازداد طمع العدو في المسلمين وظهر له ضعف رأيهم في مكائد الحرب وعدم ثباتهم لدى الطعن والضرب وكان قائد عسكر الإصبنيول يسمى أردنيل ووزيره المشير عليه يسمى بريم ورينتهم يومئذ إيسابيلا الثانية ثم عاد المسلمون إلى مطاردة العدو ومقاتلته على نحو ما أسلفنا فكانوا يذهبون إليه وهو بالفنيدق فيقاتلونه من الصباح إلى المساء فكانوا ينالون منه وينال منهم وفي أثناء هذه المدة وفد جماعة من أهل تطاوين على السلطان رحمه الله بمكناسة فأعظموا أمر العدو
____________________


وتخوفوا معرته في مالهم وأولادهم لأنهم كانوا قد أحسوا بشدة شوكته فوعدهم السلطان رحمه الله بأن يمدهم ويحامي عنهم ولا يدخر عنهم شيئا من العدد والعدد حتى يعذر فيهم وفي غيرهم ثم إن العدو ارتحل من الفنيدق بعد نحو عشرة أيام وتقدم نحو تطاوين وكان الناس قبل هذا لا يدرون أين هو قاصد ولما ارتحل من الفنيدق عرفوا أنه قاصد تطاوين فنزل بموضع يقال له النيكرو فأقام هنالك نحو ثمانية أيام والقتال على حاله المتقدم غير أن العدو كان في مادة قوية من البر والبحر يصل إليه من سبتة وغيرها كل ما يحتاج إليه من طعام وعلف وأرز وشعير وبقسماط وغير ذلك حتى أنه كان إذا ارتحل ترك من ذلك فضلة كثيرة يتعيش فيها ضعفاء أهل تلك الناحية وكان ذلك مكيدة مقصودة عنده يظهر بها القوة والرفاهية وكان شذاذ المتطوعة من أهل البادية يهجمون على معسكره بالليل ويجلبون منه البغال والنيران ويصبحون بها في تطاوين وغيرها وكان ضعفاء العقول من العامة يستحسنون ذلك وينشطون له ويرون أنهم قد صنعوا شيئا مع أن ذلك لا عبرة به في جنب ما كان يستولي عليه العدو من الأرض ويتقدم به في نحر المسلمين وهم يتأخرون والحاصل أن المسلمين لم يكونوا يقاتلونه على ترتيب مخصوص وهيئة منضبطة إنما كانوا يقاتلونه وهم متفرقون أيدي سبا فإذا حان المساء تفرقوا إلى محالهم في غير وقت معلوم وعلى غير تعبية فكان قتالهم على هذا الوجه لا يجدي شيئا وكان العدو يقاتل بالصف وعلى ترتيب محكم وكانت عنايته بما يستولي عليه من الأرض ويرى تقدمه إلى أمام وتأخر المسلمين بين يديه إلى خلف هزيمة عليهم
وقد ذكر ابن خلدون في فصل الحروب قتال أهل المغرب الذي هو المطاردة بالكر والفر وعابه فقال وصفة الحروب الواقعة بين أهل الخليفة منذ أول وجودهم على نوعين نوع بالزحف صفوفا ونوع بالكر والفر أما الذي بالزحف فهو قتال العجم كلهم على تعاقب أجيالهم وأما الذي بالكر والفر فهو قتال العرب والبربر من أهل المغرب وقتال الزحف أوثق وأشد
____________________


من قتال الكر والفر وذلك لأن قتال الزحف ترتب فيه الصفوف وتسوى كما تسوى القداح أو صفوف الصلاة ويمشون بصفوفهم إلى العدو قدما فلذلك تكون أثبت عند المصارع وأصدق في القتال وأرهب للعدو لأنه كالحائط الممتد والقصر المشيد لا يطمع في إزالته
وفي التنزيل { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص } الصف 4 اه ولازال العدو هكذا يتنقل شيئا فشيئا حتى وصل إلى وادي يعرف بوادي آسمير وكان يتحرى في تنقلاته يوم السبت معتمدا في ذلك حكما نجوميا على ما قيل فلما احتل بآسمير صادف ريحا شرقية هاج من أجلها البحر حتى لم تقدر مراكبه أن تحاذيه قرب الساحل فانقطعت عنه مادة البحر وطلع ماء البحر في وادي النيكرو من خلفه فأفعمه وقطع عنه المادة من سبتة كما طلع أيضا في وادي آسمير من أمامه فحبسه عن العبور وصار العدو متوسطا بين الوادين والبحر عن يساره وانقطعت عنه المواد حتى حكى بعض عسكره بعد ذلك اليوم أن الكليطة وهي خبزة صغيرة تشبه البقسماط كانت أول النهار تباع ببسيطة وفي آخره بيعت بريال ولا وجود لها وأيقنوا بالهلاك لو وجدوا من ينتهز الفرصة فيهم ولكن أين اليد الباطشة وبقوا على تلك الحال يومين أو ثلاثة ثم سكن البحر وانفش الواديان وجاءه المدد ولما رأى المسلمون أن العدو وصل إلى ذلك المحل تقهقروا ونزلوا بمدشر القلالين بينه وبين تطاوين نحو نصف ساعة ثم إن العدو عبر الوادي من آخر الليل وأصبح بموضع يقال له المضيق وكان متطوعة الأعراب في هذه المدة على قسمين الحازمون وأهل الغيرة منهم يقولون لولا أنه بين الجبال ومتحصن بالمتارزات لفعلنا وفعلنا والآخرون يقول أحدهم ما لي وللتقدم إلى هذه الشرشمة وإنما أهل تطاوين يقاتلون عن تطاونهم وأما أنا فحتى يصل إلي بخيمتي في عبدة أو دكالة أو كلاما هذا معناه كأنه يعتقد أنه لا تجب عليه نصرة المسلمين نعم الذين قاتلوا قتالا شديدا وأحسنوا الدفاع وقاموا بالنصرة بنية خالصة وهمة صادقة هم طائفة من شبان أهل فاس وطائفة من أهل زرهون والبعض من آيت يمور وخصوصا
____________________


الحسين المعروف بأبي ريالة منهم فإنه أبدأ وأعاد وأتى بما لم يسمع إلا في زمان الصحابة رضي الله عنهم
حكى من حضر وتواتر عنه أنه كان معلما براية صفراء وكان يضمها إلى صدره ويسددها نحو العدو ثم يحمل على صفهم فيخرقه حتى يأتي من خلفه ويفتك فيهم أشد الفتك ثم يعود ويستلب خيل العدو ويقودها بأرسانها ويأتي بها حتى يدفعها لمن بإزائه وكان إذا تقدم نحو العدو يقول لمن حوله تقدموا فأنا درقتكم وأنا سوركم تكرر ذلك منه المرة بعد المرة ولما أصبح العدو بالمضيق فارق البحر وصمد إلى تطاوين فدخل بين جبلين وكان في انتهاء ذلك المضيق الذي بين الجبلين من جهة تطاوين ويسمى فم العليق بعض أخبية أهل فاس وغيرهم فصمد العدو نحوهم وبغتهم بالكور والضوبلي وهو يقرع طبوله حتى أعجل البعض منهم عن حمل أثقاله ولما وصل إلى هذا الموضع حصل بتطاوين انزعاج كبير واستأنف الناس الجد والاجتهاد والقتال وتذامر جيش المسلمين وكان اليوم شديد المطر وقاتلوا قتالا شديدا وأبدأ أبو ريالة وأعاد في هذا اليوم هلك تحته فرسان وأرسل له المولى العباس فرسه وكان يعتني به وينوه بقدره ويبعث الطبل يقرع على خبائه وأصابته في هذا اليوم جراحة خفيفة وهلك من المسلمين والنصارى عدد كثير قيل هلك من أهل تطاوين فقط نحو الخمسمائة وكان الظهور في ذلك اليوم للعدو ومن الغد ارتحل من فم العليق وعدل يسارا إلى المرسى فنزل بها ليتمكن من مدد البحر واستولى على برج مرتيل وما والاه كدار مرتيل التي هي الديوانة وبمجرد وصوله إليها حصنها بأشبارات الرمل والمدافع وغير ذلك واتخذ بها دورا من اللوح وحوانيت منه وأقام مطمئنا وصارت المراكب تتردد له في البحر بالأقوات والعدة والعسكر وجميع ما يحتاج إليه حتى استراح ثلاثة عشر يوما ولم يكن في هذه المدة قتال ولا أنشبه العدو وفي هذه الأيام ورد المولى أحمد بن عبد الرحمن في جيش بعث به السلطان من مكناسة ونزل بموضع يقال له فم الجزيرة بالتصغير وكان المولى العباس نازلا بمدشر القلالين بمحل مرتفع يشرف على ما حوله ولما استراح العدو
____________________


وصلحت أحوال جيشه أنشب القتال فكان يخرج فيحوم حول المحلتين فيقاتل ويرجع فكان بريم دائما يكون في أول المقدمة على فرس أبيض مشهورا عندهم موصوفا بالشجاعة وجودة الرأي ثم إن العدو عزم على مصادمة المسلمين والهجوم على تطاوين فارتحل يوم السبت الحادي عشر من رجب سنة ست وسبعين ومائتين وألف وانكمش واجتمع وتقدم للقتال وأرسل جناحا من الخيل طالعا مع الوادي إلى جهة المدينة وجناحا من العسكر الرجالة طالعا من الغابة إلى جهتها أيضا وزحف بعسكره شيئا فشيئا وهو في ذلك يرمي الكور والضوبلي والبغال تجر المدافع والجناحات ممتدان يكتنفان محلة المولى أحمد ولما قربا منها وكاد ينطبقان عليها فر من كان بها وتركوا الأخبية والأثاث بيد العدو فاستولى عليها ونزل هنالك بعسكره وحصن عليه وتقهقر المولى العباس بجيشه حتى نزل خلف تطاوين وبقيت بينه وبين العدو وكان في تقهقره هذا قد دخل المدينة ومر في وسطها واضعا منديلا على عينيه وهو يبكي أسفا على الدين وقلة ناصره ولما استقر بالمحلة مع العشي خرج إليه أهل تطاوين وشكوا إليه ما نزل بهم من أمر العدو واستأذنوا في تحويل أثاثهم وأمتعتهم وحريمهم إلى مداشر الجبل وحيث يأمنون على أنفسهم قبل حلول معرة العدو بهم فأذن لهم وعذرهم وكان قبل ذلك قد منع الناس من نقل أمتعتهم وحريمهم لئلا يفتنوا المسلمين ويجروا عليهم الهزيمة ولكي يقاتلوا عليها بالقلب والقالب فلما كان هذا اليوم وشكوا إليه أمر العدو الذي قد أطل عليهم ولم يبق إلا أن يثب وثبة أخرى فيصير بها في وسط البلد عذرهم وكان العدو حين نزل بفم الجزيرة عشية ذلك اليوم قد أرسل أربع كورات على تطاوين فوقعت في وسط المدينة كأنه يعلمهم بأنه قد أشرف عليهم ولم يبق دون أخذهم قليل ولا كثير ولما سمع الناس كلام المولى العباس انطلقوا مسرعين إلى نقل أمتعتهم وقام الضجيج في المدينة واختلط المرعى بالهمل وامتدت أيدي الغوغاء إلى النهب وخلع الناس جلباب الحياء وانهار من كان هنالك من أهل الجبل والأعراب والأوباش ينقبون ويكسرون أبواب الدور والحوانيت والداخل للمدينة أكثر من الخارج
____________________


وباتوا ليلتهم كذلك إلى الصباح ولما طلع النهار وتراءت الوجوه انتقلوا من نهب الأمتعة إلى المقاتلة عليها فهلك داخل المدينة نحو العشرين نفسا وعظمت الفتنة وتخوف من بقي بتطاوين عاجزا عن الفرار فاجتمع جماعة منهم على الحاج أحمد بن علي آبعير أصله من طنجة وسكن تطاوين وتشاوروا فيما نزل بهم فأجمع رأيهم على أن يكتبوا كتابا إلى كبير محلة العدو أردنيل يطلبون منه أن يقدم عليهم لتحسم مادة الفتنة التي هم فيها فكتبوا الكتاب ووجهوه مع جماعة منهم فما انفصلوا عن المدينة غير بعيد حتى عثروا على طلائع العدو يطوفون حول المدينة ويحرسون محلتهم فتسابقوا إليهم وهشوا وبشوا وسألوهم ما الذي أقدمكم فقالوا جئنا بكتاب إلى أردنيل فأبلغوهم إليه فأظهر أيضا البشر والفرح وقدم إليهم طعاما من الحلواء وقال لهم في جملة كلامه إني أفعل معكم ما لم يفعله الفرنسيس مع أهل الجزائر وتلمسان يعني من الإحسان وكذب خذله الله فإن ذلك من حيله التي يستهوي بها الأغمار ويفسد بها الدين وإلا فأي إحسان فعله الفرنسيس مع أهل الجزائر وتلمسان ألسنا نرى دينهم قد ذهب وأن الفساد قد عم فيهم وغلب وأن ذراريهم قد نشؤوا على الزندقة والكفر إلا قليلا وعما قريب يلحق التالي بالمقدم والله تعالى يحوط ملة الإسلام ويكسر بقوته شوكة الزنادقة وعبدة الأصنام ولما عرضوا على العدو الدخول إلى بلدهم قال لهم أما اليوم فيوم الأحد وهو عيد النصارى ولا يحل لي التحرك والانتقال وأما غدا فانظروني في الساعة العاشرة من النهار فرجعوا إلى أهلهم وأصحابهم وأعلموهم بمقالة العدو والحال ما حال والقتال لا زال وأبواب الحوانيت تكسر والدور تخرب والقوي يأكل الضعيف وباتوا ليلة الاثنين كذلك وأصبحوا من الغد كذلك ثم إن العدو استعد وأخذ أهبته وتقدم إلى تطاوين بعد أن فرق عسكره على جهتين فرقة مرت مع أردنيل على الجبانة قاصدة الباب الذي يفضي إليها وفرقة ذهبت مستعلية إلى جهة القصبة والبرج ولما وصل أردنيل إلى الباب وصل الآخرون إلى القصبة فأما أردنيل فوجد الباب مغلقا وكلمه المسلمون من داخل المدينة فأمرهم
____________________


بالفتح فقالوا إن المفاتيح قد ذهبت في الفتنة فقال اكسروا الأقفال فكسروها ودخل ودخل معه كبراء عسكره فتوجه هو إلى دار المخزن فنزل بها وافترق كبراء العسكر في المدينة بأيديهم ورقات مكتوب فيها أسماء الدور التي ينزلون بها كل واحد بداره مكتوبة في ورقته فكان أحدهم يسأل عن دار الرزيني وآخر يسأل عن دار اللبادي وآخر يسأل عن دار ابن المفتي وهكذا بحيث دخلوا على بصيرة بأمره البلد ودور كبارها فاستقر كل واحد منهم في داره التي عينت له وأما الذين ذهبوا نحو القصبة فإنهم لما وصلوا إلى السور أنشبوا فيه سلاليم من قمن غلاظ برؤوسها مخاطيف معوجة وتسلقوا فيها بسرعة ولما صاروا في أعلى البرج رفعوا سنجقهم في أعلى الصاري وأخرجوا عليها مدفعا ولما سمع المشتغلون بالنهب والقتل حس المدفع رفعوا رؤوسهم إلى البرج وبمجرد ما وقع بصرهم على بنديرة العدو تلوح خرجوا على وجوههم فارين كالنعم الشارد فالأمر لله ولا حول ولا قوة إلا بالله وا أسفي على الدين وأهله ولما استقر العدو بالبلد رتب حكامها وكف اليد العادية عنها وولى على المسلمين الحاج أحمد آبعير المذكور آنفا وكان دخوله إلى تطاوين واستيلاؤه عليها ضحوة يوم الإثنين الثالث عشر من رجب سنة ست وسبعين ومائتين وألف ورثاها الأديب الشريف السيد الفضل أفيلال بقصيدة يقول فيها
( يا دهر قل لي على مه ** كسرت جمع السلامة )
( نصبته للدواهي ** ولم تخف من ملامة )
( خفضت قدر مقام ** للرفع كان علامه )
( ملكته لأعاد ** ليست تساوي قلامة )
( فالدين يبكي بدمع ** يحكيه صوب الغمامة )
( على مساجد أضحت ** تباع فيها المدامة )
( كم من ضريح ولي ** تلوح منه الكرامة )
( علق فيه رهيب ** صليبه ولجامه )
( ومنزل لشريف ** وعالم ذي استقامة )
____________________


( صار كنيفا لعلج ** ولم يراع احترامه )
( وكم وكم من أمور ** للدين فيها اهتضامه )
( تبكي عليها عيون ** كآبة وندامة )
( تطوان ما كنت إلا ** بين البلاد حمامة )
( أو كخطيب تردى ** من بعد لبس العمامة )
( بل كنت روضا بهيجا ** زهرك أبدى ابتسامه )
( أو كمحيا عروس ** علاه في الخد شامة )
( فقت بهاء وحسنا ** فاسا ومصر وشامه )
( رماك بالعين دهر ** ولا كزرق اليمامة )
( ففرق الأهل حتى ** لم يبق إلا ارتسامه )
( ما كان أحلى زمانا ** وما ألذ غرامه )
( مضى لنا مع بدور ** ذوي نهى وفخامه )
( ما بين إنشاد شعر ** وبين إنشا مقامه )
( وشملنا في التئام ** والبسيط يهوى التئامه )
( حن السرور إليه ** شوقا ورام التثامه )
( ساعده السعد حتى ** نال المنى ومرامه )
( يا حسنها من ليال ** لو لم تصر كالمنامة )
( تطوان يا دار أنس ** وخيس أهل الزعامة )
( هل للوصال سبيل ** فالهجر أكمل عامه )
( والقلب ذاب اشتياقا ** وحسرة واستهامة )
( والوجد أضعف جسما ** وكاد يبري عظامه )
( يا أهل تطوان صبرا ** فما لخطب أدامه )
( دوام حال محال ** وهل لظل إقامة )
( إن غاب نجم سعود ** ولاح نجم شآمة )
( فسوف يطلع بدر ** يمحو سناه ظلامه )
( فاعتصموا برجاء ** وارعوا بصدق ذمامه )
____________________


( وحسنوا الظن تنجوا ** دنيا ويوم القيامة )
( وفوضوا الأمر لله ** يكف عنا انتقامه )
( ما فاز إلا ذكي ** قدم خيرا أمامه )
( حيث أقامه يرضى ** ولو بقصر كتامة )
( ولا يزل ذا انتظار ** في كل وقت ختامه )
( يراقب الله سرا ** وجهرة باستدامه )
( يطلب حسن ختام ** وحل دار المقامة )
ثم إن أردنيل بعد أن رتب الحكام بتطاوين عاد إلى محلته وقسم عسكره قسمين وأنزله مكتنفا للبلد شرقا وغربا واختار منه عشرة آلاف فأدخلها المدينة وبقي هو خارجا بإحدى المحلتين قال إن جيشه كان يوم دخل تطاوين سبعين ألفا كلها مقاتلة في غاية الاستعداد وكمال الشوكة ثم أمر بالنداء في البلد أن من أوقد نارا تلزمه العقوبة الشديدة حذرا من أن تكون هنالك مينا للمسلمين أو ما أشبهها فبقي الناس على ذلك نحو أربعة أيام لم يوقدوا فيها نارا ونادى أيضا بأن من فر من أهل البلد ولم يأت إلى متاعه وأصله إلى سبعة أيام فلا شيء له بعد ولم يقدم شيئا على نقل البارود والمدفع الذي كان للمسلمين بالمدينة فأما المدفع فحمله إلى أصبانيا وأما البارود فجعله بضريح ولي الله تعالى سيدي السعيدي وكذا فعل بجميع آلات الجهاد ثم عمد إلى ضريح سيدي عبد الله البقال فجعله كنيسة وجعل مسجد الباشا مختزنا للأرز والشعير ومسجد القصبة مختزنا للكليط ثم سار في المسلمين بالتوقير والاحترام ولم يسمهم خسفا ولا كلفهم شغلا ولا اقتضى منهم مغرما كان يتألفهم بذلك ومن باع منهم شيئا أضعف له في الثمن وأربحه وكذا فعل مع أهل المداشر الذين حول البلد حتى اتخذ الناس سوقا بموضع يعرف بكدية المدفع خارج تطاوين وشاع خبره في قبائل الجبل فانهاروا عليه من كل جانب وربحت الناس فيه ثم كتب أردنيل كتبا وبعث بها إلى قبائل الجبل يعدهم ويمنيهم إن هم قدموا عليه وخالطوه بالبيع والشراء ويتوعدهم إن لم يفعلوا فقدموا من كل أوب وارتفعت الأسعار
____________________


فزادت ضعف ما كانت عليه وأكثر واستمرت كذلك فلم ترجع بعد ثم أخذ في ترتيب بناء المدينة وتبديل شكلها حسبما جرت به عادة النصارى في مدنهم فهدم ما لم يوافق نظره وفرز الدور من سور البلد وكل دار كانت ملتصقة بالسور فصلها عنه واستمر على هذا الحال نحو العشرين يوما ثم دار الكلام بينه وبين المولى العباس في الصلح وتسامع الناس به ففرح المسلمون والنصارى معا أما المسلمون فوجه فرحهم ظاهر وأما النصارى فإنهم وإن كان لهم الظهور فهم لا يدركونه سهلا بل مع القتل العظيم والجرح الكثير والمشقة الفادحة قال تعالى { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون } النساء 104 هذا إلى مفارقة بلادهم التي ألفوها وعوائدهم التي ربوا عليها لا سيما عامة جيشهم الذين الغلبة في ضمن هلاكهم فدماؤهم هي ثمنها كما قيل بجبهة العير يفد حافر الفرس
حكى من حضر أن عسكر النصارى لما سمعوا بتناول الصلح حصل لهم من الفرح أضعاف ما حصل للمسلمين وصاروا يترددون إليهم ويبحثونهم عما تجدد من الأخبار وكلما سمعوا بشيء من أمر الصلح طاروا فرحا وذلك لأن قتال النصارى كله على الإكراه إذ لا يمكن عسكريا منهم أن يفر من الزحف حال القتال لأن الخيالة والسيافة من ورائهم يذمرونهم إلى الإمام ومهما رجع أحد منهم إلى خلف وترك في الصف فرجة ضربت عنقه في الحين فالموت عندهم في الفرار محقق وفي التقدم مظنون فيختارون المظنون على المحقق اللهم إلا إذا اشتدت الحرب وحمي الوطيس واختلط الرجال بالرجال أمكن الفرار حينئذ لاشتغال الرئيس والمرؤوس كل بنفسه وبهذا الضبط لم تتفق لهم هزيمة منذ خرجوا من سبتة ومن عادة العدو في الحرب أنه إذا نهض للقتال ارتحل بجميع ما في عسكره كأنه مسافر فترى العسكري منهم إذا تقدم للقتال حاملا معه جميع ما يحتاج إليه من ماء وطعام وبارود ورصاص حتى الموسى والمقص والمرآة والصابون وغير ذلك قد اتخذ لجميع ذلك أوعية لطافا وعلقها عليه فلا يؤده حملها لأنه اقتصر من كل على
____________________


قدر الحاجة وأما الأخبية فيحمل كل ثلاثة رجال خباء ولا تلحقهم كلفة في حمله لأن أخبيتهم في غاية اللطافة والصفافة وأعمدتها لطاف صلبة فهي مع كفايتها على الوجه الأتم في غاية الخفة بحيث إذا لف الخباء بما فيه كان كلا شيء ولو أراد أن يحمله واحد لفعل لكنه يقسمه ثلاثة أشخاص زيادة في الرفق ولئلا يحصل الضجر إذا طال السفر وأما المدافع فقد اتخذوا لها عجلات أفرغت إفراغا وركبت عليها على وجه محكم واتخذوا للعجلات بغالا خصية تجرها في غاية الفراهة والارتياض ويجعلون فوق تلك العجلات صناديق الإقامة من بارود ورصاص وضوبلي وغير ذلك وتجلس الطبجية على تلك الصناديق ويقوم آخرون حولهم قد أخذوا أهبتهم للقتال بكل ما يمكن ثم تندفع العساكر على هذا الترتيب صفوفا صفوفا وتتقدم شيئا فشيئا يخلف بعضها بعضا كأنها أمواج البحر تبرق الشمس على طموس رؤوسها وتلمع على عددها المصقولة وآلاتها وهو في هذه الحالة لا يفتر من رمي الكور والضوبلي والشرشم على كل جهة هكذا قتاله أبدا وإذا أدركه المساء أو وقعت محاجزة أثناء النهار وكان قصده الثبات ثبت بمحله ذلك ولا يتزحزح عنه بحال إلا إذا فني كل عسكره أو جله فبمثل هذا الضبط كان له الاستيلاء والظهور وأما مقاتلة المسلمين له فكانت غير منضبطة وإنما قاتله من قاتله منهم باختياره ومن قبل نفسه وإن كان هنالك ضبط من أمير الجيش فكلا ضبط ومتى ظهر له أن يذهب ذهب مع أن الله تعالى يقول { وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } النور 62 لكن المقاتل من المسلمين يأتي القتال وليس معه ما يأكل ولا ما يشرب فبالضرورة إذا جاع أو عطش ذهب يبحث عما يقيم به صلبه ثم هم يقاتلون على غير صف ولا تعبية بل يتفرقون في الشعاب ومخارم الأودية وحول الأشجار فيقاتلون من ورائها وإذا دفعوا في نحر العدو دفعوا زرافات ووحدانا ثم إذا أدركهم المساء ووقعت المحاجزة ذهب كل إلى خبائه الذي تركه وراءه بمسافة بعيدة
____________________


وهم في هذا كله ليس لهم وازع يحملهم على ما يراد منهم
فالحاصل أن جيش مغربنا إذا حضروا القتال وكانوا على ظهور خيولهم فهم في تلك الحال مساوون في الاستبداد لأمير الجيش لا يملك من أمرهم شيئا وإنما يقاتلون هداية من الله لهم وحياء من الأمير وقليل ما هم وقد جربنا ذلك فصح ففروا عن السلطان المولى سليمان في وقعة ظيان أولا وفي وقعة الشراردة ثانيا وكان السلطان المولى عبد الرحمن أهيب في نفوسهم منه فكانوا يلزمون غرزه لكنه لما بعثهم إلى تلمسان فعلوا فعلتهم وسلكوا عادتهم ولما شهدوا مع الخليفة سيدي محمد بن عبد الرحمن وقعة إيسلي جاؤوا بها شنعاء غريبة في القبح ولولا أنه قام بنفسه ليلة الحاج عبد القادر ومنع الناس من الركوب لربما عادوا إلى فعلهم وأحسن ما كانت حالهم في هذا الحرب فإنهم قاوموا العدو وفرقوا صفوفه غير مرة لكنهم أتوا من عدم الضبط الذي هو كضبطه فعدم ملاقاتهم للعدو في الكيفية القتالية هو الذي أضر بهم وأوجب لعدوهم الظهور عليهم إذ الشيء كما علمت إنما يقاوم بمثله والشر إنما يدفع بضده فالتنافي إنما يحصل بين الضدين أو المثلين وحربنا وحرب الإصبنيول كان من باب الخلافين ولا تنافي بين الخلافين كما هو مقرر في علم الحكمة والتوفيق إنما هو بيد الله
ولنرجع إلى الكلام على الصلح المتناول فنقول لما دار الكلام بين المولى العباس رحمه الله وبين أردنيل في الصلح استعدوا للاجتماع في يوم معلوم بمكان سوي بين المحلتين فلما كان ذلك اليوم ضرب بالمحل المعين خباء وجاء المولى العباس ومعه جماعة من وجوه جيشه وفيهم أبو عبد الله الخطيب التطاوني وخرج أردنيل ومعه جماعة من وجوه عسكره وخرج معه مقدم المسلمين بتطاوين الحاج أحمد آبعير رجاء أن يكون هو الترجمان بين الأميرين فيفوز بذكر ذلك الجمع وفخره فأخفق رجاؤه لأنه لما توافى الجمعان إلى الخباء بقي الناس كلهم قائمين على بعد منه ولم يدخله إلا المولى العباس وأردنيل والخطيب لا رابع لهم فيما قيل وأبدى أردنيل من
____________________


الأدب والخضوع للمولى العباس ما جاوز الحد وتفاوضوا ساعة ثم انفض المجلس وتناقل الناس أن حاصل ما دار بينهما أن أردنيل رغب في الصلح وتأكيد الوصلة بينهم وبين المسلمين على شروط ذكرها وأن المولى العباس توقف فيها وأحال ذلك على مشورة أخيه السلطان سيدي محمد وذهب كل إلى سبيله وبقي الناس ينتظرون الجواب بأي شيء يأتي من عند السلطان وبعد أيام ورد الخبر بأن السلطان لم يقبل ذلك الصلح فاستمر الناس على حالتهم الأولى من كون محلة العدو بتطاوين وبعضها خارجها شرقا وغربا ومحلة مولاي العباس على بعد من البلد مقدار نصف يوم ثم إن المسلمين اجتمعوا ذات يوم وبيتوا محلة العدو النازلة خارج البلد في ليلة معلومة فتقدموا إليها وذلك في أواخر شعبان سنة ست وسبعين ومائتين وألف وهجموا عليها في ليلة مظلمة والنصارى غارون وفتكوا فيهم فتكة بكرا باتوا يقتلونهم الليل كله ومن الغد كذلك إلى المساء وقاتل النصارى ذلك اليوم أيضا ولكن الظهور كان للمسلمين ولولا قوة نفوس العدو باستنادهم إلى البلد وتحصن كبيرهم بها لكانوا انكسروا كسرة شنيعة وكان عدد القتلى من النصارى في هذه الوقعة نحو الخمسمائة والجرحى أكثر من ألف وأما المسلمون فكان القتل فيهم ضعيفا ولما أصبح أردنيل ورأى ما حل بعسكره ساءت أخلاقه وقلب لأهل تطاوين ظهر المجن وأبدل تلك الشفقة التي كان يعاملهم بها بالغلظة والبشاشة بالاكفهرار وعمد إلى مسجد الشيخ أبي الحسن علي بركة رحمه الله فاتخذه مارستانا للجرحى فظلت الجرحى تنقل إليه وفرض على أهل تطاوين اللحف والقطائف فجمع من ذلك شيئا كثيرا فرشه بالمسجد المذكور لجرحاه وصار عامة عسكر النصارى بتطاوين كلما لقوا أحدا من المسلمين عيروه بالغدر وقبحوه ثم إن أردنيل أقام بعد هذه الوقعة نحو عشرة أيام ريثما استجم جيشه وأبلت جرحاه وخرج في تمام الشوكة وكمال الاستعداد يريد أن يضرب في محلة المسلمين فجعل تطاوين
____________________


خلفه وتقدم حتى كان بوادي أبي صفيحة فلما شعر به الناس من أهل المداشر والمتطوعة تسابقوا إليه من كل جانب ووافق ذلك اليوم قدوم عرب الحياينة جاؤوا في حرد كبير وحنق شديد فقويت قلوب الناس بهم واشتد أزرهم وتقدموا إلى العدو فأنشبوا معه الحرب بأبي صفيحة قبل أن يصل إلى محلة المسلمين وكثروه فأوقعوا به وقعة أنست ما قبلها فقتلوا منه ما خرج عن الحصر وأما الجرحى فقل ما شئت وكست قتلاه الأرض ولما أعياه الدفن جعل يجمع الجماعة من الثمانية إلى العشرة ويهيل عليها التراب ومع ذلك بقي منه عدد كبير بلا دفن حتى أنتن موضع المعركة من شدة نتن الجيف ونال المسلمون من عدوهم في هذا اليوم ما لم ينالوا قبله مثله ولا ما يقاربه وكان الذكر فيه لعرب الحياينة ثم للمتطوعة غيرهم وأما محلة المولى العباس فكانت بعيدة عن المعركة بمسافة كبيرة
وقد ذكر منويل خبر هذا اليوم فأقر بأنه أهرق منهم دم كثير وخسروا فيه عددا كبيرا من نفوس العسكر والخيل ولما بلغ المولى العباس أن العدو قد برز من تطاوين وأن المسلمين يقاتلونه الآن في أبي صفيحة قلب رأيه واستأنف النظر في عاقبة أمره ورأى أن المسلمين وإن نالوا من العدو في هذه المرة وأبلغوا في نكايته لكن الثمرة ضعيفة من جهة أن نكايتنا له إنما هي في القتل والجرح ونكايته في أخذ الأرض والاستيلاء عليها كما قلنا غير مرة فجنح رحمه الله إلى الصلح واختاره على الحرب حتى تدور للمسلمين سعود إن شاء الله
أخبرني صاحبنا القائد الأجل أبو عبد الله محمد بن إدريس بن حمان الجراري حفظه الله قال لما طالت الحرب بين المسلمين والنصارى على تطاوين استدعاني السلطان وسيدي محمد بن عبد الرحمن رحمه الله وأعطاني ستين ألف مثقال أذهب بها إلى جيش المسلمين المرابط على تطاوين بقصد المؤنة والصائر وقال لي مع ذلك إذا وصلت إلى محلة المسلمين فانظر
____________________


حالهم وتبصر في جميع أمورهم وما هم عليه في قتال عدوهم من الضبط وعدمه وهل هم مكفيون في جميع ما تدعو الحاجة إليه أم لا واستوعب ذلك وائتنى بالأمر على وجهه قال فذهبت فوصلت إلى المحلة يوم الخميس وفي صبيحة اليوم الذي يليه كان حرب أبي صفيحة فجاء النذير إلى المولى العباس وأخبره بأن المسلمين الآن يقاتلون العدو قال فركبت في جماعة من الناس وذهبت لأنظر حال المسلمين وحال عدوهم كما أمرني السلطان رحمه الله فوصلت إلى مقاتلة المسلمين فإذا هم يرتادون موضعا ينزلون به أثقالهم ويضربون به أخبيتهم ليتفرغوا لقتال عدوهم فإذا هم عزموا على النزول بوادي آكراز فأجهضهم العدو عنه بالرمي بالكور والضوبلي وهو متقدم أمام لا يثنيه شيء فتأخروا عن ذلك المحل ونزلوا بمحل أمنوا به على أخبيتهم وأثاثهم ثم تقدموا إليه وقاتلوه قتالا شديدا حتى ردوه على عقبه بالموضع المعروف بآمصال مرتين أو ثلاثا وقتلوا منه ما جاوز الحصر وفي ذلك اليوم استشهد عامل سفيان وبني مالك أبو محمد عبد السلام بن عبد الكريم بن عودة الحارثي وبات العدو تلك الليلة بوادي آكراز الذي كان المسلمون أرادوا أن ينزلوا به وباتت محلة المسلمين بالفنيديق وتفرق جل متطوعتها كل إلى حال سبيله على عادتهم وكان الوقت وقت شتاء وبرد غاية
قال فلم يعجبني ذلك ومن الغد وهو يوم السبت أصبح العدو مقيما والمسلمون مقيمين كذلك وكان الرأي أن يعاجلوه بوقعة أخرى ويلحوا عليه كي يكسروا شوكته ويهضموا ما دام متألما ولا يتركوه حتى يجم ويستريح لكنهم لم يفعلوا ودار الكلام في ذلك اليوم في الصلح فأذعن كل من الأميرين أمير المسلمين وأمير النصارى وجنحوا إليه لأنهم كانوا معا قد سئموا الحرب وملوا القتال ثم من الغد وهو يوم الأحد تداعوا للاجتماع بعد أن نهض العدو من محله الذي كان نازلا به واجتمع وانكمش وأظهر القوة بالتهييىء للحرب والتعبئة للقتال حتى أنه إذا كان صلح فذاك وإلا فالقتال فعل ذلك مكيدة والحاصل أن المولى العباس تقدم في جماعة من وجوه الجيش
____________________


وتدنى أردنيل في جماعة من أصحابه كذلك بعد أن أمربضرب خباء صغير يجتمعان به وتقدم أردنيل على الخباء بكثير لملاقاة المولى العباس وإظهارا للأدب معه فتلاقى به وعادا إلى الخباء وحضر معهم الترجمان ورجلان آخران وأبرموا الصلح وأعطى كل خط يده بذلك وانفصلوا وذهب كل إلى محله وكان ذلك آخر حرب بين المسلمين والإصبنيول ولما وصل الخبر بانعقاد الصلح إلى عسكر النصارى فرحوا فرحا لم يعهد مثله وجعلوا ينادون الباص الباص أي الصلح الصلح ودخلوا تطاوين وهم رافعون بها أصواتهم وكلما لقوا مسلما هشوا له كأنهم يهنئونه بالصلح وكان الصلح قد انعقد بين المسلمين والإصبنيول على شروط منها أن يدفع السلطان إليهم عشرين مليونا من الريال ويخرجوا من تطاوين وما استولوا عليه من الأرض التي بينها وبين سبتة إلا شيئا يسيرا يزاد لهم في المحدة على سبيل التوسعة وكان انعقاد هذا الصلح في أواخر شعبان سنة ست وسبعين ومائتين وألف وتراخى السلطان رحمه الله في دفع هذا المال فاستمر العدو مقيما بتطاوين حتى يستوفيه وبعد سنة من يوم هذا الصلح استوفى عشرة ملايين منه وبقيت عشرة وقع الاتفاق فيها على أن يقتضيها العدو من مستفاد مراسي المغرب فأقام أمناءه بها لاقتضاء نصف داخل كل شهر منها وهم الآن بهذا الحال والله تعالى يكفي المسلمين شرهم وشر كل شر وبعد ما وقع هذا الاتفاق أسلم النصارى تطاوين إلى المسلمين وكان خروجهم منها ضحوة يوم الجمعة الثاني من ذي القعدة سنة ثمان وسبعين ومائتين وألف بعد أن مكثوا فيها سنتين وثلاثة أشهر ونصفا ووقعة تطاوين هذه هي التي أزالت حجاب الهيبة عن بلاد المغرب واستطال النصارى بها وانكسر المسلمون انكسارا لم يعهد لهم مثله وكثرت الحمايات ونشأ عن ذلك ضرر كبير نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة ولما فرغ السلطان رحمه الله من أمر تطاوين جد في جمع العسكر المرتب على الترتيب المعهود اليوم وكان هذا السلطان أول من أحدثه من ملوك المغرب وكان إحداثه إياه في دولة أبيه رحمه الله بعد رجوعه
____________________


من وقعة إيسلي مع الفرنسيس ثم جد فيه في هذه الأيام فجمع منه ما تيسر جمعه ثم رتب المكوس على الأبواب والمبيعات وكتب في ذلك كتبا للآفاق فمما كتبه لأمناء مرسى الدار البيضاء في ذلك ما نصه وبعد فإنا لما أخذنا في جمع النظام للمصلحة المتعينة الواضحة البينة المقر أمرها لدى الخاص والعام واجتمع منه عدد يسير واختبرنا ما صير عليه في شهر واحد فاجتمع فيه عدد كثير فكيف أن جمعنا منه عددا معتبرا يحصل به المراد ويكون قذى في أعين أهل العناد اقتضى الحال ذكر ذلك لكبراء التجار لينظروا فيما يستعان به على أمرهم إذ لا بد من كفايتهم وإلا انحل نظام جمعهم وفي ذلك ما لا يجهله من له أدنى عقل ومحبة في الدين فأشاروا بفرض إعانة لا ضررفيها على الرعية وسطروها في ورقة وهي كل شيء بالنسبة لما ارتكبه الملوك في مثل هذا للاستعانة به على المصالح المرعية وللضرورة أحكام تخصها كما هو معلوم مقرر ومسطر في غير ما ديوان محرر ثم اقتضى نظرنا أن نسند الأمر في ذلك لأهل العلم ليقرروا للناس حكمه تقريرا تنشرح له الصدور ويعمل بمقتضاه في الورود والصدور وإن كان جلهم يعلم هذا إذ من المعلوم أن الرعية لا يستقيم أمرها إلا بجند قوي بالله ولا جند إلا بمال وهو لا يكون إلا من الرعية على وجه لا ضرر فيه وقد أخذ الناس هذه مدة بحضرتنا العالية بالله وبمكناسة وتازا والعدوتين ومراكش في ذلك وسلكوا في ترتيبه أحسن المسالك ولا نشك أن بركة ذلك تعود عليهم في أموالهم وأولادهم وأنفسهم فبوصول هذا إليكم قوموا على ساق الجد في القبض من الناس بالباب على نحو ما في الورقة المشار إليها ولا دخل للنصارى في ذلك والله أسال أن يبارك للمسلمين في مالهم ويعوضهم خلفا آمين والسلام في الثاني والعشرين من رجب الفرد الحرام عام سبعة وسبعين ومائتين وألف وإذا انجر بنا الكلام على اتخاذ العسكر وترتيبه فلا بد من تتميم الفائدة بذكر كلام نافع
____________________

القول في اتخاذ الجيش وترتيبه وبعض آدابه
اعلم أنه واجب على الإمام حماية بيضة الإسلام وحياطة الرعية وكف اليد العادية عنها والنصح لها والنظر فيما يصلحها ويعود عليها نفعه في الدين والدنيا ولا يمكنه ذلك إلا بجند قوي وشوكة تامة بحيث تكون يده غالبة على الكافة وقاهرة لهم فاتخاذ الجند إذا واجب وعليه فيندب له أن يتخذ لهم ديوانا يجمع أسماءهم ويحصي عددهم ليحصل الضبط وينتفي اللبس وأول من اتخذ الديوان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر عقيل بن أبي طالب ومخزمة بن نوفل وجبير بن مطعم وكانوا من كتاب قريش فكتبوا ديوان العساكر الإسلامية على ترتيب الأنساب مبتدأ من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بعدها الأقرب فالأقرب فهكذا ينبغي للإمام أن يرتب جنوده في ديوان يحفظها ودستور يجمعها ثم ينبغي أن يكون عنده أولا ديوان كبير هو الأم يجمع أسماء العساكر كلها الحاضرة والغائبة والخاصة والعامة ثم يجعل دواوين صغارا يشتمل كل واحد منها على طائفة مخصوصة مثل عسكر الإمام الذي يلازمه حضرا وسفرا وعساكر الثغور والقلاع ونحو ذلك وتكون هذه الدواوين الصغار بمنزلة الفروع للكبير تجدد كلما تجددت الطوائف كما سيأتي وكل ديوان منها يشتمل على أرحاء مثلا وكل رحى على مئين وكل مائة بضباطها وطبيبها وعالمها الذي يعلمها أمر دينها وغير ذلك
قال صاحب مصباح الساري ما ملخصه كانت الدولة العثمانية في أول أمرها إذا استخدمت طائفة من الجند بقيت في الخدمة طول عمرها ولما كان هذا الأمر صعبا يعني وغير مقتض للتسوية بين الرعية في هذا الحق العظيم اقتضى نظرهم أن يعملوا القرعة بين أبناء الرعايا عند انتهاء كل خمس سنين فمن استكمل مدة خدمته وتبصر بما يلزمه من حرب عدوه وقدر على المطالبة والمدافعة ذهب إلى حال سبيله لطلب معيشته فذو الحرفة يرجع إلى حرفته
____________________


والتاجر إلى تجارته وهكذا ويؤتى بطائفة أخرى بدلها حتى تصير الرعية كلها جندا قادرة على المطالبة والمدافعة متى احتاجت إلى ذلك ثم من استوفى مدة خدمته بقي معدودا في صنف الرديف سبع سنين أخرى ومعنى الرديف أنهم يكونون عدة للدولة متى احتاجت إليهم في نازلة عظيمة أو حرب عامة مثل ما يكون بين الأجناس فإذا انسلخت السبع سنين فهو حر دائما وأبدا فلا يضرب عليه بعث ولا يكلف بغزو إلا أن يشاء فجملة مدة الخدمة العسكرية بين أصلية ورديفية اثنتا عشرة سنة وشرط المستخدمين في العسكر أن يكونوا في سن العشرين إلى خمس وعشرين سنة فمن زاد على ذلك أو نقص لا تقبله الدولة لينضبط الأمر وإن اصطلح على أقل من ذلك أو أكثر فلا بأس فإذا أريد إعمال القرعة بينهم وذلك عند رأس خمس سنين كما قلنا اجتمع كل من هو في ذلك السن من أهل الناحية مثل مراكش وأعمالها وفاس وأعمالها والعدوتين وأعمالهما في يوم معلوم من السنة لا يتقدم ولا يتأخر فيحضر نائب السلطان ويحضر القاضي والشهود وتكتب بطائق على عدد رؤوس الحاضرين فلان بن فلان الفلاني سنة كذا فإذا اجتمع لنا من البطائق مائة ونحن غرضنا استخدام خمسين مثلا أخذنا تلك البطائق واحدة واحدة حتى نستوفي الخمسين ثم نفتحها فمن عثرنا عليه فيها فهو عسكري في تلك المدة ومن أخطأته القرعة ذهب إلى حال سبيله لكنه إن جاوز سن العسكرية الذي هو خمس وعشرون سنة ولم تصبه القرعة فهو في صنف الرديف إلى سبع سنين كما قلنا والذين أصابتهم القرعة وأثبتوا في الديوان يرخص لهم في الذهاب إلى محالهم عشرين يوما لقضاء أوطارهم ثم يحضرون بعدها إلى القشلة ومن تخلف عن حضور هذا الجمع بدون عذر مقبول يثبت في الديوان بلا قرعة ويسقط من أصل العدد المطلوب ولا تقبل فيه شفاعة ولا فداء ومن ليس له إلا ابن واحد من رجل كبير أو امرأة أرملة أو نحو ذلك ولا كافي له سواه فإنه يسرح له لئلا يضيع لكن بعد حضور الجمع وإثبات ما ادعاه ومن له ولدان وأصابتهما معا القرعة فيمسك واحد ويسرح له الآخر ومن له أربعة أو خمسة وأصابت القرعة منهم ثلاثة
____________________


فأكثر أمسك اثنان وسرح الباقي ويعفى عن كل من كان مفردا في بيته وعن كل أعور وأشل وأعرج وأحدب وعن كل مبتلى بداء مزمن أو علة معدية أو ضعيف الجسم نحيف البنية لا يقدر على الأعمال الجندية وغير سالم المزاج وهكذا ويعفى عن طلبة العلم لكن بعد حضورهم وامتحانهم فمن ظهرت نجابته خلى سبيله لأنه قد قام بوظيف هو من أهم الوظائف ومن كان قليل الفهم أو مقسم البال أو طائش الفكرة لا ترجى فائدته وإنما تستر بطلب العلم دخل في القرعة وإذا كان لرجل ولدان وأصابت القرعة أحدهما وأراد إبداله بالآخر فذلك له إذا توفرت فيه شروط الخدمة وإذا أراد أن يبدله بغير أخيه من عبد أو أجير فلا بد من زيادة قدر معلوم من المال لا يجحف به ولا يؤدي إلى تعطيل تجارته ولا بيع أصله ولهذا البدل شروط الأول أن يكون سالمامن الآفات المتقدمة الثاني أن لا يكون ممن استوفى مدة الخدمة التي هي خمس سنين ودخل في صنف الرديف اللهم إلا إذا لم تكن القرعة أصابته حتى جاوز السن المعلوم وصار في صنف الرديف فهذا يقبل الثالث أن يكون من أهل تلك الناحية فلا يقبل مراكشي عن فاسي مثلا وبالعكس الرابع أن لا يكون من العبيد السود اللهم إلا إذا كان في الجند صنف منهم فيقبل في صنفه ولا بأس إذا كان مملوكا أبيض الخامس أن لا يكون من الذين استعملوا في الجندية وأخرجوا منها لعارض خلقي أو خلقي مثل آفة بدنية أو فعل قبيح من سرقة ونحوها السادس أن لا يكون البدل قد جيء به بعد ثلاثة أشهر ثم إذا فر البدل فينتظر مجيئه إلى شهر فإن جاء وإلا أخذ به صاحبه الذي جاء به ثم إذا انتظم هذا الجمع العسكري فأول ما يعلمونهم أمر دينهم مما لا بد منه على سبيل الاختصار بأن يلقنوا كيفية اللفظ بالشهادتين وبين لهم معناها بوجه إجمالي فإن جل العوام سيما أهل البادية والقرى النائية لا يفقهون ضروريات دينهم ويعلمون كيفية الوضوء والصلاة ويلزمون بالمحافظة عليها حتى أن من لم يحضر منهم وقت النداء لها يعاقب عقابا شديدا وإلا فلم يحضر عند سماعه الطرنبيطة ولا يحضر إذا سمع داعي الله فهذا أول ما يتعلمونه لتعود عليهم بركة الدين وينجح سعيهم في حماية
____________________


المسلمين فإنا لم نرد بجمع هذا الجند إلا حفظ الدين فإذا كان الجند مضيعا له فكيف يحفظه على غيره ويعود على المسلمين نفعه ثم بعد هذا يعلمون الأمور التي تدل على كمال المروءة وعلو الهمة من الحياء والحشمة والإيثار وترك الكلام الفحش وتوفير الكبير ورحمة الصغير ويلقنون أن من أفضل الخصال عند الله وعند العباد الغيرة على الدين والوطن ومحبة السلطان ونصحه ويقال له مثلا إذا كان العجمي الزنديق يغضب لدينه الباطل ووطنه فكيف لا يغضب العربي المؤمن لدينه ودولته ووطنه ولا بد من ترتيب مجلس يومي يسمعون فيه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازيه ومغازي الخلفاء الراشدين وسلف الأمة وأخبار رؤساء العرب وحكمائها وشعرائها ومحاسنهم وسياساتهم وليتخير لهم من الكتب الموضوعة في ذلك أنفعها مثل كتاب الأكفاء لأبي الربيع الكلاعي وكتاب ابن النحاس في الجهاد وكتاب سراج الملوك ونحوها فإن ذلك مما يقوي إيمانهم ويحرك هممهم ويؤكد محبتهم في الدين وأهله وينبهون على التحافظ على ثيابهم وأطرافهم من الأوساخ والأوضار التي تدل على دناءة الهمة ونقصان الإنسانية وعدم النخوة ويلزمون بترك استعمال الدخان فإنه مناف لنظافة الدين ومذهب للمروءة والمال بلا فائدة ثم إذا رسخت فيهم هذه الآداب في ستة أشهر أو عشرة أو أكثر أخذوا في تعلم الثقافة وأمور الحرب ثم من أهم ما يعتنى به في شأنهم أن لا يتخلقوا بأخلاق العجم ولا يسلكوا سبيلهم في اصطلاحاتهم ومحاوراتهم وكلامهم وسلامهم وغير ذلك فقد عمت المصيبة في عسكر المسلمين بالتخلق بخلق العجم فيريدون تعلم الحرب ليحفظوا الدين فيضيعون الدين في نفس ذلك التعلم فلا تمضي على أولاد المسلمين سنتان أو ثلاث حتى يصيروا عجما متخلقين بأخلاقهم متأدبين بآدابهم حتى أنهم تركوا السلام المشروع في القرآن وأبدلوه بوضع اليد خلف الأذن فيجب على معلمهم في حالة تعليمه إياهم أن يعدل عن الاصطلاح العجمي إلى العربي ويعبر عن الألفاظ العجمية بالعربية وإن كان أصل العمل مأخوذا عن العجم فليجتهد
____________________


المعلم الحاذق في تعريبه وليس ذلك بعسير على من وفقه الله إليه وليس فيه إلا إبدال لفظ عجمي بلفظ عربي بأن يقول مثلا أمام خلف دائرة نصف دائرة وهكذا فإذا مرنوا عليه شهرا أو شهرين كان أسهل شيء عليهم لأن تلك هي لغتهم التي فيها نشأوا وعليها ربوا فالعمل عجمي والكلام الذي ينبهون به على ذلك العمل عربي فأي كلفة في هذا وبه يندفع عنهم التشبه بالعجم المنهي عنه شرعا فإن التزيي بزيهم لا يأتي بخير أبدا وهو والله من أفسد الأشياء للدين الذي نريد أن نحوطه بهم
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه من لم تصلحه السنة فلا أصلحه الله ثم عمود هذا كله وصلبه العقيم له وروحه الذي به حياته هو الكفاية في المطعم والملبس وليختر لهم من الأغذية أطيبها وأنفعها للبدن وليجعل لهم كسوتان كسوة الشتاء وكسوة الصيف وليتخير لهم من المساكن والمنازل أطيبها وأصلحها هواء وأبعدها عن محل الوخم وليلزمهم بالاعتناء بتنظيف مساكنهم وتبريدها وتطييبها حتى لا ينشأ عنها داء وإذا تراخوا في مثل ذلك عوقبوا عليه لأنه دال على دناءة الهمة ودنيء الهمة لا يأتي منه شيء وليرتب لهم الأطباء العارفون حتى إذا أصاب أحدا منهم مرض عالجه الطبيب في الحال فإن هذا الجند هو سور الإسلام وسياج الدين فبحفظه يحفظ الدين وبسلامته يسلم فإذا اتخذ الجند على هذه الكيفية التي ذكرنا سهل على الناس الدخول في الجندية وتنافسوا فيها ومن كان عنده من الرعية درهم طابت نفسه بأن يقتسمه معهم ويكون الجند حينئذ في مرتبة هي أشرف من مرتبة الرعية بكثير لأن الجند يحفظهم والرعية تكسب وتبذل لهم ثم إذا ظهر من آحاد الجند نجابة أو شجاعة أو نصيحة في الخدمة السلطانية رفع قدره ونوه باسمه ليغتبط هو بمنزلته ويزداد في خدمته ويغبطه غيره وينافسه في خصاله التي أكسبته تلك المنزلة وليقس ما لم يقل والله الهادي إلى التوفيق بمنه ولنرجع إلى التاريخ فنقول
وفي سنة سبع وسبعين ومائتين وألف وذلك في يوم الثلاثاء الثاني عشر
____________________


من ذي القعدة منها توفي والدنا الفقيه المرابط الأخير أبو البقاء خالد بن حماد بن محمد الكبير الناصري بقبيلة سفيان ودفن بتربة الشيخ أبي سلهام رضي الله عنه وكان رحمه الله من الورع والتحري في أكل الحلال على جانب عظيم بحيث فاق أكثر أهل زمانه في ذلك وكان دينا وقورا كثيرالأوراد ذا صمت وجد وله إلمام بالفقه والسيرة النبوية مرجو البركة عند العامة رحمنا الله وإياه والمسلمين ثورة الجيلاني الروكي ومقتله
كان الجيلاني الروكي من عرب سفيان رجلا خامل الذكر ساقط القدر حرفته رعي البهائم ونحو ذلك من عمل أهل البادية فوكل به جني أو شيطان ففاه بالمخاريق وتبعته العامة فثار ببلاد كورت وتقدم إلى دار القائد عبد الكريم بن عبد السلام بن عودة الحارثي السفياني في أخلاط من الأوباش بالعصي والمقاليع فحاصر القائد المذكور في داره من الظهر إلى الغروب ثم اقتحم العامة عليه داره فقتلوه وقتلوا جماعة من إخوته وبني عمه ونهبوا ما وجدوا بداره وكان شيئا كثيرا من المال والأثاث وبقي أولئك القتلى مصرعين بفناء الدار ثلاثة أيام لم يدفنوا وافتتنت العامة بهذا الروكي ونسبوا له الخوارق والكرامات من غير استناد إلى دليل ووعدهم بأنه يستولي على الملك ويحكم المتمسكين بدعوته في الأموال كيف شاؤوا وضاعت نفوس في تلك الفتنة ونهبت أموال واختلط المرعى بالهمل وكنت حاضرا لهذا الخطب العظيم فكان من افتتان العامة بهذا المعتوه واعتقادهم فيه وجهلهم المركب في أمره ما لا يكاد يصدق به إذا حكي وكان السلطان سيدي محمد رحمه الله يومئذ برباط الفتح فاهتز لهذا الخطب لأن الشيطان كان قد نفخ في أباطيل الروكي وشاعت في العالم حتى اهتز لها النصارى الذين كانوا بتطاوين وحدثوا أنفسهم بالفرار ثم إن السلطان رحمه الله أغراه أخاه المولى الرشيد فلما سمع الروكي بمجيئه وعد أوباشه بأنه سينصر عليه وأن خيل السلطان
____________________


تكون غنيمة له وقال لهم اتخذوا الشكائم أي الأرسان من الدوم وأعدوها لتقودوا بها خيل السلطان فاتخذ جمع عظيم من العامة الحبال والأرسان وتوشحوا بها تحت الثياب وجعلوا يتبعون الروكي أينما ذهب انتظارا لوعده ولما قرب المولى الرشيد منه أخذ أمره في النقصان وناموسه في البطلان ولما كان المولى الرشيد قرب سوق الأربعاء من بلاد سفيان جعل الشكائمية يقربون من المحلة ويتطوفون حولها مختفين بالأودية والشعاب والكدى ينتظرون هزيمتها بخارق من خوارق دجالهم فأعلم المولى الرشيد بمكانهم فبعث الخيل فالتقطوهم في ساعة واحدة ولم يفلت منهم إلا القليل وسيقوا إلى رباط الفتح فسجنوا به مدة وأما الروكي فإنه قصد جبل زرهون ودخل روضة المولى إدريس الأكبر رضي الله عنه فاجتمع عليه جماعة من الأشراف الأدارسة والعلويين وغلقوا أبواب القبة وتقدم إليه شريف علوي ففتك فيه وأراح الناس من شره واحتزوا رأسه ويده وحملوهما إلى السلطان فبعث بهما إلى مراكش فعلقا بجامع الفناء مدة وكان جهلة العوام لا يصدقون بموته وبقوا ينتظرون رجعته سنتين أو ثلاثا { ومن يضلل الله فما له من هاد } الرعد 33 وكان مقتل الروكي في أواسط شعبان سنة ثمان وسبعين ومائتين وألف ولم تجاوز مدته أربعين يوما وكان مما كتبه السلطان في شأنه ما نصه وبعد فإن فتانا من سفيان مرق من الدين وفتن بأمور شيطنته من اغتر به من المسلمين وجمع عليه أوباشا من أمثاله وأضرابه وأشكاله وتقدم بهم لدار خديمنا ابن عودة فقتلوه ثم تقدم بهم للشراردة فقاتلوه ثم تقدم بهم لزاوية مولانا إدريس فقاتله أهلها قتالا يرضي الله ورسوله ولم يحصل لهم من قتاله ضجر ثم قبضوا عليه وقتلوه وعلقوا رأسه بباب الزاوية المسمى بباب الحجر وأغلقوا الأبواب بعد ذلك على من دخل معه من أتباعه وأنصاره وأشياعه فقبضوا عليهم وجعلوهم في السلاسل والأغلال ونحن على نية إقامة الحد عليهم إن شاء الله جزاء وفاقا على ما ارتكبوه من الفساد وقبيح الأعمال ومن كان منهم حينئذ خارجا عن الباب تخطفته الأيدي وجنوا ثمار ما سعوا فيه من البغي والتعدي وقطع دابر جميعهم فالحمد لله حق حمده وما كل نعمة إلا
____________________


من عنده وأعلمناكم لتكونوا على بصيرة إذ ربما يبلغ المرجفون على عادتهم النازلة على غير وجهها والسلام في ثامن عشر شعبان المعظم عام ثمانية وسبعين ومائتين وألف إيقاع السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن رحمه الله بعرب الرحامنة
لما كان السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن رحمه الله ببلاد الغرب مشتغلا بأمر الإصبنيول وحربه على تطاوين ثار عرب الرحامنة بالحوز وعمدوا إلى سوق الخميس بمراكش فأغاروا عليه وانتهبوه وسلبوا المارة وأرباب الجنات وضايقوا أهل مراكش حتى منعوهم من الارتفاق حول المدينة فانقطعت السبل وارتفعت الأسعار وقطع الرحامنة ما حول الأسوار من الأشجار واحتطبوها وحصدوا الزروع في الفدن واغتصبوها واشتد الحصار وتخاذلت الأنصار ودام الحال إلى أن فرغ السلطان رحمه الله من حرب الإصبنيول وفتنة الروكي فوجه وجهته إلى مراكش فلما قرب منها تحزب الرحامنة وأجمعوا على حربه فانحازوا إلى ناحية الرميلة والأودية وزاوية ابن ساسي ليحولوا بينه وبين الدخول إلى مراكش فهجم عليهم وأوقع بهم وقعة سيقوا بها بعد ساعة إلى مراكش مقرنين في الحبال حتى ضاقت بهم السجون ولولا أنه رحمه الله كف أيدي الجيش عنهم لاستأصلوهم ثم عفا عنهم بعد أن انتزع منهم بلاد آيت سعادة وغواطم والأودية وهي من أخصب البلاد وأزكاها وكتب السلطان في هذه الوقعة لأخيه المولى الرشيد بكتاب مختوم عليه بالخاتم الكبير بن الافتتاح والخطاب وبداخل الخاتم محمد بن عبد الرحمن غفر الله له وبدائرته
( ومن تكن برسول الله نصرته ** إن تلقه الأسد في آجامها تجم ) { وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب } هود 88 وبأركان الخاتم الله
____________________

محمد أبو بكر عمر عثمان علي ونص الافتتاح الحمد لله الذي تدارك الأمة باللطف الكفيل بتمهيد أقطارها وتيسير أوطارها وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الذين نصروا الدين بالصفاح والأسنة وأوضحوا أحكام السنة أخانا الأعز الأرضى مولاي الرشيد أصلحك الله وأعانك وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد فإنه لما تواترت الأنباء المحققة بعد التباسها وتواردت الأخبار التي يغني نصها عن قياسها بما ارتكبه ظالموا أنفسهم الرحامنة من أنواع الفساد التي أذاعوها وأظهروها وأشاعوها وقد كانت في صدورهم كامنة صرفنا الوجهة إليهم وطوينا المراحل من أجلهم ولما حللنا ببلادهم أرسلنا عليهم سيل العرم من العساكر المنصورة والجيوش الموفورة فما كان غير بعيد حتى أتوا برؤوس منهم كثيرة محمولة على أسنة الرماح وأسارى من مقاتلتهم مجردين من الثياب والسلاح ومن نجى منهم رجع مجردا إلا من خيبة سعيه وما سقي إلا بكأس بغيه واستولت العساكر والأجناد على جميع ما كان عند أهل الفساد ومن المعلوم أن من سل سيف البغي يعود إلى نحره ومن ركب متن الشقاق يغرق في بحره وأن الفتنة نار تحرق من أوقدها والمخالفة صفقة تعود بالخسارة على من عقدها ولما أردنا معادوتهم لقطع دابرهم وتشتيت ما بقي من رماد أثرهم تعلقوا بالمرابطين من ذوي الوجاهات وأكثروا من الذبائح على المحال وتوجيه العارات وقاموا بواجب السمع والطاعة في كل ما أمرناهم به جهد الاستطاعة فأبقينا عليهم وإن عادت العقرب عدنا بحول الله لها وكانت النعل لها حاضرة فالحمد لله الذي خيب آمالهم وأبطل أعمالهم وخذل أنصارهم وأركد أعمارهم لما اعمى أبصارهم وردهم ناكصين على الأعقاب بعد سلب الأموال وقطع الرقاب { ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب } الأنفال 13 ونعوذ بالله من الآراء المعكوسة والحظوظ المنكوسة وسوء الفعل الذي يورد المهالك والحرمان الذي يجعل البصير كالأعمى في دجنة الليل الحالك هذا ويصلكم ما قطع من رؤوس قتلاهم لتتعلق بباب المدينة ويعتبر بها المعتبرون ويتذكر بها
____________________

المتذكرون والله أسأل أن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك وأن يكون لنا وللمسلمين بما كان لأوليائه وأحبائه وأصفيائه وأن يوفقنا وإياهم لما يحبه ويرضاه ويختم للجميع بخير والسلام في ذي الحجة الحرام عام ثمانية وسبعين ومائتين وألف ومن تمامه وأن علقت يوما واحدا فادفعها لحملتها ولا بد ليتوجهوا بها إلى مكناسة صح به ا هـ نص الكتاب الشريف
وفي سنة تسع وسبعين ومائتين وألف سافر شيخنا الفقيه العلامة البارع أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز محبوبة السلاوي إلى الحجاز لأداء فريضة الحج فوافته منيته بمكة المشرفة بعد الفراغ من الحج والعمرة ودفن بالمعلاة وكان رحمه الله واعية دراكة نفاعة كثير الدرس والتقييد والنسخ للكتب المعتبرة فصيح العبارة حسن النغمة والصوت عارفا بالحديث دؤوبا على سرده عارفا بالنحو والفقه وعلوم الآلة لازمناه وانتفعنا به وعادت علينا بركاته رحمه الله ونفعنا به وكنت رثيته بقصيدة ذهبت في جملة ما ذهب من شعري إذ لم يكن لي اعتناء بتقييده ومطلعها
( ملازمة التذكار تذهب باللب ** وتغري قديم الوجد بالهائم الصب )
وفي سنة ثمانين ومائتين وألف وذلك يوم السبت الرابع عشر من شعبان منها كانت هدة البارود بمراكش وذلك أنه كان بجامع الفناء منها فندق في بعض بيوته نحو أربعمائة قنطار من البارود وبه أيضا شيء من فحم الريش المتخذ للبارود فوقعت فيه نار وسرت منه إلى البارود فنفض وقت الغروب من اليوم المذكور والناس كثيرون حول الفندق فطار الفندق بما فيه وكانت حيطانه عادية وطار من كان حوله من الناس قيل نحو الثلاثمائة فمنهم من لم يوجد أصلا ومنهم من وجد بعضه من يد أو رجل ونحو ذلك وتهدمت كل دار كانت متلاشية بمراكش وانخلعت الأقفال من الأبواب وصرصرت السقوف والحيطان وكان الحادث عظيما وفي هذه السنة ورد يهودي من اللوندرة على السلطان بمراكش يطلب منه الحرية ليهود المغرب وذلك لأنه
____________________

لما كانت وقعة تطاوين ودهم الناس ما دهمهم من أمر الحمايات وأكثر من تعلق بها اليهود لم يقتصروا على ذلك وراموا الحرية تشبها بيهود مصر ونحوها فكتبوا إلى يهودي من كبار تجارهم باللوندرة اسمه روشابيل وكان هذا اليهودي قارون زمانه وكانت له وجاهة كبيرة في دولة النجليز لأنها كانت تحتاج إليه فيسلفها الأموال الطائلة وله في ذلك أخبار مشهورة فكتب يهود المغرب إليه أو بعضهم يشكون إليه ما هم فيه من الذلة والصغار ويطلبون منه الوساطة لهم عند السلطان رحمه الله في الإنعام عليهم بالحرية فعين هذا اليهودي صهرا له للوفادة على السلطان رحمه الله في هذا الغرض وفي غيره وأصحبه هدايا نفيسة وسأل من دولة النجليز أن يشفعوا له عند السلطان ويكتبوا له في قضاء غرضه ففعلوا وقدم على السلطان بمراكش وقدم هداياه وسأل تنفيذ مطلبه فتجافى السلطان رحمه الله عن رده مخفقا وأعطاه ظهيرا فتمسك به اليهودي يتضمن صريح الشرع وما أوجب الله لهم من حفظ الذمة وعدم الظلم والعسف ولم يعطهم فيه حرية كحرية النصارى ونص الظهير المذكور بالطابع الكبير
بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم نأمر من يقف على كتابنا هذا أسماه الله وأعز أمره وأطلع في سماء المعالي شمسه المنيرة وبدره من سائر خدامنا وعمالنا والقائمين بوظائف أعمالنا أن يعاملوا اليهود الذين بسائر إيالتنا بما أوجبه الله تعالى من نصب ميزان الحق والتسوية بينهم وبين غيرهم في الأحكام حتى لا يلحق أحدا منهم مثقال ذرة من الظلم ولا يضام ولا ينالهم مكروه ولا اهتضام وأن لا يتعدوا هم ولا غيرهم على أحد منهم لا في أنفسهم ولا في أموالهم وأن لا يستعلموا أهل الحرف منهم إلا عن طيب أنفسهم وعلى شرط توفيتهم بما يستحقونه على عملهم لأن الظلم ظلمات يوم القيامة ونحن لا نوافق عليه لا في حقهم ولا في حق غيرهم ولا نرضاه لأن الناس كلهم عندنا في الحق سواء ومن ظلم أحدا منهم أو تعدى عليه فإنا نعاقبه بحول الله وهذا الأمر الذي قررناه وأوضحناه وبيناه كان مقررا ومعروفا محررا لكن زدنا هذا المسطور تقريرا وتأكيدا
____________________

ووعيدا في حق من يريد ظلمهم وتشديد ليزيد اليهود أمنا إلى أمنهم ومن يريد التعدي عليهم خوفا إلى خوفهم صدر به أمرنا المعتز بالله في السادس والعشرين من شعبان المبارك عام ثمانين ومائتين وألف ولما مكنهم السلطان من هذا الظهير أخذوا منه نسخا وفرقوها في جميع يهود المغرب وظهر منهم تطاول وطيش وأرادوا أن يختصوا في الأحكام فيما بينهم لا سيما يهود المراسي فإنهم تحالفوا وتعاهدوا على ذلك ثم أبطل الله كيدهم وخيب سعيهم على أن السلطان رحمه الله لما أحس بطيش اليهود عقب ذلك الظهير بكتاب آخر بين فيه المراد وأن ذلك الإيصاء إنما هو في حق أهل المروءة والمساكين منهم المشتغلين بما يعنيهم وأما صعاليكهم المعروفون بالفجور والتطاول على الناس والخوض فيما لا يعني فيعاملون بما يستحقونه من الأدب
واعلم أن هذه الحرية التي أحدثها الفرنج في هذه السنين هي من وضع الزنادقة قطعا لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية رأسا أما إسقاطها لحقوق الله فإن الله تعالى أوجب على تارك الصلاة والصوم وعلى شارب الخمر وعلى الزاني طائعا حدودا معلومة والحرية تقتضي إسقاط ذلك كما لا يخفى وأما إسقاطها لحقوق الوالدين فلأنهم خذلهم الله يقولون إن الولد الحدث إذا وصل إلى حد البلوغ والبنت البكر إذا بلغت سن العشرين مثلا يفعلان بأنفسهما ما شاءا ولا كلام للوالدين فضلا عن الأقارب فضلا عن الحاكم ونحن نعلم أن الأب يسخطه ما يرى من ولده أو بنته من الأمور التي تهتك المروءة وتزري بالعرض سيما إذا كان من ذوي البيوتات فارتكاب ذلك على عينه مع منعه من الكلام فيه موجب للعقوق ومسقط لحقه من البرور وأما إسقاطها لحقوق الإنسانية فإن الله تعالى لما خلق الإنسان كرمه وشرفه بالعقل الذي يعقله عن الوقوع في الرذائل ويبعثه على الاتصاف بالفضائل وبذلك تميز عما عداه من الحيوان وضابط الحرية عندهم لا يوجب مراعاة هذه الأمور بل يبيح للإنسان أن يتعاطى ما ينفر عنه الطبع وتأباه الغريزة الإنسانية من التظاهر بالفحش والزنى وغير ذلك إن شاء لأنه مالك أمر نفسه فلا يلزم أن يتقيد بقيد ولا فرق بينه وبين البهيمة
____________________

المرسلة إلا في شيء واحد هو إعطاء الحق لإنسان آخر مثله فلا يجوز له أن يظلمه وما عدا ذلك فلا سبيل لأحد على إلزامه إياه وهذا واضح البطلان لأن الله تعالى حكيم وما ميز الإنسان بالعقل إلا ليحمله هذه التكاليف الشرعية من معرفة خالقه وبارئه والخضوع له لتكون له بها المنزلة عند الله في العقبى { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض } الأحزاب 72 الآية
واعلم أن الحرية الشرعية هي التي ذكرها الله في كتابه وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وحررها الفقهاء رضي الله عنهم في باب الحجر من كتبهم فراجع ذلك وتفهمه ترشد وبالله التوفيق
وفي سنة إحدى وثمانين ومائتين وألف كمل بناء الدار الفيحاء التي أنشأها السلطان سيدي محمد رحمه الله بآجدال من ظاهر رباط الفتح بجوار ضريح جده سيدي محمد بن عبد الله وهي دار كبيرة حسنة البناء واسعة المقاعد والفناء يقال إنها من أخوات بديع المنصور ولما كمل بناؤها أمر السلطان رحمه الله أن يختم فيها فقهاء رباط الفتح صحيح البخاري أولا وفقهاء سلا ثانيا فدخلناها في جملتهم وتقصينا منازلها ومقاعدها فرأينا ما ملأ أبصارنا حسنا وإتقانا وعجيب صنعة
وفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف حدثت فتنة بفاس وذلك أن الناس كانوا في صلاة الجمعة بمسجد القرويين خامس ربيع الأول وكان فيهم التاجر الأمجد أبو عبد الله حبيب بن هاشم بن جلون الفاسي فلما سجد مع الناس شدخ بعض اللصوص رأسه بحجر كبير من أحجار التيمم التي تكون بالمسجد ثم انحنى عليه بخنجر كان بيده فقطع به صفاق بطنه وساوره التاجر المذكور وما بالعير من قماص ولما وقعت الضجة قطع الناس صلاتهم وخرجوا فارين من المسجد وتركوا ثيابهم ونعالهم ومصاحفهم وغير ذلك فقائل يقول إن الإمام المهدي قد خرج وآخر يقول إن الناس يذبح بعضهم بعضا في الجامع واهتزت المدينة ثم تراجع الناس بعد حين وأما اللص فإنه خرج شاهرا سلاحه حتى وصل إلى باب المسجد فكثره الناس وقبضوا عليه وانتزعوا السلاح من يده وكشفوه فإذا به قد أدار حبالا كثيرة من تحت الثياب
____________________

على بدنه وقاية له فقتلوه هنالك وبقي التاجر ابن جلون يعالج جراحاته إلى أن مات من آخر الليل واتهم أولياؤه ناسا من أعيان فاس بأنهم أغروا بقتله ولم يثبت ذلك
وفي هذه السنة أعني سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف وجه السلطان رحمه الله قائد جيشه أبا عبد الله محمد بن عبد الكريم الشرقي وعامل سلا أبا عبد الله محمد بن سعيد السلاوي باشدورين إلى دولة فرنسا بباريس وكان السبب في ذلك ما أخبرني به القائد أبو عبد الله بن سعيد المذكور قال كان سيدنا أمير المؤمنين سيدي محمد بن عبد الرحمن رحمه الله قد أصحبنا كتابا إلى طاغية الفرنسيس وأمرنا بالكلام معه في شأن هؤلاء النواب الذين يبعثهم إلى المغرب وأن يكون ينتخبهم من بيوت الأعيان وممن يتصف بالتأني وحسن السيرة والوقوف عند ما حد لهم ولما وصلنا إلى باريس شرحنا ذلك للطاغية المذكور كتابة ففرح وقابلنا بمالا مزيد عليه من البرور الذي لا نقدر على شرحه مع إن إكرامنا والحمد لله لهم يفوق ذلك في الصوائر وكنا توجهنا ومعنا خيول وغيرها وأقمنا بباريس شهرا وكان مقامنا بدار كثيرة الفرش والأثاث من الفضة والمعدن ووكل بنا أمين يصير علينا حسب نظرنا وقومة يباشرون فرش المنزل وتنظيفه وغير ذلك ومعنا أصحابنا وطباخنا إلا أنهم منعزلون بمحل يخصهم وفي كل يوم تستدعينا الدولة للفرجة بمحل يسمى التياترو فيه مواعظ وحكم لمن تبصر ومتعة للنفس لمن كان حظه النظر وقد أكرمنا الطاغية بمنزله وأكرمنا الوزراء وعامل البلد والأعيان ليلا وكل واحد يجمع علينا أعيان الدولة وأهل البلد نساء ورجالا وعادتهم عند دخولك المنزل أن تحيي الزوجة ومن معها بالسلام أولا ثم بعد ذلك تحيي الرجل ورأينا من الطاغية ووزيره على الأمور البرانية من البرور والبشاشة ما جاوز الحد وطلب منا هذا الطاغية أن نبحث له في كتب التاريخ بالمغرب هل نعثر على تاريخ بناء رومة وفي أي وقت بنيت واسم بانيها ونبعث به إليه ا هـ كلام العامل المذكور وهو حفظه الله من أمثل الناس
____________________

وأعدلهم وأتقاهم وله المنزلة الكبيرة عند السلطان وعند الناس حرس الله مجادته وأدام بمنه عافيته وسلامته
ونص الكتاب الذي وجههم به السلطان رحمه الله مكتوبا فيه اسم السلطان بداخل الطابع الشريف بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم من عبد الله المتوكل على الله المفوض أمره إلى الله أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين بالمغرب الأقصى وهو محمد بن عبد الرحمن وفقه الله أدام الله نصره وزين بالخيرات عصره إلى المحب الذي حل من مراتب الرياسة أسناها وحاز من خصال التقدم أقصاها وأدناها فأصبحت ألسن الرؤساء لهجة بذكره مفصحة بتسليم نتائج فكره ملك الممالك الفرنساوية السلطان نابليون الثالث بونابارتي أما بعد فموجب تحرير هذا المسطور إليكم إعلامكم بما تضمنه الفؤاد من خالص المحبة وحفظ الوداد وإننا مسرورون بما يتجدد لدينا كل وقت من عقد أسبابها وما يظهر كل حين من تشييد أركانها وفتح أبوابها فإن محبتنا معكم الشخصية زادت على ما كانت عليه في عهد الأسلاف وذلك لما جبلتم عليه من صفاء الطوية وحسن الائتلاف فإن القلوب في الوداد تتضاهى وما بني على أصل وثيق كان جديرا بأن يعظم ويتناهى وبموجب ذلك عينا للسفارة إليكم خالنا الأرضى الأنجد القائد محمد بن عبد الكريم الشرقي وهو أحد باشات جيشنا ومن كبراء رجال دولتنا مع ما تشرف به من قرابة الرحم لدينا ومعه خديمنا الأرضي الأمين الحاج محمد بن سعيد قائد سلا وهو عندنا أيضا بالمكان المكين لما تخلق به من الأدب والعقل الرصين والغرض من توجيههما تجديد العهد بكم والحرص على موالاة المواصلة معكم لما في ذلك من تأكيد أسباب المحبة بين الدولتين وتمهيد طريق الخير بين الإيالتين والظن بشيمتكم مقابلتهم بحسن القبول وتبليغهم في وجهتهم غاية المأمول جريا على عادتكم القديمة وسلوكا على طريقتكم القويمة وقد حملناهم ما في خاطرنا من أمور السياسة الجالبة لمصالح الجانبين ما يقررونه لديكم ويعرضونه عليكم ففي أخبارهم كفاية وأوصيناهم بحسن الاستماع لما تلقونه
____________________

إليهم والأدب في تلقي ما تعرضونه عليهم كما أننا نتحقق أنكم لحسن معاملتكم ومزيد محبتكم توصون نوابكم الذين توجهونهم للخدمة بإيالتنا السعيدة بحسن المعاملة والتقصي في ترحيب الصدر والمجاملة والوقوف عند الشروط والعمل بمقتضاها والتمام في الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف ا هـ
واعلم أن هذا الكتاب بديع في بابه غريب في منواله قد اشتمل من التوريات والنكات ومقتضيات الأحوال على ما يشهد لمنشئه بالمعرفة والمهارة والبصيرة والبصارة رحمه الله وفي شوال من هذه السنة مرض السلطان رحمه الله مرضا شديدا أشرف منه على الهلاك بل أشاع المرجفون أنه قد هلك واضطربت أحوال الرعية وعاد أعراب البادية إلى العيث في الطرقات واستلاب الناس بها من المارة وغيرهم وحاصر عرب عامر مدينة سلا وعاثوا في جناتها ومنعوا الداخل إليها والخارج منها وغلقت الأبواب واستمر ذلك إلى عيد الأضحى ثم ورد الخبر اليقين بإبلال السلطان وإفاقته من علته وكانت علته الداء المعروف بالخوانق بلغ به إلى حد اليأس والإشراف ثم تدارك الله المسلمين بلطفه ومن على إمامهم بعافيته فأعملت المفرحات والولائم في جميع الأمصار
قال أبو عبد الله أكنسوس ما ملخصه لما أفاق السلطان رحمه الله من علته هذه كتب حجاب الحضرة ووزراؤها لابنه الخليفة المنتصر بالله أبي علي المولى حسن بن محمد يهنئونه بعافية السلطان فأمر هذا الخليفة أعزه الله بإخراج المدافع والأنفاض حتى اهتزت الجبال ثم دعا أيده الله الناس الدعوة الحفلا فلم يتخلف ممن كان بمراكش أحد من العقلاء فأمر أيده الله بتهيئة جنان رضوان ففتحت أبوابه وفرشت قصوره وقبابه وفجرت أنهاره حتى تفتقت أزهاره وحضر وجوه الدولة وأعيانها ورؤساء القبائل وأقيالها وكان ذلك بأثر عيد الأضحى قبل انفصال وفود العيد عن الحضرة ثم اندفع عليهم من الدار المولوية من سيول موائد الطعام الفاخر ما عم الأول منهم والآخر هذا للعامة المطلقة والأوزاع الملفقة وأما الخواص والوجوه
____________________

فلهم الحظ الأوفر من العناية والخطاب بصريح الترحيب دون كناية بالقعود على الفرش الحريرية المذهبة والمقاعد العالية المطنبة والرش بمياه الأزهار ومباخر الطيب وكل معنى لطيف ومنظر عجيب وقد أحضر كل واحد ما شاء من آلات اللهو والفرح على حسب ما اشتهى واقترح فلا تكاد تسمع في تلك المجالس والمغاني إلا أصوات المثالث والمثاني وضروب الألحان والأغاني واستمر الناس في ذلك ثلاثة أيام والمولى الخليفة أعزه الله مع إخوته وبني عمه في القبة المحمدية الصويرية المشرفة على مجاري الخيل وملاعبها ومطاردها ومتاعبها وكل عشية يركب من بالحضرة من الوجوه والأكابر على عتاق الخيل والجياد الضوامر ويبدي ما عنده من الثقافة والفروسية مع إظهار الشارة المخزنية والأبهة الملوكية ثم بعد هذا شرع كبار الدولة ووجوهها ورؤساؤها وقوادها في انتخاب الصنائع والولائم كل على حسب ما أداه إليه اختياره واعتناؤه ثم تتابع الناس في مزهاتهم وإظهار أبهاتهم وانتخاب دواعي الأفراح ومقتضيات الازدهاء والانشراح فما يمر احد ببستان إلا ويجد به جماعة زاهية وطائفة منبسطة لاهية ا هـ
وفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف كان بالمغرب جراد سد الأفق وذلك في ربيع الأول الموافق لشهر مارس العجمي فأكل النجم والشجر ثم عقبه فرخه المعروف بآمرد فأكل كل خضراء على وجه الأرض واستلب الأعواد من أوراقها وقشرها من لحائها وفاض في الأمصار حتى دخل على الناس في بيوتهم
وفي سنة أربع وثمانين ومائتين وألف كان الغلاء المفرط بالمغرب الذي لم يتقدم مثله بلغ فيه الربيع وهو ربع ثمن المد بسلا ورباط الفتح ستين أوقية وباع الناس أثاثهم وحليهم بالبخس وكان الأمر شديدا على الضعفاء وفي ذي القعدة من هذه السنة توفي القائد الأجل أبو محمد عبد الله بن عبد الملك بن بيهي الحاحي وكان من كبار قواد المغرب وأهل البذل والإيثار والمعروف له في ذلك أخبار مذكورة رحمه الله
____________________


وفي سنة خمس وثمانين ومائتين وألف كان الوباء بالمغرب بالقيء والإسهال المفرطين على نحو ما وصفناه في السنين الماضية وفي زوال يوم الأحد الحادي عشر من جمادى الأولى من السنة المذكورة توفي قاضي سلا الفقيه العلامة الورع أبو عبد الله محمد العربي بن أحمد بن منصور ودفن بالجبانة المتصلة بضريح الشيخ أبي العباس بن عاشر رضي الله عنه وكانت لهذا القاضي سيرة حسنة وعدل في الأحكام وتأن فيها مع سمت ومروءة وانقباض رحمه الله وبقيت سلا بلا قاض أربعين يوما حتى وقع اختيار السلطان على شيخنا الفقيه العلامة القاضي سيدي أبي بكر ابن الفقيه العلامة القاضي سيدي محمد عواد رحم الله الجميع
وفي هذه السنة أمر السلطان رحمه الله بضرب الدرهم الشرعي وحاول ضبط السكة به وحمل الناس على أن لا يذكروا في معاملاتهم وأنكحتهم وسائر عقودهم إلا الدرهم الشرعي وشدد في ذلك وكتب فيه إلى ولاة الأمصار يقول في كتابه ما نصه وبعد فإن أمر السكة من الأمور الواجبة المتعين رد البال إليها والاهتمام بشأنها والنظر فيما يصدر بسببها من النفع والضرر للمسلمين وبيت مالهم وقد كان أسلافنا رحمهم الله اعتنوا كثيرا بشأنها وبضبط مصالحها ودفع مفاسدها وجعلوها على قدر شرعي معلوم لضبط أمرها والتبرك بتلك النسبة إذ بذلك يعلم المسلم علم يقين كمال النصاب عنده فتجب عليه فيه الزكاة التي هي من دعائم الإسلام أو عدم كماله فلا يكون مخاطبا في بشيء ولما رأينا ما حدث فيها من التغير وعدم الضبط ونشأ عن ذلك من الضرر للمسلمين وبيت مالهم ما لم يخف على أحد اقتضى نظرنا السديد ردها لأصلها الأصيل الذي أسسه أسلافنا الكرام سنة ثمانين ومائة وألف أذلنا فيهم أسوة حسنة في الإجمال والتفصيل فرددنا الدرهم الكبير المسلوك على وزن الدرهم الشرعي والمنهاج المرعي كما كان على عهد جدنا سيدي الكبير قدسه الله وجدد عليه وابل رحماه بحيث تكون عشرة دراهم منه هي المثقال كما هو معلوم إن عشرة دراهم من الدراهم التي كانت تروج قبل على عهد أسلاقنا رحمهم الله هي المثقال وبهذا العدد
____________________

الذي هو عشرة منه في المثقال تكون جميع المعاملات والمخالطات في البيع والابتياع وغيرهما بين جميع رعيتنا السعيدة في كل البوادي والحواضر وبه أمرنا جميع العمال ومن هو مكلف بعمل من الأعمال وإشاعته ليبلغ الشاهد الغائب وبه يقبل لجانب المال وأمرناهم بالعمل بهذا الأمر الذي أصدرناه وأبرمناه بحول الله وأمضيناه وأن يعاقبوا كل من عثروا عليه ارتكب خلاف ذلك وبأن يسلكوا به أضيق المسالك جزاء وفاقا على مخالفته وتعديه الحد وافتياته نعم ما سلف من المعاملات بجميع أنواعها فيما تقدم قبل تاريخ هذا الكتاب فحكمه حكم ما تقدم في السكة فلا يكلف أحد بزيادة ومن كان بذمته شيء فيما سلف يؤديه بحساب ما كانت تروج به السكة في الريال والدرهم والعمل بهذا الذي أمرنا به هو من الآن لما يستقبل إن شاء الله وبهذا يزول الإشكال فيما تقدم بين الناس في المعاملات ونسأل الله أن يخلص العمل في سبيله ومرضاته ويجازي من فضله وكرمه على قصده وصلاح نياته والسلام في ثامن شوال عام خمسة وثمانين ومائتين وألف ا هـ
وفي يوم الجمعة السادس عشر من شوال المذكور توفي البركة الخير المنتسب سيدي الحاج محمد بن العربي الدلائي الرباطي بالدار البيضاء ودفن يوم الجمعة بالزاوية المنسوبة إليه بها رحمه الله ونفعنا به وفي هذه السنة كان سوق دار البلار بباريس من أرض افرانسا وذلك أن الطاغية نابليون الثالث لما بلغ من ضخامة الدولة ونفوذ الكلمة ما قل اتفاقه لغيره من الأجناس حاول أن يتجاوز ذلك إلى أن يجلب إلى رعيته ودار ملكه كل أمر غريب في العالم حتى يجتمع عنده ما افترق عند غيره فكتب إلى ملوك الآفاق يقول إنه قد عزم على إقامة سوق بباريس في وقت معلوم وطلب منهم أن يبعثوا بتجارهم لحضورها وجلب سلعهم وغرائبهم إليها وقصده بذلك عموم النفع وتعدي الصنائع والحرف من أمة إلى أخرى فأجاب الملوك داعيه بمقتضى العرف الجاري بين الدول والعادة المقررة من عهد الملوك الأول ولم يبق إلا من بعث تجاره ونفائسه وغرائبه من الجليل إلى الحقير وكان السلطان سيدي محمد رحمه الله قد بعث تاجره الحاج محمد بن العربي القباج الفاسي
____________________

المعروف بالفرنساوي وهذا الرجل من العارفين باللسان الفرنجي البصيرين بعوائد ذلك الجيل ولذا لقب بالفرنساوي وبعث معه السلطان رحمه الله كل شيء غريب مما اختص به قطر المغرب من سروج مذهبة ومناطق مزخرفة وقطائف منمقة وغير ذلك من الأعلى إلى الأدنى حتى الزليج الفاسي والمعلمين الذين يباشرون ترصيعه في محاله وحضر هذا السوق الملوك فمن دونهم من كل إقليم حتى السلطان عبد العزيز العثماني رحمه الله فكان الحال كما قال أبو الطيب المتنبي
( تجمع فيه كل لسن وأمة ** فما تفهم الحداث إلا التراجم )
وأقامت عمارتها ثلاثة أشهر ثم انفض الناس إلى بلادهم ولما بلغ نابليون الثالث إلى هذه الغاية فجئته وقعة البروس التي كسرت من شوكته وفلت من غربه وقبض عليه باليد وحوصرت دار ملكه باريس مدة طويلة فبلغ فيها لحم الحمار أربعة ريالات افرنك لكل رطل على ما قيل ولم تغب عنهم محنة ووقع الصلح على شروط منها ألف مليون من الريال تدفعها دولة افرانسا لدول البروس
وفي سنة ست وثمانين ومائتين وألف وذلك عشية يوم الخميس الرابع عشر من شعبان منها توفي الوزير أبو عبد الله محمد الطيب بن اليماني المدعو بأبي عشرين وكان سبب وفاته أنه كان به داء الحصر فدخل الميضأة التي بمشور أبي الخصيصات من دار السلطان بحضرة مراكش فيقال إن مثانته تمزقت فمات رحمه الله وحمل إلى داره وصلى عليه بعد الجمعة بمسجد المواسين وحضر جنازته الجم الغفير ودفن بضريح الشيخ أبي محمد الغزواني من حومة القصور وكان رحمه الله ذا جد في الأمور ونصح للسلطان وللمسلمين
وفي سنة سبع وثمانين ومائتين وألف وذلك ليلة الخميس الرابع عشر من ربيع الثاني منها خسف القمر خسوفا كليا بعد الغروب إلى نصف الليل وفي فجر يوم الجمعة الثامن من جمادى الأولى من السنة المذكورة توفي الولي الصالح الناسك السني أبو عبد الله محمد الطيب ابن الشيخ الأشهر مولاي
____________________

العربي الدرقاوي ودفن بمحل زاويته بآمجوط من بلاد بني زروال وكان من خيار عبد الله على غاية من التقوى والورع والتواضع من الناس يركب الحمار ويلبس الجبة ولا يتميز عن أصحابه بشيء مع السكينة والوقار وعدم الخوض فيما لا يعني والإعراض عن زهرة الدنيا وأهلها رحمه الله ونفعنا به وفي التاسع والعشرين من رمضان من السنة المذكورة انكسفت الشمس وكان ابتداء الكسوف على ما أعطاه التعديل بعد الزوال بنحو نصف ساعة وكاد يكون كليا حتى أظلم الجو وبقي من الشمس حلقة نورانية يسيرة ولم يمكن تحقيق وقت التجلي لتراكم السحاب وفي هذه الأيام ظهرت حمرة في السماء غريبة أرجوانية مع غاية الصحو وكان ظهورها يكون فيما بين العشاءين معظمها في جهة الشمال ودامت كذلك نحو سبعة أيام وانقطعت وفي ليلة السبت الثامن من شوال من السنة وذلك في الساعة الثالثة منها زلزلت الأرض ولم يشعر بها كثير من الناس لكونهم نياما
وفي سنة تسع وثمانين ومائتين وألف غزا السلطان سيدي محمد رحمه الله قبائل تادلا فمر على السماعلة منتصف رجب ثم منهم لبني زمور ثم لأبي الجعد ثم منه توجه لقصبة تادلا وعبر القنطرة ونزل على بني عمير ثم زحف لبني موسى فأوقع بهم لأنهم كانوا خارجين على عاملهم الغزواني ابن زيدوح فقطع منهم خمسين رأسا وقبض على أربعين مسجونا وفي أثناء ذلك قدم عليه وفد أهل مراكش وكانوا قد ثاروا على عاملهم أحمد بن داود لكونه كان يسير فيهم سيرة غير حميدة فقدموا على السلطان متنصلين مما فرط منهم فأعرض السلطان عنهم ولم يسمع منهم كلاما ولا قبل لهم عذرا فرجعوا مخفقين ثم تقدم السلطان رحمه الله إلى مراكش وهو غضبان على أهلها وكانوا مظلومين فيما قيل إلا أنه لبس على السلطان في أمرهم فلما شارف المدينة خرجوا إليه بالعلماء والقراء وصبيان المكاتب متشفعين فلم يقف لهم ولا التفت إليهم وكان ابنه وخليفته المولى الحسن حاضرا يومئذ فتقدم إلى أهل مراكش ورق لهم وقال لهم قولا جميلا وكان هذا الحادث في رمضان
____________________

من السنة المذكورة ثم لم يلبث ابن داود بعد ذلك إلا مدة يسيرة حتى توفي وتخلصت قائبة من قوب وعفو الله بعد ذلك مرقوب
وفي سنة تسعين ومائتين وألف كانت جائحة النار بكثير من بلاد المغرب أحرقت الزروع والثمار وأجيحت الجنات وتراجع الناس في أثمان ما بيع منها بعد إثبات الموجبات وكانت أيام السلطان سيدي محمد رحمه الله في أولها شديدة بسبب ظهور العدو على المسلمين وما عقبه من الغلاء والموت ثم بعد ذلك اتسع الحال وحصل الأمن وانخضدت شوكة قبائل العرب بالمغرب وأمنت الطرقات من عيثهم وازدهت الدنيا ورخصت الأسعار رخصا يسيرا وكان الناس ممعشين في أيامه وغلت الدور والأملاك حتى كانت في بعض السنين لا تسمسر ومن يشتري دارا إنما يشتريها بالتنقير عنها والطلب من ربها بالثمن الجافي واتخذ الناس ذوو اليسار المراكب الفارهة والكسي الرفيعة والذخائر النفسية وتأنقوا في البنيان بالزليج والرخام والنقش البديع لا سيما بفاس ورباط الفتح ولاحت على الناس سمة الحضارة الأعجمية وكان للسلطان سيدي محمد رحمه الله في كل بلد عيون يكتبون له بما يقع من الولاة فمن دونهم فكانت الرعية كأنها في كف يده وكان يختار أولئك العيون من العوام فكانوا يكتبون له بالغث والسمين فيسمع ذلك كله فينتقي منه الصحيح ويطرح السقيم فاستقامت أحوال الرعية بذلك وفاة أمير المؤمنين سيدي محمد بن عبد الرحمن رحمه الله
كانت وفاة أمير المؤمنين سيدي محمد بن عبد الرحمن رحمه الله في زوال يوم الخميس الثامن عشر من رجب الفرد الحرام سنة تسعين ومائتين وألف بداره بحضرة مراكش في البستان المسمى بالنيل ولم يمرض إلا يوما أو بعض يوم قيل إنه شرب دواء مسهلا فكان فيه أجله والله أعلم ودفن ليلا بضريح جده المولى علي الشريف قرب ضريح القاضي عياض وكتب على رخامة قبره أبيات ليست من جيد الشعر وهي
____________________


( أمستعبرا حولي رويدك إنني ** ضريح سعيد حل فيه سعيد )
( هو العلوي الهاشمي محمد ** إمام له في الملك سعي حميد )
( أبوه أبو زيد وقدس ذكره ** فقد كان يبدي في العلى ويعيد )
( ترحم عليه واعتبر بمصابه ** فعقد نفيس قد أصيب فريد )
( ومن رام تاريخ الوفاة فقل له ** بشعرك أرخ ما عليه مزيد ) بقية أخبار السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن رحمه الله ومآثره وسيرته
كان السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن رحمه الله متقيا لله تعالى بانيا أمره على الشرع لا يشذ عنه طرفة عين حتى أنه لما عزم على بناء داره التي برباط الفتح قام جماعة من أهل البلد يطلبون منه النصفة في جناتهم التي هنالك فأذعن رحمه الله لإعمال الشرع معهم واستناب وكيلا عنه واستنابوا هم وكيلهم أيضا وتحاكموا لدى قاضي سلا الفقيه أبي عبد الله محمد العربي بن أحمد بن منصور ثم انفصلت القضية عن ضرب من الصلح بأن أعطاهم أثمان جناتهم أو بعضها وذهبوا بسلام وكان رحمه الله حازما في أمره عالي الهمة راميا بها الغرض الأقصى إلا أن الزمان لم يساعده كل المساعدة فكانت همته أجل من دهره وكان ذا سياسة وسكينة وتأن في الأمور وتبصر بالعواقب كثير الحياء بعيد الغضب سريع الرضى مشفقا على الرعية متوقفا في الدماء لا يزايل خوف الله قلبه رحمه الله ونفعنا به وبأسلافه وله آثار بالمغرب منها ما خلده أيام خلافته في حياة والده ومنها ما فعله بعد ولايته
فمن آثاره في أيام أبيه كما قال أكنسوس إجراء الأنهار وتفجير العيون التي عجز الملوك المتقدمون عنها وتكملة غرس آجدال بحضرة مراكش وكان في زمان الصيف يناله الجدب من قلة الماء لأن بركه التي كان يختزن بها الماء كانت قد تعطلت بامتلائها بالتراب والطين الذي
____________________

تجلبه السيول إليها وأعظمها البركة الكبرى التي بدار الهناء وكان يقال لها البحر الأصغر وطولها اثنتا عشرة مائة قدم وعرضها تسعمائة قدم حسبما أخبر من قاسها وكان تربيعها بمنزلة سور قصبة فجاء من بني في وسطها قرية بدورها وأزقتها وأسواقها فجاء السلطان سيدي محمد رحمه الله أيام خلافته فأمر بإخراج ما في تلك البرك والصهاريج كلها وتنقيتها من الطيون المتحجرة فاجتمع على ذلك عالم من الناس فكنسوها وعادت إلى حالها الذي بنيت لأجله وهو اختزان الماء لوقت المصيف وبذلك كمل المراد من آجدال وصار آمنا من العطش والأمحال ومن ذلك أيضا إحياء عين أبي عكاز خارج باب الطبول من مراكش وكانت لها بركة بائدة على الوصف الذي ذكرنا فعمد إليها سيدي محمد رحمه الله وفجر لها عينا ثرة وماء غدقا وأجراه إلى البركة المذكورة بعد أن أمر بتنقيتها وإصلاحها فعاد ذلك البسيط الذي حولها مزارع نفاعة تغني الزارعين وتبهج الناظرين وبنى رحمه الله حولها قلعة يأوي إليها الأكرة والحراثون بأنعامهم ومواشيهم واتخذ هنالك من إناث الخيل المعدة للنتاج عددا كثيرا ومن ذلك إحياء عين المنارة وبركتها العظمى التي تقرب من البحر الأصغر بدار الهناء وكانت قد عطلت منذ زمان فقيض الله لها هذا السلطان فجمع الأيدي عليها حتى أخرج ما في جوفها من جبال الطين وأصلح ما تشعث من حيطانها وأجرى إليها العيون والأنهار وأمر بغرس ما حولها من الفضاء بأنواع الأشجار وضاهى بها جنة آجدال ومن ذلك أيضا إجراء النهر المسمى بتاركي المستمد من وادي نفيس فإنه ضاهى به النهر القديم الذي هناك وهذا النهر الجديد أنفع منه وأوسع أحيى الله به تلك البسائط التي بين مراكش ووادي نفيس ومن ذلك أيضا إجراء النهر الذي جلبه من تاستاوت إلى البسيط الذي بين بلاد زمران والرحامنة والسراغنة وهو المسمى بفيطوط فصار ذلك كله رياضا مخضرة وبساتين
____________________

ذات أزهار مفترة وبنى رحمه الله فيها قصبة عامرة يأوي إليها الوكلاء والفلاحون وصارت آهلة بعد أن كانت بائدة غامرة
ومن آثاره بعد ولايته أمر المؤمنين داره الكبرى بآجدال رباط الفتح والسور الكبير المحيط ببسيطها وجلب الماء إليها بعد أن صير عليها أموالا كثيرة وأحيى جامع السنة قربها وكان بائدا يعشش فيه الصدى والبوم وأقام فيه الصلوات الخمس والخطبة كل جمعة وأحيا المسجد الصغير هنالك المسمى بمسجد أهل فاس واعتنى به وزخرف سقوفه وانتهج الطريق من الدار المذكورة إلى الوادي أسفل من حسان تسهيلا على المارة وتقريبا عليهم ومنها أنه نقل طائفة من الجيش السوسي الذي بالمنشية وأوطنها حول الدار المذكورة بآجدال فاستطابوا المقام هناك وحسنت حالهم وانعمرت بهم تلك الناحية وهم الآن بهذا الحال ومنها بالدار البيضاء المسجد الجامع بالسوق وكان الصائر عليه من أحباس المسجد القديم وإنما السلطان رحمه الله أذن في بنائه بإشارة عاملها يومئذ أبي عبد الله محمد بن إدريس الجراري ومنها الحمام القديم الذي بها وكان الصائر عليه من بيت المال وأصلح رحمه الله أسوار الجديدة وأبراجها واعتنى بشأن الثغور وبعث من نوابه من يتفقد أحوالها ومنها بمراكش دار فابريكة السكر بآجدال منها صير عليها أموالا طائلة وجاءت على عمل متقن وهيئة ضخمة إلا أنها اليوم معطلة لقلة المادة ومنها دار فابريكة تزديج البارود بالمحل المعروف بالسجينة من مراكش أيضا ومن ذلك برج الفنار الذي على ساحل البحر بأشقار قرب طنجة يسرج فيه ضوء كثير يظهر للسيارة في البحر ليلا من مسافة بعيدة وصير عليه مالا له بال وكانت المراكب تنشب بذلك الساحل كثيرا إذ لم يكن لها علامة تهتدي بها في البحر ولما اتخذ السلطان رحمه الله هذا الفنار أمنت من تلك الآفة وله رحمه الله آثار كثيرة يطول ذكرها جعلها الله في ميزان حسناته ورفع بها في عليين درجاته
____________________

الخبر عن دولة ملك الزمن أمير المؤمنين المولى حسن بن محمد بن عبد الرحمن خلد الله ملكه
لما توفي السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن رحمه الله اجتمع أهل الحل والعقد من كبار الدولة وقواد الجيش والقضاة والعلماء والأشراف وأعيان مراكش وأحوازها على بيعة نجله أمير المؤمنين المولى أبي علي حسن بن محمد لما توفر فيه من شروط الإمامة وتكامل فيه من النجدة والشهامة والزعامة ولما اتصف به من الفضل والدين وسائر خصال الخير وأسباب اليقين ولأن والده رحمه الله كان استخلفه في حياته وألقى عليه بجميع مهماته فنهض بأعبائها وتقلب من مغاني السعادة في ظلالها وأفيائها
قال أبو عبد الله أكنسوس لما استخلف المولى الحسن حفظه الله لم تشغله شؤون الخلافة المترادفة آناء الليل وأطراف النهار ولا في قصوره السلطانية من الحدائق والأزهار عن وظائف الدين وأسباب اليقين من نوافل الخير من صلاة وصيام وتلاوة كما حدثني بذلك بعض بطائنه وأنه يجد لها في خلواته لذة وحلاوة فلما توفي السلطان كما قلنا كان المولى حسن أيده الله غائبا عن الحضرة بأبي ريقي من بلاد حاجة فكتب إليه رؤساء الدولة بما حدث من موت السلطان واجتماع الناس على بيعته فقدم مراكش في السابع والعشرين من رجب سنة تسعين ومائتين وألف ولما دنا منها خرج للقائه الوزراء والقضاة والأشراف والأعيان وسائر أهل مراكش برجالهم ونسائهم وصبيانهم فملؤوا تلك البطاح وضاقت بهم الأرض وأخذوا يعزونه ويهنئونه وهو أيده الله يقف لكل جماعة منهم عل حدتها حتى النساء والصبيان إشفاقا عليهم وتطييبا لنفوسهم وكان يوم دخوله لحضرة مراكش يوما مشهودا وموسما من مواسم الخيرات معدودا ولما استقر بدار الملك قدمت عليه الوفود من جميع الأمصار ونسلوا إليه من سائر النواحي والأقطار وكل وفد يأتي ببيعته وهديته واغتبط الناس بولايته وتيمنوا بطلعته فقابل أيده الله كلا
____________________

بما يستحقه من الإكرام وأفاض على الرعية جلائل الإنعام وشرع في تجهيز الجيوش وفتح بيوت الأموال فغمر الناس بالعطاء وكسا وأركب ونهض من مراكش يوم الاثنين رابع رمضان من السنة المذكورة قاصدا حضرة فاس والوقوف على الرعاية والنظر فيها بما يصلحها فمر على بلاد السراغنة وخرج منها إلى البروج ومنها إلى كيسر من بلاد تامسنا فاتصل به هنالك خبر فتنة أهل فاس وإيقاعهم بالأمين الحاج محمد بن المدني بنيس وكان السبب في ذلك على ما قيل أنه لما وصل خبر وفاة السلطان إلى فاس وأن الناس اجتمعوا على بيعة أمير المؤمنين المولى حسن أعزه الله واجتمع أهل فاس لعقد البيعة أيضا اشترط عامتهم لا سيما الدباغون أن يزال عنهم المكس فيقال إن بعض من أراد جمع الكلمة من العلماء والأعيان تكفل لهم بذلك عن السلطان ولما تمت البيعة أصبح الأمين بنيس غاديا على عمله من ترتيب وكلائه لقبض الوظيف في الأسواق والأبواب وغيرها فكلمه بعض أعيان فاس في التأخر عن هذا الأمر قليلا حتى تطمئن النفوس ويثبت الحق في نصابه وحينئذ يؤتى الأمر من بابه فأبى وأصر على ما هو بصدده فثار به العامة وهدموا داره وانتهبوا أثاثه واستصفوا موجوده وأرادوا قتله فاختفى ببعض الأماكن حتى سكنت الهيعة ثم تسرب إلى حرم المولى إدريس رضي الله عنه فأقام به وأمن على نفسه وكانت فتنة عظيمة يطول شرحها واتصل بالسلطان وهو بكيسر أيضا خبر فتنة أهل آزمور وقتلهم لنائب عاملهم وكان عاملهم يومئذ أبو العباس أحمد بن عمر بن أبي ستة المراكشي ونائبه هو أحمد بن المؤذن الفرجي من سكان آزمور وكان قتلهم له تاسع عشر رمضان من السنة ثم أن أهل فاس كتبوا إلى السلطان أعزه الله وهو ببلاد تامسنا رسالة بليغة يتنصلون فيها من فعلة بنيس ويرمون بها العامة والغوغاء ومن لا خلاق لهم ونصها
الحمد لله وحده الكريم الذي لا يعجل بعقوبة من ارتكب الذنب وتعمده والصلاة والسلام على سيدنا محمد صاحب الشفاعة الكبرى والجاه العظيم المخاطب بقول مولانا في كتابه الحكيم { وإنك لعلى خلق عظيم }
____________________

القلم 4 وعلى آله الذين أوجب الله لهم مودة وحبا وأنزل فيهم { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } الشورى 23 وأصحابه الذين كانوا أشداء على الكفار رحماء بينهم فكانت الملائكة يوم حنين نصرهم وعونهم هذا ونخص المقام الذي علا قدره واستنار ضوءه وفجره وجلله الفخار والوقار وعلاه البهاء وكساه وألبسه الرسول من رداء الشرف يوم كان علي وفاطمة والحسنان في داخل كساه من ارتقى وفاق وساد ومهد به للخلافة المهاد والوساد وتزينت بمدائحه الطروس العاطلة وخجلت لسماحته الغيوث الهاطلة من ضربت المفاخر رواقها بناديه ولم تزل المعالي تدعوه لنفسها وتناديه واتخذت بيعته جلبابا للأجياد والاعناق وأغضت مهابته الجفون والأحداق عين أعيان الدولة الشريفة المولوية وصدر المملكة العلوية الذين لم تزل سيرتهم في سجلات الآثار المحمودة مرسومة ومآثرهم في الدواوين مرقومة وألقى إليه هذا القطر المغربي الرسن وحل منه محل الوسن السلطان المؤيد مولانا الحسن سلالة القوم الذين زكت نفوسهم وأينعت في حدائق المزايا غروسهم ويسير المجد تحت ألويتهم وتتعطر المجالس بطيب أفنيتهم لا زال السعد يراوحك ويغاديك والعز نائما بواديك والطعن في عين حاسديك والقذى في عين أعاديك وجعلك الله من صروف الزمان في أمان ولا قطع الله عن جماعة العلماء جميل عادتكم ولا سلب المسلمين ملابس سعادتكم ورفع في بروج السعادة أعلامك ومكن من رقاب الأعداء حسامك وجعل الفتح أينما توجهت قبالتك وأمامك وشريعة جدك مقلدك وأمامك في نعمة طويلة الأعمار وروضة حلوة الثمار أما بعد أبعد الله عن ساحة سيدنا كل شر وقرب منها المحسن والبر وأبقاها ملجأ للمحتاج والمضطر فإنه لما ورد علينا من حضرة سيدنا العظمى ومكانته الشما كتاب سنى معظم الصفات والأسما بديع المعاني رائق المباني غمر ببلاغته البلغا ورقي ببراعته أعلى المنابر فمن تكلم دونه فقد لغا بادرناه بالتقبيل وأحللناه محل التاج والإكليل فقرىء على الجم الغفير وفرح بوروده الكبير والصغير واطمأنت بنشره النفوس وارتفع به كل كدر وبوس وتشوق الحاضرون
____________________

لسماع ما فيه وأنصت لقراءته ذو المروءة والسفيه والجامع غاص بأهله وكل حال بمحله فلما قرىء الكتاب تبين أن صدره مدح وعجزه لوم وعتاب فاشتمل على بسط وجمال وقبض وجلال وجمع بين ترغيب وترهيب فارتاب منه كل مريب فلما تم وختم وتقرر كل ما فيه وعلم تفرقت الجماعات أفواجا وارتجت المدينة ارتجاجا وحصل للناس بذلك الجزع وعمهم الخوف والفزع والذي أوقع الناس في ذلك ما في الكتاب من الأمر بتدارك ما وقع ففهموا أن ذلك برد ما ضاع وقد تفرق في الآفاق وما اجتمع وذلك غير ممكن كما سيتبين والحق أوضح وأبين من أن يبين على أن المقصود بذلك والمراد حسم مادة الفساد لينقطع من جماعة السفهاء عداؤها ولئلا تتقد نار الفتنة فيتعذر إطفاؤها أما ما وقع في قضية الحاج محمد بنيس حتى أفضى به الحال إلى الاحترام بمولانا إدريس وفعل بأمكنته الفعل الخسيس وليم بسببه المرؤوس والرئيس حتى توجهت الحجة على مسموع الكلمات إذ هي متوجهة من جهات فقد تندفع الحجة بشرح القضية على وجهها وإيرادها على مقتضى كنهها من غير قلب للحقيقة ولا خروج عن متن الطريقة وفي كريم علم سيدنا أن للإنسان أعذارا يرتفع عنه بها الملام ولا يعاتب معها ولا يلام وذلك أن ما وقع من النهب وقع بغتة في يوم يستعظم شاهده وصفه ونعته والمدينة وقتئذ عامرة بالبادية والحاضرة ولا معرفة لنا بمن نهب ولا بمن أتى ولا بمن ذهب أمر أبرزته القدرة لم يمكنا تلافيه ولم يفد فيه نهي سفيه فلو صدر ذلك من آحاد معينين وأفراد مخصوصين لأمكن الانتصاف وانتزع منهم ما أخذوه من غير اعتساف لكن الأمر برز وصدر من قوم مختلطين من بدو وحضر فيهم الأبيض والأسود والأحمر وما منهم إلا من أستأسد وتنمر وليس في وجوههم من الحياء علامة ولا أثر لا يقلبون موعظة إذ ليسوا من أهل الفكر فلا يمكن دفعهم إلا بجيش عظيم وعسكر يصاح فيهم بالنهي وهم في طغيانهم يعمهون ولا يلتفتون إلى من نهاهم بل لا يشعرون ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون ثم لما كان اليوم العاشر من شهر تاريخه وقع
____________________

بالحرم الإدريسي ما وصلكم ولا أظنه إلا فصل لكم لكن عمتنا ألطاف الله ورحماته وحفظ الضريح ورحباته ولم تنتهك حرماته وحمته حماته ورماته فأبوابه قد فتحت وزواره بمشاهدة أنواره قد منحت ومما في الكتاب المذكور أن السفيه إذا لم ينته فهو مأمور ولعمرك أنه ليس منا علم بذلك ولا شعور وكيف يأمر العاقل بالمحظور أم كيف يرضى مسلم بهتك حرمة الإسلام وأهله وما يوجب افتراق الكلمة من قول أحد أو فعله وقد جاء الوعيد بما يلزم من سكت وحضر فكيف بمن باشر أو أمر لكن باب التوبة والحمد لله مفتوح لمن يغدو عليه أو يروح فنسأل الله أن يمن عليهم بالتوبة من ارتكاب هذه الحوبة وقد كتبنا لسيدنا بهذا الكتاب والمدينة بحمد الله آمنة والنفوس مطمئنة ساكنة والأيدي على التعدي مكفوفة والطرق مسلوكة غير مخوفة وذلك بعد معاناة في إخماد نار الفتنة ونصب وألطاف الله تتوارد وتصب بعد أن كانت نار الفتنة توقدت وتأججت وبلغت القلوب الحناجر وبالأكدار قد مزجت وكل من له مروءة ودين وعد من المهتدين بذل في صلاح المسلمين جهده وأبدى من الفعل الجميل ما عنده ولقاضينا بارك الله فيه اليد الطولى فلم يقع منه تقصير في القضية الثانية ولا الأولى هذا وكما في علمكم أن الملك من ملك هواه ولم يغتر بهذا العرض الفاني وما أغواه وقهر نفسه عند الغضب وابتكر ما يوصله إلى الله واقتضب وأن الكريم إذا حاسب مسامح وإذا قدر عفا ولو أبدى المسيء إساءته وهفا فليتفضل سيدنا بقبول شفاعة من يضع اسمه في هذا الكتاب من العلماء والأشراف ومنهم بعدم صواب ما صدر من السفهاء إقرار واعتراف ولا يستغرب صدور الخير من معدنه والفضل من موطنه وتتحاشى أخلاقك الفاخرة وشيمك الطاهرة أن تكون شفاعتنا في هؤلاء العصاة مردودة وجماعتنا عن ساحتكم مبعدة مطرودة ولحسن الظن بكم تحمل لجانبكم الزعيم والكفيل على أن لا نرى منكم إلا الجميل فليمن سيدنا على هذه الحضرة الفاسية منا ولا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا وكيف والحلم من داركم برز وخرج وفي أوصافكم الحسان اندرج فأحببنا أن تكون هذه
____________________

المنقبة في أوصافكم تذكر وفي صحيفتكم تكتب وتسطر فقابلوا بالصفح والإغضا عما سلف ومضى وكلنا من رعيتكم ومقتطفون من ثمار روضتكم ومستمدون من مائدتكم والظن الأقوى بكم أنكم تقبلون الشفاعة منا وتمنون على المستضعفين من رعيتكم منا وكأنا بكتابكم بضمن ذلك يتلى وكلماته أشهر من العسل وأحلى والله يتولى أمر الائتلاف بمتعود إحسانه ويجمع قلوبنا على طاعته وموجبات رضوانه حتى نكون في ذات الله إخوانا وعلى الدين أنصارا وأعوانا والقلوب بيد من له الأمر والاختيار وربك يخلق ما يشاء ويختار وإذا تعارضت الحظوظ فما عند الله خير للأبرار وخير العمل عمل قرب إلى الجنة وأبعد من النار فالواجب على كل مسلم أن يدع ما يزري بالإسلام ويهينه ولا يلتفت لدواعي القطيعة فإنها تقوي الكفر وتعينه أما علمنا أن من ورائنا عدوا يشتهي مواطىء أقدامنا وتنكيس أعلامنا تقضي أخوة الإسلام ومناصرته ومعاضدته ومواصلته أن لا يكون لجميعنا طموح إلا إليه ولا تمالؤ إلا عليه وفقنا الله لما فيه رضاه وجعل سعينا فيما يحبه ويرضاه آمين والسلام في منتصف رمضان المعظم عام تسعين ومائتين وألف ا هـ
ثم دخل السلطان المولى الحسن أعزه الله رباط الفتح صبيحة يوم الخميس التاسع والعشرين من رمضان المذكور وكان العيد يوم السبت فأقام السلطان أيده الله سنة العيد برباط الفتح وختم به صحيح الإمام البخاري على العادة وكان فقيه المجلس ومدرسه يومئذ الفقيه العلامة السيد المهدي بن الطالب ابن سودة الفاسي وحضر ذلك المجلس وفود المغرب وقضاة العدوتين وعلماؤها وحضرنا في جملتهم ومدح السلطان بقصائد بليغة واحتفل أعزه الله لهذا الختم بأنواع الأطعمة والأشربة والطيب وفرق الأموال على من حضر ثم وصل أهل العدوتين من علمائهما وقرائهما ومؤذنيهما وطبجيتها وبحريتهما على العادة وهناك قدم عليه أهل آزمور متنصلين مما صدر من عامتهم في حق محمد بن المؤذن فقابلهم بالبشر والصفح إلى أن بحث عن رؤوس الفتنة بعد ذلك فعاملهم بما يستحقونه وأقام السلطان أعزه
____________________

الله برباط الفتح إلى يوم السبت الثاني والعشرين من شوال من السنة فنهض قاصدا مكناسة فعبر المجاز ومعه من جنود الدولة وعساكر القبائل ما يجل عن الحصر وكان نهوضه عن إزعاج بسبب ما اتصل به من خبر المولى عبد الكبير بن عبد الرحمن بن سليمان ولد الذي كان ثار لأول بيعة السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن فسلك هذا الولد مسلك أبيه وأطمعه شياطين البربر في الملك حتى أوردوه مورد الردى وحان وسقط العشي به على سرحان ولما كان السلطان أعزه الله ببلاد بني حسن بلغه خبر القبض عليه فكتب كتابا إلى الأمصار يقول فيه ما نصه وبعد فإن عبد الكبير بن عبد الرحمن الذي سولت له نفسه ما سولت من الرأي المنكوس والحظ المعكوس كان تحزب بشياطين وأوباش من برابرة بني أمكليد وأتوا به لآيت عياش قرب فاس فلما سمع بذلك خدامنا أهل فاس وأخوالنا شراقة وغيرهم من الجيش السوسي وقبائل الصلاح قاموا على ساق في طرده وإبعاده ونفيه من ساحتهم وتشتيت رماده وقابلوه بالنكاية والوبال ورأى منهم ما لم يخطر له ببال ورجع بخفي حنين ثم بعد الطرد والإبعاد لم يبال بما هو عليه من سوء الحال ولا أقلع عما طمع فيه من المحال ولا انتبه من نومته ولا أفاق من سكرته وبقي على دورانه عند البربر إلى أن ختم مطافه بالوصول لآيت يوسي فحكم الله فيه هنالك وأتى به مقبوضا عليه وذهبت ريحه وسقط في أيدي من كان آواه من البربر وحصلوا كلهم على الخسران والخزي والخذلان وها الفتان متقف تحت يد أخينا الأرضى مولاي إسماعيل رعاه الله فالحمد لله حق حمده ولا نعمة إلا من عنده وهو المسؤول بنبيه صلى الله عليه وسلم ومجد وعظم أن يؤدي عنا وعن المسلمين شكر نعمته وأن يجزينا على ما عودنا من جزيل فضله ومنته هذا وقد كتبنا لكم هذا بعد ما خيمنا بحول الله ببلاد الصفافعة من بني حسن ومحلتنا المظفرة بالله محفوفة بالنصر والعز بحمد الله وأعلامنا المنصورة بالله رياح اليمن والسعادة تسوقها والأرباح تكفل بها سوقها وقد أعلمناكم لتأخذوا حظكم من الفرح بما خول مولانا جل وعلا من عظيم نعمه فلله الحمد وله المنة
____________________

والسلام في السادس والعشرين من شوال عام تسعين ومائتين وألف ا هـ ثم تقدم السلطان أعزه الله إلى دار ابن العامري فأوقع بأولاد يحيى فرقة من بني حسن وكانوا قد ثاروا بعاملهم عبد القادر بن أحمد المحروقي فهدموا داره وانتهبوها وعاثوا في الطرقات وأخافوها فأوقع بهم السلطان المولى الحسن أعزه الله وقعة كادت تستأصلهم وتأتي عليهم فتشفعوا إليه وتطارحوا عليه وأظهروا التوبة والخضوع فقبل توبتهم وولى عليهم ثلاثة عمال ووظف عليهم مالا له بال ونهض أعزه الله إلى مكناسة الزيتون ف 4 ي سابع ذي القعدة من السنة فدخلها مظفرا منصورا ولما احتل بها كتب أيده الله إلى الأمصار بما نصه وبعد فأنا بإثر الفراغ من أمر القبيلة اليحيوية وبناء أمرها على أساس الجد بحول الله وحصول المراد من كمال استقامتها بحمد الله وجهنا الوجهة السعيدة لوطن أسلافنا الكرام قدسهم الله بمكناسة الزيتون وتقدمنا في محلتنا السعيدة المنصورة التي أرخى اليمن والظفر عليها ستوره فلقينا في طريقنا أهل هذا القطر المغربي من البرابرة وغيرهم على اختلاف شعوبهم وقبائلهم مظهرين غاية الفرح بمقدمنا ومتبركين بيمن طلعتنا وقائمين بالسمع والطاعة لعلي جانبنا وحللنا حضرتنا السعيدة بمكناسة الزيتون في يوم كان من الأيام السعيدة المشهودة والأوقات المعدودة بل فاق ذلك اليوم السعيد بما وقع فيه من السرور كل موسم وعيد فالحمد لله على ما خول وأولى من فضله العميم وخيره الجسيم وهو المسؤول بنبيه صلى الله عليه وسلم ومجد وعظم أن يؤدي عنا وعن المسلمين شكر نعمته وأن يجرينا على ما عودنا من جزيل فضله ومنته آمين والسلام في العشرين من ذي القعدة الحرام عام تسعين ومائتين وألف ا هـ
وكان دخوله أعزه الله إلى مكناسة بعد زيارته تربة المولى إدريس الأكبر وصلاته الجمعة بها وأطال أيده الله المقام بمكناسة وفي مدة مقامه بها أوقع ببني مطير ومن لافهم من مجاط وبني مكيلد وآيت يوسي وغيرهم بعد أن طال قتاله لهم ثم اقتحم عليهم معاقلهم وانتهى إلى الموضع المعروف بالحاجب بحبوحة قرارهم ومحل منعتهم وانتصارهم بل تجاوزته عساكره
____________________

المنصورة وأعلامه المنشورة بمسافة بعيدة إلى أن دخلت فم الخنيق الذي هو أول بني مكيلد فاستباحت هنالك حلاتهم وطارت برؤوس عناتهم ومزقتهم في أعز مكانهم كل ممزق وقبضت منهم على عدد وافر من الأسرى بعث به السلطان أعزه الله إلى الأمصار فكانت عبرة لأولي الأبصار وكان إيقاعه ببني مطير منتصف محرم فاتح سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف واستمر مقيما بمكناسة إلى فاتح ربيع الأول منها وفي يوم الاثنين ثالث الشهر المذكور نهض أيده الله إلى فاس فدخلها يوم الخميس السادس منه بعد ما تلقاه أشرافها وأعلامها وأعيانها وجميع رماتها حتى النساء والصبيان مع العامل والقاضي واجتمعت به مقدمتهم بوادي النجاة فألان جانبه لهم وتنزل لملاقاتهم تطييبا لنفوسهم ولما وصل إلى البلد لم يعرج على شيء دون قصد ضريح المولى إدريس رضي الله عنه وزيارته والتبرك به وانهار عليه الضعفاء والنساء والصبيان يقبلون أطرافه ويتمسحون بأذياله وقدم الذبائح للحرم الإدريسي وغيره وأفاض من العطايا على الضعفاء والمساكين ما جاوز الحصر وكان يوم دخوله يوما مشهودا وموسما من مواسم الخيرات معدودا وعيد بفاس عيد المولد الكريم وقدمت عليه الوفود من كل ناحية واجتمعت ببابه وجوه القبائل من كل قاصية ودانية وازدان العصر وعم الفتح والنصر واستقامت الأمور ونادى منادي السرور في الخاص والجمهور ولما فرغ السلطان أعزه الله من شأن العيد أمر أمينه أبا العباس أحمد بن محمد ابن شقرون المراكشي أن يرتب الوظيف المجعول على أبواب فاس وأسواقها على ما كان عليه في حياة السلطان سيدي محمد رحمه الله ففعل وكان ذلك أواخر الشهر المذكور ولما جلست الأمناء كل بمحله واستقامت الأحوال وذهبت الأهوال ثقل ذلك على الدباغين ومرضوا فيه وذهبوا إلى الشريف الفقيه المولى عبد الملك الضرير وقالوا له أنت الذي أوقعتنا في هذا كله بضمانك إسقاط المكس أولا حتى صدر منا في حق بنيس ما صدر والآن أخرجنا مما أوقعتنا فيه أما بإسقاط المكس وأما بإخراج بنيس من بين أظهرنا لئلا تدول له دولة علينا والرجل قد صار عدوا لنا فقام الفقيه المذكور وقدم على السلطان
____________________

أعزه الله وذكر له ما عزم عليه السفلة من الدباغين فأعرض السلطان أيده الله عن ذلك وقابل بالجميل فقال الفقيه المذكور إن لم يكن شيء مما ذكرت لسيدنا فالأولى بي أن أنتقل إلى تافيلالت ولا أبقى بين أظهر هؤلاء القوم فأسعفه السلطان وبعث جملة من الحمارين لحمله وحمل أولاده ولما رأى الدباغون ذلك نفخ الشيطان فيهم وعمدوا إلى الحمارين فطردوهم وارتجت فاس وماجت الأسواق وقامت الفتنة على ساق واتصل الخبر بالسلطان أيده الله فاستدعى عامل فاس إدريس بن عبد الرحمن السراج وكان متهما بالخوض في وقعة بنيس وما ترتب عليها بعد فأظهر الطاعة والامتثال وركب بغلته يريد القدوم على السلطان بفاس الجديد فقام الدباغون دونه ومنعوه من الذهاب إلى السلطان وتهددوه بالقتل إن فعل فقعد ووقع ذلك منه الموقع لأنه كان متخوفا على نفسه ولما رأى السلطان أيده الله تمادي هؤلاء الطغام ومحكهم ولجاجهم بعد أن بالغ في إلانة الجانب والمقابلة بالجميل ومن ذلك إعراضه أعزه الله عن الكلام في أمر بنيس أمر بحصارهم والتضييق عليهم لعلهم يرجعون ثم لم يكفهم عصيانهم حتى صعدوا على منار المدرسة العثمانية وعلى غيرها مما هو مطل على فاس الجديد وأخذوا في الرمي بالرصاص حتى أصابوا بعض من كان بأبي الجلود ولما انتهوا من سوء الأدب إلى هذه الغاية أمر السلطان أيده الله بمقابلتهم على قدر جريمتهم فطافت بهم العساكر ورموهم بالكور من كل ناحية ثم اقتحمت طائفة من العسكر سور فاس من جهة الطالعة وأخذوا في النهب والقتل وعظم الخطب واشتد الكرب وفي أثناء ذلك بعث السلطان أعزه الله وزيره أبا عبد الله الصفار يعظهم ويعرض عليهم الأمان بشرط التوبة والرجوع إلى الطاعة فأذعنوا وامتثلوا وانطفأت نار الفتنة وانحسمت أسباب المحنة فعجل السلطان أيده الله بالكتابة لجميع الآفاق وتلطف واعتذر بأنهم الذين بدؤوا بالحرب والبادي أظلم ومع ذلك فبمجرد ما أذعنوا إلى الطاعة كف عنهم رحمة لهم وإبقاء عليهم وكان هذا الحادث يوم الثلاثاء رابع ربيع الثاني من السنة
____________________


ونص كتاب السلطان أعزه الله وبعد فبعد ما كتبنا لكم في شأن ما تلقانا به أهل فاس من الفرح والسرور والاحتفال في جميع الأمور اختبرناهم وبلونا أحوالهم فألفينا أحوالهم تصدق أقوالهم فأمرناهم حينئذ برد المستفادات لحالها المعتاد كما فعلنا بمكناسة وغيرها من البلاد فامتثلوا طائعين وجدوا في دفعها مسارعين ومن جملة من أمنا عليها ابن شقرون المراكشي الأمين فلم نشعر بالدباغين أصحاب فعلة بنيس إلا وقد ملئوا رعبا وتخوفوا أن يركبوا في المؤاخذة بها مركبا صعبا فطلبوا إخراج بنيس من بين أظهرهم وإبعاده وهم حينئذ عند السمع والطاعة المعتادة فلم نساعدهم فازدادوا تخوفا وظهر منهم طيش أبان منهم تشوشا وتشوفا فتصدينا بحول الله وقوته لتربيتهم وتأنينا كل التأني في مفاجأتهم وأحجمنا حياء من معاجلتهم تأدبا مع حرمهم الأكبر سيدنا ومولانا إدريس الأزهر ومراعاة لجماعة أهل الله الأحياء والنائمة وإعذارا وإنذارا لتكون الحجة عليهم شرعا وطبعا قائمة حتى ابتدؤونا وكسروا الحرم فقابلناهم والبادي أظلم فما كان إلا كلمح البصر أو هو أقرب حتى ظهر نصر الله فهدمت دور وصوامع وخربت فنادق ومصانع كانوا يضربون منها ويتترسون بها ونهبت حوانيت ودور واستلبت أيدي الجيش أقواما منهم وأسرت أسرى وأخذوا نكالا للآخرة والأولى لكنا بمجرد ظهور سطوة الله القاهرة فيهم والفتح أمرنا بالنداء في الحين بالعفو والصفح وكف أيدي القتل والأسر عنهم إبقاء عليهم وشفقة لهم حتى يظهر مآل أمرهم ويصفوا كدر غمرهم وفي عصر ذلك اليوم ورد العلماء والشرفاء والرؤساء والعرفاء ضارعين صارخين شفعاء على شرط أداء الحقوق والتزام الشروط والبقاء على ما كانوا عليه قيد حياة مولانا المقدس من اللوازم والمغارم فشفعناهم على الشروط المذكورة وقبلناهم على التزام الحدود المحصورة وأعلمناكم لتفرحوا بنصر الله وتكونوا على بال من حقيقة الواقع ولئلا تصيخوا للأخبار الكاذبة مسام المسامع أو تلتفتوا إلى أقاويل المرجفين الذين لا يدينون الله بدين ولايريدون إلا فتنة المؤمنات والمؤمنين والسلام في رابع ربيع الثاني سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف
____________________

ا هـ ثم إن السلطان أعزه الله قبض على عامل فاس إدريس السراج وعلى ولده واثنين آخرين معه من رؤوس الفتنة وغربهم إلى مراكش وولى على فاس القائد الجياني بن حمو البخاري أحد قواده واستقامت الأحوال
وكان مما قيل من الشعر في هذه الوقعة قول صاحبنا الفقيه الأديب أبي عبد الله محمد بن ناصر حركات السلاوي حفظه الله
( لله ياتلك التي تأوي الفنا ** لا تنقضي ما كان صبري قد بنى )
( كلا وقد هيجت مني لوعة ** قد أوشكت في مهجتي أن تهدنا )
( وأتيت موطن مصرع العشاق ثم ** بكيت حتى كدت تبكي الموطنا )
( لو كانت الأجبال تعقل لانثنت ** تبكي لما بك رأفة وتحننا )
( فبأي رأي يا حميمة قد غدا ** منك البكا عوض الترنم والغنا )
( وبأي ذنب قد فجعت قلوبنا ** وسقيتنا كأس الأسى بدل الهنا )
( أو ما كفاك من المتيم مهجة ** ما شأنها إلا معاناة العنا )
( صب له في كل يوم عبرة ** وتلهف يقتده قد القنا )
( كيف اصطباري والحبيب مصارمي ** والدهر مغرا بالوشاية بيننا )
( دعني فعدلك للمتيم ضلة ** شر عليه من مقاساة الضنا )
( تالله لارقأت لعيني عبرة ** حتى ترى وجه المليك الأيمنا )
( اليد الشهم السري الأصيد الفخم ** النهي الباهي الهمام الصيدنا )
( الأعظم المستعظم العذب الحلي المستعذب ** الحسن الثنا المستحسنا )
( قد حاز في الأشراف كل فضيلة ** ملأ المسامع حسنها والأعينا )
( ومكارما ومحاسنا ومفاخرا ** لو ذاق لذتها الكفور لآمنا )
( فلذاك سيدنا المقدس خصه ** بمآثر ما تنتهي فتدونا )
( ورث الخلافة كابرا عن كابر ** لا كالذي يأتي إليها ضعيفنا )
( عشقته عشق ابن الملوح خذنه ** وصبت إليه صبا العيون إلى الرنا )
( وله وقد لبته قبل دعائه ** ألقت أزمتها وقالت ها أنا )
( ملك به الملك الأغر تشيدت ** أركانه في العز محكمة البنا )
( أضحى به يختال فخرا قائلا ** لسواك يا ركن الورى لن أركنا )
____________________


( والدهر سلم والحظوظ بواسم ** والنصر يقبل من هناك ومن هنا )
( والسعد قد ألقى عصا تسياره ** في قصره متاليا أن يقطنا )
( حسنت بطلعته الدنا فكأنها ** حلى به هذا الزمان تزينا )
( إن المزايا والعطايا والحجا ** أخلاق سيدنا تناء أودنا )
( لا لا تقس قيسا به في النبل أو ** في الفضل قعقاعا وأحنف في الأنا )
( أو في الشجاعة عامرا أو في الندى ** معنا وفي الإفصاح قس الألسنا )
( فهم لو اطلعوا على خصلاته ** لغدت ظنونهم بذاك تيقنا )
( فاستصغروا ما كان يصدر منهم ** وأتى جميعهم إليه مذعنا )
( ليت الملوك السالفين قد أحضروا ** فرأوا مليكا مالكا حسن الثنا )
( ولو أنهم علموا ضخامة ملكه ** قالوا لنا ملك ولكن قدونا )
( ولو أنهم سمعوا بعظم سماحه ** تاقوا وقالوا ليته في عصرنا )
( ولو أنهم قد أبصروا إقدامه ** بهتوا وقالوا ليس ذا في طوقنا )
( هذا الأمير ابن الأمير ابن الأمير ** ابن الأمير المالكي رسن الدنا )
( هاذ العصامي العظامي الذي ** وسع الأماكن فضله والأزمنا )
( ما زال يسمح بالجوائز واللها ** حتى لقد تخذ السماحة ديدنا )
( فخم نتيه تلذذا بحديثه ** حتى نظن الأرض قد مادت بنا )
( طبع الفؤاد على مودنه فما ** ندعو له بالنصر إلا هيمنا )
( يا أيها الملك السميذع والذي ** ما كان مشبهه مضى في غربنا )
( ما زلت تجتاب البلاد بسيرة ** عمرية تذر المعاصي مذعنا )
( وتبين للناس الرشاد وسبله ** وتريهم نهج السواء البينا )
( وتدمر العاتي بأبيض صارم ** وتقوم المعوج بالسمر القنا )
( لولا البغاة من الأنام وجورهم ** ما فارقت بيض السيوف الأجفنا )
( لكن بحلمك قد حقنت دماءهم ** ما أوشكت من بغيهم أن تحقنا )
( وأنمت في ظل الأمان جفونهم ** لولاك لم يك لامرىء أن يأمنا )
( ولقد تركتهم وكل قبيلة ** تثني عليك ثنا القلوب على المنا )
( حتى أتيت الحضرة الفاسية الغراء ** معتجرا بأثواب السنا )
____________________


( والملك من فرط السرور بك أزدهى ** وله فم بجميل ذكرك أعلنا )
( وأتاك أهلها قؤلا هل لنا ** يا ماجدا من عطفة تشفي الضنى )
( يا طالما اشتاقت إليك قلوبنا ** شوق الفقير إلى ملاقاة الغنى )
( فمنحتهم بعد الضراعة عزة ** وكسوتهم بعد الأسا ثوب الهنا )
( هذا وما صبحتهم بكريهة ** حتى جنى جهلا بفضلك من جنا )
( شربوا كؤوس الحتف لولا أنها ** أبقت عليهم رأفة وتحننا )
( وأتاك أرباب البصائر قولا ** يا لا تؤاخذنا بزلة غيرنا )
( فصفحت عنهم صفح مقتدر ولم ** تترك جيوشك فيهم أن تثخنا )
( وحبوتهم بعد الآسى بمسرة ** منعت قلوب الناس أن تتحزنا )
( فغدى ببغيته المصافي وانثنى ** بندامة الكسفى من قد شيطنا )
( لو كان في الإحسان شيء يتقى ** لنهاك طبع الجود أن لا تحسنا )
( إن الكريم إذا تمكن من أذى ** صاحت به أحلامه فتحننا )
( مثل الشجاع إذا سطى يوم الوغا ** أضحى بري طعم الردى حلو الجنا )
( لا كالجبان فلو تكلف نجدة ** صدته خشيته الحمام فأقبنا )
( وكذا اللئيم إذا أراد تفضلا ** جاءته أخلاق اللئام فأشقنا )
( لو أن جودك في الورى متفرق ** ما كان فيهم من برى متمسكنا )
( ولو أن بأسك قد تفرق بينهم ** ما كان يمكن لامرىء أن يجبنا )
( لو لم تكن مولى خميس أرعن ** لكفتك هيبتك الخميس الأرعنا )
( لو أن من أثنى على هرم رأى ** يوما علاك لقال غيرك ما عنا )
( شهد الأنام بأن مجدك باهر ** لم يجحدنه جاحد فنبرهنا )
( يدعونك الحسن الرضى طرا ولو ** شوركت في حسن دعوك الأحسنا )
( يا أيها الشهم السري ومن به ** أضحى على الأقطار يفخر قطرنا )
( إني امتدحتك والمحبة شافعي ** ومحبة الأشراف نعم المقتنى )
( وتحصني أبدا بعزة ركنكم ** ومعزز من بالكرام تحصنا )
( لا زالت أمداحي لأقعس مجدكم ** متواليات أو يصدني المنا )
( تالله لا قمنا بشكركم ولو ** أعضاؤنا كانت جميعا ألسنا )
____________________


( فلنمدحنك في الحياة وإن نمت ** قامت عظامتنا بمدحك بعدنا )
( خذها إليك خريدة فكرية ** طلعت بغيظ قلوب أبناء الزنى )
( بهرت قلوب ذوي النهي بمحاسن ** منعت خرائد فكرهم أن تحسنا )
( فاصرف إليها منة عين الرضى ** وامنع بفضلك حسنها أن يغبنا )
( دامت إليك من المهيمن نصرة ** تدع المعاند ضارعا مستهجنا )
( بمحمد المختار جدك خير من ** قد أوضح النهج القديم وبينا )
( صلى عليه الله ما جن الدجى ** وأمالت الريح الجنوب الأغصنا )
( والآل والصحب الصناديد الذرى ** والمانحي قصادهم نيل المنا )
ثم شرع السلطان أعزه الله بجمع العسكر وتنظيمه زيادة على ما كان في حياة والده فألزم أهل فاس بخمسمائة وألزم أهل العدوتين بستمائة وألزم غيرهما من الثغور بمائتين مائتين ولم يتخذ من مراكش ولا أعمالها شيئا فصعب على الناس ذلك وجمعوا منه ما قدروا عليه واعتنى السلطان أعزه الله به فكان يباشر عرضه وترتيبه بنفسه وفي أيام مقامه بفاس نبغ نابغ بأعمال وجدة يقال له أبو عزة الهبري من هبرة بطن من سويد وسويد من عرب بني مالك بن زغبة الهلاليين وكان هذا الرجل فيما زعموا يخط في الرمل ويتعاطى بعض السحريات فتبعه بعض الأوباش الذين لا شغل لهم وتأشبوا عليه ودنا من أطراف الإيالة وقوي حسه وكان السلطان أعزه الله عازما على النهوض إلى تلك الناحية وتمهيدها ونفي الدجاجلة عنها فاستعد غاية الاستعداد وجدد الفساطيط وكسى الجنود فرسانها ورماتها قديمها وحديثها وعرضها كلها ثم نهض من فاس منتصف رجب سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف ولما بات في الليلة الثانية بآيت شغروسن أغار على المحلة ليلا أبو عزة الهبري ومعه سعيد بن أحمد الشغروسني ويقال إنه إدريسي النسب فماجت المحلة بعض الشيء ثم تراجع الناس وأخذوا مراكزهم وصوبوا المدافع وآلات الحرب نحو عدوهم فشردوهم فكان ذلك آخر العهد بهم وقبض على عدد من أصحابه وقطعت رؤوس منهم وتقدم السلطان أعزه الله
____________________

في جموع مؤلفة من الجيش السعيد المظفر وأنجاد نظام العسكر وغزاة القبائل الغربية بربرية وعربية إلى بني سادان وآيت شغروسن فأوقع بهم وقتل وأسر وانتسفت الجيوش زروعهم وبعثرت أرضهم وديارهم فلجؤوا إلى بني وراين فأمر السلطان أيده الله بقتال الجميع ثم جاء بنو وراين متنصلين متبرئين إلى السلطان منهم فقبلهم وولى عليهم رجلا من أعيانهم ثم جاء بنو سادان وآيت شغروسن تائبين خاضعين فعفا عنهم ووظف عليهم مائة ألف مثقال وزيادة أربعمائة من الخيل فأذعنوا لأدائها واستوفاها السلطان أعزه الله منهم في أوائل شعبان من السنة ثم تقدم إلى تازا فدخلها في أوائل الشهر المذكور ولما احتل بها قدمت عليه وفود قبائلها متمسكين بحبل الطاعة داخلين فيما دخلت فيه الجماعة فرحين مغتبطين وبكل ما أمكنهم من الخدمة متقربين وجاءت عرب الأحلاف ومن جاورهم حاملين هوادجهم المحلاة بأحسن حليهم وشاراتهم التي يستعملونها في مواسمهم وزيهم فقابل السلطان أعزه الله كلا بما يجب من المجاملة وحسن المعاملة ما عدا ثلاث فرق من غياثة المجاورين لتازا وهم بنو أبي قيطون وأهل الشقة وأهل الدولة فإنهم كانوا يضرون بأهل تازا ويغيرون عليهم فألزمهم السلطان أيده الله بأداء ما تعلق لهم بذمتهم فأدوه في الحال ثم وظف عليهم ثلاثين ألف ريال أخرى لبيت المال فأدوها أيضا عن طيب أنفسهم ومن عداهم من أهل غياثة فإنما أدوا الزكوات والأعشار وأظهروا حسن الطاعة والامتثال وفي هذه الأيام جيء إلى السلطان بالهبري أسيرا فإنه لما خرج السلطان أعزه في طلبه وطلب غيره أبعد في الصحراء ولم تزل تلفظه البلاد وتتدافعه الشعاب والوهاد إلى أن ساقته خاتمة النكال إلى قبيلة بني كلال وهم على أربع مراحل من تازا فقبضوا عليه وجاؤوا به إلى السلطان أسيرا حتى أوقفوه بين يديه مصفدا كسيرا فأظهر الهبري الجزع وتضرع وخضع فحقن السلطان أعزه الله دمه وأمر به فطيف في المحلة على جمل ثم أمر ببعثه إلى فاس فسجن بها بعد أن طيف
____________________

به في أسواقها ثم مضى السلطان أعزه الله لوجهه حتى بلغ قصبة سلوان على طرف الإيالة المغربية من جهة الشرق فوفدت عليه قبائل تلك النواحي وأهدوا ومانوا وأظهروا غاية الفرح والسرور
حكى من حضر أنهم كانوا يزدحمون عليه لتقبيل يده وركابه ووضع ثيابه على أعينهم تبركا به وفي أوائل رمضان من هذه السنة في ليلة الخامس أو السادس وقع تناثر في الكواكب وتداخل واضطراب عظيم على هيئة مفزعة بعضها مشرق وبعضها مغرب وبعضها إلى هيئة أخرى فكان الحال كما وصف الأعمى بقوله
( كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ** وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه )
دام ذلك إلى قرب السحر وأقام السلطان أعزه الله بهذه البلاد حتى عيد بها بعيد الفطر وكان المشهد هنالك عظيما والموسم مخيما وحضر بنو يزناسن ومعهم كبيرهم الحاج محمد بن البشير بن مسعود فأهدى هدية كبيرة وولاه السلطان على تلك القبائل من بني يزناسن وغيرها وقفل أعزه الله راجعا فأدركه فصل الشتاء بتلك الجبال والفيافي فاشتد البرد وقلت الأقوات وهلك بسبب ذلك عدد كثير من الجند ولحق الناس مشقة فادحة وأظهر السلطان نصره الله يومئذ من الشفقة والبرور ما تناقله الناس وتحدثوا به فإنه كان يسير بسير الضعيف ويقف على المرضى حتى يصلح من شأنهم ويأمر بدفن من يدفن وحمل من يحمل وإذا سقط لأحد دابته أو رحله وقف عليه بنفسه حتى يعان عليه وهكذا إلى أن دخل حضرة فاس بحيث أدرك به عيد الأضحى من السنة فعيد بها وتفرغ للنظر في أمر العسكر يقوم عليه بنفسه ويعرضه على عينه ويتصفح قوائم مؤنه ورواتبه فاطلع أيده الله على ما كان يدلسه القائمون على ذلك من الزيادة الباطلة فعزل من عزل وأدب من يستحق التأديب ثم قبض على كبير العسكر السوسي وهو الحاج منو الحاحي وكانت فيه شجاعة وإقدام إلا أنه كان مفرطا في التهور والإدلال على الدولة وكبرائها فأدى ذلك إلى الانتقام منه بالضرب والسجن والاحتياط على ماله وضياعه
____________________

ولا زال مسجونا إلى الآن ثم سرح من السجن واستوطن مراكش عام ألف وثلاثمائة وخمسة وفي هذه المدة شرع السلطان أعزه الله في بناء داره العالية بالله العامرة المزرية بمصانع المعتمد وقباب الزهرة وذلك في البستان المعروف ببستان آمنة داخل فاس الجديد عمد أعزه الله إلى ناحية من ذلك البستان فقطع ما كان بها من الشجر وبنى فيها قبة فارهة فائقة الحسن بديعة الجمال يقال إنه ضاهى بها بعض قباب المعتمد بن عباد بإشبيلية ثم بنى الدار الكبرى بإزائها وهي من عجائب الدنيا حسبما بلغنا بالغ أيده الله في تنجيدها وتنميقها وأودعها من النقش العجيب والترخيم البديع والزليج الرفيع المزري بخمائل الزهر وقطائف الهند وبديع الطوس بحيث جزم كل من رأى ذلك بأن مثله لم يتقدم في دولة من دول المغرب وجلب لقبابها الأبواب من بلاد الأروام يقال إن ثمن أحد الأبواب خمسة عشر ألف ريال مسامره من الفضة المذهبة وعوده من أفضل أنواع العود لا تعرف له قيمة وفيه من التخريم والنقش ما يدهش الفكر ويحير النظر وباقي الأبواب من البلور الصافي المذهب المودع فيه كل نقش غريب وبها خوخات مركبة بهيئة بديعة كل ذلك قد عمه الذهب النضار الذي يدهش الأبصار وجلب لذلك من الأثاث الرومي ما قيمته ألوف من الريال وفيها من الفرش والحائطيات المزخرفة ما لا يدرى ثمنه ولا يعرف معدنه وموطنه إلى غير ذلك من المقاعد الحسنة والمنازل المستحسنة الرائقة الطرف البديعة الصنعة والرصف وفي مدة مقام السلطان أيده الله بفاس بلغه عن ولد البشير بن مسعود بعض استبداد فاقتضى نظر السلطان أعزه الله أن يبعث من قبله عاملا لجباية تلك النواحي فعقد لأخيه المولى علي على جيش وأضاف إليه القائد أبا زيد عبد الرحمن بن الشليح الزراري بمنزلة الوزير والظهير وبعثهما إلى ناحية وجدة وكان ابن الشليح المذكور يومئذ يتولى عمالة تازا وكان أهل وجدة وأعمالها يكرهون ولاية ولد البشير عليهم ويحبون ولاية ابن الشليح إذ كان له ذكر وصيت في تلك الناحية وربما كاتبه عرب آنقاد وكاتبهم ولما أحس ولد البشير بذلك انصبغت العداوة بينه وبين ابن الشليح فلم يكن إلا كلا ولا حتى
____________________

وجه السلطان أيده الله ابن الشليح المذكور واليا على وجدة وأعمالها وجابيا لأموالها وناظرا في شؤونها وأحوالها فقامت قيامة ولد البشير وعلم أنه لا يصفو له عيش معه فعزم على أن يطرده عن تلك البلاد ويرده من حيث جاء وكان ولد البشير هذا حسن الطاعة للسلطان إلا أنه انفسد أمره بما ذكرناه ولما قرب ابن الشليح من أرضه خرج إليه في خيله ورجله ولما التقت مقدمة الجيش بهم انتشبت الحرب بينهم وقامت الفتنة على ساق وكان غرض ولد البشير أن يضم إليه أخا السلطان وجيشه ويقوم بخدمتهم ويطرد عنه عدوه فقط فلم يستقم له ذلك وكان رأيه هذا خطأ إذ ليست هذه بطاعة كما لا يخفى ثم انهزم الجيش وعمدت بنو يزناسن والعرب إلى المحلة فانتهبوها وعاد عبد الرحمن بن الشليح إلى السلطان أعزه الله وهو بفاس فأخبره الخبر وبإثر ذلك كتب ابن البشير إلى السلطان يتنصل من أمر ابن الشليح ومحلته وأنه لا زال على الطاعة لم يبدل ولم يغير وإنما الذي انتهب المحلة هم السفهاء من غير إذن لهم ولا موافقة على ذلك وحتى الآن فكل ما ضاع من تلك المحلة يؤديه بأكثر منه فطوى له السلطان أيده الله عليها وأرجأ أمره إلى وقت آخر وكان قد اتصل به في ذلك الوقت خبر أبي عبد الله محمد الكنتافي صاحب جبل تينملل وكان أصل هذا الرجل أنه كان من أشياخ قبيلته وكان المتولي عليهم هو قائد الجيش السوسي أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد الجراوي وكان الكنتافي هذا أحذر من غراب وأمنع من عقاب قد اتخذ حصنا في رأس جبل تينملل حيث كان ظهور مهدي الموحدين حسبما مر في أخبارهم وتحصن به وصار يؤدي للقائد الجراوي كل ما يأمره به من غير توقف إلا أنه لا ينزل إليه فلما توفي الجراوي المذكور وولى السلطان على الجيش السوسي وما أضيف له وصيفه القائد أحمد بن مالك ضايق الكنتافي بعض الشيء وسار معه بغير سيرة الجراوي قبله فأنف الكنتافي من ذلك وأعلن أنه في طاعة السلطان ومتقلد بيعته يموت عليها ويبعث عليها ولا يقبل ولاية أحمد بن مالك ولو ألقي في النار فكتب أحمد بن مالك إلى السلطان وهو بفاس يعلمه بأن الكنتافي قد خلع الطاعة وفارق الجماعة وأشاع
____________________

المرجفون بأنه يحاول الاستقلال بالأمر التفاتا إلى ما كان لسلفه من أهل ذلك الجبل منذ سبعمائة سنة وربما حن هو إلى ذلك أيضا وقد حكى ابن خلدون أن أهل ذلك الجبل كانوا في زمانه على هذا الاعتقاد
( تخرصا وأحاديثا ملفقة ** ليست بنبع إذا عدت ولا غرب )
واستأذن أحمد بن مالك السلطان أعزه الله في غزو هذا الكنتافي فأذن له فبعث إليه كتيبة من الجند ففضها الكنتافي فازداد المرجفون تقولا وتخرصا ثم بعث إليه ابن مالك جيشا آخر أعظم من الأول فهزمه الكنتافي أيضا وقبض على جماعة منهم باليد فمن كان من جيش السلطان سرحه إظهارا للطاعة ومن كان من القبائل المجاورة له ضرب عنقه وكانوا عددا وافرا فتفاحش أمر الكنتافي في الحوز وكاد يستحيل إلى فساد فبعث ولده إلى حضرة السلطان بفاس وكتب له بشرح قضيته وأنه مظلوم من قبل أحمد بن مالك وما ارتكبه في حق الجيش إنما هو مدافعة عن نفسه وأنه لم يقتل جنديا قط وبالغ في التنصل وتقديم الشفاعات والذبائح والعارات فأرجأ السلطان أعزه الله أمره ونهض من فاس منتصف رمضان سنة اثنتين وتسعين ومائتين وألف فوصل إلى رباط الفتح ليلة عيد الفطر فاتفق أن وقع بها نادرة وهي أن جماعة من شهود اللفيف اثنى عشر جاؤوا إلى القاضي أبي عبد الله بن إبراهيم رحمه الله ليلة التاسع والعشرين من رمضان وشهدوا عنده أنهم رأوا هلال شوال بعد الغروب رؤية محققة لم يلحقهم فيها شك ولا ريبة فسمع القاضي شهادتهم وسجلها وكتب للسلطان بذلك وهو بقرميم فارتحل السلطان في جوف الليل ودخل داره وأصبح من الغد معيدا وعيد أهل العدوتين وأعمالهما والجم الغفير من أهل المغرب الذين حضروا مع السلطان ولما كان ظهر ذلك اليوم وهو التاسع والعشرون من رمضان حقق الفلكيون من أهل الدولة أن العيد لا يمكن في ذلك اليوم وتكلموا بذلك وفاهوا به فكثر الكلام بذلك وكان جل الناس على شك أيضا ولما حان وقت الغروب ارتقب الناس الهلال والسماء مصحية ليس فيها قزعة فلم يروا له أثرا فأمر السلطان أعزه الله بالنداء وأن الناس يصبحون صياما لأن رمضان لا زال فصام الناس من الغد وبعد ذلك
____________________

ظهر الهلال ظهورا معتادا وتبين كذب الشهود فسجنوا ثم سرحوا بعد حين ولما قضى السلطان أعزه الله سنة العيد نهض إلى مراكش فلما قرب من زاوية ابن ساسي بين بلاد الرحامنة وزمران نزل هنالك على الرحامنة وكانوا قد حصل منهم اعوجاج وتمرض فوظف عليهم من الأموال ما أثقل ظهورهم وفرض عليهم من العسكر والخيل ما امتحنوا في أدائه ولم يقم عنهم حتى أدوا جميع ذلك وحتى خرج الأشراف والمنتسبون من أهل مراكش إلى السلطان للشفاعة فيهم والرغبة إليه في دخوله منزله فقبل السلطان أيده الله شفاعتهم وارتحل عنهم فدخل مراكش آخر ذي القعدة من السنة وكانت مدة مقامه على الرحامنة ستة عشر يوما وكان يوم دخوله إلى مراكش يوما مشهودا وفي رابع ذي الحجة بعده قبض على مائتين وثمانين شخصا من أعيان أولاد أبي السباع وكانوا قد عاثوا في ذلك الحوز على عادتهم وعظم ضررهم واستطار شررهم وخرجوا على عاملهم السيد عبد الله بن بلعيد وصالوا على القائد أبي حفص عمر المتوكي وكان القتل بينهم وبين شيعة عاملهم ابن بلعيد المذكور ففر إلى السلطان بفاس فأرخى أعزه الله لهم الحبل وأطال عليهم الرسن وولى عليهم القائد أبا عبد الله محمد بن زروال الرحماني صورة حتى اطمأنوا بذلك وأنسوا ولما قدم أعزه الله مراكش ضرب البعوث على قبائل الحوز فناب أولاد أبي السباع في ذلك ثلاثمائة فارس فقدمت مراكش بخيلها وأسلحتها وكان السلطان أيده الله يومئذ قد أخذ في عرض بعوث القبائل داخل مشور أبي الخصيصات فجاء أولاد أبي السباع للعرض فلما توسطوا المشور المذكور أغلقت الأبواب وقبض عليهم وجردوا من السلاح وحملوا إلى السجن وكانوا مائتين وثمانين كما قلنا ثم وجه السلطان أعزه الله إلى حلتهم القائد العربي الرحماني مع كتيبة من الجيش فنزلوا عليهم وأغرمهم ستين ألف ريال فأدوها في الحال بعد بيع ماشيتهم بأبخس ثمن وحينئذ بعث السلطان إلى عاملهم عبد الله بن بلعيد فاستدعاه من فاس وقدم وولاه عليهم فاطمأنوا وأطاعوا وجد السلطان أيده الله في جمع العساكر والاستعداد إلى أواخر صفر من سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف
____________________

فقدم عليه أبو عبد الله محمد الكنتافي صاحب الجبل مستأمنا بالمرابط أبي علي الحسن بن تيمكيلشت فقابله السلطان بالعفو والصفح وأكرم وفادته وولاه على إخوانه وانقلب إلى أهله مسرورا ولما حضر عيد المولد الكريم احتفل السلطان أيده الله غاية الاحتفال على عادة أسلافه الكرام قدس الله أرواحهم وجعل في عليين عدوهم ورواحهم وتشنفت الأسماع بالأمداح النبوية في الليلة المباركة بالمسجد المعد لذلك وأنشدت قصائد لأدباء العصر وبعد العيد كسا السلطان نصره الله جميع الجيش والعسكر والكتاب حتى الأمناء والطلبة وفي مهل ربيع الثاني من السنة المذكورة خرج من مراكش يؤم بلاد الغرب فجعل طريقه على ثغر الجديدة فأقام بها أياما بعد أن زار تربة بني آمغار برباط تيط وتفقد أحوال ثغر الجديدة ووقف على أبراجها وأسوارها وباشر في الرماية بالمدفع وكان رميه صوابا بحيث أصاب الغرض أعزه الله وأهدى له جميع تجارها من المسلمين والنصارى واليهود فقبل ذلك وكافأ عليه وكان أعزه الله حين عزم على النهوض من مراكش قد كتب إلى عامله على مدينة آنفى وهو القائد الأجل الأنصح أبو عبد الله الحاج محمد بن إدريس بن حمان الجراري أن يتقدم إلى ثغر الجديدة ويقيم هنالك حتى يأمره بما يكون عليه عمله فامتثل القائد المذكور ولما قدم السلطان أعزه الله إلى الثغر المذكور اجتمع به القائد المذكور وطلب منه أن يجدد له ظهيرا بالتوقير والاحترام حسبما كان عليه هو ووالده من قبله مع السلطان الأعظم المولى عبد الرحمن وابنه السلطان المرحوم سيدي محمد رحمهما الله فأجابه أعزه الله إلى ذلك وكتب له ظهيرا يقول فيه ما نصه الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله كتابنا هذا أسماه الله وأعز أمره وجعل في الصالحات طيه ونشره يستقر بيد ماسكه خديمنا الأرضى الطالب محمد بن إدريس الجراري ويتعرف منه أننا بحول الله وقوته أنزلناه المنزلة التي كان بها هو ووالده عند أسلافنا الكرام ولحظناه بعين الرعاية والبرور والاحترام هو وأولاده وإخوته فلا يروا من جانبنا العالي بالله إلا الخير لأنهم خدام أبناء خدام ودارهم دار المحبة والنصيحة فلا نسلمهم ولا نفوتهم ولا نضيع لهم
____________________

سالف خدمتهم ولا نكشف عنهم جلباب حرمتهم بحول الله وقوته والسلام صدر به أمرنا المعتز بالله في تاسع ربيع الثاني عام ثلاثة وتسعين ومائتين وألف ولما قضى السلطان أعزه الله أربه من ثغر الجديدة نهض إلى آزمور فتلقاه أهلها بالفرح والسرور والبهجة والحبور فهش لهم وقابلهم بما يناسب ودعا لهم بخير وزار ضريح الشيخ أبي شعيب وأبي عبد الله محمد واعدود رضي الله عنهما وقدم لضريحهما ذبائح وطاف بأسوار البلد وأبراجه وأمر بتحصين برج هنالك كان مقابلا للمرسى ثم خرج من آزمور بعد يوم أو يومين فانتهى إلى مدينة آنفى فدخلها في الثالث والعشرين من ربيع الثاني المذكور وعزل عنها القائد أبا عبد الله محمد بن إدريس الجراري وولى مكانه الحاج عبد الله بن قاسم حصار السلاوي ثم كتب إلى أبي عبد الله الجراري المذكور بولايته على الجديدة وأعمالها ونص كتابه إليه خديمنا الأرضى الطالب محمد بن إدريس الجراري وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد فإنا أعفيناك من ولاية الدار البيضاء ووليناك على الجديدة ولم نعزلك عنها سخطا لسيرتك ولا هضما لجانب خدمتك وإنما اقتضت المصلحة ذلك تقديما للأهم فالأهم وأنت منا وإلينا ودارك دار الخدمة والصلاح فلا نسلمكم ولا نفوتكم ولا نهضم لكم جانبا والسلام في الثالث والعشرين من ربيع الثاني عام ثلاثة وتسعين ومائتين وألف ا هـ
واعلم أن هذا العامل من أمثل عمال السلطان نصره الله وأعقلهم وأرجحهم وأنصحهم قد استعمله الملوك الثلاثة المولى عبد الرحمن وابنه سيدي محمد وابنه المولى الحسن رضي الله عنهم فظهرت كفايته ونصيحته وحمدت ولايته وسيرته وهو الآن بهذا الحال حفظنا الله وإياه والمسلمين آمين ولما احتل السلطان أعزه الله بالدار البيضاء طاف في أبراجها وأمر الطبجية بنصب الأغراض المسماة بالقريبيات في البحر ثم أمر برميها وهو حاضر وربما باشر معهم ثم اجتاز بعد الفراغ على باب المرسى ومحل وضع السلعة للتجار بها فوقف عليه وتأمله كما فعل بثغر الجديدة ووعد
____________________

بإصلاح المون على شاطىء البحر لأن البحرية يتعبون فيه وقت إنزال السلع ووسقها وأقام بالدار البيضاء بالمحلة خارج البلد يومين وأهدى إليه تجارها من النصارى واليهود والمسلمين وأظهر النصارى الفرح وأكثروا من تعليق الصناجق وإيقاد الحراقيات بالليل وإرسالها في الجو فقابلهم السلطان أعزه الله بالجميل وحمل النصارى منهم على خيل مكافأة لهم على هديتهم فطاروا بذلك فرحا حتى أنهم كتبوا بذلك لأهل دولتهم ونشروه في كوازيطهم وأجوبتهم وفي هذه المدة وجه السلطان أعزه الله خديمه الأنجد الفاضل أبا عبد الله الحاج محمد بن الحاج الطاهر الزبدي الرباطي باشدورا وسفيرا عنه إلى دول الإفرنج مثل دولة افرانسا ودولة النجليز ودولة الطاليان ودولة البلجيك واستصحب معه هدايا نفيسة وأموالا طائلة صيرها في وجهته تلك ورافقه في سفارته هذه الأمين الأرضى السيد بناصر ابن السيد الحاج أحمد غنام الرباطي برسم القيام بخطة الأمانة والقهرمانية وصاحبنا الفقيه الأديب فلكي العصر وحاسبه الشريف أبو العلاء إدريس بن محمد الجعيدي السلاوي برسم القيام بخطة الكتابة فوصلوا إلى أهل هذه الدول وقضوا الغرض على أكمل الوجوه وأحسنها وعادوا مسرورين في أواخر شعبان من السنة وفي هذه الوجهة قيد صاحبنا أبو العلاء المذكور رحلته البديعة المسماة بتحفة الأحبار بغرائب الأخبار قد اشتملت على كل نادرة وغريبة وأفصحت عن صنائع الفرنج وحيلها العجيبة وعند قفوله وقدومه على حضرة السلطان أيده الله مدحه بقصيدة جيدة مطلعها
( أسالم دهري في المرام وفي القصد ** فينقض ما أبرمت للصلح من عقد )
( وأسأله الرحمى فيبدي ازوراره ** ونفرته عني فيا عظم ما يبدي )
( وكم لي استرضيه وهو مغاضب ** ولا يرعوي عما جناه على عمد ) ومنها في آخرها
( وهذي بنات الفكر مني هدية ** إلى الملك المنصور ذي الجود والرفد )
____________________


( فإن أهملت عدلا فإني مهمل ** وإ ، صادفت وقت القبول فيا سعدي )
( وما كنت في باب القريض مبرزا ** شهيرا ولكني تعاطيته جهدي )
( لأجل امتحاني لذت فيه بربنا ** فأصبحت ذا وجد وقد كنت ذا فقد )
( فها أنا ضيف زائر لحماكم ** وحسبي رضاكم فهو نفس المنى عندي )
( ويا ربنا أعط الأمير مرامه ** وظفره بالمطلوب منك وبالقصد )
ثم إن السلطان أعزه الله نهض من الدار البيضاء ومعه الجند الوافر والعسكر المجر والجم الغفير من قبائل الحوز وأهل دكالة وتامسنا فأوقع بعرب الزيايدة أهل تامسنا وتقدم إلى رباط الفتح فدخله غرة جمادى الأولى من السنة فمكث به نحو سبعة أيام وعبر إلى سلا فزار أولياءها ودخل مسجدها الأعظم وصلى الظهر به وأمه في صلاته يومئذ صاحبنا الفقيه العلامة البارع أبو محمد عبد الله بن الهاشمي بن خضراء ودخل السلطان أعزه الله خزانة الكتب العلمية بالمسجد المذكور وتأملها ومعه يومئذ شيخنا الفقيه العلامة القاضي سيدي أبو بكر بن محمد عواد فطلب من السلطان أيده الله أن يزيد في شراء الكتب للخزانة المذكورة فأذن له بأن يشتري من ذلك ما ثمنه نحو مائة ريال ففعل وهي يومئذ بالخزانة المذكورة ووصل أيده الله علماء العدوتين ومجاهديها على العادة وقد كنت أنشأت قصيدة في غرض من الأغراض فلما اتفق قدوم السلطان أيده الله هذه المرة حولتها إلى مدحه ونصها
( قلب كواه من النوى مقباس ** فغدا به الوسواس والخناس )
( ونحول جسم يشتكي ألم الضنى ** وجوى به تتصاعد الأنفاس )
( والدمع في الوجنات محمرا غدا ** ولدى الوشاة به انتفى الإلباس )
( إن الألى يستعذبون ملامه ** ما أن لهم بعذابه إحساس )
( قدما عذلت ذوي الغرام سفاهة ** حتى غدوت بمنسميه أداس )
( وحسبته حلو الجنى فأساغني ** من بأسه ما لا يسيغ الباس )
( إن الذين علقتهم قد انجدوا ** بمها الخدور ودونها الحراس )
( أبدا أؤمل في حياتي وصلهم ** واليوم قد غلب الرجاء الياس )
____________________


( ما كنت أحسب قبل إلمامي بهم ** إن الظباء لها البيوت كناس )
( تحكى بدور التم يخفي ضوءها ** ضوء الشموس إذا بهن تقاس )
( من كل خود كاعب يهدي لنا ** نشر الخزامي عطفها المياس )
( تسبي بقد السمهري وباسم ** يرمي الشعاع كأنها النبراس )
( وكأن هاتيك الخدود وفاحما ** في ظلها ورد حواه الآس )
( لله ما عيش تقضي بيننا ** فكأنما أيامه الأعراس )
( طاب السرور لنا به وتأرجت ** آصاله وافترت الأغراس )
( أيام روض اللهو غض نوره ** ومنادمي فيه المنى والكاس )
( بالله يا قلب استفق ودع الهوى ** إن الهوى غول النهى الفراس )
( أو ما رأيت المخلدين إلى المنا ** سكنوا الثرى وعراهم الإفلاس )
( واعمل ليوم لا تخس شعيرة ** فيه إذا ما ينصب القسطاس )
( وابك الذنوب بكاء خندف بعلها ** لما جلا عن ربعها الياس )
( وإذا حوت كفاك فابن مبادرا ** مجدا تخلده لك الأنقاس )
( من غير تبذير لمالك لا تكن ** حلو الجنا فتلوكك الأضراس )
( كم من فتى جاز الحضيض إلى الذرى ** وبنى على لم تبله الأرماس )
( وإذا وعدت فكن لوعدك منجزا ** كيما ترى لك في الفخار غراس )
( فالمنع في جنب الوفاء صنيعة ** والتبر في جنب المطال نحاس )
( وإذا حصلت على الرياسة فاذكرن ** من كان يجمعه بك الإيناس )
( واحذر مناصبة الدنى فربما ** خان الحسام وطاشت الأقواس )
( كم يغن يوما عن كليب مجده ** لما حشاه بالقنا جساس )
( وإذا تصاحب فاصحبن مهذب ** راز النهى وله بهن مراس )
( فالمرء ويحك إنما يذري به ** ويزينه الأصحاب والجلاس )
( وإذا البذي جفاك يوما فاحتسب ** فالجهل بالطبع الكريم يساس )
( وإذا عرتك ملمة فاصبر ولا ** تكن الجزوع وهمك الإيجاس )
( واحفظ لسانك واله من عيب الورى ** كل امرىء بفعاله منقاس )
( وادأب على حفظ العلوم وكن بها ** ذا خبرة وملاذك الأطراس )
____________________


( فالعلم أنفع للفتى وأجله ** ما قد وعاه القلب لا القرطاس )
( وارو الحديث وكن به متأدبا ** والفقه حققه يطعك قياس )
( وأقم بعلم النحو لفظك ولتكن ** فيه المقدم إذ به الإيناس )
( كل العلوم إذا نظرت رأيتها ** والنحو مصباح لها وأساس )
( واكتب من الشعر المهذب نبذة ** فالشعر أفضل ما وعاه الراس )
( إن لم تقله فكن له مستحضرا ** إن رمت نطقا يرتضيه الناس )
( كم من وضيع قد علا بقريضه ** رتبا تشرفه وحسبك شاس )
( إذ خلصته من الأسار وقده ** أبيات علقمة الفتى القنعاس )
( وإذا قصدت أخا النوال بمدحة ** فاقصد فتى له في الندى آراس )
( مثل الإمام أبي علي الرضي ** حسن الذي هو في العلى نبراس )
( الماجد الملك الهمام المرتضى ** فخر الملوك سنامها والراس )
( شملت بلاد الغرب رأفته وقد ** بهج الزمان وعمت الأرغاس )
( وحبا الورى من نيله حتى لقد ** طاب السرور وطابت الأنفاس )
( سعدت بمقدمه سلا وتقدست ** مراكش الحمراء منه وفاس )
( أبدا سيوف العزم منه على العدا ** برق وغيث نواله بجاس )
( شهم بصير بالأمور مجرب ** يقظان من داء الضلالة ياس )
( حلب الزمان شطوره فمتى اعتصى ** داء الخطوب فرأيه النسطاس )
( يلقى الوفود بحشمة وطلاقة ** لا يختشى منه أذى وشماس )
( في الجود كعب والبسالة عامر ** والحلم قيس والذكاء إياس )
( فالله يحفظه ويحفظ ملكه ** حتى يصيب عداه منه عماس )
( ويشيد للإسلام من عزماته ** عزا تطأطىء دونه الأجناس )
( وينيله مجدا ينسى ذكره ** في عزة قعساء ليس نقاس )
( فليعل ملك بني على وليدم ** ما خلدت مروان والعباس )
وقد تبعني صاحبنا شاعر العصر الفقيه الأديب أبو عبد الله محمد بن ناصر حركات في روي هذه القصيدة دون بحرها وهي من ميلادياته قال
____________________


( أدر كؤوسك فالسراء في الكأس ** واشرب على طرب بروضك الكاسي )
( وقم لتنظر وجه الدهر مبتهجا ** مستبشرا بعد تقطيب وتعباس )
( والأفق طلق وذا النسيم منطلق ** مسكي نشر خلال الجو جواس )
( والأرض تضحك من بكا الغمام كما ** يشكو الكئيب على مستهزىء قاسي )
( كأنها وهي بالربيع حالية ** عواطل قد تحلت يوم أعراس )
( والورق من ضحك الأزهار نائحة ** كنوح صب على أحبابه آسى )
( والدوح زاهية الأفنان زاهرة ** تهدي البهاء إلى البهار والآس )
( كأنما الزهر إذ تراه منتثرا ** على جداولها الحباب في الكاس )
( كأنما طيب نشره شمائل من ** قد ساد بالمكرمات سائر الناس )
( إمامنا الحسن المجلي بطلعته ** عن الورى كل أزمة وقسقاس )
( كسا الرعية أثواب المنى جددا ** من بعد ما اشتملت بكل إدراس )
( سبط الرسول وفرع من سلالته ** طيب الفروع ترى بطيب أغراس )
( خليفة الله من دانت لعزته ** شم الملوك برغم كل دمناس )
( أنداهم في الندى كفا وأشجعهم ** قلبا وأسطاهم بكل دعاس )
( من ذا ينازله عند الجلاد وهل ** يهول الليث يوما صوب ولاس )
( قد عمه النصر في ورد وفي صدر ** وحفه اليمن من ساق إلى راس )
( مولى تردى رداء المكرمات فقل ** ما شئت في شيم له واتواس )
( لم يمض مشبهه على الحقيقة في ** بني أمية أو أبناء عباس )
( من ذا يدانيه في حلم وفي كرم ** ومن يضاهيه في الإقدام والباس )
( يا كم به قوي الضعيف وامتلأت ** كف الفقير وأثرى رب إفلاس )
( سلا كمثل سلا الغرا وضرتها ** أو مثل مراكش وحضرتي فاس )
( فكم بها من مآثر له كرمت ** ليست تعد بأقلام وأنقاس )
( بل كل مصر وقرية له ديم ** تهمي لأهلهما بكل ارغاس )
( فدا الأمير أدام الله عزته ** طول المدى كل أنفس وأنفاس )
( إليكها أيها الجحجاح مائسة ** أزرت طلاوتها بكل مياس )
( خريدة من بنات الفكر غانية ** لرقمها يتمنى كل قرطاس )
____________________


( جاءتك تطلبك القبول عائذة ** بالله من شر وسواس وخناس )
( فليهنها أنها تشرفت بك إذ ** حوت معاني من مديحك الراسي )
( وأنها لك قد وافت مهنئة ** بليلة ذات أسفار وإهلاس )
( أكرم بها ليلة غراء قد فضلت ** بأفضل الرسل كل ذات إغباس )
( إذ أشرق الكون من أنوار مولده ** حتى كفاه سناها كل نبراس )
( والشرك في الهون قد أضحت طوائفه ** مستيقنين حلول البؤس والبأس )
( إذ هالهم أمر أحمد وأوقعهم ** في حيرة عبثت بهم وإبلاس )
( تيقنوا أنه ما كان يخبرهم ** بشأنه كل قسيس وشماس )
( وأصبحت جملة الأصنام ساقطة ** منكسات الرؤوس أي تنكاس )
( وفي انصداع البناء أصبحت عبر ** لهم كذا في خمود نار أفراس )
( والجن لا تصل السماء إذ منعت ** منها بشهب لرميها وحراس )
( ومن يرم منهم للسمع مسترقا ** ينحط محترقا منها بمقباس )
( محمد صفوة الباري وخيرته ** من خلقه الجن والأملاك والناس )
( جاءت شريعته البيضا مطهرة ** للدين من كل أدران وأدناس )
( ولم تزل أمد الأعصار رافعة ** عن الهدي كل شبهة وتدلاس )
( أصل الهدى والندى فليس يشبهه ** هطال غيث ولا تيار رجاس )
( فلا تقسه بشيء في مكارمه ** فما ترام خلاله بمقياس )
( فإنه البحر في فضل وفي كرم ** وفي الشجاعة ضيغم بأخياس )
( كانوا به يتقون في الوغا بدلا ** عن اتخاذ مغافر وأتراس )
( أسرى به الملك الأعلى لحضرته ** والروح مونسه أتم إيناس )
( والليل أحرس ليس فيه يسمع من ** صياح ديك ولا عواء لواس )
( حتى دنا فتدلى ثم كلمه ** وقد رأى ربه بمقة الراس )
( ونال من فضله عزت جلالته ** ما لا يسام بأوهام وأحداس )
( فآب والدين أسست قواعده ** على أصول حميدة وأساس )
( تراه كالقمر المنير في غسق ** من الدجى بين أصحاب وجلاس )
( غدا يحدث والملا يصدقه ** وليس يرتاب غير المائق الماس )
____________________


( دعا على المعتدي عتيبة فغدا ** يوما بدعوته قتيل هماس )
( ورد عين قتادة فصار بها ** بعد العمى ذا تمقل وإيناس )
( والماء من كفه السمحاء سال فكم ** من وارد عذبه الروي وكم حاسي )
( هو الرسول الذي جمت فضائله ** فليس تحصر أو تحصى بأطراس )
( مديم ذكر فإن تذهل لواحظه ** فالقلب ليس بذاهل ولا ناسي )
( فالأرض طاولت السماء قائلة ** لخير رسل ببطن خير ارماس )
( كل النبيين طرا لائذون به ** كمثل نوح ويونس والياس )
( كذاك موسى وعيسى والخليل به ** لدفع باس بيوم الحشر أباس )
( يا أكرم الخلق يا خير الورى شرفا ** يا من أتانا بتطهير وتقداس )
( أشكوك داء أساي فأسه كرما ** فما لداء الأسى سواك من آسى )
( قسا الزمان وفي قسم النوائب لم ** يعدل فيا ويحه من قاسم قاسي )
( لكن قصدتك والكريم قاصده ** ما أن يرد بخيبة ولا يأس )
( وقد توسلت للمولى بجاهك أن ** يشد بالشرعة البيضاء أمراسي )
( وأن يحسن أعمالي ومعتقدي ** فيه ويكشف بلبالي ووسواسي )
( وأن يعاملني بالعفو عن زللي ** وأن يبدل إقلالي بإقعاس )
( وأن يهيىء أسباب السعادة لي ** حتى أنيخ بذاك البيت عرماسي )
( إذ قلت من أم طيبتي ومات بها ** نال الشفاعة في أهل وفي ناس )
( صلى عليك إله العرش ما نفحت ** نوافح الزهر من دوح وأخياس )
( صلى عليك إله العرش ما اعتصمت ** بك الخلائق من عار ومن كاس )
( صلى عليك إله العرش ما رمقت ** بيض القراطيس يوما سود أنقاس )
( والآل ما قال نشوان بحبهم ** أدر كؤوسك فالسراء في الكاس )
ثم نهض السلطان أعزه الله من رباط الفتح في عاشر جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف قاصدا مكناسة وجعل طريقه على زمور الشلح فخرجوا إليه متذللين خاضعين متقربين إليه بالهدايا والضيافات فضرب عليهم الإتاوة والبعث فانقادوا ثم دخل أعزه الله مكناسة ثامن عشر الشهر المذكور فمكث بها أياما يسيرة ثم نهض إلى فاس فمكث بها أياما يسيرة كذلك ريثما
____________________

اجتمعت إليه الجنود وخرج قاصدا بلاد وجدة وبني يزناسن وكبيرهم الحاج محمد بن البشير بن مسعود وكان خروجه من فاس منتصف جمادى الثانية من السنة فاجتاز بتازا وأناخ على قبيلة غياثة جاعلا الهضبة المعروفة بذراع اللوز أمامه قبلة ووظف عليهم المؤنة قيل إنه وظف عليهم مائة صحفة من القمح والشعير فدفعوا شيئا يسيرا وعجزوا وتعللوا بأن هذا الذي جرت العادة أن يدفعوا للملوك من قبل وكانت هذه القبيلة لم يهجها هيج منذ قديم لتحصنهم بجبالهم وأوعارهم ولهم استطالة على أهل تازا يركبونهم كل خسف فظهر للسلطان أعزه الله قتالهم فقاتلهم يوم الخميس أواخر الشهر المذكور واقتحم عليهم حصنهم المعروف بالشقة وهو خندق بين جبلين فيه واد وعلى حافتيه بناءات ودور فحرق ذلك كله وهدمه وانتسف ما فيه من قمح وشعير وأدام وغير ذلك وقطع منهم رؤوسا يسيرة ولما كان الغد وهو يوم الجمعة السادس والعشرون من الشهر المذكور ركب السلطان أيده الله وركب معه أهل المحلة إلا قليلا وقدم المدافع والمهاريس أمامه واقتحم الشقة فتبعه الناس ودخلوا بلاد غياثة وتوسطوها وقاتلوا أهلها فهزموهم والسلطان أمام الجيش في موكبه فسار حتى بلغ المداشر ورمى عليها من الكور والبنب شيئا يسيرا وكانت غياثة قد وضعت الكمائن على الأنقاب وشحنوها بالرماة وتركوا منفذا واحدا يفضي إلى مهواة متلفة ذات شقوق غامضة وأشجار شائكة وصخور متراكمة لا يدرك قعرها ولا يبصرها إلا من وقف عليها ولما وغل الجيش في مزارعهم ومداشرهم خرجت الكمائن من خلفهم ورموهم عن يد واحدة بالرصاص فدهش الناس وتذكروا فعلهم القديم من الانهزام عن الملوك بلا موجب إذ لم يكن في شوكة غياثة هؤلاء وكثرتهم ما ينهزم منه ذلك الجيش اللهام ولو تلبثوا يسيرا وقاوموهم لهزموهم في الحال كما هزموهم أول مرة ولكن العادة العادة فولوا مدبرين لا يلوون على شيء وتكاثر الرصاص على موكب السلطان حتى سقط حامل الراية وجرح المولى عرفة أخو السلطان وقتل سيدي محمد بن الحبيب نقيب الأشراف بالعدوتين وأما الجيش وقواده فإنهم لما انهزموا صرفوا وجوههم إلى المهواة
____________________

التي ذكرنا وقصدوها على عمياء وقد ارتفع دخان البارود وغبار الخيل فتهافتوا فيها تهافت الفراش في النار لا يعلم اللاحق ما وقع بالسابق إلى أن امتلأت من الخيل والرجال والأثاث وما كادت وكان ذلك قضاء من الله وتمحيصا منه فهلك من الناس والخيل ما لا يحصى وبقيت أشلاؤهم ناشبة في تلك الأوعار تلوح مثل المجزرة وترجل السلطان أعزه الله عن فرسه حتى خلص من تلك الشقوق ثم ركب واجتمع الناس عليه وراجعوا بصائرهم بعد الكائنة ثم انشمر غياثة بعدها إلى رؤوس الجبال وتركوا المداشر والجنات فاقتحهما السلطان بعد يومين أو ثلاثة عليهم فلم يقف أمامه منهم أحد فعاث فيها وحرقها وجعلها حصيدا كأن لم تغن بالأمس وكتب أيده الله بذلك إلى الآفاق وذكر في كتابه أن الخيل والرماة قد انتسفوا بلادهم انتسافا ودوخوها أماما وخلفا حتى أشرفوا على بلاد جيرانهم وأناخوا فيها بكلكلهم وجرانهم ثم توجه السلطان نصره الله إلى نواحي وجدة فانتهى إليها أوائل شعبان من السنة فتلقاه بنو يزناسن خاضعين تائبين فعفا عنهم لكونهم ثغرا من ثغور المسلمين وعصبة تدخر لنصرة الدين إلا أنه عزل عنهم ولد البشير وبعث به مسجونا إلى فاس وولى عليهم قوادا منهم من أهل الحزم والنجدة ووظف عليهم قدرا صالحا من المال فشرعوا في دفعه في الحال والتزموا رد ما تعلق بذممهم من المظالم وصلحت أحوالهم واستقام أمر تلك الناحية ولما قضى السلطان أعزه الله غرضه منها قفل راجعا إلى فاس فدخلها ليلة السابع والعشرين من رمضان المعظم وكتب بذلك إلى الأمصار يقول هذا وقد كتبنا لكم هذا بعد القفول من حركتنا السعيدة وحلولنا بحضرتنا العالية بالله بفاس بالفتوحات الجديدة والإنعامات المزيدة حلول عز وظفر وإسعاد ونصر من لدنه لم يكن بحيلة ولا استعداد وذلك بعد الفراغ من ترتيب تلك القبائل وتطهيرها مما تعلق بها من الرذائل ونلنا بفضل الله في هذه الحركة من أثر الخير واليمن والبركة ما أثلج الصدور وحمدنا غبه في الورود والصدور وتركنا أهل تلك النواحي وساكني جبالها والضواحي على أحسن ما يكون صلاحا واطمئنانا وسلوكا للجادة المخزنية بالقلب والقالب سرا
____________________

وإعلانا وأبقينا طائفة من جيشنا السعيد عند قبائل الريف زيادة في الاطمئنان والتأليف بقصد استيفاء ما بذممهم من الواجب واستخلاص ما تعلق بهم من الحقوق التي ألزموها ضربة لازب وذلك كله من تيسير الله ورفده وفضله على عبده فما النصر إلا من عنده فأما نحن فلا حول لنا ولا قوة ولا أنصار مرجوة ولا نعتمد على عدة ولا عدد بل على فضله تعالى المعول والمعتمد عرفنا الله حق النعمة وألهمنا شكرها وحمدها وأجرانا على عوائده الجميلة وفوائده الجليلة التي لا يقدر قلم الواصف أن يدرك حصرها وحدها وقد اقتضى نظرنا العالي بالله إعلامكم بذلك لتأخذوا حظكم من الفرح بتأييد الله ونصره وتخلصوا في حمد نعمه الجزيلة وشكره والسلام في السادس والعشرين من رمضان عام ثلاثة وتسعين ومائتين وألف اه استمر السلطان أعزه الله مقيما بفاس وجد في بناء مقاصيره ومنتزهاته ببستان آمنة من فاس الجديد وكتب أيده الله إلى وصيفه أحمد بن مالك قائد الجيش السوسي بالمنشية من حضرة مراكش أن بيني له على الباب المعروف بباب الرئيس من الدار الكبرى بالحضرة المراكشية قبة فارهة ويبالغ في رفعها وتنجيدها وتنميقها فشرع فيها في شوال من السنة المذكورة وكنا يومئذ نتولى إحصاء صائرها وصائر غيرها من البناءات المراكشية فكان ما صير على القبة وحدها أكثر من مائة ألف مثقال وكذلك بنى بمكناسة القبة العظيمة التي طاولت السماء ترفعا وذهبت في الجو صعدا بحيث أشرفت على ما حولها من بسيط سائس وغيره حتى صارت مثلا في الطول والاشتهار وبنى أعزه الله قبة عظيمة حفيلة على ضريح الشيخ العارف بالله تعالى أبي عبد الله سيدي محمد الصالح ابن المعطي الشرقاوي بأبي الجعد فصير عليها أكثر من ثلاثين ألف مثقال تقبل الله منه
وفي عاشر شوال من هذه السنة أعني سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف توفي الفقيه العلامة الناسك قاضي رباط الفتح أبو زيد عبد الرحمن ابن الفقيه العلامة السيد أحمد بن التهامي البريبري ودفن بزاوية حنصالة من البلد المذكور وكان رحمه الله من أمثل قضاة الوقت ومن المتحريين للعدل ولي
____________________

القضاء برباط الفتح أكثر من عشرين سنة ثم تخلى عنه من غير عزل ودخل داره فلم يخرج بعد فاحتمل السلطان والناس ذلك واعتقدوه واستمر حاله على ذلك إلى أن توفي في التاريخ المذكور رحمنا الله وإياه والمسلمين
وفي سنة أربع وتسعين ومائتين وألف وذلك يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من محرم منها توفي الفقيه العلامة الأديب شاعر العصر أبو عبد الله محمد بن أحمد أكنسوس المراكشي ودفن قرب ضريح الإمام أبي القاسم السهيلي خارج باب الرب من مراكش وحضر جنازته الجم الغفير من الناس وهو صاحب كتاب الجيش رحمه الله
وفي صبيحة يوم الاثنين السابع عشر من ربيع الأول من السنة المذكورة ولد لنا ولد سميناه محمدا العربي وكان من عجيب صنع الله أنه ولد مختونا ولذا ذكرناه هنا وهو الآن حي أصلحه الله وأنبته نباتا حسنا وجعله من عباد الله الصالحين ومن العلماء العاملين آمين وفي جمادى الأولى من السنة أخذ السلطان أعزه الله في الاستعداد بالحضرة الفاسية للحركة استعدادا لم يتقدم له مثله حتى أنه كتب إلى أخيه وخليفته بمراكش المولى عثمان بن محمد أن يوجه إليه من العدة الرومية وهي مكاحل مركبة فيها توافلها ما قدرها ألف وستمائة وعشرون مكحلة تخرج أبخاشها بالحبة الرومية وأن يوجه إليه أربعمائة ألف وعشرة آلاف من الحبة المذكورة وعشرة قناطير من البارود ومائة قنطار من ملحه ومدفعين وكتب أعزه الله إلى أمناء الصائر بأن يبعثوا إليه بثلاثمائة وستين سرجا وستمائة كسوة من الملف للعسكر وخمسة عشر ألفا من البلغة ومثلها من النعالة وبعث أعزه الله عمه المولى الأمين بن عبد الرحمن إلى رباط الفتح لجمع عساكر الثغور وحشد قبائل دكالة وتامسنا والغرب وبني حسن وغيرهم ووجه أخاه المولى الحسن الصغير لحشد قبائل الدير والجيش المتفرق بها ثم كان خروج السلطان من فاس إلى مكناسة أواخر الشهر المذكور ولما سمعت قبائل البربر بخروجه ارتابت وحذرت وظنت كل قبيلة أنها المقصودة ففرت مجاط وبنو مطير إلى رؤوس الجبال
____________________

وفرت عرب عامر من بني حسن إلى زمور الشلح وكان الناس يظنون أن السلطان يغزو في هذه السنة برابرة الجبال والصحراء فخرج الأمر بخلاف ذلك
وفي هذه المدة وفد على السلطان أيده الله عدة باشدورات للآجناس مثل باشدور الفرنسيس والإصبنيول والبرتغال وتكلم الفرنسيس في شأن بابور البر والتلغراف وإجرائهما بالمغرب كما هما بسائر بلاد المعمور وزعم أن في ذلك نفعا كبيرا للمسلمين والنصارى وهو الله عين الضرر وإنما النصارى أجربوا سائر البلاد فأرادوا أن يجربوا هذا القطر السعيد الذي طهره الله من دنسهم نسأله سبحانه أن يكتب كيدهم ويحفظ المسلمين من شرهم ثم نهض السلطان نصره الله من مكناسة في أواسط رجب في جمع وافر وعدة كاملة فاجتاز ببلاد زمور الشلح فأظهروا له غاية الطاعة والخضوع وقدمت عليه وفودهم من كل جانب رافعين أعلامهم وشارتهم وزينتهم التي يستعملونها في مواسمهم وأعيادهم وأدوا له من المال والمؤن والضيافات ما استكثر الناس ذلك وتحدثوا به ثم زحف إلى عرب السهول من أعمال سلا فأوقع بهم وشرد بهم من خلفهم وكتب أعزه الله في العشرين من رمضان إلى الآفاق يعلمهم بما أتاح الله له من الظهور والنصر والسعادة وخضوع قبائل البربر له وتباريهم في طاعته وخدمته وبذلهم من الجباية ما لم يكونوا يبذلون القليل منه لغيره وذكر في كتابه أن ذلك كله بمحض فضل الله ومجاري السعادة وحسن السياسة من غير ضرب ولا طعن ولا سفك دم حتى أن قبيلة بني حكم قد أظهروا بعض الاعوجاج فقام إليهم إخوانهم من زمور فقوموا اعوجاجهم حتى فاؤوا إلى أمر الله وكفى الله السلطان أمرهم ثم ذكر في كتابه أعزه الله أمر السهول وأنه بعد أن أوقع بهم أمر بجمع فلهم ورأى استصلاح كلهم تأمين جلهم لعمارة بلادهم بهم رجاء نفع ما تقدم من أدبهم
وفي ليلة الجمعة الرابع عشر من شعبان من السنة خسف القمر خسوفا
____________________

كليا بحيث ذهب نوره واختفى شخصه حتى لم ير منه شيء وبقي كذلك نحو ساعتين ثم أخذ في التجلي شيئا فشيئا إلى أن عاد إلى امتلائه وفي هذه المدة قلت فلوس النحاس بمراكش وأعمالها حتى كادت تنعدم وذلك بسبب غلاء الريال الإفرنجي بمراكش ورخصه بفاس فكان صرفه بمراكش يومئذ بثلاث وستين أوقية وصرفه بفاس بثلاث وخمسين أوقية فصار التجار يجلبون فلوس النحاس من مراكش إلى فاس ويصرفونها بالريال فيربحون في كل ريال نحو مثقال وتمالؤوا على ذلك وتوفرت دواعيهم عليه حتى قلت الفلوس بمراكش وتقاعد الناس عليها لما فيها من الربح وتعطل معاش الضعفاء بذلك ولحق الناس ضرر كثير فكان الرجل يطوف بالبسيطة والريال في الأسواق فلا يجد من يصرفه له ولا يتأتى له أن يشتري من ضروريات معاشه ما قيمته أقل من بسيطة واتصل الخبر بالسلطان أعزه الله فكتب في الآفاق يأمر الناس برد صرف الريال إلى الثلاثة مثاقيل وربع مثقال فامتثل الناس ذلك ونودي به في الأسواق فانعكس الحال على التجار وتقاعدوا على الريال والبسيطة وفاضت الفلوس في الأسواق حتى صارت معاملة الناس ليست إلا بها وحصل للتجار من الضرر في رخص الريال ما كان حصل للضعفاء في قلة الفلوس لأن التجار حينئذ صاروا يبيعون سلعهم التي بذلوا فيها الريال الغالي بالقراريط النحاسية التي صار صرف الريال فيها على النصف فأمسك الناس سلعهم وامتنعوا من بيعها وتعطلت المرافق أو كادت فكتب السلطان ثانيا برد أسعار السلع والأقوات على النصف مما كانت حتى تحصل المساواة بين الأثمان والمثمنات فنشأ بذلك هرج كبير وضرر للناس في معاشهم وأبى الله إلا أن تعود السكة إلى حالتها التي كانت عليها وقد بينا العلة في ذلك قبل هذا وأن السكك والأسعار لا تزال في الزيادة ما دامت المخالطة مع الفرنج تكثر بكثرتها وتقل بقلتها
وفي يوم الأربعاء ثالث رمضان من السنة توفي عالم المغرب السيد المهدي بن الطالب ابن سودة الفاسي كان علامة متقنا فصيحا عارفا بصناعة الدرس حسن الإيراد فيه بحيث فاق أهل زمانه يقال إن له تآليف لكن لم
____________________

نقف على شيء منها رحمه الله ثم عيد السلطان عيد الفطر من هذه السنة بزبيدة من بلاد زعير ولم يدخل رباط الفتح على قربه منها ووفدت عليه هنالك قبائل المغرب وأهل الأمصار فشهدوا العيد معه وأجازهم وكساهم على العادة ولما فرغ من أمر العيد عين عامل رباط الفتح وهو القائد أبو محمد عبد السلام بن محمد السوسي وعين الحاج عبد الكريم بن أحمد بريشاء التطاوني والحاج محمد بن عبد الرزاق ابن شقرون الفاسي للذهاب إلى مادريد دار ملك الإصبنيول بقصد السفارة عنه إلى دولتهم والمكافأة لهم على مجيء باشدورهم حسبما مر التنبيه عليه ففعلوا وعادوا بحيث أدركوا عيد الأضحى من السنة مع السلطان أعزه الله بمراكش ثم نهض السلطان بعد عيد الفطر من زبيدة يؤم البلاد المراكشية فاجتاز بتادلا وسكن قبائلها وأوقع ببني عمير وقبض منهم على ما يناهز أربعمائة مسجون سيقت في السلاسل والأغلال إلى السجن وفر بنو موسى إلى رؤوس الجبال حتى استنزلهم السلطان على الأمان ودخلوا في الطاعة والتزموا الخدمة ثم نهض السلطان أيده الله إلى مراكش فدخلها في عشر ذي الحجة من السنة فكان بها عيد لم يعهد الناس مثله منذ قديم وكتب إلى الآفاق يعلم الناس بما من الله به من النصر والتأييد والفتح والعز المديد وأقام السلطان بمراكش في هذه المرة مدة طويلة إلى أن كان من أمره ما نذكره
ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائتين وألف فكانت هذه السنة من أشد السنين على المسلمين قد تعددت فيها المصائب والكروب وتلونت فيها النوائب والخطوب لا أعادها الله عليهم فكان فيها أولا غلاء الأسعار وكان منشأه وابتداؤه من تثقيف السكة في آخر السنة الماضية ثم عقب ذلك انحباس المطر لم تنزل من السماء قطرة وأجيحت الناس وهلكت الدواب والأنعام وعقب ذلك الجوع ثم الوباء على ثلاثة أصناف كانت أولا بالإسهال والقيء في أوساط الناس بادية وحاضرة ثم كان الموت بالجوع في أهل البادية خاصة هلك منهم الجم الغفير وكان إخوانهم يحفرون على من دفن منهم ليلا ويستلبونهم من أكفانهم عثر بسلا على عدد منهم وأمر
____________________

السلطان أعزه الله عمال الأمصار وأمناءها أن يرتبوا للناس من الأقوات ما ينتعشون به ففعلوا وبعد هذا كله حدث الوباء بالحمى في أعيان الناس وأماثلهم فهلك منهم عدد كثير وفي هذه المسغبة مد النصارى أيديهم إلى الرقيق فاشتروه وكان ابتداء ذلك أنهم كانوا يعاملون ضعفاء المسلمين وصبيانهم بالصدقات والإرفاقات ثم تجاوزوا ذلك إلى شراء الرقيق منهم والأمر لله وحده يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائتين وألف فكان في أوائلها موت الناس بالحمى كما قلنا فمات في المحرم منها الوزير الأعظم أبو عمران موسى بن أحمد وكان شعلة ذكاء وتمثال فطنة ودهاء غفر الله لنا وله واستوزر السلطان مكانه الفقيه الأخير أبا عبد الله محمد بن العربي بن المختار بن عبد الملك الجامعي من بيت الوزارة وأهل العراقة فيها ويبلغنا عنه أنه يحب أهل الخير ويلين جانبه للضعفاء والمساكين ويحب السلطان وينصح له ويغار على جانبه المعظم وحماه المحترم ويتجافى عن الطمع الذي هو أصل كل مفسدة في الدين والدنيا سدده الله وفي ظهر يوم الأحد عاشر صفر من السنة المذكورة توفي شيخنا الفقيه العلامة القاضي سيدي أبو بكر ابن الفقيه العلامة القاضي سيدي محمد عواد كان رحمه الله من أهل المشاركة في العلم والاعتناء به كثير الدرس كثير التقييد ختمنا عليه رحمه الله عدة كتب كبار جعلها الله في ميزان حسناته منها صحيح البخاري نحو عشر مرات وصحيح مسلم ثلاث مرات وشفاء القاضي عياض مرارا وكتاب الاكتفا لأبي الربيع الكلاعي مرة وأخرى إلى غزوة خيبر وشمائل الترمذي مرتين بشرح أبي عبد الله محمد بن قاسم جسوس وإحياء الغزالي رضي الله عنه وعوارف المعارف للسهروردي وتآليف غيرها من كتب النحو والفقه والبيان والكلام وغير ذلك مما يطول ذكره وبالجملة فقد انتفعنا عليه واستفدنا منه رحمه الله ونفعنا به وولي القضاء بعده الفقيه العالم أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الجريري عرف بابن الفقيه من بيت العلم والدين والصون وهو رحمه الله يتحرى المعدلة في أحكامه وينتهج صريح الشرع في جميع أموره سدده الله وكلاه وتولى
____________________

الخطابة بالمسجد بعد شيخنا المذكور شقيقه الفقيه أبو الحسن علي بن محمد عواد وهو مجيد في الخطابة ومن أهل المروءة والدين والعلم وفقنا الله وإياه والمسلمين لما يحبه ويرضاه وفي هذه الأيام استدعى السلطان أيده الله خديمه الأمين الأرضى السيد محمد بن الحاج محمد التازي الرباطي إلى حضرته العالية بالله بمراكش فقدم عليه الأمين المذكور وأجل السلطان مقدمه وأسند إليه أمر خراج المغرب ومراسيه ومستفاداتها وما يتبع ذلك من صوائرها وفوض إليه في ذلك تفويضا تاما لعلمه بنصحه وأمانته وضبطه وهذا الرجل من أمثل أهل المغرب وأصدقهم وأنصحهم للسلطان وأشدهم غيرة على الدين والوطن حتى لو كان في الدولة عشرة رجال على شاكلته ومذهبه لكان يظن أن يكون لها بذلك النجاح التام نسأل الله تعالى أن يصلح أمرها ويشيد بمنه عزها وفخرها وفي ربيع الثاني من السنة ورد أمر السلطان أعزه الله على ولاة العدوتين أن يوجهوا عددا من أمنائهم وعدولهم للخدمة السلطانية بالمراسي المغربية فقدموا عليه بمراكش وكان في جملتهم أخونا في الله الفقيه العلامة الحافظ أبو محمد عبد الله بن الهاشمي بن خضراء السلاوي فقال قصيدة في مدح السلطان نصره الله نصها
( لبيك لبيك يا خير السلاطين ** أدامك الله في عز وتمكين )
( دعوت عبدك فاستجاب مبتدرا ** وقد اناخ على الطير الميامين )
( يهدي إليك تحية مباركة ** أذكى وأطيب من مسك ونسرين )
( ممرغا وجنتيه فارحا جذلا ** إذا فاز منك بتخصيص وتعيين )
( مؤملا راجيا بلوغ مقصده ** مستبشرا برضى بالنجح مقرون )
( يا نجح سعيي ويا بشراي قد سعدت ** حالي وفزت بتقريب وتأمين )
( من مبلغ معشري أني أويت إلى ** ظل مديد يظلني ويؤويني )
( ظل الإله على عباده وكفى ** به كفيلا وذخرا للمساكين )
( رب السماح فما معن بن زائدة ** وأين من راحتيه نهر سيحون )
( لله من ملك جلت مآثره ** عن أن يحيط بها حصر بتدوين )
( دعا المعالي فانقادت ملبية ** يضيق عن وصفها بطن الدواوين )
____________________


( له السعادة قد ألقت أزمتها ** والفتح رائده في كل ما حين )
( وبشر طلعته يسر ذا حزن ** وأين ما حل كان خير ميمون )
( حامي الشريعة والرحمن ناصره ** ماضي العزيمة لا يرضى بتوهين )
( في كل قطر ثناء عنه منتشر ** أي انتشار يفوق مسك دارين )
( ساس العباد بتدبير ومعدلة ** وأحسن الأمر في الدنيا وفي الدين )
( وليس يعبأ بالدنيا وزينتها ** لكنه بين مفروض ومسنون )
( وطبق الأرض عدله ونعمته ** مجاله بين تسكين وتحسين )
( بسعده الغرب قد بدت محاسنه ** فجر ذيلا على بغداد والصين )
( وتاه مزدريا بكل مملكة ** يميس في حلل ذوات تلوين )
( نعم الإمام الهمام المرتضى حسن ** فخر الملوك سلالة السلاطين )
( السيد الملك ابن السيد الملك ابن ** السيد الملك المعروف باللين )
( بحر خضم مغيث سيد بطل ** بد الليوث وفرسان الميادين )
( دانت بطاعته العدا بأجمعها ** مذ البست ملبس الصغار والهون )
( وفاق من قبله حلما ومكرمة ** وسطوة بهرت أهل الأواوين )
( لا غرو إن نال ما فات الألى غبروا ** وشاد ما عجزوا عنه بتحصين )
( قد يدرك الآخر الشأو الذي قصرت ** عنه الأوائل في ماضي الأحايين )
( تبارك الله ما أسمى مفاخره ** كسبا وارثا من الشم العرانين )
( ولا ترى الغرس قد زكت أرومنه ** إلا أتى الفرع منه في أفانين )
( يا خير من أمه الراجي وأكرم من ** يثني عليه بمعرب وملحون )
( ويا ابن خير الأنام من نبوته ** له وآدم بين الماء والطين )
( ويا ملاذ الورى يا من سما كرما ** يا نعمة عظمت يا كنز مسكين )
( يا منبع الجود يا تاج الفخار ويا ** مأوى العفاة ويا سلوان محزون )
( يا من روى عن أبيه رفع سؤدده ** يا من أوامره إليه تدعوني )
( وفدت ملتمسا رضاك يا سندي ** وليس شيء سوى رضاك يرضيني )
( فأمنن علي بعطفة تصاحبني ** مدى الدهور وللعلى ترقيني )
( بقيت ما شئت في عز ومقدرة ** ودمت في نعم بحق جبرين )
____________________


ولما وقف السلطان أعزه الله على هذه القصيدة هزت من عطفه وأمر أن يسأل منشئها عن مطلبه فاقترح أن يؤذن له في الإفتاء وأن يعطى ظهيرا بالتوقير والاحترام وأن ينعم عليه بما يقتضي الاعتناء به فأنعم عليه السلطان أعزه الله بالإذن في الإفتاء وبظهير الاحترام ونفذ له راتبا من أحباس جامع ابن يوسف إعانة له على الدرس به ثم كان نهوض السلطان أيده الله من مراكش قاصدا بلاد الغرب غرة جمادى الأولى سنة ست وتسعين ومائتين وألف فاجتاز في طريقه بتادلا وأناخ على قبيلة آيت أعتاب فأوقع بهم في أوعارهم وأعز معاقلهم وأوكارهم وقطع منهم واحدا وعشرين رأسا ثم زحف إلى بني موسى فأدوا الطاعة وقاموا بواجبها ثم سار محفوفا بالنصر واليمن إلى أن دنا من مكناسة الزيتون فزحف إلى بني مطير وكان شررهم قد استطار في تلك النواحي كل مطير فإنه لما سافر السلطان نصره الله عن مكناسة سنة أربع وتسعين كما مر زحف بنو مطير هؤلاء إلى عرب دخيسة وأولاد نصير الذين أنزلهم السلطان بسايس وبوأهم إياه عوض مجاط وأوقعوا بهم وقعة شنعاء وقد صبرت العرب في ذلك اليوم صبرا جميلا حتى أن جماعة منهم قد عقلوا أنفسهم في حومة الحرب لئلا يفروا وقاتل إخوانهم دونهم حتى كثرهم البربر فقبضوا عليهم باليد وضربوا أعناقهم وقتلوا منهم نحو مائتين وهلك من البربر مثل ذلك أو أكثر ولما انهزمت العرب عمد بنو مطير إلى مجاط فأنزلوهم بسائس على ما كانوا عليه قبل ثم انطلقوا في الطرقات بالعيث والإفساد فيها والنهب للمارة ولم يدخروا شيئا من الشيطنة ليوم آخر وكثرت الشكايات بهم على السلطان وهو بمراكش فلما قدم أعزه الله قدمته هذه لم يقدم شيئا على تأديبهم فنهض إلى رأس بلادهم ومزرعة فسادهم آكراي والحاجب وغيرهما وتقرى آثارهم في تلك الجهات حتى جاوزت عساكره الحاجب بمسايف كثيرة وتوغلت البربر في قنن الجبال فأمر السلطان أدام الله علاه بني مكيلد أن يزحفوا إليهم من ناحية قبلة آكراي فزحفوا وانبثوا على حدودهم إلى غابة افقفاق التي هي الحد بين بني مكيلد وآيت شغروسن وآيت يوسي فحصروهم من تلك الجهات ثم نزل بإزائهم
____________________

آيت يوسي وآيت شغروسن وآيت عياش وآيت والان من جهة الشمال وامتدوا امتدوا إلى حدود وادي النجاة وربط حذوهم من جهة الغرب وراء وادي النجاة القائد العربي بن محمد الشرقي المدعو بابا محمد ووصل جناحه عليهم قبائل الغرب والحوز وصار بنو مطير في مثل أفحوص القطاة وضاق بهم رحب الفضاء وأيقنوا بالهلاك والبوار ولفظتهم السهول والأوعار ونهبت الجنود زروعهم القائم والحصيد واستخرجت من مخزونهم الكثير والعتيد ولما انتهى الحال بهم إلى هذه الغاية تطارحوا على السلطان بالشفاعات وأكثروا من التوسل بالذبائح والعارات فرق لهم وأقلع عنهم بعد أن ألزمهم إعطاء خمسمائة مرهون ووظف عليهم مائة وخمسين ألف ريال بعد أداء الحقوق ورد المظالم وشرط عليهم إخراج قبيلة مجاط من بين أظهرهم وضمنهم طريق مكناسة وفاس وجعل العهدة فيها عليهم جريا على عادتهم القديمة من جعلهم النزائل بها والحراس فالتزموا ذلك كله وأدوه وبعد ذلك نهض السلطان عنهم إلى مكناسة فدخلها أواخر رجب الفرد من السنة واستمر بها إلى أن دخلت سنة سبع وتسعين ومائتين وألف فنهض إلى فاس ولما احتل بها فرق الجيوش في النواحي لجباية الزكوات والأعشار والوظائف المخزنية فانتهت السرايا والبعوث إلى آيت يزدق من برابرة الصحراء فأذعنوا وأدوا ما كلفوا به من الزكوات والأعشار وغيرها وإلى آيت يوسي وغيرهم فأطاعوا وأذعنوا إلا آيت حلى وهم بطن من آيت يوسي فإنهم انحرفوا عن عاملهم وأبوا من أداء ما وظف عليهم فأوقع بهم جيش السلطان وقطعوا منهم عددا من الرؤوس وساقوا مثلها من المساجين فعلقت الرؤوس بأسوار فاس وبعد ذلك أذعن آيت حلى للطاعة فقبلهم السلطان أيده الله وألزمهم ولاية عاملهم الذي كانوا منحرفين عنه وكان ذلك في أواخر صفر من السنة المذكورة ثم كان عيد المولد الكريم فاحتفل له السلطان على العادة وبعث إلى حضرته صاحبنا الفقيه أبو محمد عبد الله بن خضراء بقصيدة ميلادية يقول فيها
( أمل المديح محبرا يا منشد ** وأعده تطريبا فذلك أحمد )
( هذا أوان مسرة وسعادة ** هذي الليالي الغر هذا الموعد )
____________________


( أو ما ترى علم البشارة لائحة ** أو ما تشاهد نورها يتردد )
( هذا زمان ظهور طلعة أحمد ** في عالم الأجساد هذا المولد )
( طوبى لمن يروي غريب حديثه ** متأدبا ويعيده ويردد )
( طوبى لمن يقضي حقوق مديحه ** ويجيده نظما بديعا ينشد )
( فمديح خير الخلق أعظم قربة ** لكنه في ذا الأوان مؤكد )
( يا ليلة ما كان أعظم قدرها ** مع فجرها طلع النبي محمد )
( فاسرد شمائله الحسان وما له ** من معجزات بالنبوة تشهد )
( واذكر عجائب مولد قرت به ** عين المحب وضاق منه الأحقد )
( واجعل دعاءك للإمام المرتضى ** إن الدعاء له لحق أوكد )
( واملأ بدر مديحه أسماع من ** حضروا لديه وضمهم ذا المشهد )
( ساس الرعية صادقا فعنت له ** أمم وقد كانت قديما تشرد )
( من كفه فاضت مواهب جمة ** فالكف منه للعفاة المورد )
( طود أتآد شامخ ذو همة ** علياء يقصر عن علاها الفرقد )
( ما جود حاتم طيىء ما حلم أحنف ** إن ذا لهو الحليم الأجود )
( أزكى الملوك أرومة وأجلهم ** قدرا وأسبقهم لأمر يحمد )
( باهى به الغرب الممالك فاغتدى ** منه يغار قريبها والأبعد ) ومن آخرها
( مولاي يا تاج الملوك وفخرهم ** فليهنك العيد الأغر الأسعد )
( لله موسم مولد لك عائد ** بمسرة موصولة تتجدد )
( لا زلت ممنوحا جلائل أنعم ** ما اهتز في روض بهي أملد )
( لا زلت محروسا بعين عناية ** ما رنم الحادي وحبر منشد )
وفي ربيع الثاني من سنة سبع وتسعين ومائتين وألف ورد كتاب السلطان أعزه الله على قاضي سلا بتعيين صاحبنا الشريف الأديب فلكي العصر أبي العلاء إدريس بن محمد الجعيدي السلاوي للذهاب إلى مراكش برسم القيام على إحصاء صائر السلطان بها بدلا عن الفقيه أبي محمد عبد الله بن
____________________

خضراء فامتثل الشريف المذكور وسافر في التاريخ المذكور ومدح جناب السلطان أسماه الله بهذه القصيدة التي يقول فيها
( لبيك يا منقذي من لجة العدم ** سعيا على الجفن لا مشيا على القدم )
( فذا أوان سعود كنت أرصده ** وذي مناي كما في سابق القدم )
( فهو المرام وكل العز يعقبه ** ولا يحال بأني أحقر الخدم )
( قصدت أعتاب ملك شامخ بهج ** يقري الضيوف ويغني صاحب العدم )
( أنزلت رحلي بها وعندها أملي ** وهل يخيب نزيل الجود والكرم )
( شمرت عن ساعدي والأذن واعية ** فهاب أهل الحسام سطوة القلم )
( أرضى بذاك الذي أضاء مغربنا ** بعدله فغدا يميس في نعم )
( أزكى الأئمة شيمة وأرفعهم ** قدرا وأسبقهم لكل مغتنم )
( أميرنا الحسن المحمود سيرته ** تروع صولته الأسود في الأجم )
( نجل السلاطين قد أحيا مآثرهم ** ونال ما عجزت عنه ذوو الهمم )
( قد شاد للدولة الغراء مفخرها ** فساد عند ملوك العرب والعجم )
( تاج الملوك وفخرهم وسيدهم ** وخير من قد مضى في غابر الأمم )
( قد لاحظته السعود وهي في شرف ** وكل نحس عداه وهو عنه عم )
( النصر سابقه والسعد قائده ** والفتح يخدمه من جملة الخدم )
( والجود سيرته والحلم حليته ** والجد عادته فاحذر من الندم )
( ليث إذا ما أحس الحي سطوته ** ألقوا سلاحهم مخافة النقم )
( غيث إذا الأرض يوما مسها عطش ** غوث توسل به لبارىء النسم )
( مدير عالم مفكر فطن ** ومفحم باهر بأفصح الكلم )
( كل الفهوم له ألقت أزمتها ** ونوره يهتدي به لدى الظلم )
( بها يقاوم من بغى ويدمغه ** بها يدافع أهل الريب والتهم )
( كم دبر الروم من كر ومن حيل ** توجو النجاح بها والنجح في عقم )
( يرى بنور حجاه كل عاقبة ** وعين تدبيره للأمر لم تنم )
( فصل الخطاب حباه الله مكرمة ** وحكمة عظمت من أبدع الحكم )
( فاطلب رضاه ودم على محبته ** مدا الدهور وجانب داعي السأم )
____________________


( فهو المنى لذوي الحجا وبغيتهم ** وسيب يمناه مثل الزاخر العرم )
( يدني الأصول إلى نيل الوصول ويحيينا ** بنعمته كالأرض بالديم )
( ما زال يحيى بها بلاد مغربنا ** فاقرع بصدقك باب الجود تغتنم )
( واسلك سبيل الصفا تنل به شرفا ** واقبل نصيحة من حباك واستقم )
( يا غاية القصد إني راغب طرب ** مستمسك بجوار منك لم يضم )
( مولاي يا من مزاياه وأنعمه ** في الناس أشهر من نار على علم )
( مولاي أنت الذي تغني الضعيف إذا ** ما الدهر أفضى به لقبضة الهرم )
( بشراك إن الفرنج سوف يدركها ** منكم صغار به تداس بالقدم )
( فأنت ذو مدد وهم ذوو نكد ** وأنت ذو جذل وهم ذوو غمم )
( مولاي جد برضاك لي وخذ بيدي ** واحرس جنابي به من سائر الألم )
( واجعل ثياب الرضى سترا علي ولا ** يرى به حبل عروتي بمنفصم )
( فها أنا ذاك عند باب سيدنا ** أرجو قبولا ووصلا غير منصرم )
( أبقاك ربك في عز ومكرمة ** بالله أمرك نافذ على الأمم )
( أدامك الله منصور اللواء على ** كل الأعادي ولا برحت في نعم )
وفي آخر هذه السنة ورد كتاب السلطان أيده الله باستدعاء صاحبنا أبي محمد بن خضراء المذكور آنفا لتوليته خطة القضاء بحضرة مراكش فامتثل ووفد على أمير المؤمنين أدام الله علاه بحضرته السعيدة من فاس المحروسة بالله فولاه القضاء بمراكش وسار إليها وهو الآن بها محمود السيرة حسن السريرة سدده الله وكلاه وقال في وفادته على الحضرة الشريفة قصيدة يمدح بها الجناب المولوي ونصها
( لبيك دمت مؤيدا ومظفرا ** ولك الكمال كما تشاء موفرا )
( وافى خديمك أمرك العالي الذي ** في ضمنه إسعاده بين الورى )
( إذ خص دونهم بأشرف دعوة ** يا سعد من أضحى بها مستبشرا )
( فأجاب مبتدرا إجابة صادق ** لم يلهه أهل ولا حب الذرى )
( وطوى المراحل كي يحل بحضرة ** يلقى بها وجه الأماني مسفرا )
____________________


( فبدت له الدار المنيفة يا لها ** دارا أعز حمى وأبهى منظرا )
( ونحا الجناب المستجار بظله ** وأناخ فيه خاضعا ومعفرا )
( يهدي إليك تحية مختارة ** أذكى من المسك الذكي وأعطرا )
( ويمد كفيه بصدق داعيا ** لك بالبقاء مهنئا ومبشرا )
( ويجيد شكر مواهب أوليتها ** كرما وحق لمثلها أن يشكرا )
( ويعيد ذكر محاسن أوتيتها ** ويصوغ مدحك صوغ تبر أحمرا )
( ويروم إقبالا عليه بالرضى ** يا فوزه إن بالرضى هو بشرا )
( إن ناله نجحت له آماله ** ودنت مناه وارتقى واستبشرا )
( يا من يؤمل رفعة وسعادة ** يمم حمى المولى الهمام لتظفرا )
( ملك عظيم القدر جل كماله ** عن أن تعد خصاله أو تحصرا )
( ملك كريم الطبع عز مثاله ** خلقا كريما لم يضاه ومفخرا )
( ملك جزيل الفضل عم نواله ** كل الأنام وفاق غيثا ممطرا )
( ملك أفاض على الرعية خيره ** وأنامهم في ظله متبصرا )
( ملك جميل سياسة وسريرة ** ويدل ظاهره على ما أضمرا )
( ملك ترقى في سماء مكارم ** فغدا به أفق المكرم مقعرا )
( ملك رحيم خاشع متواضع ** ويرى اكتساب الحمد أربح متجرا )
( قرت به عين الخلافة واغتدى ** من سعده ذا القطر أنعم أزهرا )
( من أهل بيت المصطفى أكرم به ** نسبا شريفا ما أجل وأطهرا )
( جمع المفاخر مكسبا ووراثة ** وحوى مآثر حقها أن تؤثرا )
( ماضي العزيمة في الأمور مسدد ** في رأيه الميمون ليس مقصرا )
( قل للمحاول شأوه في مجده ** أو رفده أو حلمه أطرق كرا )
( هذا همام لا يشق غباره ** هذا همام لن يجارى إن جرى )
( مولاي يا أزكى الأئمة شيمة ** وافيت بابك أبتغي منك القرا )
( لا أبتغي إلا الرضى وكفى به ** فأنلني الحظ الجزيل الأوفرا )
( مولاي ما عندي إليك هدية ** إلا مديحك هاك منه جوهرا )
( نظمته فكرة مخلص متودد ** خذه إليك منظما ومحبرا )
____________________


( لا زلت في نعم تدوم ونصرة ** وسعادة لا زلت أنت الأكبرا )
( لا زلت في حلل العناية رافلا ** لا زلت في ملك كبير أبهرا )
واعلم أن الأمداح في جناب هذا الملك الجليل الشريف الأصيل كثيرة والقصائد المفصحة عن علو قدره وشموخ مجده وفخره شهيرة خطيرة لا سيما لأصحابنا السلاويين ممن ذكرناه منهم وممن لم نذكره ولولا خوف الإطالة لأثبتنا من ذلك ما يزرى بالحبر ويفصح بالذكرى والعبر وفيما ذكرناه كفاية والله يجزي كلا بنيته وخلوص طويته
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائتين وألف فيها تجددت الشروط بين السلطان أعزه الله وبين أجناس الفرنج في سبيل تأكيد المهادنة وجلب نفع التجارة وكان من جملتها أن النصارى وأهل حمايتهم يلزمون بغرامة الوظائف المخزنية المرتبة على الأبواب كسائر رعية السلطان وقدر ذلك الوظيف ستة بلايين لكل حمل وفي هذه المدة التي هي أواسط السنة المذكورة أخذ السلطان أعزه الله في التأهب للحركة والنهوض من مكناسة الزيتون قاصدا حضرة مراكش الحمراء فاحتلها في آخر السنة المذكورة وعيد بها عيد الأضحى
ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائتين وألف فيها تحرك السلطان أعزه الله لغزو بلاد السوس الأقصى فأخذ في التأهب والاستعداد لذلك وأمر قبائل دكالة وتامسنا بحمل القمح والشعير والتبن إلى مرسى الجديدة ومرسى الدار البيضاء ليحمل منهما في المراكب إلى ساحل السوس الأقصى بقصد إرفاق الجيش وإعانته وكان السبب في ذلك أن جنس الإصبنيول كان متشوفا لتملك بعض المراسي السوسية منذ انعقاد الهدنة معه عقب حرب تطاوين وكثيرا ما كانت مراكبه الحربية والتجارية تتردد إلى تلك النواحي فيستهوي أهلها بأسباب التجارة ونيل الأرباح فربما سكنوا إليه وربما نفروا منه وتكلم السلطان أعزه الله مع كبرائهم في ذلك فاحتجوا بأن صلح تطاوين كان منعقدا على فتح بعض المراسي السوسية وأنهم الآن قد عزموا على الأخذ بشرطهم
____________________

المذكور وإلا أفضى الحال إلى ما لا يليق فرأى السلطان أعزه الله أن من الواجب أن ينهض إلى تلك البلاد ليباشر أمرها بنفسه لا سيما وكان أهلها قد بعد عهدهم بإجراء الأحكام السلطانية فيما بينهم على مقتضياتها فنهض إليها في رمضان من السنة المذكورة فانتهى منها إلى قرب وادي نول ومهد أقطارها وولى على أهلها القضاة والعمال واتخذ هناك مرسى للوسق والوضع تسمى آساكا وكتب في ذلك كتابا لولاة المغرب يقول فيه بعد الافتتاح أما بعد فإنا لما نهضنا من مراكش بحول الله وقوته وسطوته الباهرة وصولته وجيوش الله المظفرة موفورة وجنوده سبحانه مقطورة وأعلامها منشورة منصورة نهضة معتمد على مولاه متقلد لما قذف في قلبه فأبداه متمسك بعروته الوثقى التي من استمسك بها بلغ مناه وانتهينا بمعونة الله لمبدأ هذه الأقطار السوسية وامتطينا صهوتها وهي ذلولا في ربوع اليمن ساعيه وبنود الله خافقة على مفارق الظفر وبذرى المجد سامية تواردت على حضرتنا العالية بالله الوفود متناسقة متتابعة وانتظمت في سلك السمع والطاعة والخدمة الجامعة فتسارعوا إلى ما إليه دعوا وتلقوه تلقي الظمآن فنهلوا وكرعوا وأوقدوا لوفود كبرائهم وأعيانهم وأشياخهم مصباحا واستضاؤوا بضياء نور الله غدوا ورواحا ومدوا أعناق الإذعان وبسطوا أيدي المسالمة والإبقاء عليهم والامتنان بعد ما كانت قد بلغت منهم القلوب الحناجر وارتعدت فرائصهم من هيبة الله ثم اطمأن البر وشرق الفاجر وانتهبت أجفان المراسم المخزنية التي عفت بعد نومتها فانظر إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها وصرفنا إليهم عنان الترتيب بعد أن وطأنا لهم كنف الترحيب فبوأنا من توسمنا فيه الأهلية للتولية على إخوانه مهادا وقلدناه أمرهم جمعا وفرادى وضربنا للكل فيها على مقتضى السياسة بمعونة الله بسهم مصيب وأرعيناه من مربع خدمتنا الشريفة المرعى الخصيب حتى وقع التمكن من أزمتهم وأجلسنا خاصتهم وعمالهم على أسرتهم فاتصلت بهم المخزنية اتصال الأرواح بالأجساد واستنارت هذه الأرجاء بنور الله استنارة عمت الحاضر والباد فأدوا من الطرف والهدايا ما فيه غنية لمن ركب متن المزايا
____________________

مع كون البلاد لم تنكح بالمخزن مدة من السنين تنيف على عدد الستين ولو لم ننل من هذ الفتوح الباهرة بفضل الله إلا عشرا لكان في جنب من قدم عهده بالمخزنية كثرا ولكان ما عودنا سبحانه إلا الجميل إذ هو المتصرف الغني القاهر القوي الكفيل وهو حسبنا ونعم الوكيل ثم ولينا عليهم من القضاة من فيهم الكفاية لإقامة شرائع الدين ولم نأل جهدا في انتخابهم من أمثل المقلدين علما بأن الشرع عليه المبنى وبه يعمر المغنى ويغزر الحس والمعنى ثم تطارح شرفاؤهم ومرابطوهم على أعلى جنابنا بإقرارهم على عوائدهم وإبقائهم على أعرافهم ومحاتدهم التي عندهم عليها ظهائر أسلافنا المقدسين أئمة المسلمين وأمراء المؤمنين وكذا ظهائر من غبر من الملوك المتقدمين رضوان الله عليهم أجمعين فانتهجنا نهجهم وسمكنا بحول الله أوجهم وساعدناهم فأقررنا وجددنا لكل ظهيره وأجريناه على ما أسس له من المجد وجعلناه نجيه وسميره وحيث كان القصد الأهم من هذه الوجهة المباركة هو حماية ذمار هؤلاء المسلمين والدفاع عن بلادهم ورقابهم وأموالهم مما طمحت إليه نفوس المؤملين وكان ملاك ذلك هو فتح المرسى بوادي نول بمحل يسمى آساكا بأرض قبيلتي تكنة وآيت باعمران إذ بفتحها يستقيم أمر الدفاع ويسهل على أهل ذلك المحل البيع والابتياع يقينا بأن سد أبواب الضرر من الأمر المحتوم وإرشاد الضال في الشرع من المقرر المعلوم تسابق القبيلتان المذكورتان اللتان تلقيتا جنابنا العالي حين عبرنا وادي والغاس وقصدنا بجيوش الله بلادهم قصد طبيب آس فتلقوا ركابنا السعيد بمحل يعرف بآمصاو قرب مرسى تسمى باكلو إذ هو الطرف الموالي لآيت باعمران المسمى بالساحل وإليه شدت هذه المراحل وبين آمصاو ومحل المرسى الذي أريد فتحه مرحلتان وبثلاث عشرة ساعة ميقاتية مقدرتان فأتوا بشرفائهم وفقهائهم ومرابطيهم وأعيانهم وأشياخهم المالكين لقيادهم فقوبلوا بما قوبل به أمثالهم وناسب أن يتصف به حالهم ثم ولينا عليهم عدة من العمال جعلناهم بحول الله عدة في تلك الأعمال وحينئذ وقع الكلام معهم في شأن المرسى فامتثلوا ما أمرناهم به من فتحها امتثال
____________________

من أضحى يتقلب في رضا الله ورسوله وأمسى ثم وجهنا معهم سرية من أعيان الجيش معتبرة ومعهم من الفقهاء والمهندسين من يعتد بهم في رسم تلك المرسى وتخطيطها على نهج القواعد المقررة والأعمال المحررة اقتضى المقام والحال تسبيقها رفقا بعباد الله واعتبارا بأن الله سبحانه قد قضى الغرض ووهبه وأسداه وما تشاؤون إلا أن يشاء الله قل إن الفضل بيد الله وما بكم من نعمة فمن الله ثم أقمنا في المحل المذكور لانتظارهم في تشييد منارهم فإن انقلبوا بالمقصود فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وإن لم يشفوا الغليل شددنا بحول الله لذلك المرسى عزمات الرحيل وقطعنا تلك المفازات هذا وقد نصبنا قائدا من قواد جيشنا السعيد مختارا من ذوي الرأي السديد وأقمناه بقصبة تيزنيت محل المخزن في القديم بقصد أن يكون إعانة لسائر عمال القطر السوسي من وادي والغاس إلى منتهى وادي نول وكليميم يتفاوضون معه فيما عسى أن يعرض لهم من المهمات ولا سيما إذا كان المخزن بعيدا عن هذه الشرفات بعد ما عرفناهم بأنا أقمناه مشرفا للتفاوض معه وبصيرة على ما قصدنا من فتح ذلك المرسى إيثارا للنعمى ودفعا للبؤسى ففرحوا بذلك فرح الظمآن الوارد والضال الواجد ووقع الإشهاد عليهم بكل ما فصلناه وأبرم عقده معهم على نحو ما رسمناه فكان ذلك تمام العمل الذي قصدناه والمورد الذي أردناه وانتحيناه والله تعالى يخلص في ذاته العمل ويجعل هذه الوجهة المباركة بفضله ومنته من الجهاد المتقبل إنه جواد كريم متفضل غني حليم والسلام في متم شعبان عام تسعة وتسعين ومائتين وألف انتهى كتاب السلطان أيده الله
وفي أواخر صفر سنة اثنتين وثلاثمائة وألف قام نواب الإصبنيول من مراسي المغرب الأقصى بعد أن أقاموا بها نيفا وعشرين سنة لاستيفاء ما وقع الصلح عليه في حرب تطاوين وكان جملة المال المصالح عليه عشرين مليونا من الريال الكبير وكان السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن رحمه الله قد دفع منه عشرة ملايين معجلة والعشرة الباقية هي التي استوفاها الإصبنيول في المدة المذكورة أقام أمناءه مع أمناء السلطان بمراسي المغرب
____________________

فكان كل فريق يستوفي نصف الداخل حتى تم العمل وفي صبيحة يوم الاثنين ثاني ربيع الثاني من السنة المذكورة توفي الشيخ المنور الذاكر الخاشع أبو عبد الله محمد الهاشمي الطالبي من صلحاء أهل سلا وكانت وفاته فجأة تعشى تلك الليلة عشاء خفيفا على عادته وصلى العشاء وتلا أوراده منفردا في بيته كما كان يفعل ثم أصبح ميتا من غير أن يحضره أحد وكان قد ناهز الثمانين وشاخ وابيضت لحيته ورأسه وحضر جنازته الجم الغفير من أهل العدوتين سلا والرباط وازدحموا على نعشه وتناوبوه تبركا به وصلى عليه بالمسجد الأعظم من سلا عقب صلاة الظهر ودفن بالبيت القبلي من داره وتردد الطلبة إلى قبره مدة لقراءة القرآن والبردة وغيرها من الأمداح وعظم مصاب الناس بموته وكيف لا وقد كان مصباح العدوتين بل وغيرهما في زمانه مع ما اكرمه الله تعالى به من التواضع وحسن الخلق ولين الجانب مع الناس بحيث لم يعهد ذلك ولم يرو إلا عن السلف الصالح ومن سلك سبيلهم من أمثالهم رضي الله عنهم وكان مجلسه مجلس علم وحياء ووعظ وذكر للأولياء والصالحين وسيرهم وأخبارهم لا يسمع في مجلسه لغو ولا خوض في دنيا إنما هو سرد الأحاديث وأخبار الصالحين ونحو ذلك محافظا على الصلوات وقيام الليل والأذكار وبذل المعروف والأمر به ما أمكن وبالجملة فقد كان في سيرته وأخلاقه على مقتضى السنة النبوية وآثار السلف الصالح رضي الله عنهم ونفعنا بمحبتهم ومحبة أمثالهم آمين وبعد غروب الشمس من ليلة الجمعة فاتح ذي الحجة من السنة المذكورة توفي الفقيه العلامة البارع أبو عبد الله محمد بن المدني كنون عالم فاس والمغرب وصلى عليه عقب صلاة الجمعة بجامع الأندلس من فاس حرسها الله ودفن بالموضع المعروف بالقباب وكان رحمه الله فقيها عالما متضلعا قولا بالحق صادعا به لا يهاب في ذلك كبيرا ولا صغيرا ولقد امتحن في ذلك من قبل السلطان فلم يفل ذلك من غربه ولم يوه من صرامته ولا حده وله عدة تآليف من أحسنها اختصار حاشية الرهوني على مختصر الشيخ خليل جدد الله عليه الرحمات آمين
____________________


ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثمائة وألف ففي ليلة العشرين من صفر منها وقع في النجوم تناثر كبير ورمي شديد تشريقا وتغريبا وغير ذلك على خلاف المعتاد حتى لقد أذكرت قول بشار بن برد الأعمى في وصف الحرب
( كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ** وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه )
ودام ذلك من وقت الغروب إلى نصف الليل وفي هذه الأيام كانت بين جيوش الرجل المنصور القائم ببلاد الحبشة والنوبة المتسمي بالمهدي وبين جيش النجليز حروب عظيمة بعد العهد بمثلها وكان للمهدي المذكور على النجليز غاية النصر والظهور ولولا أن التعرض لخبره ليس من موضوع الكتاب لشرحت ذلك فإن أمره عجيب جدا وفي أواسط ربيع الأول من السنة المذكورة ورد أمر السلطان أيده الله بتسريح ما كان موظفا على أبواب المدن والقرى مما كانت تؤديه العامة على أحمال السلع والتجارات من المكوس وكتب في ذلك إلى عامل سلا وقته بما نصه بعد الافتتاح والطابع المشتمل على اسم السلطان أيده الله خديمنا الأرضى الحاج محمد بن سعيد السلاوي وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله وبعد فقد شرح الله صدرنا لرفع العطاء في سائر الأبواب بالمدن والمراسي عن كل ما يمر به عليها داخلا وخارجا وأصدرنا أمرنا الشريف لأمين المستفادات بثغر سلا المحروس بالله كغيره بإنهاض المشترين لأبوابه الجالسين للقبض بها والمتصرفين في شؤونها لحال سبيلهم وإعمال الحساب مع مشتريها المذكورين على ما تصرفوا فيه إلى يوم الإنهاض وتوجيه القائمة بذلك لحضرتنا العالية بالله وغير الأبواب من الأماكن المعطى فيها وعليها تبقى على حالها حتى ننظر في أمرها بحول الله وأعلمناك لتكون على بال والسلام في ثاني ربيع الأول عام ثلاثة وثلاثمائة وألف ولما ورد هذا الكتاب فرح الناس به ودعوا للسلطان بالنصر والتأييد من خالص نياتهم نطلب الله تعالى أن يتمم نعمته على المسلمين بتسريح ما بقي موظفا من مبيعات الأسواق ويريح الناس من شؤمه فإنه لا شيء أشأم من هذه المكوس على الدول نسأل الله العافية وفي عاشر جمادى الثانية من
____________________

السنة المذكورة خرج السلطان مولاي الحسن أيده الله من حضرة مراكش غازيا بلاد السوس الأقصى وما وراءها من عرب معقل وسائر قبائل الصحراء لما بلغه من اضطراب الرعايا بتلك البلاد وخروجهم على ولاتهم وأن بعض تجار النجليز قد تسور على مرسى بتلك السواحل يسمى طرفاية ووصل يده في البيع والشراء ببعض القبائل الذين هناك وأراد أن يبني بالمحل المذكور فنهض السلطان أيده الله لحسم مادة هذا الفساد ولما توسط بلاد السوس وأصلح أحوالها وثقف أطرافها كتب كتابا إلى ولاة المغرب يقول فيه بعد الافتتاح ما نصه وبعد فإنا بحول الله القوي المعين الفاتح لما اغلق كما يشاء في الحين أو بعد حين المؤيد بعنايته عبده في كل مصدر ومورد وتحريك وتسكين كتبنا إليكم هذا يوم حلولنا وسط خدامنا قبائل آيت باعمران بحبوحة مجامع قبائل السوس الأقصى ومناخ الأعيان نعلمكم بما واجهنا المولى سبحانه في هذه الحركة المباركة من تعاقب المنن والأيادي وابتسام ثغر الزمان بما أملناه من العلي المنان في هذا النادي لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وبيده مقاليد السموات والأرض وهو الولي والنصير والسميع والبصير فكان من أمر هذه القبائل السوسية والقساملة الساحلية أن تلقوا ركابنا السعيد أفواجا أفواجا ناشرين أعلام الفرح تجاه جيوش الله المظفرة سري وإدلاجا حاشدين جموعهم مصحوبة بأعيانهم ومن يعتد به من فقهائهم وشرفائهم ومرابطيهم من غير أن يكون جمعهم خداجا مستنتجين للفوز بخاطرنا الشريف مقدمات الامتثال والسمع والطاعة لله ولرسوله استنتاجا مقدمين بين يديهم هداياهم متترسين بأبنائهم وإخوانهم وسراياهم مادين أعناق الامتثال عاضين بالنواجذ على الخدمة وصالح الأعمال فأتوا بمؤنتهم على قدر الاستطاعة ومهدوا لسلوك الجيش السعيد ما صعب من طرقهم حتى صارت مسلوكة مشاعة ونحن في كل ذلك نعاملهم بالبرور ونبسط البشر إليهم ونقابلهم بما ارتسم فيهم من السرور وها نحن بحول الله جادون في الخلوص إلى المقصد الذي لأجله نقلنا هذه الخطوات واستعملنا
____________________

فيه الفكر وأسهرنا أحداق الاعتبارات من صرف النظر لفتح مرسى آساكا مركز ساحل وادي نول ومجمع القبائل العربية والبربرية ومنتهى ذلك المسكون ولا سيما من جاءت بينهما كالام والعنصر وهما كالتوأمين لها يستمدان منها ويرضعان خلاصة لبن ثديها وهما القبيلتان الباعمرانية والتكنة ومن تراكم عليهما وارتدف من قبائل العرب والبربر أو كان على حكمهما فيما ارتضع وارتشف هذا إن كانت تصلح لذلك وتعود منفعتها على المسلمين والإسلام بعد الاستخارة مرارا في اختطاطها وتتحقق بصلاحيتها كشفا واستبصارا ونتوخى في الإقدام على ذلك بحول الله الأسد من الأنظار والمنهاج القويم الجاري على اعتراف هاتيك الأقطار ثم إن كانت موافقة للأصلح أقدمنا وإن لم يظهر وجه المصلحة أعرضنا عنها إلى غيرها قال الله العظيم { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } البقرة 106 وما آل إليه الأمر نعلمكم به ونشنف آذانكم بما سنح من سره فإنه لكل عمل نتيجة بعد العنوان والله المولى المستعان والهادي إلى سواء السبيل وهو نعم المولى ونعم الوكيل والسلام في تاسع شعبان الأبرك عام ثلاثة وثلاثمائة وألف ثم تجاوز السلطان أيده الله قطر السوس الأقصى إلى صحراء كليميم فوفدت عليه هناك أشياخ عرب معقل وكبراؤها خاضعين مطيعين وفرحوا بمقدم السلطان ووطئه بلادهم غاية الفرح حتى لقد اتخذوا موضع خبائه الذي كان مضروبا به مزارا يتبركون به إلى الآن إذ لم يكونوا هم ولا آباؤهم من قبل رأوا سلطانا بأرضهم ولا سمعوا بوصوله إليها وأجروا خيولهم وإبلهم بمحضره ولعبوا عليها بالبارود إذ عادة عرب الصحراء أن يسابقوا على الإبل كما يسابقون على الخيل ومن هناك وجه السلطان أيده الله كتيبة من جيشه إلى مرسى طرفاية فغيروا ما كان أحدثه أولئك التجار من النجليز بها وطمسوا أعلامه وفر من كان بها من النصارى إلى بابوراتهم التي كانت على ذلك الساحل وأمر أيده الله ببناء مرسى آساكا واتخاذها محلا للوسق والوضع هناك ورتب الحامية والعسات بتلك
____________________

السواحل من آكادير إلى كليميم وكتب بذلك كله إلى ولاة المغرب وقفل راجعا فأوقع في رجوعه بقبيلة ذاوتنان من أهل السوس الأقصى ثم كانت عاقبة القضية النجليزية أن قام فهيا أرباب دولتهم وقعدوا وخبوا في التشغيب على عادتهم ووضعوا حتى وقع الصلح على مال دفعه السلطان إليهم تسكينا للأمر ودفعا لما هو أعظم والأمر لله وحده
وفي عشية يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من جمادى الثانية من السنة المذكورة غيمت السماء غيما كثيفا أسود وذلك بمراكش ونواحيها وهبت ريح سوداء مع رعد قاصف ثم نزل برد مثل البيض وأعظم وتهدمت بمراكش دور كثيرة ومات تحت الهدم خلق كثير نيفوا فيما قيل على المائة وفر الناس إلى أضرحة الأولياء بعد أن ودعوا عشائرهم وأحبتهم ولزموا الاستغفار والتضرع إلى الله تعالى حتى انجلى الغيم بعد نحو ساعتين والحمد لله على حلمه بعد علمه وعلى عفوه بعد قدرته
وفي هذه السنة اشتد حرص أجناس الفرنج على تنقيص صاكة الأعشار وطلبوا من السلطان أيده الله أن يحط عنهم من صاكة السلع الموسوقة التي كانت مسرحة من قبل وأن يسرح لهم ما كان مثقفا قبل ذلك وأبدؤوا في ذلك وأعادوا وقاموا فيه وقعدوا فلما رأى السلطان أيده الله شدة حرصهم وتكالبهم كتب كتابا إلى الرعية يستشيرهم فيه ويقول بعد الافتتاح أما بعد فقد كان طلب منا بعض نواب الأجناس بطنجة على وجه الخير والمحبة فيما سلف من أعوام تجديد شروط التجارة بقصد تسريح الأشياء الممنوعة الوسق كالحبوب مطلقا والأنعام والبهائم ونحو ذلك ونقصان صاكة الخارج ذاكرين أن تسريح ذلك فهي النفع لبيت المال وللرعية وهذه مدة من خمسة أعوام ونحن ندافع ونسدد ونقارب بما يقتضيه الوقت والحال عملا بقول سيد الوجود صلى الله عليه وسلم في وقائع وقضايا سددوا وقاربوا لإبقاء ما كان على ما كان إذ لا أقل من ذلك سيما في هذا الزمان الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله يأتي على الناس زمان يمر فيه الحي على قبر الميت فيقول ليتني مكانك وحاشى لله
____________________

أن نتسبب للمسلمين في غلاء أو نوافق لهم على ضرر وكفى بالله شهيدا وكيف والله سبحانه قد استرعانا عليهم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته والآن قد اشتد حرصهم على ذلك وتمالؤوا فيه على كلمة واحدة وصمموا عليه ولما أفضى الحال إلى ما افضى إليه مما لا ينبغي ولم يمكن إلا الإعلان بذلك والمشاورة فيه مع من يعتد به استشرنا فيه جميع من يشار إليه بالخير والفضل والدين والعقل والذكاء والدهاء موثوقا بديانته وأمانته فلم يشيروا فيه بخير واتفقوا على أن لا مصلحة في تسريح ذلك أصلا وبينوا ما يترتب على الكل من المفاسد ففصل الحيوان أول ما يترتب على تسريحه من الضرر غلاؤه على ضعفاء الرعية بل يؤدي إلى فقده بالكلية من هذه الإيالة وأشياء أخر لا يفي بها التعبير هنا وفصل النقص من الصاكة يترتب عليه ضعف المدخول الذي منه يقوم المخزن الجيش والعسكر ومصالح الرعية وأعظمها تضعيف الرعية بالقبض منهم كتضعيف المكوس وضرب الخراج عليها تقوية لبيت المال والجيوش وما أبداه بعض نواب الأجناس الراغبون في تسريح ذلك من المصالح المالية العائدة على رعيتنا السعيدة على مقتضى ما ظهر لهم ردوه بما يطول شرحه ولا يفي به قرطاس ولما رأينا الأمر استحال إلى أسوأ حال أو كاد تداركنا هذا الخرق بالرفء وجنحنا إلى السلم امتثالا لقوله تعالى { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } الأنفال 61 الآية وارتكبنا أخف الضررين فاقتضى نظرنا الشريف أن ظهر لكم درءا لتلك المفاسد المقدم على جلب المصالح أن يساعدوا على تسريح أشياء بقصد الاختبار من تلك الأمور الممنوعة الوسق كالقمح والشعير وذكران البقر والغنم والمعز والحمير ثلاث سنين فقط على شرط الاختبار في المنفعة التي ذكروها في تسريحه الكل بأعشاره المعلومة في مثله على أن يكون تسريح ذلك في وقت غلته مع وجود الخصب مدة من ثلاثة أشهر وبعد مضيها يثقف ولا يسمع كلام من أحد في تسريحه ولا يقبل منه عذر فيه وفي العام المقبل إذا كان صالحا يسرح ثلاثة أشهر بقصد الاختبار أيضا وإذا كان ناقصا لا يقع اختبار بتسريحه المدة
____________________

المحدودة ويبقى مثقفا على أن ذلك ليس بشرط وإنما هو على سبيل الاختبار حتى يظهر ولتعلموا أنكم لن تزالوا في سعة فإن ظهر لكم ذلك فالأمر يبقى بحاله وإن ظهر لكم ما هو أسد وأحوط في الدفاع عن المسلمين فأعلمونا به إذ ما أنا إلا واحد من المسلمين وأعلمناكم بما كان امتثالا لقوله تعالى { لهم وشاورهم في } آل عمران 159 وإلا فما { ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين } الجمعه 11 والسلام في سابع رجب الفرد الحرام عام ثلاثة وثلاثمائة وألف انتهى كتاب السلطان أعزه الله ولما قرىء هذا الكتاب على خاصة الناس وعامتهم أجابوا كلهم بأن الرأي ما رآه السلطان وفقه الله إلا ما كان من بعض العامة الأغمار الذين لم يجربوا الأمور ولا اهتدوا إلى النظر في العواقب فإنهم قالوا ما نعطيهم إلا السيف لكن لم يلتفت إليهم
وقد كتبت في هذه المسألة جوابا مطولا رأيت إثباته هنا خشية ضياعه ونصه اعلموا حفظكم الله أن النظر في هذه النازلة يكون من وجوه أحدها من جهة الفقه والحكم الشرعي ثانيها من جهة الرأي والسياسة وهذا لا بد أن يجري على ضابط الفقه أيضا ثالثها من جهة الفهم عن الله تعالى والنظر في تصرفاته سبحانه في هذا الوجود بعين الاعتبار فأما الوجه الأول فاعلم أن الفقهاء رضوان الله عليهم قد نصوا على أنه لا يجوز بيع آلة الحرب من السلاح والكراع والسروج والترسة ونحو ذلك من الكفار الحربيين لما يخشى من تقويهم بذلك على المسلمين هذه علة المنع وهي تفيد أمرين أحدهما أن كل ماهو في معنى السلاح مما يفيدهم تقوية حكمه حكم السلاح في المنع وهو منصوص عليه فلا نحتاج إلى التطويل بجلبه ثانيهما إن ما لا يتقوون به ويجوز بيعه منهم كيف ما كان وعدم التقوي يكون بأحد وجهين إما يكون ذلك المبيع ليس من شأنه التقوي به في الحرب كبعض المأكولات والملبوسات وغير ذلك مما هو مسرح لهم اليوم وقبله بزمان وإما بكونه من شأنه أن يتقوى به فيها ولكنه عديم الفائدة بالنسبة إلى حالهم اليوم لما تقرر من أنهم صاروا من القوة والاستعداد والتفنن في أنواع الآلات الحربية إلى
____________________

حيث صارت آلاتنا عندهم هي والحطب سواء والدليل على ذلك أنهم يبيعوننا أنواعا من الآلات الحربية نقضي العجب من جودتها وإتقانها ومع ذلك فينقل لنا عنهم أنهم لا يبيعوننا منها إلا ما انعدمت فائدته عندهم لكونهم ترقوا عنها إلى ما هو أجود منها واستنبطوا ما هو أتقن وأنفع إلا فيما قل وعلى هذا فتنبغي اليوم الفتوى بجواز بيع سلاحنا منهم فضلا عن غيره لجزمنا بأن ذلك لا يفيدهم في معنى التقوي شيئا وإن كانت هناك فائدة فهي كلا فائدة هذا إذا لم نتوقع ضررا منهم عند امتناعنا من البيع فأما إذا كنا نتوقعه منهم كما هو حالنا اليوم فيرتقي الحكم عن الجواز إلى ما هو فوقه وللضرورة أحكام تخصها فإن قلت فقد أقدمت بهذا الكلام على ما لم يقدم عليه أحد قبلك في استجازتك بيع السلاح من الحربيين قلت إنما ذكرت السلاح توطئة لما الكلام فيه حتى يؤخذ حكمه بالأحرى ثم إني ما أقدمت عليه إلا بالقاعدة الفقهية لا مجازفة كما أقدم من قبلي على إجازة بناء الكنائس بأرض المسلمين لأجل الضرورة الداعية إلى ذلك فقد أفتى علماء الأندلس في القرن الخامس بالإذن للنصارى في إحداث الكنائس بأرض العنوة وبما اختطه المسلمون من الأمصار مع أن الموجود في كتب السلف هو المنع وما ذلك إلا لأن الأحكام المرتبة على الأعراف تختلف باختلاف تلك الأعراف قال القرافي في كتاب الأحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام في السؤال التاسع والثلاثين ما نصه إن قلت ما الصحيح في هذه الأحكام الواقعة في مذهب مالك والشافعي وغيرهما المرتبة على العادة والعرف اللذين كانا حاصلين حالة جزم العلماء بهذه الأحكام فهل إذا تغيرت تلك العوائد وصارت تدل على ضد ما كانت تدل عليه أولا فهل تبطل هذه الفتاوى المسطورة في الكتب ونفتي بما تقتضيه هذه العوائد المتجددة أو يقال نحن مقلدون وما لنا أحداث شرع لعدم أهليتنا للاجتهاد فنفتي بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين فالجواب إن إجراء هذه الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة
____________________

المتجددة وليس ذلك تجديدا للاجتهاد من المقلد حتى تشترط فيه أهلية الاجتهاد بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد ا هـ ونحوه له في كتاب الفروق ونقله عنه الأئمة واعتمدوه فبان من هذا أنه لا معنى للإفتاء اليوم بمنع بيع شيء من الكفار أيا كان إلا المصحف والمسلم وما في معناهما لأنهم بلغوا اليوم من القوة إلى الحد الذي لم يكن لأحد في ظن ولا حساب إلا أن يريد الله كفايتنا إياهم بأمر من عنده فهو سبحانه ولي ذلك والقادر عليه وذلك ظننا به تعالى فإن قلت ههنا مضرة أخرى تمنع من بيع ما طلبوه وهي التضييق على المسلمين في معايشهم ومرافقهم لأنهم إذا أكبوا على شراء هذه الأشياء فلا بد أن تغلو وترتفع أثمانها وفي ذلك من الإضرار بالمسلمين ما لا يخفى ولذا أفتى الأئمة بمنع الحكرة في كل ما للناس به حاجة من طعام وأدام وعروض فإن كان في الحال سعة ولم يضر الاحتكار بالناس جاز في الطعام وغيره قلت والناس اليوم والحمد لله في سعة وأما حصول التضييق عليهم في معايشهم ومرافقهم بسبب تسريح وسق هذه الأشياء للنصارى فمشكوك فيه قد يحصل وقد لا يحصل والشك مطروح في نظر الشرع بخلاف المضرة المتوقعة منهم عند المنع والمحاربة فمقطوع بها نظرا للقرائن القوية والعادة فإن قلت بل الغالب حصول التضييق لا أنه مشكوك فقط قلت ليس بغالب فقد رأيناهم منذ أزمان وهم مكبون على وسق أشياء كثيرة مثل القطاني وغيرها ومع ذلك لم يحصل فيها والحمد لله إلا الرخاء بل الحق إن هذا من علم الغيب لا ينبغي لأحد أن يحكم عليه بغلبة ولا قلة لأن الحكم في ذلك بالتخمين من باب التخرص على الله تعالى في غيبه وهو حرام على أن النصارى إذا اشتروا منا شيئا من ذلك فإنما يشترونه بالثمن الذي له بال ويعشرونه بالصاكة التي لها بال فتحصل الأرباح للرعية وللسلطان وهذه منفعة مقطوع بها وأما الغلاء فمشكوك كما قلنا والحاصل أن الأبحاث والتفريعات في هذا الموضوع كثيرة وفي هذه النبذة كفاية لمن استبصر والله الموفق وأما الوجه الثاني وهو النظر من جهة الرأي والسياسة ولا بد فيه من
____________________

الفقه أيضا إذ كل سياسة لا تستضيء بنور الشرع فهي ضلال فنقول لا يخفى أن النصارى اليوم على غاية من القوة والاستعداد والمسلمون لم الله شعثهم وجبر كسرهم على غاية من الضعف والاختلال وإذا كان كذلك فكيف يسوغ في الرأي والسياسة بل وفي الشرع أيضا أن ينابذ الضعيف القوي أو يحارب الأعزل الشاكي السلاح وكيف يستجاز في الطبع أن يصارع المقعد القائم على رجليه أو يعقل في النظر أن تناطح الشاة الجماء الشاة القرناء كما قال الشاعر
( أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ** وقد حيل بين العير والنزوان )
فالمحاربة على هذا الوجه مما لم تقل به سياسة ولا وردت به شريعة فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خير الخلق عند ربه وأكرمهم لديه قد صالح المشركين يوم الحديبية صلحا قال فيه بعض كبار الصحابة رضوان الله عليهم نحن المسلمون فكيف نعطي الدنية في ديننا ورد أبا جندل رضي الله عنه إلى المشركين وهو يرسف في قيوده ويصرخ بأعلى صوته يا معشر المسلمين كيف أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني والقصة مشهورة لا حاجة إلى التطويل بها وقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب أن يعطي عيينة بن حصن والحارث بن عوف وهما قائدا غطفان ثلث تمر المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه حتى رده عن ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما حين أحسوا من أنفسهم بمقاومة العدو وأين نحن منهم دينا ويقينا وبصيرة وثباتا في الحرب وقد أفتى الفقهاء رضوان الله عليهم لأجل هذا الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بجواز عقد الهدنة مع الكفار على إعطاء المال انظر المختصر وغيره فإذا كان إعطاء المال مجانا جائزا عند الضرورة فكيف لايجوز إعطاء بعض المتمولات بأثمانها التي لها بال وأيضا فهؤلاء الأجناس إنما دعونا في ظاهر الأمر إلى السلم لا إلى الحرب وغاية مطلوبهم في هذه النازلة الاستكثار من ضروب المتاجرة التي ينشأ عنها في الغالب كثرة المازجة بيننا وبينهم ولعمري أن في اختلاطهم بنا وممازجتهم لنا لمضرة وأي مضرة وما يعقلها إلا العالمون ولكنها تستصغر بالنسبة إلى
____________________

مضرة المحاربة وليس من الرأي والسياسة أن يدعوك خصمك إلى السلم فتدعوه إلى الحرب ما وجدت إلى السلم سبيلا وهذا هو الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية فإنه قال لأصحابه لما اغتاظوا من ذلك الصلح وقال بعضهم والله ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصد هدينا بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبوا إليكم من الأمان إلى آخر ما قاله صلى الله عليه وسلم وإلى هذا ونحوه الإشارة بقوله تعالى { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله } الأنفال 61 ذكر تعالى ذلك عقب قوله { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } الأنفال 60 إشارة إلى أن الصلح يجوز ولو كان بالمسلمين قوة واستعداد كما نبه عليه بعض المفسرين فكيف ولا قوة ولا استعداد إلا أن يتداركنا الله بلطف من عنده واختلف المفسرون هل الآية منسوخة أم لا والصحيح كما في الكشاف وغيره إن الأمر موقوف على مايرى فيه الإمام مصلحة للإسلام وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا أو يجابوا إلى الهدنة أبدا ا هـ وهذ مذهبنا ومذهب غيرنا ولذلك جازت عندنا الهدنة وإن على مال كما مر فدلت الآية الكريمة على أن السلم أولى من الحرب وهذا هو المعلوم المسلم شرعا وطبعا أما الشرع فهذه الآية وقصة الحديبية وقوله تعالى { والصلح خير } النساء 128 وقوله { والفتنة أشد من القتل } البقرة 191 وهاتان الآيتان وإن نزلتا في شيء خاص لكن يجوز الاستشهاد بهما فيما نحن فيه وفي غيره إذ هما من الكلام الجامع الجاري مجرى المثل والحكمة وعن علي رضي الله عنه ما دعوت إلى المبارزة قط وما دعاني أحد إليها إلا أجبته فقيل له في ذلك فقال الداعي إلى الحرب باغ والباغي مصروع وأما الطبع فلا يحتاج إلى شاهد لأن كل عاقل يعلم أن السلم خير من الحرب وقد قال شريك لمعاوية رضي الله عنهما في مقاولة جرت بينهما إنك ابن حرب والسلم خير من الحرب وقال الحصين بن نمير السكوني لابن الزبير رضي الله عنه يوم مات يزيد اذهب معي إلى الشام لأدعو الناس إلى بيعتك فلا يتخلف عنك أحد فقال ابن
____________________

الزبير أما دون أن أقتل بكل واحد من أهل الحجاز عشرة من أهل الشام فلا وجعل ابن الزبير يجهر بذلك فقال له الحصين أكلمك سرا وتكلمني جهرا وأدعوك إلى السلم والخلافة وتدعوني إلى الحرب والمناجزة كذب من زعم أنك داهية العرب ا هـ فقد عاب عليه ذلك من جهة الرأي كما ترى وأنشد صاحب الكشاف وغيره لدى قوله تعالى { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } الأنفال 61 قول العباس بن مرداس رضي الله عنه
( السلم تأخذ منها ما رضيت به ** والحرب يكفيك من أنفاسها جرع )
وفي كتاب الفتن من صحيح البخاري ما نصه كان السلف يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن
( الحرب أول ما تكون فتية ** تسعى بزينتها لكل جهول )
( حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ** ولت عجوزا غير ذات حليل )
( شمطاء ينكسر لونها وتغيرت ** مكروهة للشم والتقبيل )
قال القسطلاني المراد أنهم يتمثلون بهذه الأبيات ليستحضروا ما شاهدوه وسمعوه من حال الفتنة فإنهم يتذكرون بإنشادها ذلك فيصدهم عن الدخول فيها حتى لا يغتروا بظاهر أمرها أولا ا هـ ولا شك أن هذه حالة العامة الأغمار الذين لم تضرسهم الحروب ولا حنكتهم التجارب تجدهم إذا ظهرت مخايل فتنة نسأل الله العافية استشرفوا إليها وتمنوا خوضها وربما تألى بعضهم وقال والله لئن حضرتها لأفعلن وأفعلن وقد قال عليه الصلاة والسلام لا تتمنوا لقاء العدو وحال هذا الغمر المتألي هو الذي أفصح عنه المتنبي بقوله
( وإذا ما خلا الجبان بأرض ** طلب الطعن وحده والنزالا )
فهذا القطر المغربي تدارك الله رمقه على ما ترى من غاية الضعف وقلة الاستعداد فلا تنبغي لأهله المسارعة إلى الحرب مع العدو الكافر مع ما هو عليه من غاية الشوكة والقوة وقد تقرر في علم الحكمة أن المعاندة والمدافعة إنما تحصل بين المتضادين والمتماثلين ولا تحصل بين المتخالفين وحالنا اليوم مع العدو ليس من باب التضاد ولا من باب التماثل وإنما هو من
____________________

باب التخالف فافهم بل لو فرضنا أن أهل المغرب اليوم مماثلون للعدو في القوة والاستعداد لما كان ينبغي لهم ذلك لأنه ليست العدة وحدها كافية في الحرب ولا كثرة الرجال والمقاتلة وحدها بالذي يغني فيها شيئا بل لا بد مع ذلك من اجتماع الكلمة وكون الناس فيها على قلب رجل واحد ولا بد مع ذلك من ضابط بجمعهم وقانون يسوسهم حتى تكون الجماعة كالبدن الواحد يقوم جميعا ويقعد جميعا وهذا معنى ما صح في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا فإن لم يكن ضابط وقانون فلا بد من نفاذ البصيرة في الدين وقوة اليقين والألفة فيما بين المسلمين والغيرة على الوطن والحريم وجودة الرأي والتمرس بالحروب ومكايد المشركين وأهل المغرب اليوم إلا القليل منسلخون من هذا كله أو جله فقد توالت عليهم الأجيال في السلم والهدنة وبعد عهد أسلافهم فضلا عنهم بالحرب وشدائدها ومعاناة الأعداء ومكايدها وإنما همهم مأكولهم ومشروبهم وملبوسهم كما لا يخفى حتى لم يبق من هذه الحيثية فرق بينهم وبين نسائهم وليس الخبر كالعيان فكيف يحسن في الرأي المسارعة إلى عقد الحرب مع أجناس الفرنج وما مثلنا ومثلهم إلا كمثل طائرين أحدهما ذو جناحين يطير بهما حيث شاء والآخر مقصوصهما واقع على الأرض لا يستطيع طيرانا ولا يهتدي إليه سبيلا فهل ترى لهذا المقصوص الجناحين الذي هو لحم على وضم أن يحارب ذلك الذي يطير حيث شاء وهل يكون في ذلك إن كان إلا هلاك هذا وسلامة ذاك بل وغنيمته فإن ذاك ينقر هذا متى وجد فيه فرصة للنقر ويبعد عنه ويطير إذا لم يجدها وهكذا يستمر حاله معه حتى يثبته أو يملكه بالكلية وليس في طوق هذا إلا أن يدفعه عن نفسه في بعض الأحيان إذا تأتى له ذلك ولكن إلى متى فهكذا حالنا مع عدونا فإنه بقراصينه الحربية ذو أجنحة كثيرة فهو علينا بالخيار يهجم علينا في ثغورنا إذا شاء ويبعد عنا فلا ندركه متى شاء وقصارانا معه الدفع عن أنفسنا إذا اتفقت كلمتنا ولم تشغلنا غوغاء الأعراب من خلفنا وهيهات فقد جرب ذلك مرارا فصح والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين كما قال عليه السلام والكلام في
____________________

هذا الفصل أيضا طويل وفيما أشرنا إليه كفاية فإن قلت أراك قد صيرت الجهاد الذي حث عليه الشرع ووعد عليه بالثواب العظيم محض فتنة وقد زهدت الناس فيه وقطعت آمالهم منه بهذا الكلام قلت أعلمت يا أخي ما هو الجهاد الذي حث عليه الشرع ووعد عليه بالثواب العظيم اعلم أن الجهاد المذكور هو قتال أهل الشرك والطغيان على إعلاء كلمة الرحمن لينساقوا بذلك إلى الدخول في دين الله طوعا أو كرها ولتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى مع نفاذ البصيرة وخلوص النية والغيرة على دين الله وكل ذلك بشرط القوة المكافئة أو القريبة منها ومهما اختل ركن أو شرط مما ذكرنا كان إلى الفتنة أقرب منه إلى الجهاد بل نقول إن الجهاد الشرعي قد تعذر منذ أحقاب فكيف تطلبه اليوم فإن كنت تسارع إلى الحرب لتدركه جهلا منك بحقيقة الأمر فاعلم أنك إنما تسارع إلى إيقاد نار الفتنة وايجاد العدو السبيل عليك وإمكانه من ثغرتك وتسليطه على السبي لحريمك ومالك ودمك نسأل الله العافية اللهم إلا أن تكون ممن اختارهم الله وأهلهم لذلك وكتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه كما نسمع اليوم عن أمة الحبشة والنوبة الذين يقاتلون عساكر النجليز على تخوم صعيد مصر وغيرها فقد تواتر النقل وصح الخبر أن دولة النجليز قد بارت حيلها مع هؤلاء القوم وأنها وجهت إليهم العساكر من الديار المصرية بكل قوة وشوكة مرة بعد أخرى فمحقوهم محقا مع أنهم لايقاتلونهم في الغالب إلا بالحراب على عادة السودان في ذلك والنصر بيد الله وأما الوجه الثالث وهو الفهم عن الله تعالى والنظر في تصرفاته سبحانه في هذا الوجود بعين الاعتبار فهذا حق الكلام فيه أن يكون من أرباب البصائر المتنورة والقلوب المطهرة لا من أمثالنا الذين أصبحوا على أنفسهم مسرفين وفي أودية الشهوات منهمكين تداركنا الله بلطفه لكنا نقول وإن كان القول من باب الفضول إذا نظرنا ما عامل الله تعالى به عبده أمير المؤمنين مولانا الحسن أيده الله وجدناه والحمد لله مصنوعا له مصحوبا بالعناية الإلهية مكلوء بعين الرعاية الربانية تصحبه السعادة أينما توجه ويختار له في جميع ما يحاوله ولا تنجلي مهماته إلا عن
____________________

ما يسر الصديق ويسوء العدو فالحمد لله على ذلك حمدا كثيرا وهو مع ذلك جميل الظن بربه حسن العقيدة في توكله عليه مفردا وجهته إليه حريصا على استصلاح رعيته ذا غيرة تامة على الدين والوطن بحيث فاق بذلك وغيره من خصال الخير كثيرا من ملوك عشيرته الذين تقدموه وإذا كان كذلك فمن الرأي الذي لا رأي فوقه أن نفوض إليه في ذلك ونثق بحسن رأيه ويمن نقيبته ونجاوبه في هذه النازلة بأن الأمر في ذلك إليه لا إلى غيره إذ هو الذي طوقه الله أمرنا وكلفه النظر لنا والنصح لدينا وإن كان لا بد من المشورة فليست إلا مع أهل الحل والعقد وقد قال العلماء أهل الحل والعقد هم أهل العلم والدين والبصر بهذا الأمر الخاص لأنه يشترط في كل من ولي النظر في أمر ما من الأمور العلم به فما اختاره أمير المؤمنين اخترناه وما انشرح له صدره وأمضاه أمضيناه وكيف لا وما عوده الله إلا خيرا { وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم } الآية وعسى أن يكون فيما طلبه هؤلاء الأجناس فساد أمرهم وصلاح أمرنا وذلك الظن به تعالى وما هو عليه بعزيز فيكون تدميرهم في تدبيرهم وقد استروحنا والحمد لله نسيم الفرج مما كنا فيه قبل اليوم تمم الله علينا نعمته آمين وأيضا ففي التفويض في هذه النازلة ضرب من التبري من الحول والقوة فحيث ساقت الأقدار إلينا هذا الأمر فينبغي أن نتلقاه بالرضى والتسليم بخلاف ما إذا استعملنا فيه حيلتنا ورأينا فيكون من باب الدخول في التدبير وشتان ما بين التفويض والتدبير والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته قاله وكتبه أحمد بن خالد الناصري كان الله له في عاشر شعبان سنة ثلاث وثلاثمائة وألف ا هـ ثم إن الله تعالى لطف في هذه النازلة بمنه اللطيف الجميل وكفى مؤنتها من ذلك المطلوب بشيء قليل وذلك أن السلطان أيده الله سرح لهم وسق القمح والشعير ثلاث سنين ووضع عنهم من صاكتهما نحو الربع لا غير ولم يحصل والحمد لله للرعية ضرر قط
ثم دخلت سنة أربع وثلاثمائة وألف فيها كتب السلطان مولاي الحسن أيده الله إلى علماء فاس كتابا يستفتيهم في حكم التجارة في الأعشاب المرقدة
____________________

والمفسدة ويستشيرهم في تسريحها وإمساكها ونص ذلك الكتاب بعد الافتتاح أحباءنا فقهاء فاس الأجلة المرضيين وعلماءها المرشدين سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد فطالما قدمنا رجلا وأخرنا أخرى في تسريح الصاكة التي هي الأعشاب المرقدة والمفسدة ونحوها وكان تسريحها من أهم الأمور لدينا وآكد من تسريح غيرها كالأبواب لما نجده في نفسنا لها من الاستقباح ونستقذره من أمرها في الغدو والرواح مع مزيد ثقلها على فؤادنا وكونها أحرج في روعنا وكان أسلافنا قدسهم الله اجتهدوا في قطعها وحسم مادتها بكل ما أمكنهم وأفضى بهم الحال إلى إحراقها مرارا ولما رأوا تمالؤ الرعاع والسفهاء والمقلين والمعدمين عليها ارتكبوا فيها ما يحصل به التضييق على مستعمليها وتمنع منهم فلا يلحقها إلا من عنده ما يشريها به وهم في أولئك الرعاع قليل مع النظر لما يحصل لبيت المال من النفع الكثير فحيزت لجانب المخزن لتحصيل المقصدين المذكورين وحيث قذف الله في قلبنا تسريحها ورفض درن ما يحصل منها تعارض لدينا أمران وهما إبقاؤها بيد المخزن وتسريحها أما الأول فهو الذي فررنا منه وبينا علله وأما الثاني وهو التسريح فمقتضاه إغراء الرعاع والسفهاء على استعمالها ولا سيما مع انحطاط ثمنها فيتناولها القوي والضعيف فيصير ذلك ذريعة إلى إباحة ما كانوا ممنوعين منه فيتجاهرون به ولا يخشون رقيبا ويأتي منها من بر النصارى ما لا حصر له فيعشر كسائر المعشرات المباحة وتنبني على ذلك مفاسد هي أعظم من كونها محوزة وأشكل الأمر فلتبينوا المخلص من ذلك بما تقتضيه قواعد الشريعة المطهرة حتى نخرج من عهدة ذلك فإن الخطب عظيم والسلام في الثالث والعشرين من المحرم عام أربعة وثلاثمائة وألف انتهى كتاب السلطان أيده الله وأجاب عنه علماء فاس وفرهم الله بجواب طويل مرجعه إلى حرمة استعمال تلك الأعشاب والتجارة فيها حسبما عليه الجمهور من الفقهاء والصوفية رضوان الله عليهم ولما كان المقصود الأهم للسلطان أيده الله هو الإشارة بكيفية التخلص من ورطة تسريحها والحصول على السلامة مما عسى أن ينشأ عنه من المفاسد المرموز إليها في الكتاب الشريف كتب
____________________

إلى بعض الأحبة من فاس بقصد المذاكرة في النازلة فأجبته عنها بما نصه اعلم حفظك الله أن ما أجاب به سادتنا فقهاء فاس من حرمتها ووجوب تخلي المخزن عن بيعها هو الحق الذي لا محيد عنه لما اشتملت عليه تلك الأعشاب من المفاسد العديدة التي كل واحدة منها كافية في الجزم بحرمتها وقد بينا شيئا من ذلك في كتاب الاستقصاء عند الكلام على حدوثها ودخولها لبلاد المغرب أيام المنصور السعدي فلينظره من أراده فإنه كاف في هذا الباب وأما ما أشار إليه الكتاب الشريف من أن مصلحة احتياز المخزن لها واستبداده ببيعها هي التضييق على مستعمليها حتى لا يتناولها منهم إلا الملي بثمنها دون الفقير الخ فهي مصلحة موهوبة أو معدومة لجزمنا بأن الحامل لمتعاطيها على استعمالها إنما هو التبذل وقلة المروءة ورقة الديانة وخسة النفس وسقوط الهمة كما أن الوازع لمن لم يتعاطاها إنما هو كمال المروءة ومتانة الديانة وشرف النفس وعلو الهمة لا فقدان ذلك الثمن التافه كيف لا وهي لا يتعاطاها في الغالب إلا الفقراء المقلون فمصلحة التضييق عليهم في ثمنها مفقودة كما ترى وإذا كان كذلك فالواجب شرعا ومروءة هو تنزيه منصب الإمامة الإسلامية والخلافة النبوية التي هي أهم الخطط الدينية والمناصب الشرعية عن التجارة فيها وتطهير تلك الساحة الكريمة من التلوث بأقذارها إذ لا يناسب ذلك حال مطلق المسلمين فكيف بجناب أمير المؤمنين وأيضا ففي تناول ذلك الجناب لها بالتجارة والاستبداد بالربح تهييج للعامة عليها وإغراء لهم بتعاطيها كما قرره علماء فاس حفظهم الله ولو نهوا عنها لما انتهوا بل ربما احتجوا بأنها لو كانت حراما ما احتازها المخزن واستبد بربحها ومن العادة المقررة أنه لا يمتثل إلا قول الممتثل ولا يؤتمر إلا بأمر المؤتمر ولما انبرم الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية وأمر أصحابه أن ينحروا ويحلقوا أمسكوا ولم يفعلوا حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد قام صلى الله عليه وسلم فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة رضي الله عنها يا نبي الله اخرج ثم لا تكلم منهم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيلحقك فخرج صلى الله عليه وسلم
____________________

ولم يكلم أحدا منهم حتى نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كادوا يقتتلون ا هـ فكذلك نقول هنا إن العامة مهما رأوا الأمير تعاطى شيئا تعاطوه وإذا رأوه نبذ أمرا نبذوه لأن العامة مولعون بالاقتداء بالأمير ومن في معناه من الكبراء حسبما قرره ابن خلدون في كتاب طبيعة العمران من تاريخه وأما التخوف من الإتيان بها من بر النصارى واشتغالهم بالتجارة فيها بأسواق المسلمين ونصب الدكاكين لبيعها وما ينشأ عن ذلك من المفاسد فهو مأمون بمقتضى الشروط المنعقدة بيننا وبينهم حسبما تضمنه الشرط الثاني والخامس والسابع من شروط التجارة المنعقدة مع النجليز خصوصا وغيره عموما سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف فقد صرح في الشرط الثاني منها بأن هذه الأعشاب ونحوها من جملة الممنوعات دخولا وخروجا ثم نبه على ذلك أيضا في الخامس والسابع فلينظره من أراده وإنما يكون لهم بعد تخلي السلطان عن بيعها أن يجلبوا منها ما يحتاجونه لأنفسهم فقط لا أكثر منه كالخمر ألا ترى أنهم اليوم إنما يجلبون منها ما يشربونه ويتبايعونه فيما بينهم ولا سبيل لهم إلى التجارة بها في أسواق المسلمين ونصب الدكاكين لبيعها فكذلك هذه الأعشاب حكمها حكم الخمر حذو النعل بالنعل وإذا امتنع المخزن من التجارة فيها مع بقاء منع الرعية منها أيضا فلا حجة للنصارى في ذلك ولا متكلم لهم فيه إذ ليس في امتناع المخزن حينئذ إلا تأكيد المنع الذي كان قبل وإنما تكون لهم الحجة إذا بيعت لبعض الرعايا دون بعض لأن حاصل شروط التجارة الخمسة عشر ومدارها على أن رعايا الأجناس يكون لها ما لرعية الإيالة المغربية من التحجير والإطلاق والتخصيص والتعميم بحيث لا يستبد أحد من الفريقين بنوع من أنواع التجارة دون الآخر إلا ما للمخزن فيه غرض ومصلحة في تثقيفه من أشياء مخصوصة فإنه يثقفه بنظره إذا شاء ويسرحه كذلك متى شاء وإن اقتضى نظره أن يستبد بأرباح شيء من ذلك دون رعايا الفريقين فله ذلك وإنما الممنوع أن يبيح لرعيته دون رعايا غيره أو يبيح لبعض الأجناس دون بعض هذا هو الممنوع في الشروط أما هو في خاصة نفسه ومصلحة ملكه فله أن
____________________

يستبد من تلك الممنوعات بما شاء هذا حاصل تلك الشروط وإن طالت وامتدت إذا علمت هذا فكيف يتخوف عند امتناع السلطان من بيع تلك الأعشاب مع استمرار منع الرعية منها أيضا الإتيان بها من بر النصارى ومتاجرتهم بها في أسواق المسلمين ونصب الدكاكين لها الخ هذا لا يتوهم نعم يتخوف من ذلك إذا امتنع السلطان من بيعها وأذن للناس فيه وأطلق لهم يد التصرف به وليس هذا مراد السلطان أيده الله وإن أوهمه لفظ الكتاب الشريف حيث قال طالما قدمنا رجلا وأخرنا أخرى في تسريح الصاكة الخ ولعل الكاتب أو المملي عليه لم يحرر مراد السلطان أيده الله فنسج الكتاب على ذلك المنوال وأوهم أن أمير المؤمنين أعزه الله يريد أن يمتنع من بيع تلك الأعشاب تقذرا لها وتأففا منها ويبيحها لرعيته من المسلمين وغيرهم ومعاذ الله أن يكون هذا مراده كيف وهو أيده الله من أخشى الملوك وأتقاهم لله وأحبهم لرعاياه وأحدبهم عليها وأحرصهم على جلب النفع لها ودفع الضر عنها وأعلمهم بقول جده عليه الصلاة والسلام لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه فقد بان لك من هذا التقرير أن الواجب شرعا ومروءة هو المبادرة إلى رفض التجارة في تلك الأعشاب وتطهير ساحة الإمامة الإسلامية من قذرها قال الله تعالى في وصف رسوله صلوات الله عليه { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } الأعراف 157 وكما يجب على أمير المؤمنين أيده الله تطهير ساحة الخلافة منها يجب عليه السعي في تطهير ساحة المسلمين أيضا منها لما أسلفناه آنفا فإن قلت أما ما ذكرته من المبادرة إلى تطهير ساحة الخلافة منها فسهل متيسر إن شاء الله وأما تطهير ساحة المسلمين منها فيظهر أنه في غاية الصعوبة لأن العامة إذا حملوا على رفضها كرة وألجئوا إلى ترك استعمالها بالمرة ضاق بهم المتسع وساءت أخلاقهم وحاصوا حيصة حمر الوحش وربما صدر منهم ما لا ينبغي من الإعلان بالخلاف والمجاهرة بالعصيان
ومن وصايا أرسطوطاليس الحكيم لتلميذه الإسكندر يا إسكندر تغافل عن العامة ما أمكن ولا تلجئها أن تقول فيك إلا خيرا فإن العامة إذا قدرت
____________________

أن تقول قدرت أن تفعل أو كلاما هذا معناه والحاصل أن فطم العامة عما اعتادوه من بعض الجهالات وصرفهم عما مرنوا عليه من بعض الضلالات في غاية الصعوبة ولا يتيسر ذلك إلا لمن هيأه الله له من نبي مرسل أو ولي كامل أو إمام عادل وإذا كان صرف العامة عن هذه المفسدة التي اعتادوها ونشؤوا عليها جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن يؤدي إلى الهرج والخلاف جزما أو ظنا فالواجب هو تركهم على ما هم عليه لأن تغيير المنكر له شروط منها أن لا يؤدي إلى منكر أعظم كما هو مقرر في الأصول والفروع
قلنا كل ما قررته في هذا السؤال حق لا محيد عنه ولكن نحن لا نقول إن أمير المؤمنين أيده الله يحمل العامة على رفضها كرة ويلجئهم إلى تركها بالمرة بل يسلك معهم في ذلك سبيل التدريج كما سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الخمر على العرب فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم والعرب من أعشق الأمم للخمر وأشدهم بها ولوعا وأكثرهم لها حبا حتى كانت شقيقة روحهم ومغناطيس أنسهم قد اتخذوا لها المجالس الحفيلة واختاروا لها القينات الجميلة وضربوا عليها بالمعازف والدفوف وحكموا لها على غيرها من مألوفاتها بغاية الشفوف حتى نسبوا بها في أشعارهم وتوجوا بها بنات أفكارهم وبالجملة فلا يؤثر عن أمة من محبة الخمر ومدحها ما أثر عن العرب فلذلك لما انصرفت عناية الشرع الكريم إلى تحريمها كان ذلك على سبيل التدريج كما هو معلوم في الكتاب والسنة حتى تم مراد الله ورسوله من العرب فرفضوها بالكلية وسماها الشارع أم الخبائث زيادة في التنفير منها وما حرمت آلات اللهو إلا من أجلها ومبالغة في تحريمها إذ هي وسيلة إليها كما حققه الغزالي رحمه الله في كتاب السماع من الإحياء وفي تفسير الخازن بعد سرده كيفية التحريم ما نصه والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أن الله تعالى علم أن القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم بذلك كثيرا فعلم أنه لو منعهم من الخمر دفعة واحدة لشق عليهم فلا جرم استعمل هذا التدريج وهذا الرفق قال أنس رضي الله عنه حرمت الخمر ولم يكن للعرب يومئذ عيش أعجب منها وما
____________________

حرم عليهم شيء أشد عليهم من الخمر ا هـ إذا علمت هذا فنقول كذلك ينبغي لأمير المؤمنين أيده الله أن يسعى في تطهير رعيته من خبث هذه الأعشاب التي لا شيء أخبث منها كما أوضحته في كتاب الاستقصاء ويسلك معهم فيها سبيل التدريج صارفا همته إليه ومستعينا بالله ومتوكلا في ذلك عليه فإنه لا يصعب ذلك عليه إن شاء الله
( إذا كان عون الله للمرء ناصرا ** تهيأ له من كل صعب مراده )
وقال البوصيري لسيد الوجود صلى الله عليه وسلم أقول ولأمير المؤمنين من حال جده قسط والحمد لله
( كل أمر تعنى به تغلب الأعيان ** فيه ويعجب البصراء )
وكيفية التدريج في ذلك أن يأمر أيده الله علماء المجالس وخطباء المنابر ووعاظ الكراسي بالتواطىء على ذم تلك الأعشاب وتقبيحها في نفوس العامة وإبداء معايبها لهم وشرح مفاسدها لديهم والتغليظ في ذلك بأبلغ ما يمكن ومن قدر على تأليف ألفه أو شعر نظمه أو رسالة أنشأها ويستمرون على ذلك ثلاثة أشهر أو أربعة أو أكثر من ذلك فإن ذلك لا بد أن يؤثر في نفوس العامة بعض التأثير فإن الهمم إذا تواطأت على شيء أثرت فيه بعون الله لا سيما همم أهل الخير وفي الحديث يد الله مع الجماعة ثم بعد مضي هذه المدة وتقرر قبحها في نفوس العامة يكتب أمير المؤمنين أيده الله إلى قضاته ويأمرهم بتفقد الشهود وأئمة المساجد فمن عثروا عليه أنه يستعمل شيئا من تلك الخبائث أسقطوا شهادته وحظروا إمامته وأن لا يقبلوه ولو في اللفيف ويوالي الكتابة والاعتناء بذلك مدة مثل الأولى أو أكثر فيزداد قبحها في نفوس العامة وتعزف نفوس كثير منهم عنها ثم بعد هذا كله يكتب لولاة الأمصار وعمال البوادي أن يتقدموا إلى رعاياهم بمنع ازدراعها وادخار شيء منها أو التجارة فيه بوجه من الوجوه فإذا تم هذا الغرض على هذا الوجه تخلى هو حينئذ عن بيعها وأمر بإحراق باقيها وسد حاناتها المسماة في عرفنا بالقهاوي ويمنع الناس من استعمالها في المجامع العامة كالأسواق ونحوها ويشدد في ذلك ويعلن بالنداء في جميع الإيالة المغربية بأن حكم هذه
____________________

الأعشاب حكم الخمر فكما لا يتجاهر بالخمر في الأسواق ونحوها كذلك لا يتجاهر باستعمال هذه الأعشاب فيها ومن فعل ذلك أدب أدبا يليق به ويرتدع به غيره فهذا أقصى ما يفعله السلطان والتوفيق بعد ذلك بيد الله وإذا تم هذا العمل في نحو ثلاث سنين فهو قريب وإذا يسر الله ذلك كان فيه بشرى للمسلمين وعنوانا لهم على تجديد دينهم ولعمري ما كان أمر الخمر في العرب إلا أرسخ من أمر هذه الأعشاب في الناس اليوم بكثير وأن الشبهة كانت فيها أقوى منها في هذه وذلك مظنة سهولة زوالها وتطهير البلاد والعباد منها وما ذلك على الله بعزيز قاله وكتبه أحمد بن خالد الناصري لطف الله به في خامس عشر ربيع الثاني سنة أربع وثلاثمائة وألف
ثم إن السلطان أيده الله رفض التجارة فيها وأحرق ما كان محوزا لجانب المخزن منها ومنع تجار الأجناس من جلبها إلى قطر المغرب إلا القدر الذي يستعملونه في خاصة أنفسهم منها بشرط تعشيره وقصر نزوله على مرسى طنجة دون سائر المراسي المغربية والحال على ذلك لهذا العهد
ولما دخلت سنة خمس وثلاثمائة وألف غزا السلطان مولاي الحسن أيده الله آيت ومالو من برابرة فازاز وهم بطن من صنهاجة يشتمل على أفخاذ كثيرة مثل ظيان وبني مكيلد وشقيرين وآيت سخمان وآيت يسري وغيرهم أمم لا يحصيهم إلا خالقهم قد عمروا جبال فازاز وملؤوا قننها وتحصنوا بأوعارها منذ تملك البربر المغرب قبل الإسلام بأعصار طويلة فلما كانت السنة المذكورة خرج السلطان من مكناسة الزيتون عاشر رمضان منها بقصد غزو هذه القبائل العاصية وتدويخ بلادها إذ لم تكن تبذل الطاعة إلا للواحد بعد الواحد من ملوك دول المغرب في الأعصار المتراخية حسبما يعلم مما أسلفناه في هذا الديوان من أخبارهم وأخبار غيرهم فانتهى السلطان إلى تلك الجبال ودوخها ثم إلى قصبة آدخسان التي بناها المولى إسماعيل رحمه الله فوفد عليه هناك جل تلك القبائل وبذلوا الطاعة وأظهروا الخضوع وبذلوا المؤن والأنزال للجيش والهدايا للسلطان إلا ما كان من آيت سخمان فإنهم أظهروا الطاعة أولا كغيرهم وطلبوا من السلطان أن يبعث معهم طائفة من
____________________

الجيش ليدفعوا لهم المؤن وما وظف عليهم من الهدايا والأنزال فأرسل معهم السلطان مائتي فارس وعقد عليهم لابن عمه الشريف الفاضل الناسك مولاي سرور بن إدريس بن سليمان وجده سليمان هذا هو أحد ملوك هذه الدولة العلوية حسبما تقدم فلما توسطوا حلة آيت سخمان مع العشي تناجوا فيما بينهم والشيطان لا يفارقهم فاتفقوا على الغدر بأصحاب السلطان وفرقوهم على مداشرهم وحللهم فلما كان وقت العشاء الأخيرة أظهروا علامة بينهم وسعت كل طائفة إلى من عندها من أصحاب السلطان فأوقعوا بهم فقتلوا منهم نحو العشرين على ما قيل وأفلت الباقون بجريعاء الذقن وكان فيمن قتل منهم كبيرهم الشريف مولاي سرور المذكور وكان من خيار عشيرته رحمة الله عليه رموه برصاصة وطعنوه بتفالة وكانت هذه الفعلة الشنعاء بإشارة كبيرهم علي بن المكي من بقية آل مهاوش الذين تقدم الخبر عنهم في دولة السلطان مولاي سليمان رحمه الله ثم أسروا من ليلتهم تلك فلم يصبحوا إلا بآيت حديدو وآيت مرغاد وغيرهما من قبائل البربر وتفرقوا شذر مذر وبقي منهم نفر يسير على ما قيل فقبض عليهم من الغد وضربت أعناقهم وقال بعض من حضر الوقعة إنهم لما فعلوا فعلتهم هربوا من تحت الليل وتركوا زروعهم وأمتعتهم في مداشرهم ولما انتهى الخبر إلى السلطان بعث في طلبهم طائفة من عسكره وضم إليهم خيل شقيرين إخوانهم وكانوا راكبين مع السلطان مظهرين للطاعة فانتهبوا أمتعتهم وانتسفوا رزوعهم وهدموا أبنيتهم وحرقوا بيوتهم وأبلغوا في النكاية وتحامت خيل شقيرين ذلك إبقاء على إخوانهم وتعصبا للبربرية وربما دسوا إليهم من أعلمهم بالحال وأمرهم بالإبعاد في الارتحال ولما اطلع السلطان على خبيئة شقيرين أمر بنهب حللهم وأسر من ظفر به منهم وقتله فأوقع بهم جيش السلطان وقعة شنعاء فأسروا منهم عددا وافرا وضربوا أعناق نحو الثلاثين منهم وانتهبوا حللهم ومداشرهم حتى كأن لم تغن بالأمس ومن الغد جاءت نساؤهم وأطفالهم فاستجاروا بالمدافع واستغاثوا بالسلطان فرق لهم وسرح مساجينهم وكساهم وعفا عنهم وكان هذا كله في أواخر ذي القعدة من السنة المذكورة أعني
____________________

سنة خمس وثلاثمائة وألف ثم قفل السلطان راجعا فدخل مكناسة الزيتون أواخر ذي الحجة خاتمة السنة المذكورة
ثم دخلت سنة ست وثلاثمائة وألف فيها غزا السلطان جبال غمارة فخرج من حضرة فاس عاشر شوال من السنة المذكورة فسلك تلك الجبال ودوخها وزار تربة الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر أبا محمد عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه ثم تقدم إلى مدينة تطاوين فدخلها يوم الأربعاء ثامن المحرم من السنة التي تليها أعني سنة سبع وثلاثمائة وألف فأقام بها نحو الخمسة عشر يوما وزار صلحاءها وتطوف في معالمها وتبارى وجوه أهل تطاوين وكبراؤهم في الإهداء إليه وبذل المجهود في الاعتناء بحاشيته وجيشه وأعجب ذلك السلطان وحاشيته ورأوا منهم ما تقر به أعينهم وأنعم عليهم السلطان بعشرة آلاف ريال لبناء قنطرة يرتفقون بها في واديهم المحيط بمدينتهم لكن لم يحصل مقصود من ذلك لعدم إتقان بنائها فتهدمت في الحال وضاع ذلك المال ثم سار السلطان من تطاوين إلى طنجة ثم منها إلى العرائش ثم عاد إلى فاس فأقام بها إلى أواسط شوال من السنة المذكورة ثم غزا آيت سخمان الذين قتلوا ابن عمه مولاي سرور فأوقع بهم وقبض على نفر منهم ولم يتمكن منهم على ما ينبغي ثم سار إلى مراكش فأعرس لجماعة من بنيه وبناته ووفدت عليه الوفود من أقطار المغرب بالتهنئة وتباروا في الهدايا والتحف على ما ينبغي وبالغ السلطان في إكرامهم وإفاضة الإنعام عليهم واستمر أيده الله على كرسي ملكه وأريكة عزه وسلطانه والأيام سلم له والدنيا مهنأة بعزه ونصره والرعية طوع نهيه وأمره إلا ما كان من نواب أجناس الدول فإنهم أكثروا التردد إليه والاقتراحات عليه والتلونات لديه فمرة بالنصائح الفارغة ومرة بالتظلمات الباطلة والحجج الواهية وأخرى بطلب التخفيف من الأعشار والتنقيص من الصاكات إلى غير ذلك مما لا تكاد تقوم له الجبال الراسية وهو يدافعهم ويراوغهم وحيدا لا ناصر له ولا معين إلا الله الذي أيد به الدين وعصم به الإسلام والمسلمين
ولما كانت سنة عشر وثلاثمائة وألف خرج السلطان مولاي الحسن أيده
____________________

الله غازيا صحراء تافيلالت وقبائلها فخرج إليها من فاس عقب عيد الأضحى من السنة المذكورة فقضى الأوطار من تمهيد تلك الأقطار على ما ينبغي ثم كتب كتابا إلى ولاة المغرب يصف فيه الحال وما قاساه في تلك السفرة من الحل والارتحال فقال في كتابه بعد الافتتاح والطابع المشتمل على اسمه المبارك ما نصه وبعد فإن الله تعالى لما أقام عبده بمحض الفضل والاختيار وأورثه الأرض وعمر به الأقاليم والديار لم تكن لنا همة فيما عدا السعي في صلاح المسلمين وانتظام أمورهم وجمع كلمة المؤمنين ولم نأل في ذلك جهدا حتى يسر الله سبحانه قبل في الوصول إلى سائر قبائل رعيتنا السعيدة وتخللنا أراضيهم كلها بجيوش الله المصحوبة بالعناية المزيدة فلم نترك من الأقاليم إلا النزر الغير المعتبر أو ما كان في الوصول إليه إلا مجرد المشقة والضرر وتفقدنا من أحوالها الأمور وأجريناها على ما يرضي الله من الاستقامة في الورود والصدور وكان مما بقي علينا الوصول إليه هذه الأصقاع الصحراوية والمعاقل البربرية التي كان يفهم قبل أنها صعبة المرتقى عديمة وجوه الارتقا فاستخرنا الله تعالى وتوكلنا عليه وفوضنا الأمر كله إليه وعلمنا أنه تعالى إذا أراد أمرا هيأ له الأسباب وفتح إلى الوصول إليه المغالق والأبواب وكل شيء منه وإليه كما قال ابن عطاء الله في حكمه إذا أراد أن يظهر فضله عليك خلق ونسب إليك وما من نفس تبديه إلا وله فيك قدر يمضيه فنهضنا من حضرتنا العلية فاس المحمية واستقبلنا هذه النواحي البربرية ونصر الله وفتحه يواليان علينا في كل أوان ويتجددان ما تجدد الملوان ونعم الله لدينا متسابقة وتدبيرات قدرته الجلية لنا محكمة العقد متناسقة فجاوزنا بلاد آيت يوسي مرورا وعبرنا بلاد بني مكيلد عبورا ووجدناهم جميعا منقادين للطاعة أتم انقياد ملقين لجانبنا العالي بالله الرسن والمقاد واقفين مع النهي والأمر لم يتخلف عنهم في ذلك زيدهم ولا عمرو واستقبلنا بجيوش الله المنصورة وجنوده الموفورة قبيلة آيت أزدك الذين هم بيت القصيد وعتبة القصيد فسيقت إليهم من الله الهداية وطويت عنهم اعلام الضلالة والغواية وتلقونا بأوائل بلادهم خائفين وجلين ومن
____________________

سطوة الله فزعين فجنحنا للعفو إيثارا له وحرصا على حقن الدماء وعدولا عن القتال نظرا للصبيان والعجائز والشيوخ وضعفاء الحال ومعاملة بالصفح لمن كان منهم ضل وغوى أخذا بقول الله تعالى { وأن تعفوا أقرب للتقوى } البقرة 237 وبعد أن تحققت منهم التوبة وسعوا في تحصيل مرضات الله وخاطرنا الشريف بما محا عنهم الهفوة والحبوة وصير سيئاتهم حسنات وأبعدهم عن المثلات فقابلناهم بما أزال دهشتهم وفزعهم وكشف جزعهم فانشرحوا وسايروا ركابنا الشريف في زيهم وجموعهم بسرور ونشاط مغتبطين بمقدمنا السعيد أتم اغتباط إلى أن خيمنا عليهم بأوطاط فأظهروا من حسن الامتثال والطاعة ما وصلوا به إلى الغاية وقاموا بواجب المحلة السعيدة من الضيافات والمبرة وشرعوا على الفور في دفع ما وظفناه عليهم من الأموال متسارعين إلى الأداء في الحال منقادين لكل ما أريد منهم من الأعمال فنهضنا للتخييم بمركز بلادهم على وادي زيز وحادي الميامين يحدو بالفتح المبين والنصر العزيز فاستوفينا منهم فيه ما بقي من المفترض وحصلنا منهم بعناية الله على غاية الغرض ثم ارتحلنا عنهم مصحوبين بكتيبة منهم معتبرة وافرة العدد كثيرة المدد مشتملة على عدد له بال من خيولهم وصناديد رجالهم وحللنا ببلاد آيت مرغاد فتلقوا ركابنا الشريف بطاعة وخضوع وانقياد مظهرين الإذعان في كل ما منهم يراد وقاموا بأداء الفرائض والنوافل مبتهجين بطلعتنا الشريفة في سائر المنازل وكل ذلك بتيسير الله وتسديده وإرشاده وتوفيقه وإرادته وتسهيله كما قال صاحب الحكم ما توقف مطلب أنت طالبه بربك ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك مع سياسة صدقت بها أنباء الكتب وادخرت بها المرهفات في الحقب وحقنت الدماء بإراقة مداد الأقلام وصينت الأعراض وأغنى الكلام السياسي عن الكلام ودوخنا بلادهم كلها غورها ونجدها على ما هي عليه من الوعورة وتعاظم الجبال التي يخال أنها تنادم القمر وتصافح الكوكب مهما بزغ وظهر فسبحان الله ما أعظم شأنه وأوضح برهانه إلى أن حللنا بمركز أرضهم بتادغوست وبها قرار قطب رحاهم في جاهليتهم المفسد علي بن
____________________

يحيى المرغادي الذي طالما حذره الإنذار ولسان حاله يقول لا حياة لمن تنادي فوقع القبض عليه ووجهناه مصفدا إلى مراكش على سنة الله فيمن زلت به القدم وصار حليف التأسف والندم وأراح الله منه العباد وطهر منه البلاد وفيما قبل ذلك كنا وجهنا من يستوفي من آيت حديدو ما وظف عليهم في المغارم ويأتي من عندهم بما هو لهم لازم فلم يظهر منهم ما يفيد ورجع الموجهون بغير طائل ولا عتيد فترصدنا من أعيانهم وأهل الحل والعقد منهم جماعة وافرة تقرب من المائتين وقبضنا عليهم بأجمعهم جزاء وفاقا حتى يؤدوا جميع ما فرض عليهم بحول الله وتوجهنا والسعادة تقدمنا والميامين تحفنا وصحبة ركابنا الشريف من جيش آيت مرغاد قدر كثير العدد قوي المدد مشتمل على ألوف من الخيل والأبطال وليوث الحرب والنزال إلى أن وصلنا إلى قصر السوق فوجدنا به جيش خدامنا آيت عطة في انتظار جانبنا الشريف لمصاحبة ركابنا السعيد المنيف وهم في عدد عديد وقوة ما عليها من مزيد يقربون من الأربعة آلاف فارس وكلهم ليوث عوابس ومعهم من رماة إخوانهم عدد كثير معتبر كأنهم سيل إذا انحدر فنهضوا مع جانبنا العالي بالله في جموعهم وكثرة عددهم وعديدهم إلى مدغرة فتبركنا منها بمواطىء الأسلاف وتعاهدنا أمور أهلها بحسن مباشرة وإسعاف وأنعمنا على شرفائها بعشرين ألفا من الريال ووجهناها إليهم صحبة ولدنا مولاي عبد العزيز أصلحه الله وفرقت فيهم صلة لهم وأداء لحقوق القرابة والاتصال وتزودنا من دعائهم الصالح بمقبول مستجاب يرجى أن لا يكون بينه وبين الله حجاب ونهضنا عنهم إلى بلاد عرب الصباح فتلقوا مواكبنا السعيدة في زيهم بفرح وانشراح وقاموا بالواجبات من الميرة والضيافات ودفعوا في الحين جميع المفروضات ونهضنا من بلادهم إلى تافيلالت بقصد زيارة جدنا الأكبر القطب الواضح ذي السر الأظهر مولانا علي الشريف رضي الله عنه ونفعنا به فخرج أهلها من جميع الشرفاء والعامة لملاقاتنا رجالا ونساء وصبيانا وشيوخا وكهولا أفواجا أفواجا جموعا وفرادى وأزواجا وحصل لهم ابتهاج عظيم برؤيتنا وامتلؤوا فرحا وسرورا
____________________

بمقدمنا وانشرحت هنالك الخواطر وسرت الضمائر وأدينا واجبا بصلة رحم من هنالك من ذوي القرابة والرحم وكان ذلك عندنا من الأمر المهم وأنعمنا عليهم بعشرين ألف ريال أخرى كأهل مدغرة وجهناها إليهم مع ولدينا مولاي عبد العزيز ومولاي بلغيث حفظهما الله وقسمت فيهم صلة وأقمنا هناك ثمانية عشر يوما بقصد الاستراحة والزيارة ومشاهدة آثار الأسلاف قدسهم الله وما اجلها مآثر وأعظم سناها في تلك المظاهر وعاينا ما لهم من الأملاك والأصول وتفقدناها بما أحيا مواتها كفاحا وازدادت به بهجة ونجاحا فلله الحمد بداية ونهاية وله مزيد الشكر أولا وغاية نسأله سبحانه أن يجعل ما ارتكبناه في ذلك كله خالصا لوجهه جاريا على سبيله المستقيم ونهجه ويتقبله بأحسن قبول ويبلغنا في صلاح المسلمين غاية المأمول ويجعل في طاعته الحركة والسكون وعلى حوله وقوته الاعتماد والركون وقد نهضنا إلى حضرتنا الشريفة المراكشية سائلين من الله سبحانه الإعانة والقوة والتيسير وبلوغ الأمنية وأعلمناكم لتكونوا مستبصرين بما كان وتفرحوا بفضل الله وفتحه ونصره في الإسرار والإعلان وهو المسؤول سبحانه أن يجعل البداية عنوان الاختتام ويبلغنا من كل خير غاية المرام والسلام في خامس عشر جمادى الأولى عام أحد عشر وثلاثمائة وألف انتهى كتاب السلطان أيده الله
وكان رجوعه إلى مراكش على طريق الفائجة ولما انتهى إلى ثنية الكلاوي أصاب الناس ثلج كثير وبرد شديد تألموا منه حتى السلطان ثم خلصوا منه بعد عصب الريق وفي مدة غيبة السلطان هذه حدثت حرب شديدة بين زناتة الريف وبين نصارى الإصبنيول من أهل مليلية وما والاها فمحقتهم زناتة محقا وشردوا بهم من خلفهم استئصالا وقتلا وكان السبب في ذلك أنهم اقترحوا على السلطان أن يزيدهم في مساحة أرض مليلية على عادتهم في كثرة الاقتراحات والتلونات فأسعفهم وزادهم من أرض زناتة نحو الغلوة وصار الحد المشترك بين الفريقين قريبا من تربة ولي الله سيدي وارياش وهو عند أهل تلك البلاد عظيم القدر شهير الذكر يتناوبونه للزيارة ويتبركون
____________________

به ويدفنون عنده موتاهم فلم يحل لنصارى مليلية بناء العسات وغيرها إلا بمحل يشرف على تربة الولي المذكور ويكشف عنها فراودهم أهل الريف عن التخلي عن ذلك الموضع والبناء بغيره فأبوا وأصروا على الامتناع وربما لسعوهم بما أحفظهم من الكلام المؤلم على عادتهم في ذلك فإن هذا الإصبنيول منذ كانت له الغلبة في حرب تطاوين وأهل المغرب معه في عناء شديد من كثرة ما يتعنت ويتجنى عليهم ويسمعهم من محفظات الكلام وصريح الملام لا سيما أوباشهم ورعاعهم وتالله لقد سمعت أذناي من ذلك ما يضيق له الصدر ولا ينطلق به اللسان وإذا رفعت الشكاية بهم إلى أكابرهم غمصوا الحق وجادلوا بالباطل هذا دأبهم وديدنهم وإلى الله وحده المشتكى وله سبحانه العتبى حتى يرضى ولا حول ولا قوة إلا به فلما سلكوا هذا المسلك ونحوه مع أهل الريف أذاقوهم من بأسهم شديد العقاب وأليم العذاب كما هو معلوم فلما احتل السلطان أيده الله بحضرة مراكش من هذه السفرة قدم عليه وفد الإصبنيول يطلبون الإنصاف من أهل الريف في هذه النازلة واستصحبوا معهم سربا من الحمام الطيار بالمكاتيب والأخبار ودار الكلام بينهم وبين السلطان في النازلة وحكم فيها من لم يكن ذا بصيرة بمعضلات النوازل من غافل أو متغافل فوقع الفصل على أن يدفع السلطان عن دماء قتلاهم أربعة ملايين من الريال وتم الصلح على ذلك وكانوا في تلك المدة كلما دار بينهم وبين السلطان كلام في القضية أطاروا به الحمام إلى أرباب دولتهم بمادريد والله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
وفي آخرهذه السنة كانت وفاة السلطان مولاي الحسن بن محمد رحمة الله عليه ورضوانه فإنه خرج من مراكش فاتح ذي القعدة من السنة المذكورة غازيا قبائل البربر الذين بجبال فازاز لا سيما آيت سخمان الذين غدروا بأصحابه وابن عمه حسبما تقدم قريبا وكان رحمه الله قد قدم من حركة تافيلالت وهو مريض مرضا خفيفا في الظاهر ولكنه مزمن في الباطن فكان يتكلف معه الخروج للناس وينفذ القضايا ويجلس للوفود ويجيزهم ويفعل جميع الأمور المخزنية ثم خرج من مراكش في التاريخ المذكور على ما به
____________________

من الألم والمرض وتحامل حتى انتهى إلى وادي العبيد من أرض تادلا فأدركه أجله هنالك في الساعة الحادية عشرة من ليلة الخميس ثالث ذي الحجة الحرام متم عام أحد عشر وثلاثمائة وألف وحمل في تابوت إلى رباط الفتح ودفن بإزاء جده الأعلى سيدي محمد بن عبد الله رحمة الله على جميعهم آمين
وكانت مدة خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر وكان رحمه الله من خيار الملوك العلوية وأفاضلهم بما نشر من العدل وأصلح من الرعايا وأبقى من الآثار بالمغرب وثغوره فالله تعالى يجبر كسر المسلمين فيه ويعوضهم أجرا عن مصابه آمين
وبايع أهل العقد والحل نجله الأرضى الأبر المرتضى مولانا عبد العزيز ابن مولانا الحسن نصره الله نصرا عزيزا وفتح له فتحا مبينا آمين وهو الآن على كرسي ملكه بفاس المحروسة كما ينبغي وعلى ما ينبغي وقد تسرب إليه جماعة من نواب الأجناس كعادتهم مع والده من قبله فقدموا عليه حضرة فاس مظهرين أنهم إنما قدموا للتهنئة ومرادهم خلاف ذلك { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } الأنفال 30 وما ظنك بمن يزعم أنه قدم للتهنئة وهو مقيم بالحضرة هذه مدة من أربعة أشهر يتجسس الأخبار ويتطلع العورات ويترصد الغفلات ويحصي الأنفاس لعله تظهر له خلة أو تمكنه فرصة نسأل الله تعالى أن يرد كيده في نحره ويعديه بعاره وعره آمين ولعمري ما الحامل على هذا ونحوه إلا قلة الحياء من الله ومن الناس وإلا فما معنى الإقامة في سبيل التهنئة أربعة أشهر ثم انظر مايزاد منها بعد ذلك وكان مما يؤثر من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت وحسبنا الله ونعم الوكيل
واعلم أن أحوال هذا الجيل الذي نحن فيه قد باينت أحوال الجيل الذي قبله غاية التباين وانعكست عوائد الناس فيه غاية الانعكاس وانقلبت أطوار أهل التجارة وغيرها من الحرف في جميع متصرفاتهم لا في سككهم ولا في
____________________

أسعارهم ولا في سائر نفقاتهم بحيث ضاقت وجوه الأسباب على الناس وصعبت عليهم سبل جلب الرزق والمعاش حتى لو نظرنا في حال الجيل الذي قبلنا وحال جيلنا الذي نحن فيه وقايسنا بينهما لوجدناهما كالمتضادين والسبب الأعظم في ذلك ملابسة الفرنج وغيرهم من أهل الأربا للناس وكثرة مخالطتهم لهم وانتشارهم في الآفاق الإسلامية فغلبت أحوالهم وعوائدهم على عوائد الجيل وجذبته إليها جذبة قوية وأنا أحكي لك حكاية تعتبر بها وتستدل بها على ما وراءها وهي أني ذاكرت ذات يوم رجلا من أهل جيلنا في هذا المعنى فقال لي إن لي راتبا سلطانيا أقبضه في كل شهر قدره ثلاثون أوقية قال فكنت في حدود الستين ومائتين وألف أقبض فيه عشر بسائط لأن صرف البسيطة يومئذ ثلاث أواق فلما أخذت السكة في الارتفاع بعد الستين صرت أقبض فيه تسع بسائط وفلوسا ثم بعد ذلك بسنة أو سنتين صرت أقبض ثمان بسائط وفلوسا ثم سبع بسائط وفلوسا وهكذا إلى أن صرت اليوم في أعوام التسعين أقبض في الثلاثين أوقية بسيطة واحدة وشيئا من الفلوس ا هـ فانظر إلى هذا التفاوت العظيم الذي حصل في الجيل في مدة من ثلاثين سنة أو نحوها فقد زادت السكك والأسعار فيها كما ترى نحو تسعة أعشار والعلة ما ذكرناه ويكثر بكثرة الاختلاط والممازجة مع الفرنج ويقل بقلتها والدليل على ذلك أن أهل المغرب أقل الأمم اختلاطا بهم فهم أرخص الناس أسعارا وأرفقهم معاشا وأبعدهم زيا وعادة من هؤلاء الفرنج وفي ذلك من سلامة دينهم ما لا يخفى بخلاف مصر والشام وغيرهما من الأمصار فإنه يبغلنا عنهم ما تصم عنه الآذان فليتأمل هذا الذي ذكرناه وليعرف منه سر الله في خلقه
واعلم أيضا أن أمر هؤلاء الفرنج في هذه السنين قد علا علوا منكرا وظهر ظهورا لا كفاء له وأسرعت أحواله في التقدم والزيادة إسراعا متضاعفا كتضاعف حبات القمح في بيوت الشطرنج حتى كاد يستحيل إلى فساد وعلم عاقبة ذلك وغايته إلى الله تعالى المنفرد بالغيب
____________________


( وأعلم علم اليوم والأمس قبله ** ولكنني عن علم ما في غد عم )
وهذا ما قصدنا جمعه من هذا الكتاب والله الملهم للصواب { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } الأعراف 23 وصلي الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
____________________

تقريظ الطبعة الأولى لكتاب الاستقصا تقريظ العلامة الأديب السيد أحمد بن المأمون البلغيثي الحسيني
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد النبي الكريم وعلى آله وصحبه ذوي المجد الفخيم
الحمد لله الذي أنعم علينا بالكمال الإنساني وتكرم إلينا بأحسن التقويم في النطق اللساني نحمده وله الحمد في الأولى والآخرة على نعمه التي لا تحصى ونشكره على مننه التي لا تعد بالاستقصا ونصلي ونسلم على نبيه سيدنا ومولانا محمد أفصح من بالضاد نطق المنزل عليه في حكيم الذكر وكذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن قص علينا قصصهم من أئمة الدين صلاة وسلاما ندرك بهما مدارك الكمال ونبلغ بهما منتهى الآمال أما بعد فيقول العبد الفقير إلى مولاه الغني الكبير أحمد بن المأمون الحسني العلوي البلغيثي السجلماسي أصلا ودارا الفاسي منشأ وقرارا تقبل الله صالح أعماله وبلغه في الدارين غاية آماله لما أن وقفت على هذا التاريخ المفيد وقوف طالب مستفيد ألفيته مرغوب اللبيب ومحبوب الحبيب قد جمع فأوعى وبلغ من الإتقان غاية المسعى حيث احتوى على أخبار الأقطار المغربية واستقصى أهم الأوطار من أنبائها الشهية فطابق اسمه مسماه ووافق لفظه معناه
( كتاب رأيت الحسن فيه مفصلا ** كما فصل الياقوت بالدر ناظمه )
( فكان له نشر يفوح وبهجة ** كما افتر عن زهر الرياض كمائمه )
ولعمري أنه لتاريخ تشد إليه الرحال وتعتكف بجامعه الأزهر جهابذة
____________________

الرجال إذ أغنى وأقنى وبلغ الناظر فيه ما تمنى يغني عن غيره من الموضوعات في فنه بصحة أسانيده المرفوعات على أعلام حسنه تناديك منه سطوره والطروس لا تلتفت لغيري فلا عطر بعد عروس وكيف لا ومؤلفه العلامة من هو في غرة هذا العصر علامة الطالع الأسعد والسند الأصعد المحقق النقاد والمشارك في جميع الفنون بالذهن الوقاد المرتوي من نهر كل فضيلة بما راق وحلا أبو العباس سيدي أحمد الناصري الدرعي شمس ثغر سلا أبقى الله بركته وأدام في اكتساب المعالي حركته فلله دره من مؤلف ألف بين الكمالات وشنف السمع بأصح المقالات في هذا التاريخ الذي أرخت في صحائف الكمال آياته وخلدت في دفاتر المجد فضائله وكراماته وقد زاده رونق الطبع نورا على نور وأفاده اجتلاء على منابر الظهور فقرب نوره لمقتبسه وسهل ملكه لملتمسه ولما ملك حسنه خاطري وفؤادي وسلك بين منهج قصدي ومرادي وصرت به أنشط من ظبي مقمر وأسلط عليه من ذئب متنمر تشوفت لإنشاء امتداحه وتشوقت لإملاء أمداحه بما لا أعده في شيء من طبقات الفصاحة عند فرسان هذا الميدان ولكن عذري عند الواقع عليه أنه لقطة عجلان ما له في الأدب يدان فقلت في ذلك مؤرخا تمام طبعه في بداعة صنعه ورقة طبعه بقول وسيط من بحر البسيط
( أخبار أهل الهوى ما زال يرويها ** أحبار كأس رحيق الراح يرويها )
( حتى إذا سمعوا العشاق مخبرها ** هاموا وقاموا بألحان تواتيها )
( لكنهم أبدا في الدهر ما سمعوا ** ما نالني في هوى خود أفديها )
( خود بها الصب قد لذ العذاب له ** لما غدا وهو مطروح بناديها )
( يرجو رضاها ولم تسمح بوصلته ** وبالتذلل والشكوى يناديها )
( قد استرقته في شرع الغرام وما ** رقت لما به من نار يقاسيها )
( حتى استبان لها أني على تلف ** وأن ما بي منها ليس تمويها )
( جاءت إلي على فور تعللني ** بالعطف من طلعة سبحان باريها )
( فأتحفتني بحتف الرمز من مقل ** السيف حاجبها والحسن كاسيها )
( إن أومأت بلحاظ جرحت كبدي ** أو أعرضت بلغت روحي تراقيها )
____________________


( ما حيلتي في الهوى وما دوا كبدي ** العطف يجرحها والهجر يبليها )
( إني خلعت عذاري فاعذروني في ** حب الملاح فإن القلب يبغيها )
( فهل ملام على من صار ذا وله ** بغاة سلبت عقلي معانيها )
( إذا بدت لأولي الألباب شمتهم ** صرعى وطرحى جميعا في مغانيها )
( يا حسن ما حدثتني عندما عطفت ** في شأن من ببعادي كان يغريها )
( قالت لك الوصل مني ليس يعقبه ** هجر على رغم من يبغي لك التيها )
( تخال نطق لماها عندما نطقت ** أخبار تاريخ الاستقصاء تمليها )
( ذاك الكتاب الذي فاقت صناعته ** كل التواريخ بالإتقان عاديها )
( لله ما قد حوى من كل واقعة ** يلهيك عن نغمة الألحان راويها )
( ومن محاسن أحوال تتوق لها الأسماع ** من كل ذي لب يدانيها )
( ومن نوادر قد كانت لذي أدب ** تود إذن العلا أن لو تحليها )
( أغنى وأقنى بأخبار مصححة ** قد كان في المغرب الأقصى دواعيها )
( كم من فوائد قد كانت أوابد لم ** تظفر بها به يستدعيك قاصيها )
( ما شئت من أدب غض ومن ملح ** تشتاقها همم ترحو توافيها )
( فاعكف عليه ونزه في بدائعه ** أبصار فكرك تستجني أمانيها )
( فإنه روضة أشجارها قصص ** أزهارها حكم إن رمت تجنيها )
( أنهارها من معين ما به كدر ** من كل معنى غدا للنفس شافيها )
( بل جنة جمعت آمال أنفسنا ** وتستلذ بها أبصار رائيها )
( لا غرو حيث غدا مفتاح بهجتها ** من فيه يرسل أعط القوس باريها )
( ذاك الأديب الأريب العالم العلم الهمام ** غايته من ذا يجاريها )
( الناصري أبو العباس أحمد من ** نال العلا واعتلى أعلى أعاليها )
( نقاد كل فنون العلم ليس له ** بغيرها شغل دأبا يواليها )
( فكم أجاد وكم أسدى فوائدها ** في كل قطر من الأقطار يوليها )
( أنسى إياسا بأفكار له وقدت ** ترى شموس الهدي كشفا لباغيها )
( فهذه قبسة من نور عمله قد ** مدت إليها أقاصي الأرض أيديها )
( نالت أشعتها الأيدي على بعد ** كالشمس مع رفعها يبدو تدانيها )
____________________


( تريك سيرة قطر الغرب كيف مضت ** رأى الحقيقة في أفكار قاريها )
( إن التواريخ في أخباره كثرت ** لكن ذا قد حوى أصح ما فيها )
( بل زاد أنباء قوم لم تكن جمعت ** مما جرى عن قريب فيه تلفيها )
( مع ما حوى من علوم من مؤلفة ** بدت معالمهما هديا لآتيها )
( أعظم بها منحة قد عم نائلها ** وطاف في شاسع الأقطار ساقيها )
( فرقة الطبع قد نمت بها وسرت ** لطبع آياتها كيما تجليها )
( فعاد منها محياها كما قمر ** يهدي الضليل بها إن جا يماشيها )
( كمال طبع حلاها جاء وفق منى ** فالحمد لله كم نعماء يسديها )
( مع منتهى أرب قل كي تؤرخه ** معالم الطبع بالبشرى تناهيها )81 113 545 472 سنة 1312
هذا التاريخ يعرف من بين أنواعه بالمذيل وحقيقته أن تكون جملة التاريخ ناقصة فتكمل بحرف أو أكثر مع التنبيه عل ذلك بإشارة تتضمن تورية وبيان ذلك هنا أن جامع عدد قولي معالم الطبع بالبشرى تناهيها هو عشرة وثلاثمائة وألف فتوقف العدد المؤرخ به على اثنين أشرت لها بقولي مع منتهى أرب ومنتهى أرب هو الباء التي باثنين فاستوفى عدد التاريخ هذا وليعلم من يقف عليه من أدباء أهل المغرب أني حسبت حرف الشين من قولي بالبشرى بثلاثمائة على اصطلاح المشارقة فيها لا بألف كما هو اصطلاحنا وهي أحد الحروف الستة التي اختلف فيها اصطلاح الفريقين وقد تمذهبت بمذهبهم في هذا التاريخ مراعاة لمحل الطبع كما يستحسن ذلك مني سالم القريحة والطبع والله الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبي ونعم الوكيل
____________________

تقريظ الأديب السيد إبراهيم الأزهري
حمدا لمن أضاء عقول الخلف بأنوار تواريخ السلف وصلاة وسلاما على من قص عليه أحسن القصص في كتابه المكنون وأخبره بسرائر ما كان وما يكون وعلى آله وأصحابه الذين أشرقت صحائف التاريخ بآياتهم الباهية الباهرة وتزينت المحافل بمحاسن إحسانهم الزاهية الزاهرة أما بعد فإن علم التاريخ كنز يجب التحلي بنفائس فرائده وروض لا غنية لأحد عن مجاني فوائده وكم للعلماء فيه من تصانيف مهمة عادت بالمنافع الجمة على كل أمة فلم ترتق أمة إلى عرش تمدنها إلا بتبحرها في هذا الفن وتفننها وأن أجل ما ألف فيه كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى فهو أول كتاب كشف الغطاء عن هذه الممالك وقرب لمن يهمه الوقوف على حقيقة أخبارها جميع المسالك وأبان عن أول من دخلها من الصحابة رضي الله عنهم لرفع أعلام الإسلام وما هي عليه من المعارف التي لم تطو سجلات نشرها تعاقب الأيام لا سيما بلاد الأندلس وما لها من الحضارة والأبهة والنضارة وما لبلاد الجزائر من كل أثر جليل يشهد برفعة قدرها جيلا بعد جيل مع تحرير التراجم للملوك والأعاظم وما دهم هذه البلاد من الوقائع الحربية التي أثارت غبارها يد الدسائس الأجنبية وما ثبت لهذه الدول من الاختراعات والاستكشافات وما بينها وبين الدول الأخرى من المواصلات والمعاهدات كل ذلك بعبارات صادقة ومحررات شائقة
( حديث المغرب الأقصى ** قد استقصاه الاستقصا )
( كتاب جل مبدعه ** على نسق به اختصا )
( بدا والناس في شغف ** ليقتنص النهى قنصا )
( فتاهوا في محاسنه ** فأرشدهم بما أوصى )
( فيالله ما أعلى ** وما أغلى وما أحصى )
( فكيه في فكاهته ** صدوق القول إن قصا )
____________________


( عليه فكن أشد الناس ** في استقصائه حرصا )
( تجد غررا حوت دررا ** عليها تكثر الغوصا )
وكيف لا ومؤلفه إنسان عين الأدب وترجمان لسان العرب جوهر بحور المعارف وسويداء صدور العوارف من أجمعت الفضائل على التباهي بسيرته وتسابقت المحامد إلى الاقتباس من مشكاة سريرته ألفته الحكمة فسامرها وما سلا علامة المشرق والمغرب فضلا عن كونه تاج مجد سلا بحر العلم الخضم الراوي شهاب الدين أحمد بن خالد الناصري السلاوي ولأجل أن يعم النفع الجزيل بهذا الأثر الجليل قام حضرة مؤلفه بطبعه في إحدى مطابع القطر المصري حتى أشرق بدر كماله على الكوكب الدري بمشاركة كل من صاحب الحسب العاطر والنسب الطاهر صاحب الشرف والمجد السني السيد الحبيب البلغيتي الحسني وحضرة من هو لكل كمال مصطفى جناب محمد أفندي مصطفى فهؤلاء السادة هم السبب في تعميم نفعه وتعطير الآفاق بعبير طبعه بمطبعة حضرة الأفندي الشهيرة بإتقان الصناعة وكمال رونق الطباعة جزاهم الله بمنه وفضله أكمل جزاء عن العلم وأهله وكان انتهاء طبعه الأنيق واستكمال حسنه الرقيق في أواخر شهر رمضان المعظم سنة اثنتي عشرة بعد الألف والثلاثمائة من هجرته صلى الله عليه وسلم
تم الجزء التاسع والأخير من كتاب الاستقصا

الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى - دار الكتاب

المؤلف احمد بن خالد الناصري  وصف الكتاب

كتاب جامع لتاريخ المغرب الأقصى منذ الجاهلية وحتى آخر القرن 13 هـ
المحقق : ولدا المؤلف أ. جعفر الناصري و أ. محمد الناصري
الناشر : دار الكتاب - الدار البيضاء
سنة الطبع : 1997
عدد الأجزاء : 9/
روابط التحميل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حدود المجاز في بلاغة العرب وانعكاس التمادي في تجاوزه علي اخطاء الفقهاء وسوء سلوكيات الناس

  ➎ ضحي الإيمان الجمعة، 4 يونيو 2021 قواعد مهمة في المجاز والحقيقة وبيان كيف زوروا معاني الحق الثابت حتي قي فاتل نفسه قلت المدون ...