5. الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى
أبو العباس أحمد بن خالد بن محمد الناصري
سنة الولادة 22/ذو الحجة/ 1250هـ /1835م/ سنة الوفاة
فراودوه على الإتيان فامتنع ثم بعث إليه ثانيا فأبى ثم ثالثا فأبى فكتب إليه
بالعفو مرارا فلم يقبل وتصدى للخلاف وكشف وجه العصيان وصار يكتب لوالده بما يحفظه
هكذا زعم الصياني ولا يخفى أن الرجل كان مناوئا له فلا ينبغي أن نسمع منه جميع ما
ينسبه إليه والله أعلم بحقيقة الأمر
ثم إن السلطان بعث إليه شقيقه المولى مسلمة في عسكر وأمره أن ينزل بقربه ويضيق
عليه ويمنعه النزول من الحرم ثم بعث إليه عسكرا آخر مع القائد العباس البخاري
فنزلوا بقرب الحرم من الناحية الأخرى وضيقوا عليه حتى منعوه التصوف بكل حال وفي
مدة مقامه هنالك أخذ في تأسيس داره وبناء مسجده ولا زالت جدرانها قائمة أسفل الجبل
إلى الآن واستمر المولى يزيد محصورا هنالك إلى أن بلغه خبر وفاة أبيه رحمه الله
فكان من أمره ما نذكره إن شاء الله وفاة أمير المؤمنين سيدي محمد بن عبد الله رحمه
الله
لما اعتصم المولى يزيد بضريح الشيخ عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه وراوده
السلطان على النزول مرارا فأبى نهض إليه من مراكش وأراد أن يحضر عنده بنفسه لعله
تسكن نفسه ويذهب ما بصدره من الجزع والنفرة وكان عند خروجه من مراكش به مرض خفيف
فتحمل المشقة وجد السير فتزايد به المرض في الطريق فوصل إلى أعمال رباط الفتح في
ستة أيام فأدركته منيته رحمه الله وهو في محفته على نحو نصف يوم أو أقل من رباط
الفتح فأسرعوا به إلى داره من يومه ذلك وهو يوم الأحد الرابع والعشرون من رجب سنة
أربع ومائتين وألف ومن الغد اجتمع الناس لجنازته وانحشروا من كل وجه فجهز ودفن
بقبة من قباب داره وتأسف الناس لفقده خاصة وعامة رحمه الله ورضي عنه
____________________
بقية أخبار السلطان سيدي محمد
ابن عبد الله ومآثره وسيرته
كان السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله محبا للعلماء وأهل الخير مقربا لهم
لا يغيبون عن مجلسه في أكثر الأوقات وكان يحضر عنده جماعة من أعلام الوقت وأئمته
منهم الفقيه العلامة المشارك أبو عبد الله محمد ابن الإمام سيدي عبد الله الغربي
الرباطي والفقيه العلامة المحقق أبو عبد الله سيدي محمد المير السلاوي والفقيه
الدراكة أبو عبد الله محمد الكامل الرشيدي والفقيه السيد أبو زيد عبد الرحمن
المدعو بأبي خريص هؤلاء هم أهل مجلسه الذين كانوا يسردون له كتب الحديث ويخوضون في
معانيها ويؤلفون له ما يستخرجه منها على مقتضى إشارته وكانت له عناية كبيرة بذلك
وجلب من بلاد المشرق كتبا نفيسة من كتب الحديث لم تكن بالمغرب مثل مسند الإمام
أحمد ومسند أبي حنيفة وغيرهما وألف رحمه الله في الحديث تآليف بإعانة الفقهاء
الذين ذكرناهم آنفا منها كتاب مساند الأئمة الأربعة وهو كتاب نفيس في مجلد ضخم
التزم فيه أن يخرج من الأحاديث ما اتفق على روايته الأئمة الأربعة أو ثلاثة منهم
أو اثنان فإذا انفرد بالحديث إمام واحد أو رواه غيرهم لم يخرجه وهذا المنوال لم
يسبق إليه رحمه الله وكان كثيرا ما يجلس بعد صلاة الجمعة في مقصورة الجامع بمراكش
مع فقهائها ومن يحضره من علماء فاس وغيرهما للمذاكرة في الحديث الشريف وتفهمه
ويحصل له بذلك النشاط التام وكان كثيرا ما يتأسف أثناء ذلك ويقول والله لقد ضيعنا
عمرنا في البطالة ويتحسر على ما فاته من قراءة العلم أيام الشباب ولما فاته
الاشتغال بفنون العلم في حال الصغر اعتكف أولا على سرد كتب التاريخ وأخبار الناس
وأيام العرب ووقائعها إلى أن تملى من ذلك وبلغ فيه الغاية القصوى وكاد يحفظ ما في
كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني من كلام العرب وشعراء الجاهلية
____________________
والإسلام ولما ولاه الله أمر المسلمين بعد وفاة والده زهد في التاريخ والأدب بعد
التضلع منهما وأقبل على سرد كتب الحديث والبحث عن غريبها وجلبها من أماكنها
ومجالسة العلماء والمذاكرة معهم فيها ورتب رحمه الله لذلك أوقاتا مضبوطة لا تنخرم
حذا بها حذو المنصور السعدي في أوقاته المرسومة عند الفشتالي في مناهل الصفا حتى
أنه كان إذا خرج لزيارة أو صيد أو نزهة أيام الربيع وأقام الأسبوع ونحوه فإذا حانت
الجمعة ودخل تحرى النزول بمنازل المنصور التي كان ينزل بها وقت خروجه لزيارة أغمات
ونحوها ورجوعه ويقول هذه منازل المنصور رحمه الله وهو أستاذنا في مثل هذه الأمور
ومن عجيب سيرته رحمه الله أنه كان يرى اشتغال طلبة العلم بقراءة المختصرات في فن الفقه
وغيره وإعراضهم عن الأمهات المبسوطة الواضحة تضييع للأعمار في غير طائل وكان ينهى
عن ذلك غاية ولا يترك من يقرأ مختصر خليل ومختصر ابن عرفة وأمثالهما ويبالغ في
التشنيع على من اشتغل بشيء من ذلك حتى كاد الناس يتركون قراءة مختصر خليل وإنما
كان يحض على كتاب الرسالة والتهذيب وأمثالهما حتى وضع في ذلك كتابا مبسوطا أعانه
عليه أبو عبد الله الغربي وأبو عبد الله المير وغيرهما من أهل مجلسه
ولما أفضى الأمر إلى السلطان العادل المولى سليمان رحمه الله صار يحض الناس على
التمسك بالمختصر ويبذل على حفظه وتعاطيه الأموال الطائلة والكل مأجور على نيته
وقصده غير أنا نقول الرأي ما رأى السلطان سيدي محمد رحمه الله وقد نص جماعة من
أكابر الأعلام النقاد مثل الإمام الحافظ أبي بكر بن العربي والشيخ النظار أبي
إسحاق الشاطبي والعلامة الواعية أبي زيد عبد الرحمن بن خلدون وغيرهم أن سبب نضوب
ماء العلم في الإسلام ونقصان ملكة أهله فيه إكباب الناس على تعاطي المختصرات
الصعبة الفهم وإعراضهم عن كتب الأقدمين المبسوطة المعاني الواضحة الأدلة التي تحصل
لمطالعها الملكة في أقرب مدة ولعمري لا يعلم هذا يقينا
____________________
إلا من جربه وذاقه وقد تقدم لنا في صدر هذا الكتاب أن ملوك بني عبد المؤمن كانوا
يحملون الناس على الرجوع في الأحكام إلى الكتاب والسنة كل ذلك اعتناء بالعلم
القديم ومحافظة على أصوله والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
وكان السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله ينهى عن قراءة كتب التوحيد المؤسسة
على القواعد الكلامية المحررة على مذهب الأشعرية رضي الله عنهم وكان يحض الناس على
مذهب السلف من الاكتفاء بالاعتقاد المأخوذ من ظاهر الكتاب والسنة بلا تأويل وكان
يقول عن نفسه حسبما صرح به في آخر كتابه الموضوع في الأحاديث المخرجة من الأئمة
الأربعة أنه مالكي مذهبا حنبلي اعتقادا يعني أنه لا يرى الخوض في علم الكلام على
طريقة المتأخرين وله في ذلك أخبار ومجريات
قلت وهو مصيب أيضا في هذا فقد ذكر الإمام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه في كتاب
الإحياء إن علم الكلام إنما هو بمنزلة الدواء لا يحتاج إليه إلا عند حدوث المرض
فكذلك علم الكلام لا يحتاج إليه إلا عند حدوث البدعة في قطر وقد حرر الناس القدر
المحتاج إليه في حق العامة وغيرهم والمبتدئين والمنتهين والأغبياء والأذكياء بما
ليس هذا محل بسطه وكان السلطان سيدي محمد رحمه الله عالي الهمة يحب الفخر ويركب
سنامه ويخاطب ملوك الترك مخاطبة الأكفاء ويخاطبونه مخاطبة السادة ويمدهم بالأموال
والهدايا حتى علا صيته عندهم وحسبوه أكثر منهم مالا ورجالا وكان يعطي عطاء من لا
يخاف الفقر ويضع الأشياء مواضعها ويعرف مقادير الرجال ويؤدي حقوقهم ويتجاوز عن
هفواتهم ويراعي لأهل السوابق سوابقهم ويتفقد أحوال خدامه في الصحة والمرض ولا يغفل
عمن كان يعرفه قبل الملك وكان من الشجعان المذكورين في وقته يباشر الحروب بنفسه
ويهزم الجيوش بهيبته وكان يقتني الرجال
____________________
ويصطنعهم ويعدهم لأيام الكريهة وينادي كل واحد باسمه وقت اللقاء والحضور عنده
ويوجه كل بطل منهم مع قبيلة أو كتيبة من كتائب الجند ويعمل بقواعد السياسة في
الحروب وكان إذا وجه أحدا ممن يعرف نجدته وكفايته ينشد قول ابن دريد
( والناس ألف منهم كواحد ** وواحد كالألف إن أمر عنا )
وبالجملة فقد كان رحمه الله من عظماء الملوك وخلد آثارا كثيرة بالمغرب فمن ذلك
بمراكش تجديد ضريح الشيخ أبي العباس السبتي ومسجده ومدرسته وضريح الشيخ التباع
ومسجده وضريح الشيخ الجزولي ومسجده وضريح الشيخ الغزواني ومسجده وضريح الشيخ ابن
صالح ومسجده وضريح المولى علي الشريف ومسجده الأعظم وضريح الشيخ ميمون الصحراوي
ومسجد الملوك ببريمة ومدرستاه وتجديد جامع المنصور والمسجد الأعظم بباب دكالة
والمسجد الأعظم بباب هيلانة والمسجد الأعظم بالرحبة ومساجد القصبة ومدارسها الست
ومسجد زاوية الشرادي ومسجد رباط شاكر ومدينة الصويرة بمساجدها ومدارسها وصقائلها
وأبراجها وكل ما فيها ومسجد آسفي ومدرسته ومسجد مدينة تيط ومدينة آنفا ومسجدها
ومدرستها وحمامها وصقائلها وأبراجها ومدينة فضالة ومسجدها ومدرستها والمصورية
ومسجدها وجامع السنة برباط الفتح ومساجد أجدال الستة وأبراجه والصقالتين الكبيرتين
بسلا ورباط الفتح ومسجد العرائش ومدرسته وصقائلها وأبراجها وسوقها وصقائل طنجة
وأبراجها والمسجد الأزهر ومدرسته بإصطبل مكناسة ومسجد البردعيين بها وضريح الشيخ
ابن عيسى وضريح الشيخ أبي عثمان سعيد ومسجده ومدرسة الصهريج ومدرسة الدار البيضاء
ومسجد بريمة ومدرسته ومسجد هدراش ومسجد باب مراح وثلاثة أقواس بقنطرة وادي سبو
خارج فاس وضريح الشيخ علي بن حرزهم وضريح الشيخ دراس بن إسماعيل
____________________
وضريح أبي عبد الله التاودي ومدرسة باب الجيسة ومسجد تازا ومدرسته وضريح المولى
علي الشريف بسجلماسة وقصبة الدار البيضاء بها ومسجدها ومدرستها ومسجد الريصاني
ومدرسته وأوقافه على المارستان بفاس ومراكش
فهذه الآثار كلها مما سمت إلى تخليد همته الشريفة بعضها أنشأها وبعضها أصلحه وجدده
ورتب للأشراف بتافيلالت في كل سنة مائة ألف مثقال سوى ما ينعم به عليهم في أيام
السنة متفرقا ورتب لأهل الحرمين الشريفين وشرفاء الحجاز واليمن مائة ألف مثقال
أيضا في السنة ولشرفاء المغرب مائة ألف مثقال كذلك وأما الطلبة والمؤذنون والقراء
وأئمة المساجد كانت تأتيهم صلاتهم في كل عيد وأما ما كان ينفقه في الجهاد على
رؤساء البحر وطبجيته وما يضيره على المراكب الجهادية والآلات الحربية التي ملأ بها
بلاد المغرب فشيء لا يحصيه الحصر وأما ما أنفقه من الأموال في فكاك أسرى المسلمين
فأكثر من ذلك كله حتى لم يبق ببلاد الكفر أسير لا من المغرب ولا من المشرق ولقد
بلغ عددهم في سنة مائتين وألف ثمانية وأربعين ألف أسير وزيادة وأوقافه بالحرمين
الشريفين وكتبه العلمية المحبسة بهما لا زالت قائمة العين والأثر إلى الآن وأما
اعتناؤه بالمراكب القرصانية فقد بلغ عددها في دولته عشرين كبارا من المربع وثلاثين
من الفراكط والغلائط وبلغ رؤساء البحر عنده ستين رئيسا كلها بمراكبها وبحريتها
وبلغ عسكر البحرية ألفا من المشارقة وثلاثة آلاف من المغاربة ومن الطبجية ألفين
وبلغ عسكره من العبيد خمسة عشر ألفا ومن الأحرار سبعة آلاف وأما عسكر القبائل الذي
كان يغزو من الجند فمن الحوز ثمانية آلاف ومن الغرب سبعة آلاف
وكانت له هيبة عظيمة في مشوره وموكبه يتحدث الناس بها وهابته ملوك الفرنج
وطواغيتهم ووفدت عليه رسلهم بالهدايا والتحف يطلبون مسالمته في البحر بلغ ذلك رحمه
الله بسياسته وعلو همته حتى عمت
____________________
مسالمته أجناس النصارى كلهم إلا المسكوب فإنه لم يسالمه لمحاربته للسلطان العثماني
ولقد وجه رسله وهديته إلى طنجة فردها السلطان رحمه الله وأبى من مسالمته ووظف على
الأجناس الوظائف فالتزموها وكانوا يؤدونها كل سنة واستمر ذلك من بعده إلى أن انقطع
في هذه السنين المتأخرة وكانوا يستجلبون مرضاته بالهدايا والألطاف وكل ما يقدرون
عليه ومهما كتب إلى طاغية في أمر سارع إليه ولو كان محرما في دينه ويحتال في قضاء
الأغراض منهم بكل وجه أحبوا أم كرهوا وكان أعظم طواغيتهم طاغية النجليز وطاغية
الفرنسيس فكانا يأنفون من أداء الضريبة علانية مثل غيرهم من الأجناس فكان رحمه
الله يستخرجها منهم وأكثر منها بوجه لطيف وكان له عدة أولاد أكبرهم أبو الحسن علي
والمأمون وهشام وعبد السلام هؤلاء لربة الدار المولاة فاطمة بنت عمه سليمان بن
إسماعيل ثم عبد الرحمن أمه حره هوارية من هوارة السوس ثم يزيد ومسلمة أمهما علجة
من سبي الإصبنيول ثم الحسن وعمر أمهما حرة من الأحلاف ثم عبد الواحد أمه حرة من
أهل رباط الفتح ثم سليمان والطيب وموسى لحرة من الأحلاف أيضا ثم الحسن وعبد القادر
لحرة من الأحلاف أيضا ثم عبد الله لحرة من عرب بني حسن ثم إبراهيم لعلجة رومية
ومما مدح به السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله من الشعر أرجوزة الأديب
البليغ أبي العباس أحمد الونان المعروفة بالشمقمقبية التي يقول في مطلعها
( مهلا على رسلك حادي الأينق ** ولا تكلفها بما لم تطق )
وهذه الأرجوزة مشهورة بين الناس وهي من الشعر الفائق والنظم البديع الرائق أبان
منشئها عن باع كبير وإطلاع غزير على أخبار العرب وأيامها وحكمها وأمثالها بحيث أن
من حفظها وعرف مقاصدها أغنته عن غيرها من كتب الأدب وقد كنت في أيام التعاطي اعتنيت
بتصحيح ألفاظها والتتبع لأخبارها وأمثالها والتنقير عن تلميحاتها وتلويحاتها حتى
فضضت ختامها واستوعبت مبدأها وتمامها ثم شرعت في كتابة شرح عليها يحيط بمعانيها
____________________
ويستوعب دقائق مبانيها فكتبت منه نحو أربعة كراريس ثم عاقت الأقدار عن إتمامه نسأله
سبحانه وتعالى أن يصرف عنا العوائق فيما ينفعنا في ديننا ودنيانا ويحفنا بالسعادة
الدنيوية والأخروية في متقلبنا ومثوانا إنه ولي ذلك والقادر عليه
ومن وزراء السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله الوزير الشهير أبو عبد الله
محمد العربي قادوس المدعو أفاندي كان من موالي السلطان وغرس نعمته وربي دولته
وأصله من أعلاج الإصبنيول وكان شعلة من الذكاء والفطنة وركنا شديدا من أركان
الدولة المحمدية في حسن التدبير والحزم الذي لا يعزب عنه من أمور الحضرة قليل ولا
كثير وقد أدرك من فخامة الجاه وضخامة الرياسة غاية تفرد بها في وقته بحيث كانت
الأعاظم من وجوه الدولة تقف ببابه اليومين والثلاثة فلا يتيسر لهم لقاؤه
ولما توفي السلطان سيدي محمد رحمه الله امتحن المولى يزيد هماما الوزير في جملة من
امتحنه من أهل مراكش كما سيأتي الخبر عن دولة أمير المؤمنين المولى يزيد بن محمد
وأوليته ونشأته رحمه الله
كان المولى يزيد هذا عند والده رحمه الله بعين العناية ملحوظا ومن النقائص محروسا
ومحفوظا وكان عامة أهل المغرب وخاصتهم من الجند والرعية متشوفين له ومغتبطين به
يهتفون باسمه ويلهجون بذكره لما كان عليه من الكرم والشجاعة والتمسك بمذاهب الفتوة
والدين والاعتناء بجوائز أهل البيت ومحبة أهل الخير وإكرامهم وإقامة الصلوات
لأوقاتها حضرا وسفرا لا يشغله عن ذلك شاغل فأصابته عين الكمال وصار ينتقل من حال
إلى حال حتى خالطته جماعة من الأغمار كانوا في خدمته فلزموه وحسنوا له الاستبداد
على والده والخروج عليه وأتوه من بين يديه ومن خلفه حتى وقر ذلك في صدره وارتسم
فيه وكان ذلك على حين أوان الشبيبة وأخذها
____________________
منه مأخذها وكانت همته طماحة لا تقف به عند غاية فاستعجل الأمر قبل أوانه وخرج على
والده بجبش العبيد حسبما مر ولسان حاله ينشد
( فإن يك عامر قد قال جهلا ** فإن مظنة الجهل الشباب )
فسقطت منزلته عند أبيه بعد أن بلغ من الحظوة لديه ما بلغ وكان يرشحه للخلافة ويقمه
على كبار إخوته لما ظهر له من نجدته واقتداره وجوده في محل الجود ورغبته في الجهاد
وولوعه بصناعة الرمي بالمهراس فأسند إليه أمر الطبجية والبحرية وصار يوجهه مع
الرؤساء والطبجية إلى الثغور كل سنة ليقف على الملازمين لصقائلها وأبراجها ويعلمهم
ما يحتاجون إلى تعلمه ولما رآه والده مغتبطا بذلك وتوسم فيه النجابة أقبل عليه
بالعطاء ثم ولاه الكلام مع قناصل الأجناس الذين بالمراسي واستنابة في ذلك
وفي سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف ولاه السلطان على قبيلة كروان وهم يومئذ أعظم
قبائل البربر خيلا ورجالا فأسند إليه أمرهم وتقدم إليه في أن يكفهم عن الحرب مع
آيت أدراسن فسار إليهم واغتبطوا به واغتبط بهم وصار أحداثهم وأبناء أعيانهم يركبون
معه للصيد فغمرهم بالعطاء وأنعم عليهم بالخيل والسلاح والكسي ولزموا مجلسه حتى
أفسدوا قلبه وحسنوا له الانتزاء على الملك وقالوا هذا بيت المال الذي بقبة
الخياطين هو في يدك وليس دونه مانع وبه يقوم ملكك ومتى استدعيت إخواننا آيت ومالو
لم يتوقفوا عنك طرفة عين ولا يقوم لهم شيء من الجند وغيره ولم يزالوا يفتلون له في
الذروة والغارب حتى شرهت نفسه وصار لا حديث له إلا في ذلك واطلع على ذلك قائد
الودايا أبو محمد عبد القادر بن الخضر وكان محبا في جانب السلطان صادق الخدمة
والطاعة له فكتب إليه بما عليه ولده مع جروان وأنهم يأتون إليه بالمائة والمائتين
ويبيتون عنده بالقصبة ونحن خفنا أن يبرز من ولدك أمر فتعاقبنا عليه فأخبرناك
بالواقع
____________________
ولما وصل كتابه إلى السلطان بعث للحين قائده العباس البخاري في مائة من الخيل
للقبض على المولى يزيد وأصحابه وقد قلنا لك أن الجند والرعية معا كانوا مغتبطين
بالمولى يزيد فلما وصل القائد العباس إلى سلا دس إلى المولى يزيد أنه مقبوض فلينج
بنفسه فخرج المولى يزيد من مكناسة ليلا في خاصته وأصحابه من جروان وقصدوا آيت
ومالو ولما وصل القائل العباس إلى مكناسة ألفاها مقفرة من المولى يزيد وشيعته
فأقام بها وكتب إلى السلطان يعلمه بالخبر فبعث السلطان إلى المولى يزيد كاتبه أبا
عثمان سعيد الشليخ فقدم عليه بزاوية آيت إسحاق لأنه لم يجد من قبائل آيت ومالو إلا
مهاوش وشقيرين فتجاوزهم إلى الزاوية المذكورة ولما أتاه أبو عثمان المذكور بكتاب
والده وأمانه سار معه إلى مراكش ولما وصل إليها دخل ضريح أبي العباس السبتي فاحترم
به ثم عفا عنه السلطان واجتمع به فتنصل مما رمي به ونسب ذلك إلى سفهاء جروان وأنه
لم يوافقهم على ذلك فأضمر السلطان الإيقاع بهم ولما قدم من مراكش سنة أربع وثمانين
ومائة وألف قصدهم بالكريكرة وأوقع بهم وقتل منهم نحو الخمسمائة حسبما مر وأنزل المولى
يزيد مع أخويه المولى علي والمولى عبد الرحمن بفاس فأقام بها مدة ثم حدثت حرب بينه
وبين أخيه المولى عبد الرحمن بوسط فاس العليا وهلك فيما بينهما عدد وبلغ خبر ذلك
إلى السلطان فقدم مكناسة وبعث من يقبض عليهما فقبض على المولى عبد الرحمن وأصحابه
وفر المولى يزيد إلى ضريح المولى إدريس الأكبر بزرهون فأتى به الأشراف إلى والده
فسامحه ثم سرح المولى عبد الرحمن وسأل عن أحوال أصحاب الأخوين معا ثم عرف صالحهم
من طالحهم فأخرجهم من السجن وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وكانوا ثلاثين رجلا وسرح
الباقين ونقل المولى عبد الرحمن إلى مكناسة وترك المولى يزيد بفاس ثم إن المولى
عبد الرحمن كان يسابق يوما في الميدان ويلعب بالبارود فقتل رجلا من بني مطير فجاء
إخوته إلى
____________________
قائدهم محمد بن محمد واعزيز فأدى ديته من عنده وعفوا وكتب عليهم سجلا بذلك وسكنت
الهيعة فاتفق أن وجه السلطان قائده العباس إلى مكناسة لقتل أناس كانوا بسجن مكناسة
فلما سمع به المولى عبد الرحمن ظن أنه قدم في شأن المطيري المقتول وأن خبره قد بلغ
السلطان ففر من مكناسة ليلا إلى وجدة ثم إلى تلمسان واتصل خبر فراره بالسلطان فسأل
عن السبب فأخبره القائد العباس بالواقع فبعث إليه الأمان فلم يثق ثم سار إلى
تلمسان إلى سجلماسة فبعث إليه السلطان من يؤمنه ويأتي به إليه فلم يثق وفر إلى
السوس فبعث إليه السلطان أمانا إلى السوس ففر إلى القبلة وأقام يتردد في قبائلها
إلى أن توفي السلطان رحمه الله فجاء إلى تارودانت فأقام بها وطلب الأمر فلم يتم له
أمر ومات رحمه الله وأما المولى يزيد فإنه أقام بفاس إلى أن استدعاه والده للقدوم
عليه بمراكش فقدم عليه
ثم اتفق قيام العبيد على السلطان بسبب الإدالة التي أمرهم بتوجيهها إلى طنجة حسبما
مر فبعث المولى يزيد لإصلاحهم وردهم عن غيهم فلما وصل إليهم استفزوه بقولهم وحركوا
منه ما كان ساكنا واستخرجوا ما كان كامنا فبايعوه وخطبوا به حسبما مر الخبر عن ذلك
مستوفى وانحرف قدور بن الخضر بالودايا عنه ولما فتح المولى يزيد بيت المال وأعطى
العبيد بعث إلى الودايا بعطائهم يستهويهم به وكان شيئا كثيرا فردوه عليه وانضم محمد
واعزيز في بربره إلى الودايا فقصدهم المولى يزيد والتقوا بالمشتهى من مكناسة
فهزموه وقتل من العبيد ما ينيف على الخمسمائة ثم قدم السلطان في العساكر وجموع
القبائل ففر المولى يزيد إلى زرهون فتبعه السلطان وزار المولى إدريس رضي الله عنه
فشفع له الأشراف الأدارسة فيه فقبل شفاعتهم وعفا عنه حسبما مر ثم بعد هذا بعثه إلى
المشرق وصدر منه بمكة في حق شيخ الركب ما صدر فكانت تلك الفعلة هي المخالفة وبها
تبرأ السلطان منه ثم قفل من المشرق سنة ثلاث ومائتين وألف والتجأ إلى ضريح الشيخ
عبد السلام بن مشيش إلى أن توفي والده حسبما قصصنا عليك من قبل وبالله التوفيق
____________________
بيعة أمير المؤمنين المولى
يزيد بن محمد رحمه الله
لما توفي السلطان سيدي محمد رحمه الله في التاريخ المتقدم وبلغ خبر موته المولى
يزيد وهو بالحرم المشيشي بايعه الأشراف هنالك وسائر أهل الجبل وتقدم إليه السابقون
من الجند الذين كانوا محاصرين له فبايعوه واستتب أمره فتوجه إلى تطاوين إذ هي أقرب
الثغور إليه فبايعه أهلها والقبائل المجاورة لها وأطلق الجند على يهود تطاوين
فاستباحهم واصطلم نعمتهم ثم وفد عليه أهل طنجة والعرائش وآصيلا فقابلهم بما يجب ثم
توجه إلى طنجة فخرج عسكرها للقائه ففرح بهم وأحسن إليهم وبها قدم عليه وفد أهل فاس
من أشرافها وعلمائها وأعيانها فأكرمهم وولى عليهم أبا عبد الله محمد العربي الذيب
ثم انتقل إلى العرائش فوفاه بها حاشية أبيه وخدمه ووجوه دولته بمتخلف والده وقبابه
وخيله وبغاله وسائر أثاثه فأحسن إليهم وصاروا معه في ركابه إلى زرهون ولما وصل
إليها قدم عليه أخوه المولى سليمان من تافيلالت بقبائل الصحراء عربها وبربرها ومعه
بيعت أهل سجلماسة وكان قد استجار به محمد واعزيز فإنه كان خائفا على نفسه من
المولى يزيد لانحرافه عنه أيام أبيه فسار في صحبته بقبائله ولما اجتمع بالسلطان
سامحه وأبقاه على قومه ولما دخل مكناسة قدمت عليه قبائل الغرب كلها عربها وبربرها
حتى عصاة آيت ومالو ودجالهم مهاوش فأعطى مهاوش وحده عشرة آلاف ريال وأعطى الذين
قدموا معه مائة ألف ريال ثم قدمت عليه قبائل الحوز كله من عرب وبربر لم يتخلف عن
بيعته أحد وقدم عليه أهل مراكش وأعمالها ببيعتهم ونصها
الحمد لله المنفرد بالملك والخلق والتدبير الذي أبدع الأشياء بحكمته واخترع الجليل
منها والحقير الغني عن المعين والمرشد والوزير ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير
يؤتي الملك من يشاء ويعز من يشاء وهو
____________________
المدبر القدير جاعل الملوك كفا للأكف العادية وولايتهم مرتعا للعباد في ظل الأمن
والعافية وبيعتهم أمنا من الهرج والفساد وقمعا لأهل الشر والعناد فهم ظل الله على
الأنام وحصن حصين للخاص والعام حسبما أفصح بذلك سيد الأنام عليه أفضل الصلاة وأزكى
السلام فتبارك الله ربنا الذي شرف هذا الوجود وزين هذا العالم الموجود بهذه
الخلافة المباركة والإمامة الحسنية الهاشمية العلوية والطلعة القرشية المحمدية
التي انصرفت الوجوه إلى قبلتها المشروعة واستبان الحق عند مبايعتها والانقياد
لدعوتها المسموعة نحمده تعالى على ما من به علينا من هؤلاء الإمامة السعيدة ونشكره
جل جلاله شكرا نستوجب به من الهنا أفضاله ومزيده ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا
هو وحده لا شريك له ليس في الوجود إلا فعله أجرى الأقدار على حسب ما افتضاه حكمه
وعدله ونشهد أن سيدنا ونبينا ومولانا محمدا عبده ورسوله ومصطفاه من خلقه وخليله
سيد المخلوقات كلها من إنس وجان المصفى من ذؤابة معد بن عدنان صاحب الشريعة
المطهرة التي لا يختلف في فضلها اثنان والدين القويم الذي هو أفضل الأديان الذي
اختصه الله ما بين الأنبياء بمزية التفضيل والتقديم وافترض على أمته الغراء فريضة
الصلاة والتسليم وأثنى عليه في كتابه الحكيم فقال جل ثناؤه وتقدست صفاته وأسماؤه {
وإنك لعلى خلق عظيم } القلم 4 صلى الله عليه صلاة متصلة الدوام متعاقبة بتعاقب
الليالي والأيام وعلى آله الكرام الأطهار وصحابته النجباء البررة الأخيار الذين
أوضحوا لنا الحق تبيانا وأسسوا لهذه الملة السمحة قواعد وأركانا وعلى من اقتفى
أثرهم القويم واهتدى بهديهم المستقيم إلى يوم الدين أما بعد فإن الله تعالى جعل
صلاح هذا العالم وأقطاره المعمورة ببني آدم منوطا بالأئمة الأعلام محوطا بالملوك
الذين هم ظل الله على الأنام فطاعتهم ما داموا على الحق واتقوا الله سعادة
والاعتصام بحبلهم إذ ذاك واجب وعبادة قال عز من قائل { يا أيها الذين آمنوا ل }
____________________
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن ) النساء 59 وقال عليه السلام إن
أمر عليكم عبد مجدع أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا وقال عليه السلام
على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا
طاعة وقال عليه السلام من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية ومن
قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتل فقتلته
جاهلية ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى مؤمنها ولا يفي لذي عهدها
فليس مني ولست منه أخرجها مسلم كلها وقال عليه السلام السلطان ظل الله في الأرض
يأوي إليه الضعيف وبه ينتصر المظلوم ومن أكرم سلطان الله في الدنيا أكرمه الله يوم
القيامة أو كما قال وقال عليه السلام السلطان العدل المتواضع ظل الله ورمحه في
الأرض يرفع الله له عمل سبعين صديقا ولما كان أهل بيت سيد المرسلين أعظم قريش في
قلوب المؤمنين وأكرمهم منزلة عند رب العالمين أنالهم الله تعالى في خلقه فضلا
كبيرا ومنحهم إجلالا ورفعة وتعظيما وتكبيرا قال الله تعالى { إنما يريد الله ليذهب
عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } الأحزاب 33 وقال عليه الصلاة والسلام
النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأمتي وإن ممن امتن الله به علينا من أهل
هذا البيت الشريف الذي أولاه الله أشرف التعظيم وأعظم التشريف وقدمه تعالى لسلطانه
العزيز ورفعه جل وعلا على منصة التبريز عميد المجد الذي لا يتناهى فخره ووحيد
الحسب جل منصبه وقدره الإمام الذي ألقت له الإمامة زمامها وقدمته الأفاضل لفضله
إمامها من جاءت له الخلافة تجر أذيالها وأخذها دون بني أبيه ولم تك تصلح إلا له
ولم يك يصلح إلا لها ومن جبلت قلوب الخلائق على محبته وألقى له القبول في الأرض
لمجده ولعلو همته السلطان السعيد الواثق بربه المعين الرشيد أبا المكارم والمفاخر
سيدنا ومولانا يزيد ابن مولانا الإمام السلطان
____________________
الهمام المرحوم بالله سيدي محمد ابن أمير المؤمنين سيدنا ومولانا عبد الله ابن
السلطان الجليل أمير المؤمنين مولانا إسماعيل ابن موالينا السادة الأشراف ذوي
الفضل والكرم والإنصاف قدس الله أرواحهم في أعلى الجنان ومنحهم بفضله الرضا
والرضوان أيد الله ببقائه الدين وطوق بسيفه الملحدين وكتب تحت لوائه المعتدين وكتب
له النصر إلى يوم الدين وأعاذ به الأرض من لايدين بدين وأعاد بعدله أيام آبائه
الخلفاء الراشدين وأسكن في القلوب سكينته ووقاره ومكن له في الوجود وجمع له أقطاره
هو والله ممن فيه استحقاق ميراث آبائه الأعلام وتراث أجداده الكرام المجمع عليه
أنه في هذه الأيام فرد هو الأنان وواحد وهكذا في الوجود الإمام الراقي في صبح سماء
هذه الذروة المنيفة الباقي بعد الأئمة الماضين نعم الإمام ونعم الخليفة سلالة
الأخيار وخلاصة أبناء النبي المختار أسمى الله إيالته الشريفة وأنار البسيطة
بأنوار مملكته الشامخة المنيفة انعقد الإجماع من أهل هذه الحضرة المراكشية حاطها
الله وما حولها من أهل السوس وكافة الرحامنة وغيرهم من قبائل عديدة حسبما تضمنته
أسماء من يكتب اسمه منهم عقبه بخط من يكتب منهم أو خطوط العدول الثقات عمن لم يكن
يحسن الكتابة وأذنوا لمن يكتب عنهم بيعة تم بمشيئة الله تمامها وعم بالصوب المغدق
غمامها سعيدة ميمونة شريفة لها السلامة في الدين والدنيا مضمونة صحيحة شرعية
ملحوظة مرعية دائبة دائمة لازمة جازمة صحيحة صريحة متعبة مريحة على الأمن والأمانة
والعفاف والديانة وعلى ما بويع به مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء
الراشدون من بعده والأئمة المهتدون الموفون بعهده وعلى السمع والطاعة وملازمة
السنة والجماعة قرت بها نواظرهم وشهدت بذلك على صفاء بواطنهم ظواهرهم وأعطوا بها
صفقة أيديهم وأمضوها إمضاء يدينون به في السر والجهر والمنشط والمكره واليسر
والعسكر أجمع عليها أرباب العقد
____________________
والحل وأصحاب الكلام فيما قل وجل ومن يوصف بعلم وقضاء ومن يرجع إليه في رد وإمضاء
لم يخالف فيها إمام مسجد ولا خطيب ولا ذو فتوى يسأل فيجيب ولا من يجتهد في رأي
فيخطىء أو يصيب ولا معروف بدين وصلاح ولا فرسان حرب وكفاح ولا طاعن برمح ولا ضارب
بصفاح ولا ولاة الأمر والأحكام ولا حملة العلم الأعلام ولا حماة السيوف والأقلام
ولا أعيان السادة الأشراف ولا أكابر الفقهاء ومن انخفض قدره ومن أناف بيعة تمت بها
نعمة من وحد الله قائلين { الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن
هدانا الله } الأعراف 43 { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } الفتح 10 الآية
فمن حضر خواص من ذكر وعوامهم قيد شهادته بمضمن العقد المنصوص ملتزما لجميع ما
اقتضاه من العموم والخصوص باسطا كفه بالدعاء والابتهال والتضرع لذي العزة والجلال
قائلا اللهم كما خصصت مولانا أمير المؤمنين بمزيد الكرامة وارتضيته لمقام الإمامة
وانتخبته من أشراف الناس وصنت به وجوههم عن الباس فانصره اللهم نصرا مؤزرا واجعل
نصيبه من عنايتك وكفايتك جزيلا موفرا وأن له في كل مرام فتحا مبينا وظفرا ميسرا
معينا وأسعدنا اللهم بأيامه واكلأه بكلاءتك في ظعنه ومقامه واجعل بيعته المباركة
بيعة تخلد بها مآثره تخليدا وتؤيد علوه وتأييده ونصره تأييدا وأبقه على الأنام
شفيقا وبجميعهم بارا رفيقا وأعنه اللهم على ما وليته من أمور عبادك ومهد له أتم
التمهيد في أقطار بلادك وكن له فيما يرضيك مؤيدا وظهيرا واجعل له من لدنك وليا
وسلطانا نصيرا أجب دعاءنا إنك با مولانا ولي ذلك وبه قدير وأنت نعم المولى ونعم
النصير وبالإجابة جدير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي الكبير وصلى الله على
سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين في ثامن عشر شعبان عام أربعة ومائتين وألف انتهت
____________________
انتقال الودايا من مكناسة إلى
فاس وعبيد الثغور منها إلى مكناسة
لما كان السلطان المولى يزيد رحمه الله بمكناسة أمر الودايا أن ينتقلوا منها إلى
فاس الجديد مسقط رؤوسهم ومنبت شوكتهم وبأسهم وبذل لهم خمسين ريالا للرأس إعانة لهم
على نقلتهم فعادوا إلى فاس الجديد واستوطنوه بعد تغريبهم عنه بمكناسة ثلاثين سنة
كما سبق ثم أمر عبيد الثغور أن ينتقلوا منها إلى مكناسة لتجتمع كلمتهم بها وأنعم
على أهل كل ثغر منهم ببيت ماله الذي به فاقتسموه وانقلبوا إلى مكناسة مغتبطين نقض
الصلح مع جيش الإصبنيول وحصاره سبتة
قال منويل القشتيلي في كتابه الموضوع في أخبار المغرب لما ولي المولى يزيد بن محمد
رحمه الله أظهره معاداة الإصبنيول وصمم على حربهم فتفادى طاغيتهم من حربه بكل وجه
وبعث باشدوره إليه بطنجة يهنئه بالملك ويتملق له فأعرض عن ذلك ولم يحفل به ولا
بهديته بل عمد إلى من كان بمراسيه من نصارى الإصبنيول تجارا وفرايلية وغيرهم وقبض
عليهم وسلكهم في السلاسل وساقهم إلى طنجة فحبسهم بها قال وكانت قراصين المسلمين
الحربية يومئذ ستة عشر قرصانا وفيها من المدافع ثلاثمائة مدفع وستة مدافع
قلت قد تقدم أن القراصين أكثر من ذلك بكثير واستمر النصارى محبوسين بطنجة إلى أن
اتفق أن كان قرصان للإصبنيول يطوف بساحل العرائش فظفر بمركب هنالك وأسر بعضهم وكان
المولى يزيد يومئذ بالعرائش فنظر إليهم بمرآة الهند وهو على سطح داره إذ أسروهم
وبعث الصريخ في أثرهم ففاتوه ثم وقع التفادي بينه وبين الطاغية في أولئك الأسرى
بأسرى طنجة اه كلام منويل
____________________
ثم إن السلطان المولى يزيد رحمه الله زحف إلى سبتة واستنفر الناس لجهادها
والمرابطة عليها واستصحب معه آلة الحرب من المدافع والمهاريس ونصب عليها سبعة
أشبارات كان جلها لفنانشة سلا وأهرعت إليه المتطوعة من حاضر وباد ونسلوا إليه من كل
حدب وواد وأقام على حصارها مدة ثم أفرج عنها وسار إلى ناحية مراكش لأمر اقتضى ذلك
فلما وصل إلى مدينة آنفا بدا له من الرجوع فرجع ونزل عليها واستأنف الجد وأرهف
الحد وأرسل إلى قبائل الحوز يستنفرهم للجهاد والمرابطة فتقاعدوا عنه بعد أن أشرف
على فتحها وكان ما نذكره انتقاض أهل الحوز على السلطان المولى يزيد ابن محمد
وبيعتهم لأخيه المولى هشام رحمهما الله
لما قدمت قبائل الحوز على السلطان المولى يزيد بمكناسة ظهر لهم منه بعض التجافي
عنهم وأنزلهم في العطاء دون البربر والودايا وغيرهم فساءت ظنونهم به وانفسدت
قلوبهم عليه ولما رجعوا إلى بلادهم تمشت رجالاتهم بعضها إلى بعض وخب الرحامنة في
ذلك ووضعوا واتفقت كلمتهم مع أهل مراكش وعبدة وسائر قبائل الحوز فقدموا المولى
هشام بن محمد للقيام بأمرهم وآتوه بيعتهم وطاعتهم ولما اتصل خبر ذلك بالمولى يزيد
وهو محاصر لسبتة أقلع عنها وسار إلى الحوز فشرد قبائله ووصل إلى مراكش فدخلها عنوة
يقال إن دخوله إليها كان من الباب المعروف بباب يغلى فاستباحها وقتل وسمل وكان
الحادث بها عظيما ثم استجاش عليه المولى هشام قبائل دكالة وعبدة وقصده بمراكش فبرز
إليه المولى يزيد ولما التقى الجمعان بموضع يقال له تازكورت انهزم جمع المولى هشام
وتبعهم المولى يزيد فأصيب برصاصة في خده فرجع إلى مراكش يعالج جرحه فكان في ذلك
حتفه رحمه الله وذلك أواخر جمادى الثانية سنة ست ومائتين وألف
____________________
ودفن بقبور الأشراف قبلي جامع المنصور من قصبة مراكش ولقد كان رحمه الله من فتيان
آل علي وسمحائهم وأبطالهم له في النجدة والكفاية المحل الذي لا يجهل والسبق الذي
لا يلحق والغبار الذي لا يشق ولا يضره تنقيص من نقصه من الحسدة عفا الله عنا وعنهم
فإن مكان الرجل غير مكانهم وهمته العالية فوق تزويراتهم تغمد الله الجميع بعفوه
وغفرانه آمين ولنذكر ما كان في هذه المدة من الأحداث
ففي شعبان سنة اثنتين وأربعين ومائة وألف توفي الفقيه العلامة القاضي بسلا أبو عبد
الله محمد السوسي المنصوري ودفن قرب الولي الصالح سيدي مغيث من طالعة سلا وله شرح
على مختصر السنوسي في المنطق وآخر على كبراه وفي ضحى يوم السبت الثامن والعشرين من
المحرم فاتح سنة ثلاث وأربعين ومائة وألف توفي الفقيه المرابط البركة سيدي الحاج
الغزواني ابن البغدادي من حفدة الولي الأشهر سيدي محمد الشرقي رضي الله عنه ودفن
بداره بجوار سيدي مغيث أيضا
وفي يوم الأربعاء الثامن والعشرين من صفر سنة أربع وأربعين ومائة وألف توفي الفقيه
العلامة الإمام صاحب التصانيف المفيدة والأجوبة العتيدة أبو عبد الله سيدي محمد بن
عبد الرحمن بن زكري الفاسي رحمه الله ورضي عنه
وفي يوم الجمعة الرابع من رجب سنة ست وأربعين ومائة وألف كمل بناء قبة ولي الله
تعالى أبي العباس سيدي الحاج أحمد بن عاشر رضي الله عنه على يد القائد أبي عبد
الله الحوات وفي الشهر نفسه توفي الفقيه القاضي النوازلي أبو العباس سيدي أحمد
الشدادي بزاوية زرهون
وفي سنة خمسين ومائة وألف ولد الشيخ أبو العباس أحمد التجاني شيخ الطائفة التجانية
وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله وفيها كانت المجاعة العظيمة بالغرب والفتن ونهب
الدور بالليل بفاس وغيرها وصار جل الناس لصوصا
____________________
فكان أهل اليسار لا ينامون لحراستهم دورهم وأمتعتهم وهلك من الجوع عددا لا حصر له
حتى لقد أخبر صاحب المارستان أنه كفن في رجب وشعبان ورمضان ثمانين ألفا وزيادة سوى
من كفنه أهله هذا بفاس وليقس عليها غيرها
وفي زوال يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شوال سنة ثمان وخمسين ومائة وألف توفي
قاضي سلا الفقيه العلامة السيد أبو عمرو عثمان التواتي ودفن داخل روضة سيدي الحاج
أحمد بن عاشر رضي الله عنه
وفي سنة ثلاث وستين ومائة وألف كان الوباء بالمغرب وانحباس المطر فلحق الناس من
ذلك شدة ثم تداركهم الله بلطفه
وفي سنة تسع وستين ومائة وألف كانت الزلزلة العظيمة بالمغرب التي هدمت جل مكناسة
وزرهون ومات فيها خلق كثير بحيث أحصي من العبيد وحدهم نحو خمسة آلاف وتكلم لويز
مارية على هذه الزلزلة فقال إنها مكثت ربع ساعة وتشققت الأرض منها واضطراب البحر
وفاض حتى ارتفع ماؤه على سور الجديدة وفرغ فيها ولما رجع البحر إلى مقره ترك عددا
كثيرا من السمك بالبلد وفاض على مسارحهم ومزارعهم وأشباراتهم فنسف ذلك كله نسفا
واضطربت المراكب والفلك بالمرسى فتكسرت كلها وفر نصارى البلد إلى الكنيسة وتركوا
ديارهم منفتحة ومع ذلك لم يفقد منها شيء لاشتغال الناس بأنفسهم وتكلم صاحب نشر
المثاني على هذه الزلزلة فقال وفي ضحوة يوم السبت السادس والعشرين من المحرم سنة
تسع وستين ومائة وألف زلزلت الأرض زلزالها ومادت شرقا وغربا واستمرت كذلك نحو درج
زماني وفاض ماء البرك والصهاريج على البيوت وتكدرت العيون ووقف ماء الأودية عن
الجري وسقطت الدور وتصدعت الحيطان وأخذ الناس في هدم ما تصدع خوف سقوطه وفزع الناس
وتركوا حوانيتهم وأمتعتهم ووقع بمدينة سلا أن ماء البحر انحصر عنه إلى أقصاه فجاء
الناس ينظرون إليه فرجع الماء إلى جهة البر وتجاوز حده المعتاد بمسافة كبيرة
____________________
فأغرق جميع من كان خارج المدينة في تلك الجهة وصادف قافلة ذاهبة إلى مراكش فيها من
الدواب والناس عدد كثير فأتلف الجميع ورمى بالقوارب والزوارق التي في الوادي إلى
مسافة بعيدة جدا ثم بعد هذه بنحو ستة وعشرين يوما عادت زلزلة أخرى أشد من الأولى
بعد صلاة العشاء هي التي أثرت في مكناسة غاية وهلك تحت الهدم بها نحو عشرة آلاف
نفس وفعلت بفاس أيضا فعلا شنيعا انظر تمام كلامه فقد أطال في وصفها
وفي يوم الأحد التاسع والعشرين من رمضان سنة سبع وسبعين ومائة وألف انكسفت الشمس
وبقي منها مثل الهلال ثم انجلت بعد حين
وفي فجر يوم الأحد الثامن والعشرين من ربيع الثاني سنة إحدى وثمانين ومائة وألف
توفي الشريف البركة مولاي الطيب بن محمد الوزاني وعمره ينيف على الثمانين سنة وبعد
صلاة العصر من يوم الأربعاء الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة اثنتين وتسعين
ومائة وألف انكسفت الشمس وظهرت النجوم لكثرة الظلام ثم انجلت ورجعت لحالها بعد نصف
ساعة ونحوها
وفي أعوام تسعين ومائة وألف كانت المجاعة الكبيرة بالمغرب وانحبس المطر ووقع القحط
وكثر الهرج ودام ذلك قريبا من سبع سنين
وفي أواخر ربيع الثاني سنة أربع وتسعين ومائة وألف توفي الشيخ العلامة الإمام
المحقق البارع أبو عبد الله محمد بن الحسن بناني الفاسي الفقيه المشهور صاحب
التآليف الحسان مثل حاشيته البديعة على شرح الشيخ عبد الباقي الزرقاني على مختصر
خليل حكى العلامة الرهوني في حاشيته قال لما أخبر الشيخ التاودي ابن سودة بوفاته
جاء فزعا وهو يبكي فلقيه بعض الناس فقال له الله يجعل البركة فيكم فقال لم تبق
بركة بعد هذا الرجل وذلك لمعرفته بمكانته
وفي ضحى يوم السبت الثامن عشر من صفر سنة ست وتسعين ومائة وألف توفي الشريف البركة
المولى أحمد بن الطيب الوزاني رحمه الله ونفعنا به وبأسلافه آمين
____________________
حدوث الفتنة بالمغرب وظهور
الملوك الثلاثة من أولاد سيدي محمد بن عبد الله وما نشأ عن ذلك
لما قتل المولى يزيد رحمه الله بمراكش افترقت الكلمة بالمغرب فأقام أهل الحوز وأهل
مراكش على التمسك بدعوة المولى هشام وشايعه على أمره القائد أبو زيد عبد الرحمن بن
ناصر العبدي صاحب آسفي وأعمالها والقائد أبو عبد الله محمد الهاشمي بن علي بن
العروسي الدكالي البوزراري وكان المولى مسلمة بن محمد شقيق المولى يزيد خليفة عنه
ببلاد الهبط والجبل يدبر الأمر بثغورها وينظر في أمورها فلما اتصل به خبر وفاة
أخيه دعا إلى نفسه أهل تلك البلاد فبايعوه واتفقت كلمتهم عليه ووصل خبر موت المولى
يزبد إلى فاس وأعمالها فبايعوا المولى سليمان بن محمد رحمه الله وكان من أمره ما
نذكره الخبر عن دولة أمير المؤمنين أبي الربيع المولى سليمان بن محمد رحمه الله
كان المولى سليمان بن محمد رحمه الله أعلق بقلب أبيه من سائر إخوته على ما قيل
لسعيه فيما يرضي الله ورسوله ويرضي والده واشتغاله بالعلم والعكوف عليه بسجلماسة
وغيرها ولم يلتفت قط إلى شيء مما كان يتعاطاه إخوته الكبار والصغار من أمور اللهو
كالصيد والسماع ومعاقرة الندمان وما يزري بالمروءة ولم يأت فاحشة قط من صغره إلى
كبره وكان رحمه الله يرى له ذلك ويثيبه عليه بالعطايا العظيمة والذخائر النفيسة
والأصول المعتبرة التي تغل الألف وأكثر وينوه بذكره في المحافل ويبعث إليه بأعيان الفقهاء
والأدباء إلى سجلماسة ليقرأ عليهم ويأخذ عنهم ويدعو له في كل موقف على رؤوس
الأشهاد ويقول إن ولدي سليمان رضي الله عنه لم يبلغني عنه قط ما يكدر باطني عليه
فأشهدكم أني عنه راض ونشأ رحمه الله نشأة حسنة
____________________
طيبة وكانت شمائل الملك لائحة عليه إلى أن أظفره الله به وكنا قدمنا أنه قدم على
أخيه المولى يزيد بقبائل الصحراء فأجل مقدمه وأكرم وفادته فأقام المولى سليمان
رحمه الله بفاس إلى أن كانت وفاة المولى يزيد في التاريخ المتقدم فاتصل خبر موته
بأهل فاس ومكناسة فقاموا على ساق واتفق العبيد والودايا والبربر وأهل فاس على
بيعته لما كان عليه من العلم والدين والفضل وسائر الأوصاف الحميدة التي تفرد بها
عن غيره ولما قدم العبيد والبربر من مكناسة إلى فاس اجتمعوا بأعيان الودايا وأهل
فاس ودخلوا ضريح المولى إدريس رضي الله عنه وبايعوا أمير المؤمنين المولى سليمان يوم
الأثنين سابع عشر رجب سنة ست ومائتين وألف ولما تمت بيعته انتقل إلى فاس الجديد
فاستقر بدار الملك منها وقدمت عليه وفود القبائل من العرب والبربر بهداياهم ثم قدم
عليه بعدهم قبائل بني حسن وأهل الغرب ثم أهل العدوتين سلا ورباط الفتح وانحرف بعض
أهل رباط الفتح عن بيعته كما سيأتي ثم قدم عليه أهل الثغور الهبطية بعد أن توقفوا
عن بيعته مدة يسيرة لأنهم كانوا قد بايعوا المولى مسلمة كما مر
ونص بيعة أهل فاس الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الحمد لله
الذي نظم بالخلافة شمل الدين والدنيا وأعلى قدرها على كل قدر فكانت لها الدرجة
العليا وأشرق شمسها على العوالم وأنار بنورها المعالم وأصلح بها أمر المعاش
والمعاد وألف بها بين قلوب العباد من الحاضر والباد وجعلها صونا للدماء والأموال
والأعراض وغل بها أيدي الجبابرة فلم تصل إلى مفاسد الأغراض وقام بها أمر الخلق
واستقام وأقيمت الشرائع والحدود والأحكام ونصب منارها علما هاديا وأقامه إلى الحق
داعيا فأوى لظلها الوريف القوي والضعيف والمشروف والشريف فسبحان من قدر فهدى ولم
يترك الإنسان سدى بل أمره ونهاه وحذره اتباع هواه وطوقه القيام بالنفل والفرض وهو
أحكم
____________________
الحاكمين { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على
العالمين } البقرة 25 فمن رحمته نصب الملوك ومهد الطريق للسير والسلوك ولو ترك
الناس فوضى لأكل بعضهم بعضا وآل الأمر إلى الخراب وأفضى لولا الخلافة لم تؤمن لنا
سبل وكان أضعفنا نهبا لقوانا والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للأنام أصل الوجود
ومبدأه وغاية الكمال ومنتهاه سيد الأولياء وإمام الأنبياء وقائد الأصفياء وعلى آله
أولي المجد العميم والقدر العظيم وأصحابه الخلفاء الراشدين والهداة المهتدين الذين
شيدوا أركان الدين ومهدوا قواعده للمشيدين وأخبروا عنه وأسندوا إليه صلى الله عليه
وسلم أنه قال إن الله اختص بهذا الأمر قريشا وأنزل عليه { والله يؤتي ملكه من يشاء
} البقرة 247 هذا ولما قضى الله سبحانه وله البقاء والدوام بنزول ما لا بد منه من
فجأة الحمام لمن كان قائما بهذا الأمر العظيم وانتقاله إلى دار عفوه ورضوانه
العميم أسكنه الله فسيح الجنان وسقى ثراه سحائب الرحمة والغفران وجب على الناس نصب
إمام لقوله عليه الصلاة والسلام من مات وليست في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية فجالت
أفكارهم وخاصت عقولهم وأنظارهم فيمن يقدمون لهذا المنصب الأعظم ويسلك بهم السبيل
الأقوم فهداهم التوفيق والتسديد والرأي الصالح السديد إلى من نشأ في عفة وصيانة
ومروءة وديانة وعكوف على تحصيل العلم الشريف ودؤب على التحلي بحلى العمل المنيف مع
نجدة ونباهة وذكاء وفطانة ونزاهة وعلو همة وقوة عزمة وتدبير وسياسة وخبره بالأمور
وفراسة فتى جمع الله له بين الصرامة والحلم وزاده بسطة في العلم والجسم وألبسه
الهيبة والوقار ورقاه أعلى رتب العز والفخار وهو السري المقدم الشهم الأبر الهمام
ذو الأخلاق الطاهرة الزكية والمآثر الظاهرة السنية عالي القدر والشأن فريد العصر
ووحيد الأوان أبو الربيع مولانا سليمان ابن مولانا أمير المؤمنين محمد ابن
____________________
مولانا أمير المؤمنين عبد الله
ابن مولانا أمير المؤمنين إسماعيل ابن مولانا الشريف فانعقد الإجماع من أهل هذه
الحضرة الإدريسية وما حولها من البقاع على تقدمه وإمامته واستبشروا بإمرته وخلافته
وبادروا إلى تعيينه وبايعوه بيعة انعقد على ألوية النصر عقدها وطلع في أفق الهناء
سعدها حضرها الصدور والأعيان وأهل الوجاهة في هذا الزمان وذوو الحل والعقد ومن
إليهم القبول والرد من علماء وأعلام وأصحاب الفتاوى والأحكام وعظماء أشراف كرام
ورماة كبرا وولاة أمرا ورؤساء أجناد والمتقدمين في كل ناد من عرب البدو والحضر
وجيوش العبيد والبربر فانعقدت بحمد الله مؤسسة على التقوى واشتد بها عضد الإسلام
وتقوى بيعة تامة محكمة الشروط وفية العهود وثيقة الربوط جارية على سنن السنة
والجماعة سالمة من كل كلفة ومشقة وتباعة رضي الكل بها وارتضاها وألزم حكمها بالسمع
والطاعة وأمضاها شهد بذلك الحاضرون على أنفسهم طوعا وأدوا إليه تعالى ما وجب عليهم
شرعا جعلها الله رحمة على الخلق وأقام بها في البسيطة العدل والحق وأيد بعونه
وتأييده وتوفيقه وتسديده من تلقاها بالقبول وأحيا به سنة سيدنا ومولانا الرسول صلى
الله عليه وسلم وشرف وكرم فهنيئا لأرضنا إذ ألقت مقاليدها إلى من يحمي حماها ويحقن
دماها ويكبت عداها ويدفع رداها وينصر الشريعة ويشيد مبناها ويعلن بحقيقة الحق
ويوضح معناها نصره الله ونصر به وأمات البدع والظلالة بسببه ودمر به شيعة الجور
والفساد وأبقى الخلافة في بيته إلى يوم التناد وصلى الله على سيدنا محمد خاتم
النبيئين وعلى آله وأصحابه أجمعين والراوين عنهم والمتلقين منهم آمين وفي ثامن عشر
رجب الفرد الحرام من ستة ومائتين وألف من هجرة المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى
السلام أفقر العبيد إلى الله سبحانه عبد الله تعالى محمد التاودي بن الطالب ابن
سودة المري كان الله له وليا وبه حفيا أحمد بن التاودي المذكور أخذ
____________________
الله بيده وكان له في جميع الأمور وأناله الثواب والأجور وعبد الله تعالى محمد بن
عبد السلام الفاسي لطف الله به آمين وعبد القادر بن أحمد بن العربي بن شقرون أمنه
الله بمنه آمين ومحمد بن أحمد بنيس كان الله له وليا ونصيرا آمين وعبد ربه وأفقر
عبيده إليه محمد بن عبد المجيد الفاسي لطف الله به وعبد ربه سبحانه يحيى بن المهدي
الشفشاوني الحسني لطف الله به وعبد ربه علي بن إدريس كان الله له ولطف به آمين
وعبد ربه تعالى محمد بن إبراهيم لطف الله به وعبد ربه سبحانه محمد بن مسعود
الطرنباطي وفقه الله بمنه آمين وعبد ربه سبحانه سليمان بن أحمد الشهير بالفشتالي
كان الله له وأصلح حاله وعبد ربه محمد الهادي بن زين العابدين العراقي الحسيني
وفقه الله وعبد ربه سبحانه محمد التهامي طاهر الحسني وفقه الله آمين وعبد الملك بن
الحسن الفضيلي الحسني لطف الله به آمين وعبد ربه إدريس بن هاشم الحسني الجوطي لطف
الله به آمين انتهى حرب السلطان المولى سليمان لأخيه المولى مسلمة وطرده إلى بلاد
المشرق
لما تمت بيعة السلطان المولى سليمان بن محمد رحمه الله بفاس باتفاق أهل الحل
والعقد من الجند والعلماء والأشراف وسائر الأعيان تداعى أمر المولى مسلمة إلى
الاختلال وكان أول ما ابتدأ به عمله بعد تلك البيعة المستعجلة أن بعث جريدة من
الخيل إلى نظر القائد أبي عبد الله محمد الزعري إلى رباط الفتح وذلك باستدعاء
محتسبها أبي الفضل العباس مرينو وأبي عبد الله محمد المكي بن العربي فرج من أهلها
المنحرفين عن المولى سليمان إلى التمسك بدعوة المولى مسلمة وكان أهل رباط الفتح
يومئذ على فرقتين فرقة دخلت في طاعة المولى سليمان وفرقة أقامت بالتمسك ببيعة
المولى مسلمة
____________________
ولما اتصل بالمولى سليمان خبر مسير الزعري إلى رباط الفتح عقد لأخيه المولى الطيب
على بني حسن وبعثه في اعتراضه فتوافى الجيشان معا برباط الفتح ووقعت الحرب فانهزم
الزعري وشيعته وقتل العباس مرينو وفر المكي فرج إلى الزاوية التهامية فاستجار بها
وقبض المولى الطيب على الزعري وجماعة من أصحابه ثم سرحه بأمر السلطان المولى
سليمان واجتمعت كلمة أهل العدوتين على طاعته هكذا ساق صاحب البستان هذا الخبر وآل
فرج يثبتونه ويقولون إن أصل هذه الفتنة أن آل مرينو كانت لهم الوجاهة مع المولى
يزيد رحمه الله فسعوا عنده بآل فرج وقالوا له إنهم تقاعدوا على مال الوزير أبي عبد
الله محمد العربي قادوس الذي أمنه عندهم فبطش بهم المولى يزيد وصادرهم واستحكمت
العداوة يومئذ بينهم وبين آل مرينو فلما توفي المولى يزيد بادر آل مرينو ومن لافهم
إلى بيعة المولى مسلمة وانحرف عنهم إلى بيعة المولى سليمان من لم يكن من حزبهم
ولما قتل العباس مرينو عمد أوباش رباط الفتح إلى شلوه وربطوا في رجله حبلا وجروه
في أسواق المدينة وعرضوه على حوانيتها حانوتا حانوتا إذ كان في حياته محتسبا رحمه
الله وكان السلطان المولى سليمان في هذه المدة مقيما بفاس لم يتحرك منه ثم أن
المولى مسلمة صاحب بلاد الهبط بعث ولده إلى آيت يمور وأمرهم أن يشنوا الغارة على
أهل زرهون الذين هم في طاعة السلطان ففعلوا وكثر عيثهم في الرعايا فسار السلطان
المولى سليمان إلى مكناسة واستنفر جيش العبيد وقبائل البربر ثم وافاه الودايا وأهل
فاس وشراقة فاجتمع عليه الجم الغفير وصمد بهم إلى آيت يمور فألفاهم على نهر سبو
بالموضع المعروف بالحجر الواقف فصمدت إليهم العساكر وأوقعت بهم وقعة شنعاء وفر ولد
المولى مسلمة فلحق بأبيه ولجأ آيت يمور بقضهم وقضيضهم إلى جبل سلفات وبقيت حلتهم
بماشيتها وأثاثها بيد السلطان فانتهبتها جيوشه من العبيد والودايا والبربر وبات
السلطان هنالك ولما أصبح بعث إليه آيت يمور نساءهم وأولادهم للشفاعة وطلب العفو
فعفا عنهم وثابوا إليه وبايعوه فأنعم عليهم بماشيتهم وزرعهم وعاد إلى فاس ثم
____________________
بلغه أن المولى مسلمة معسكر ببلاد الحياينة فنهض إليه من فاس فأوقع به فانهزم
المولى مسلمة وجيشه ونهب جيش السلطان حلة الحياينة وجاؤوا تائبين فعفا عنهم ونظمهم
في سلك الجماعة وتفرق عن المولى مسلمة كل من كان معه من عرب الخلط وأهل الجبل ولم
يبق معه إلا خاصته وأولاده وابن أخيه المولى حسن بن يزيد فسار إلى جبل الزبيب فلم
يقبلوه ثم انتقل إلى الريف فأهملوه ثم صعد إلى جبل بني يزناسن فطردوه ثم توجه إلى
ندرومة فمنعه صاحبها من الوصول إلى الباي صاحب الجزائر وكان ذلك عن أمر منه فتوجه
إلى تلمسان وأقام بها
قال صاحب البستان وهناك اجتمعت به في ضريح الشيخ أبي مدين بالعباد يعني حين قدم
تلمسان مفارقا للسلطان المولى سليمان وزعم أن المولى مسلمة لما اجتمع به لامه على
تخذيل الناس عن بيعته وحضه إياهم على بيعة أخيه المولى سليمان قال فبينت له حال
المولى سليمان وما هو عليه من اتباع سيرة والده في العدل والرفق بالرعية وبذلك
أحبه الناس فلما سمع كلامي بكى واعترف بالحق وتلا قوله تعالى { ولو كنت أعلم الغيب
لاستكثرت من الخير } الأعراف 188 ثم طلب من صاحب الجزائر أن يأذن له في الذهاب إلى
المشرق والمرور بإيالته فأبى وبعث من أزعجه من تلمسان إلى سجلماسة
ولما اتصل خبره بالسلطان المولى سليمان وأنه عاد إلى سجلماسة أرسل إليه مالا وكسى
وعين له قصبة ينزلها ورتب له ما يكفيه في كل شهر كسائر إخوته فلم يطب له مقام بها
وسار إلى المشرق فاجتاز في طريقه بصاحب تونس الأمير حمودة باشا ابن علي باي
قال صاحب الخلاصة النقية قدم المولى مسلمة بن محمد على الأمير حمودة باشا شريدا
أثر خلعه من مملكة فاس فأنزله أسنى منزلة وأجرى عليه جراية سلطانية وبالغ في بره
اه ثم أن المولى مسلمة سافر إلى المشرق فأقام بمصر مدة ثم توجه إلى مكة فنزل على
سلطانها صهره على أخته فأكرمه ورتب له جراية ثم عاد من مكة إلى مصر وساءت حاله في
هذه المدة وضاقت عليه الأرض بما رحبت فرجع إلى تونس ونزل على حمودة
____________________
باشا المذكور فعاود إكرامه ثم طلب منه أن يشفع له عند أخيه المولى سليمان فكتب له
بذلك فأخذ كتابه وانحدر إلى وهران وطلب من أميرها الشفاعة أيضا فكتب له وبعث
بمكاتيب الأميرين إلى السلطان المولى سليمان فقبله وأمره أن يذهب إلى سجلماسة ينزل
بها بدار والده ويرتب له ما يكفيه من مؤنة وكسوة ويقاسمه نعمته ويبقى بعيدا عن
سماسرة الفتن حتى لا يجدوا سبيلا إلى إيقاد نار الفتنة فلما بلغه جواب أخيه لم يرض
ذلك وعاد إلى المشرق فبقي يتردد به إلى أن وافته منيته واستراح من تعب الدنيا رحمه
الله نهب عرب آنقاد لركب حاج المغرب وما نشأ عن ذلك
ثم بلغ السلطان المولى سليمان رحمه الله أن جماعة من التجار والحجاج الذين قدموا
من المشرق خرجوا من وجدة متوجهين إلى فاس فلما توسطوا أرض آنقاد عدت عليهم عربها
فنهبتهم فاستدعى السلطان رحمه الله الكاتب أبا القاسم الصياني وأمره بالمسير إلى
وجدة يكون واليا بها ويصلح ما فسد من أعمالها فكره الصياني ذلك واستقال فلم يقله
السلطان وعزم عليه في المسير إليها وعين له مائة فارس تذهب معه فامتثل راغما وأضمر
أنه إن فارق السلطان يذهب إلى أحد الحرمين الشريفين فيقيم به بقية عمره وجمع
موجوده وخرج فخرج معه قفل التجار الذي كان محصورا بفاس ولما توسطوا أرض آنكاد
وجدوا العرب في انتظارهم فثأروا بهم وقاتلوهم فتماسكت خيل السلطان هنيئة ثم كثرهم
العرب فهزموهم ولم يبق من تلك الخيل إلا قائدها في عشرة من إخوانه وانتهبت العرب
ما كان في ذلك القفل من أمتعة التجار وسلعها ولم ينج من نجا منه إلا بنفسه قال
الصياني فلجأنا إلى قصبة العيون وتفرق جمعنا وقتل منا سبعة نفر وجرح آخرون فبعثت
من أتانا بالقتلى فدفناهم ثم سرحت قائد الخيل إلى وجدة مع بعض العرب الذين هنالك
وطلعت أنا مع برابرة بني يزناسن وليس معي إلا مركوبي
____________________
وفرس آخر كان عليه مملوك لي قتل في المعركة قال ثم خلصت إلى وهران فنزلت عند الباي
محمد باشا فأظهر التأسف والتوجع وراودني على المقام فأبيت ثم ذكر الصياني أنه بعد
هذا ذهب إلى تلمسان واجتمع هنالك بالمولى مسلمة بن محمد وتلاوما وتعاتبا حسبما
ذكرناه آنفا وكان ذلك أواخر سنة ست ومائتين وألف بعث السلطان المولى سليمان الجيوش
إلى الحوز ونهوضه على أثرها إلى رباط الفتح وعوده إلى فاس
قد قدمنا أن أهل مراكش وقبائل الحوز كانوا متمسكين بدعوة المولى هشام بن محمد من
لدن دولة المولى يزيد رحمه الله ولما صفت بلاد الغرب للسلطان المولى سليمان رحمه
الله تاقت نفسه إلى تمهيد بلاد الحوز والاستيلاء عليها فعقد لأخيه المولى الطيب بن
محمد على عشرة آلاف من الخيل وعين معه جماعة من قواد الجيش وبعثهم إلى قبائل
الشاوية وذلك أواخر سنة سبع ومائتين وألف ثم زحف السلطان على أثرهم إلى رباط الفتح
فمحا بقية آثار الفتنة التي نشأت بها وأقام ينتظر ما يكون من أمر أخيه
وفي سادس شوال من السنة صلى السلطان الجمعة بمسجد القصبة منها وكان هو الإمام وخطب
خطبة بليغة تشتمل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحذير من الحرام واجتناب
الآثام ووعد وأوعد وقال في آخر خطبته وانصر اللهم جيوش المسلمين وعساكرهم ودعا
لكافة الأمة وصلى في الركعة الأولى بسورة الجمعة وفي الثانية بسورة الغاشية الخ
ولما قدم المولى الطيب بلاد الشاوية تنافس قواد الجيش الذين معه وتنازعوا الرياسة
وصار كل واحد منهم يرى أنه صاحب الأمر وكان من أعظمهم تهورا القائد الغنيمي كان من
قواد المولى يزيد رحمه الله فأبقاه المولى سليمان على رياسته تألفا له فاستبد على
سائر القواد في الرأي إذ كان رديف
____________________
الخليفة المولى الطيب وصاحب مشورته فلما كان وقت اللقاء تخاذلوا عنه وجروا عليه
الهزيمة وتركوا أخبيتهم وأثاثهم بيد العدو ورجعوا مفلولين إلى السلطان برباط الفتح
وهم عشرة آلاف فارس كما مر فما وسع السلطان رحمه الله إلا الرجوع بهم إلى فاس
لتجديد آلة السفر والغزو ثانيا وإخلاف ما ضاع من الأخبية والسلاح والأثاث حسبما
يذكر بعد إن شاء الله ثورة محمد بن عبد السلام الخمسي المعروف بزيطان بالجبل
لما كانت سنة ثمان ومائتين وألف ثار بقبيلة الأخماس من جبال عمارة رجل من طلبتها
يقال له محمد بن عبد السلام ويدعى زيطان فاجتمعت عليه سماسرة الفتن من كل قبيلة
وكثر تابعوه وكان السبب في ثورته أن القائد قاسما الصريدي كان واليا بتلك الناحية
أيام المولى يزيد رحمه الله فلما بويع المولى سليمان ولى على تلك الناحية القائد
الغنيمي المتقدم الذكر وكان عسوفا فيما قيل فقبض على القائد قاسم واستصفى أمواله
وبث عليه العذاب كي يظهر ما بقي عنده حتى هلك في العذاب فثار زيطان واجتمعت عليه
الغوغاء من أهل تلك البلاد ولما شرى داؤه بعث السلطان بجيش إلى القائد الغنيمي
وأمره أن يقصد زيطان وجمعه فزحف إليه ببلاد غصاوة قرب وازان وأوغل في طلبه فنهاه
من معه من رؤساء الجيش عن التورط بالناس في تلك الجبال والشعاب فلج واقتحمها بخيله
وراميته ولما توسطها سالت عليه الشعاب بالرماة من كل جانب وهاجت الحرب وأحاط العدو
بالجيش فقتلوا منهم وسلبوا كيف شاؤوا وردوهم على أعقابهم منهزمين ولما اتصل خبر
الهزيمة بالسلطان اغتاظ وقبض على الغنيمي ومكن منه أولاد قاسم الصريدي فباشروا
قتله بأيديهم واقتصوا منه بأبيهم وولى على قبائل الجبل أخاه المولى الطيب وفوض
إليه أمر الثغوروأنزله طنجة وبقي المولى
____________________
الطيب يدبر أمر القبائل الجبلية وثغورها من تطاوين إلى طنجة إلى العرائش وكلما بدت
له فرجة سدها أو فرصة انتهزها وحارب قبائل الفحص إلى أن استكانوا وانقادوا إلى
الطاعة ثم حارب أهل حوز طنجة وآصيلا من بني يدير والأخماس من أصحاب زيطان فكانت
الحرب بينهم سجالا
ثم لما دخلت سنة تسع ومائتين وألف أمد السلطان أخاه المولى الطيب بجيش وافاه بطنجة
فخرج منها ومعه عسكرها وعسكر العرائش وصمد إلى بني جرفط عش الفساد ونزل على بلادهم
وقاتلهم في عقر ديارهم فقتل مقاتلتهم وأحرق مداشرهم وانتهب أموالهم ومزقهم كل ممزق
فجاؤوه خاضعين تائبين فعفا عنهم ثم تقدم إلى بني حرشن من بني يدير على تفيئة ذلك
ففر الثائر زيطان إلى قبيلته بالأخماس وتسللت عنه القبائل التي كانت ملتفة عليه واستنزله
المولى الطيب بالأمان فظفر به وبعث به إلى السلطان فأمضى له أمانة وولاه على
قبيلته وصار من جملة خدام الدولة ونصحائها إلى أن ملك زمامها وتعين غيره للقيام
بأمرها فأخر ونقله السلطان إلى تطاوين فسكنها ورتب له بها ما يكفيه وبقي إلى أواخر
دولة السلطان المولى سليمان ولما خرج عليه المولى إبراهيم بن يزيد ودخل تطاوين
كانت لزيطان هذا في التمسك بدعوة السلطان اليد البيضاء وأغنى غناء جميلا في تثبيت
تلك القبائل وتسكينها ثم وفد على السلطان بطنجة سنة ست وثلاثين ومائتين وألف وقد
طعن في السن فأحسن إليه غاية الإحسان وإلى الآن لا زال أهل الأخماس يستنصرون
بحفدته ويعتقدون فيهم ما تعتقده آيت ومالو في آل مهاوش والله وارث الأرض ومن عليها
وهو خير الوارثين
وفي ذي الحجة من هذه السنة أعني سنة تسع ومائتين وألف توفي العلامة الإمام السيد
التاودي بن سودة المري الفاسي صاحب الحاشية على البخاري والحاشية على شرح الشيخ
عبد الباقي الزرقاني على المختصر وشرح العاصمية والزقاقية وغير ذلك من التآليف
المفيدة وكان رحمه الله خاتمة الشيوخ بفاس ومناقبه شهيرة
____________________
أخبار المولى هشام بن محمد
بمراكش والحوز وما يتصل بذلك
قد قدمنا أن أهل مراكش وقبائل الحوز كانوا قد خرجوا على السلطان المولى يزيد
وبايعوا أخاه المولى هشام بن محمد ولما قتل المولى يزيد بمراكش استقرت قدم المولى
هشام بها وأطاعته قبائل الحوز كلها وكان وزيراه القائمان بأمره صاحب آسفي القائد
عبد الرحمن بن ناصر العبدي وكان غاية في الجود وبسط الكف وصاحب دكالة والحوز
القائد محمد الهاشمي بن العروسي وكان ذا شوكة بعصبيته وقومه فكان هذان القائدان
إليهما النقض والإبرام في دولة المولى هشام هذا بكثرة ماله وعطائه وهذا بعصبيته
وشدة شوكته فدانت للمولى هشام قبائل دكالة وعبدة وأحمر والشياظمة وحاحة وغير ذلك
واستمر الحال على ذلك برهة من الدهر إلى أن افترقت عليه كلمة الرحامنة وتجنوا عليه
بأنه قتل عاملهم القائد أبا محمد عبد الله بن محمد الرحماني غيلة على أنه كان مدبر
دولته والقائم بأمره
قال أكنسوس هكذا شاع أن المولى هشاما هو الذي أمر بقتل عبد الله الرحماني وابن
الداودي قال والذي تحدث به السلطان المولى سليمان مع بعض الناس هو أن الفرقة
المنحرفة من الرحامنة قتلوه وأظهروا أن المولى هشاما هو الذي دس إليهم بذلك وكذلك
أمر ابن الداودي والله أعلم ولما قتل القائد عبد الله خلعت الرحامنة طاعة المولى
هشام وبايعت أخاه المولى حسين بن محمد وزحفوا به إلى مراكش فلم يرع المولى هشاما
إلا طبولهم تقرع حول القصبة وأرهفوه وأعجلوه عن ركوب فرسه فخرج يسعى على قدميه إلى
أن أتى ضريح الشيخ أبي العباس السبتي فعاذ به وثابت إليه نفسه وبعد أيام تسلل وسار
في جماعة من حاشيته إلى آسفي ونزل على وزيره القائد عبد الرحمن بن ناصر فأكرم
مثواه وأحسن نزله وغدا وراح في طاعته ومرضاته ودخل المولى حسين قصر الخلافة
____________________
بمراكش فاستولى على ما فيه من الذخيرة والأثاث من متاع المولى هشام ومتخلف المولى
يزيد فاضطر أهل مراكش حينئذ إلى مبايعة المولى حسين والخطبة به وكان ذلك سنة تسع
ومائتين وألف وافترقت الكلمة بالحوز فكان بعضه كعبدة وأحمر ودكالة مع المولى هشام
وبعضه مثل الرحامنة وسائر قبائل حوز مراكش مع المولى حسين واتقدت نار الفتنة بين
هؤلاء القبائل وتفانوا في الحروب إلى أن بلغ عدد القتلى بينهم أكثر من عشرين ألفا
هذا كله والسلطان المولى سليمان مقيم بفاس معرض عن الحوز ومتربصين بأهله الدوائر
إلى أن ملوا الحرب وملتهم وكان ذلك من سعادته فصاروا يتسللون إليه أرسالا ويسألونه
الذهاب إلى بلادهم ليعطوه صفقة بيعتهم فكان يعدهم بذلك ويقول إذا فرغت من أمر
الشاوية قدمت عليكم إن شاء الله ثورة المولى عبد الملك بن إدريس بآنفا والسبب في
ذلك
كانت قبائل الشاوية منذ هزموا جيش المولى الطيب بن محمد وهم حذرون من سطوة السلطان
عالمون بأنه غير تاركهم فعزموا على تلافي أمرهم عنده وأوفدوا عليه جماعات من
أعيانهم المرة بعد المرة يسألونه أن يولي عليهم رجلا يكونون عند نظره ويقفون عند
أمره ونهيه فولى عليهم ابن عمه وصهره على أخته المولى عبد الملك بن إدريس بن
المنتصر ووجهه معهم فقدم المولى عبد الملك أرض تامسنا ونزل بمدينة آنفا وهي
المسماة اليوم بالدار البيضاء وتولى القيام على مستفاد مرساها وصار يسهم فيه
لأعيان الشاوية الذين معه وكان قصده بذلك أن يتألفهم على الطاعة والخدمة فلما حصل
لهم ذلك السهم من المال تطاولوا إلى الزيادة عليه وقد قيل في المثل قديما لا تطعم
العبد الكراع فيطمع في الذراع فصار المولى عبد الملك يقاسمهم المستفاد شق الأبلمة
فلما بلغ السلطان ذلك كتب إليه يعاتبه على
____________________
فعله ثم نهض على تفئة ذلك من فاس يريد تامسنا إذ لم يشف المولى عبد الملك الغليل
في ضبطها فلما بلغ كتاب السلطان المولى عبد الملك أنف من ذلك العتاب وكانت له
وجاهة عند السلطان الأعظم سيدي محمد بن عبد الله وكان من كبار بني عمه وخواص
قرابته ثم اتصل به الخبر بخروج السلطان من فاس فطارت نفسه شعاعا واستشار بطانته من
الشاوية فقال لهم إن هذا الرجل قادم علينا لا محالة وليس له قصد إلا أنا وأنتم فما
الرأي قالوا الرأي أن نبايعك ونحاربه قال ذلك الذي أريد فبايعوه ولما انفصل
السلطان عن رباط الفتح بعث في مقدمته أخاه وخليفته المولى الطيب وعقد له على كتيبة
من الخيل وتبعه السلطان على أثره ولما بات بقنطرة الحلاج جاءه الخبر بأن قبائل
الشاوية قد بايعوا المولى عبد الملك بن إدريس واتصل بالمولى عبد الملك وهو بآنفا
أن السلطان بائت بالقنطرة فتضاعف خوفه وفر فيمن بايعوه من أهل الشاوية وأخلى مدينة
آنفا من خيله ورجله ففرح أهلها بخروجه من بين أظهرهم لئلا يعديهم جربه وبادروا
بإخراج المدافع ليلا إعلاما للسلطان بفراره ثم أنفذوا إليه رسلهم بجلية الخبر فهش
لهم السلطان وبعث معهم كتيبة من الخيل تقيم بآنفا وتقدم هو بالعساكر إلى قصبة علي
بن الحسن فأغار على حلة مديونة وزناته فنهبها وامتلأت أيدي الجيش وأوغل المولى عبد
الملك في الفرار إلى جهة أم الربيع وعاد السلطان بالنعم والماشية إلى رباط الفتح
فدخلها مؤيدا منصورا ونقل تجار النصارى الذين كانوا بآنفا إلى رباط الفتح وأبطل
مرساها واستمرت معطلة إلى دولة السلطان المولى عبد الرحمن بن هشام فأحياها كما
سيأتي إن شاء الله ثم ارتحل السلطان المولى سليمان إلى مكناسة فاحتل بها وقال في
ذلك العلامة الأديب أبو محمد عبد القادر بن شقرون
( مولاي أنت الذي صفت مشاربه ** إن تغز ناحية أوليتها جلدك )
( هذي البشائر وافت وهي قائلة ** أعوذ بالله من شر الذي حسدك )
____________________
( فاصعد على منبر الإقبال معتليا ** فالسعد أنجز ما كان به وعدك )
( وانهض إلى غاية الآمال تدركها ** فالآن قالت لك العلياء هات يدك )
( ولا تخف أبدا من سوء عاقبة ** فليس يفلح من بالسوء قد قصدك )
( ألبسك الملك العميم نائله ** من الرضى حللا قوى بها مددك )
( فضلا من الحكم الترضي حكومته ** جعلها كالشجا في حلق من جحدك )
( فاشكر صنيع الذي أولاك مكرمة ** تنل رضاه وتبلغ بالرضى رشدك ) قدوم عرب الرحامنة
على السلطان المولى سليمان ومسيره إلى مراكش واستيلاؤه عليها
قد قدمنا أن أهل الحوز افترقت كلمتهم على قسمين فبعضهم بايع المولى حسين بن محمد
وبعضهم أقام على بيعة أخيه المولى هشام وأنه نشأ عن ذلك حروب تفانى فيها الخلق
فلما كانت سنة عشر ومائتين وألف قدم على السلطان بمكناسة جماعة من أعيان الرحامنة
مبايعين له وسائلين له المسير معهم إلى بلادهم لتجتمع كلمتهم عليه فوعدهم بأنه إذ
فرغ من أمر الشاوية ومهد طريقه بها إلى الحوز سار إليهم ثم قوى عزمه رحمه الله
فخرج في العساكر من مكناسة وقصد تامسنا فلما احتل بها قدم عليه أولاد أبي رزق وفر
أولاد أبي عطية وأولاد حريز الذين عندهم المولى عبد الملك بن إدريس ولجؤوا إلى
وادي أم الربيع فقصدهم السلطان هنالك وأوقع بهم وفر المولى عبد الملك إلى أخواله
بالسوس فأقام عندهم إلى أن شفع فيه أخو السلطان المولى عبد السلام بن محمد وأخته
الملاة صفية وكانت زوجة المولى عبد الملك فقبل السلطان شفاعتهما فعفا عنه وعاد إلى
فاس واطمأن جنبه وأما الشاوية فإنهم قدموا على السلطان تائبين خاضعين فعفا عنهم
وولى عليهم الأستاذ الغازي بن المدني المزمري فصلحت الأحوال على يده
____________________
ورجع السلطان إلى فاس مظفرا منصورا فأقام بها إلى أن دخلت سنة إحدى عشرة ومائتين
وألف فتهيأ للغزو وخرج إلى بلاد دكالة فاستولى عليها وعلى مدينة آزمور وتيط وبايعه
أهل تلك الناحية وقدم عليه أعيان دكالة تائبين وخرجوا من زمرة عبدة وسلطانهم
المولى هشام وانتظموا في سلك الجماعة وهناك قدم عليه أعيان الرحامنة ثانية ببيعتهم
فأكرم مقدمهم وزحف إلى مراكش وهم في ركانة فلما شارفها فر عنها سلطانها المولى
حسين إلى زاوية المولى إبراهيم بن أحمد الأمغاري بالجبل فدخل السلطان المولى
سليمان إلى مراكش واستولى عليها وبايعه أهلها وقدم عليها بها قبائل الحوز والدير
وقبائل حاحة والسوس بهداياهم مغتبطين فسر بهم وأكرمهم وأصلح بين قبائل الحوز وجمع
كلمتهم وأهدر دماءهم ومهد بلادهم ورتب حاميتها وأنزل بقصبة مراكش أهل الحوز الذين
كانوا بها أيام والده ورتب لهم الجرايات وأمر بألف من عبيد السوس يأتون لسكنى
القصبة واستقامت الأمور دخول آسفي وصاحبها القائد عبد الرحمن بن ناصر العبدي في
طاعة السلطان المولى سليمان رحمه الله
كان عبد الرحمن بن ناصر هذا على ما وصفناه قبل من الوجاهة ونفوذ الكلمة بآسفي
وأعمالها وكان مستوليا على جباية مرساها وخلد بها آثارا مثل الدار الكبرى التي على
شاطىء البحر ومسجد الزاوية وغير ذلك وكان جوادا بالعطاء ولما استولى السلطان
المولى سليمان رحمه الله على مراكش بعث إليه كاتبه أبا عبد الله محمد بن عثمان
المكناسي ليأتيه به أو يأذن بحربه ولما وصل الكاتب المذكور إليه بآسفي ألفاه مريضا
فاعتذر عن القدوم على السلطان بالمرض وكتب بيعته وأدى طاعته وانتقل المولى هشام
عنه إلى زاوية الشرابي فأقام بها فبعث إليه السلطان من أمنه وجاء به إليه فلقاه
مبرة وتكرمة وقدم إليه المراكب والكسي وأنزله بدار أخيه المولى المأمون
____________________
ريثما استراح ثم بعثه إلى رباط الفتح فاستوطنها ورتب له من الجراية ما يكفيه ولما
قدم الكاتب ابن عثمان على السلطان ببيعة عبد الرحمن بن ناصر واعتذر له عنه بالمرض
قبل ظاهر عذره وأرجأ أمره إلى يوم ما
وحكى صاحب الجيش أن المولى هشاما لما قدم على السلطان بمراكش ونزل بدار أخيه
المولى المأمون أتاه السلطان بعد ثلاث إلى منزله راجلا لقرب المسافة ولما التقيا
تعانقا وتراحما ثم جاء معه المولى هشام حتى دخلا بستان النيل من باب الرئيس ونصب
له السلطان كرسيا جلس عليه وجلس هو أمامه إعظاما له لكونه أسن منه ثم صار يستدعيه
صباحا ومساء فيجلسان ويتحدثان ثم يفترقان وكان لا يتغدى ولا يتعشى إلا وهو معه
وكلما دخل عليه رفع مجلسه وأجله وإذا ذكره لا يذكره إلا بلفظ الأخوة بأن يقول أخي
المولى هشام دون سائر بني أبيه ولما طلب المولى هشام منه السكنى برباط الفتح أجابه
إليها وقضى مآربه وأزاح علله ثم عاد إلى مراكش فكانت منيته بها كما نذكره دخول
الصويرة وأعمالها في طاعة السلطان المولى سليمان رحمه الله
كان من خبر دخول الصويرة وأعمالها في طاعة السلطان المولى سليمان رحمه الله أن
الحاج محمد بن عبد الصادق المسجيني وهو من عبيد الصويرة كان قد قدم من الحج عامئذ
فمر على السلطان المولى سليمان وهو بالغرب فدخل عليه فولاه على الصويرة وكتب له
العهد بذلك وأمره بإخفائه حتى يختبر حال أهلها ويعلم أين هواهم إذ كان ذلك قبل أن
يطأ السلطان بلاد الحوز ويستولي عليها وكانت الصويرة حينئذ من جملة النواحي التي
إلى نظر عبد الرحمن بن ناصر ومن في حزبه وتحت غلبة حاحة وعصبيتها وكان الوالي بها
يومئذ القائد أبو مروان عبد الملك بن بيهي الحاحي وكانت
____________________
له نباهة وذكر في قبائل حاحة وما اتصل بها فقدم ابن عبد الصادق الصويرة على أنه
قدم من حجه لا غير فأراح بمنزله ثلاثا ثم جاء إلى باب القائد وأظهر عبد الملك بن
بيهي وأقام من جملة الأعوان في الخدمة المخزنية إذ تلك هي وظيفته وخف في خدمة
القائد المذكور واعتمل في مرضاته وأظهر من النصح ما قدر عليه ولازم الباب ليلا
ونهارا فكان عبد الملك لا يخرج إلا ويجده قائما محتزما على الباب كما قال مسلم بن
الوليد في فتى بني شيبان يزيد بن مزبد بن زائدة
( تراه في الأمن في درع مضاعفة ** لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل )
فلم يلبث أن حلى بعينيه وعظمت منزلته لديه فقدمه على الأعوان وعلى الحاشية حتى
اتخذه صاحب رأيه وجعله عيبة سره وابن عبد الصادق في أثناء ذلك يحكم أمره مع إخوانه
مسكينة وأهل آكادير سرا وأذنه صاغية لخبر السلطان متى يطأ بلاد الحوز فلما سمع
بوصوله إلى دكالة واستيلائه على آزمور وتيط أفضى بأمر ولايته إلى خاصته وشيعته
وواعدهم لمظاهرتهم إياه على أمره ليلة معلومة وعبد الملك لا علم له بما يراد به
وكان ابن عبد الصادق فيما قيل قد أخذ عليه أنه إذا حدث أمر ولو ليلا يخرج إليه حتى
يفاوضه فيما يكون عليه العمل فجاءه في تلك الليلة وقد هيأ جماعة من عبيد الصويرة
الذين أعدهم للقيام معه وتركهم بحيث يسمعون كلامه إذا تكلم وقال لهم إذا سمعتموني
أكلمه وأراجعه في القول فبادروه واقبضوا عليه ثم تقدم واستأذن على عبد الملك فخرج
إليه وبينما هو يكلمه أحاط به العبيد وقبضوا عليه وعلى جماعة من أصحابه من حاحة
الذين كانوا يخدمونه ولم يملكوهم من أنفسهم شيئا حتى أخرجوهم عن البلد في تلك
الساعة ودفعوا لعبد الملك فرسه وأغلقوا الباب خلفه وصفا لهم أمر البلد ومن الغد
جمع ابن عبد الصادق أهل الصويرة وقرأ عليهم كتاب السلطان بولايته عليهم فأذعنوا
وأجابوا ولم يرق فيها محجمة دم ثم ورد الخبر عقب ذلك بدخول السلطان إلى مراكش
واستيلائه عليها وبها تم له أمر المغرب وصفا له ملكه ولم يبق له فيها منازع وذلك
بعد مضي خمس
____________________
سنين من ولايته رحمه الله ثم إنه استخلف أخاه المولى الطيب نائبا عنه بمراكش وقفل
إلى فاس من عامه فمر على طريق تادلا وأمر عاملها القائد عبد الملك أن يغير على بني
زمور وينهب أموالهم ويقبض على مقاتلتهم ويلقاه بهم إلى الصخرة فكرب القائد عبد
الملك في الجيش الذي كان معه واحتال عليهم بأن أرسل إليهم بالقدوم عليه فرسانا
فلما قدموا عليه أمر بالقبض عليهم وشدهم وثاقا وحاز خليهم وسلاحهم ثم أغار على
حلتهم فنهبها وقدم على السلطان بمالهم ورقابهم وكانوا مائتي رجل بالتثنية فبعث بهم
السلطان إلى مكناسة فسجنوا بها حتى صلحت أحوالهم بعد ذلك وسرحهم استرجاع السلطان
المولى سليمان مدينة وجدة وأعمالها من يد الترك
وفي هذه السنة أعني سنة إحدى عشرة ومائتين وألف بعث السلطان المولى سليمان
بالعساكر من فاس إلى وجدة فعقد على الودايا للقائد أبي السرور عياد بن أبي شفرة
وعلى شراقة للقائد محمد بن خدة وعلى الأحلاف للقائد عبد الله بن الخضر وأمرهم أن
يأتوا أرض وجدة ويدوخوها ويقاتلوا الترك الذين استحوذوا عليها ومانعوا دونها وكتب
مع ذلك إلى الباي محمد باشا في أن يتخلى عنها وعن قبائلها التي كان يتصرف فيها
أيام الفترة أو يأذن بالحرب فامتثل الباي محمد ذلك ولم يمانع بل كتب إلى نائبه بها
أن يتركها لأربابها ويتخلى عن قبائل بني يزناسن وسقونة والمهاية وأولاد زكرى
وأولاد علي ورأس العين فامتثل ودخل جيش السلطان لوجدة وجبى عامله زكواتها وأعشارها
واستخلف نائبه بها وقفل بالعساكر على السلطان وهو بفاس وقد تمهد الملك ووشجت عروقه
وألقى السعد بجرانه والحمد لله
وفي هذه السنة قدم الشيخ الفقيه المتصوف أبو العباس أحمد التجاني إلى
____________________
فاس فاستوطنها وكان الباي محمد بن عثمان صاحب وهران قد أزعجه من تلمسان إلى قرية
أبي صمغون فأقام بها وأقبل أهلها عليه ثم لما مات الباي المذكور وولي بعده ابنه
عثمان بن محمد سعى عنده بالشيخ التجاني فبعث إلى أهل أبي صمغون وتهددهم ليخرجوه
ولما سمع بذلك الشيخ المذكور خرج مع بعض تلامذته وأولاده وسلك طريق الصحراء حتى
احتل بفاس ولما دخلها بعث رسوله بكتابه إلى أمير المؤمنين المولى سليمان يعلمه بأنه
هاجر إليه من جور الترك وظلمهم واستجار منهم بأهل البيت الكريم فقبله السلطان وأذن
له في الدخول عليه والحضور بمجلسه ولما اجتمع به ورأى سمته ومشاركته في العلوم
أقبل عليه واعتقده وأعطاه دارا معتبرة من دوره كان أنفق في عمارتها نحوا من عشرين
ألف مثقال ورتب له ما يكفيه وأقبل عليه الخلق واشتهر أمره بفاس والمغرب وهو شيخ
الطائفة التجانية رحمه الله ونفعنا به
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائتين وألف فيها خرج السلطان في العساكر من مكناسة يريد
عبد الرحمن بن ناصر بآسفي وعزم على حربه إلا أن يؤدي الطاعة هو وقبيلته مباشرة طوعا
أو كرها ولما عبر وادي أم الربيع قدم إليه القائد أبو السرور عياد بن أبي شفرة في
جيش الودايا وقال له إذا قدمت عليه فأزعجه للمجيء فإن قدم فأقم أنت بآسفي وإن
امتنع من المجيء فاكتب إلي وأقم هنالك حتى أقدم عليك فلما وصل إليه القائد عياد لم
يسعه إلا المجيء لملاقاة السلطان فجاء وهو مريض في محفته ومعه جموعه وقبائله حتى
اجتمع بالسلطان بالموضع المعروف بمائة بير وبير بين عبدة ودكالة فبايعه مباشرة
وأدى الطاعة هو وإخوانه مباشرة كما اقترح السلطان وتحقق بأن تأخره إنما كان للمرض
الذي به فوفى له السلطان بعهده وزاد في كرامته بوصوله معه إلى آسفي ودخوله إلى
داره بعد تثبيط رؤساء الجيش له عن الدخول معه ثم عقد له على قبائله وأمره بقبض
الواجب منهم زاد صاحب الجيش وشكره على إيوائه لأخيه المولى هشام ثم سار السلطان
إلى مراكش فدخلها مظفرا منصورا
____________________
وفي هذه السنة حدث الوباء ببلاد المغرب وعم حاضره وبواديه ولما فشا بمراكش
وأعمالها رجع السلطان إلى مكناسة وترك أخاه المولى الطيب نائبا عنه بها فبلغه
أثناء الطريق وفاة كاتبه أبي عبد الله محمد بن عثمان تركه بمراكش مصابا بالوباء
قال صاحب البستان فلما وصل السلطان إلى مكناسة استقدمني من فاس فقدمت عليه وقلدني
كتابته بعد أن أخرني عنها سنة وفي أثناء ذلك بلغه وفاة إخوته الأربعة خليفته
المولى الطيب والمولى هشام والمولى حسين والمولى عبد الرحمن بالوباء الثلاثة الأول
بمراكش والرابع بالسوس ودفن المولى هشام والمولى حسين بقبة إلى جنب الشيخ الجزولي
رضي الله عنه وقبرهما مشهور بمراكش
قال صاحب البستان فبعثني السلطان إلى مراكش لآتيه بمتخلف إخوته الذين هلكوا بها
ومتخلف الكاتب ابن عثمان وبعث معي خيلا وبغالا لأحمل المتخلف المذكور والوباء لا
زال لم ينقطع قال فوصلت إلى مراكش وجمعت المتخلف ورجعت به إلى فاس وقد ارتفع
الوباء وازدهرت الدنيا ودرت ألبان الجباية للسلطان وفي هذه المدة قدم على حضرة
السلطان باشدور الإصبنيول فعقد معه شروط المهادنة وكان الذي تولى عقدها معه الكاتب
ابن عثمان المكناسي قبل وفاته بيسير وهي ثمانية وثلاثون شرطا مرجعها إلى الصلح
والأمان من الجانبين إلا أنها أشد بيسير من الشروط التي انعقدت مع السلطان المرحوم
سيدي محمد رحمه الله من ذلك أن شروط سيدي محمد كانت تتضمن أنه إذا تشاجر مسلم
ونصراني فالذي يفصل بينهما هو الحاكم إلا أن القنصل يحضر وقت الفصل عسى أن يدفع عن
ابن جنسه بحجة إن كانت وصارت شروط السلطان المولى سليمان تتضمن أن كل واحد منهما
يتولى أخذ الحق منه حاكمه ويدفعه لخصمه وإذا فر نصراني من سبتة أو مليلية أو نكور
أو بادس وأراد إسلاما فلا بد من حضور القنصل إن كان وإلا فالعدول يسمعون منه ثم
شأنه وما يريد
____________________
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف فيها وجه السلطان كاتبه أبا عبد الله محمد
الرهوني لجمع أموال المنقطعين فجمع منها ما قدر عليه وعاد سالما معافى
ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائتين وألف فيها أرسل السلطان كاتبه المذكور عاملا على
السوس ومعه طائفة من الجند فجبى قبائله ورجع وأحبه أهل السوس لحسن سيرته ولين
جانبه وفي هذه السنة في اليوم الثامن من ربيع الثاني منها توفي الفقيه العلامة
الماهر أبو عبد الله محمد المير السلاوي وكان من أهل المشاركة والتحقيق والخط
الحسن رحمه الله
ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائتين وألف فيها بعث السلطان العساكر لبرابرة آيت ومالو
وعقد عليها للكاتب أبي عبد الله الحكماوي وبعث معه جماعة من قواد الجيش وقواد
القبائل فلم يرضوا إمارته عليهم إذ كلهم كانوا أسن منه وفيهم من هو أعرف بأحوال
البربر ومكايدهم فخذلوه وقت اللقاء وجروا عليه الهزيمة وأستولى البربر على أثاثهم
ومدافعهم وجردوا الكثير منهم وقبضوا على الكاتب حتى أجاره بعض البربر فأبقوا عليه
إلى أن بعثوا به إلى السلطان
ثم دخلت سنة ست عشرة ومائتين وألف فيها بعث السلطان الجيش إلى بلاد درعة مع كاتبه
أبي العباس أحمد آشقراس فدخلها واستولى على قصورها المغصوبة وأخرج منها العرب
والبربر وجبى أموالها ومهد نواحيها وأمن سبلها حتى صار ما بين السوس ودرعة
والفائجة مجالا للتجارة وممرا لأبناء السبيل يغدون به ويروحون آمنين على أموالهم
وأنفسهم
ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائتين وألف فيها بعث السلطان العساكر إلى بلاد الريف مع
أخيه المولى عبد القادر والقائد محمد بن خدة الشرقي وقائد العسكر أحمد بن العربي
فجبى قبائل الريف من قلعية وكبدانة وغيرهما عن ثلاث سنين سلفت ولما رجعت العساكر
أغارت على المطالسة وبني أبي
____________________
يحيى بكسر الياء الأخيرة فاستاقوا ماشيتهم وسبيهم وقدموا بهما على السلطان فسرح
السلطان السبي
ثم دخلت سنة ثمان عشرة وثمانين وألف فيها أغار آيت أدراسن على رفاق تافيلالت بطريق
ملوية ونهبوا بعض القفل وذلك بسبب أن السلطان كان قد قبض على محمد بن محمد واعزيز
وسجنه بالجزيرة وولى عليهم أخاه أبا عزة بن محمد واعزيز فلم يقبلوه وجمعوا كلمتهم
على ابن عمه أبي عزة بن ناصر وكان منحرفا عن السلطان ومفارقا له فولوه أمرهم ولما
رأى السلطان اعوجاجهم سرح لهم محمدا واعزيز وولاه عليهم وأمره بالقبض على أبي عزة
بن ناصر فأبى فغضب السلطان عليه ثانية وهم به ففر محمد واعزيز وكشف وجه العصيان
فنهض حينئذ إلى آيت أدراسن في العساكر وأرسل إلى قبائل آيت ومالو أن يأتوهم من
خلفهم وتقدم هو حتى نزل بقرب آعليل ووقعت الحرب فنصر الله السلطان وانهزم آيت
أدراسن ونهبت مواشيهم واحتوى البربر على حللهم وفر أولاد واعزيز الثلاثة برؤوسهم
لآيت ومالو وشرعت العساكر في إخراج زروعهم إلى أن استصفوها وأمر السلطان بهدم
قصورهم فهدمت وأعطى كروان بلادهم ورجع إلى فاس مظفرا منصورا ثم لم يقم بها إلا
يسيرا حتى خرج إلى تازا وترك عامل فاس أبا العباس أحمد اليموري ببلاد الحياينة
لقبض خراجهم ولما احتل بتازا جهز العساكر إلى وجدة مع الشيخ عبد الله بن الخضر لجباية
قبائلها وجهز جيشا آخر مع عامل سجلماسة أبي عبد الله محمد الصريدي فنزل ملوية وجبى
قبائلها وطلع إلى بلاد الصحراء مع أوديتها إلى ناحية فجيج فجبى أموال تلك النواحي
ثم توجه إلى سجلماسة ففرق الجيش على أقاليم صحرائها درعة والفائجة وتدغة وفركلة
وغريس وزيز والخندق ومدغرة والرتب فجبى أموال تلك القبائل كلها وقرر عماله ونوابه
بكل إقليم منها ومهد طريق الصحراء ورجعت عساكره منصورة
____________________
ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائتين وألف فيها عزل السلطان القائد أبا العباس أحمد
اليموري عن فاس وولى عليها صهره المولى حبيب بن عبد الهادي فقام بها أحسن قيام
وكان ذا عقل ومروءة وسمت ودهاء وفيها توجه السلطان في العساكر إلى مراكش ولما احتل
بها بعث جيشا إلى السوس لنظر الكاتب أبي عبد الله الرهوني وبعث جيشا آخر إلى عامل
حاحة لنظر أبي العباس أحمد اليموري ثم خرج السلطان في جيش ثالث إلى ثغر الصويرة
لمشاهدتها والوقوف على آثار والده بها فانتهى إليها وأقام بها أياما وفرق المال
على جندها أحرارا وعبيدا ونظر في أمور مرساها وأمر بإصلاح ما لا بد منه فيها وعاد
إلى الغرب مؤيدا منصورا فتنة الفقير أبي محمد عبد القادر ابن الشريف الفليتي
واستحواذه على تلمسان وبيعته للسلطان المولى سليمان والسبب في ذلك
لما كانت سنة عشرين ومائتين وألف هاجت الفتنة بين عرب تلمسان والترك وكان السبب في
ذلك أن باي وهران كان له انحراف عن الفقراء والمنتسبين وسوء اعتقاد فيهم فقتل بعض
الطائفة الدرقاوية وأمر بالقبض على مقدمهم أبي محمد عبد القادر بن الشريف الفليتي
تلميذ الشيخ الأكبر أبي عبد الله سيدي محمد العربي بن أحمد الدرقاوي شيخ الطائفة
المذكورة ففر أبو محمد عبد القادر المذكور إلى الصحراء ونزل بحلة الأحرار فاجتمع
عليه أهل طائفته وامتعضوا لمن قتل منهم ولنفي مقدمهم عن وطنه وعشيرته وامتعضت لهم
عشائرهم من قبائل العرب الذي هنالك وزحفوا لحرب الترك على حين غفلة منهم فقتلوهم
في كل وجه
ولما دخل فصل الربيع من السنة المذكورة بعث صاحب الجزائر عسكرا إلى باي وهران
وأمره بغزو العرب فنهض إليهم ووقعت الحرب بينه
____________________
وبينهم فانهزم الترك ثانية ونهب العرب محلتهم وتبعوهم إلى وهران فحاصروهم ولما مني
الباي منهم بالداء العضال كتب إلى السلطان المولى سليمان يعرفه بما دهاه منهم
ويطلب منه أن يبعث إليهم شيخهم أبا عبد الله المذكور ليكفهم عنه ويراجعوا طاعة
المخزن فبعث السلطان رحمه الله الشيخ المذكور ومعه الأمين الحاج الطاهر بادو
المكناسي فانتهى الشيخ إلى ابن الشريف وهو في جموعه بظاهر وهران فشكا إلى الشيخ ما
نال الفقراء والمنتسبين وسائر الرعيه من عسف الترك وجورهم وانتهائهم في ذلك إلى
القتل والطرد عن الوطن فتوقف الشيخ وربما صدر منه بعض تقبيح لفعل الترك وما هم
عليه فازدادت العرب بذلك تظاهرا على الترك وتكالبا عليهم فاتهم الباي السلطان بأنه
الذي يغريهم لأنه كان ينتظر الفرج على يده ويرجو رقع الخرق من جهته فأخفق سعيه
وحينئذ نصب مدافعه في وجه جموع العرب وفرقهم بالكور والضوبلي فانهزموا عن وهران
وأبعدوا المفر ثم تذامروا وتحالفوا وزحفوا إلى تلمسان فنزلوا عليها وحاصروها وكان
أهل تلمسان خصوصا وقبائلها عموما لهم التفات كبير إلى السلطان المولى سليمان رحمه
الله لما أكرمه الله به من شرف النسب وطيب المنبت ولما اشتهر عنه من العدل والرفق
بالرعية والشفقة عليها فكانوا يحبون الدخول في طاعته والانخراط في سلك رعيته فلما
نزلت العرب على تلمسان تمشت الرسل بينهم وبين الحضر من أهلها واتفقوا على خلع طاعة
الترك ومبايعة السلطان المولى سليمان ففتحوا باب المدينة ودخل ابن الشريف وطائفته
وأخذ البيعة بها للسلطان المولى سليمان وخطب به على منابرها ووجه وفده وهديته إلى
السلطان مع شيخه أبي عبد الله المذكور ثم نهد في عربه وحضره من أهل تلمسان لحرب
الكرغلية الذين بالقصبة فأجحرهم بها وضيق عليهم فلم يبق للترك حينئذ شك في أن ذلك
كله بأمر السلطان فكتبوا إلى الدولاتي وهو باشاهم الأعظم صاحب الجزائر يعلمونه
بالواقع واستمرت الحرب بينهم
____________________
وبين ابن الشريف في وسط المدينة وعظم الخطب واشتد الكرب وقدم الشيخ على السلطان
بوفد أهل تلمسان والعرب وهدية ابن الشريف وبيعته وأخبره بأن الناس في شدة من أمر
الترك وأنهم قد تطارحوا على بابه وعلقت آمالهم به وراموا الاستظلال بظل عدله فرأى
السلطان رحمه الله أن يسلك في حقهم وحق الترك مسلكا هو أرفق بالجميع فبعث القائد
أبا السرور عياد بن أبي شفرة الوديي وأمره أن يحجز بين الحضر والترك حتى يقدم
الباي إلى تلمسان ورد معه الوفد الذين قدموا مع الشيخ وتقدم إليه في القبض على ابن
الشريف إن هو لم يرجع عن الحرب إلى السلم ثم كتب السلطان إلى الباي بما أزال شكه
وأبطل وهمه ولما شارف القائد عياد تلمسان فر الشريف إلى منجاته ودخل القائد عياد
المدينة فحجز بين الفريقين وقدم الباي إلى تلمسان فأصلح بينه وبين رعيته ومكنه من
بلده وانقلب إلى حال سبيله ومع ذلك لم يتم للترك ما أرادوا من أجل القحط الذي كان
قد عم حتى عدمت الأقوات وجلا أهل تلمسان عنها إلى بلاد المغرب وكذا عربها وأهل
جبالها كلهم جلوا عن أوطانهم حتى لم يبق لباشا الترك مع من يتكلم فضلا عن أن يتأمر
فجعل يكتب إلى السلطان ويرغب إليه أن يرد عليه أهل تلمسان وعربها فكلمهم السلطان
رحمه الله في الرجوع فأبوا وقالوا نذهب إلى بلاد النصارى ولا نجاور الترك فنجمع
علينا الجوع والقتل فرق لهم السلطان وتركهم بل جبرهم بأن صار يعينهم بالعطاء
ويتخولهم بالصدقات المرة بعد المرة حتى كان عطاؤه إياهم كالراتب المفروض وعالج
داءهم مع الترك إلى أن أخصبت بلادهم ورخصت أسعارهم فتراجعوا حينئذ إلى أوطانهم
وكتب السلطان إلى الباي في شأنهم بالعدل وحسن السيرة فامتثل وكف أيدي الكرغلية
عنهم ولم يبق منهم بالمغرب إلا من كان عليه دين للترك فلم يقدر على الرجوع لأن
أرباب الديون لا يقيمون لهم وزنا ولا يعملون معهم شرعا والله أعلم
____________________
ذكر ما اتفق للسلطان المولى
سليمان رحمه الله في وسط دولته من الخصب والأمن والسعادة واليمن
كان هذا السلطان رحمه الله موصوفا بالعدل معروفا بالخير مرفوع الذكر عند الخاصة
والعامة قد ألقى الله عليه منه المحبة فأحبته القلوب ولهجت به الألسنة لحسن سيرته
وطيب سريرته واتفق له في أواسط دولته من السعادة والأمن والعافية ورخاء الأسعار
وابتهاج الزمان وتبلج أنوار السعد والإقبال ما جعله الناس تاريخا وتحدثوا به دهرا
طويلا حتى صارت أيام السلطان المولى سليمان مثلا في ألسنة العامة ولقد أدركنا الجم
الغفير ممن أدرك أواسط دولته فكلهم يثني عليها بملء فيه ويذهب في إطرائها كل مذهب
لولا ما كدر آخرها من فتنة البربر التي جرت معها فتنا أخر كما نذكر بعد إن شاء
الله
فمما هيأ الله له من أسباب الخير والسعادة أنه بويع مطلوبا لا طالبا ومرغوبا لا
راغبا ثم لما بويع كان ثلاثة من إخوته كلهم يزاحمه في المنصب ثم لم يزل أمرهم يضعف
وأمره يقوى إلى أن كفى الجميع من غير ضرب ولاطعن ولا بارز أحدا منهم قط ولا واجهه
بسوء ومن ذلك أنه لما دخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف وجه السلطان عامله إلى
صحراء فجيج وجبى أموالها واسترجع قصر المخزن الذي أغتصبه أهلها من يد العبيد الذين
كانوا به أيام السلطان المولى إسماعيل رحمه الله ووجه في السنة المذكورة جيشا مع
عامل فاس باعقيل السوسي ومعه جماعة من قواد القبائل إلى ناحية الشرق فنزل العامل
مدينة وجدة وجبى تلك القبائل كلها ثم بدا له فنهض إلى عرب الأعشاش وكان ذلك خطأ
منه في الرأي إذ كانت لهم شوكة وكان في غنى عن التعرض لهم بما در عليه من الجبايات
الوافرة من تلك القبائل لكن الحرص لا يزال بصاحبه حتى يقطع عنقه فلما علموا بقصده
إياهم عدلوا عن لقائه إلى المحلة فأغاروا عليه وانتهبوها فرجع أهلها منهزمين
____________________
من غير قتال وتركوا أثقالهم بيد العدو ولم يجتمعوا إلا على وادي ملوية ومن هناك
انفض الأحلاف إلى بلادهم ووقف باعقيل بالجيش وأحجم عن القدوم خوفا من السلطان فبعث
إليه من قبض عليه وأتاه به فنكبه وعزله عن فاس وولى عليها وصيفه ابن عبد الصادق ثم
عزله وولى عليها محمد واعزيز
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف فيها خرج السلطان المولى سليمان بالعساكر
إلى تادلا يريد بني موسى وآيت أعتاب ورفالة وبني عياط الذبح آووا بني موسى فبث
السلطان عليهم العساكر فنهبوا بني موسى ومن آواهم من رفالة وبني عياط وأحرقوا
مداشرهم وقطعوا أشجارهم وأبلغوا في النكاية إلى أن أذعنوا إلى الطاعة وجبوا
زكواتهم وأعشارهم وعادوا منصورين وفي السنة المذكورة فتح على السلطان إقليم
تيكرارين وتوات من أقصى الصحراء وجبى عامله خراجهم وعاد سالما معافى وفيها حدثت
الحرب بين السلطان مصطفى بن عبد الحميد العثماني وبين الموسكوب فكتب العثماني إلى
السلطان يطلب منه أن يشد عضده بأن يقيم قراصينه بباب البوغاز من مرسى طنجة لئلا
تدخل قراصين الموسكوب منه وتعيث في الجزر التي هي في ملكة العثماني كما فعلت في
دولة عمه السلطان مصطفى بن أحمد فأمر السلطان رحمه الله رؤساء قراصينه بالتهيىء
والمقام هنالك ففعلوا ولم يظهر شيء حكى هذا الخبرصاحب البستان
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف فيها عقد السلطان لوصيفه القائد أحمد بن
مبارك صاحب الطابع على جيش كثيف وضم إليه جماعة من قواد الجند والقبائل وسار حتى
نزل على حدود بلاد آيت ومالو وأحاطت العساكر السلطانية بهم من كل جهة وكان ذلك في
فصل الشتاء فمنعوهم من النزول إلى البسيط للمرعى وجلب الميرة إلى أن ضاعت مواشيهم
وأذعنوا
____________________
لدفع ما وظف عليهم فدفعوا الماشية والكراع وخلى سبيلهم وفيها خرج السلطان من
مكناسة لتفقد أحوال الثغور البحرية وكان المتولي على جمعها القائد الشهير أبو زيد
عبد الرحمن بن علي أشعاش التطواني فعزله السلطان في هذه المرة وولى عليها القائد
محمد السلاوي البخاري ثم ولاه على قبائل الغرب والجبال كلها وتتبع السلطان رحمه
الله الثغور كلها وأحسن إلى أهلها
ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائتين وألف فيها خرج السلطان إلى تادلا يريد عرب ورديغة
وقبائل البربر الذين هنالك فأغارت عساكر السلطان عليهم ووقعت بينهم حرب فظيعة هلك
فيها عدد من الفريقين ثم انتصرت العساكر السلطانية عليهم فهزموهم ونهبوا أموالهم
وألجؤوهم إلى الطاعة فجاؤوا تائبين فعفا عنهم ثم أنفذ جيشا كثيفا لآيت يسري بعد أن
قبض منهم على عدد معتبر فشنوا الغارة عليهم وقاتلوهم فأذعنوا لإعطاء المال ولما
بذلوه سرح لهم إخوانهم المقبوض عليهم وعاد السلطان مظفرا منصورا
ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائتين وألف فيها غزا السلطان بلاد الريف فنزل عين زورة
وسرح الكتائب في قبائل الريف فحاربوها وهزموها وقتلوا مقاتلتها وسلبوا ذراريها
وحرقوا مداشرها وألجؤوهم إلى الطاعة فقدموا على السلطان تائبين فعفا عنهم على أن
يدفعوا ما ترتب عليهم ثم عين السلطان الأمناء الذين استوفوه منهم على التمام وعاد
مظفرا منصورا وفي هذه السنين كلها كانت الرعية في غاية الطمأنينة والعافية والأمن
والخصب والرخاء وكمال السرور والهناء حتى كانت هذه المدة غرة في جبهة ذلك العصر
ودمية في محراب ذلك القصر ثم انعكست الأحوال وتراكمت الأهوال وعظمت الأوجال واتسع
في الفتنة المجال وتم على هذا السلطان الجليل العالم النبيل في آخر عمره ما لم يتم
على أحد من ملوك بني أبيه ولله الأمر من قبل ومن بعد
____________________
بدء هيجان فتنة البربر وما نشأ
عنها من التفاقم الأكبر
لما دخلت سنة ست وعشرين ومائتين وألف قامت الفتنة بين قبائل البربر وكان ابتداؤها
أولا بين آيت أدراسن وكروان وبين أعدائهم آيت ومالو أهل جبل فازاز ثم لما انتشبوا
الحرب غدرت كروان بإخوانهم آيت أدراسن وانحازوا إلى آيت ومالو فانهزمت آيت أدراسن
ووضع آيت ومالو فيهم السيف ونهبوا حلتهم بما فيها وتركوهم بالقاع مدقعين ولعصا
الذل مهطعين ولم يفلت منهم إلا أصحاب الخيل الذين نجوا بنواصيها وقدموا على
السلطان شاكين باكين فقام وقعد لذلك لما أوجب الله عليه من النظر لهم إذ هم رعيته
وشيعته وشيعة والده من قبله فجهز العساكر لنصرتهم وعادوا إلى حرب كروان فظاهرهم
آيت ومالو عليهم وهزموهم مرة أخرى ثم بعد هذا اتفقت البربر على حرب آيت أدراسن
مناوأة للسلطان وبغضا في قائدهم محمد واعزيز الذي كان يوليه عليهم وبعثوا إلى
دجالهم مهاوش المعد عندهم لأمثالها وتحالفوا عنده على معصية السلطان وطاعة الشيطان
وعاثوا في الطرقات والرعايا واتسع الخرق وعظم الفتق فسارت إليهم العساكر من باب
السلطان حتى نزلت بأحواز صفرو وكانت لنظر القائد محمد الصريدي الذي يبغضه البربر
كبغض محمد واعزيز أو أكثر فكشفوا القناع في العصيان وزحفوا إلى الجيش وهو نازل حول
صفرو فأحاطوا به وانتهبوه ففر من أفلت منه وتحصن الباقي بمدينة صفرو ونهبت القرى
المجاورة لها وعاثوا في طرقات الصحراء فنهبوا من وجدوا بها مقبلا أو مدبرا وأعضل
الداء وأعوز الدواء والسلطان مقيم بمكناسة يعالج دائهم فما نفع فيه ترياق وشمخت
أنوف البربر وكلما بعث إليهم جيشا هزموه أو سرية انتهبوها قيل إن منشأ ذلك كان من
أجل تمسك السلطان رحمه الله بمحمد واعزيز وجبرهم على طاعته وكانوا قد نفروا عنه
لسوء سيرته فيهم
____________________
والمعروف من حال السلطان المولى سليمان رحمه الله خلاف هذا فإنه كان قلما تشكو
رعية إليه بعاملها إلا ويعزله عنها تحريا للعدل واتهاما للعمال حتى لقد عيب عليه
ذلك في بعض الأحوال من جهة السياسة ولما أعيا السلطان أمرهم تركهم فوضى ووكل
القائد عياد بن أبي شفرة بتدبير أمرها وتوجه إلى مراكش فكان عياد على أمرهم أعجز
وبسياستهم أجهل وصار يتألفهم بالعطاء ويجري المؤن على كل من يقدم عليه منهم من
طعام وعلف ونحو ذلك فكان ذلك مما زاد في طغيانهم حتى كانوا ينهبون أموال الناس
ومتاعهم بباب فاس ويدخلون لقبض الخفارة وأخذ الميرة وإذا تكلم أحد من أهل البلد
قال القائد المذكور إن السلطان أمرني بذلك وربما عاقب من يعترض عليه وإنما أمره
السلطان أن يسوسهم على الوجه الذي لا ضرر فيه على الدولة ولا على الرعية والله
أعلم إجلاب السلطان المولى سليمان على برابرة كروان ورجوعه عنهم من آصرو وما نشأ
عن ذلك
لما وصل السلطان إلى مراكش استنفر قبائل الحوز كلها وقدم بهم إلى مكناسة واستنفر
قبائل الغرب من الأحلاف والحياينة وأهل الفحص وأهل الغرب وبني حسن وأهل الثغور
وضرب البعث على جيش العبيد والودايا وشراقة وأولاد جامع واستصحب معه البربر الذين
هم في طاعته حتى لم يبق أحد بالمغرب وخرج في هذا الجمع العظيم قاصدا كروان وهم
يومئذ بتاسماكت ولما وصل إلى الموضع المعروف بآصرو وبقي بينهم وبينه نصف مرحلة
بحيث صار يرى محلتهم ويرون محلته بدا له فرجع يريد آيت يوسي فكان ذلك الرجوع سبب
الخذلان ولما رأته عيون كروان راجعا ظنوا به جبنا فجرؤوا على الجيش وتبعوه من خلفه
إلى أن خالطوا أخريات
____________________
الناس فأوقعوا بهم وقتلوا ونهبوا وأين أوله بينهما مرحلة ولا علم للسابق بما جرى
على اللاحق ثم نزل السلطان على آيت يوسي بقرب آعليل وصاروا بنو مكيلد أمامه وكروان
من خلفه ولم يكن علم بما وقع في العسكر من النهب والقتل إلى أن ورد عليه منهزمة
العبيد ليلا فأخبروه بما وقع وأن قائد عسكره أبا عبد الله محمد بن الشاهد قد قتل
في جماعة من القواد وغيرهم ففت ذلك في عضده وتجلد رحمه الله ليلته تلك ولما أصبح
ركبت العساكر وقصدت آيت ومالو الذين كانوا مع آيت يوسي ولما وقعت الحرب انهزم عسكر
السلطان وألجأهم البربر إلى شعب لا منفذ له فترجلوا وتركوا الخيل ونجوا بأعناقهم
وحمتهم آيت يمور وآيت أدراسن حتى خلصوهم وكانت حلتهم قريبا من العسكر فلو تبعوهم
لوقعوا عليها ولما حصلت هذه المزية لهؤلاء البربر الذين هم شيعة السلطان ولم تظهر
للعرب مزية حقدوا ذلك عليهم وصاروا كل من دنا من المحلة منهم قبضوا عليه وقتلوه
وقالوا إن البربر كلهم سواء فلما وقع ذلك بشيعة السلطان امتعضوا ورفعوا أمرهم إليه
فأمر كاتبه وعامله محمدا السلاوي أن ينظر في أمرهم فبحث القائد المذكور حتى اطلع
على حقيقة الأمر وعلم فساد نية البربر لما وقع بهم من القتل وسط المحلة ورأى أن
القصاص في ذلك الوقت متعذر وأن عاقبته غير مأمونة فأشار على السلطان بالرجوع قبل
أن يتسع الخرق على الراقع فرجع وكان رجوعه أكبر غنيمة وكثرة هذه الجموع بلا ترتيب
سبب تلك الهزيمة والأمر كله لله وهذه الوقعة تعرف عند الناس بوقعة آصرو إضافة إلى
الموضع الذي انتهى إليه السلطان من بلاد البربر ثم رجع عنه وقد جعلها العامة
تاريخا يقولون كان ذلك عام وقعة آصرو والله تعالى أعلم
____________________
مراسلة صاحب تونس حمودة باشا
ابن علي باي للسلطان المولى سليمان رحمه الله وما اتفق في ذلك
وفي هذه المدة أو ما يقرب منها بعث صاحب تونس وهو الرئيس حمودة باشا ابن علي باي
العالم الأديب الطائر الصيت الشيخ أبا إسحاق إبراهيم بن عبد القادر الرياحي إلى
السلطان المولى سليمان رحمه الله فقدم عليه حضرة فاس ومعه هدية وكتاب يتضمن طلب
الإمداد بالميرة لحدوث المسغبة بالبلاد التونسية فأعظم السلطان رحمه الله مقدم هذا
الشيخ واهتزت له فاس وامتدح السلطان بقصيدة من جيد شعره يقول في أولها
( إن عز من خير الأنام مزار ** فلنا بزورة نجله استبشار )
ومن جملتها قوله
( هذا الخليفة وابن أكرم مرسل ** وسليل من تمطى له الأكوار )
( وخلاصة الأشراف والخلفاء من ** بيت البتول وحبذا الأظهار )
( وأجل وارث ملك إسماعيل من ** بطل شذا أخباره معطار )
( وأعز سلطان وأشرف مالك ** شرقت بملك يمينه الأحرار )
( وأحق من تحت السماء بأن يرى ** ملك البسيطة والورى أنصار )
( لكن إذا كل القلوب تحبه ** فلغيره الأجسام وهي نفار )
( هذا سليمان الرضي ابن محمد ** من أشرقت لجبينه الأنوار )
( هذا الذي رد الخلافة غضه ** وسما به للمسلمين منار )
( وأعز دين الله فهو بشكره ** في أيكها تترنم الأطيار )
فأعجب السلطان ومن حضر بها وأمده بمطلبه من الميرة وبهدية جليلة وآب الشيخ من
سفارته بخير مآب
____________________
وصول كتاب صاحب الحجاز عبد
الله بن سعود الوهابي إلى فاس وما قاله العلماء في ذلك
وفي هذه المدة أيضا وصل كتاب عبد الله بن سعود الوهابي النابع بجزيرة العرب
المتغلب على الحرمين الشريفين المظهر لمذهب بهما إلى فاس المحروسة وأصل هذه
الطائفة الوهابية كما عند صاحب التعريبات الشافية وغيره أن فقيرا من عرب نجد يقال
له سليمان رأى في المنام كأن شعلة من نار خرجت من بدنه وانتشرت وصارت تأكل ما
قابلها فقص رؤياه على بعض المعبرين ففسرها له بأن أحد أولاده يجدد دولة قوية
فتحققت الرؤيا في ابن ابنه الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان فالمؤسس للمذهب هو
محمد بن عبد الوهاب ولكن نسب إلى عبد الوهاب فلما كبر محمد احترمه أهل بلاده ثم
أخبر بأنه قرشي ومن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وألف لهم قواعد وعقائد وهي
عبادة الله واحد قديم قادر حق رحمان يثيب المطيع ويعاقب العاصي وأن القرآن قديم
يجب اتباعه دون الفروع المستنبطة وأن محمدا رسول الله وحبيبه ولكن لا ينبغي وصفه
بأوصاف المدح والتعظيم إذ لا يليق ذلك إلا بالقديم وأن الله تعالى حيث لم يرض بهذا
الإشراك سخره ليهدي الناس إلى سواء الطريق فمن امتثل فبها ونعمت ومن أبى فهو جدير
بالقتل فهذه أصول مذهبه وكان قد بثه أولا سرا فقلده أناس ثم سافر إلى الشام لهذا
الأمر فلما لم يجد به مراده رجع إلى بلاد العرب بعد غيبته عنها ثلاث سنين فاتصل
بشيخ من أشياخ عرب نجد يقال له عبد الله بن سعود وكان شهما كريم النفس فقلده وقام
بنصرة مذهبه وقاتل عليه حتى أظهره واقتسم الرياسة هو ومحمد بن عبد الوهاب فابن عبد
الوهاب صاحب الاجتهاد في مسائل الدين وابن سعود أمير الوهابية وصاحب حربهم ولا زال
أمر هؤلاء الوهابية يظهر شيئا فشيئا إلى أن تغلبوا على الحجاز والحرمين الشريفين
وسائر بلاد العرب ثم
____________________
قال صاحب التعريبات الشافية إن مساجد الوهابية خالية عن المنارات والقباب وغيرها
من البدع المستحسنة لا يعظمون الأئمة ولا الأولياء ويدفنون موتاهم من غير مشهد
واحتفال يأكلون خبز الشعير والتمر والجراد والسمك ولا يأكلون اللحم والأرز إلا
نادرا ولا يشربون القهوة وملابسهم ومساكنهم غير مزينة اه
ولما استولى ابن سعود على الحرمين الشريفين بعث كتبه إلى الآفاق كالعراق والشام
ومصر والمغرب يدعو الناس إلى اتباع مذهبه والتمسك بدعوته ولما وصل كتابه إلى تونس
بعث مفتيها نسخة منه إلى علماء فاس فتصدى للجواب عنه الشيخ العلامة الأديب أبو
الفيض حمدون بن الحاج
قال صاحب الجيش كان تصدي الشيخ أبي الفيض لذلك الجواب بأمر السلطان وعلى لسانه
وذهب بجوابه ولده المولى إبراهيم بن سليمان حين سافر للحج قلت وهذا يقتضي أن كتاب
ابن سعود ورد علة السلطان المولى سليمان بالقصد الأول لا أن نسخة منه وردت بواسطة
علماء تونس والله تعالى أعلم حج المولى أبي اسحاق إبراهيم ابن السلطان المولى
سليمان رحمه الله
وفي هذه السنة أعني سنة ست وعشرين ومائتين وألف وجه السلطان المولى سليمان رحمه
الله ولده الأستاذ الأفضل المولى أبا اسحاق إبراهيم بن سليمان إلى الحجاز لأداء
فريضة الحج مع الركب النبوي الذي جرت العادة بخروجه من فاس على هيئة بديعة من
الاحتفال وإبراز الأخبية لظاهر البلد وقرع الطبول وإظهار الزينة وكانت الملوك تعنى
بذلك وتختار له أصناف الناس من العلماء والأعيان والتجار والقاضي وشيخ الركب وغير
ذلك مما يضاهي ركب مصر والشام وغيرهما فوجه السلطان ولده المذكور في جماعة
____________________
من علماء المغرب وأعيانه مثل الفقيه العلامة القاضي أبي الفضل العباس بن كيران
والفقيه الشريف البركة المولى الأمين بن جعفر الحسني الرتبي والفقيه العلامة
الشهير أبي عبد الله محمد العربي الساحلي وغيرهم من علماء المغرب وشيوخه فوصلوا
إلى الحجاز وقضوا المناسك وزاروا الروضة المشرفة على حين تعذر ذلك وعدم استيفائه
على ما ينبغي لاشتداد شوكة الوهابيين بالحجاز يومئذ ومضايقتهم لحجاج الآفاق في
أمور حجهم وزياراتهم إلا على مقتضى مذهبهم
حكى صاحب الجيش أن المولى إبراهيم ذهب إلى الحج واستصحب معه جواب السلطان فكان سببا
لتسهيل الأمر عليهم وعلى كل من تعلق بهم من الحجاج شرقا وغربا حتى قضوا مناسكهم
وزيارتهم على الأمن والأمان والبر والإحسان قال حدثنا جماع وافرة ممن حج مع المولى
إبراهيم في تلك السنة أنهم ما رأوا من ذلك السلطان يعني ابن سعود ما يخالف ما
عرفوه من ظاهر الشريعة وإنما شاهدوا منه ومن أتباعه غاية الاستقامة والقيام بشعائر
الإسلام من صلاة وطهارة وصيام ونهي عن المنكر الحرام وتنقية الحرمين الشريفين من
القاذورات والآثام التي كانت تفعل بهما جهارا من غير نكير وذكروا أن حاله كحال
آحاد الناس لا يتميز عن غيره بزي ولا مركوب ولالباس وأنه لما اجتمع بالشريف المولى
إبراهيم أظهر له التعظيم الواجب لأهل البيت الكريم وجلس معه كجلوس أحد أصحابه
وحاشيته وكان الذي تولى الكلام معه هو الفقيه القاضي أبو إسحاق إبراهيم الزداغي
فكان من جملة ما قال ابن سعود لهم إن الناس يزعمون أننا مخالفون للسنة المحمدية
فأي شيء رأيتمونا خالفنا من السنة وأي شيء سمعتموه عنا قبل اجتماعكم بنا فقال له
القاضي بلغنا أنكم تقولون بالاستواء الذاتي المستلزم لجسمية المستوى فقال لهم معاذ
الله إنما نقول كما قال مالك الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة فهل في
هذا من مخالفة فالوا
____________________
لا وبمثل هذا نقول نحن أيضا ثم قال له القاضي وبلغنا عنكم أنكم تقولون بعدم حياة
النبي صلى الله عليه وسلم وحياة إخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في
قبورهم فلما سمع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ارتعد ورفع صوته بالصلاة عليه وقال
معاذ الله إنما نقول إنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره وكذا غيره من الآنبياء
حياة فوق حياة الشهداء ثم قال له القاضي وبلغنا أنكم تمنعون من زيارته صلى الله
عليه وسلم وزيارة سائر الأموات مع ثبوتها في الصحاح التي لا يمكن إنكارها فقال
معاذ الله أن ننكر ما ثبت في شرعنا وهل منعناكم أنتم لما عرفنا أنكم تعرفون
كيفيتها وآدابها وإنما نمنع منها العامة الذين يشركون العبودية بالألوهية ويطلبون
من الأموات أن تقضى لهم أغراضهم التي لا تقضيها إلا الربوبية وإنما سبيل الزيارة
الاعتبار بحال الموتى وتذكر مصير الزائر إلى ما صار إليه المزور ثم يدعو له
بالمغفرة ويستشفع به إلى الله تعالى ويسأل الله تعالى المنفرد بالإعطاء والمنع
بجاه ذلك الميت إن كان ممن يليق أن يتشفع به هذا قول إمامنا أحمد بن حنبل رضي الله
عنه ولما كان العوام في غاية البعد عن إدراك هذا المعنى منعناهم سدا للذريعة فأي
مخالفة للسنة في هذا القدر أه
ثم قال صاحب الجيش هذا ما حدث به أولئك المذكورون سمعنا ذلك من بعضهم جماعة ثم
سألنا الباقي أفرادا فاتفق خبرهم على ذلك اه
قلت مسألة زيارة قبور الأنبياء والأولياء مشهورة في كتب الأئمة وهي من القرب
المرغوب فيها عند الجمهور ومنعها قوم من الحنابل وشدد تقي الدين ابن تيمية منهم
فيها محتجا بقوله عليه الصلاة والسلام لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي
هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى وهو عند الجمهور مؤول بأن المعنى لا تشد الرحال
لصلاة في مسجد إلا إلى ثلاثة مساجد اه وقد بسط القول في هذا صاحب المواهب اللدنية
والقول الفصل أن التبرك بآثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأولياء رضي الله
عنهم وزيارة مشاهدهم من الأمر المعروف عند أمة محمد صلى الله عليه وسلم المجمع
عليه
____________________
خلفا وسلفا لا يسع إنكاره غير أن للزيارة آدابا تجب المحافظة عليها وشروطا لا بد
من مراعاتها والوقوف لديها ثم القول بمنعها مطلقا سدا للذريعة في حق العامة إذ هم
أكثر الناس وغولا في ذلك فيه نظر أما الأنبياء فلا ينبغي لعاقل أن يحرم نفسه من
الوقوف على مشاهدهم والتبرك بتربتهم والاحتماء بحماهم ولا أن يقول بذلك لمزيد
ارتفاع درجتهم عند الله تعالى ولندور اتفاق زيارتهم لأكثر الغرباء وأما الأولياء
فالقول بمنع زيارتهم سدا للذريعة مع بيان العلة وإشهارها بين الناس حتى لا يلتبس
عليهم المقصود قول وجيه لا تأباه قواعد الشريعة بل تقتضيه والله أعلم وهذا القول
هو الذي رآه الشيخ الفقيه الصوفي أبو العباس أحمد التجاني رحمه الله حتى نهى
أصحابه عن زيارة الأولياء
وأقول إن السلطان المولى سليمان رحمه الله كان يرى شيئا من ذلك ولأجله كتب رسالته
المشهورة التي تكلم فيها على حال متفقرة الوقت وحذر فيها رضي الله عنه من الخروج
عن السنة والتغالي في البدعة وبين فيها بعض آداب زيارة الأولياء وحذر من تغالي
العوام في ذلك وأغلظ فيها مبالغة في النصح للمسلمين جزاه الله خيرا ومن كلامه فيها
ما نصه تنبيه من الغلو البعيد ابتهال أهل مراكش بهذه الكلمة سبعة رجال فهل كان
لسبعة رجال شيعة يطوفون عليهم إلى أن قال فعلينا أن نقتدي بسبعة رجال ولا نتخذهم
آلهة لئلا يؤول الحال فيهم إلى ما آل إليه في يغوث ويعوق ونسرا إلى آخر كلامه وصدق
رحمه الله فكم من ضلالة وكفر أصلها الغلو في التعظيم وما ضلت النصارى إلا من غلوهم
في عيسى وأمه عليهما السلام قال الله تعالى { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا
تقولوا على الله إلا الحق } النساء 17 الآية ومن ذلك قصة يغوث ويعوق ونسرا المشار
إليها وهي مذكورة في الصحيح وفي كتب التفسير
وحكى ابن إسحاق في السيرة أن أصل حدوث عبادة الحجر في بلاد العرب أن آل إسماعيل
عليه السلام لما كثروا حول الحرم وضاقت بهم
____________________
فجاج مكة تفرقوا في النواحي وأخذوا معهم أحجارا من الحرم تبركا بها فكان أحدهم يضع
الحجر في بيته فيطوف ويتمسح به ويعظمه ثم توالت السنون وخلفت الخلوف فعبدوا تلك
الأحجار ثم عبدوا غيرها وذهبت منهم ديانة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلا
يسيرا جدا بقي فيهم إلى أن صبحهم الإسلام هذا معنى ما ذكره ابن إسحاق وقد تكلم
الشاطبي وغيره من العلماء فيما يقرب من هذا وذكروا أن الغلو في التعظيم أصل من
أصول الضلال ولو لم يكن في ذلك إلا قضية الشيعة لكان كافيا فالحاصل أن خير الأمور
الوسط ومن هنا أيضا كان السلطان المولى سليمان رحمه الله قد أبطل بدعة المواسم
بالمغرب وهي لعمري جديرة بالإبطال فسقى الله ثراه وجعل في عليين مثواه
ولما كان رمضان من سنة سبع وعشرين ومائتين وألف قدم المولى إبراهيم ابن السلطان
المذكور من الحجاز ونزل بطنجة وكان قدومه في قرصان الإنجليز لأن والده رحمه الله
كان قد وجهه إليه مع بضع قراصينه إلى الإسكندرية فصادفوه قد انحدر إلى جزيرة مالطة
فركب المولى المذكور فيما خف من حاشيته في قرصان النجليز وسبق إلى طنجة فاحتل بها
ثم سار إلى حضرة والده بمكناسة فأقام عنده ثلاثا ريثما استراح ثم انفصل عنه إلى
داره بفاس فخرج لملاقاته جيش الودايا وأشراف فاس وأعلامها وسائر عامتها بفرح وسرور
وكان يوم دخوله يوما مشهودا ولما وصل القوم الذين كانوا معه نشروا محاسنه وفضائله
ومكارمه المحمودة وفواضله وما فعله من البر في طريق الحج خصوصا في مفاوز الحجاز
فقد أنفق فيها على الضعفاء والمساكين ما لايحصى وشاع ذكره في الحرمين الشريفين
وتجاوزهما إلى مصر والشام والعراقين ولما نفذ ما عنده استسلف من التجار الذين
كانوا معه أموالا طائلة أنفقها في سبيل الله ولما قدم أربابها على السلطان عرفوه
بما استسلفه منهم ولده وأطلعوه على حساباتهم فعرف أن ما فعله ولده صواب فأمر رحمه
الله لأولئك التجار بقضاء ما أسلفوه وأن يزاد لهم مقدار ربحه
____________________
تطييبا لنفوسهم وقال إنما تتعاطون التجارة لتنموا أموالكم وتربحوا فلا ينبغي أن
ننقصكم من ربحكم شيئا فأما نحن فربحنا هو ما أنفقه ولدنا قي سبيل الله
وقد مدح هذا النجل الأرضي جماعة من أدباء مصر وغيرها بقصائد نفيسة ومن جملة من
مدحه الفقيه العلامة الأديب أبو إسحاق إبراهيم عبد القادر الرياحي التونسي فإنه
بعث بقصيدة رائقة إلى والده السلطان المرحوم يمدح النجل المذكور ويهنئه بالقدوم
وألم فيها بذكر السلطان فأعجبته وهزت من عطفه وأمر كتاب دولته أن يأخذوا منها نسخا
وشرحها بعضهم ونصها
( هذي المنى فأنعم بطيب وصال ** فلطالما أضناك طول مطال )
( ماذا وكم أوليتني يا مخبري ** بقدومه من منة ونوالي )
( بشرتني بحياتي العظمى التي ** قد كنت أحسبها حديث خيال )
( بشرتني بابن الرسول لو إنما ** روحي ملكت بذلتها في الحال )
( بشرتني بسلالة الخلفاء من ** أمداحهم تثنى بكل مقال )
( من حبهم فرض الكتاب أما ترى ** إلا المودة حين يتلو التالي )
( من ضمهم شمل العباء وأذهبوا ** رجسا فيالك من مقام عالي )
( من قوموا أود المكارم بعد ما ** شادوا الهدى بمعارف ونصال )
( لولاهم كان الورى في ظلمة ** مدت غياهبها بكل ضلال )
( آباءك الأطهار فاقصد يا أبا ** إسحاق يا نجل المليك العالي )
( يا حبه وصفيه من قومه ** وخياره من سائر الأنجال )
( لو لم تكن أهلا لصفو وداده ** لم يستنبك لجدك المفضال )
( لكن توسم فيك كل فضيلة ** فحبى يمينك راية الإقبال )
( وأقام جودك بل وجودك زاد من ** يبغي ببيت الله حط رحال )
( أنت استطاعتهم فما عذر الذي ** ترك الزيارة خيفة الإقلال )
( وبك المشاعر أطربت طرب التي ** وجدت على وله فقيد فصال )
( ووصلتها رحما هناك قطيعة ** دهرا ولم تبلل به ببلال )
____________________
( وتأنس الحرمان منك بطلعة ** أغنتهما عن وابل هطال )
( كرم لكم أدريه يوم أفاضه ** عني سليمان باي سجال )
( وهب الألوف وكان أكرم منزل ** يسلى الغريب ببره المتوال )
( يوم التشرف لي بلثم يمينه ** وتمتعي من وجهه بجمال )
( وتلذذي بخطابه المعسول إذ ** حفت به للدرس أي رجال )
( لم أنسه يوما حسبت نعيمه ** بلذائذ الجنات ضرب مثال )
( عجبا له يحيي القلوب بعلمه ** ويميت جند الفقر منه بمال )
( وإذا تقلد للوغي فحسامه ** تعنو الرقاب له بدون قتال )
( تتلوه بالفتح المبين عساكر ** قد أرهفت بالنصر حد نصال )
( تخشى الملوك مقامه ولذكره ** رعبا تطير فرائص الأبطال )
( وينال آمله بخفض جناحه ** ماليس يخطر قط منه ببال )
( حتى سعى لصفي منهله الذي ** يسعى لمروته ذوو الأثقال )
( وأتت لمغربه الشريف مشارق ** والشمس تغرب لاقتضاء كمال )
( لما تكدر صفوها بضلاله ** جاءته كيما ترتوي بزلال )
( ومتى تخلف عاجز فبقلبه ** يسعى لفعل شعائر الإجلال )
( أمنية وقعت أشرت لذكرها ** في مدحه قدما بصدق مقال )
( تهوى المشارق أن تكون مغاربا ** لتنال من جدواه كل منال )
( يا فخر دين الله منه بناصر ** وسعادة الدنيا به من وال )
( لا تفتخر فاس ولا مراكش ** بولائه كل الأنام موال )
( أو ليس في كل البقاع ثناؤه ** ورد البكور وسحة الآصال )
( أو لم يشد للدين والعلماء ** والأشراف والصلحاء أي جلال )
( أو لم يعم بجوده أقطارها ** لا فرق بين جنوبها وشمال )
( أو لم يسر ركبانها بمحاسن ** ضاءت لها سرج بجنح ليال )
( أو ليس أحيا سنة العمرين في ** زمن إلى بدع الهوى ميال )
( شيم يهز الراسيات سماعها ** ويعجن في أنف الزمان غوال )
( أوصاف والدك الإمام المرتضى ** للدين والدنيا بحسن خلال )
____________________
( ذاك الربيع أبو الربيع ومن به ** حيى الهدى وشرائع الأفضال )
( كل الكمال له وأنت مقره ** والفرع عين الأصل عند مال )
( يا ابن المليك ابن المليك ابن المليك ** ابن المليك سلالة الأقيال )
( أنسيتم ذكر العباسية الأولى ** زالوا وما زالوا بعين جلال )
( لكم الفخار بذاته وسواكم ** مستمسك من فخركم بظلال )
( ولي الفخار بأن نسجت مديحكم ** حللا تجد وكل شيء بال )
( أملي معانيها على ودادكم ** فجرى به طبع كما السلسال )
( ولو أنني حاولت مدح سواكم ** عقل القريحة عنه أي عقال )
( فكأنما طبعي شريف حيثما ** لا يهتدي لسوى مديح الآل )
( أو قد درى أن المديح تعرض ** وسواكم لا يرتضي لسؤال )
( أبقاكم كهفا يلاذ بمجدكم ** مختاركم لإنالة الآمال ) )
( وأدام للإسلام والدك الذي ** هو رحمة وسعت بغير جدال )
( وعليكم وعلى الذي يهواكم ** أزكى الرضى من حضرة المتعال )
( ما دام ذكركم بكل صحيفة ** تبعا لأحمد سيد الإرسال )
( صلى عليه مسلما رب الورى ** وعلى مقدم حزبه والتالي )
وعزز هذه القصيدة بمثلها بحرا وقافية ورويا الفقيه العلامة الأديب أبو الفيض حمدون
بن الحاج الفاسي يقول في مطلعها
( بشراك إبراهيم بالإقبال ** إقبال عز لم يكن بالبال )
وهي طويلة تركناها اختصارا وفي هذه السنة توفي الشريف البركة المولى علي ابن
المولى أحمد الوزاني وذلك يوم الثلاثاء آخر يوم ربيع الأول سنة ست وعشرين ومائتين
وألف غزو السلطان المولى سليمان بلاد الريف والسبب في ذلك
لما كانت سنة سبع وعشرين ومائتين وألف بلغ السلطان أن قبائل الريف من قلعية وغيرهم
صاروا يبيعون الزرع للنصارى ويسوقونه من بلادهم فعقد لعامله على الثغور أبي عبد
الله محمد السلاوي على جيش كثيف وأنفذه إليهم
____________________
فسار العامل المذكور وقصد قلعية عش الفساد ولما شارفها سرب إليهم العساكر فنهبوا
أموالهم وحرقوا مداشرهم وانتسفوا أرضهم وديارهم وتركوهم أفقر من ابن المدلق ثم بث
عماله في تلك القبائل فجبوها واستوفوا زكواتها وأعشارها وعاد ظافرا وفي هذه السنة
وذلك صباح يوم الجمعة السابع عشر من محرم منها توفي الشيخ العلامة الإمام خاتمة
المحققين بالمغرب سيدي محمد الطيب بن عبد المجيد بن عبد السلام ابن كيران الفاسي
صاحب التآليف البديعة والحواشي المحررة مثل شرح الحكم العطائية وشرح السيرة
النبوية وغير ذلك من التآليف المعروفة والموجودة بأيدي الناس
ثم لما دخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين وألف بلغ السلطان ثانيا أن أهل الريف لا
زالوا مقيمين على بيع الزرع للنصارى وأنهم أضافوا إلى بيع الزرع بيع الماشية وقد
كان السلطان منع النصارى من وسق ذلك بالمراسي فافتات هؤلاء القوم على السلطان
وأعطوهم من ذلك ما أرادوا طمعا في الربح وكان السلطان قد تقدم إلى القائد محمد
السلاوي في كفهم عن ذلك لأنه كان قد ولاه عليهم وأضافهم إلى من كان إلى نظره من
أهل الجبل والثغور فكان لا يلتفت إليهم وربما قبض أهل المروءة منهم على سفلتهم ممن
يتعاطى ذلك ويبعثون بهم إليه فيسرحهم على طمع فاتسع الخرق وصار كلهم يفعل ذلك ولما
تحقق السلطان بفعلهم أمر رؤساء قراصينه أن يذهبوا إلى جهة الريف ومراسيها وكل من
عثروا عليه بها من مراكب النصارى فليأخذوه فساروا وقبضوا على بعض النصارى فأسروهم
ولم يقنعه ذلك حتى أمر بغزو الريف وعزم على النهوض إليهم بنفسه وأذن في الناس بذلك
وجهز العساكر مع القائد محمد السلاوي ووجه معه ولده المولى إلراهيم بعساكر الثغور
وعرب سفيان وبني مالك فساروا على طريق الجبل وخرج السلطان من فاس في السنة
المذكورة ومعه السواد الأعظم فسلك الجادة إلى تازا وكارت حتى نفذ إلى بلاد الريف
فلم يرعهم إلا العساكر محيطة بهم من كل وجه فنهبوهم وحرقوا مداشرهم واستخرجوا
____________________
أمراسهم ودفائنهم وولى السلطان عليهم أحمد بن عبد الصادق الريفي وتركه في بلادهم
في حصة من العسكر يستخلص منهم الأموال وعاد السلطان إلى دار ملكه مؤيدا منصورا خروج
السلطان المولى سليمان إلى بلاد الحوز وتمهيدها ثم دخوله مراكش
كان السلطان المولى سليمان رحمه الله قد ولى على قبائل تامسنا القائد كريران
الحريزي فيقال إنه أساء السيرة فيهم فنبذوا طاعته وخرجوا عليه فقدم على السلطان
مستصرخا عليهم فخرج إليهم في العساكر سنة ثلاثين ومائتين وألف وتقدم إلى جيرانهم
من القبائل بأن يزحفوا إليهم من خلفهم ففعلوا وهجم هو عليهم من أمامهم وأوقع بهم
وقعة شنعاء أتلفت موجودهم وأباحت نساءهم وأولادهم وفر منهم طائفة فعبروا وادي أم
الربيع زمان مدة فهلك جلهم ثم ترك فيهم عامله في حصة من الجند وأمره باستخلاص
الأموال منهم وتقدم هو إلى ناحية مراكش لقمع أهل الفساد من قبائل الحوز مثل دكالة
وعبدة والشياظمة الذين خرجوا أيضا على عاملهم الحاج محمد بن عبد الصادق صاحب
الصويرة فأصلح من شأنهم وعزله عنهم لما علمه من سوء سيرته فيهم ونقله من الصويرة
إلى مراكش ثم منها إلى فاس فولى أخاه أبا العباس أحمد على عسكر القلعة بمراكش وعاد
رحمه الله إلى الغرب
وفي هذه السنة في الثالث عشر من رمضان منها توفي الشيخ العلامة الفقيه الإمام أبو
عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف الحاج الرهوني صاحب الحاشية الكبيرة على
مختصر الشيخ خليل وغيرها من التآليف النافعة والخطب البارعة وباعه في العلوم خصوصا
الفقه مقرر معلوم رحمه الله ونفعنا به وفي ليلة الاثنين الخامس عشر من شوال من
السنة المذكورة توفي الشيخ العالم العارف الإمام أبو العباس أحمد التجاني
____________________
شيخ الطائفة التجانية وكانت وفاته بفاس المحروسة وضريحه بها شهير عليه بناء حفيل
رحمه الله ونفعنا به غزو السلطان المولى سليمان قبائل الصحراء وإيقاعة بآيت عطة
والسبب في ذلك
لما كانت سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف بلغ السلطان المولى سليمان أن بعض قبائل
الصحراء كعرب الصباح وبرابرة آيت عطه اشتغلوا بالفساد وعظم ضررهم واستولوا على
قصور المخزن التي هنالك من عهد السلطان المولى إسماعيل فعقد لابنه المولى إبراهيم
على جيش كثيف ووجهه إليهم فسار ونزل أولا على قصور العرب ونصب عليهم آلة الحرب
فبددهم ثم زاد إلى قصور آيت عطه فنصب عليهم الآلة كذلك وضيق عليهم إلى أن طلبوا
الأمان فأمنهم فطلبوا أن يفرج بالجيش عنهم قليلا حتى يخرجوا بعيالهم خوفا من معرة
الجيش فأشفق لهم وأفرج عنهم وكان ذلك مكيدة منهم فلما نفس عن مخنقهم أدخلوا معهم
ما شاؤوا من رجال وسلاح وقوت وتمادوا على الحرب فسقط في يد المولى إبراهيم وحمى
أنفه وكان معه جماعة وافرة من أعيانهم رهنا عنده فقتل طائفة منهم وساق نحو المائة
إلى فاس فقتلهم بباب المحروق ولما أنهى خبر فعلة البربر إلى السلطان عاب على ابنه
إفراجه عنهم أولا وقتل الرهائن ثانيا ثم أنهم أوفدوا جماعة منهم على السلطان
راغبين إلية أن يبقيهم بالقصور فردهم بالخيبة وقال لهم لا بد لي من الوصول إلى تلك
القصور إن شاء الله حتى تكون لي أولكم ولما انسلخ رمضان من السنة وأقام سنة عيد
الفطر شرع في تجهيز العساكر إلى الصحراء وقمع ظلمة آيت عطه ثم بعث في مقدمته
السواد الاعظم من جيش العبيد وعقد عليهم لوصيفه الأنجب القائد أحمد بن مبارك صاحب
الحاتم وبعث معه الطبجية بالمدافع والمهاريس وآلة الحصار والهدم فخرجوا من فاس في
____________________
زي فاخر وشوكة تامة وبعد انفصالهم عنها طرأ على السلطان من بعض الثغور البحرية خبر
بأن عمارة العدو تروج بالبحر وتجتمع عند جبل طارق ولم ندر إلى أين تريد فتأخر
السلطان عن الخروج حتى يتبين له أمر هذه العمارة ثم ورد الخبر اليقين بأنها قد
قصدت ثغر الجزائر وأصاب الفرنج من هدم الأبراج وتخريب الدور والمساجد وحرق الأشجار
شيئا كثيرا لكن لما رجعوا مفلولين مقتولين هان الأمر وصغرت المصيبة ولما جاء
البشير بانهزام الفرنج عن الجزائر قوي عزم السلطان على متابعة من وجه من عسكره إلى
الصحراء فخرج في غرة ذي القعدة من السنة المذكورة فيمن تخلف معه من العسكر وقبائل
العرب والبربر وجد السيرإلى أن عمر وادي ملوية فلقيه البشير هنالك بخبر الفتح
والاستيلاء على القصور وقتل أهلها وسبيهم ونهب بضائعهم وأمتعتهم فجد السير إلى أن
خيم بأغريس ومنها كتب إلى القائد أحمد أن يوافيه بالجيش لبلاد فركلة للنزول على
القصور الخربات التي بها آيت عطة فاجتمعوا مع السلطان بها ونصبوا عليها المدافع
والمهاريس ودام الرمي عليها ثلاثة أيام حتى كثر الهدم والقتل وعاينوا الموت الأحمر
فأرسلوا إلى السلطان النساء والصبيان للشفاعة في الخروج بؤوسهم فأمنهم ولما جن
الليل خرجوا حاملين أولادهم على ظهورهم خوفا من معرة الجيش ولما أصبح السلطان أمر
بنهب ما في القصور من القوت والمتاع والكراع وكمل فتح هذه الأماكن التي كانت نقمة
لأهل ذلك القطر الصحراوي ولما من الله على السلطان بهذا الفتح شكر صنع الله له بأن
فرق على العسكر وقبائل تلك الأقطار ما وسعهم من الخيرات
قال صاحب الجيش أعطى الشرفاء مائة ألف مثقال غير ما كان يعطيهم في كل سنة وقسم
رحمه الله ذلك بخط يده فكتب لدار مولاي عبد الله كذا ولشريفات حموبكة كذا ولشرفاء
تافيلالت كذا ولشرفاء تيزيمي وأولاد الزهراء كذا ولشرفاء الرتب كذا ولشرفاء مدغرة
كذا ولشرفاء زيز
____________________
والخنق والقصابي كذا وأعطى الطلبة والعميان والمقعدين والزمنى وزوايا تافيلالت
مائة ألف مثقال قسم ذلك بخط يده أيضا وجعل للفقيه المدرس أربعة أسهم ولغيره سهمين
والسهم من كذا وللطالب الذي يحفظ القرآن برسمه حتى صفا لوحه سهمان ولغيره سهم
والسهم من كذا ولا فرق بين الأحرار والحراطين ولكل واحد من الضعفاء والعمى
والمقعدين كذا الأحرار والحراطين سواء وللزوايا كذا فلزاوية الشيخ سيدي الغازي كذا
ولزاوية سيدي أبي بكر بن عمر كذا ولزاوية سيدي أحمد الحبيب كذا ولزاوية سيدي علي
بن عبد الله كذا ولزاوية ضريح مولانا علي الشريف كذا ولمقبرة أخنسوس كذا ووجه
المال مع الأمين السيد المعطي مرينو الرباطي وأمر الشرفاء أن يعينوا أربعين من
ثقاتهم وأمنائهم حتى لا تقع زيادة فيما كتبه بيده ولا نقصان وأمر القاضي أن يعين
عشرة من الطلبة وعشرة من العوام للقيام على تفرقة ذلك ثم أعطى المدرسين زيادة على
ما تقدم وكذا الأئمة والمؤذنين ولم ينس أحدا كل ذلك بخط يده رحمه الله
قال صاحب الجيش ولا زال هذا الزمام عندي ثم بعد قضاء وطره من الزيارة والصلة توجه
إلى مراكش على طريق الفائجة لتفقد أحوال جيش الحوز الذي كان وجهه من مراكش لإقليم
درعة فبلغه أثناء الطريق أن آيت عطه الذين بدرعة لما سمعوا بقربه منهم خرجوا من
القصور هاربين وتركوها يبابا وتحصنوا بجبل صاغرو ولما دخل السلطان مراكش سرح
العساكر إلى السوس لتفقد أحواله وجباية أمواله وتمهيد أطرافه وأخذ هو رحمه الله في
استصلاح قبائل الحوز من دكالة وعبدة والشياظمة فقتل وعزا وسجن وولى من ولى وطهر
تلك الأعمال من ولاة السوء الذين كانوا بها وعاد إلى حضرته بفاس وكان دخوله إليها
سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وألف ولما دخلها أخذ في تجهيز ولديه المولى علي
والمولى عمر لأداء فريضة الحج إلى أن استوفى الغرض في ذلك وعين من يتوجه معهما من
الخدم والتجار
____________________
وسائر الحاشية وخرجا مع الركب النبوي على الهيئة المعهودة في حفظ الله وفي هذه
السنة عزل السلطان وصيفه ابن عبد الصادق عن فاس وولى عليها كاتبه أبا العباس أحمد
الرفاعي الرباطي المدعو القسطالي كان يعلم أولاده فنقله عن ذلك إلى مرتبة الولاية
وأوصاه أن يسير بالعدل في الضعفاء والمساكين ويشتد على الفجرة والمتمردين وفي هذه
السنة عشية يوم الاثنين سابع ربيع الثاني منها توفي الشيخ العلامة المحقق الأديب
البليغ أبو الفيض حمدون بن عبد الرحمن بن حمدون بن عبد الرحمن السلمي المرداسي
الشهير بابن الحاج صاحب التآليف الحسنة والفوائد المستحسنة والخطب النافعة والحكم
الجامعة رحمه الله ونفعنا به
وفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف عزل السلطان الفقيه أبا العباس عن فاس لعجزه عن
القيام بالخطة وولى على فاس خديمه الحاج أبا عبد الله محمد الصفار من بيت رياسة
وفي هذه السنة أبطل السلطان الجهاد في البحر ومنع رؤساءه من القرصنة به على
الأجناس وفرق بعض قراصينه على الإيالات المجاورة مثل الجزائر وطرابلس وما بقي منها
أنزل منها المدافع وغيرها من آلة الحرب وأعرض عن أمر البحر رأسا بعد أن كانت
قراصين المغرب أكثر وأحسن من قراصين صاحب الجزائر وتونس قاله منويل وفي هذه السنة
قدم ولدا السلطان المولى علي والمولى عمر من المشرق مع الركب ونزلوا بثغر طنجة
وكان السلطان قد بعث إليهما بمركب من مراكب النجليز فانتهى إلى الإسكندرية وحملهما
ومن معهما من الخدم والتجار وسائر الحاج ولما نزلوا بطنجة حدث الوباء بالمغرب فقال
الناس إن ذلك بسببهم فانتشر أولا بتلك السواحل ومنها شاع في الحواضر والبوادي إلى
أن بلغ فاسا ومكناسة في بقية العام
ولما دخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف شاع الوباء وكثر في بلاد الغرب فتوجه
السلطان إلى مراكش وكان الأمر لا زال محتملا ثم زاد
____________________
وتفاحش حتى أصاب الناس منه أمر عظيم وفي هذا الوباء توفي الشيخ المرابط البركة
سيدي العربي ابن الولي الأشهر سيدي المعطى بن الصالح الشرقاوي وضريحه شهير بأبي
الجعد رحمه الله ونفعنا به وأسلافه آمين وقعة ظيان وما جرى فيها على السلطان
المولى سليمان رحمه الله
لما وصل السلطان رحمه الله إلى مراكش سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف أقام بها إلى
رجب منها ثم أخذ في الاستعداد لغزو برابرة فازاز وهم آيت ومالو بطن من صنهاجة
وعرفت الوقعة بوقعة ظيان فخذ منهم فحشد السلطان رحمه الله عرب الحوز كلهم وكتب إلى
العبيد بمكناسة يأمرهم أن يوافوه بتادلا وكتب إلى ولده وخليفته بفاس المولى
إبراهيم أن يوافيه بها بجيش الودايا وشراقة وعرب الغرب وبرابرته وعسكر الثغور وكان
الناس يومئذ في شدة من هذا الوباء الذي عم الحواضر والبوادي وكان السلطان لما أخذ
في استنفار هذه القبائل لا علم له بتفاحش الوباء بالمغرب وكان الواجب على ابن
السلطان أن يعلم أباه بما الناس فيه من فتنة الوباء فيعفيهم من الغزو أو يؤخره إلى
يوم ما فجمع ولد السلطان الجموع وجلهم كاره وسار لميعاد أبيه فوافاه بتادلا فاجتمع
للسلطان فيما يقال من الجيوش نحو ستين ألفا وزحف إلى البربر فانتهى إلى بسيط
آدخسان وبها مزارع البربر وفدنها فأرسل السلطان الجيوش في تلك الزروع وكانت شيئا
كثيرا فأتوا عليها وبعث البربر إليه بنسائهم وولدانهم للشفاعة وأن يدفعوا للسلطان
كل ما يأمرهم به من المال وينصرف عنهم فأبى وزحف إليهم فقاتلهم يوما إلى الليل
ولقد أخبرني من حضر الوقعة أن المقاتلة كانت في هذا اليوم من عرب الغرب ومن برابرة
زمور وجروان وآيت أدراسن إلا أن القتل استحر في العرب دون البربر وذلك أن كبير
زمور الحاج محمد بن الغازي دس إلى
____________________
ظيان بأنما نحن وأنتم واحد فإذا كان اللقاء فلا ترمونا ولا نرميكم إلا بالبارود
وحده وذلك أن السلطان لما قدمهم للقتال في أول يوم منه وأخر عرب الحوز استرابوا
بأنه إنما أراد أن يصدم بعضهم ببعض وتسلم له العرب ففعل ابن الغازي ما فعل ولما
راح مقاتلة العرب مع العشي أخبروا السلطان بأن هؤلاء البربر الذين معه لا أمان
فيهم وإنما ظلوا يترامون بالبارود لا غير ولأجل ذلك قد هلك من إخواننا كثير ولم
يهلك منهم أحد فأسرها السلطان في نفسه ولم يبدها لهم ولما كان الغد وركب الناس
للقتال أرسل إلى البربر أن لا يركب منهم أحد وقال لهم إني أردت أن أجرب العرب
اليوم وأختبر فائدتهم فأظهروا الطاعة وتقدم العرب إلى القتال وأقام البربر في
أخبيتهم إلى منتصف النهار ثم ركبوا خيولهم وتسابقوا إليها عن آخرهم قال المخبر
بهذا الخبر شاهدتهم ساعة ركبوا فكنت لا ألتفت إلى جهة إلا رأيتها حمراء من كثرة
سروجهم التي كانت على ظهور الخيل إذ ذاك ثم تصايحت البربر فيما بينها وتقدمت
براياتها إلى الجهة التي فيها القتال وأتوا من خلف العرب الذين كانو في نحر العدو
وهم يتصايحون فلم يردهم إلا صياح البربر من خلفهم وراياتهم قد أطلت عليهم من كل
جهة وكانت شيئا كثيرا فظنوا أن ظيان قد التحفتهم من خلفهم فخشعت نفوسهم وفشلوا
ورجعوا منهزمين لايلوي حميم على حميم فأخذتهم البربر من بين أيديهم ومن خلفهم
يقتلون ويسلبون وحصل انزعاج كبير في المحلة وتمت الهزيمة عليها ولم يبق بها إلا
جيش الودايا والعبيد هكذا أخبرني من شاهد هذه الوقعة ممن يوثق به
وساق صاحب الجيش الخبر عنها بأن قال كان انخذال برابرة زمور برأي كبيرهم الحاج
محمد بن الغازي وكانت له وجاهة في الدولة وكان الحسن بن حمو واعزيز كبير آيت
أدراسن يساميه في المنزلة ولما خرج المولى إبراهيم بن السلطان في هذه الغزوة كان
ابن واعزيز قد حظي لديه حتى صار من أخص ندمائه فنفس ابن الغازي عليه ذلك ودبر بأن
جر
____________________
الهزيمة على الجيش أجمع فإنه أظهر الفرار وقت اللقاء حتى سرى الفشل في الناس
وانهزموا ثم عطفت البرابر مع العشي على محلة السلطان فشرعوا في نهبها وأحاط عسكر
العبيد بها من كل جهة وصاروا يقاتلون البربر على أطراف الأخبية ولما أقبل المساء
ترك العبيد الأخبية وأرزوا إلى أفراك السلطان وصار القتال على أفراك إلى وقت
العشاء فهلك من العبيد خلق كثير وصار القتال بالسيوف والرماح وما زال أصحاب
السلطان يترسون عليه بأنفسهم حتى عجزوا عن الدفاع وخلص البربر إلى السلطان وأراد
رجل منهم يقال إنه من بني مكيلد أن يجرده فأعلمه بأنه السلطان فاستحلفه البربري
فحلف له فنزل عن فرسه وأركبه وطار به إلى خيمته وكان البربر يلقونه وهو ذاهب به
فيقولون من هذا الذي معك فيقول أخي أصابته جراحة ولما وصل به إلى خيمته أعلن بأنه
السلطان فأقبلت نساء الحي من كل جهة يفرحن ويضربن بالدفوف ثم جعلن يتمسحن بأطرافه
تبركا به وينظرون إليه إعجابا به حتى أضجرنه ولما جاء رجال الحي أعظموا حلوله بين
أظهرهم وأجلوه وسعوا فيما يرضيه ويلائمه من وطاء ومطعم ومشرب بكل ما قدروا عليه
فلم يقر له قرار معهم ويقال إنه بقي عندهم ثلاثا لا يأكل ولا يشرب أسفا على ما
أصابه إلا أنه كان يسد رمقه بشيء من الحليب والتمر وتنصل البربر له مما شجر بينهم
وبينه وأظهروا له غاية الخضوع والاستكانة حتى أنهم كتفوا نساءهم وقدموهن إليه
مستشفعين بهن على عادتهم في ذلك وبعد ثلاث أركبوه وقدموا به في جماعة من الخيل إلى
قصبة آكراي فنزلوا به قريبا منها وبعث رحمه الله إلى مكناسة يعلم الجيش بمكانه
فجاؤوه مسرعين ودخل مكناسة بعد أن أحسن إلى ذلك الفتى البربري وإلى جميع أهل حيه
غاية الإحسان وأمر رحمه الله أن يعطى لكل من أتى سليبا من المنهزمين حائك وثلاثون
أوقية ففرق من ذلك شيئا كثيرا بباب منصور العلج من مكناسة وأصيب المولى إبراهيم
ابن السلطان في هذه
____________________
الوقعة بجراحات معظمها في رأسه فحمل جريحا إلى فاس فمات بها وكانت مصيبته على
السلطان أعظم مما أصابه في نفسه والأمر لله وحده
قال صاحب الجيش كان السلطان الحازم سيدي محمد بن عبد الله لا يرد الشفاعة في مثل
هذا المقام وربما دس إلى من يظهر ذلك صورة حتى يكون نهوضه عن عز وذلك من حسن
سياسته وكانت هذه الوقعة الفادحة سبب سقوط هيبة السلطان المولى سليمان من قلوب
الرعية فلم يمتثل له بعدها أمر في عصاتها حتى لقي الله تعالى
ولما دخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين وألف كثر عيث البربر وإفسادهم السابلة
واستحوذوا على مزارع مكناسة ومسارحها فنصب لهم السلطان رحمه الله حبالة الطمع
وكادهم بها بأن صار كلما وفد عليه جماعة منهم كساها وأحسن إليها فتسامعوا بذلك
فقادهم الطمع إلى أن وفد عليه منهم في مرة واحدة سبعمائة فارس من أعيانهم فقبض
عليهم وجردهم من الخيل والسلاح وأودعهم السجن ثم أمر بالقبض على كل من وجد منهم
بسوق مكناسة وصفرو فقبض بصفرو على نحو الثلاثمائة من آيت يوسي وقامت بسبب ذلك فتنة
البربر على ساق فإنهم امتعضوا لمن قبض عليه من إخوانهم وزحفوا إلى مكناسة وحاصروها
وجاؤوا معهم بدجالهم أبي بكر مهاوش وتحزبوا وصاروا يدا واحدة على كل من يتكلم
بالعربية بالمغرب وكان مهاوش في هذه الأيام قد أمر أمره لأنه لما عزم السلطان على
غزوهم كان يعدهم بأن الظهور يكون لهم فلما صدق عليهم ظنه اعتقدوه وافتتنوا به
وزحفوا إلى مكناسة فضيقوا على السلطان بها فجعل رحمه الله يعالج أمرهم بالحرب تارة
والسلم أخرى إلى أن طلبوا منه أن يسرح لهم إخوانهم ويرجعوا إلى الطاعة والدخول في
الجماعة فسرحهم لهم على يد المرابط أبي محمد عبد الله بن حمزة العياشي فلما ظفروا
بإخوانهم نقضوا العهد الذي أخذ عليهم المرابط المذكور وعادوا إلى العيث وإفساد
السابلة ثم تبعهم على
____________________
ذلك قبائل العرب واختلط الحابل بالنابل واشتد الأمر وبلغ الحزام الطبيين ولله در
العلامة أبي مروان عبد الملك التاجموعتي إذ يقول
( هم البرابر لا ترجو نوالهم ** وسل من الله تعجيل النوى لهم )
( لا بلغ الله قلبا منهم أملا ** وبلغ الله قلبي ما نوي لهم )
ثم لما سقطت هيبة السلطان وزال وقعه من القلوب سرى فساد القبائل إلى الجند فإن
العبيد عادوا على كبيرهم القائد أحمد بن مبارك صاحب الخاتم فقتلوه افتياتا على
السلطان مع أنه كان من أخص دولته لنجابته وكفايته وديانته واعتماد السلطان عليه في
سائر مهماته ولما قتلوه اعتذروا للسلطان بأعذار كاذبة فقبل ظاهر عذرهم وطوى لهم
على البت
قال أكنسوس كان القائد أحمد وأبواه وإخوته قد أعطاهم السلطان سيدي محمد بن عبد
الله لابنه المولى سليمان فنشأ القائد أحمد في كفالته وتخلق بأخلاقه من زمن الصبا
إلى مماته وكانت حياته مقرونة بسعادة السلطان العادل المولى سليمان فإنه من يوم
قتل رحمه الله سنة خمس وثلاثين ومائتين وألف لم يلتئم شمل المملكة حتى توفي
السلطان المذكور ذكر آل مهاوش وأوليتهم وما آل إليه أمرهم
أما الذي كان منهم في دولة السلطان سيدي محمد بن عبد الله فاسمه محمد وناصر والواو
في لغة البربر بمعنى ابن وكان والده مرابطا من آيت مهاوش فرقة من آيت سخمان منهم
وكان جده أبو بكر من أتباع الشيخ أبي العباس سيدي أحمد بن ناصر الدرعي رحمه الله
وكان الشيخ المذكور قد جرى في مجلسه يوما ذكر الدجال فقال الشيخ لا يخرج الدجال
حتى تخرج دجاجيل من جملتهم مهاوش ومعناه من جملتهم ولد هذا الرجل فكان الأمر كذلك
فإنه لما شب محمد وناصر قرأ القرآن والعربية والفقه وحصل على طرف من علم الشريعة
ثم تنسك وتزهد ولبس الخشن فيقال إنه حصل
____________________
له نوع من الكشف شاع به خبره عند البربر وأكبوا عليه واشتهر أمره أيام السلطان
سيدي محمد بن عبد الله ولما انتهى أمره نهض إلى قبيلة جروان الذين كانوا يخدمونه
فنهبهم بسببه وفر مهاوش إلى رؤوس الجبال وبقي مختفيا إلى أن بويع السلطان المولى
يزيد رحمه الله وكان قد اتصل بمهاوش قبل ولايته وذلك حين فر من والده ولجأ إليه
حسبما مر فآواه مهاوش وأحسن إليه
ولما بويع السلطان المذكور وفد عليه مهاوش في جماعة من قومه ففرح بهم المولى يزيد
وأعطى مهاوش عشرة آلاف ريال وأعطى الذين قدموا معه مائة ألف ريال ولما هلك محمد
وناصر هذا ترك عدة أولاد أكبرهم أبو بكر ومحمد والحسن إلا أنهم تبعوا سيرة أبيهم
في مجرد التدجيل والتمويه على جهلة البربر وتثبيطهم على طاعة السلطان ولم يكن معهم
ما كان مع والدهم من التظاهر بالخير والدين فأمر أمرهم عند أهل جبل فازاز
واعتقدوهم ووقفوا عند إشارتهم ثم لما جاءت دولة السلطان المولى سليمان رحمه الله
واتفقت له الهزيمة التي مر ذكرها وأمتلأت أيدي البربر من خيل المخزن وسلاحه وأثاث
الجند وفرشه بطروا وظهر لهم إن ذلك إنما نالوه ببركة مهاوش لأنه كان يعدهم بشيء من
ذلك فتمكن ناموسه من قلوبهم واستحكمت طاعتهم له وتمردوا على السلطان بسبب ما كانوا
يسمعون منه إلا أن كيده كان قاصرا على أهل لسانه ووطنه لا يتعداهم إلى غيرهم ثم
بعد ذلك بزمان انطفأ ذباله ولم يزل في انتقاص إلى الآن والله غالب على أمره حدوث
الفتنة بفاس وقيامهم على عاملهم الصفار
لما توالت هذه الفتن على السلطان رحمه الله وانفتقت عليه الفتوق وصار الناس كأنهم
فوضى لا سلطان لهم قام عامة أهل فاس على عاملهم الحاج محمد الصفار فأرادوا عزله
وتعصبت له طائفة من أهل عدوته وافترقت
____________________
الكلمة بفاس حتى أدى ذلك إلى الحرب وسفك الدماء ونهب الدكاكين وتراموا بالرصاص من
أعلى منار مسجد الرصيف وبلغ ذلك السلطان وهو يومئذ بمكناسة يعالج داء البربر فزاده
ذلك وهنا على وهن فكتب إلى أهل فاس كتابا شحنه بالوعظ والعتب وأمر ابنه المولى
عليا أن يقرأه عليهم فجمعهم وقرأه عليهم حتى سمعوه وفهموه ونص الكتاب المذكور بسم
الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم إلى أهل فاس السلام عليكم
ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد فإن العثماني بإصطنبول وأمره ممتثل بتلمسان والهند
واليمن وما رأوه قط ولكن أمر الله يمتثلون { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله
وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن } النساء 59 وكان صلى الله عليه وسلم لا يجزي
بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح واعلموا أن العمال ثلاثة عامل أكل السحت وأطعمه
الغوغاء والسفلة وعامل لم يأكل ولم يطعم غيره انتصف من الظالم وعامل أكل وحده ولم
يطعم غيره فالأول تحبه العامة والسفلة ويبغضه الله والسلطان والصالحون والثاني
يحبه الله ويكفيه ما أهمه من أمر السلطان والثالث كعمال اليوم يأكل وحده ويمنع
رفده ولا ينصر المظلوم فهذا يبغضه الله ورسوله والسلطان والناس أجمعون وهذا معنى
حديث أزهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس الخ
وحديث العمال ثلاثة الخ فلو كان للصفار مائدة خمر وطعام يأخذه من الأسواق ويتغذى
عنده ويتعشى السفلة والفساق ويدعو اليوم ابن كيران وغدا ابن شقرون وبعده بنيس وابن
جلون ويفرق عليهم من الذعائر لأحبوه وما قاموا عليه ولو أردتم النصيحة لله ولرسوله
ولأميره لقدم علينا ثلاثة منكم أو ذكرتم ذلك لولدنا مولاي علي أصلحه الله فأخبرنا
بذلك وقل للصفار الكلاب لا تتهارش إلى على الطعام والجيف فإذا رأت كلبا بباب دار
سيده ولا شيء أمامه لم تعرج عليه وإن رأته يأكل فإن هو تعامى وأشركهم فيما يأكل
أكلوا معه وسكتوا وإن هو قطب وجهه وكشر عن أنيابه تراموا عليه وغلبوه على ما في
يده وهذا الصفار لم يتق الله ويزهد الزهد الذي ينصره الله به ولم يلاق الناس بوجه
طلق ويطرف مما يأكله فسلطهم
____________________
الله عليه ولما رأى يوسف بن تاشفين النعمة التي فيها ابن عباد قال أكل أصحابه
وأعوانه مثله فقالوا لا فقال إنهم يبغضونه ويسلمونه للمكاره لاستبداده دونهم
ولتغيير المنكر شروط وما يعقلها إلا العالمون وكم من مرة قلنا لكم العلماء هو
ينكرون ما ينكر ويعلموننا بما كان ولكن الجلوس بلا شغل والفراغ وعدم الحمد حملكم
على ما يحرم عليكم الكلام فيه
( إن الشباب والفراغ والجده ** مفسده للمرء أي مفسدة )
وأما بيت مال الله والأحباس فالله حسيب من بدل وقد كنتم تتكلمون على المكس والحرير
والقشينية وغير ذلك فأرى حكم الله من ذلك وانظروا لمن تعرفونه من العمال وأما
الفسق فهو عادة وديدن كل من قام في الفتنة وكم مرة رمت قطعة فلم أجد إليه سبيلا
لأن جل كبرائكم بالمصاري والعرصات وإنما أولي عليكم البراني لأنكم لا تحسدونه وإن
أكل وحده والحاسد يريد زوال النعمة عن محسوده والتجار لأن التاجر لا يطمع في مال
أحد ويكفيه الرفعة والجاه لنماء ماله وانظروا ما أجبتكم به وما كتبتم لنا به
واعرضوه على فقهائكم فمن قال الحق منا ومن قال الباطل أخذتم بحظكم من الفتن ا هـ
وهذه الرسالة قد شرحها الفقيه أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد الكريم اليازغي
وكان أهل فاس قد كتبوا إلى السلطان رحمه الله في شأن عاملهم الصفار المذكور
واعتذروا عن خروجهم عليه بأنه اشتغل بما لا يرضي الله من الفسق ومد اليد إلى
الحريم فأنكروا عليه فأجاب السلطان رحمه الله بالرسالة المذكورة خروج السلطان
المولى سليمان من مكناسة إلى فاس وما لقي من سفهاء البربر في طريقه إليها
قد تقدم لنا أن البربر طلبوا من السلطان تسريح إخوانهم وأنه بذلك
____________________
تصلح أحوالهم ويراجعون الطاعة ولما سرحهم نكثوا العهد وازدادوا تمردا فلما أعيا
السلطان أمرهم وكل أمرهم إلى الله وعزم على الخروج من مكناسة إلى فاس لما حدث بها
من الشغب أيضا فولى على مكناسة وجند العبيد ولده المولى الحسن وكان له علم وحزم ثم
خرج السلطان رحمه الله من مكناسة ليلا على خطر عظيم وأسرى ليلته ولم يعلم البربر
بخروجه حتى أصبح وقد جاوز المهدومة وشارف وادي النجاة فتبعوه على الصعب والذلول
ونهبوا كل من تخلف من الجيش واستولوا على كثير من روام السلطان وكان مع السلطان في
تلك الليلة المرابط البركة أبو محمد عبد الله بن حمزة العياشي فجعل يكف البربر عن
الجيش فلم يغن شيئا لأنه كان كلما كفهم من ناحية أغاروا من ناحية أخرى وخلص
السلطان إلى فاس وقد ازداد حنقة على البربر فلما دخلها أمر بنهب دور البربر
القاطنين بفاس فنهبوا كل من فيه رائحة البربرية ولو قديما فكان ذلك فتنة في الأرض
وفسادا كبيرا وأقام السلطان بفاس إلى رجب من السنة المذكورة أعني سنة خمس وثلاثين
ومائتين وألف ثم خرج لإصلاح نواحي بلاد الهبط فوصل في خرجته هذه إلى قصر كتامة
فمهد تلك البلاد وأمن سبلها ورجع إلى رباط الفتح فقدم عليه بها قبائل الحوز على
بكرة أبيهم من حاحا والشياظمة وعبدة والرحامنة وأهل السوس والسراغنة وزمران وأهل
دكالة وقبائل الشاوية وتادلا وقدم عليه أيضا قبائل بني حسن وعبيد الديوان وقبض في
هذه المرة على نحو المائة من زعير وأودعهم السجن ودخل شهر رمضان ففرق عمال القبائل
كلا إلى عمله وأمرهم بالقدوم عليه لعيد الفطر ويستصحبوا زكواتهم وأعشارهم وكان قد
عزم على المقام برباط الفتح إلى أن يقيم سنة العيد به وتجتمع عليه العساكر فيتوجه
بها لغزو البربر ثم بدا له رحمه الله فسافر مع قبائل الحوز إلى مراكش في عاشر
رمضان المذكور
____________________
ذكر ما حدث من الفتن بفاس
وأعمالها بعد سفر السلطان المولى سليمان إلى مراكش
لما عزم السلطان المولى سليمان رحمه الله على السفر إلى مراكش ندب جند العبيد إلى
السفر معه فتثاقلوا عليه وظهر منهم قلة المبالاة به وأحس منهم بذلك فأعرض عنهم
وبعد يوم أو يومين انسل من بين أظهرهم وقصد محلة أهل الحوز فدخل قبة القائد محمد
بن الجيلاني ولد محمد الصغير السرغيني وكان السلطان يطمئن إليه منذ كان رفيقه في
نكبته عند ظيان إذا كان ابن الجيلاني المذكور مأسورا عندهم وسرحوه للسلطان فرافقه
إلى مكناسة حسبما مر ولما احتل السلطان بمحلة أهل الحوز ازداد فساد نية العبيد
وسافر السلطان إلى مراكش وترك مضاربه وأثاثه بيدهم فتوزعوها وعادوا إلى مكناسة
وسمع الناس بما ارتكبه هؤلاء العبيد في حق السلطان فعاد شباب الفتنة إلى عنفوانه
وسرى في الحواضر والبوادي سم أفعوانه فخب عبيد مكناسة بعد قدوم إخوانهم عليهم في
الفتنة ووضعوا وامتنع عمال الغرب وبني حسن من دفع الزكوات والأعشار وطردوا جباة
السلطان وعمد الودايا بفاس إلى حارة اليهود التي بين أظهرهم بفاس الجديد فانتهبوها
واستصفوا موجودها وأخذوا ما كان تحت أيدي اليهود من كتان وحرير وفضة وذهب لتجار
أهل فاس إذ كانوا يخيطون لهم ويصنعون ما تدعو الحاجة إلى خياطته وصنعته فضاعت في
ذلك أموال لا يحصيها قلم حاسب ثم جردوهم رجالا ونساء وسبوا نساءهم وافتضوا أبكارهم
وسفكوا دماءهم وشربوا الخمور في نهار رمضان وقتلوا الأطفال ازدحاما على النهب ثم
تجاوزوا هذا كله إلى حفر البيوت على الدفائن فوقعوا بسبب ذلك على أموال طائلة ولما
رأوا ذلك قبضوا على أعيانهم وتجارهم وصادروهم بالضرب والنكال ليدلوهم على ما دفنوه
من المال ومن عنده يهودية حسناء حالوا بينه وبينها حتى يفتديها بالمال وكان هذا الحادث
العظيم في الثالث عشر من رمضان سنة
____________________
خمس وثلاثين ومائتين وألف ولما فرغوا من اليهود التفتوا إلى أهل فاس فاستاقوا
السرح وبهائم الحرث والجنات ومنعوا الداخل والخارج فقام بفاس هرج عظيم وغلقوا
الأبواب ومالوا على من وجدوه من الودايا داخل البلد فأوقعوا بهم ونهبوهم وحمل
الناس السلاح ونقلت البضائع والسلع من الأسواق إلى الدور خوفا عليها واجتمع أهل
الحل والعقد منهم فعينوا من يقوم بأمرهم فقدم اللمطيون رجلا منهم يقال له الحاج
أحمد الحارثي وقدم أهل العدوة رجلا منهم يقال له قدور المقرف وقدم أهل الأندلس
رجلا منهم يقال له عبد الرحمن بن فارس فضبطوا البلد وبينما هم كذلك قدم عليهم
جماعة من أعيان الودايا وتلافوا أمرهم معهم والتزموا رد ما نهبوه لهم من السرح وما
نهب في جملة أموال اليهود مما كان يصنع عندهم فخمدت بذلك نار الفتنة بعض الشيء وقد
قال أدباء الوقت في هذا الخطب الذي اتفق في هذه المدة جملة من الأشعار من ذلك قول
الكاتب البارع أبي عبد الله محمد بن إدريس الفاسي
( أعين العين للمحبين داء ** والدوا في شفاهها والشفاء )
( فإذا ما رمين سهما لصب ** فالهوى قد هوى به والهواء )
( كيف يعدل نحو رأيي عذول ** من رمته ظبي اللحاظ الظباء )
( سعد ساعد أخا الغرام بقرب ** من سعاد فقد عناه العناء )
( زارني ضيف طيفها فشجاني ** وسرى الطيف للمحب حباء )
( هب شوقي أذهب نشر كباها ** وعرتني من ذكرها العرواء )
( فسقى عهدها العهاد وحيا ** الملك العادل الحياء الحياء )
( ليس إلا أبا الربيع ربيع ** خلقه الجود والجدي والوفاء )
( بسليمان قد سلمنا وسدنا ** فالعلي منزل له والعلاء )
( ملك ملك العلا والمعالي ** وسما فله الفخار سماء )
( غرة المجد درة العقد من قد ** راق من فضله السنا والسناء )
( نجل خير الورى وأفضل من فذ ** نبأت بظهوره الأنبياء )
____________________
( من إذا رجاه راج لنول ** قبل حل الحبى أتاه الحباء )
( خلق دمث وخلق بهي ** من ذكي نوره تغار ذكاء )
( كفه كفت الفساد وكفت ** كل عاد فما له أكفاء )
( راحة راحة لكل فقير ** بحياء تحيا به الأحياء )
( روضة راضت العلوم ولكن ** عرفها العرف والثراء الثناء )
( قد روى فضله الأفاضل طرا ** فعلى الفضل والرواة رواء )
( لأبي القاسم الظياني لديهم ** فضل سبق له علا وعلاء )
( جمع الوصف أحكم الوصف صدقا ** وأتاه الإنشاء كيف يشاء )
( صالح ناصح أمين رصين ** قد ثناه إلى علاك السناء )
( كيف لا يحسن السناء ويسمو ** في إمام له المعالي رداء )
( إنما هو معجز مستقل ** يقتدي بفعاله العقلاء )
( بسط العدل في البسيطة فالدين ** له بسطة به وارتقاء )
( وغدا بإقامة الدين فالغرب ** غريبا أنصاره الغرباء )
( لم يجد في البرابر الغلف برا ** شأنه البر في البدا والبراء )
( نقضوا العهد خالفوا الأمر والنهي ** إلا إنهم هو السفهاء )
خالفوا منتقى الخلائق جهلا ** بعماهم فلا عداهم عماء )
( عادة في جدودهم جددوها ** لهم الدهر الارتداد رداء )
( قد دعاهم مهاوش لضلال ** فعليهم وبالهم والوباء )
( شق جهلا عصا الإمام شقاقا ** وعصى الله لا هناه الهناء )
( واقتفى أثرهم الغواة ضلالا ** فغاباهم ما أن عليه غباء )
( وإذا خبثت أصول فروع ** لاح من فعلهم عليه لواء )
( وكذا العرب أعربوا عن مساوفهم ** في سوى الخروج سواء )
( نافقوا رافقوا الخبيثين كفرا ** همزوا لمزوا فليس براء )
( والودايا جاؤوا بادوء عيب ** داؤهم ماله الزمان دواء )
( قتلوا سلبوا أخافوا وحافوا ** ما ثناهم عن القبيح ثناء )
( ما رعوا ذمة ولا فعل ذم ** بل عراهم من الحياء عراء )
____________________
( وإمام الأنام يحلهم عنهم ** ويوالي وما يفيد الولاء )
( نهبوا حارة اليهود وهدوا ** دورهم وعرى النساء سباء )
( لو تراهم بين الرعايا عراة ** يحتذيهم رجالهم والنساء )
( خفروا ذمة النبي فذموا ** لعماء فلا سقاهم عماء )
( يا إمام الهدى عليك بقوم ** ملأ الغرب بغيهم والبغاء )
( قد طم ظلمهم وعم أذاهم ** وانجلى عنهم فحق الجلاء )
( كم سدلت عليهم أي ستر ** ووهبت فما أفاد العطاء )
( وحدوت إلى الرشاد فحادوا ** ودعوت فما أفاد الدعاء )
( نلت رشدا برشدهم وجهادا ** فأبى منهم الرشاد إباء ) )
( وإذا خذل الإله أناسا ** من محياهم يزول الحياء )
( فعبيد الإله خير عبيد ** قد كفى منهم الإمام كفاء )
( حاربوا ضاربوا على الحق راعوا ** ذمة الله لا عداهم علاء )
( فاتخذهم مواليا وجنودا ** واصطفيهم فإنهم أصفياء )
( قد أصاب الأعادي منهم عذاب ** ودهى منهم الدهاة دهاء )
( وإذا سخر الإله أناسا ** لسعيد فإنهم سعداء )
( يا إله الأنام خذ بيديه ** وأعنه فقد عناه العناء )
( فينام الأنام في ظل أمن ** ورداه للماردين رداء )
( وعليه السلام ما سار سار ** وشدت فوق ورقها الورقاء )
ثم حدث على تفئة ذلك فتنة أخرى بفاس بسبب نزاع جرى بين قاضيها الفقيه أبي الفضل
عباس بن أحمد التاودي وبين مفتيها الفقيه أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الدكالي في
قضية الشريفين الشفشاوني والعراقي من أهل فاس وهي معلومة فأنهى الأمر إلى السلطان
فأخر الفقيه أبا عبد الله عن الفتوى فغضب للمفتي جماعة من المدرسين وطلبة العلم
وتعصبوا له وتحزبوا على القاضي فكتبوا رسما يتضمن الشهادة بجوره وجهله ووضعوا
خطوطهم وناطوا به قصيدة تتضمن الشكوى به وشرح حاله للسلطان ووجهوا بهما إليه ونص
القصيدة
____________________
( يا أيها الملك الذي عدالته ** أحيت مآثرها الصديق أو عمرا )
( يا أيها الملك الذي مناقبه ** في غرة الدهر قد لاحت لنا قمرا )
( أنت الذي وضع الأشياء موضعها ** وفي العلوم الذي أحيا الذي اندثرا )
( أنت الذي صير الدين القويم كما ** أوصى به من سما الأملاك والبشرا )
( ولم يزل بك في عز وفي حرم ** يجني ذوو العلم من رياضة ثمرا )
( تذب عنه بأسياف وآونة ** بفكرة تحكم الأحكام والصورا )
( ومن يرم هدمه تأخذه صاعقة ** من راحتيك فلا تبقى له أثرا )
( وقد شكا الدين من هضم ومن كمد ** أصابه فهو يبكي الدمع منهمرا )
( سطت عليه يد القاضي الذي غمرت ** أقضية الجور منه البدو والحضرا )
( أعفى مراسمه جورا وأبدله ** جهلا بما يذهب الألباب والفكرا )
( جاء الولاية وهو من شبيبته ** يرى القضا حرفة يجني بها وطرا )
( فلم يكن همه فيه سوى قنص ** أو نخوة تترك الضعيف منكسرا )
( أما حقوق الورى فإنها عدم ** مجهولة جعلت منبوذة بعرا )
( فاستنقذت ملة المختار جدك من ** هذا الذي ما درى وردا ولا صدرا )
( يأتي الحكومة عباسا ومنقبضا ** مما به من سقام يجلب الكدرا )
( فلا يرى أرسم الخصمين من ملل ** لكن يحكم أوهاما بها جهرا )
( ويستبد برأيه وحيث بدت ** فتوى تبصره ألقى بها حجرا )
( ولا يمكن خصما قد دعاه إلى ** تسجيله ما رأى في الحكم معتبرا )
( ملت قلوب الورى منه وليس لهم ** إلاك يا من به الإسلام قد نصرا )
( ضجوا لعزتكم يشكون سيرته ** بعبرة تترك الفؤاد منفطرا )
( فأدركن يا عماد الدين صارمه ** رعية ترتجي من حلمكم مطرا )
( فأنزلنه لقد طغى بعزته ** ولم يخف في غد لظى ولا سقرا )
( واصرفه عنهم كصرفه ضعيفهم ** واعزله عزلا فإن الأمر قد أمرا )
( فأنت غيثهم إن أزمة أزمت ** وأنت كهفهم إن حادث ظهرا )
ولما وصل الرسم والقصيدة إلى السلطان رأى أن ذلك من التعصب الذي يحدث بين الأقران
فرفضه لكمال أناته وعقله ولم يقبل شهادة عالم
____________________
على مثله فلما رأوا أن السلطان لم يساعدهم هجموا على القاضي وهو بمجلس حكمه
وأرادوا قتله وسدد نحوه الشريف أبو عبد الله محمد الطاهر الكتاني كابوسا أخرجه فيه
فأخطأه فانزعج القاضي ولزم بيته وقدموا مكانه الفقيه أبا عبد الله محمد بن عبد
الرحمن الدلائي ثم عزلوه وولوا مكانه الفقيه أبا عبد الله محمد العربي بن أحمد
الزرهوني فكانت عاقبة أمره أنه لما أفضى الأمر إلى السلطان المولى عبد الرحمن بن
هشام رحمه الله نفاه إلى الصويرة والله تعالى أعلم خروج أهل فاس على السلطان
المولى سليمان وبيعتهم للولى إبراهيم بن يزيد والسبب في ذلك
لما استمر السلطان المولى سليمان رحمه الله مقيما بمراكش والفتن بفاس وسائر بلاد
الغرب قد تجاوزت مداها وعم أذاها ورفعت الشكايات إليه من فاس وغيرها بما الناس فيه
من الكرب العظيم والخطب الجسيم كتب رحمه الله بخط يده كتابا إلى أهل فاس يرشدهم
إلى ما فيه صلاحهم من حلف البربر والاعتماد عليهم في حراسة بلادهم وسائر مرافقهم
كما كانوا قديما أيام الفترة في دولة السلطان المولى عبد الله إلى أن يفرغ من شأن
الحوز ويقدم عليهم هكذا زعم صاحب البستان
قال أكنسوس كان مراد السلطان بذلك الكتاب تهييج أهل فاس على التمسك بطاعته
وترغيبهم في محبته ونصرته وقد فعل مثل ذلك بمراكش فإنه جمع أعيانها وأعيان
الرحامنة عقب صلاة الجمعة وقال لهم قد رأيتم ما جرت به الأقدار من فساد قلوب
الرعية وتمادي القبائل على الغي والفساد ومن يوم رجعنا من وقعة ظيان ونحن نعالج
أمر الناس فلم يزدادوا إلا فسادا وقد جرى على الملوك المتقدمين أكثر من هذا فلم ينقصهم
ذلك عند رعيتهم بل قاموا معهم وأعانوهم على أهل الفساد حتى أصلحوهم وإني قد عجزت
____________________
بشهادة الله لأني ما وجدت معينا على الحق وكم مرة تحدثني نفسي أن أترك هذا الأمر
وأتجرد لعبادة ربي حتى أموت فقال من حضر من أعيان الرحامنة وغيرهم يا مولانا بارك
الله لنا في عمرك وجعلنا فداءك ونحن أمامك ووراءك فمرنا بما تشاء فقولك مطاع وأمرك
ممتثل وما رأينا منك إلا الخير فسر السلطان بمقالتهم ودعا لهم بخير ولما فعل مع
أهل مراكش هذا الأمر أراد أن يسلك مثله مع أهل فاس فوقع ما وقع ولما بعث السلطان
بالكتاب المذكور إلى ابنه المولى علي بفاس أمره أن يقرأه على أهلها بمحضر الفقيه
المفتي السيد محمد بن إبراهيم الدكالي والفقيه الشريف السيد محمد بن الطاهر
الفيلالي والفقيه الكاتب السيد أبي القاسم الظياني والأمين السيد الحاج الطالب ابن
جلون الفاسي فجمعهم المولى علي في المسجد الذي بباب داره بزقاق الحجر وقرأ عليهم
الكتاب المذكور وكان المسجد غاصا بالخاصة والعامة فازدحموا عليه ليروا الكتاب
بأعينهم وأكثروا عليه فضجر وقام ودخل داره وأغلقها عليه فقال بعض الناس إن السلطان
قد خلع نفسه وقال لكم قدموا من ترضونه وقال آخرون إنه لم يخلع نفسه وجعل آخرون
يقرعون باب المولى علي ويقولون أخرج إلينا كتاب السلطان حتى نقرأه ونعلم ما فيه
فقال لهم إني أحرقته فازدادوا ريبة وصدقوا أن السلطان قد خلع نفسه واجتمع رؤساء
أهل فاس منهم الحاج محمد بن عبد الرزيق والسيد محمد بن سليمان وعلال العافية وقدور
بن عامر الجامعي ولم يكن من أهل فاس وإنما كان قاطنا بالطالعة وهؤلاء من أهل عدوة
الأندلس وكذلك عيرهم من أهل عدوة القرويين واللمطيين ثم جمعوا الطلبة الذين حضروا
قراءة الكتاب وألزموهم أن يكتب كل واحد منهم ما سمع فكتب لك واحد ما ظهر له ثم
حازوا خطوطهم وخلصوا منها ما هو مرادهم وهو أن السلطان عجز وعزل نفسه وأمر الناس
أن ينظروا لأنفسهم هذا والحرب قائمة بين أهل فاس والودايا
____________________
فكتب أهل فاس إلى قواد البربر يستنصرونهم على الودايا ويستقدمونهم للنظر والخوض
معهم فيمن يتولى أمر الناس فقدم الحسن بن حمو واعزيز المطيري كبير آيت أدراسن في
وجوه قومه وقدم الحاج محمد بن الغازي كبير زمور وبني حكم في وجوه قومه فاجتمعوا
بأهل فاس وتفاوضوا في أمر البيعة فوقع اختيارهم على المولى إبراهيم بن يزيد وكان
ذا سمت وانقباض وصهر السلطان على ابنته وكان يسكن بدرب ابن زيان قرب المدرسة العنانية
فكان لا يخرج إلا من الجمعة إلى الجمعة يصلي بالمدرسة ثم يعود إلى داره فاختاروه
لذلك من غير اختبار ولا تمحيص ثم قالوا إن السلطان لا بد له من مال ورجال فتكفل
ابن واعزيز بالرجال وقال عندنا من الخيل والرجال ما لن يغلب من قلة وتكفل الحاج
الطالب بن جلون بالمال وأحال على جماعة من التجار وسماهم وذكر أن السلطان لما عزم
على السفر إلى مراكش ودع عندهم بواسطته مالا له بال ولما تم لهم ما أرادوا غدوا
على المولى إبراهيم بن يزيد فأحضروه وشرطوا عليه شروطا منها إخراج الودايا من فاس
الجديد وكانوا كلما شرطوا عليه شرطا حرك لهم رأسه أي نعم ثم بايعوه صبيحة الرابع
والعشرين من محرم سنة ست وثلاثين ومائتين وألف ويقال إنهم لما خاطبوه أولا امتنع
فقالوا له إن لم نبايعك بايعنا رجلا من آل المولى إدريس رضي الله عنه فخاف خروج
الأمر من بيتهم وأجاب والله أعلم وحضر هذه البيعة الشريف سيدي الحاج العربي ابن
علي الوزاني والشيخ أبو عبد الله سيدي محمد العربي الدرقاوي وكان ابن الغازي
الزموري من أخص أتباعه وهو رئيس البربر في ذلك الوقت وعليه وعلى ابن واعزيز كانت
تدور هذه الأمور وحضرها أيضا أبو بكر مهاوش كبير آيت ومالو ولما أحكموا أمرهم
كتبوا إلى العبيد بمكناسة ليساعدوهم فامتنعوا إلا أن من كان يبغض السلطان منهم
وعدهم سرا ثم كتبوا إلى الودايا بمثل ما كتبوا به إلى العبيد فكانوا عنها أبعد
فبعث أهل فاس الشيخ
____________________
أبا عبد الله الدرقاوي إلى الودايا ليأتي بيعتهم وكان له فيهم أتباع فقبضوا عليه
وأودعوه السجن وكتبوا بذلك إلى السلطان فما سخط ولا رضي واستمر المولى إبراهيم
والبربر مقيمين بفاس إلى أن نفذ ما عندهم من المال الذي أظهره لهم الحاج الطالب
ابن جلون فاتفق رأيهم على الخروج من فاس وكان من أمرهم ما نذكره مسير المولى
إبراهيم بن يزيد إلى تطاوين ووفاته بها
لما نفذ ما كان عند المولى إبراهيم بن يزيد وشيعته من المال واستهلكوه في غير
فائدة تفاوضوا فيما يصنعون فأجمع رأيهم على أن يسيروا إلى المراسي بقصد فتحها
والاستيلاء على مالها فخرجوا بالمولى إبراهيم مستبدين عليه ضاربين على يده وإنما
المتصرف والآمر والناهي هو أبو عبد الله محمد بن سليمان وأما ابن عبد الرزيق
وجماعة من أصحابه الذين أسسوا هذا الأمر فإنهم هلكوا في حرب الودايا في عشية واحدة
في وقعة ظهر المهراس وحزت رؤوسهم وبعث بها إلى السلطان بمراكش ولما برزوا من فاس
مروا بآيت يمور ونزلوا بالولجة الطويلة وراودوا من هنالك من عرب بني حسن وأهل
الغرب ودخيسة وأولاد نصير على الانخراط في سلكهم فأبوا عليهم وعزم القائد محمد بن
يشو على أن يبيتهم بغارة شعواء تفرق جمعهم فدس إليهم محمد بن قاسم السفياني اللوشي
وكان منحرفا عن السلطان بما عزم عليه ابن يشو وأشار عليهم أن يعبروا النهر إلى
ناحيته ليحميهم ممن أرادهم فعبروا إليه وانضم إليهم فيمن معه وساروا إلى قصر كتامة
فنزلوا بالكدية الإسماعيلية ومنها كتبوا إلى أهل الثغور والعرائش وطنجة وتطاوين
يدعونهم إلى بيعة سلطانهم والدخول في حزبهم فأما أهل العرائش وطنجة فأجابوا بالمنع
وقيل أن أهل العرائش بايعوا ووفد عليه بعضهم ولعل ذلك
____________________
كان في ثاني حال وأما أهل تطاوين فامتثلوا وكان قاضي طنجة أبو العباس أحمد الفلوس
قد عزم على بيعة المولى إبراهيم فنذر به عاملها أبو عبد الله محمد العربي السعيدي
فنفاه وقدم للقضاء مكانه الفقيه الأديب أبا البقاء خالد الطنجي ولما ورد على
المولى إبراهيم وحزبه جواب أهل تطاوين بالقبول ساروا إليها فدخلوها واستولوا على
مال المرسى وعلى مخازن السلطان وما فيها من سلاح وكتان وملف وغير ذلك فتوزعته
البربر ثم انتهبوا ملاح اليهود واكتسحوه فعثروا فيه على أموال طائلة يقال إنهم
وجدوا به عددا كثيرا من فنائق الضبلون والبندقي فكان ابن الغازي الزموري وغيره من
رؤساء ذلك الجمع لا يعطون أصحابهم إلا البندقي فكثر جمعهم لذلك ولما مضت لهم من
قدومهم تطاوين سبعة وأربعون يوما توفي المولى إبراهيم رحمه الله وكان قد دخلها
مريضا يقاد به في المحفة فأخفوا موته ودفنوه بداره وكان من أمرهم ما نذكره بيعة
المولى السعيد بن يزيد بتطاوين ورجوعه إلى فاس
لما توفي المولى إبراهيم بن يزيد اخفى رؤساء دولته موته ليلتين أو ثلاثا ثم دعوا
أهل تطاوين إلى بيعة أخيه المولى السعيد بن يزيد فافترقت كلمتهم فمنهم من أبى
ومنهم من أجاب فأحضر ابن سليمان وابن الغازي وأشياعهما من أبى من أهل تطاوين
وألزموهم البيعة فالتزموها وكتبوها وأحكموا عقدها وكان المتولي يومئذ بتطاوين
الحاج عبد الرحمن بن علي أشعاش فأخروه وولوا مكانه أبا عبد الله محمد العربي بن
يوسف المسلماني وكان داهية شهما وبينما هم في ذلك ورد عليهم الخبر بمجيء السلطان
من مراكش وأنه قد وصل إلى قصر كتامة ففت ذلك في عضدهم وخرجوا مبادرين إلى فاس على
طريق الجبل وكان من أمرهم ما نذكره
____________________
مجيء السلطان المولى سليمان من
مراكش إلى القصر ثم مسيره إلى فاس وحصاره إياها
كان السلطان المولى سليمان رحمه الله في هذه المدة مقيما بمراكش وكان العبيد قد
ندموا على ما فرط منهم برباط الفتح من التخلف عن السلطان ونهب أثاثه حسبما مر
فجعلوا يتسللون إليه من مكناسة مثنى وفرادى حتى اجتمع عنده جلهم لا سيما من كان
منهم معروفا بعينه مثل القواد وأرباب الوظائف ولما بلغه ما كان من بيعة المولى
إبراهيم بن يزيد تربص قليلا حتى إذا بلغه خروجه إلى المراسي قلق وخرج من مراكش في
جيش العبيد وبعض قبائل الحوز يبادره إليها ولما وصل إلى رباط الفتح عبر إلى سلا
ونزل برأس الماء ولما حضرت الجمعة دخل المدينة فصلى بالجامع الأعظم منها ودخل دار
الحاج محمد بن عبد الله معنينو من أعيان أهل سلا واستصحب معه الفقيه المؤقت أبا
العباس أحمد بن المكي الزواوي من أهل سلا أيضا بقصد القيام بوظيفة التوقيت ولما
وصل السلطان إلى قصر كتامة أتاه الخبر بدخول المولى إبراهيم إلى تطاوين فأقام
هنالك وكتب إلى الودايا وإلى من بقي بمكناسة يحضهم على التمسك بالطاعة وكتب إلى
ولده المولى الطيب بفاس الجديد يأمره أن يبعث إليه بالفقيه الأديب أبي عبد الله
محمد أكنسوس وهو صاحب كتاب الجيش
قال أكنسوس فقدمنا على السلطان بريصانة على مرحلتين من القصر قاصدا تطاوين ومحاصرة
المولى إبراهيم بن يزيد بها قال فورد عليه كتاب من عند القائد أبي عبد الله العربي
السعيدي صاحب طنجة بوفاة المولى إبراهيم وبيعة أخيه المولى السعيد وأنهم قد عادوا
به إلى فاس ولما تحقق بذلك رجع على طريق القصر يؤم فاسا ويسابق السعيد إليها
فوافياها في يوم واحد فنزل السعيد بجموعه بقنطرة سبو ودخل السلطان دار الإمارة
بفاس الجديد مع الودايا ولما كان فجر الغد في تلك الليلة أغارت خيل الودايا
____________________
على محلة المولى السعيد بالقنطرة فانتسفوها بما فيها وقتلوا من البربر وأهل فاس
وغيرهم خلقا كثيرا واحتووا على أموال طائلة مما كانت البربر قد نهبته من ملاح
تطاوين وأفلت المولى السعيد وبطانته بجريعة الذقن ودخلوا فاسا فأغلقوها عليهم
وثابت إليهم نفوسهم وفي هذه الأيام قتل المعلم الأكبر أبو العباس أحمد عنيقيد
التطاوني وكان عجبا في صناعة الرمي بالمهراس وكان المولى السعيد قد أتى به من
تطاوين ليحاصر به على فاس الجديد فدس إليه السلطان من قتله ناداه رجل وهو في محلة
أصحابه ليلا يا فلان أجب مولانا السلطان فظن أنه دعي إلى المولى السعيد فقال ها
أنا ذا وبرز من خبائه فرماه المنادي برصاصة كان فيها حتفه ثم عزم السلطان على
محاصرة فاس حتى يفيئوا إلى أمر الله ولكن اكتفى من الحصار بمنعهم من الدخول
والخروج وكان الودايا قد ألحوا عليه في أن يرميهم بالبنب فأبى رحمه الله وقال لو
كانت البنبة التي نرميها تذهب حتى تقع بدار ابن سليمان أو بدار الطيب البياز أو
غيرهما من رؤوس الفتنة لفعلنا ولكن إنما تقع في دار أرملة أو يتيم أو ضعيف حبسه
العجز معهم ثم إن أهل فاس بدؤوا بالرمي وكان معهم سعيد العجل عارفا بالرمي فجعلوا
يقصدون دار السلطان فوقعت بنبة بالموضع الذي كان يجلس فيه للقراءة ووقعت أخرى
بالمدرسة التي بباب داره وكان بها جماعة من طبجية سلا ورباط الفتح فقتلت منهم أربع
نفر منهم الباشا أبو عبد الله محمد بن محمد بن حسين فنيش السلاوي فعند ذلك حنق
السلطان وأمر أن يؤتى بالمهاريس الكبار من طنجة من فرمة ثمانين إلى فرمة مائة فجيء
بها ونصبها عليهم فكان القتال لا يفتر ليلا ونهارا والكور والبنب تختلف بين أهل
البلدين في كل وقت واستمر الحال على ذلك قريبا من عشرة أشهر ولا يدخل أحد إلى فاس
ولا يخرج منها إلا على خطر وفي أثناء هذه المدة نهض السلطان إلى طنجة للنظر في أمر
تطاوين الخارجة عليه بعد أن تقدم إلى الودايا في الحصار والتضييق على فاس إلى
____________________
أن يعود إليهم ولما استقر بطنجة بعث إلى أهل تطاوين وراودهم على الرجوع إلى الطاعة
فأبوا ولجوا في عصيانهم فبعث إليهم جيشا كثيفا مع القائد حمان الصريدي البخاري
فنزل بوادي أبي صفيحة وحاصرهم مدة فكانت الحرب بينه وبينهم سجالا مرة له ومرة عليه
وهلكت نفوس من أعيان تطاوين وغيرهم مجيء المولى عبد الرحمن بن هشام من الصويرة إلى
الغرب واستخلافه بفاس وما تخلل ذلك
كان المولى عبد الرحمن بن هشام في ابتداء أمره بتافيلالت ولما توسم فيه عمه المولى
سليمان مخايل الخير والنجابة استقدمه منها وولاه على الصويرة وأعمالها فكفاه أمرها
وقام بشأنها ثم لما كان المولى سليمان بطنجة في هذه المرة واستعصى عليه أمر فاس
وتطاوين وانصرم فصل الشتاء وأقبل فصل الربيع كتب إلى ابن أخيه المولى عبد الرحمن
المذكور يأمره بالقدوم عليه في قبائل الحوز ويلقاه بهم برباط الفتح وكان غرض
السلطان أن يزحف بهم إلى فاس إلا أن السياسة اقتضت أن يكون الأمر هكذا فجمع المولى
عبد الرحمن قبائل الحوز وقواده وقدم بهم إلى رباط الفتح ولما لم يجدوا السلطان به
تثاقلوا عن العبور مع المولى عبد الرحمن إلى بلاد الغرب لأن السلطان إنما وعدهم أن
يلقوه برباط الفتح فكتب المولى عبد الرحمن إلى عمه يعلمه بصورة الحال وكان السلطان
رحمه قد استوزر في هذه المدة الفقيه أبا عبد الله أكنسوس فبعثه إلى المولى عبد
الرحمن وأصحبه مالا يفرقه على جيشه لينشطوا للقدوم وكان قدر المال خمسين أوقية لكل
فارس وأمره إذا قدم أرض سلا أن ينزل عند عاملها أبي عبد الله محمد بن أبي عزة
المعروف بأبي جميعة وبعث للمولى عبدالرحمن ليعبر إليه في وجوه الجيش لقبض الصلة
ولا يذكر لهم سفرا فإذا قبضوها فليقرأ عليهم كتابه وكان مضمنه أنه يأمرهم بالقدوم
عليه لقصر كتامة لقبض الكسوة
____________________
التي أتى بهامن طنجة وحينئذ يذهب معهم السلطان إلى الحوز ففعل الوزير ذلك كله
وتقدم المولى عبد الرحمن في جيشه إلى قصركتامة
قال الوزير المذكور فلما جئنا القصر وجدنا السلطان لا زال مقيما بطنجة فتقدمت إليه
وأعلمته بوصول المولى عبد الرحمن وجيشه إلى القصر فخرج السلطان من طنجة وجعل طريقه
على آصيلا ولما بات بسوق الأحد بالغربية بعث إليه المولى المجذوب سيدي محمد بن
مرزوق يدعوه للقدوم عليه والبيات عنده فأجاب دعوته ودخل عليه وتبرك به ومن هناك
كتب إلى ابن أخيه المولى عبد الرحمن أن يتقدم بالجيش إلى العرائش ويلقاه به هنالك
ففعل المولى عبد الرحمن وهناك اجتمع بعمه السلطان المولى سليمان فسر بمقدمه ودعا
له بخير وأثنى عليه بمحضر أولئك الملأ من الناس ثم دعا السلطان قواد الحوز فيهم
القائد عبد الملك بن بيهي والقائد علي بن محمد الشيظمي والسيد محمد بن الغنيمي
نائبا عن الحاج حمان العبدي وكان في ركابه ابنه فضول بن حمان صغيرا والقائد بلعباس
بن المزوار الدكالي البوزراري والحاج العربي بن رقية البوزراري والقائد محمد بن
حديدة البوعزيزي والقائد المعطى الحمري والقائد الصديق ابن الفقيه العمراني ولم
يكن فيهم من الرحامنة إلا الحاج المعطى بن محمد الحاج ولم يكن فيهم من السراغنة
ولا من الشاوية أحد ولما اجتمعوا خرج عليهم السلطان وجلس على طنفسة ثم دعا بالقائد
عبد الملك بن بيهي فأجلسه إلى جنبه ودعا له بخير ثم قال إنكم تعبتم في سبيل الله
ونحن أتعب منكم ونسأل الله أن لا يضيع أجرنا وأجركم وأعلموا أنكم في طاعة الله
وطاعة رسوله ولكم المزية التامة وقد وجب علينا الإحسان إليكم وقد ظهر لي أنكم حين
وصلتم إلى هذا المحل لا ينبغي لكم أن ترجعوا بدون زيارة مولانا إدريس وكنت أردت أن
أوجهكم إلى بلادكم من هنا ولكن أنا لايمكنني أن أرجع إلا بعد أن يحكم الله بيني
وبين هؤلاء الخارجين عن الحق وأنتم لا يجمل بكم أن ترجعوا بغير سلطان فاصبروا
قليلا وتمموا عملكم حتى تذهبوا إن شاء الله بسلطانكم فرحين مستبشرين
____________________
فقالوا كلهم سمعا وطاعة لا نفارقك حتى نرجع بك ولو مكثنا عشر سنين وعلى أثر هذا
عقد السلطان لقائد خيل الجيش البخاري الحاج إبراهيم بن رزوق على مائتين من الخيل
مفروضة من الحوزية والعبيد وأمره أن يسير إلى تطاوين ويقيم بمرتيل ويمنع أهلها من
الوصول إلى المرسى ففعل وارتحل السلطان من العرائش يريد فاسا في قبائل الحوز فمر
ببلاد سفيان ونزل بسوق الأربعاء منها قرب ضريح سيدي عيسى بن الحسن المصباحي فأصابه
مرض هنالك وورد عليه الخبر بأن إبراهيم بن رزوق قد كاده صاحب تطاوين العربي بن
يوسف حتى قبض عليه وعلى أصحابه وسلبهم وسجنهم فآلم هذا الخبر السلطان وزاده إلى ما
به من المرض ثم أبل منه بعد أيام فنهض إلى فاس وعرج على طريق تازا ولما بات بسوق
الخميس بالكور من بلاد الحياينة أغارت عليه غياثة ومن شايعهم من أهل تلك النواحي
وكانوا قد دخلوا في بيعة أبي يزيد فداروا بالمحلة ونضحوها بالرصاص فقام السلطان
وجعل يسكن الناس بنفسه ونهاهم عن الركوب والاضطراب فحفظ الله المحلة في تلك الليلة
ولم يصب أحد من الناس ولا من الدواب وأصبحت قتلى العدو مصرعة حول المحلة ثم دخل
السلطان مدينة تازا فوفد عليه بها أهل الريف وعرب آنقاد والصحراء وجعلوا يزدحمون
عليه ليروا وجهه ويقولون إنه والله للسلطان لأن أهل فاس كانوا يشيعون موته ويكتبون
بذلك إلى القبائل ثم تقدم السلطان إلى فاس فنزل بقنطرة وادي سبو وذلك أواخر رجب
سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف وكان أهل فاس قد سئموا الحرب وعضهم الحصار وملوا
دولة أبي يزيد فاختلفت كلمتهم عند ما قدم السلطان وهاجت الحرب داخل البلد بين شيعة
السلطان وشيعة السعيد فكثرهم شيعة السلطان وفتحوا الباب وخرجوا إليه بالأشراف والصبيان
والمصاحف وتهافتوا على فسطاطه تائبين خاضعين وجاء السعيد في جوار المولى عبد
الرحمن بن هشام ومعه الأمين الحاج الطالب ابن جلون فكان جواب السلطان لهم أن قال {
قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين } يوسف 92 وكان رحمه
الله قد رأى
____________________
وهو سائر إلى فاس رؤيا وهي أنه دخل فاسا وزار تربة المولى إدريس رضي الله عنه
وقلده سيفا وصعد المنار وأذن فكان من عجيب صنع الله أن فتح عليه فاسا ودخلها وزار
المولى إدريس وأذن بمنارة على الهيئة التي رأى وجاء رجل من أولاد البقال فقلده
سيفا تصديقا للرؤيا ولما دخل ضريح المولى إدريس وجد الشريف البركة سيدي الحاج
العربي بن علي الوزاني هنالك فعاتبه السلطان عتابا خفيفا وزال ما بصدره عليه
وانقطعت أسباب الفتن والحمد لله
واعلم أن ما صدر من أهل فاس ومن وافقهم على هذه البيعة لا لوم عليهم فيه وماكان من
حق السلطان رحمه الله أن يبعث إليهم بذلك الكتاب الذي أوقعهم في حيص بيص وكان سببا
لهذه الفتن وقول أكنسوس إن السلطان أراد تهييجهم على التمسك بطاعته كما فعل مع أهل
مراكش ليس بشيء أو ما علم السلطان رحمه الله كلام الكبراء خصوصا الملوك مما تتوفر
الدواعي على نقله وأن العامة إذا نقلته وضعته غالبا في غير محله وفي الصحيح أن عمر
رضي الله عنه بلغه وهو بمنى أن رجلا قال والله لو قد مات عمر لبايعنا فلانا يريد
رجلا من غير قريش فقال عمر رضي الله عنه لأقومن العشية فأحذر هؤلاء الرهط الذين
يريدون أن يغصبوهم فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لا تفعل يا أمير المؤمنين
فإن الموسم يجمع رعاع الناس يغلبون على مجلسك فأخاف أن يسمعوا منك كلمة فلا
ينزلوها على وجهها ويطيروا بها عنك كل مطير فامهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة
ودار السنة فتخلص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار
فيحفظوا مقالتك وينزلوها على وجهها فقال عمر والله لأقومن به في أول مقام أقومه
بالمدينة الحديث فانظر كيف منع عبد الرحمن عمر رضي الله عنه من الكلام بالموسم
وبمحضر العامة خوفا من وقوع الفتنة وانقاد له عمر حيث علم أن ذلك هو الصواب وكان
وقافا عند الحق هذا والناس ناس والزمان زمان وفي خير القرون فكيف في زمان قل علمه
وكثر
____________________
جهله وغاض خيره وفاض شره وأمر
السلطان متداع مختل والفتنة قائمة على ساق كما رأيت فلهذا قلنا ما كان من حق
السلطان أن يبعث بذلك الكتاب الموجه بمقصدين المحتمل احتمالين ولكن قضاء الله غالب
ولما افتتح السلطان رحمه الله فاسا وصفا له أمرها عزم على النهوض إلى تطاوين
فاستخلف على فاس وأعمالها ابن أخيه الفارس الأنجد السري الأسعد المولى عبد الرحمن
بن هشام لعدالته وكفايته وحسن سياسته وأخذ معه المولى السعيد بن يزيد وخرج في جيش
الودايا والعبيد وقبائل الحوز أوائل شعبان سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف فجعل
طريقه على بلاد سفيان ولما وصل إلى الموضع المعروف بالحجر الواقف بين نهري سبو
وورغة قدم عليه هنالك القائد أبو عبد الله محمد بن العامري اليحياوي في قومه بني
حسن والقائد أبو عبد الله محمد المعتوجي السفياني وقاسم بن الخضر في قومهما سفيان
وبني مالك وقدم عليه هنالك أولاد الشيخ أبي عبد الله سيدي العربي الدرقاوي صبية
صغارا يشفعون في أبيهم ليسرحه لهم فوصلهم وكساهم وقال لهم والله ما سجنته ولا أمرت
بسجنه ولكن اتركوه فسيسرحه الله الذي سجنه فكان الأمر كذلك فإنه بقي في السجن حتى
توفي السلطان المولى سليمان وبويع المولى عبد الرحمن بن هشام فافتتح عمله بتسريحه
ولما نزل السلطان رحمه بمشرع مسيعيدة من نهر سبو وفد عليه أهل تطاوين تائبين ومعهم
قائدهم العربي بن يوسف المسلماني وكان الناس يظنون أنه ينكل به وبمن قام معه في
الفتنة فلم يفل لهم إلا خيرا حتى لقد قال له ابن يوسف يا مولانا إن أهل تطاوين لم
يفعلوا شيئا وإني أنا الذي فعلت يريد أن يبرئهم ويفديهم بنفسه فقال له السلطان
رحمه الله ما عندك ما تفعل أنت ولا هم وإنما الفاعل هو الله تعالى وصفح عنهم وأحسن
إليهم ولما صفا أمر تطاوين ولم يبق ببلاد الغرب منازع انقلب السلطان راجعا إلى
الحوز وجد السير إلى مراكش فدخلها في رمضان من السنة المذكورة
____________________
وقعة زاوية الشرادي وما جرى
فيها على السلطان المولى سليمان رحمه الله
هؤلاء الشراردة أصلهم من عرب معقل من الصحراء وهم طوائف زرارة والشبانات وهم الخلص
منهم ويضاف لهم بعض أولاد دليم وتكنة وذوو بلال وغيرهم وكانت منازلهم في دولة
السلطان الأعظم سيدي محمد بن عبد الله غربي مراكش على بعض يوم منها فنشأ فيهم
الشيخ أبو العباس الشرادي من أهل الصلاح زمن أصحاب الشيخ سيدي أحمد بن ناصر الدرعي
فاعتقدوه وربما ناله بعض الإحسان من السلطان المذكور ثم نشأ ابنه السيد أبي محمد
بن أبي العباس فجرى مجرى أبيه وبنى الزاوية المنسوبة إليهم واعتقده قومه أيضا بل
وغيرهم
فقد ذكر صاحب نشر المثاني أن السيد محمدا هذا لما قدم من الحج سنة سبع وسبعين
ومائة وألف اجتاز بمدينة فاس فاجتمع عليه ناس منها وتلمذوا له وبنوا له زاوية بدرب
الدرج من عدوة الأندلس وأثنى عليه وعلى أبيه فانظره ثم جاء ابنه المهدي بن محمد
فسلك ذلك المسلك أيضا ونشأ في دولة السلطان المولى سليمان رحمه الله واتخذ شيئا من
كتب العلم من غير أن يكون له فيه يد تعتبر ثم تظاهر بمعرفة السيميا والحدثان
فازداد ناموسه وتمكن من جهلة قومه وربما نمى شيء من أمره إلى السلطان فتغافل عنه
ثم لما قدم السلطان رحمه الله مراكش هذه المرة وجد أمره قد زاد واستفحل وكان
الشراردة يومئذ قد حسنت حالهم فأثروا وكثروا وكان السلطان قد ولى عليهم رجلا منهم
اسمه قاسم الشرادي فحدث بينه وبين المهدي ما يحدث بين المرابطين وأرباب الولاية
وكان ربما التجأ جان إلى زاوية المهدي فيقبض عليه القائد ويخرجه منها فاستحكمت
العداوة بين القائد وبين المهدي ثم جرى شنآن بين المهدي وبين بعض قرابته ففر ذلك
القريب إلى مراكش وكان القائد قاسم بها فشكا إليه عمه المهدي فاغتنمها
____________________
القائد ودخل على السلطان فشرح له حال المهدي وما هو عليه من التهور والسمو بنفسه
إلى المحل الذي لا يبلغه وأنه لا يستقيم أمر المخزن بتلك القبيلة معه ولم يزل به
حتى أعطاه السلطان مائتين من الخيل أغار بها على الزاوية فانتهبوها على حين غفلة
من أهلها وجلهم غائب في أعماله فتسامعوا بأن الخيل قد عاثت في ديارهم وجاؤوا على
الصعب والذلول وأوقعوا بخيل المخزن واستلبوهم من خيلهم وسلاحهم وعادوا إلى مراكش
راجلين فعظم ذلك على السلطان واغتاظ واتفق أن كان مع السلطان عامل مراكش أبو حفص
عمر بن أبي ستة وعامل الرحامنة القائد قاسم الرحماني وكلاهما عدو للشراردة لا سيما
الرحماني فشنعوا في ذلك بمحضر السلطان وأسدوا وألحموا في غزو الشراردة وتأديبهم
حتى لا يعودوا لمثلها وفي أثناء ذلك ندم الشراردة على ما كان منهم وبعثوا إلى
السلطان بالشفاعات وذبحوا عليه وعلى صلحاء مراكش فلم يقبل منهم ويقال إن ذلك لم
يكن يبلغ السلطان لأن النقض والإبرام إنما كان لعمر بن أبي ستة وقاسم الرحماني
وكان السلطان رحمه الله كالمغلوب على أمره معهما فلم يزالوا به حتى بعث إلى قبائل
الحوز يستنفرهم لغزو الشراردة فاجتمعوا عليه وكان معه جيش الودايا وكبارهم مثل
الطاهر بن مسعود الحساني والحاج محمد بن الطاهر وغيرهما ومعه القائد محمد بن
العامري في بني حسن وغيرهم من قبائل الغرب
ولما أجمع السلطان الخروج إليهم قدم أمامه قاسما الرحماني إذ كان قد تكفل له بأن
يكفيه أمر الشراردة وحده فكان متسرعا إليهم قبل كل أحد فرابط بعين دادة ثمانية عشر
يوما والوسائط تتردد بين السلطان وبين الشراردة وكادت كلمتهم تختلف إذ قام فيهم
رجل مرابط اسمه الحبيب من أولاد سيدي أحمد الزاوية وبعث نحو الأربعين من الشراردة
إلى السلطان سعيا في الصلح فأشار الرحماني وابن أبي ستة فيما قيل على السلطان
بالقبض
____________________
عليهم فقبض عليهم وحيزت خيلهم وسلاحهم فشرى الداء وأعوز الدواء ثم زحف السلطان
وانتشبت الحرب أول النهار ولما اشتد الحر وكان الزمان زمان مصيف تحاجزوا ثم عاد
قاسم الرحماني فأنشب الحرب مع العشي فكانت الدبرة عليه وقتل وحمل رأسه على رمح
وانهزم جيش المخزن ووقع الفشل في المحلة فتفرقت القبائل وباتوا لا يلوون على شيء
ولما طلع النهار لم يبق مع السلطان إلا جيش المخزن فزحف الشراردة إلى المحلة ورأوا
السلطان قد بقي في قلة فطمعوا فيه وأنشبوا الحرب فانهزم الجيش الذين كانوا مع
السلطان وتركوا المحلة بما فيها فتوزعتها الشراردة شذر مذر وانحاز السلطان في
حاشيته وقصد مراكش فلقيتهم في طريقهم ساقية ماء حبستهم عن المرور وخالط الشراردة
القوم الذين كانوا مع السلطان وجعلوا يستلبون من ظفروا به منهم وتراكم المنهزمة
على السلطان ولجؤوا إليه وقتل الشراردة عمر بن أبي ستة خلف ظهره
ولما رأى السلطان رحمه الله ذلك نادى في الناس أن لا يقتل أحد نفسه على ولا على
هذه الأسلاب أعطوهم منها ما شاؤوا واجتمع نحو العشرين من كبار الشراردة وتقدموا
إلى السلطان فقالوا يا مولانا تحيز إلينا لئلا تصيبك العامة فانحاز إليهم وكان
راكبا على بغلته فالتفوا عليه وساروا به إلى زاويتهم وأنزلوه بالدار المعروفة
عندهم بدار الموسم واحترموه وغدوا وراحوا في خدمته وكان مع وصيفه فرجى صبيا صغيرا
وهو الذي ولي إمارة فاس الجديد في دولة السلطان المولى عبد الرحمن بن هشام وكان
معه أيضا عبد الخالق بن كريران الحريزي شابا كما بقل عذاره وبقي عندهم ثلاثة أيام
وحضرت الجمعة فصلاها عندهم وخطبوا به ومن الغد ركبوا معه وصحبوه إلى مراكش إلى أن
وصلوا إلى عين أبي عكاز فودعوه ورجعوا ومما قال لهم عند الوداع إن الذين أرادوا أن
يفتحوا باب الفتنة على الناس قد سد الله أبوابها برؤوسهم يعني الرحامنة وبعد وصول
السلطان إلى مراكش
____________________
بيوم أو نحوه عدا الرحامنة على محمد بن أبي ستة فقتلوه بسبب أن الشراردة كانوا قد
أسروه ثم استحيوه واتخذوا عنده عهدا ويدا بأنه إذا أفضت إليه ولاية مراكش بعد أخيه
عمر المقتول يحسن في إدارة أمرهم عند السلطان فسمع الرحامنة بذلك فقتلوه
قال صاحب الجيش لما عزم السلطان على الخروج إلى زاوية الشرادي بعثني قبل ذلك بثلاث
إلى السوس في شأن ابن أخيه المولى بناصر بن عبد الرحمن وكان عاملا عليها فكثرت الشكايات
به إلى السلطان فبعثني في شأنه فلما جئت تارودانت تربصت قليلا فلم يفجأنا إلا خبر
الهزيمة على السلطان بالروايات المختلفة فقائل يقول إنه قد قتل وآخر يقول إنه قد
مات حتف أنفه وآخر يقول لا بأس عليه ثم ورد علينا كتابان من عند السلطان أحدهما
بخط الكاتب مطبوعا والآخر بخط يده تحقيقا لسلامته يقول فيه إن هذه الحركة ما وقعت
إلا لهلاك الظلمة والملبسين علينا المظهرين للمحبة لنا وهم في الباطن أعدى الأعادي
مثل قاسم الرحماني وفلان وفلان وأما أولاد أبي ستة فقد قتل زرارة عمر على رائحة
الرحامنة وقتل الرحامنة محمدا على رائحة أهل السوس والشريف سيدي محمد بن عبد
الجليل الوزاني أصابته رصاصة رعاية رحمه الله عليه والحاصل هان علينا كسر الخابية
بموت الفار وقد أحسنت في التربص فاترك الأمر على طيته واصحب معك أشياخ السوس وعدهم
منا بالإحسان ومساعدتهم على ما يطلبونه منا والسلام اه
ولما دخل السلطان مراكش راجع القوم الذين انهزموا عنه بصائرهم وأقبلوا إليه خاضعين
تائبين وعلى أبوابه في العفو راغبين فما وسعه إلا الإعراض عن أفعالهم الذميمة
وطاعتهم السقيمة ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم أمرهم بالتهيىء لغزو برابرة الغرب
فتوجهوا إلى بلادهم ليأتوا بحصصهم إلى عيد المولد الكريم فانقضى أجله رحمه الله
____________________
وفاة أمير المؤمنين المولى
سليمان بن محمد رحمه الله
كان أمير المؤمنين المولى سليمان رحمه الله في هذه المدة قد سئم الحياة ومل العيش
وأراد أن يترك أمر الناس لابن أخيه المولى عبد الرحمن بن هشام ويتخلى هو لعبادة
ربه إلى أن يأتيه اليقين قال ذلك غير مرة وتعددت فيه رسائله ومكاتيبه فمما كتبه في
ذلك هذه الوصية التي يقول فيها الحمد لله لما رأيت ما وقع من الإلحاد في الدين
واستيلاء الفسقة والجهلة على أمر المسلمين وقد قال عمر إن تابعناهم تابعناهم على
ما لا نرضى وإلا وقع الخلاف وأولئك عدول وهؤلاء كلهم فساق وقال عمر فبايعنا أبا
بكر فكان والله خير وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق أبي بكر يأبى الله
ويدفع المسلمون ورشحه بتقديمه للصلاة إذ هي عماد الدين وقال أبو بكر للمسلمين
بايعوا عمر وأخذ له البيعة في حياته فلزمت وصحت بعد موته وقال عمر هؤلاء الستة
أفضل المسلمين وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم العبد صهيب وقال أبو عبيدة
أمين هذه الأمة وقال ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر وقال
في أبي بكر وعمر أكثر من هذا فصار المدح للتعريف واجبا ولإظهار حال الرجل لينتفع
به فأقول جعله الله خالصا لوجهه الكريم ما أظن في أولاد مولانا الجد عبد الله ولا
في أولاد سيدي محمد والدي رحمه الله ولا أولاد أولاده أفضل من مولاي عبد الرحمن بن
هشام ولا أصلح لهذا الأمر منه لأنه إن شاء الله حفظه الله لا يشرب الخمر ويزني
ولايكذب ولا يخون ولا يقدم على الدماء والأموال بلا موجب ولو ملك ملك المشرقين
لأنها عبادة صهيبية ويصوم الفرض والنفل ويصلي الفرض والنفل وإنما أتيت به من
الصويرة ليراه الناس ويعرفوه وأخرجته من تافيلالت لأظهره لهم لأن الدين النصيحة
فإن اتبعه أهل الحق صلح أمرهم كما صلح سيدي محمد جده وأبوه حي ولا يحتاجون إلي
أبدا ويغبطه أهل المغرب ويتبعونه إن شاء الله
____________________
وكان من اتبعه اتبع الهدى والنور ومن اتبع غيره اتبع الفتنة والضلال واحذر الناس
أولاد يزيد كما حذر والدي وقد رأى من اتبعه أو اتبع أولاده كيف خاض الظلمة ونالته
دعوة والده وخرج على الأمة وأما أنا فقد خفت قواي ووهن العظم مني واشتعل الرأس
شيبا حفظني الله في أولادي والمسلمين آمين نصيحة وصية سليمان بن محمد لطف الله به
اه
وفي أثناء هذه المدة وقعت غدرة ذوي بلال في انتهابهم الصاكة الواردة من مرسى الصويرة
وكان انتهابهم إياها باتفاق من الشياظمة الذين جاؤوا معها وقائدهم علي بن محمد
الشيظمي هو الذي انتهب أكثرها وكان فيها من الذخائر النفيسة والأموال الثقيلة شيء
كثير وهذه الوقعة هي التي هدت أركان السلطان المولى سليمان رحمه الله فاعتراه مرضه
الذي كان سبب وفاته ولما أثقله المرض أعاد العهد للمولى عبد الرحمن بن هشام وبعث
به إلى فاس إذ كان خليفة بها كما مر فدعا رحمه الله بصحيفة بيضاء ودعا بالطابع
الكبير فجيء به ولم يحضره إلا أهله من النساء فطبع الصحيفة بيده وكتب بعض الكتاب
وأكملته بعض حظاياه ممن كانت تحسن الكتابة ثم طواه وختم عليه ودعا القائد الجيلاني
الرحماني الحويوي وكان قائد المشور وقال له ادع لي فارسين يذهبان بهذا الكتاب إلى
فاس وقد عينت لهما سخرة كبيرة يقبضانها هناك إذا أسرعا السير فكان ذلك الكتاب هو
العهد الذي قرىء بفاس ونصه الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
وسلم أخوالنا الودايا ورماة فاس وأعيانها ورؤساءها سلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وعلى ابن عمنا الفقيه القاضي مولاي أحمد والفقيهين ابن إبراهيم والآزمي وبعد فقد
وجدت من نفسي ما ليس بتارك أحدا في الدنيا وهذه وصية أقدمها بين يدي أجلي والله ما
بقي في قلبي مثقال ذرة على أحد من خلق الله لأن ذلك أمر قد قدره الله وسبق علمه به
ولست فيه بأوحد وما وقع لمن قبلي أشنع وأقطع وإني قد عقدت
____________________
بين أخوالي وأهل فاس أخوة بحول الله لا تنفصم يرثها الأبناء عن الآباء وأوصي
الجميع بما أوصى الله به الأولين { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم
أن اتقوا } النساء 131 { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا
الله } الحشر 7 وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ولن تزال هذه الأمة بخير ما أخذوا بكتاب
الله وقد عهدت لابن أخي مولاي عبد الرحمن بن هشام ورجوت الله أن يكون لي في هذا
الأمر مثل ما لسليمان بن عبد الملك في عهده لعمر بن عبد العزيز { إنا نحن نحيي
الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم } يس 12 من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها
إلى يوم القيامة وقد انعقد الإجماع على عقد البيعة بالعهد والقاضي والفقيهان
يبينون لكم هذا { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } النساء 59 وإني
أشهد الله أني مقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الرحمن بن هشام وببيعته ألقاه وقد
أديت لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما علي من النصيحة وأرجوا الله أن يثيبني
بهذه النية الصحيحة وهو المطلع على ما في الضمائر والعالم بالسرائر والسلام وفي
رابع ربيع النبوي عام ثمانية وثلاثين ومائتين وألف اه
ثم تمادى بالسلطان رحمه الله مرضه إلى أن توفي ثالث عشر ربيع الأول وهو الثاني من
عيد المولد الكريم من السنة المذكورة ومات رحمه الله ثابت الذهن صحيح الميز على
غاية من اليقين والفرح بلقاء ربه ودفن بضريح جده المولى علي الشريف بباب آيلان من
مراكش وقد رثاه جماعة من أدباء العصر من ذلك قول الفقيه الأديب الكاتب البليغ أبي
عبد الله محمد بن إدريس الفاسي
( نبأ عرى أوهى عرى الإيمان ** وأبان حسن الصبر عن إمكان )
( شقت لموقعه القلوب وزلزلت ** أرض النفوس ورج كل مكان )
____________________
( فقد الإمام أبي الربيع المرتضى ** جزعت لعظم مصابه الثقلان )
( وبكت عيون الدين ماء جفونها ** وجدا عليه وكل ذي إيمان )
( لم نعى الناعون خير خليفة ** وعرا الفؤاد طوارق الأحزان )
( مزقت ثوب تجلدي من فقده ** ونثرت در الدمع من أجفاني )
( عجبا لموت غاله إذ لم يخف ** فتك الملوك وسطوة السلطان )
( وسما لمنصبه المنيف ولم يهب ** غضب الجنود وغيرة الأعوان )
( لو كان ينفع خاض فرسان الوغا ** حرصا عليه مواقد النيران )
( وحموه بالنفس النفيسة إنما ** يحمون روح العدل والإحسان )
( لكن قضاء الله حم فلا يرى ** للمرء في دفع القضاء يدان )
( والموت مورد كل حي كأسه ** وسوى المهيمن في الحقيقة فان )
( إن غاب عنا شخصه فلقد ثوى ** فينا الثناء له بكل لسان )
( ومناقب ومفاخر ومآثر ** شاعت له في سائر الأوطان )
( ومعارف وعوارف ووسائل ** ومسائل قد أوضحت ومعاني )
( وبدور أولاد وآل قد قفوا ** آثاره في العلم والعرفان )
( تخذوا الديانة والصيانة شرعة ** وتقلدوا بصوارم الإيقان )
( أخلاقهم ووجوههم وأكفهم ** كالزهر والأزهار والأمزان )
( إن حاربوا أبدوا شجاعة جدهم ** أو خاطبوا أزروا على سحبان )
( من كل من جعل القرآن سميره ** وسما بوصف العلم والتبيان ) )
( كم آية ظهرت له وكرامة ** دامت دلائلها مدى الأزمان )
( قد كان أوحد دهره ولذاته ** في العدل والتمكين والإحسان )
( قد كان عالم عصره وفريده ** في الفهم والتحقيق والإتقان )
( قد كان فردا في البلاغة إن جرت ** أقلامه بهرت بسحر بيان )
( من للعلى من بعده من للنهي ** من للتقى وتلاوة القرآن )
( يا رمسه ما ذا حويت من العلى ** وطويت من علم ومن عرفان )
____________________
( يا رمس كم واريت من كرم ومن ** جود ومن فضل ومن إحسان )
( يا رمس كم حجبت عنا شمسه ** وضياؤها في سائر البلدان )
( ووسعت بحر علومه وسخائه ** فطمى بضيق بطنك البحران )
( فلو استطعت جعلت قلبي قبره ** حبا وأحشائي من الأكفان )
( ولو أن عمري في يدي لوهبته ** وفديته بالأهل والإخوان )
( لكن يخفف بعض أثقال الأسى ** علمي به في جنة الرضوان )
( فسقى ثراه من المواهب ديمة ** وهمت عليه سحائب الغفران )
( ورد الرسول بموت خير خليفة ** وولاية العهد الرفيع الشأن )
( فجزعت من حزن لما قد نابني ** وطربت من فرح بما أولاني )
( ما مات من ترك الخليفة بعده ** مثل المؤيد عابد الرحمن )
( ملك تسربل بالتقى حتى ارتقى ** من نهجه الأتقى على كيوان )
( يا واحدا في الفضل غير مشارك ** أقسمت ما لك في البرية ثان )
( لله بيعتك التي قد أشبهت ** فيما تواتر بيعة الرضوان )
( قد أحكمتها يد الشريعة والتقى ** بعرى النصوص وواضح البرهان )
( سعد الذي أضحى بها متمسكا ** وهوى العنيد بهوة الخسران )
( وجرى على التيسير أمرك فاستوى ** ملك الورى لك في أقل زمان )
( وأتت لنصرتك المغارب كلها ** فبعيدها لك في الحقيقة داني )
( عقدوا على النصح القلوب وإنما ** عقدوا بنصرك رايه الإيمان )
( لو شئت من أهل المشارق طاعة ** لأتوك من يمن ومن بغدان )
( هابتك أصناف الطغاة بزعمهم ** لما وثقت بنصرة الرحمن )
( وبسطت عدلك في الورى فكأنما ** قد عاش في أيامك العمران )
( يا أهل بيت المصطفى أوصافكم ** جلت عن الإحصاء والحسبان )
( طاب المديح مع الرثاء بذكركم ** فنظمته كقلائد العقيان )
____________________
بقية أخبار السلطان المولى
سليمان رحمه الله ومآثره وسيرته
لما بويع أمير المؤمنين المولى سليمان رحمه الله رد الفروع إلى أصولها وأجرى
الخلافة على قوانينها بإقامة العدل والرفق بالرعية والضعفاء والمساكين ومن وفور
عقله وعدله إسقاط المكوس التي كانت موظفة على حواضر المغرب في الأبواب والأسواق
وعلى السلع والغلل وعلى الجلد وعشبة الدخان فقد كان يقبض في ذلك أيام والده رحمه
الله خمسمائة ألف مثقال معلومة مثبتة في الدفاتر مبيعة في ذمم عمال البلدان وقواد
القبائل كل مدينة وما عليها ومن ذلك المكس كان صائر العسكر في الكسوة والسروج
والسلاح والعدة والإقامة والخياطة والتنافيذ لوفود القبائل والعفاة والمؤنة للعسكر
ولدور السلطان وسائر تعلقاته فكان ذلك المكس كافيا لصوائر الدولة كلها ولا يدخل
بيت المال إلا مال المراسي وأعشار القبائل وزكواتهم وكان مستفاد هذا المكس يعادل
مال المراسي وأعشار القبائل فزهد فيه هذا السلطان العادل فعوضه الله أكثر منه من
الحلال المحض الذي هو الزكوات والأعشار من القبائل وزكوات أموال التجار والعشر المأخوذ
من تجار النصارى وأهل الذمة بالمراسي وأما المسلمون فقد منعهم من التجارة بأرض
العدو لئلا يؤدي ذلك إلى تعشير ما بأيديهم أو المشاجرة مع الأجناس هكذا بلغنا
والله أعلم
وكانت القبائل في دولته قد تمولت ونمت مواشيها وكثرت الخيرات لديها من عدله وحسن
سيرته فصارت القبيلة التي كانت تعطي عشرة آلاف مثقال مضاربة أيام والده يستخرج
منها على النصاب الشرعي عشرون وثلاثون ألف مثقال وذلك من توفيق الله له وتمسكه
بالعدل والحلم والجود والحياء وجميل الصبر وحسن السياسة والتأني في الأمور
واجتنابه لما هو بضد ذلك
فأما الحلم فهو دأبه وطبعه وقد اتفق أهل عصره على أنه كان أحلم الناس في زمانه
وأملك لنفسه عند الغضب من أن يقع في الخطأ ومذهبه
____________________
درء الحدود بالشبهات والتماس التأويل وقبول العذر حتى لقد حكى عنه أنه ما اعتمد
البطش بأحد وتصدى لنكبته لغرض نفساني أو لحظ دنيوي وحسبك من حلمه ما قابل به
الخارجين عليه
قال صاحب الجيش لما عزمت على الخروج من فاس أيام الفتنة لملاقاة السلطان المولى
سليمان بقصر كتامة جئت إلى القاضي أبي الفضل عباس بن أحمد التاودي لأودعه فكان من
جملة ما أوصاني به قال قل لمولانا السلطان يقول لك عباس إنا نخاف إذا ظفرت بهؤلاء
الظلمة أن تصفح عنهم فلما اجتمعت بالسلطان أبلغته مقالة القاضي فقال كيف أصفح عنهم
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي عزيز لا أتركك تمسح سبلتك بمكة وتقول خدعت
محمدا مرتين فلما فتح الله عليه فاسا كان جوابه أن قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر
الله لكم وهو أرحم الراحمين بل تعجل بالخروج منها مخافة أن يغريه بعض بطانته بأحد
منهم فلعمري لقد صدق من قال إن التخلق يأتي دونه الخلق
وأما الدين والتقوى فذلك شعاره الذي يمتاز به ومذهبه الذي يدين الله به من أداء
الفريضة لوقتها المختار حضرا وسفرا وقيام رمضان وإحياء لياليه بالإشفاع ينتقي لذلك
الأساتيذ ومشايخ القراء ويجمع أعيان العلماء لسرد الحديث الشريف وتفهمه والمذاكرة
فيه على مر الليالي والأيام ويتأكد ذلك عنده في رمضان ويشاركهم بغزارة علمه وحسن
ملكته ويتناول راية السبق في فهم المسائل التي يعجز عنها غيره فيصيب المفصل ويواظب
على صيام الأيام المستحبة من كل شهر ويعظم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء ويرفع
مناصبهم على سائر رجال دولته ويجري عليهم الأرزاق ويعطيهم الدور المعتبرة والضياع
المغلة ويحسن مع ذلك إلى من دونهم في المرتبة من المدرسين وطلبة العلم ويؤثر المعتنين
منهم وذوي الفهم بمزيد البروتضعيف الجراية حتى لقد تنافس الناس في أيامه في اقتناء
العلوم وانتحال صناعتها لاعتزاز العلم وأهله في دولته وسعة أرزاقهم
____________________
وأما صبره عند الشدائد واحتمال العظائم وتجلده عند حلول الخطب ونزول المقدور فحدث
عن البحر ولا حرج وعن الجبل سكونا ورسوخ قدم
قال صاحب البستان ولو حدثنا بما شاهدناه منه لكان عجبا وأما العدل فإنه ما رئي في
ملوك عصره أعدل منه ومن عجيب سيرته أنه كان يلزم العمال رد ما يقبضونه من الرعايا
على وجه الظلم من غير إقامة بينة عليهم على ما جرى به عمل الفقهاء من قلب الحكم في
الدعوى على الظلمة وأهل الجور حسبما ذكره الوانشريسي وغيره ومن عدله واقتصاده ما
حكاه لنا الفقيه أبو العباس أحمد بن المكي الزواوي المؤقت بالمسجد الأعظم من سلا
قال مر السلطان المولى سليمان بسلا سنة ست وثلاثين ومائتين وألف فنزل برأس الماء
واستدعاني للقيام بوظيفة التوقيت عنده قال فدخلت عليه فإذا هو رجل طويل أبيض جميل
الصورة ففاوضني في مسائل من التوقيت وكان يحسنه فأجبته عنها فأعجبه ذلك ثم وصلني
بضبلونين وأخرج مجانته من جيبه ليحققها فرأيت مجدولها من صوف ثم حضرت صلاة العصر
فتقدم وصلى بنا فرأيت سراويله مرقعة وكان إمام صلاته الراتب هو الفقيه السيد الحاج
العربي الساحلي لكنه صلى بنا تلك الصلاة ولما فرغنا من الصلاة وانقلبنا إلى
منازلنا جيء بالطعام وهو قصيعة من الكسكس عليها شيء من اللحم والخضرة وليس معها
غيرها قال وكانت عادة المولى سليمان في السفر أن لا يتخذ كشينة أي مطبخا إنما هو
طعام يسير يصنع له ولبعض الخواص مما يكفي من غير إسراف حتى أن الكتاب كانوا يقبضون
ست موزونات ويعولون أنفسهم وكانت أقواتهم وأزوادهم خفيفة اه
وأما سياسته الخاصة في جبر القلوب واستئلاف الشارد وتسكين المرتاب وإرضاء الولي
ومجاداة العدو والدفاع بالتي هي أحسن عند اشتباه الأمور ومعاناة الرجال بوجوده
المكائد والحيل في الأمور التي لا ينفع فيها حرب ولا قوة فشيء لا يبلغ فيه شأوه
ولا يشق غباره
وأما عادته في الحرب فقد أخذ فيها بسيرة العجم بحيث لا يباشر
____________________
الحروب بنفسه ويعمل بعمل أهل الصدر الأول فيقف في قلب الجيش كالجبل الراسي وأمراؤه
يباشرون الحروف بأنفسهم في الميمنة والميسرة وهو ردء لهم كلما رأى فرجة سدها أو
خللا أصلحه وهو كالصقر مطل على حومة الوغا فإذا أمكنته فرصة أنتهزها ومن شدة ثباته
وعدم تزحزحه أنه كان لا يركب وقت الحرب إلا البغلة وبذلك جرى عليه في وقعة ظيان
والشراردة ما جرى فكان حماته يفرون عنه بلا حياء ويبقى هو ثابتا رحمه الله
وأما جمعه لأشتات العلوم فلقد كان وارثا من ورثة الأنبياء حاملا للواء الشريعة
جامعا مانعا إذا بوحث في الأخبار كان كجامع سفيان أو في الأشعار فكنابغة ذبيان أو
في الفطنة والفراسة فكإياس أو في النجدة والرأي فكالمهلب وإذا خاض في السنة
والكتاب أبدى ملكة مالك وابن شهاب ولو تصدى في الفقه للفتيا والتدريس لم يشك سامعه
أنه ابن القاسم أو ابن إدريس وإذا تكلم في علوم القرآن أنهل بما يغمر مورد الظمآن
قال صاحب البستان ولا يعرف مقدار هذا السلطان إلا من تغرب عن الأوطان وحمل عصا
التسيار ورمت به في الأقطار الأسفار وشاهد سيرة الملوك في العباد وما عمت به
البلوى في سائر البلاد ولا يتحقق أهل المغرب بعدله إلا بعد مغيبه وفقده
( المرء ما دام حيا يستهان به ** ويعظم الرزء في حين يفتقد )
ومن آثاره الباقية وبناءاته العادية فبفاس المسجد الأعظم بالرصيف الذي لا نظير له
كان حفر أساسه المولى يزيد واشتغل عنه وتركه فافتتح هو عمله ببنائه وتشييده وأبقاه
دينا على الملوك وبنى مسجد الديوان كان صغيرا فهدمه وزاد فيه أملاكا وجعله مسجدا
جامعا تقام فيه الجمعة وبنى مسجد الشرابليين زاد فيه ووسعه وجعله مسجدا جامعا كذلك
وبنى مسجد الشيخ أبي الحسن بن غالب وضريحه وبنى ضريح الشيخ أبي محمد عبد الوهاب
التازي وهدم مدرسة الوادي ومسجدها لتلاشيهما وجددهما على شكل آخر وجدد المدرسة
العنانية وأصلح مسجد القصبة البالية وبيضه بالجص وزلجه وبنى باب الفتوح على هيئة
ضخمة وباب بني مسافر والباب الجديد
____________________
على براح أبي الجلود وبنى القنطرة على الوادي بينهما وجدد قنطرة الرصيف مرتين
وأصلح قنطرة وادي سبو وأصلح طرقات فاس الجديد كلها من داخل وخارج ورصفها بالحجارة
وأصلح أبواب فاس الجديد كلها ورمم ما تلثم منها وجدد قصور الملك الخربة بها وزاد
غيرها وأمر بتبييض مساجد الخطب وتبليط أرضها وبنى مسجد صفرو وجدد أسواره وبنى
لأهله حماما به وبنى مسجد المنزل ببني يازغة وبنى مسجد وجدة وحماما بها وأصلح
قلعتها ودار إمارتها وبنى مسجد وازان ومسجد تطاوين وأخرج أهل الذمة من جواره وبنى
لهم حارة بطريق المدينة وبنى الصقائل والأبراج بطنجة وجدد مسجد آصيلا وأسوارها
وجدد قصور الملك بمكناسة بعد تلاشيها وأصلح القناطر التي بين فاس ومكناسة وبنى
قنطرة على وادي سيدي حرازم بخولان وبنى مسجد الجزارين بسلا ووقف عليه أوقافا تقوم
بمصلحته وأخرج يهودها من وسط البلد من حومة باب حسين وبنى لهم حارة على حدتها غربي
البلد وبنى المسجد الأعظم بحومة السويقة من رباط الفتح وبنى دار البحر لنزوله وبنى
قنطرة وادي حصار بتامسنا وبنى مسجد أبي الجعد بتادلا وبنى قنطرة وادي أم الربيع
وقنطرة تانسيفت بمراكش بعد سقوطها وبنى المسجد الأعظم الذي كان أسسه على بن يوسف
اللمتوني بمراكش وبناه بناء ضخما وأزال منارته التي كانت به قديما وشيد منارة أخرى
بديعة الحسن رائقة الصنعة وأكمل مسجد الرحبة الذي كان أسسه والده رحمه الله ومات
قبل تمامه وجدد قصور والده بمراكش وأصلحها وصان القصبة وعمرها ثم ختم رحمه الله
ديوانه بالحسنة العظيمة والمنقبة الفخيمة وهي عهده بالخلافة لابن أخيه المولى عبد
الرحمن بن هشام على كثرة أولاده ووجود بعض إخوته ولعمري أن هذا العهد لمنقبة جليلة
للعاهد والمعهود إليه أما العاهد فإنا لم نسمع بعد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضي الله عنه بأحد من خلفاء الأسلام وملوكه عدل بولاية العهد عن ولده المستحق لها
إلى غيره حتى كان هذا الإمام الجليل الذي أحيا سيرة العمرين نعم قد عهد سليمان بن
عبد الملك لابن عمه عمر بن عبد العزيز
____________________
رحمهما الله لكن حكى ابن الأثير أن سليمان لما حضرته الوفاة عزم أن يعهد لابن له
صغير فوعظه رجاء بن حيوة فرجع عن ذلك وشاوره في ابنه داود وكان غازيا بالقسطنطينية
فقال له رجاء لا تدري أحي هو أم ميت فحينئذ رجع إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله
عنه وأما المعهود إليه فإن في العهد إليه دون الأبناء والإخوة شاهدا عدلا على كمال
فضله وإحرازه لخلال الخير وتبريزه فيها على من عداه من بني أبيه وعشيرته ولعمري أن
ذلك لكذلك فإن المولى عبد الرحمن بن هشام رحمه الله قد اشتهرت ديانته وأمانته عند
القاصي والدان حتى صار لا يختلف في عدالته اثنان
تم الجزء الثامن ويليه الجزء التاسع وأوله الخبر عن دولة أمير المؤمنين المولى عبد
الرحمن بن هشام
____________________
بسم الله الرحمن الرحيم الدولة
العلوية القسم الثالث الخبر عن دولة أمير المؤمنين المولى عبد الرحمن بن هشام
وأوليته ونشأته
كان المولى عبد الرحمن بن هشام رحمه الله منذ نشأ وهو متمسك بالتقوى والعفاف متصف
بالصيانة وجميل الأوصاف من الانقباض عن الخلق وملازمة العبادة والصوم وقيام الليل
وترك ما لا يعني والجد في الأمور كلها حتى عرفت له هذه الشنشنة وتطابقت على حبه
ومدحه القلوب والألسنة ولما نشأ هذه النشأة الطيبة أقبل عليه عمه السلطان المولى
سليمان رحمه الله وضمه إليه واعتنى بشأنه ورفع منزلته حتى علا أولاده ولما بعث
أولاده إلى الحرمين الشريفين بقصد أداء فريضة الحج بعثه في جملتهم فظهر له في تلك
السفرة من الورع والدين والتمسك بأسباب اليقين ما رفع قدره وأشاع بالصلاح ذكره
وكان السلطان رحمه الله قد أعطاه بضاعة ينفقها في سفرته تلك ويستعين بها على حجه
فلما آب من سفره أتى بالبضاعة إلى عمه وقال له يا سيدي هذه البضاعة التي أعطيتني
إنما أخذتها لأنفق منها إذا نفذ ما عندي وكانت معي بضاعة جمعتها بقصد إنفاقها في
هذه الوجهة ولم أرد أن أخلطها بغيرها وقد حصلت الكفاية بها والحمد لله فعجب عمه من
شأنه وازداد محبة وغبطة فيه ورد له البضاعة وطيبها له ودعا له بخير وكان في أول
أمره مقيما بتافيلالت ثم استقدمه السلطان المولى سليمان في آخر عمره وولاه بثغر
الصويرة وأعمالها
____________________
فقام بذلك أحسن قيام ثم استقدمه منها في فتنة ابني يزيد كما مر واستخلفه على حاضرة
المغرب وأم أمصاره مدينة فاس فقرت بولايته العيون وطابت الأنفاس كل ذلك فعله به
ترشيحا للأمر وتقديما له فيه على زيد وعمرو بيعة أمير المؤمنين المولى عبد الرحمن
بن هشام رحمه الله
قد تقدم لنا أن السلطان المولى سليمان لما حضرته الوفاة جدد العهد لابن أخيه
المولى عبد الرحمن بن هشام وبعث به إلى فاس ثم كانت وفاة السلطان عقب ذلك فوصل خبر
وفاته إلى فاس في السادس والعشرين من ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف فحضر
القاضي الشريف المولى أحمد بن عبد الملك والعلامة المفتي أبو عبد الله محمد بن
إبراهيم والتاجر الأمير الحاج الطالب ابن جلون وسائر أعيان فاس من العلماء
والأشراف وغيرهم وحضر أعيان الودايا وقوادهم ولما قرىء العهد ترحموا على السلطان
المولى سليمان وبايعوا للسلطان المولى عبد الرحمن وسلموا عليه بالخلافة وتم أمره
وسر الناس بذلك خاصة وعامة ثم ترادفت على حضرته بيعة أهل الديوان وسائر الجنود وحل
من الملك العزيز في فلك السعود وكتبت البشائر بذلك إلى البلدان فوفدت بيعات أهل
الأمصار وهداياهم ولم يتوقف عن هذه البيعة الشرعية أحد منهم واستبشر أهل المغرب
بولايته وبان لهم مصداق يمنه وسعادته بتوالي الأمطار ورخص الأسعار والعافية آناء
الليل وأطراف النهار ولما تمت هذه البيعة المباركة وحصل ما ذكرنا من الأمن
والعافية وحسن الحال والرفاهية استوزر السلطان رحمه الله الفقيه العلامة الأديب أبا
عبد الله محمد بن إدريس الفاسي فقال
( مولاي بشراك بالتأييد بشراكا ** قد أكمل الله بالتوفيق سراكا )
( الفتح والنصر قد وافاك جيشهما ** والسعد واليمن قد حيا محياكا )
( الله ألبسك الإقبال تكرمة ** وبالتقى والنهى والعلم حلاكا )
( فراسة الملك المرحوم قد صدقت ** لما تفرس فيك حين ولاكا )
____________________
( أعدت للدين والدنيا جمالهما ** فأصبحا في حلى من حسن مغناكا )
( وزادك الغيث غوثا في سحائبه ** فجاد بالقطر قطرا فيه مأواكا )
ثم وردت على السلطان تهنئة عالم إفريقية ومفتيها وأديبها الشيخ أبي إسحاق إبراهيم
بن عبد القادر الرياحي بقصيدة يقول فيها
( نصر من الرحمن جل لعبده ** أيروم خلق نقض مبرم عقده )
( وعدت به الأقدار وهي نوافذ ** لا تحسبن الله مخلف وعده )
( والله أعلم حيث يجعل نصره ** في الشاكرين له سوابغ رفده )
( فلتبسم ثغر الهنا مستبشرا ** فالوقت ينطق عن سعادة جده )
( أن يمض مولانا سليمان الرضا ** وعليه تبكي الباكيات لفقده )
( العلم والتقوى وكل فضيلة ** منشورة طويت به في لحده )
( فلقد أقام لنا أبا زيد هدى ** نورا مبينا يستضاء برشده )
( لو لم يكن كفئا لما أوصى به ** وبنوه ترفل في ملابس مجده )
( سعدت به الأيام ثم أراد أن ** تبقى السعادة للورى من بعده )
( أعظم به نصرا يدوم سروره ** للخافقين سرى تضوع رنده )
( أهدى إلى الأعداء أقتل غصة ** والأوليا متنعمون بشهده )
( فاستبشروا باليمن من مرضاته ** واستمطروا نيل المنى من وده )
( ما هو إلا ابن الرسول وهل فتى ** في الناس يعدل عن مكارم جده )
( وتناسقت أسلافه كرما كما ** راق النواظر لؤلؤ في عقده )
( لا غرو أن جمع المحاسن كلها ** منهم فإرث الجمع حق لفرده )
( لا يأفك الخراص حيث يقول قد ** ذهب الزمان بعمره وبزيده )
( فبسيف ما ننسخ يقد أديمه ** حتى ولو وفى العيان برده )
( فلكم وكم من آخر زمنا له ** فضل عظيم لا يحاط بسرده )
( يا أهل فاس والمغارب كلها ** والشرق من مصر لغاية حده )
( يهنيكم هذا الزمان فإن في ** أيامه للدين مطلع سعده )
( والعلم والتقوى وكل معظم ** عند الشريعة فهو بالغ قصده )
( النور أوقد منهم أتراهم ** يرضون إلا باستدامة وقده )
____________________
( الله يبقي نوره متوقدا ** يفنى الزمان ولا فناء لخلده )
( ويخص مولانا الأمير بنعمة ** لا تنقضي وعناية من عنده )
( ويديمه ظلا وريفا كلما ** حمى الورى هرعوا لجنة برده )
( وحسام فتح كلما نهضت به ** عزماته فالنصر شاحذ حده )
( وتمام بدر كلما اقتعد السرى ** لم يسر إلا في منازل سعده )
( وعليه تسليم تأرج نده ** لكنه في الفضل عادم نده )
( ثم الصلاة على النبي وآله ** والحمد في بدء الكلام وعوده ) اجتماع البربر على
بيعة السلطان المولى عبد الرحمن بن هشام والسبب في ذلك
قد تقدم لنا أن البربر بعد وقعة ظيان اتفقوا على مناوأة السلطان ومنابذته وأنهم
صاروا يدا واحدة عليه وعلى كل من يتكلم بالعربية بالمغرب فلما توفي السلطان المولى
سليمان وبويع السلطان المولى عبد الرحمن زاد البربر ذلك الحلف توكيدا وشدة وأعدوا
لعصيانهم واعوجاجهم أكمل عدة لا سيما رئيسهم الحاج محمد بن الغازي الزموري فإنه
لما فعل فعلته في وقعة ظيان من جرة الهزيمة على المولى سليمان ثم عززها بأختها من
بيعته للمولى إبراهيم بن يزيد والإجلاب فيها بالقريب والبعيد خاف أن يأخذه بذلك من
يأتي بعده من بني أبيه وعشيرته فجد في صرف وجوه البربر عن السلطان واستعان في ذلك
بأبي بكر مهاوش فروض له رؤساء البربر حتى اجتمعت كلمتهم على أن لا يتركوا بأرض
المغرب ذكرا للسلطان وحزبه وربما شايعهم على ذلك بعض غواة العرب مثل الصفافعة
والتوازيط من بني حسن وزعير وجل عرب تادلا فلما أراد الله سبحانه نقض ما أبرموا
ونثر ما جمعوا من ذلك ونظموا جعل لذلك سببا وهو أن الشيخ أبا عبد الله الدرقاوي
كان مسجونا عند الودايا كما تقدم في أخبار فتنة ابني يزيد واستمر في السجن
____________________
إلى أن بويع المولى عبد الرحمن وكان ابن الغازي من أصحاب الشيخ المذكور وممن له
فيه اعتقاد كبير فوفد عليه أولاد الشيخ ونزلوا عليه لكي يسعى في تسريح والدهم
وألحوا عليه فلم يجد بدا من إظهار الطاعة للسلطان والدخول في الجماعة فوفد على
السلطان في جمع من وجوه قومه بهديتهم وبيعتهم فلما رأى باقي البربر الذين حالفوه
من آيت أدراسن وجروان أنه قدم على السلطان ظهر لهم خيانته فنبذوا ذلك العهد
وسارعوا إلى بيعة السلطان وخدمته بأموالهم وأنفسهم فقدم عليه الحسن بن حمو واعزيز
كبير آيت أدراسن في وجوه قومه وأدى الطاعة ودخل في حزب الجماعة وعليه وعلى ابن
الغازي كان يدور أمر البربر في ذلك الوقت فخذل الله فيما بينهم وجمع كلمتهم على
السلطان من غير ضرب ولا طعن ولا إيجاف بخيل ولا رجل فقابلهم السلطان بغاية الإحسان
لا سيما ابن الغازي فإنه إستخلصه وجعله عمدة رأيه وعيبة سيره حتى كان لا يقطع أمرا
دونه بعد أن سرح له الشيخ أبا عبد الله الدرقاوي رحمه الله
ثم إن السلطان زوج ابن الغازي بإحدى حظايا عمه السلطان المرحوم وهي ابنة القائد
عمر بن أبي ستة فعلا قدر ابن الغازي في الدولة بذلك واطمأن إلى السلطان بعد أن كان
يسايره على أوفاز وذهب معه إلى مراكش مرتين حسبما نذكره بعد إن شاء الله نهوض
السلطان المولى عبد الرحمن لتفقد أحوال الرعية ووصوله إلى رباط الفتح
لما فرغ السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله من أمر الوفود والتهاني بحضرة فاس
التفت إلى النظر في أحوال الرعية وتثقيف أطراف المملكة فولى على فاس وصيفه أبا
جمعة بن سالم الذي كان بوابا على الدار الكبرى بفاس الجديد ثم لما عزم على السفر
عزله وولى مكانه ابن عمه سيدي
____________________
محمد بن الطيب ثم نهض من فاس الجديد بقصد تفقد الممالك فجعل طريقه على بلاد سفيان
وسار حتى وصل إلى قصر كتامة وعسكر هنالك بالكدية الإسماعيلية وبها وفد عليه المولى
عبد السلام ابن السلطان المولى سليمان رحمه الله في جماعة من الأشراف والكتاب فيهم
أبو عبد الله أكنسوس وكان المولى عبد السلام المذكور قد قدم من تافيلالت إلى مراكش
عقب وفاة والده بقصد أخذ البيعة على أهل مراكش لأخيه المولى عبد الواحد بن سليمان
وكان قد بويع بتافيلالت وأعطوه صفقة أيمانهم فلما صادف المولى عبد السلام الأمر قد
تم للسلطان المولى عبد الرحمن واجتمعت كلمة أهل المغرب عليه سقط في يده فأعرض عما
جاء لأجله وتدارك أمره عند السلطان بالوفادة عليه والدخول في بيعته
قال أكنسوس لما قدمنا على السلطان المولى عبد الرحمن من مراكش إلى قصر كتامة أمر
بإدخالي عليه لشدة تشوفه إلى أخبار السلطان المرحوم المولى سليمان فدخلت عليه
وجلست بين يديه نحو ساعتين وسألني عن كل شاذة وفاذة قال ثم دخلت عليه بعد صلاة
المغرب وسألني عن بقية الأخبار ثم ذكر أولاد عمه السلطان المرحوم وقال والله لا
يرون مني إلا الخير ثم بعد يومين أو ثلاثة نهض إلى رباط الفتح فاستقر بها ثم وفدت
عليه قبائل الحوز ورؤساؤها فعيد هنالك عيد الفطر من سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف
ثم رجع إلى فاس ومعه أعيان قبائل الحوز الذين وفدوا عليه ولما احتل بفاس قدم عليه
عمه المولى موسى بن محمد مع جماعة من أهل مراكش وفيهم المولى عبد الواحد بن سليمان
المبايع بسجلماسة فأكرمهم وأجلهم ولم يلم أحدا من شيعة المولى عبد الواحد ولكن عفا
وصفح وقابل بالإحسان ثم ولى على مراكش ابن عمه المولى مبارك بن علي بن محمد وبعثه
في صحبتهم فقدمها وتصرف في أمرها إلى أن كان منه ما نذكره ثم أمر السلطان رحمه
الله بشراء دار أبي محمد عبد السلام شقشاق الفاسي وكانت مجاورة لقبة المولى إدريس
رضي الله عنه بينها وبين القيسارية ثم
____________________
أمر بهدمها وزيادتها في مسجد المولى إدريس رضي الله عنه وجمع الصناع والعملة على
ذلك فتأنقوا فيه ما شاؤوا حتى جاء أحسن من المسجد القديم وكان الذي تولى القيام
على ذلك الشريف المولى الهاشمي بن ملوك البلغيني فكمل ذلك في مدة يسيرة على غاية
من الإبداع والإتقان وكتب الله أجر ذلك في صحيفة السلطان وفي هذه المدة توفي الشيخ
الأكبر العارف الأشهر أبو عبد الله سيدي محمد العربي بن أحمد الدرقاوي رضي الله
عنه وكانت وفاته ليلة الثلاثاء الثالث والعشرين من صفر سنة تسع وثلاثين ومائتين
وألف ودفن يوم الثلاثاء بأبي بريح من بلاد غمارة وقبره شهير وكان رضي الله عنه
عجيب الحال كبير الشأن ورسائله موجودة في أيدي الناس وله فيها نفس مبارك نفعنا
الله به وبأمثاله خروج السلطان المولى عبد الرحمن إلى مكناسة ونقله آيت يمور إلى
الحوز ومسيره إلى مراكش
لما سافر السلطان المولى عبد الرحمن السفرة الأولى إلى رباط الفتح كان قصده أن
ينظر في أحوال الرعايا وما هي عليه حتى يكون على بصيرة فيما يأتي ويذر من أمرها ثم
لما عاد إلى فاس استعد الاستعداد التام بقصد تدويخ المغرب وتمهيد أقطاره ولم شعثه
وتدارك رمقه إذ كانت الفتنة أيام الفترة قد أحالت حاله وكسفت باله وكان المولى
مبارك بن علي صاحب مراكش قد استولت عليه بطانة السوء وكثرت به الشكايات إلى
السلطان فعزم السلطان رحمه الله على إعمال السفر إلى مراكش فخرج من فاس وقصد أولا
مكناسة فلما دنا منها خرج العبيد إلى لقائه بالأعلام مرفوعة على العصي وكانوا
جماعة يسيرة فقال لهم السلطان رحمه الله أين جند عبيد البخاري فقالوا هذه البركة
التي أشأرتها الفتنة وعلى الله ثم عليك الخلف فدخل السلطان رحمه الله مكناسة وتفقد
بيت مالها فألقاه أنقى من الراحة ووجد العبيد على غاية من القلة والخصاصة حتى لقد
باعوا الخيل والسلاح وأكلوا
____________________
أثمانها فأنعشهم وجدد رسمهم وقواهم بالخيل والسلاح والجرايات حتى صلح أمرهم وذهب
فقرهم
قال صاحب الجيش وحاصل الأمر أن هذا السلطان رحمه الله وجد الدولة قد ترادفت عليها
الهزاهز وصارت بعد حسن الشبيبة إلى قبح العجائز قد تفانت رجالها وضاق مجالها وذلك
من وقعة ظيان إلى موت السلطان المولى سليمان فلما جاء الله بهذا السلطان المؤيد لم
يجد بها إلا رمقا قليلا وخيالا عليلا قد وهت دعائمها وأشرفت على الانهدام المفضي
إلى حالة الانعدام فأمده الله بضروب السعادة الخارقة للعادة فقام بأعبائها بلا مال
ولا رجال والعناية من الله تساعده والفشل يباعده حتى أقام بناء الملك الإسماعيلي
على أساسه ورد روحه إلى الجسد بعد خمود أنفاسه ولما قضى رحمه الله أربه من مكناسة
صرف عزمه إلى آيت يمور وكانوا نازلين بجبل سلفات وبالولجة الطويلة من عهد السلطان
سيدي محمد رحمه الله فعفوا وكثروا وأطغاهم نزولهم بتلك الأرض العجيبة ذات المزارع
الخصيبة فأضروا بجيرانهم من أهل زرهون وأهل الغرب وغيرهم فأمر السلطان رحمه الله
القائد أبا عبد الله محمد بن يشو المالكي العروي أن يحتال في كيادهم والإيقاع بهم
ففعل وقبض على نحو الأربعمائة منهم وبعث بهم إلى السلطان ثم نقلهم السلطان إلى حوز
مراكش وسار إلى رباط الفتح فاحتل به وعقد لأخيه المولى المأمون بن هشام على مراكش
وولاه عليها مكان المولى مبارك بن علي
ثم خرج السلطان من رباط الفتح قاصدا مراكش فمر بقبائل الشاوية وساس أمرهم بما
اقتضاه الحال وقتل الهاشمي بن العباس الزياني وكان هذا قد قتل قائد الشاوية أبا
إسحاق إبراهيم الوراوي احتال عليه بأن دعاه للاصطياد فلما خلا به رماه برصاصة
فقتله بالموضع المعروف بتادارت قرب مديونة فأمر السلطان رحمه الله بالهاشمي أن
تضرب عنقه بذلك الموضع وذلك بعد أن ولاه على قبيلته مدة ثم مر بقبائل دكالة فأوقع
بالعونات وتقدم إلى مراكش فلما دخلها بعث من جاء بمحمد بن سليمان الفاسي موقد نار
____________________
فتنة إبراهيم بن يزيد فأتى به من سجن الجزيرة فضربت عنقه ونصب رأسه على باب الخميس
من مراكش وكان مسجونا معه أبو عبد الله محمد الطيب البياز الفاسي فأخرجه السلطان
من السجن ومن عليه إذ لم يكن على مذهب ابن سليمان بل كان صاحب مروءة وجد في الأمور
ولذلك استخدمه السلطان رحمه الله فجعله أمينا على مرسى طنجة أولا ثم ولاه على فاس
ثانيا والله تعالى أعلم نكبة ابن الغازي الزموري وما آل إليه أمره
قد قدمنا أن الحاج محمد بن الغازي الزموري كان قد بايع السلطان المولى عبد الرحمن
وسعى في سراح الشيخ أبي عبد الله الدرقاوي رضي الله عنه وأن السلطان استخلصه
وصاهره بإحدى حظايا عمه المولى سليمان رحمه الله لما وصل معه إلى مراكش ثم اضطرب
كلام أكنسوس في أن السلطان قبض على ابن الغازي في أول قدمة قدمها معه إلى مراكش أو
بعدها وكان السبب في ذلك أن ابن الغازي المذكور كانت له دالة على السلطان قد جاوزت
الحد الذي ينبغي أن تسير به الرعية مع الملوك وكانت عادته أن يحضر بالغداة والعشي
إلى باب السلطان كغيره من كبار الدولة ووجوهها على العادة في ذلك فلما كان في بعض
الليالي وهو راجع إلى منزله رصده بعض العبيد بالطريق فرماه برصاصة فأخطأه فوصل إلى
منزله وقد ارتاب بالسلطان فمن دونه من أهل الدولة وحملته دالته على أن أطلق لسانه
وأبرق وأرعد وتألى وأوعد وبلغ ذلك السلطان فأغضى له عنها ثم أفضى به التهور إلى أن
انقطع عن الحضور بباب السلطان غضبا على الدولة فأطال له السلطان الرسن كي يرجع فلم
يرجع وبلغ السلطان أنه يحتال في الفرار فعاجله بالقبض عليه وبعث به إلى جزيرة
الصويرة التي هي سجن أهل الجرائم العظام فسجن بها مدة ثم أصبح ذات يوم ميتا وذلك
في سنة أربعين ومائتين وألف على ما قيل
____________________
وفي هذه السنة انعقدت الشروط بين السلطان رحمه الله وبني جنس الصاردو وهي ثمانية
وعشرون شرطا كلها ترجع إلى تمام الصلح ودوام الأمن والمجاملة في التجارات وسائر
أنواع المخالطات والثالث عشر منها يتضمن لزوم مراكب المسلمين أن تعمل الكرنتينة إن
تعين موجبها عند دخول مرسى من مراسي الصاردو وكذلك هم أيضا ولاية الشريف سيدي محمد
بن الطيب على تامسنا ودكالة وأعمالها
كان السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله قد ولى ابن عمه الشريف سيدي محمد بن
الطيب بن محمد بن عبد الله على فاس فأقام بها مدة ثم ولاه على قبائل تامسنا ودكالة
بأسرها وفوض إليه النظر في أمرها وكان سيدي محمد هذا ذا شدة وشكيمة على العصاة
دوسري البطش حجاجي السيف وكان قد اتخذ كلابا ضخاما تسميها العامة القناجر يوهم
الناس أنه إذا غضب على أحد ألقاه إليها فتفترسه وكان ربما جيء إليه بالجاني فيقوم
إليه ويباشر ذبحه بيده حتى لقد حز أصبعه في ذبحه لبعض الجناة فقدم سيدي محمد هذا
تامسنا وأوقع بأولاد حريز وقعة شنعاء فقبض على جماعة كبيرة منهم وضرب منهم نحو
مائتي رقبة وهدم قصبة كريران الحريزي المسماة بمرجانة فتسامعت القبائل بسطوته
فذعروا واقشعرت جلودهم لهيبته ثم زحف إلى دكالة ومعه بعض مساجين أهل تامسنا فلما
وصل إلى شاطىء وادي آزمور أحضر أولئك المساجين فقطع البعض وقتل البعض ثم عبر
الوادي ونزل بآزمور فازداد الناس رعبا منه وخشعت له قبائل دكالة بأسرها ثم تقدم
إلى الجديدة فاحتل بها وكانت يومئذ خربة لا زالت على الهيئة التي فتحت عليها أيام
السلطان سيدي محمد رحمه الله وكانت تسمى قبل الفتح بالبريجة فلما فتحت وتهدم صورها
بالمينى صار الناس يسمونها بالمهدومة فأمر سيدي محمد بن الطيب ببناء سورها وترميم
ما تلثم منها وسماها
____________________
الجديدة وتهدد من يسميها بغير ذلك فسميت الجديدة من يومئذ وهو الذي بنى القبيبة
الصغرى المقابلة لباب المسجد الجامع بها
ثم لما صفا للسلطان أمر هذه البلاد بسبب ابن الطيب وبسبب ما حدث في المغرب من
الجوع الذي أهلك الناس وكاد يأتي عليهم بعثه إلى الصحراء لتدويخ أهلها وجباية
زكواتها وأعشارها فذهب إليها وعاد مخففا فولاه السلطان على وجدة فأقام بها يسيرا
ورجع بلا طائل شروع السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله في غرس أجدال بحضرة مراكش
لما صفا للسلطان رحمه الله أمر المغرب شرع في غرس آجدال غربي مراكش وهو بستان عظيم
جدا يشتمل على جنات كثيرة معروفة بحدودها وأسمائها وأكرتها وتشتمل كل واحدة منها
على نوع أو أنواع من الأشجار المثمرة النفاعة من زيتون ورمان وتفاح وليمون وعنب
وتين وجوز ولوز وغير ذلك وكل نوع منها يغل ألوفا في السنة بحيث أن غلة الليمون
وحده تباع بخمسين ألفا وأكثر إذا كانت صالحة وفي خلال هذه الجنات من قطع الأزهار
والرياحين والبقول المختلفة اللون والطعم والرائحة والخاصية ما لا يأتي عليه الحصر
حتى أن منها ما لا يعرفه جل أهل المغرب ولا رأوه قط لكونه جلب من أقطار أخرى وفي
وسطه برك عظام تسير فيها القوارب والفلك وتصب فيه العيون كأمثال الأنهار لسقي تلك
الجنات وعليه من الأرحاء شيء كثير وتلك البرك منها ما ضلعها الواحد يكون مائتين
خطوة وأقل وأكثر وفي داخله أيضا من المنتزهات الكسروية والقباب القيصرية والمقاعد
المروانية ما يستوقف الطرف ويستغرق الوصف مثل دار الهناء والدار البيضاء والصالحة
والزاهرة وغير ذلك ويتصل به جنان رضوان الفائق بحسنه وقبابه ومقاعده البهية على
ذلك كله والحاصل أن هذا البستان
____________________
جنة من جنان الدنيا يزري بشعب بوان وينسى ذكر غمدان إلى جنة المنارة والعافية وغير
ذلك من منتزهات مراكش العجيبة التي أنشأتها هذه الدولة في إبان الإقبال والشبيبة
ولما شرع السلطان رحمه الله في غرس هذا البستان جلب له العين الآتية من بلاد
مسفيوة المسماة بتاسلطانت وهي من أعذب العيون ماء وأخفها وأنفعها للبدن وكانت
مسفيوة متغلبة على هذه العين من لدن دولة السلطان سيدي محمد بن عبد الله يعمدون
إليها بالليل فيفرقونها سواقي على جناتهم ومزارعهم فكان ذلك دأبهم إلى أن جاء
السلطان المولى سليمان فأعياه أمرهم فيها فأقطعهم إياها على ألف مثقال يؤدونه كل
سنة فلما جاء السلطان المولى عبد الرحمن انتزعها منهم رغما عليهم وجاء بها تشق
الوهاد والربى حتى ألقت جرانها بأجدال السعيد وعم نفعها وريها القريب منه والبعيد
وفي ذلك يقول الوزير أبو عبد الله محمد بن إدريس رحمه الله
( وردت وكان لها السعود مواجها ** والحسن مقصورا على مواجها )
( وبدت طلائع بشرها من قبلها ** كالشمس طالعة لدى أبراجها )
( وتسير ما بين الأباطح والربى ** ترمي فريد الدر من أمواجها )
( وتصوغ من صافي النضار سبائكا ** حلت بها الأعطاف من أثباجها )
( هبطت إليك من الجبال وطالما ** تعبت ملوك الأرض في إخراجها )
( وأتتك راغبة تجر ذيولها ** وتفيض غمر النيل من أفواجها )
( تنساب مثل الأفعوان وتنثني ** كالغصن بين وهادها وفجاجها )
( خطب الملوك نكاحها فتمنعت ** وأتتك واهبة حلال زواجها )
( فلتهنك الخود الرفيع فخارها ** وليهنها أن صرت من أزواجها )
( حراء عباسية بدوية ** نشرت ذوائبها على ديباجها )
( وافتك وافدة وقد صبغ الحيا ** وجناتها وجرى على أدراجها )
( فكأنها بلقيس جاءت صرحها ** لكنه صرح بغير زجاجها )
( عرفت أناملك الشريفة أبحرا ** غرقت بحار الأرض في عجاجها )
____________________
( فأتتك طالبة الأمان لنفسها ** لتنال بعض الطيب من ثجاحها )
( لبتك إذ سمعت نداك وأقبلت ** مرهوبة تستن من إزعاجها )
( ونزعتها بالقهر من غصابها ** والسابقون رضوا ببعض خراجها )
واعلم أن هذه الأخبار التي سردناها من أول هذه الدولة السعيدة إلى هنا تبعنا في
جلها أبا عبد الله أكنسوس وقد ساقها رحمه الله مجردة عن التاريخ الذي هو المقصود
بالذات من الفن ونحن لما لم نعثر في الوقت على ما يحقق لنا تواريخها رتبناها بحسب
ما أدى إليه الفكر والروية وأثبتناها لئلا تذهب فائدتها بالكلية وعلى كل حال فهي
في حدود الأربعين من مائة التاريخ والله أعلم ولاية القائد أبي العلاء إدريس بن
حمان الجراري على وجدة وأعمالها
قد قدمنا أن السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله كان قد ولى ابن عمه سيدي محمد بن
الطيب على وجدة ورجع عنها بلا طائل وكانت ولاية هذا الثغر عند السلطان من أهم
الولايات وأخصها بمزيد الاعتناء لبعدها عن دار الملك ومتاخمتها لمملكة الترك فكانت
ثغرا من الثغور ولكثرة قبائلها واختلاف آراء أهلها وتعدد عصبياتهم في العرب
والبربر ففكر السلطان رحمه الله فيمن يكفيه هذا المهم ويسد له هذا المسد فوقع
اختياره على القائد الأنجد أبي العلاء إدريس بن حمان بن العربي الوديي الجراري
فرماها به وجعل أمرها إليه وعول في شأنها عليه وكان هذا الرجل نسيج وحده وقريع
دهره في جودة الرأي وإدارة الأمور على وجهها وإجرائها على مقتضى صوابها ومحبة
السلطان ونصحه فولاه عليها في أوائل سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف فقام بأمرها
أحسن قيام واستوفى جباية أهل المداشر منها والخيام ثم حمله نصحه وصدق خدمته على أن
يستأذن السلطان في أن يكون يكاتبه بجميع ما يحدث في تلك البلاد من الأمور الداخلة
في الدولة
____________________
والخارجة عنها ليكون السلطان على بال من ذلك الثغر فاستأذن في ذلك بواسطة الوزير
أبي عبد الله بن إدريس فكان من جواب الوزير له أن قال حسبما وقفت عليه بخطه إني
أخبرت سيدنا المنصور بالله بما كتبت في شأنه فأعجبه ذلك وقال لا بأس به وليكن خفيا
من غير شعور أحد ليطلع سيدنا على الأمور ويكون على بصيرة فيها فلا تقصر في ذلك
واجتهد في إصلاح ما ولاك وأعظم ذلك وأهمه أمان الطريق وخمود الفتنة حتى لا يصل من
تلك الناحية إلا الخير فأنت من فضل الله ذو رأي وبصيرة بالأمور وخصوصا تلك النواحي
والله يوفقك ويسددك وهذه النواحي بخير وعافية وفي نعم من الله وافية قد نزل فيها
المطر الغزير وكثر الخصب وحرث الناس الحرث الكثير وسيدنا بمكناسة الزيتون ولا ما
يشوش البال غير أن والدته المقدسة صارت إلى عفو الله ورحمته وذلك قبل تاريخه بشهر
ونحن على المحبة والسلام في الخامس والعشرين من جمادى الثانية سنة ثلاث وأربعين
ومائتين وألف محمد بن إدريس لطف الله به انتهى لفظ الكتاب المذكور
وفي هذه المدة كان السلطان رحمه الله قد استعمل الشيخ أبا زيان بن الشاوي الأحلافي
على تازا وأعمالها وأوصاه بالتعاون على أمر الخدمة السلطانية بالقائد إدريس فكانا
في إدارة الأمور بتلك النواحي كفرسي رهان ولكن التبريز إنما هو للقائد إدريس ولما
دخل رمضان من السنة المذكورة عزم السلطان رحمه الله على المسير إلى بلاد الشرق
وجدة وأعمالها للوقوف على تلك التخوم بنفسه والنظر في أمورها برأيه إذ لم يكن
وطأها قبل ذلك فاستنفر القبائل لحضور عيد الفطر والنهوض إليها ولما حضر العيد وفد
على السلطان جماعة من بني يزناسن وعرب آنقاد فباحثهم رحمه الله عن حال بلادهم
فشكوا قلة الخصب فصده ذلك عن المسير إليهم ووعدهم بأنه سيطأ أرضهم من العام القابل
في أول يناير ثم صرف رحمه الله وجهته تلك إلى التطواف على مراسي المغرب والنظر في
أمورها وإحياء مراسم الجهاد بها فخرج من مكناسة منتصف شوال من السنة أعني سنة ثلاث
وأربعين ومائتين وألف فمر بأرضات من أعمال وازان وصار إلى تطاوين ثم إلى طنجة ثم
____________________
أصيلا وزار وليها أبا عبد الله محمد بن مرزوق وتبرك به ثم مر بالعرائش وهكذا تتبع
الثغور ثغرا ثغرا إلى آسفي وفي أثناء ذلك ورد عليه الخبر بانتقاض الشراردة على
المولى المأمون صاحب مراكش وخروجهم عن الطاعة وإفسادهم السابلة ونهبهم الرفاق
وأبدؤوا في ذلك وأعادوا حتى كانوا يصلون إلى جنات مراكش فسدد السلطان رحمه الله
قصده نحوهم وكان من أمره معهم ما نذكره فتح زاوية الشرادى والسبب الداعي إلى غزوها
قد قدمنا ما كان من أمر المهدي بن الشرادي الزراري مع السلطان المولى سليمان رحمه
الله بما فيه كفاية ثم لما بويع السلطان المولى عبد الرحمن بايعه المهدي في جملة
الناس ولما قدم السلطان مراكش قدمته الأولى لقيه الشراردة في خمسمائة فارس بمشرع
ابن حمى مؤدين الطاعة ففرح السلطان بهم وأكرم وفادتهم ولما عزموا على الرجوع كان
في جملة ما قال لهم السلطان رحمه الله إن ما فات قد مات وما نهب في أيام الفتنة
فهو هدر ومن الآن من فعل شيئا يخاف على نفسه فرجع الشراردة إلى بلادهم وعيد
السلطان بمراكش عيد المولد فحضرت الوفود وحضر الشراردة في جملتهم وساقوا للسلطان
خمسة عشر جملا من الكتان وخمسة أحمال من الملف وأربعة آلاف مثقال عينا مما كانوا
نهبوه من صاكة الصويرة قبيل وفاة السلطان المولى سليمان رحمه الله حسبما أشرنا
إليه قبل فكان من تمام إحسان السلطان إليهم وتألفه إياهم أن قال لهم افرضوا لي
مائتي فارس منكم تذهب إلى درعة وهذا الكتان والملف هو كسوتهم والمال صائرهم ففعلوا
وكساهم السلطان وأنعم عليهم ثم لما ولى أخاه المولى المأمون على مراكش مرضوا في
طاعته ودعا المهدي تهوره إلى أن شكاه إلى السلطان وهو بمكناسة يومئذ ويعتد عليه بأنه
يأخذ منهم الزكوات والأعشار على غير وجهها الشرعي وأنه ولي عليهم أربعة عمال أو
خمسة عوض عامل واحد
____________________
كان يتولى عليهم فأغضى السلطان عن ذلك وبالغ في الأنة القول له في كتابه ووعده
بأنه إذا وصل إلى مراكش يشكيه من أخيه وفي أثناء ذلك وقبل وصول كتاب السلطان إليه
أغرى إخوانه بالخروج عن طاعة السلطان والاشتغال بما يسخط الله ويرضي الشيطان
فانبثت خيولهم في الطرقات ومخروها مخرا وانتسفوها نسفا وعمدوا إلى قوادهم الذين
ولاهم المولى المأمون عليهم فقبضوا عليهم وأودعوهم السجن وانتهبوا دورهم ووصل
المسافرون والتجارإلى باب السلطان مجردين عراة يشكون ما دهمهم من أمر الشراردة
وتكاثر عليه شذاذهم فحينئذ استأنف السلطان جده وأرهف حده وكتب إلى أخيه المولى
المأمون باستنفار قبائل الحوز وجمعها عليه حتى يقدم عليه وسار السلطان في جيش
العبيد والودايا وآيت أدراسن وزمور وعرب بني حسن وبني مالك وسفيان وكتب إلى
الشاوية ودكالة أن تكون خيلهم معدة حين يمر بهم وكان المهدي قد عظم ناموسه و تمكن
من جهلة قومه وكاد يتجاوزهم إلى غيرهم حتى صار يعرض أو يصرح بأنه المهدي المنتظر
وكان السبب الأقوى في طغيانه وطغيان قومه ما اتفق له في هزيمة السلطان المولى
سليمان رحمه الله فظن المهدي وشراردته أن لا غالب لهم من الله ولما برز السلطان
رحمه الله من رباط الفتح لقيه ركب الحجاج الذين انتهبهم هشتوكة والشياظمة الذين
بأحواز آزمور وكانت العادة يومئذ بالمغرب أن ركاب الحاج تأتي من آفاق المغرب
فتجتمع بفاس ومنها يخرج الركب على الهيئة المعهودة في ذلك الزمان فلما وصل هؤلاء
الحجاج من أهل السوس وغيرهم إلى الشياظمة وهشتوكة انتهبوهم وجردوهم من المخيط
والمحيط فسمع السلطان رحمه الله شكواهم وامتعض لانتهاك حرمتهم وزحف إلى هؤلاء
المفسدين فأوقع بهم وقعة شنعاء بالموضع المعروف بفرقالة من أعمال آزمور حتى كانوا
يلقون أنفسهم في البحر طلبا للنجاة بعد أن أثروا في المحلة أول النهار ثم كانت
الكرة عليهم وحكم السلطان السيف في رقابهم وامتلأت أيدي العسكر من أثاثهم وماشيتهم
وكانت هذه الوقعة طليعة الفتح ومقدمة الظفر ثم عبر إلى آزمور ومنها إلى الجديدة ثم
سار مع الساحل
____________________
حتى وصل إلى آسفي فزار الشيخ أبا محمد صالح رضي الله عنه وعطف إلى الزاوية
الشرادية فبغتها وطلعت عليها راياته المنصورة بالله مع الصباح ولم يعرج على مراكش
وقبل نزول الجيش وضرب الأخبية أنشبت الحرب معهم فتقاتلوا وتحاجزوا مع الظهر وكان
الزمان زمان مصيف ودامت الحرب سبعة أيام ونصب عليهم السلطان المدافع والمهاريس
العظام وفي اليوم الخامس من تلك الأيام كان عيد المولد الكريم يوم الأربعاء من سنة
أربع وأربعين ومائتين وألف فأراد السلطان رحمه الله أن يعفي الناس من الحرب ذلك
اليوم فحمل الشراردة طغيانهم وبغيهم على أن تقدموا للجيش وأنشبوا الحرب فأمر
السلطان بالزحف إليهم والنكاية فيهم وكان المعلم الأكبر أبو عبد الله محمد بن عبد
الله ملاح السلاوي حاضرا في هذه الوقعة فتقدم إليه السلطان بالوصاة بالجد
والاجتهاد في الرمي فرمى عليهم في ذلك اليوم مائتين وثمانين بنبة كلها في وسط
الزاوية تتفرقع عند نزولها فتأتي على ما جاورها من جدار وغيره حتى شاهدوا في ذلك
اليوم الموت الأحمر وكانوا هم أيضا يرمون بالكور والبنب من المدافع والمهاريس التي
استولوا عليها في محلة السلطان المولى سليمان ثم لما كان عشي الجمعة السابع من
أيام الحرب افترقت كلمتهم وعزم المهدي على الفرار فقال له أصحابه كيف تفر وتتركنا
وأين ما كنت تعدنا فقال لهم أما أنتم فالذي أورثكم أسلافكم هو الخدمة مع السلطان
فلا تستنكفوا منها وأما أنا فالذي عندي وسمعته من آبائي أن الحرب تدوم على هذه القرية
سبعة أيام ثم يستولي عليها السلطان الذي يجيء من ناحية البحر وهو هذا في كلام آخر
تكهن لهم فيه واعتقد الجهلة صدقه بعد أن أتلفوا عليه نفوسهم وأموالهم ومن يضلل
الله فما له من هاد ولما جن الليل ركب فيما قيل على حمار وركب معه شرذمة من أصحابه
نحو العشرين فارسا فشيعوه إلى الموضع المعروف بتيزكي فودعهم وذهب إلى السوس بعد أن
سفك الدم الحرام وانتهب المال الحرام وملأ صحيفته من الآثام نسأل الله العفو
والعافية ولما فر المهدي عنهم تفرقوا شذر مذر وباتوا يتحملون بنسائهم وأولادهم إلى
منجاتهم والذين صعب عليهم الخروج
____________________
اجتمعوا وساروا إلى القواد الأربعة فسرحوهم ورغبوا إليهم في الوساطة عند السلطان
فأصبحوا على أطراف المحلة يستأذنون على المولى المأمون فأذن لهم ودخلوا عليه
وشفعوا فيمن بقي منهم وطلبوا الأمان فأمنهم ثم تقدموا إلى السلطان فاستأذنوا فأذن
لهم ودخلوا وأخبروا بما عقد لهم المولى المأمون من الأمان فأمضاه لهم ثم أمر
السلطان بجمع الشراردة الذين بقوا بالقصبة فجمع له منهم نحو الألفين وعاثت الجيوش
في بيوتهم وأمتعتهم
وقيل إن السلطان رحمه الله لم يؤمنهم ولما قبض عليهم عزم على تحكيم السيف في
رقابهم فاستفتى العلماء فيهم فتحاموا الإفتاء بإراقة الدم حتى أن منهم من أفتى وهو
الفقيه أبو عبد الله محمد بن المرابط المراكشي بأنهم تابوا قبل القدرة عليهم فتوقف
السلطان رحمه الله عن قتلهم وكان وقافا عند الحق دائرا مع الشرع حيث دار ثم أمر
رحمه الله بالاحتياط على عيال المهدي وأولاده فاحتيط عليهم فجيء بهم إليه وبعثهم
إلى مكناسة فأنزلوا بدار القائد محمد بن الشاهد البخاري الذي هلك في وقعة آعليل مع
السلطان المولى سليمان وأمر السلطان بسور القصبة فهدم إبرارا لقسمه وحيزت المدافع
والمهاريس التي كانت منصوبة عليه ولما انقضى أمر الحرب وتم الفتح هلك المعلم محمد
ملاح نفطت فيه بنبة فقتلته وقتلت جماعة معه فوقف السلطان عليه بنفسه حتى أقبر
وأحسن إلى أولاده بعد ذلك ورأيت بخط الوزير ابن إدريس في بعض مكاتيبه ما نصه واعلم
أن الله سبحانه قد فتح علينا الزاوية الشرادية وأهلك أهلها الظالمين ولم تبق لهم
باقية ولا زالت العساكر مقيمة على هدمها وتخريبها وقد قبض منهم على أكثر من ستمائة
رجل وربحت الناس بما وجدت فيها من الأثاث والذخائر والأنعام اه
ثم إن السلطان رحمه الله فرق مساجين الشراردة فسجن بعضهم برباط الفتح وبعضهم
بمكناسة وبعضهم بفاس ثم بعد مضي نحو السنة سرحهم ونقلهم إلى بسيط آزغار وجمع
إخوانهم من القبائل فضمهم إليهم ولا زالوا
____________________
موطنين به إلى الآن وأما المهدي فإنه ذهب إلى السوس وانتهى إلى آيت باعمران من
ولتيتة فنزل على مرابطها أبي عبد الله محمد آعجلي الباعمراني واستمر عنده ثلاث
سنين وضاقت عليه الأرض بما رحبت ثم بعث من شفع له عند أمير المؤمنين فقبل السلطان
شفاعته وجاء المهدي في قيده إلى أن دخل على السلطان بمراكش وبكى أمامه وتضرع
فسامحه السلطان ثم بعثه إلى مكناسة فاجتمع بأولاده وبعد مدة يسيرة ولاه السلطان
على إخوانه
قال أكنسوس عاملهم بالإساءة فعادت محبتهم له عداوة وضجوا إلى السلطان منه فعزله ثم
حج المهدي بإذن السلطان ورجع فولاه أيضا فلم يقبلوه ثم سجن ثم سرح وتقلبت به
الأحوال وتأخرت وفاته إلى أوائل شوال من سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف في أول دولة
سلطان العصر وإمام النصر أمير المؤمنين المولى الحسن بن محمد رضي الله عنه ولما تم
فتح الزاوية المذكورة قال شعراء العصر في ذلك فمنهم الفقيه الأديب أبو عبد الله
أكنسوس قال
( بشائر لا تحيط بها الشروح ** كأن سميعها فنن مروح )
( سقى ربع البشير بها غمام ** يباكرها هتون أو يروح )
( تفديه المحافل وهو يشدو ** فتوح في مضمنها فتوح )
( وتأمل أن تقبله الغواني ** تذيل له المباسم أو تبيح )
( بشائر كاد يسمعها دفين ** ويسري في الجماد بهن روح )
( شفى المولى المؤيد كل صدر ** به من قبل وقعتها جروح )
( وأدرك ثار عصبته وأضحى ** لعزة قدره شرف صريح )
( لقد حسم الفساد بكل أرض ** فساد به لنا الدين السميح )
( وزر على زرارة كل خزي ** تشق له المجاسد إذ تنوح )
( وقد كانت تصر على ازورار ** وكانت لا ينهنهها قبيح )
( ومن كانت مراكبه جماحا ** فسحقا حين تصرعه الجموح )
( أتيح لهم لحينهم جهول ** غوى للضلال له جنوح )
____________________
( يقودهم إلى العصيان سرا ** ويظهر أنه البر النصوح )
( يحدثهم إذا ما حم خطب ** حديثا كان مصدره سطيح )
( هو الدجال في سمت وفعل ** فمن يدعوه مهديا وقوح )
( فأهلكه الإمام فكان عيسى ** كذا الدجال يهلكه المسيح )
( فصير دار منعته فلاتا ** على أطلالها البوم السنيح )
( وفر عن الذمار على حمار ** عليل العرض جؤجؤه صحيح )
( فيالؤم الذليل فلا وهين ** فيعذر بالفرار ولا جريح )
( وخير من جباة في هوان ** يبوء به الفتى موت مريح )
( أيطمع في النجاة فلا نجاة ** سيدركه الهزيز المستبيح )
( إذا كان الشراب له بحارا ** تخوض إليه سلهبة سبوح )
( ستدركه العزائم من إمام ** تدك له المعاقل والصروح )
( إمام قد أعاد لنا سرورا وجاد لنا به الزمن الشحيح )
( أعز الله ملك بني علي ** بصولته وتم له الوضوح )
( وجرد من جلالته حساما ** يزيل به الضلالة أو يزيح )
( وقد كان الخلائق في ظلام ** فلاح على الخلائق منه بوح )
( وأصبحت الأباطح باسمات ** وكان على مناظرها كلوح )
( أعز معود للنصر ساع ** إلى العلياء مسعاه نجيح )
( يخاطر في منال العز دأبا ** برأي كل مدركه رجيح )
( فرايات السعود عليه نشر ** وساحات الفخار لديه جوح )
( أبا زيد فأنت لنا ملاذ ** وجاهك في المهم لنا فسيح )
( فقد زانت مآثرك الليالي ** ولاح لعدلك الوجه المليح )
( وهذا الدهر كالطوفان موجا ** وطاعتك السفين وأنت نوح )
( وأنت خليفة الرحمن من لا ** تؤمنه فمشربه نشوح )
( كما أن الشبانة حين زاغت ** وهب لها من الطغيان ريح )
( عصفت عليهم باليأس تزجي ** كتائب كالسحاب إذا تلوح )
( فألقيت الجران على ذراهم ** بجيش كلهم بطل مشيح )
____________________
( فجاء العفو منك وهم ثلاث ** أسير أو كسير أو ذبيح )
( وقد قسمت بلادهم بعدل ** ودورهم كما قسم الوطيح )
( وقد نظمت مكايدهم قديما ** بني سعد وزيدان نطيح )
( فظنوا آل إسماعيل يرنو ** لغير الحزم طرفهم الطموح )
( وما علموا بأنكم سيوف ** لحدكم نجيعهم سفوح )
( أبا زيد إذا تبقى عليهم ** بصفح ربما ندم الصفوح )
( فلا تحلم فإن الجرح يكوي ** طريا بالمحاور أو يقيح )
( فلا زالت بك الدنيا عروسا ** ومجدك من مفارقها يفوح )
ومن ذلك قول بعضهم ولعله الفقيه أبو محمد عبد الله الديماني قال
( بشرى تقر بأعين الإيمان ** كالوصل ينسخ دولة الهجران )
( جاد الزمان بها على مقداركم ** فتقاصرت عنها خطا الأذهان )
( أين المفر لمن عنا عن أمركم ** أترى البغاث تفوت ما لعقبان )
( الأمر أمر الله غير منازع ** لاح الصباح لمن له عينان )
( يا من يطالب أمرهم بدلائل ** أتطالب البرهان بالبرهان )
( إن كنت تجهل فالحسام معلم ** يشفي البريء به ويشقي الجاني )
( كم من غوي قد عتا عن أمرهم ** كزرارة فمضى إلى الخسران )
( أين المفر لمن عتا عن أمركم ** يوم الكفاح إذا التقى الجمعان )
( لم يمنع الأعداء منهم معقل ** لو أنهم صعدوا إلى كيوان )
( لكنهم باؤوا بأخسر صفقة ** فكأنهم غصبوا أبا غبشان )
( جيش تسد وفوده مسرى الصبا ** وتهد وطأته ذرى ثهلان )
( يا مالكا ملأ الوجود محاسنا ** لا تختفي عن أعين العميان )
( أجريت بين المعتقين مكارما ** يسلوا الغريب بها عن الأوطان )
( لوقيل للغيث اعترف لم يعترف ** إلا بفضل نداكم الهتان )
( إنسان عين الدهر أنت وإنما ** تكميل شكل العين بالإنسان )
( ذكراك بالأفواه تعذب كاللما ** وتخف كالبشرى على الآذان )
( أيقظت جفن الحق من إغفائه ** وأقمت ميلة عطفه الكسلان )
____________________
( ألقى لك الزمن العصى زمامه ** وعنا لطاعة أمرك الثقلان )
( فالدهر دونك دافع ومدافع ** وصروفه لكم من العبدان )
( فإذا أشرتم في الزمان لمقصد ** كان القضاء لكم من الأعوان )
( أخلصت للرحمن في طاعاته ** فلذا دعيت بعابد الرحمن )
( ألقيت رحلي في ذراك مخيما ** فجريت في الآمال طوع عنان )
( وتركت أوطاني وجئت وإنما ** من فرط حبك غبت عن أوطاني )
( يا ليت قومي يعلمون بأنني ** من جودكم أرد الفرات الثاني )
( لا زلتم في أسعد مبسوطة ** مقبوضة عنها يد الحدثان )
واستمر السلطان مقيما بمراكش مدة طويلة وبعث أخاه المولى المأمون بن هشام لقطر
السوس فجباه
ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائتين وألف ففي شعبان منها عقد السلطان الصلح مع جنس
النابريال ويقال له استرياك وهي اثنا عشر شرطا مضمنها المخالطة بالبيع والشراء
وغير ذلك مع الأمان والاحترام من الجانبين والآخر منها مضمنه الصلح الدائم على هذه
الشروط لا يفسده أمر يحدث بعده ولا يقع فيه زيادة ولا نقصان ثم حدثت الفتنة عقب
هذا بيسير على ما نذكره هجوم جنس النابريال على ثغر العرائش والسبب في ذلك
قد قدمنا أن السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله قد طاف في آخر سنة ثلاث وأربعين
ومائتين وألف على ثغور المغرب ومراسيه وأنه أراد إحياء سنة الجهاد في البحر التي
كان أغفلها السلطان المولى سليمان رحمه الله وأمر أعني المولى عبد الرحمن بإنشاء
أساطيل تضم إلى ما كان قد بقي من آثار جده سيدي محمد بن عبد الله وأذن لرؤساء
البحار من أهل العدوتين
____________________
سلا ورباط الفتح أن يخرجوا في القراصين الجهادية للتطواف بسواحل المغرب وما جاورها
فخرج الرئيسان الحاج عبد الرحمن باركاش والحاج عبد الرحمن بريطل فصادفوا بعض مراكب
النابريال فاستاقوها غنيمة إذ لم يجدوا معها ورقة الباصبورط المعهودة عندهم وعثروا
فيها على شيء كثير من الزيت وغيرها وكان بعضها قد جيء به إلى مرسى العدوتين وبعضها
إلى مرسى العرائش فهجم النابريال على مرسى العرائش بستة قراصين يوم الأربعاء
الثالث من ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومائتين وألف ورمى عليها من الكور شيئا كثيرا
من الضحى إلى الاصفرار وعمد في أثناء ذلك إلى سبعة قوارب فشحنها بنحو خمسمائة من
العسكر ونزلوا إلى البر من جهة الموضع المعروف بالمقصرة وتقدموا صفوفا قد انتشب
بعضهم في بعض بمخاطيف من حديد لئلا يفروا ومشوا إلى مراكب السلطان التي كانت مرساة
بداخل الوادي وهم يقرعون طنابيرهم ويصفرون ومراكبهم التي في البحر ترمي بالضوبلي
مع امتداد الوادي لتمنع من يريد العبور إليهم فانتهوا إلى المراكب وأوقدوا فيها
النار وقصدوا بذلك أخذ ثأرهم فيما انتزع منهم فلم يكن إلا كلا ولا حتى انثال عليهم
المسلمون من كل جهة من أهل الساحل وغيرهم وعبر إليهم أهل العرائش وأحوازها سبحا في
الوادي وعلى ظهر الفلك إلى أن خالطوهم وفتكوا فيهم فتكة بكرا وكان هنالك جملة من
الحصادة يحصدون الزروع في الفدن فشهدوا الوقعة وأبلوا بلاء حسنا حتى كانوا يحتزون
رؤوس النابريال بمناجلهم وقد ذكر منويل هذه الوقعة وبسطها وقال إن النابريال قتل
منهم ثلاثة وأربعون سوى الأسرى وتركوا مدفعا واحدا وشيئا كثيرا من العدة وأفلت
الباقي منهم إلى مراكبهم وذهبوا يلتفتون وراءهم
واعلم أن هذه الوقعة هي التي كانت سببا في إعراض السلطان المولى عبد الرحمن عن
الغزو في البحر والاعتناء بشأنه فإنه رحمه الله لما أراد إحياء هذه السنة صادف
إبان قيام شوكة الفرنج ووفور عددهم وأدواتهم
____________________
البحرية وصار الغزو في البحر يثير الخصومة والدفاع والتجادل والنزاع ويهيج الضغن
بين الدولة العلية ودول الأجناس الموالية لها حتى كاد عقد المهادنة ينفصم وأكد ذلك
اتفاق استيلاء الفرنسيس على ثغر الجزائر وهو ما هو فوجم السلطان رحمه الله وأعمل
فكره ورويته فظهر له التوقف عن أمر البحر رعيا للمصلحة الوقتية ولقلة المنفعة
العائدة من غزو المراكب الإسلامية وانضم إلى ذلك إعلان الدول الكبار من الفرنج مثل
النجليز والفرنسيس بأن لا تكون المراكب إلا لمن يقوم بضبط قوانين البحر التي
يستقيم بها أمره وتحمد معها العاقبة وتدوم بحفظها المودة على مقتضى الشروط ومن
مهمات ذلك ترتيب القناصل بالمراسي التي تريد الدولة دخول مراكبها إليها وتجارتها
فيها أي دولة كانت ومن هذه المهمات ما قد لا يساعد عليه الشرع أو الطبع مثل
الكرنتينات وما يترتب عليها إلى غير ذلك مما فيه هوس كبير فاشتد عزم السلطان رحمه
الله على ترك ما يفضي إلى ذلك وتأكد لديه إهماله لتوفر هذه الأسباب ولعمري أن تركه
لمصلحة كبيرة لمن أمعن النظر فيها وما يعقلها إلا العالمون وأما فتنة النابريال
هذه فإنها تفاصلت بواسطة النجليز حيث وجه باشدوره مع باشدور النابريال فقدما على
السلطان رحمه الله مكناسة في شهر ربيع الأول سنة ست وأربعين ومائتين وألف استيلاء
الفرنسيس على ثغر الجزائر وما ترتب على ذلك من دخول أهل تلمسان في بيعة السلطان
المولى عبد الرحمن رحمه الله
كان استيلاء طاغية الفرنسيس على ثغر الجزائر في آخر المحرم فاتح سنة ست وأربعين
ومائتين وألف وكان السبب في ذلك أن أتراك الجزائر كانوا يومئذ مع الفرنسيس على
طرفي نقيض قد تعددت بينهم الوقعات برا وبحرا وكثرت بينهم الذحول والترات وكان
الترك يؤذونهم أشد الإذاية وأمير
____________________
الجزائر يومئذ واسمه أحمد باشا قد أمر أمره وأراد الاستبداد على الدولة العثمانية
وربما شكا طاغية الفرنسيس إلى السلطان محمود العثماني فقال له شأنك وإياه فهجم الفرنسيس
في العدد والعدد على ثغر الجزائر فاستولى عليه بعد مقاتلات ومجاولات في التاريخ
المتقدم وكان السلطان المولى عبد الرحمن يومئذ بمراكش فاتصل به خبر الجزائر في
أوائل صفر فنهض إلى مكناسة في التاريخ المذكور ولما وقع بأهل الجزائر ما وقع اجتمع
أهل تلمسان وتفاوضوا في شأنهم واتفقوا على أن يدخلوا في بيعة السلطان المولى عبد
الرحمن رحمه الله فجاؤوا إلى عامله بوجدة القائد أبي العلاء إدريس بن حمان الجواري
وعرضوا عليه أن يتوسط لهم عند السلطان في قبول بيعتهم والنظر لهم بما يصلح شأنهم
ويحفظ من العدو جانبهم ثم عينوا جماعة منهم للوفادة على السلطان تأكيدا للطلب
واستعجالا لحصول هذا الأرب فقدموا على السلطان بمكناسة غرة ربيع الأول من السنة
المذكورة فأكرم السلطان وفادتهم وأجل مقدمهم ولما صرحوا له عن مرادهم توقف في ذلك
رحمه الله وكان هواه إلى قبولهم أميل إلا أنه أراد أن يبني ذلك على صريح الشرع كما
هي عادته فاستفتى علماء فاس فأفتى جلهم بنقيض المقصود ورخص له بعضهم في ذلك فأخذ
السلطان رحمه الله بقول المرخص مع أن أهل تلمسان لما بلغهم فتوى أهل فاس كتبوا إلى
السلطان في الرد عليهم ما نصه
ليعلم سيدنا قطب المجد ومركزه ومحل الفخر ومحرزه أساس الشرف الباذخ ومنبعه وبساط
الفضل الشامخ ومجمعه السلطان الأعظم الأمجد الأفخم نجل الملوك العظام سيدنا
ومولانا عبد الرحمن بن هشام أبقى الله سيدنا للمسلمين ذخرا ومنحه مودة وأجرا أن
فتوى ساداتنا علماء فاس مبنية على غير أساس لأنهم اعتقدوا أن في عنقنا للإمام العثماني
بيعة وهذا لو صح لكان علينا حجة وليس الأمر كذلك وإنما له مجرد الاسم هنالك وعامل
الجزائر إنما كان متغلبا وبالدين متلاعبا فأهلكه الله بظلمه وتطاوله على عباد الله
وجوره وفسقه إن الله يمهل على الظالم حتى يأخذه
____________________
فإذا أخذه لم يفلته ويدل على تغلبه واستقلاله عدم وقوفه عند أمر العثماني وامتثاله
بل لا يكترث به أصلا ولا يتبع له قولا ولا فعلا كيف وقد أمره أن يعقد مع النصارى
صلحا فلم يقبل له قولا ولا نصحا وطلب منه بعض الأموال ليستعين بها على ما حل به مع
النصارى من الأهوال فامتنع غاية الامتناع ولم يمكنه من شبر منها فضلا عن الباع حتى
أخذها العدو الكافر وهذا جزاء كل فاسق فاجر مال جمع من حرام سلط الله عليه الأعداء
اللئام وهذا كله من هذا المتغلب متواتر مشاهد بالعيان مستغن عن إقامة الدليل
والبرهان الناس كلهم عبيد الله وإماؤه والسلطان واحد منهم ملكه الله أمرهم ابتلاء
وامتحانا فإن قام فيهم بالعدل والرحمة والإنصاف والصلاح مثل سيدنا نصره الله فهو
خليفة الله في أرضه وظل الله على عبيده وله الدرجة عند الله تعالى وإن قام فيهم
بالجور والعسف والطغيان والفساد مثل هذا المتغلب فهو متجاسر على الله في مملكته
ومتسلط ومتكبر في الأرض بغير الحق ومتعرض لعقوبة الله الشديدة وسخطه هذا وعلى فرض
تسليم أن للعثماني في عنقنا بيعة فلا تكون علينا حجة لأنه تباعد علينا قطره فلم
يغن عنا شيئا ملكه لما بيننا وبينه من المفاوز والقفار والبحار والقرى والمدن
والأمصار وربما قرب محله من جهة البحر لكن منعه الآن من ركوبه الكفار على أنه ثبت
بتواتر الأخبار البالغة حد الكثرة والانتشار أنه مشتغل لنفسه ومقره عاجز عن الدفع
عن إيالته القريبة من محله حتى أنه هادن النصارى خمس سنين على عدد كثير من المئين
وأعطى فيه منهم ضامنا ليكون في المدة المذكورة على نفسه وحشمه آمنا فكيف يمكنه مع
هذا الدفاع عن قطرنا وناحيتنا وبلدنا وأدل دليل على بعده عن هذا المرام خبر مصر
ونواحي الشام فقد استولى عليها أعداء الدين مدة تزيد على الخمس سنين فلم يجد لهم
نفعا ولا ملك عنهم دفعا حتى استعان بالعدو الكافر والله تعالى قد يؤيد هذا الدين
بالرجل الفاجر هذا ونص الأبي في شرح مسلم مفصح عن مثل قضيتنا ومعلم على أن الإمام
إذا لم ينفذ في ناحية أمره جاز إقامة غيره فيها ونصره فانتظار نصرته يؤدي إلى
الهلاك كيف وقد تطاولت
____________________
إليها الأعناق وتشوفت إليها من كل جانب العيون والأحداق فأعرضنا عن الكل صفحا
وطوينا عنه الجوانب كشحا مقبلين إلى عتبة باب سيدنا نصره الله وسدته داخلين تحت
طاعته ملتزمين لخدمته متوافقين مع القبائل والأمصار وأهل الرأي والاستبصار لعلمنا
أن سيدنا نصره الله المتأهل في هذا الأمر العريق الجدير بالإمامة الحقيق كيف وقد ورثها
كابرا عن كابر وإليهم انتهت المآثر والمفاخر فنطلب من سيدنا نصره الله أن يلتزم
لنا بفضله من هذه البيعة القبول مستشفعين بجاه جده الرسول صلى الله عليه وعلى آله
الطيبين وصحابته المنتخبين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين اه
ولما وقف السلطان رحمه الله على هذا الكلام قبل بيعتهم والتزمها وعقد عليهم لابن
عمه المولى علي بن سليمان وأضاف إليه كتيبة من الجند من أعيان الودايا والعبيد
ووجه الجميع مع أهل تلمسان بعد إكرامهم وتمام الإحسان إليهم وكتب إلى عامله القائد
إدريس يستوصيه بالجميع خيرا ويكون بصيرة عليهم وأشركه في النظر والرأي مع المولى
علي بل الاعتماد في الحقيقة إنما كان عليه وقد وقفت على كتاب الوزير أبي عبد الله
بن إدريس بخط يده للقائد المذكور في هذه القضية يقول فيه ما نصه الحمد لله وحده
وصلى الله على سيدنا محمد وآله محبنا وخال سيدنا الأرضى السيد إدريس بن حمان
الجراري سلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته عن خير سيدنا أيده الله وبعد فقد
وصلنا كتابك صحبة أعيان تلمسان وقبائل أحوازها فوقفنا معهم كل الوقوف وبذلنا
المجهود فوق الطاقة وقبلهم مولانا وقابلهم بالإحسان والإكرام كما هو شأنه ذهابا
وإيابا وهاهم وجههم مولانا مكرمين ورشح ابن عمه مولاي عليا للخلافة عليهم لما يعلم
من عقله ودرايته وسياسته وأنه ذو نفس أبية لكون تلك النواحي لا يصلح لها إلا من
اتصف بهذه الأوصاف ليميزوا حالة الساعة مع ما كانوا فيه وكما رشح مولانا ابن عمه
المذكور رشحك لتكون واسطة بينهم وبينه لكون الأوصاف المذكورة موجودة فيك فكن عند
الظن بك وإياك والطمع وازهدوا فيما في أيدي
____________________
الناس وكل ما تحتاجون إليه مما لا بد منه أخبرونا به يصلكم ولا تكتموا عنا شاذة
ولا فاذة واعلم أن مولانا انتخبك من وسط أبناء جنسك وقربك منه ولا زلت لديه في
الترقي فالله الله فكن عند الظن بك بارك الله فيك آمين وقد أكرم سيدنا كل واحد بما
يناسبه من الكسوة وصنع لهم في كل بلد دخلوه مهرجانا وأدخلهم سيدنا لوسط داره وجميع
جناته وأماكن المملكة التي لا يدخلها إلا الخاصة غايته أنهم نالوا من العناية فوق
الظن ووقفنا معهم فوق ما تحب وفيهم الكفاية ولم يبق إلا ما عندك فكن عند الظن بك
فإن سيدنا نصره الله جرب غيرك وطرحه وهذا معيارك نسأل الله أن يكون معيار التبر
الخالص وما وعدك به سيدنا سيرد عليك حين تستقر بالبلد ويحسن تصرفك على عين الحاضر
والبادي وفي وصية سيدنا في كتابه الشريف مقنع وعلى المحبة والسلام في ثالث عشر
ربيع الثاني عام ستة وأربعين ومائتين وألف محمد بن إدريس لطف الله به اه نص الكتاب
بحروفه
ولما وصل المولى علي إلى تلمسان وجه السلطان في أثره خمسمائة فارس ومائة رام
وجماعة وافرة من حذاق الطبجية من أهل سلا ورباط الفتح فيهم ولد عامل سلا محمد ابن
الحاج محمد أبي جميعة وكان من النجباء ثم لما دخل المولى علي تلمسان واستقر بها
فرح به الحضر من أهل تلمسان واغتبطوا به وقدمت عليه الوفود من كل ناحية وأخذ عليهم
البيعة للسلطان هو والقائد إدريس وانحرف عنه الكرغلية من الترك الذين كانوا إدالة
بقصبة تلمسان من لدن قديم وحاصرهم المولى علي وقاتلهم مدة إلى أن ظفر بهم واستولى
على ما في أيديهم وانحرف عنه أيضا قبيلتا الدوائر والزمالة من عرب تلك الناحية
ويقال إن أصلهم من جند كان للمولى إسماعيل رحمه الله بعثه إدالة بتلك الناحية
واستمروا هنالك وتناسلوا إلى هذا التاريخ فأظفر الله المولى عليا بهم وانتهب الجيش
متاعهم ومتاع الكرغلية من قبلهم ونشأ عن ذلك من الفساد ما نذكره بعد هذا إن شاء
الله
____________________
وفي أوائل رمضان من السنة المذكورة خرج القائد إدريس من تلمسان في جماعة من الجيش
الذين معه بقصد تدويخ القبائل الذين هنالك وأخذ البيعة على من لم يكن بايع منهم
وكان الذين بايعوا هم أهل معسكر والحشم والمشاشيل منهم وبنو شقران والمرابطون أهل
غريس وورغية وتحليت وحميان وغير هؤلاء ونص بيعتهم الحمد لله الذي أنار الخلافة وجه
الزمان وأطلع في صحيفة غرته طوالع السعد واليمن والأمان وهدى من ارتضاه من الأنام
للدخول تحت ظل راية مولانا الإمام والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة
للعالمين وعلى آله وصحبه الطيبين وبعد فلما وفد على حضرة مولانا الخليفة أبي الحسن
علي ابن أمير المؤمنين مولانا سليمان أعلى الله ثراه في عليين جميع القبائل
المسطرة يمنته وقرأ عليهم كتاب مولانا المنصور ذي اللواء المنشور والسيف المشهور
أمير المؤمنين مولانا عبد الرحمن ابن مولانا هشام أدام الله رعيه وجعل فيما يرضيه
سعيه بمحضر خليفته الطالب الأرشد الماجد الأسعد القائد السيد إدريس الجواري وتلقوه
بالإجلال والتعظيم والتبجيل والتكريم أشهدوا على أنفسهم أنهم عقدوا البيعة لمولانا
الإمام أيده الله وأدام عزه وعلاه والتزموها بالسمع والطاعة وفي جيدهم انتظموها
بيعة تامة مستوفية الشروط وافية العهود وثيقة الربوط قبلها الكل وارتضاها وأوجب
العمل بمقتضاها فمن سمع ما ذكر ممن ذكر قيده في مهل جمادى الثانية عام ستة وأربعين
ومائتين وألف وبعده علامة العدلين المتلقيين من رؤساء القبائل المذكورة فهولاء
الذين بايعوا ومن لم يكن بايع بعد فهم الذين خرج القائد إدريس المذكور لأخذ البيعة
عليهم كما قلنا
والحاصل أن السلطان رحمه الله كان قد اعتنى بأمر هذه الناحية غاية الاعتناء وبذل
المجهود في إمدادها بالعدد والعدد والمال مرة بعد أخرى وبعث الشريف البركة سيدي
الحاج العربي بن علي الوزاني إلى أهل تلك البلاد يدعوهم إلى الطاعة ويحضهم على
الدخول في أمر الجماعة لكونهم كان لهم فيه وفي سلفه اعتقاد كبير وبعث الشريف
الأخير أبا محمد عبد
____________________
السلام البوعناني فولاه خطة الحسبة بتلمسان وبعث من الكسي والرايات والأعلام
والمدافع والمهاريس والبارود والرصاص شيئا كثيرا لكن لم يكن إلا ما أراده الله
تعالى فافترقت كلمة العرب الذين هنالك لضعف إيمانهم وقلة همتهم فجلهم مال إلى
الدخول في حزب النصارى عندما استولوا على مدينة وهران في هذه الأيام ثم سرى ذلك
الاختلاف في قواد جيش السلطان فتنافسوا وتحاسدوا وكثر القيل والقال منهم على
السلطان ثم ختموا عملهم بانتهاب أثاث الكرغلية وتقاعدهم عليه ثم بانتهاب مال
الزمالة والدوائر وماشيتهم في جوار الشريف سيدي الحاج العربي بن علي الوزاني وفسد
العمل وخاب الأمل فحينئذ رأى السلطان رحمه الله استرجاع تلك الجيوش التي لم يبق
طمع في صلاحها بعد أن أمر بالقبض على القائد إدريس لكونه سعى به عنده وأنه شارك في
نهب الكرغلية والزمالة والدوائر وتقاعد على النفيس من أثاثهم فرجعت الحلة وكان
رجوعها في آخر رمضان من السنة المذكورة وفي هذه السنة منتصف جمادى الثانية منها
حدثت زلزلة بقرية من قرى تلمسان تسمى البليدة فجعلت عاليها سافلها وهلك أهلها
والأمر لله كيف شاء فعل خروج جيش الودايا على السلطان المولى عبد الرحمن والسبب في
ذلك
كان خروج جيش الودايا على السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله في المحرم فاتح سنة
سبع وأربعين ومائتين وألف وكان السبب في ذلك أن الطاهر بن مسعود المغفري الحساني
والحاج محمد بن الطاهر الغفري العقيلي والحاج محمد بن فرحون الجراري كانوا من كبار
قواد هذا الجيش وأعيانه وكان السلطان رحمه الله يبعثهم في المهمات ويستكفي بهم في
الأقطار النائية والجهات وكانوا هم يظهرون للسلطان الطاعة وهم في الباطن منحرفون
عنه بسبب أن الدالة التي كانوا يدلون بها على السلطان المولى
____________________
سليمان رحمه الله انقطعت عنهم مع السلطان المولى عبد الرحمن وزالت من أيديهم
فكانوا يمرضون في الطاعة بعض الأحيان والسلطان يطويهم على غرهم ويلبسهم على عرهم
إلى أن كان البعث إلى تلمسان فوجههم إليه فيمن وجه من أعيان الجيش ورؤسائه فكانت
قوارصهم لا تنقطع عن الدولة وشغبهم لا يفتر من التطاول والصولة ثم كان نهب الزمالة
والدوائر فأبدؤوا في ذلك وأعادوا وشايعهم على فعلهم القائد أحمد بن المحجوب
البخاري وأظهروا عدم المبالاة بالسلطان وخليفته وعامله وكانت بينهم وبين القائد
إدريس الجراري منافسة باطنية فخاف من الاعتراض عليهم فيما ارتكبوه من النهب أن
يسدوا برأسه هذا الخرق فأسعفهم وانتهب معهم وكان ما قدمناه من استرجاع السلطان
لذلك الجيش وبعث من قبض على القائد إدريس بوجدة وجيء به إلى تازا فسجن بها ولما
وصل جيش تلمسان إلى عنق الجمل قرب فاس خرج إليهم القائد الطيب الوديني البخاري
وكان واليا على فاس فقيل أراد أن يقبض عليهم بإذن من السلطان وقيل أراد أن يحوز
منهم أرحلهم وحقائبهم التي ملؤوها من النهب وكان الودايا والعبيد لما فعلوا فعلتهم
تحالفوا وتعاهدوا على أن يكونوا يدا واحدا على من أرادهم بسوء كائنا من كان فلما
خرج إليهم الطيب الوديني تجهموه وهموا به فرجع أدراجه وأنهى ذلك إلى السلطان فأغضى
عنهم ثم بعد أيام عزم السلطان على القبض على الحاج محمد بن الطاهر العقيلي فأحس هو
بذلك فذهب إلى الطاهر بن مسعود وتطارح عليه وقال له إني مقبوض لا محالة فإن ولاك
السلطان من أمري شيئا فأحسن ولا تؤاخذني بما كان مني إليك وقد كان الطاهر بن مسعود
قبل هذه المدة عاملا بتارودانت فعزله السلطان بابن الطاهر فأساء إليه فلهذا قال له
ما قال فقال الطاهر بن مسعود وأنت مقبوض قال نعم قال علي وعلي لا جرى عليك أمر
تكرهه ما دمت حيا ثم إن السلطان أحضر الحاج محمد بن الطاهر وأحمد بن المحجوب
فقرعهما وأمر بالقبض عليهما فقبض أعوان الودايا على أخيهم وقبض أعوان العبيد على
أخيهم وخرجوا بهما إلى السجن مع العشي وكان الطاهر بن مسعود قد
____________________
ترصد بباب دار السلطان للحاج محمد بن الطاهر ليفتكه وصاحبه فلما خرجا قام الطاهر
بن مسعود إلى الأعوان فراودهم على إطلاق المسجونين فأبوا وقالوا إنهما مسجونان عن
أمر السلطان فتصامم عن ذلك واستل خنجره وضرب إدريس البواب الوديي على ترقوته فخدشه
وانتزع منه المسجون وتقدم لافتكاك أحمد بن المحجوب فأبى وانتهره وقال لا أخالف أمر
السلطان وكان الودايا يظنون قيام العبيد معهم لحلفهم السابق فخذل الله فيما بينهم
ثم أسرع الطاهر وابن الطاهر إلى فرسيهما فركباهما ونجوا إلى ناحية دار الدبيبغ
وثارت المغافرة بباب دار السلطان وحملوا السلاح وأخرجوا البارود والرصاص وقامت
شيعة السلطان لمدافعتهم فكثرهم الودايا وهزموهم حتى أغلقوا عليهم باب المشور وسأل
السلطان عن الهيعة فأعلم بالخبر وكان معه الحسن بن حمو واعزيز فقال له يا مولانا
إن هؤلاء ما جسروا على هذا الفعل ببابك حتى عزموا على ما هو أكثر فدعا السلطان
بفرسه وركبه مع الغروب وخرج من باب البجاة ومعه ابن واعزيز وبعض أصحابه خيلا ورجلا
ولما علم الودايا بخروج السلطان ركبوا بقضهم وقضيضهم من فاس الجديد ومن قصبة شراقة
فأدركوا السلطان عند قنطرة عياد فنزلوا إلى الأرض يقبلون حوافر فرسه ويتشفعون له
ويتبرؤون من فعل أولئك السفهاء وكان الحال إذ ذاك حال مطر خفيف والشمس قد غربت أو
كادت تغرب فساعدهم رحمه الله على الرجوع وأشار عليه الحاج محمد بن فرحون بأن يذهب
معه إلى قصبة شراقة وكانت يومئذ لأهل السوس فذهب معه إلى داره من غير أن يطمئن
إليه ولكن ذلك الذي اقتضاه الحال في تلك الساعة ولما استقر بدار ابن فرحون اجتمع
عليه المغافرة والودايا وأهل السوس وأساء عليه المغافرة الأدب بل عزموا على الفتك
به ولكن الله تعالى وقاه شرهم فاختلفت كلمتهم وتذامر أهل السوس فيما بينهم وقالوا
لا يبيتن السلطان الليلة إلا بداره واستنهضوه فنهض رحمه الله وركب فرسه وصحبوه إلى
داره في ذلك الليل فاستقر بها وبعد ذلك بأيام انتقل السلطان إلى بستان أبي الجلود
خارج فاس الجديد على حين غفلة من الودايا وانحاز
____________________
شيعة السلطان إليه من العبيد وغيرهم ونزل جلهم بفاس القديم وبقي الودايا وحدهم
بفاس الجديد ثم استدعى السلطان عبيد مكناسة فقدموا عليه ولما علم الودايا بعزم
السلطان على الخروج من بين أظهرهم ساءهم ذلك وعلموا أنه إن خرج من بين أظهرهم لا
يتركهم حتى يوقع بهم فراودوه على المقام وتنصلوا وأظهروا التوبة وتقدم سفهاؤهم إلى
العبيد فأنشبوا معهم الحرب وهلك من الفريقين عدد ثم تدارك السلطان أمرهم وتلطف
وطيب أنفسهم وأجمع على الخروج إلى مكناسة فخرج بثقله وأثاثه وأمواله وسلك طريق
قبقب وعقبة المساجين كأنه يريد بلاد الغرب وخرج لتشييعه جماعة وافرة من أعيان
الودايا ثم أنهم ندموا ونكسوا على رؤوسهم وربما سمعوا من العبيد بعض كلام فحميت
أنوفهم وتحزبوا وأوقعوا بالعبيد فانهزموا عن السلطان وانتهب الودايا خيرته وأثاثه
وقام عقالهم دون العيال حتى ردوه إلى الدار محفوظا مصونا ولم يفعلوا أحسن منها
وأما المال والأثاث فقد أتى عليه النهب وكان شيئا كثيرا وتقدم السلطان رحمه الله
لطيته وتبعه سفيه من سفهاء الودايا كان أراد الفتك فيه فحماه الله منه ووصل
السلطان رحمه الله إلى مكناسة فاستقر بها واتصل خبر هذه الفتنة بالقائد إدريس بن
حمان الجراري وهو مسجون بتازا فاحتال على سراح نفسه بأن افتعل كتابا على لسان
السلطان وبعث به إلى عامل تازا فسرحه وكان السلطان رحمه الله قد بعث إلى القائد
إدريس المذكور وهو بتلمسان أربع ورقات مختوما عليها بالخاتم السلطاني الكبير وأمره
السلطان رحمه الله أن يحتفظ بتلك الورقات ولا يستعمل واحدة منهن إلا في أهم
المهمات مما يتوقف عليه غرض السلطان والدولة ولا تمكن مشاورته فيه لبعد المسافة
بين فاس وتلمسان فعمد القائد إدريس إلى واحدة من تلك الورقات فكتب فيها بتسريحه
فسرح وجاء يجد السير إلى فاس وبنفس وصوله كتب إلى السلطان يعلمه بما صنع وأنه لا
زال على ما يعهد مولانا من بذل النصح والسعي في صلاح السلطان والجيش فأجابه
السلطان رحمه الله بما نصه
وبعد فقد وصلنا كتابك وعرفنا ما فيه والحمد لله على سلامتك وما
____________________
وجهنا لك إلا بقصد أن نسرحك لأننا تحققنا أنك كنت مغلوبا عليك فلا عهدة عليك بل من
تمام عقلك مساعدتك لمن نهب ولو منعتهم من ذلك لتفاقم الأمر هنالك وأنت عليك الأمان
ظاهرا وباطنا في الحال والاستقبال فلا تخش من شيء أبدا فإنك ممن نتهمه بالدين
والعقل والصدق وقد عاينت وسمعت ما صدر من إخواننا من النزعة الشيطانية ولا ينبغي
أن نقابلهم بمثل ما قابلنا به من لاعقل له منهم وإن قابلناهم به لا نلتقي أبدا
وأنت اسع في الخير والصلاح ما أمكنك وتحمل لهم عنا بالأمن من كل ما يخافونه من
جانبنا فجسارتهم أولى من صلاح القبائل فقف على ساق الجد لأن يهدي الله بك رجلا
واحدا خير مما طلعت عليه الشمس والسلام في السابع عشر من المحرم فاتح عام سبعة
وأربعين ومائتين وألف انتهى لفظ الكتاب الشريف
ثم إن القائد إدريس أحسن القيام على عيال السلطان الذين بقوا بفاس الجديد وكان
فيهم حظيته المولاة فاطمة بنت المولى سليمان وتقدم القائد إدريس إلى أمين الصائر
من قبل وقال له ما كنت تدفع إلى دار السلطان كل يوم من دقيق ولحم وإدام وغير ذلك
فاكتب لي بقدره وابعث إلى به فأحصاه الأمين المذكور وبعث إليه به فصار يبعث بذلك
القدر إلى دار السلطان كل يوم وانقطع الماء ذات يوم عن دار السلطان فكان القائد
إدريس يحمل قرب الماء إليها كل يوم وأصلح القنوات وجد في ذلك حتى رجع الماء إلى
مجراه ثم إن السلطان رحمه الله استنفر قبائل الغرب كلها حوزا وغربا وثغورا فقدموا
مكناسة على بكرة أبيهم وسمع الودايا بذلك فاستدعوا الشريف سيدي محمد بن الطيب من
بعض الأعمال والتفوا عليه وبايعوه فحينئذ تبرأت منهم القبائل التي كانت تعدهم
بالقيام معهم من مجاوريهم لأن سيدي محمد بن الطيب كانت قبائل المغرب قد تناذرته
منذ أيام ولايته على تامسنا ودكالة وفعله بأهلها الأفاعيل فكان مبغضا عند العامة
وزحف السلطان إلى فاس الجديد فحاصرهم بها ونصب عليهم المدافع والمهاريس وتعاقب
عليهم الرمي بها من محلة السلطان بعين قادوس ومن بستيون أبي الجلود وبستيون
____________________
باب الجيسة وبستيون باب الفتوح ودام الحصار أربعين يوما والحرب لا تنقطع في كل وقت
وكان الودايا يرمون أيضا بالكور والبنب وابلى بنوحسن في تلك الأيام البلاء الحسن
ثم إن السلطان عزم على البناء عليهم وجلب اللواحين فشرعوا في العمل وسئم الودايا
الحرب وملوها فأذعنوا إلى الصلح وسعى في الوساطة بينهم وبين السلطان الأمين الحاج
الطالب ابن جلون الفاسي فأمنهم السلطان على شرط الخروج من فاس الجديد فأذعنوا ثم
بعثوا شفاعاتهم بالمشايخ والصبيان والألواح على رؤوسها ومعهم سلطانهم ابن الطيب
فسامح رحمه الله الجميع وقال لهم في جملة ما قال الحمد لله إذ لم أغلبكم ولم
تغلبوني لأني لو غلبتكم لذبحت هذه الجيوش أولادكم ولم أقدر أن أردها عنكم ولو
غلبتموني لفعلتم كل ما تقدرون عليه فهذا من لطف الله بي وبكم
قلت وهذا كلام دال على وفور عقل السلطان رحمه الله وكمال شفقته ورحمته ثم لما عزم
السلطان على النهوض إلى مكناسة ولى على جيش الودايا كله القائد إدريس بن حمان
الجراري وذلك في الحادي والعشرين من جمادى الثانية سنة سبع وأربعين ومائتين وألف
ثم نهض إلى مكناسة فاحتل بها ولما حضر عيد الفطر قدمت الوفود على السلطان بمكناسة
واستقامت الأحوال وكتب رحمه الله إلى القائد إدريس أن يحضر العيد في جماعة وافرة
من إخوانه نحو الخمسمائة فحضروا ودخلوا على السلطان ذات عشية بالمشور فوبخهم حتى
ظن الناس أنه يقبض عليهم ثم سرحهم فعادوا إلى فاس الجديد ولما عزم السلطان رحمه
الله على النهوض إلى مراكش قدم أولا فاسا ونزل خارج البلد ونظر في شأنه وشأن الجيش
والرعية ثم ارتحل يريد مراكش فلما انفصل عن فاس بيوم أو يومين كتب إلى القائد
إدريس يأمره أن يبعث إليه بالطاهر بن مسعود والحاج محمد بن الطاهر يذهبان معه إلى
مراكش بقصد الخدمة بها مع ولده وخليفته سيدي محمد بن عبد الرحمن فذهبا على فرسيهما
مسرحين إلا أنهما كانا حذرين من السلطان لما قدما من الفعل الشنيع الذي كان سبب
هذه الفتنة العظيمة فقدما مراكش وترتبا في
____________________
الخدمة مع الخليفة المذكور وانسلخت هذه السنة وفيها عزل السلطان وزيره الفقيه أبا
عبد الله محمد بن إدريس وامتحنه وبقي عاطلا مدة ثم رده إلى خطته وكان السلطان في
مدة تأخيره إياه قد استوزر مكانه الفقيه العلامة الأديب السيد المختار بن عبد
الملك الجامعي فقام بأعباء الخطة وبرز فيها رحمه الله وفيها بنى السلطان رحمه الله
المارستان الكبير على ضريح ولي الله تعالى أبي العباس أحمد بن عاشر بسلا وكان على
ضريح الولي المذكور القبة والمسجد فقط فأدار السلطان رحمه الله على ذلك كله
مارستانا كبيرا وبنى به مسجدا آخر وبيوتا للمرضى تنيف على العشرين وأجرى إليه
الماء وجعل ميضأة بإزاء المسجد للرجال وأخرى شرقيها للنساء فجاء ذلك من أحسن
الأعمال وكتب الله أجره في صحيفة السلطان
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف ففي صفر منها ورد على القائد إدريس كتاب من
عند السلطان وهو يومئذ لا زال برباط الفتح يأمره أن يبعث إليه بالحاج محمد بن
فرحون الجراري فوصل إليه مسرحا فقبض عليه وبعثه إلى الصويرة وبإثر ذلك ورد على
السلطان كتاب من عند ولده سيدي محمد يعلمه بأنه قبض على الطاهر بن مسعود والحاج
محمد بن الطاهر لكونهما لم يقلعا عن ضلالهما وشيطنتهما حتى أنهما عزما على اغتياله
بمصلى عيد الأضحى من السنة الفارطة فحماه الله منهما ولما وصل السلطان إلى مراكش
صار يكتب إلى القائد إدريس برؤوس الفتنة والقبض عليهم واحدا بعد واحد إلى أن
استوفى جلهم وكان القائد إدريس في هذه المدة قد أحس بأن باطن السلطان لا زال
متغيرا على الودايا فألح عليه في البحث والاستكشاف عما هو مضمره لهم وما يريد بهم
وما الذي يجلب رضاه عنهم ويصفي باطنه عليهم فكتب إليه السلطان رحمه الله كتابا
أفصح فيه عن مراده يقول فيه بعد الافتتاح والطابع الشريف بينه وبين الخطاب ما نصه
خالنا الأرضى القائد إدريس الجراري سلام عليك ورحمة الله تعالى وبعد فاعلم بأنك
طلبت منا مشافهة وكتابة أن نعرب لك عن مرادنا
____________________
ونطالعك بغاية قصدنا وأمنيتنا في الجيش وما يجلب رضانا عنهم وكنا نجيبك عن ذلك
جوابا إقناعيا لعدم وثوقنا وقتئذ بصدق لهجتك وكان يخيل لنا أنك تباحثنا على جهة
الاطلاع على خبيئة أمرنا والآن اتضح ما أنت عليه من الصدق ووفور المحبة وخلوص
النية حتى صرت به كأحد أولادنا
( وليس يصح في الأذهان شيء ** إذا احتاج النهار إلى دليل )
وعليه فأنت أولى من نبثه سرنا ولا ندخر عنه شيئا من دخيلة أمرنا فاعلم أرشدك الله
أن من بارزنا بالسوء قولا وفعلا من ذلك الجيش هم المغافرة كافة واستوى في ذلك
كبيرهم وصغيرهم قويهم وضعيفهم ولم يلف منهم رجل رشيد ولو ساعدهم الودايا وأهل
السوس وخلوا بينهم وبين هواهم لكان ما أرادوه من تلف مهجتنا ولكن الله سلم ولا
يخفى على أحد ما استوجبوه لذلك شرعا وطبعا ولسالف خدمتهم وكظم الغيظ المرغب فيه
ارتكبنا في جانبهم أخف ما أوجبه الله تعالى على أمثالهم قال جل علاه { إنما جزاء
الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا } المائدة 33 الآية وقد آليت على
نفسي وأشهدت الله وملائكته أن لا يضمني سور فاس الجديد والمغافرة به فهذا هو محض
الصدق والآن بين لنا كيف يكون العمل في ذلك وما نقدم وما نؤخر لأن المراد قضاء
الغرض من غير مشقة ولا فضيحة للجيش وهل تفشي هذا أو تكتمه وعلى تقدير امتثالهم عين
لنا أي محل ينتقلون إليه من ثغور إيالتنا كالرباط وغيره أو قصبة مراكش فإن النفس
لم تسمح بهم بالكلية بل المراد زجرهم وإقامة بعض حق الله فيهم ويحصل لنا الاطمئنان
والسكينة ونبر قسمنا فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين وما ذكرت من أنا عاهدناك
ووعدناك بالإحسان والتنويه بشأنك فإنه وعد صدق لا مرية فيه إن شاء الله وكيف وقد
استوجبت منا كل جميل وقدمك لمعالي الأمور عقلك وصدقك ولو ألفينا في الجيش مثلك
لضممنا عليه البراجم والرواجب وفعلنا في جانبه ما هو الواجب وقد اقتصرت حيث طلبت
أن تكون بمنزلة القائد قدور بن الخضر عند سيدي الكبير رحمهما الله فأنت
____________________
عندنا بمنزلة أعظم من منزلته واليد التي اتخذت عندنا أعظم مما اتخذ هو عند سيدي
الكبير قدس الله سره فقد جازاه على الصدق فقط أما أنت فقد شاركته في هذه المرتبة
وفقته بما هو أعظم وهو إحسانك لعيالنا وأولادنا ولولا أنت لهلكوا جوعا فلا يكفر
هذه الضيعة إلا لئيم وحاشانا الله من ذلك فطب نفسا وقر عينا فلك عندنا من المكانة
والخطوة مالو اطلعت على حقيقته لطربت سرورا ونشاطا وسترى إذا انجلى الغبار ولا زال
أهلنا يتذكرون إحسانك إليهم بحضرتنا ويلتمسون لك الدعاء الصالح من جانبنا وفي
الحديث ما معناه أن أمرأة من بني اسرائيل أبصرت كلبا يلعق الحمئة من شدة العطش
فسقته فغفر الله لها فكيف بمن أسدى معروفا لجماعة انقطع رجاؤهم إلا من الله والله
لن يخزيك الله أبدا والسلام في ثامن عشر رمضان المعظم عام ثمانية وأربعين ومائتين
وألف اه نص الكتاب ثم إن الله تعالى هيأ للسلطان أمره في الودايا وألهمه رشده فيهم
فأمر أولا بنقل رحى المغافرة إلى قصبة الشرادي من أعمال مراكش وظن الناس أنه يقتصر
على ذلك لأنه رحمه الله لم يكن يظهر إلا أنه يريد نقل المغافرة فقط ثم نقل رحى
الودايا إلى العرائش وأحوازها ثم ردهم إلى جبل سلفات ثم بعد ذلك بمدة يسيرة نقل رحى
أهل السوس إلى رباط الفتح فأنزل حلتهم بالمنصورية على شاطىء وادي النفيفيخ وقوادهم
ووجوههم بقصبة رباط الفتح ثم رد الحلة بعد مضي ست سنين إلى قصبة تمارة قرب رباط
الفتح وكانت متلاشية فأمر السلطان بعد سنتين أو ثلاث بترميمها وإصلاحها وكان رحمه
الله قد أسقط هذا الجند الوديي من الجندية وأعرض عنه بالكلية سنين ثم استردهم في
حدود الستين كما سيأتي ولما أخلى السلطان فاسا الجديد من جيش الودايا بأسره وكان
بمراكش بعث بالطاهر بن مسعود وبالحاج محمد بن الطاهر فسجنا به مدة ثم قدمت عريفة
الدار الحاجة زويدة بكتاب من عند السلطان على ولده سيدي محمد بفاس يتضمن الأمر
بقتل الطاهر وابن الطاهر بالمحل الذي افتك فيه الأول الثاني فأخرجا إلى المحل
المذكور وحضر
____________________
الوصيف القائد فرجى وقدم الطاهر بن مسعود فأخرجت فيه عمارة وحز رأسه ثم قدم الحاج
محمد بن الطاهر ففعل به مثل صاحبه فيقال إنه زهقت نفسه قبل القتل لأنه لم يسل منه
دم وأما الطاهر بن مسعود فسال منه دم كثير وأمر سيدي محمد ولد السلطان بمواراته
فووري وأما ابن الطاهر فإنه رمي على المزبلة ووكل به الحرس إلى أن أكلته الكلاب
ولم يبق إلا رجلاه بالقيد وكان ذلك في حدود خمسين ومائتين وألف وأما ابن فرحون
وأصحابه فإنهم استمروا في سجن الجزيرة إلى أن هلكوا
واعلم أن هذه الوقعة الهائلة دالة على كمال عقل السلطان ووفور حلمه وفضله حتى أنه
ما عامل هؤلاء القوم الذين آذوه أشد الإذاية إلا ببعض البعض مما استوجبوه كما قال
وكما رأيت وعلمت ونسأله سبحانه وتعالى أن يتغمدنا والمسلمين برحمته ويقينا وإياهم
مصارع السوء وينيلنا الأمن في الدنيا والفوز في الآخرة بجنته إنه على ذلك قدير
وبالإجابة جدير ظهور الحاج عبد القادر بن محيي الدين المختار بالمغرب الأوسط وبعض
أخباره
لما رجع جيش السلطان من تلمسان مع المولى على بن سليمان حسبما مر بقي أهل تلمسان
فوضى ورجعت الحرب بين الحضر من أهلها والكرغلية جذعة وهاجت الفتن بين قبائل العرب
الذين هنالك واختلط الحابل بالنابل وكان الفقيه المرابط محيي الدين عبد القادر
المختاري نسبة إلى أحد أجداده المشهورين بتلك الناحية نازلا وسط حلة الحشم عند
المشاشيل منهم وكان متظاهرا بالخير وتدريس العلم واتخذ زاوية لطلبة العلم وقراء
القرآن فاشتهر عند أولئك القبائل واعتقدوه فلما دهم العدو أهل تلك البلاد وجاشت
فيما بينهم الفتن اجتمع الحشم وبعض بني عامر وتفاوضوا فيما نزل بهم فأجمع رأيهم
على بيعة الشيخ محيي الدين المذكور فذهبوا إليه
____________________
وعرضوا عليه ما في أنفسهم فتجافى عن منصب الرياسة وأظهر الورع واعتذر بأنه قد شاخ
وذهب منه الأطيبان وإنما هو هامة اليوم أو غد فسدكوا به وتطارحوا عليه فأشار عليهم
بولده الحاج عبد القادر بن محيي الدين وكان له يومئذ عدة أولاد ليس الحاج عبد
القادر أكبرهم ولا أعلمهم ولا أصلحهم وإنما كان فيه مضاء وإقدام فأسعفوه بشرط أن
يكون نظره منسحبا عليه ومشيرا بما تدعو الضرورة إليه ولما تم أمر الحاج عبد القادر
جمع كتيبة من بني عامر والحشم وزحف إلى وهران وكانت يومئذ في ملكة النصارى قد
استولوا عليها منذ ستة أشهر أو سبعة فأوقع بهم وقعة شنعاء قتل فيها وأسر وأبلغ في
النكاية ورجع مظفرا منصورا فتيمنوا به وأحبوه وتمكن منهم ناموسه واتخذ عسكرا من
الحشم وبني عامر لا بأس به ولما سمع به أهل تلمسان وهم أحوج ما كانوا إلى من يقوم
بأمرهم وفدوا عليه وأخبروه بما كان منهم من مبايعة السلطان المولى عبد الرحمن صاحب
مراكش وفاس وأنهم يبايعونه على بيعته والإعلان بدعوته فأجابهم الحاج عبد القادر
إلى ذلك وأخذ عليهم البيعة وأظهر الطاعة والانقياد للسلطان المولى عبد الرحمن وخطب
به على منابر تلمسان وغيرها وولى على تلمسان وأعمالها وزيره أبا عبد الله محمد
البوحميدي الولهاصي وكتب إلى السلطان يعلمه بأنه بعض خدمه وقائد من قواد جنده
واستقام أمر الحاج عبد القادر وثبتت قدمه في تلك الإيالة التلمسانية ثم إن قبيلتي
الزمالة والدوائر الذين قدمنا ذكرهم انحرفوا عن الحاج عبد القادر لأسباب منها أنهم
كانوا معادين للحشم ولما قرب الحاج عبد القادر الحشم وجعلهم جنده ازدادت عداوتهم
ونفرتهم عن الحاج عبد القادر وساروا إلى وهران وأعلنوا بدعوة الفرنسيس فقبلهم
وحماهم وحدثت بينه وبين الحاج عبد القادر بسببهم حروب صعبة
حدثني الأمين السيد الحاج عبد الكريم ابن الحاج أحمد الرزيني التطاوني قال ذهبت
سنة سبع وأربعين ومائتين وألف إلى مدينة وهران بقصد التجارة بها وذلك عقب استيلاء
الفرنسيس عليها قال وكنت يومئذ في سن
____________________
الشباب حين بقل عذاري فأقمت بها مدة وكان الحاج عبد القادر بن محيي الدين إذ ذاك
مهادنا لكبير الفرنسيس بوهران والجزائر قد أنزل كل واحد منهما ببلد الآخر قنصله
وتجاره على العادة في ذلك أيام الهدنة فلما كان ذات يوم ورد الخبر بأن قبيلتي
الزمالة والدوائر من إيالة الحاج عبد القادر وهم نحو الألفين كانوا قد فروا منه
ونزلوا حول مدينة وهران مستجيرين بالفرنسيس وقد رفعوا سنجقة وأعلنوا بأنهم تحت
حكمه ومن جملة رعيته فبعث إليهم الفرنسيس يعلمهم بأنه قد قبلهم ولا يصيبهم مكروه
فلما كان من الغد بعث الحاج عبد القادر مع كبير دولته الحاج الحبيب ولد المهر
المعسكري كتابا إلى الفرنسيس يقول فيه إنك قد علمت أن هؤلاء القوم الذين فروا إليك
هم رعيتي ومن إيالتي وعليه فلا بد أن تردهم علي وإلا فالحرب بيني وبينك فامتنع
الفرنسيس من ردهم وأجاب إلى الحرب واتفقوا أن يخرج كل منهما إلى الآخر تجاره الذين
في أرضه وأن من بقي منهم بعد ثلاث فهو هدر واتفقوا أيضا على أن يكون القنصلان آخر
من يخرج وأن يكون خروجهما في ساعة معلومة من الليل بحيث يلتقيان على المحدة التي
بين أرض المسلمين وأرض النصارى ففعلوا وخلص كل إلى مأمنه
ولما انقضى الأجل تزاحفوا للقتال في يوم معلوم فكانت بينهم حرب يشيب لها الوليد
ولما كان عشي النهار سمع الناس من داخل البلد ضوضاء وجلبة عظيمة وبارودا كثيرا
وإذا بالحاج عبد القادر هزم الكفار هزيمة شنعاء حتى ألجأهم إلى سور البلد وازدحموا
على أبوابه وركب بعضهم بعضا وجاءت خيالتهم من خلفهم فركبوهم أيضا ومشوا عليهم
ورفسوهم بخيلهم فهلك بهذا الازدحام من الفرنسيس نحو أربعة آلاف دون الذين هلكوا
خارج البلد بالكور والرصاص والتوافل والرماح واستولى المسلمون على معسكر النصارى
بما فيه من مدافع وعجلات وفساطيط وأخبية وأثاث وكانت فتكة بكرا قال الحاج عبد
الكريم المذكور وكنت في تلك المدة مساكنا لبعض كبراء عسكر الفرنسيس في دار واحدة
فلما انقضت الوقعة بيوم أو يومين سألته كم تراه يكون هلك من عسكر الفرنسيس في هذه
الوقعة قال أقرب لك أم
____________________
أبعد قلت بل أقرب قال أنا كبير من كبراء العسكر وتحت نظري ثمان عشرة مائة بقي منها
في هذه الوقعة ثمانية عشر عسكريا انتهى كلام هذا المخبر
ثم إن الزمالة والدوائر لجوا في موالاة الفرنسيس وأحكموا أمرهم معه وولوا عليهم
رجلا منهم يقال له المصطفى بن إسماعيل كان هو السبب الأكبر في تملك الفرنسيس بلاد
المغرب الأوسط وجل الحروب التي كانت تكون بين المسلمين والنصارى في تلك المدة على
يده إلى أن قتل منتصف سنة تسع وخمسين ومائتين وألف ضاعف الله عليه غضبه ونقمته
ولما اتصل بالسلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله ما عليه الحاج عبد القادر من جهاد
عدو الدين وحماية بيضة المسلمين أعجبه حاله وحسنت منزلته عنده لأنه رأى أنه قد قام
بنصرة الإسلام على حين لا ناصر له فصار السلطان رحمه الله يمده بالخيل والسلاح
والمال المرة بعد المرة على يد الأمين الحاج الطالب بن جلون الفاسي وغيره وطالت
الحرب بينه وبين الفرنسيس واستولى الفرنسيس في بعض الكرات على تلمسان وضايقه الحاج
عبد القادر فيها حتى أخرجه منها ثم استردها الفرنسيس بعد معارك شديدة ومواقف صعبة
إلا أن ضرر الحاج عبد القادر للفرنسيس كان مقصورا على قتل النفوس واستلاب الأموال
وأما الفرنسيس فكان ضرره بالمسلمين عائدا على تملك بلادهم وتنقصها من أطرافها ودام
ذلك مدة من ست عشرة سنة
وبالجملة فلقد كان الحاج عبد القادر هذا في أول أمره على ما ينبغي من المثابرة على
الجهاد والدرء في نحر العدو ولولا أنه انعكس حاله في آخر الأمر وخلصت الأرض
للفرنسيس والله غالب على أمره
وفي سنة خمسين ومائتين وألف ولد مؤلف هذا الكتاب أحمد بن خالد الناصري السلاوي
أخبرتني والدتي الست فاطمة بنت الفقيه السيد محمد بن محمد بن قاسم بن زروق الحسني
الإدريسي الجباري أني ولدت بعد طلوع الفجر صبيحة يوم السبت الثاني والعشرين من ذي
الحجة من السنة
____________________
المذكورة وفي محرم فاتح سنة إحدى وخمسين ومائتين وألف توفي الوزير الشهير السيد
المختار بن عبد الملك الجامعي بمراكش واستوزر السلطان بعده الفقيه أبا عبد الله
محمد بن علي الحاجي النكنافي مدة يسيرة ثم أخره ورد وزيره الأقدم أبا عبد الله
محمد بن إدريس رحم الله الجميع وفي هذه السنة كان الوباء بالمغرب بالإسهال والقيء
وغور العينين وبرودة الأطراف
وفي سنة اثنتين وخمسين ومائتين وألف ورد سؤال من عند الحاج عبد القادر بن محيي
الدين إلى علماء فاس يقول فيه ما نصه
الحمد لله سادتنا الأعلام أئمة الهدى ومصابيح الظلام فقهاء الحضرة الإدريسية ومرمى
المطالب ومحط الرحال العيسية أطباء أدواء الدين ومحقين حقه ومبطلين باطله ومنتجين
قضاياه المتخيلة عقيمة وباطلة جوابكم أبقاكم الله فيما عظم به الخطب واشتد به
الكرب بوطن الجزائر الذي صار لغربال الكفار جزائر وذلك أن العدو الكافر يحاول ملك
المسلمين مع استرقاقهم بالسيف وتارة بحيل سياسته ومن المسلمين من يداخلهم ويبايعهم
ويجلب الخيل إليهم ولا يخلو من دلالتهم على عورات المسلمين ويطالعهم ومن أحياء
العرب المجاورين لهم من يفعل ذلك ويتمالؤون على الجحود والإنكار فإذا طلبوا
بتعيينه جعجعوا والحال أنهم يعلمون منهم الأعين والآثار فما حكم الله في الفريقين
في أنفسهم وأموالهم فهل لهم من عقاب أم يتركون على حالهم وما الحكم فيمن يتخلف عن
المدافعة عن الحريم والأولاد إذا استنفره نائب الإمام للدفاع والجلاد فهل يعاقبون
وكيف عقابهم ولا يتأتى بغير قتالهم وهل تؤخذ أموالهم وأسلابهم كيف العمل فيمن يمنع
الزكاة أو يمنع بعضها من التحقق بعمارة ذمته في الحال فهل يصدق مع قلة الدين في هذا
الزمان أم يكون للاجتهاد فيه مجال ومن أين يرزق الجيش المدافع عن المسلمين الساد
ثغورهم عن المغيرين ولا بيت مال وما يجمع من الزكاة لا يفي بشبعهم فضلا
____________________
عن كسوتهم وسلاحهم وخيلهم ومؤنتهم وزيهم فهل تترك فيستبيح الكافر الوطن أم يكون ما
يلزمهم على جماعة المسلمين وإذا كان فهل على العموم أم على الأغنياء فقط ولا يمكن
اختصاص الأغنياء لجفوة الأعراب وجهلهم وهل يعد مانع المعونة باغيا أم لا وما حكم
أموال البغاة وهل القول بعدم ردها يجوز العمل به أم لا أجيبوا عما ذكرنا وعما
يناسب المقام والحال مما لم يحضرنا داووا عللنا أبقاكم الله فقد ضاق من هذه الأمور
الذرع وكاد القائم بأمر المسلمين لضيق الأسباب أن يتخلى عن الأمر ويطرح ثوب
الإمارة والدرع مأجورين والسلام في تاسع عشر من ذي الحجة من السنة المذكورة صدره
عن إذن الحاج عبد القادر بن محيي الدين لطف الله به
وقد أجاب عن هذا السؤال بإشارة السلطان الفقيه العلامة أبو الحسن علي بن عبد
السلام مديدش التسولي بجواب طويل يشتمل على خمس كراريس وزيادة وهو موجود بأيدي
الناس ولأجل ما كان يصل من هذه الأمور من جانب الحاج عبد القادر كان السلطان رحمه
الله يبذل مجهوده في إمداده بالخيل والسلاح والمال وغير ذلك ثم لم يكن إلا ما
أراده الله
وفي سنة ثلاث وخمسين ومائتين وألف بعد ظهر يوم السبت العشرين من ربيع الأول منها
توفي الفقيه العلامة المتفنن المحدث أبو العباس أحمد بن الحاج المكي السدراتي
السلاوي ودفن صبيحة يوم الأحد في الجبانة التي قرب ضريح ولي الله تعالى سيدي الحاج
أحمد بن عاشر وشهد جنازته خلق كثير وأمهم الفقيه العلامة القاضي أبو عبد الله محمد
الهاشمي طوبى وللفقيه أبي العباس المذكور شرح حفيل على موطأ الإمام مالك رضي الله
عنه وهو موجود بأيدي الناس
وفي سنة أربع وخمسين بعدها وذلك صبيحة يوم الجمعة السادس والعشرين من رمضان منها
توفي الفقيه العلامة القاضي أبو عبد الله طوبى المذكور آنفا وكان رحمه الله من
قضاة العدل وأهل العلم بالنوازل والأحكام محمود السيرة ذا سكينة ووقار
____________________
وفي سنة ست وخمسين ومائتين وألف وذلك في سابع جمادى الأولى منها كمل بناء المنار
بالمسجد الأعظم من سلا وكان المنار الذي قبله قد أصابته صاعقة تداعت لها أركانه
فأمر السلطان رحمه الله بنقضه وإعادته جديدا فأعيد على هيئة متقنة أحسن مما كان
وأعظم وصير عليه بواسطة أمناء مرسى العدوتين ثلاثة آلاف مثقال وأربعمائة مثقال
وأربعة وعشرون مثقالا وست أواق وثلث الأوقية والريال الكبير يومئذ من سعر ست عشرة
أوقية وكان جل الصائر من بيت المال وأقله من مال الحبس وكان الذي يتولى النظارة
يومئذ والقيام على البناء عامل سلا الأبر الأخير السيد الحاج أحمد بن محمد بن
الهاشمي عواد
وفي سنة ثمان وخمسين ومائتين وألف توفي الفقيه العلامة المحقق البارع أبو الحسن
علي بن عبد السلام التسولي المدعو مديدش صاحب الشرح الكبير على تحفة ابن عاصم في
الأحكام وشرح الشامل وحاشية الزقاقية وغير ذلك من التآليف الحسان رحمه الله ونفعنا
به
وفي منتصف سنة تسع وخمسين ومائتين وألف غزا السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله
قبيلة زمور الشلح وكانوا قد تجاوزوا الحد في الإفساد وإخافة العباد والبلاد فأوقع
بهم وقعة شنعاء كسرت من حدهم وفلت من غربهم وكتب السلطان رحمه الله في ذلك إلى
ولده وخليفته سيدي محمد كتابا من إنشاء وزيره أبي عبد الله بن إدريس يقول فيه ما
نصه ولدنا الأرضى الأبر الأرشد سيدي محمد أصلحك الله وسلام عليك ورحمة الله تعالى
وبركاته وبعد فقد كنا أردنا الإبقاء على قبيلة زمور رحمة وإشفاقا وحملهم على
الاستقامة بالإرهاب من الشدة في بعض الأمور هداية وإرفاقا فلم يرد الله بهم خيرا
لفساد نيتهم وخبث طويتهم واتكالهم على حولهم وقوتهم فما رأوا منا لينا وسدادا إلا
ازدادوا شدة وفسادا ولا أظهرنا لهم عظة وإرشادا إلا أظهروا تطاولا وعنادا وما
أخرنا المحلة المنصورة عن الركوب إليهم إبقاء وألفا إلا ظنوا ذلك عجزا وضعفا قد
طمس الإعجاب منهم بصرا وسمعا ولم يروا أن الله قد أهلك من قبلهم من القرون من هو
أشد منهم قوة وأكثر جمعا
____________________
( إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا )
( ووضع الندا في موضع السيف بالعلى ** مضربه كوضع السيف في موضع الندا )
فلما رأينا لجاجهم في عمالهم وعدم رجوعهم عن هواهم وأنهم لم يعتبروا بجلائهم عن
بلادهم ولا بما أصابهم من الفتنة في أنفسهم وأولادهم ولم يراعوا ما نهب من زرعهم
القائم والحصيد ولا ما استخرج من مخزونهم الكثير العتيد رأينا قتالهم شرعا وجهادهم
ذبا عن الدين ودفعا فاعتمدنا على حول الله وقوته وأمرنا بالزيادة عليهم في الأخذ
والتضييق والمبالغة في النهب والتحريق وتركهم محصورين في أوعارهم ومقهورين في
أوكارهم إذ رب مطاولة أبلغ من مصاولة فتوالت عليهم الغارات وتتابعت عليهم النكبات
لا يجدون إلى الراحة سبيلا أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا ففي كل يوم تثمر
العوالي رؤوس رؤسائهم وتتخطف أيدي المنايا أهل بأسائهم وكلما رادوهم إقداما وطلبا
ازدادوا توغلا في الجبال وهربا حتى نهكتهم الحرب وضرستهم موالاة الطعن والضرب وضاع
بالحصار الكسب والمال ولحق الضرر الأولاد والعيال فجعلوا يرحلون لقبائل جوارهم
طالبين لحلفهم وجوارهم وبلغ البؤس فيهم غايته وأظهر الله فيهم آيته وهم في خلال
هذا كل حين يتشفعون ويتذللون في قبول توبتهم ويتضرعون ونحن نظهر لهم التمنع
والإباية لنبني أمرهم على أساس الجد ونجازيهم على ما ارتكبوه من خلف الوعد فلما
أنجزت القهرية فيهم وعدها وبلغت العقوبة فيهم حدها قابلنا إساءتهم بالإحسان
وراعينا فيهم وجه المساكين والنساء والصبيان فولينا عليهم منهم ثلاثة عمال ووظفنا
عليهم خمسين ألف مثقال وشرطنا عليهم تقويم مائتين من الحراك مثل قبائل الطاعة
والتزام الصلاح والخدمة جهد الاستطاعة فقاموا بذلك أحسن قيام وأعطوا المراهين في
أداء المال بعد أيام وكان أخذهم بعد تقديم الأعذار وتكرير الإنذار وعفونا عنهم عفو
غلب واقتدار ورب عقاب أنتج حسن طاعة وتوبة نصوح تداركت ما سلف من التفريط والإضاعة
وفي الناس من لا يصلح إلا مع التشديد وربك يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد
____________________
( وما عن رضى منها عطية أسلمت ** ولكنها قد قادها للهدى القهر )
( أردنا بها الإبقاء فازداد عجبها ** وأدبها التشديد والفتك والأسر )
ولو قيدوا النعمة بالشكر لأمنوا الزوال { وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما
لهم من دونه من وال } الرعد 11 والسلام في فاتح رجب الفرد الحرام عام تسعة وخمسين
ومائتين وألف اه نص الكتاب الشريف انتقاض الهدنة مع الفرنسيس وتمحيص المسلمين
بإيسلي قرب وجدة والسبب في ذلك
كانت الهدنة معقودة بين هذه الدولة الشريفة وبين جنس الفرنسيس من لدن دولة السلطان
الأعظم سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله ولما حدث الشنآن بين ترك الجزائر
والفرنسيس واستولى الفرنسيس على ثغورهم جاء أهل تلمسان إلى السلطان المولى عبد
الرحمن رحمه الله راغبين في بيعته والدخول في طاعته فقبلهم بعد التوقف والمشاورة
كما مر ولما أعرى جيش السلطان تلمسان واجتمع أهل ذلك القطر على الحاج عبد القادر
محيي الدين تحت كلمة السلطان بر به وأحسن إليه وقاوم الفرنسيس بتلك البلاد أشد
المقاومة إلا أن فائدة حربه كانت تظهر في قتل النفوس واستلاب الأموال وفائدة حرب
الفرنسيس كانت تظهر في انتقاص الأرض والاستيلاء عليها وشتان ما بينهما
ولما كانت سنة تسع وخمسين ومائتين وألف تم استيلاء الفرنسيس على جميع بلاد المغرب
الأوسط وصار الحاج عبد القادر يتنقل في أطرافها فتارة بالصحراء وتارة ببني يزناسن
وتارة بوجدة والريف وغير ذلك وربما استكثر في هذه التنقلات بمن هو من رعية السلطان
أو جنده فمد الفرنسيس يده إلى إيالة السلطان رحمه الله فشن الغارة على بني يزناسن
وعلى وجدة وأعمالها المرة بعد المرة ثم اقتحم وجدة على حين غفلة من أهلها وانتهبها
وكثر عيثه
____________________
في الحدود فكلم من جانب السلطان رحمه الله فيما ارتكبه من إيالته فتعلل بأن الهدنة
قد انتقضت بإمداد الحاج عبد القادر بالخيل والسلاح والمال المرة بعد المرة
وبمحاربة جيش السلطان المرابط على الحدود له وبمحاربة بني يزناسن له مع الحاج عبد
القادر وغير ذلك مما اعتد به وكان الحاج عبد القادر في هذه المدة قد فسدت نيته
أيضا في السلطان وفي الجهاد مع أنه ما كان لجهاده ثمرة ورام الاستقلال وأخذ في
استفساد القبائل الذين هنالك وتحقق السلطان بأمره وشرى الشر وتفاقم الأمر فعمد
السلطان رحمه الله على حرب الفرنسيس وتقدم إلى أهل الثغور بالاستعداد والحراسة
وإرهاف الحد لما عسى أن يحدث ثم عقد لابن عمه المولى المأمون بن الشريف على كتيبة
من الجند ووجهها إلى ناحية وجدة وعززه بالفقيه أبي الحسن علي بن الجناوي من أعيان
رباط الفتح فكانت لهم مناوشة مع رابطة الفرنسيس التي هنالك ثم أخذ السلطان رحمه
الله في أسباب الغزو والاستعداد التام وحشد الجنود واتخاذ الرايات والبنود
واستنفار القبائل وقال في ذلك الوزير ابن إدريس أشعارا يستنفر بها أهل المغرب
ويحضهم على الجهاد وإيقاظ العزائم له من ذلك قوله
( يا أهل مغربنا حق النفير لكم ** إلى الجهاد فما في الحق من غلط )
( فالشرك من جنبات الشرق جاوركم ** من بعد ما سلم أهل الدين بالشطط )
( فلا يغرنكم من لين جانبه ** ما عاد قبل على الإسلام بالسخط )
( فعنده من ضروب المكر ما عجزت ** عن دركه فكرة الشبان والشمط )
( فواتح المكر تبدو من خواتمه ** فعنده المكر والمكروه في نمط )
( وأنتم القصد لا تبقن في دعة ** إن السكون إلى الأعدا من السقط )
( من جاور الشر لا يعدم بوائقه ** كيف الحياة مع الحيات في سقط )
( قد يغبط الحر في عز يخلده ** وليس حي على ذل بمغتبط )
وفي هذا الشعر تضمين بيت ابن العسال وهو مشهور فاجتمع للسلطان رحمه الله في هذا
الاستنفار ثلاثون ألف فارس تزيد قليلا أو تنقص قليلا فيها
____________________
الجند وحصص القبائل في أكمل شكة وأحسن زي ولم يشهدها من الودايا سوى نفر يسير
لأنهم كانوا في زاوية الإهمال عند السلطان ثم عقد رحمه الله على هذه الجنود لولده
وخليفته سيدي محمد بن عبد الرحمن وسار حتى نزل بوادي إيسلي من أعمال وجدة وكان
الحاج عبد القادر لا زال جائلا في تلك الناحية ومعه نحو خمسمائة فارس ممن كان قد
بقي معه من أهل المغرب الأوسط لأن حاله كان قد أخذ في التراجع والانحطاط ولم تبق
له هنالك كبير فائدة بل انقلب نفعه ضررا وحزمه خورا بفساد نيته واستفساده لجند
السلطان ورعيته ولما احتل الخليفة سيدي محمد بإيسلي وعسكر به جاءه الحاج عبد
القادر يستأذن عليه في الاجتماع به فأذن له واجتمع به وهو على فرسه فدار بينهما
كلام كان من جملته أن قال الحاج عبد القادر إن هذه الفرش والأثاث والشارة التي
جئتم بها حتى وضعتموها بباب جيش العدو ليس من الرأي في شيء ومهما نسيتم فلا تنسوا
أن لا تلاقوا العدو إلا وأنتم متحملون منكمشون بحيث لا يبقى لكم خباء مضروب على
الأرض وإلا فإن العدو مني رأى الأخبية مضروبة لم ينته دون الوصول إليها ولو أفنى
عليها عساكره وبين كيف كان هو يقاتله وكان هذا الكلام منه صوابا إلا أنه لم ينجع
في القوم لانفساد البواطن ولا حول ولا قوة إلا بالله وربما انتهره بعض حاشية
الخليفة على التفصح بمحضره والإشارة عليه فبل استيشاره فرجع الحاج عبد القادر عوده
على بدئه وانتبذ ناحية في جيشه ولسان حاله يقول لم آمر بها ولم تسؤني ولما كانت
الليلة التي وقعت الحرب صبيحتها جاء رجلان من أعراب تلك الناحية وطلبوا الدخول على
الحاجب وهو الفقيه السيد الطيب بن اليماني المدعو بأبي عشرين فدخلا عليه وقالا إن
العدو عازم على أن يصبحكم غدا إن شاء الله فاستعدوا له وأعلموا الأمير فيقال إن
الحاجب قال إن الأمير الآن نائم ولست بالذي أوقظه ثم جاء عقب ذلك أربعة أناس آخرون
يعلمون بأمر العدو فكان سبيلهم سبيل الأولين ولما طلع الفجر وصلى الخليفة الصبح
جاء عشرة من الخيل قيل من العرب وقيل من حرس الخليفة فأعلموا بمجيء العدو وأنهم
تركوه قد أخذ
____________________
في الرحيل فأمر الخليفة رحمه الله الناس بالركوب والاستعداد وأن لا يبقى بالمحلة
إلا الرماة وكانوا دون الألف وبعث إلى بني يزناسن بالركوب فركبوا في ألوف كادت
تساوي جيش الخليفة وصارت الخيل نحو العدو مصطفة مد البصر وراياتها تخفق على هيئة
عجيبة وترتيب بديع وكان الخليفة سائرا في وسطهم ناشرا المظلة على رأسه راكبا على
فرس أبيض وعليه طيلسان أرجواني قد تميز بزيه وشارته ولما تقارب الجيشان جعلت
الفرسان تبرز من الصفوف كأنما تتعجل القتال فأمر الخليفة رحمه الله بالسكينة
والوقار والسير بسير الناس
ثم لما التقى الجمعان وانتشبت الحرب رصد العدو الخليفة وقصده بالرمي مرات عديدة
حتى سقطت بنبة أمام حامل المظلة وجمح فرسه به وكاد يسقط ولما رأى الخليفة ذلك غير
زيه بأن أسقط المظلة ودعا بفرس كميت فركبه ولبس طيلسانا آخر فاختفى حينئذ وكان
المسلمون قد أحسنوا دفاع العدو وصدموه صدمة قوية برقت لهم بها بارقة وكانت خيلهم
تنفر من صوت المدافع ولكنهم كانوا يقحمونها إقحاما وثبتوا في نحر العدو مقدار ساعة
ولما التفتوا إلى جهة الخليفة ولم يروه بسبب تغير زيه خشعت نفوسهم وقال المرجفون
إن الخليفة قد هلك فماج الناس بعضهم في بعض وتسابق الشراردة إلى المحلة فعمدوا إلى
الخباء الذي فيه المال فانتهبوه وتقاتلوا عليه وتبعهم غيرهم ممن كان الرعب قد ملك
قلبه وجعل الناس يتسللون حتى ظهر الفشل في الجيش من كل جهة فتقدم بعض الحاشية إلى
الخليفة وقال له يا مولانا إن الناس قد انهزموا وهم الآن بالمحلة يقتل بعضهم بعضا
ويسلب بعضهم بعضا فقال يا سبحان الله والتفت فرأى ما هاله من أمر الناس فرجع عوده
على بدئه وانهزم من كان قد بقي معه عن آخرهم وتبعهم العدو يرمي الكور والضوبلي من
غير فترة وثبت الله بعض الطبجية بالمحلة ولكن سال الوادي فطم على القرى ونفذ أمر
الله ولم يهزم المسلمين إلا المسلمون كما رأيت ولما استولى العدو على المحلة فر
النهاب الذين كانوا
____________________
بها وبقيت في يده بما فيها وكانت مصيبة عظيمة وفجيعة كبيرة لم تفجع الدولة الشريفة
بمثلها وكان هذا الحادث العظيم في الساعة العاشرة من النهار منتصف شعبان سنة ستين
ومائتين وألف ولما رجع المنهزمة تفرقوا شذر مذر وأهلك الناس العطش والجوع والتعب
حتى كان نساء عرب آنكاد يستلبنهم كيف شئن وانتهى الخليفة إلى تازا فأقام بها أربعة
أيام ريثما اجتمع إليه الرماة وضعاف الجيش ثم قدم فاسا وكان السلطان رحمه الله
قادما من مراكش إلى فاس فاتصل به خبر الوقعة وهو برباط الفتح فنهض إلى فاس مجدا
واتصل به في أثناء طريقه خبر وقعتين اثنتين أخريين وهما هجوم الفرنسيس على طنجة
والصويرة ورميه إياهما بألوف من الكور والبنب ووقع بالصويرة حادث عظيم بسبب
الغوغاء الذين بالبلد والشياظمة المجاورين لهم فإنهم لما رأوا العدو دخل الجزيرة
ظنوا أنه سيدخل البلد فمدوا أيديهم للنهب وكان ذلك أولا في اليهود ثم عم غيرهم
وكان ما كان مما لست أذكره فكان هذا مما زاد غيظ السلطان وكمده فعمد إلى جماعة من
قواد الجيش وحلق لحاهم تأديبا لهم
وذكر منويل هذه الوقعة فزعم أن عساكر الفرنسيس كانت يومئذ عشرة آلاف وإنه كان غرضه
محاربة الذين كانوا يحاربونه على أطراف البلاد حتى لقد أعطى خط يده للنجليز أنه
إذا حارب وغلب لا يتملك من أرض المغرب شيئا قال فلذلك لما وقعت الهزيمة بعث بإثرها
رسله يطلب الصلح مع أن السلطان المولى عبد الرحمن لم يظهر عجزا ولا فل ذلك من غربه
بل استأنف الجد وشرع في جمع العدد اه كلامه
ثم إن السلطان رحمه الله هادن الفرنسيس على يد الفقيه أبي سلهام بن علي آزطوط عامل
طنجة والعرائش على شروط ثمانية من جملتها نفي الحاج عبد القادر من تلك البلاد لما
في بقائه هنالك من آثاره الفتنة بين الدولتين بلا فائدة ودعت المصلحة الوقتية
السلطان رحمه الله إلى أن أسقط عن جنس
____________________
الدينمرك وجنس السويد ما كانا يؤديانه إلى الدولة العلية كل سنة فالأول خمسة
وعشرون ألف ريال والثاني عشرون ألف ريال وكذلك أسقط عن غيرهم وظائف أخر والأمور
كلها بيد الله { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } الأنبياء 23
وفي سنة إحدى وستين ومائتين وألف أخذت السكة في الارتفاع وكان الريال الكبير ذو
المدفع بست عشرة أوقية والريال الصغير الإفرنك بخمس عشرة أوقية والبندقي بثلاثين
أوقية والدرهم الصغير بأربع موزونات والكبير بست موزونات ولما أخذت السكة في
الارتفاع أخذت الأسعار في الارتفاع أيضا وحاول السلطان رحمه الله حصرها فلم تنحصر
وعلة ذلك والله أعلم أنه لما وقع مع الفرنسيس هذا الصلح وأسقط السلطان عن الأجناس
ما كانت تؤديه كثر خطارهم وتجارهم بمراسي المغرب وازدادت مخالطتهم وممازجتهم لأهله
وكثرت تجارتهم في السلع التي كانوا ممنوعين منها وانفتح لهم باب كان مسدودا عليهم
من قبل فظهر أثر ذلك في السكة وفي السلع أما السكة فلأن سكتهم كانت هي الغالبة وهي
أكثر روجانا من سكة المغرب فلا بد أن يكون الحكم والتأثير لها والتجار يعتبرون
فيها من الفضول والأرباح الناشئة عن تغاير القطرين ما لا يهتدي إليه غيرهم من
العامة وتبعهم على ذلك تجار المسلمين وأما السلع فلأن تجار النصاري يغالون في
أثمانها أكثر من غيرهم كما هو مشاهد ثم ما دامت بلاد الفرنج مترقية في التمدن وحسن
الترتيب واتساع الأمن والعدل إلا وسككنا وأسعارنا دائمة الترقي في الغلاء على نسبة
كثرة المخالطة واتساع مادة البيع والشراء فتأمله والله الموفق
وفي هذه السنة ثار أهل رباط الفتح على عاملهم الحاج محمد بن الحاج محمد السوسي
وكان السبب في ذلك أن الحاج محمد بن الحاج الطاهر الزبدي من أهل الوجاهة بالرباط
ومتبوع العقب فيها وكان كثيرا ما يجالس
____________________
العامل المذكور ويدلي عنده بالصداقة والمودة فيقال إنه تشفع عنده في بعض أهل البلد
فرد شفاعته فغضب الزبدي وعظم عليه ذلك وكان أهل البلد قد سئموا ملكة السوسي ومرضوا
في طاعته لأسباب تعدها الرعية على العمال فجاء الزبدي إلى منزله وجمع جماعة من
أعيان البلد ممن يعلم انحرافهم عن العامل المذكور وأطعمهم وأطلعهم على خبيئة صدره
في أمر العامل فوجدهم إليه سراعا فتحالفوا وتعاهدوا على أن لا يبقى متوليا عليهم
بحال ثم مشوا إليه وأنذروه وتقدموا إليه بأن يلزم بيته ثم أجمع رأيهم على تقديم
الزبدي مكانه فقدموه وضبط أمر البلد واتصل الخبر بالسلطان رحمه الله وهو بفاس فقام
وقعد وكتب إليهم بالوعظ والتقريع فصموا عن سماعه وتمادوا على شأنهم ثم بعث إليهم
القائد الطيب الوديني البخاري يتولى عليهم ويقبض على أهل الفساد منهم فأفحشوا عليه
وطردوه من البلد مع العشي فعبر إلى سلا في مطر غزير ورجع إلى السلطان فأعلمه الخبر
فاحتال السلطان رحمه الله بأن بعث الفقيه الكاتب أبا عبد الله محمد العربي بن
المختار الجامعي فقدم رباط الفتح وجمع أعيانها وخيرهم فيمن يتولى عليهم فاختاروا
الزبدي فولاه السلطان عليهم وحمدوا سيرته وبعد نحو ستة أشهر قدم السلطان رباط
الفتح وتريث بها مدة حتى نقر عن رؤوس الفتنة فقبض عليهم وعلى قائدهم الزبدي وبعث
بهم إلى فاس فسجنوا بها ثم سرحوا بعد حين
وفي سنة اثنتين وستين ومائتين وألف نهض السلطان من فاس ونهض الخليفة سيدي محمد من
مراكش والتقيا بمشرع أبي الأعوان من دكالة وعيدا هنالك عيد المولد الكريم ثم سار
السلطان إلى مراكش وانحدر الخليفة إلى فاس وفي هذا العيد بعث أبو عبد الله أكنسوس
إلى السلطان بالقصيدة
وفي سنة ثلاث وستين ومائتين وألف تم بناء البرج الكبير بسلا المعروف بالصقالة
الجديدة وكان السلطان رحمه الله شرع في بنائه زمان انتقاض الصلح مع الفرنسيس وتم في
هذه المدة على أكمل الأحوال وأحسنها
____________________
بقية أخبار الحاج عبد القادر
وانقراض أمره وما آل إليه حاله
قد قدمنا ما كان من فساد نية الحاج عبد القادر وأنه رام الاستبداد بل والتملك على
المغرب فلما كانت الهزيمة بإيسلي ازداد طمعه فصار يدعو أهل النواحي إلى مبايعته
والدخول في طاعته وكاتب الخواص من أهل فاس والدولة وكاتبوه على ما قيل ثم احتال
بأن بعث جماعة وافرة من الحشم وبني عامر شيعته إلى السلطان قدمهم أمامه في صورة
هراب مستجيرين بالسلطان فقبلهم السلطان وأنزلهم على نهر سبو ثم تقدم الحاج عبد
القادر حتى وصل إلى القعدة الحمراء بين التسول والبرانس وكان قصده أن يجتمع بشيعته
ويصل يدهم بيده ويتم له ما أراد فلما أطلع السلطان على دسيسته بعث إلى أولئك
الجماعة عسكرا من الشراردة عليهم القائد إبراهيم بن أحمد الأكحل فاجتاحوهم بعد جهد
جهيد وقتال شديد من ذلك أنهم اعتصموا بربوة وجعلوا يقاتلون على حريمهم وكانوا رماة
لا تسقط لهم رصاصة في الأرض فكانوا كلما توجهت إليهم طائفة من الجيش استأصلوها
بالرصاص وكانوا يجمعون موتاهم وينصبونهم أشبارا يتترسون به ويقاتلون من خلفه ولما
أعيا الجيش أمرهم حملوا عليهم حملة واحدة حتى خالطوهم في معتصمهم وجالدوهم بالسيوف
وطاعنوهم بالرماح والتوافل وانقطع البارود فكانوا يقتلون أبناءهم ونساءهم بأيديهم
فرارا من السبي والعار ثم جعلوا يقتلون أنفسهم حين تحققوا أنهم في قبضة الأسار
وبعد هذا وجه السلطان ولده سيدي محمدا لحسم دائه في جيش كثيف وكان رئيس الجيش
وكبيره بعد الخليفة القائد محمد بن عبد الكريم الشرقي المدعو أبا محمد وكان له ذكر
في الشجاعة والرأي ولما وصل الخليفة إلى سلوان بعث إليه الحاج عبد القادر جماعة
فيهم وزيره أبو عبد الله البوحميدي يتنصل مما رمي به وأنه لا زال على الطاعة
والخدمة للسلطان وقدموا إلى الخليفة هدية ثم وقع الاتفاق على أن يقدموا على
السلطان رحمه الله فينهوا إليه الأمر والعمل على ما قال
____________________
فوجه معهم الخليفة من يصحبهم إلى أبيه بفاس وفي أثناء ذلك عمد الحاج عبد القادر
ذات ليلة إلى طائفة من جنده نحو الخمس عشرة مائة على ما قيل كلهم بطل مجرب انتقاهم
انتقاء وكان جيش الخليفة منقسما قسمين بعضه معه وبعضه مع أخيه المولى أحمد فضمد
الحاج عبد القادر إليهما
( في ليلة من جمادى ذات أندية ** لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا )
بتلك العصبة الذين هم فتيان الكريهة ومساعير الهيجاء وجمرات الحرب كالما شهد بهم
الوقائع وخاض غمرات الموت مع الفرنسيس وغيره فلم يقف بهم إلا بين المجلتين وأطلقوا
الرصاص مثل المطر وأرسلوا حراقيات على الجمال وتهاويل مفزعة فماج الناس في ذلك
الظلام الغاسق ونزل بهم من الهول ما يقصر اللسان عن وصفه وقام الخليفة فجعل يسكن
الناس بنفسه ويمنعهم من الركوب خوف الفرار وأمر العسكر والطبجية بالرمي بالكور
والضوبلي فكانوا يرمون إلى جهة محلة المولى أحمد ظنا منهم أن العدو لا زال مقابلهم
ومحلة المولى أحمد يرمون إلى جهتهم كذلك فهلك من المحلتين بسبب ذلك بشر كثير وأما
الحاج عبد القادر فإنه فر في أصحابه بعد أن حملوا الكثير من موتاهم معهم وكان
للقائد محمد في تلك الليلة ذكر ولما أصبح الناس وتفقدوا حالهم وجدوا فيهم من
الجرحى نحو الألف ومن القتلى ما يقرب ذلك وأصبح حول المحلة من قتلى أصحاب الحاج
عبد القادر الذين أجهضهم القتال عن حملهم نحو الخمسين وأسروا نفرا أحياء فشاهدوا
من طمأنينتهم عند القتل ما قضوا منه العجب ووجدوا عليهم كسى رفيعة مطرزة بالصقلى
والحرير ونحو ذلك فلقد كان للرجل اعتناء بالجيش كما نرى ثم إن الخليفة رحمه الله
أمر باتباع الحاج عبد القادر فتبعته الكتائب المختارة فكان اللقاء ثانيا بمشرع الرحائل
من وادي ملوية قرب البحر عند مسقط ملوية في البحر فصدمته الجيوش صدمة أخرى فنى
فيها كماته وكسرت شوكته وفل حده وخشعت نفسه وأيس من جبر حاله ففر إلى الفرنسيس
ولجأ إليه وترك محلته بما فيها فاستولى جيش الخليفة عليها
____________________
حكى من حضر أن الخيل كان يطردون الجماعة من أصحاب الحاج عبد القادر وهم راجلون
ليأسروهم فما كانوا يدركونهم إلا بعد المسافة البعيدة جدا والحاصل أن مقام هذا
الرجل في الشجاعة معروف وبصارته بمكائد الحرب معلومة لولا ما ذكرناه من انعكاس
حاله ورومه الاستبداد وخلعه طاعة الإمام الحق الذي كانت بيعته في عنقه
واعلم أنه قد يقف بعض المنتقدين على ما حكيناه من أخبار هذا الرجل فينسبنا إلى
تعصب وسوء أدب والجواب أنا ما حكينا إلا الواقع وأيضا فلقد قال لسان الدين ابن
الخطيب رحمه الله حضرت يوما بين يدي السلطان أبي عنان في بعض وفاداتي عليه لغرض
الرسالة وجرى ذكر بعض أعدائه فقلت ما أعتقد في إطراء ذلك العدو وما عرفته من فضله
فأنكر علي بعض الحاضرين ممن لا يحطب إلا في حبل السلطان فصرفت وجهي وقلت أيدكم
الله تحقير عدو السلطان بين يديه ليس من السياسة في شيء بل غير ذلك أحق وأولى فإن
كان السلطان قد غلب عدوه كان قد غلب غير حقير وهو الأولى بفخره وجلالة قدره وإن
غلبه العدو لم يغلبه حقير فيكون أشد للحسرة وآكد للفضيحة فوافق رحمه الله على ذلك
واستحسنه وشكر عليه وخجل المعترض اه
ولما كان هذا الفتح كتب السلطان إلى البلاد وزينت الأسواق وأعلمت المفرحات ونص ما
كتب به السلطان بعد الافتتاح وبعد فإن الفاسد الفتان وخليفة الشيطان أبعد في
الجسارة وامتطى مطي الخسارة واستوسع سبيل العناد واستضل سبيل الرشاد وقال من أشد
منه قوة وسولت له نفسه الأمارة الاتصاف بالإمارة وأراد شق عصا الإسلام وصدع مهج
الأنام فأعلن بكل قبيح واستشكل كل صريح واستبطن المكر والخداع وفاق فيه عابدي ود
وسواع وشاع في طرف الإيالة ضرره وساء مخبره وهو في خلال ذلك يظهر مظاهر يستهوي بها
أهل الجهالة والعماية والضلالة فأيسنا من رشده وعرفنا مضمر قصده فجهزنا له محلة
منصورة ذات أعلام منشورة جعلنا في وسطها ولدنا الأبر سيدي محمد أصلحه الله وأسندنا
إليه
____________________
أمرها وقلدناه تدبيرها وعهدنا إليه أن يسعى في حقن الدماء جهد الإمكان ويحتال على
إقامة أود هذا الفتان وأن يعالج داءه بكل دواء وأن لا يتبع فيه الأغراض والأهواء
وأن يجعل القتال آخر عمله وعدمه غاية أمله فلما رأى عدو نفسه إحاطة الجيوش به وجه
وفدا من قبله يدعي التوبة فيما مضى والكون على وفق المقتضى فأجبناهم بأن أحب
الحديث إلى الله أصدقه إن صاحبكم هذا إن أراد الخير لنفسه واحتاط لدينه وعمل لرمسه
يختار أحد أمرين أما أن يدخل لإيالتنا هو ومن معه آمنين على أنفسهم ومالهم لهم وما
لنا وعليهم ما علينا أو يصحر فطلبوا منا الإمهال حتى يوجهوا بعضهم يخبرونه
بالملاقاة ويستدركون الأمر قبل الفوات فأجبناهم إلى ذلك فما وصلوا حتى ضرب على
المحلة ليلا فرده الله بالخيبة وأشوه أوبة وترك قتلاه صرعى بعد ما حمل منهم عددا
وجعل يدفن منهم في قفوله ويخفي ما حل به في أفوله فتقدمت إليه المحلة الغالبة
بالله وقاتلته قتالا أذاقته فيه الوبال والخبال فكانت الكرة عليه فأجفل إجفال
النعام واستدبر المعركة وهام ومات من خاصته ورؤسائه وأهل شدته وذوي بأسائه عدد
معتبر ومن هو أدهى وأمر وعادت جموعه جمع تكسير وجيوشه موزعة بين قتيل وأسير وسخر
بهم بعد أن كانوا ساخرين وغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ومن الله أستمد التوفيق
والهداية إلى أرشد طريق والسلام في الثاني والعشرين من محرم الحرام فاتح سنة أربع
وستين ومائتين وألف اه نص الكتاب الشريف وأما الحاج عبد القادر فإنه فر إلى
الفرنسيس كما قلنا فبقي عنده مدة
قال صاحب قطف الزهور ما صورته لما فر الحاج عبد القادر إلى الفرنسيس بقي عندهم ست
سنين ثم أعتقه نابليون الثالث وعين له مرتبا سنويا يدفع إليه من بيت مال الدولة
فسكن دمشق الشام ولم يزل قاطنا بها إلى هذا اليوم اه قلت وهو الآن في قيد الحياة
حسبما يبلغنا والله تعالى يتولى أمر المسلمين ويتداركهم بلطفه وفضله آمين
____________________
قال أبو عبد الله أكنسوس وفي ضحى يوم الإثنين الرابع من المحرم فاتح سنة أربع
وستين ومائتين وألف توفي الوزير الأعظم الفقيه الأجل الأكرم إمام عملة اليراع
ومقدم حملة ذلك الشراع مقلد الدولة بقلائد النثار والنظام في المواقف العظام
والمزري ببدائعه وأوابده وروائعه ببديع الزمان والفتح بن خاقان أبو عبد الله محمد
بن إدريس جدد الله عليه ملابس الرضا كلما لاح نجم وأضا فولى السلطان مكانه الفقيه
النجيب ذا الأخلاق العاطرة والأنامل الواكفة الماطرة والرأي الأصيل والأمر المحبوك
والباطن الصافي الذي يحاكيه الذهب المسبوك أبو عبد الله محمد العربي بن المختار
الجامعي ثم لما قدم السلطان رحمه الله لحضرة مراكش آخر قدمة قدمها سنة سبعين
ومائتين وألف عزله وولى مكانه الفقيه الكاتب اليحيى النزيه أبا عبد الله محمد بن
عبد الله الصفار التطاوني
وفي أوائل رمضان من هذه السنة أعني سنة أربع وستين ومائتين وألف خرج السلطان رحمه
الله من فاس إلى ناحية وجدة فوصل إلى عين زورة فوقف على تلك النواحي وأصلح من
شأنها وعاد إلى فاس ليلة عيد الأضحى من السنة
وفي سنة خمس وستين ومائتين وألف كانت فتنة عرب عامر بأحواز سلا وفتنة عرب زعير
بأحواز رباط الفتح وكلب هاتان القبيلتان على المدينتين وألحوا عليهما بالغارات
والنهب والمبالغة في العيث والإفساد بالطرقات والجنات واستافوا السرح مرارا وبقي
النتاج عند أربابه حتى هلك ضياعا إلى غير ذلك ولما تجاوزوا الحد في الطغيان بعث
السلطان وصيفه الباشا فرجى صاحب فاس الجديد فأوقع بعامر وقعة شنعاء رابع يوم النحر
من السنة ومزقهم شذر مذر بعد أن تحصنوا بالغراك فيما بين سلا والمهدية
وفي هذه السنة حج ولد السلطان المولى الرشيد والمولى سليمان واعتنى بشأنهما صاحب
مصر وصاحب الحجاز غاية ورجعا من السنة القابلة وفي هذه السنة ظهر الكوكب ذو الذنب
كان يطلع في ناحية المغرب ويغرب بعد
____________________
العشاء مدة من شهر ونحوه ففزع الناس من ذلك وتخوفوه كما قال أبو تمام
( وخوفوا الناس من دهياء مظلمة ** إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب )
وفي سنة ست وستين ومائتين وألف أحدث السلطان المكس بفاس وغيرها من الأمصار أحدثه
أولا في الجلد على يد المصطفى الدكالي بن الجيلاني الرباطي والمكي القباج الفاسي
ثم أحدثه في البهائم ثم تفاحش أمره في دولة ابنه السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن
رحمه الله وهلم جرا
وفي هذه السنة وذلك ليلة السادس والعشرين من رمضان توفي ولي الله أبو عبد الله
سيدي عبد القادر العلمي البركة الشهير صاحب الأزجال الملحونة وكانت وفاته بمكناسة
الزيتون ودفن بحومة سيدي أبي الطيب وعليه بناء حفيل إلى الغاية رحمه الله ورضي عنه
وفي هذه السنة بعث السلطان ولده المولى عبد القادر وهو ابن اثنتي عشرة سنة إلى سلا
بقصد القراءة بها فنزل بدار قاضيها أبي عبد الله محمد بن حسون عواد وكتب إليه
السلطان رحمه الله بأن يعود الولد المذكور الخشن من المطعم والملبس وأن لا يمكنه
من شرب الأتاي إلا مرة أو مرتين في الجمعة وفي هذه السنة أيضا كان الغلاء الكبير
والجوع المفرط وكان أكثره بقبائل الحوز من ابن مسكين وعبدة ودكالة وغيرهم فأهرعت هذه
القبائل إلى بلاد الغرب والفحص وأكلت الناس الجيف والميتة والنبات وصار يعرف عند
أهل البادية بعام الخبيزي وعام يرني وكان الرجل يأكل ولا يشبع وإذا أمعن في الأكل
وتضلع شبعا لم تمض إلا هنيهة حتى تضطرم أحشاؤه جوعا وكان المد بسلا ورباط الفتح
وهو مد كبير جدا قد بلغ ثمانية عشر مثقالا فجعله العامة تاريخا يقولون كان ذلك عام
ثمانية عشر مثقالا
وفي سنة سبع وستين ومائتين وألف وذلك ليلة الأربعاء الثالث والعشرين من ربيع
الثاني منها توفي الفقيه العلامة القاضي بسلا أبو عبد الله محمد بن حسون عواد ودفن
بزاوية الشيخ سيدي أحمد بن عبد القادر التستاوتي من
____________________
حومة باب أحسين من المدينة المذكورة وكان رحمه الله عارفا بالفقه والحديث والنحو
قد أفنى عمره في جمع الكتب ونسخها وخطه معتمد سالم من التصحيف وكانت فيه شفقة على
الضعفاء والأشراف وذوي البيوتات كثير البرور بهم والإحسان إليهم رحمه الله وفي يوم
الأربعاء فاتح هذه السنة توفي الشريف البركة الأفضل أبو عبد الله سيدي الحاج
العربي بن علي الوزاني وكان جليل القدر شهير الذكر نفعنا الله به وبأسلافه
وفي سنة ثمان وستين ومائتين وألف هجم الفرنسيس على ثغر سلا وذلك بسبب مركبين وردا
إلى مرسى العدوتين مملوءين قمحا وكانت السنة سنة مسغبة فنشب المركبان بساحل سلا
فتسارعت العامة إليهما وانتهبوهما ثم تجاوزوا ذلك إلى ألواح المركبين وآلتهما
فتوزعوها وكان المركبان لتجار الفرنسيس فتكلموا في شأنهما مع السلطان رحمه الله
فكتب إلى عامل سلا أبي عبد الله محمد بن عبد الهادي زنيبر يستكشفه عن الخبر فجحد
ذلك ظنا منه أنه يدفع بذلك عن البلد ولما لم يحصل الفرنسيس بالكلام مع السلطان على
طائل هجم على سلا يوم الثلاثاء مهل صفر من السنة المذكورة في خمسة بابورات وقاباق
كبير ويقال له النابيوس يشتمل على نحو ستين مدفعا أو أكثر ومن الغد زحف بمراكبه
حتى سامت بها البلد في الساعة العاشرة من النهار وشرع في رمي الكور والبنب إلا
واحدا منها فإنه تباعد قليلا وبقي ينظر قيل هو للنجليز وكان ترادف الكور والبنب
على البلد على صورة فظيعة مثل الرعد القاصف تكاد تنهد له الجبال وكان في أول
النهار لا يفتر وبعد الزوال صار تتخلله فترات يسيرة واستمر الحال على ذلك إلى أن
غربت الشمس ومضى نحو نصف ساعة وكانت مدة الرمي ثماني ساعات ونصفا وبذل الناس
مجهودهم في مقابلتهم بالرمي وفي آخر النهار عجز الناس وبقي يرمي وحده واستشهد من
المسلمين نحو سبعة أنفس وكان الكور والبنب الذي رمى به العدو في ذلك اليوم شيئا
كثيرا فالمقلل يقول سبعة آلاف والمكثر يقول اثنا عشر ألفا وكان البنب يتفرقع بعد
مدة وقتل أناسا ووقع في المسجد الأعظم ومناره كور كثير خرق
____________________
السقوف والحيطان وكذا في دور أهل البلد فأنعم السلطان على الناس بإصلاحها من بيت
المال
وقد ساق منويل خبر هذه القصة وقال إنه لما انقضى للفرنسيس الزاد يعني الكور
والبارود أقلع ليلا لأنه خاف إن لم يذهب طوعا ذهب كرها ولما اتصل الخبر بالسلطان
رحمه الله وهو يومئذ بفاس كتب كتابا يقول فيه ما نصه الحمد لله وحده وصلى الله على
سيدنا محمد وآله وصحبه عبد الرحمن بن هشام الله وليه خديمنا الأرضى الطالب محمد بن
عبد الهادي زنيبر وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد فقد وصلنا
كتابك مخبرا بما صدر من مراكب عدو الله الفرنسيس من استرسال الرمي على المدينة من
ضحى النهار إلى قرب العشاء ثم أقلعوا بالخيبة والهوان وردهم الله بغيظهم لم ينالوا
خيرا ومنح الله المسلمين من الصبر والثبات واليقين ماقرت به عين الدين وكان قذا في
عين أهل الشرك المعتدين واستشهد من المجاهدين من ختم الله له بالسعادة الأبدية
والحياة السرمدية فالحمد لله على إعزاز دينه ونصر ملة نبيه ولا زالت والحمد لله
مشكاة الإسلام ساطعة الأنوار مشيدة المنار { والله متم نوره ولو كره الكافرون }
الصف 8 ولا يخفى عليكم ما ورد من اآيات القرآنية والأحاديث النبوية في فضل الجهاد
في سبيل الله والصبر لإعلاء كلمة الله وقد قمتم بالواجب عليكم في ذلك وكنتم عن
الظن بكم وأتيتم بالمطلوب منكم أصلحكم الله ورضي عنكم ومن قتل فقد أكرمه الله
بالنعيم الذي لا نفاد له وكل ما تلف يخلفه الله فما كان في الله تلفه فعليه سبحانه
خلفه فزيدوا في التيقظ والصبر أعانكم الله وقد أمرنا خدامنا أمناء العدوتين بتوجبه
معلمين للغابة لقطع الكراريط وكتبنا لخديمنا ابن الحفيان بإنزال خيام بقربهم يأوون
إليها حسبما طلبت ولا تعدمون شيئا مما يخصكم إن شاء الله وما ذكرت من اجتماع أهل
المدينة عندك مع القاضي والأمين راغبين في الكتب لحضرتنا العلية بالإنعام عليهم
بما يصلحون به صقالتهم ومساجدهم ودورهم وأسوارهم فها نحن كتبنا لأمناء العدوتين
بالقدوم عليكم والتطواف على المحال المتهدمة دور
____________________
وغيرها بمحضرك مع القاضي والعدول وتقويم إصلاح كل محل بالمناسب وأما الجامع الكبير
وسيدي ابن عاشر فييسرون لهما الإقامة وعن تيسيرها يشرعون في إصلاحهما وأما الصقالة
الجديدة والسور فيشرعون الآن في إصلاحهما إصلاحا متقنا بالطابية الجيدة التي لا
يؤثر الكور فيها شيئا ويجعلون لها ساترا على كيفية بحيث يكون الضارب في أمان ولا
تتراخوا في ذلك ونحن على نية إحداث بستيون جيد إن شاء الله عند منتهى السور من جهة
الصقالة الجديدة فالعزم العزم والحزم الحزم ويصلك كتاب اقرأه على خداما أهل سلا
والسلام في ثامن صفر عام ثمانية وستين ومائتين وألف انتهى نص الكتاب الشريف وقد
أحدث السلطان رحمه الله هذا البستيون فجاء في غاية الجودة والمتانة والحسن وهو أثر
من آثار الدول العظام
وفي هذه السنة ورد كتاب من السلطان في شأن حصر السكة يقول فيه ما نصه وبعد فقد
طالما حاولنا حصر الزيادة في السكة وحذرنا وأنذرنا وأوعدنا من تعدى فيها حدا أو مد
فيها بغير ما عينا يدا فلم يزد الناس إلا تطاولا فيها وإقداما عليها فاستخرنا الله
في أمرها فظهر لنا أن نزيد فيها ما تواطأ الناس على زيادته ولم يرجعوا عنه تتميما
للأعذار وتكميلا للإنذار فمن وقف عند ما حددنا ولم يحد عما أبرمنا فقد اختار سلامة
نفسه وماله ومن تعدى وافتات في ذلك بأدنى شيء فقد سعى في هلاك نفسه ويناله من
الوبال والنكال ما يتركه عبرة لمن اعتبر وتذكرة لم تذكر وقد أعذر من أنذر وها نحن
جعلنا للبندقي أربعين أوقية وللضبلون اثنين وثلاثين مثقالا وللريال ذي المدفع
عشرين أوقية وللذي لا مدفع فيه تسع عشرة أوقية وللبسيطة التي بالمدفع خمس أواق
وللتي لا مدفع فيها أربع أواق وللدرهم الرباعي أربع موزونات ونصف موزونة وللدرهم
السداسي سبع موزونات فعلى هذا العمل فأعلموا به من إلى نظركم وفي إيالتكم ومروهم
بالوقوف عنده ومن حاد عنه وشممتم عليه رائحة الخوض والتعدي فيه ازجروه زجرا شديدا
وأعلمونا والسلام في رابع عشر ربيع الثاني عام ثمانية وستين ومائتين وألف
____________________
وفي سنة تسع وستين ومائتين وألف غزا السلطان رحمه الله قبيلة زمور الثلج وكان
بمكناسة فكتب أولا لابنه وخليفته سيدي محمد بمراكش فنهض منها ومر على تادلا فأوقع
ببني موسى وقطع منهم أربعة وستين رأسا وقبض على مائة وخمسين مسجونا وكانوا قد
قتلوا عاملهم أبا العباس أحمد بن زيدوح ثم دخل الخليفة رباط الفتح يوم الاثنين
الحادي عشر من شوال من السنة المذكورة فأقام به إلى يوم السبت السادس عشر منه ثم
عبر الوادي ونزل بقرميم من أعمال سلا ثم سار من الغد وبات بسيدي علال البحراوي
فأقام هنالك يومين ثم رحل فنزل بتيفلت وأقام أياما ثم تقدم إلى دار ابن الغازي
وكان السلطان رحمه الله قد خرج من مكناسة فنزل الخمسينات وشن الغارات على زمور
فتوغلوا في الجبال فانتسف السلطان أموالهم وأكل زروعهم حتى أشجاهم ثم ارتحل عنهم
إلى مراكش وارتحل الخليفة إلى فاس وذلك في السادس والعشرين من ذي القعدة من السنة
ومن هذا التاريخ صار السلطان والخليفة رحمهما الله يغزوانهم كل سنة ويجتمعان عليهم
فتنتسف الجنود زروعهم وأموالهم حتى أضر بهم الحال وأشرفوا على الهلاك وكادت تعدم
عندهم الأقوات وأذعنوا إلى الطاعة طوعا وكرها ولما نهض السلطان عنهم في هذه المرة
كتب كتابا يقول فيه وبعد فإن فساد زمور يعرفه الخاص والعام والجمهور أشد سوادا من
الليل وأقوى مضاهاة بالسيل وطالما ذكرناهم ووعظناهم وحذرناهم وأنذرناهم وغضضنا
الطرف عنهم مقابلين شدتهم باللين وتحريكهم بالتسكين فأطغاهم العجب وأبطرهم وغطى
الشر سمعهم وبصرهم { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا } المائدة 41
ولما رأينا ضلالهم لم يسفر عنه صبح الإقلاع وشعائر الإسلام استولت عليها يد الضياع
استنهضنا إليهم الجيوش المنصورة التي لم تزل ألوية الفتح أمامها بحول الله منشورة
واستقدمنا ولدنا الأبر سيدي محمدا حفظه الله من مراكش في جيش يقدمه اليمن والإقبال
ويسوقه السعد في المقام والترحال ونهضنا نحن من مكناسة الزيتون في جيش شحن الفضاء
وملأ النواحي والأرجاء خيلا ورجالا خفافا وثقالا وكنا فيما تقدم
____________________
نحارب هؤلاء المفسدين في المحل المشهور بالخميسات فكانت المحال لا تستوعبهم قتلا
ونهبا وتشريدا وضربا فرأينا هذه المرة أن ننزل عليهم أولا بعين العرمة محل أفسدهم
على الإطلاق والشمول والاستغراق فخيمنا بها أياما ثم رحلنا منها ونزلنا بمحصى ثم
رحلنا منه ونزلنا الخميسات وفي خلال مقامنا ورحيلنا حل ولدنا سيدي محمد حفظه الله
من الرباط ونزل بتيفلت محل المفسدين ومحط رحال البغاة المعتدين وتقاربت المحلتان
فعظمت على المفسدين بذلك النكاية وبلغت فيهم الحد والنهاية واشتغلت المحال بأكل
زروعهم وتبديدها واستخراج خباياهم قديمها وجديدها وهم حيارى ينظرون وإلى ما حل بهم
من البلاء يبصرون وكلما عزموا على المدافعة رجعوا بالهوان وتخطفت رؤوس زعمائهم
العقبان فعجزوا إذا وخرجوا من بلادهم وأيقنوا أن الشقاء المكتوب عليهم حكم بطردهم
وبعادهم ولم يبق بها أنيس إلا اليعافير والا العيس وتحصنوا بأوعارهم المعلومة
وصياصيهم المشؤومة في جبال تنقبت بالغيوم وكادت تصافح النجوم فضاق بهم الحال وهلك
العيال وضاعت الأموال جوعا وعطشا وتصرف فيهم البلاء كيف شاء ومع تحصنهم بتلك
الأوعار وملتف تلك الأشجار كانت الجيوش تود أن تقتحمها عليهم وتهب نفيس أعمارها في
أخذهم ونحن قد هبنا الرفق الذي يزين وتركنا الخرق الذي يشين فأمرنا بالإمساك عنهم
حتى تلفظهم أوعارهم وتحرقهم نارهم فلما طال بهم الأمد وتجرعوا حمى الكمد استجاروا
بولدنا سيدي محمد حفظه الله فشفع عندنا فيهم فقبلنا شفاعته على شروط قبلوها وحقوق
التزموها ومثالب نبذوها وجنحنا إلى الحلم والعفو اللذين أمر الله بهما وأسندنا
أمرهم إلى ولدنا المذكور قطعا لأعذارهم ونهضنا عنهم والحمد لله محتسبين والله أسال
توفيق المسلمين أجمعين آمين في السادس والعشرين من ذي القعدة الحرام عام تسعة
وستين ومائتين وألف اه نص الكتاب الشريف
وفي هذه السنة ظهر الكوكب ذو الذنب أيضا وفي أوائلها استوزر السلطان رحمه الله
الفقيه العلامة الأفضل أبا عبد الله محمد بن عبد الله
____________________
الصفار التطاوني عقب قدومه إلى مراكش وفيها تم بناء البستيون العظيم بسلا الموضوع
بالزاوية الشمالية منها على شاطىء البحر وكان الصائر عليه بأمر السلطان من أحباس
المسجد الأعظم برباط الفتح خمسون ألف مثقال أو ما يقرب منها وفيها أيضا وقعت نادرة
بفاس وهي أن الإمام كان يخطب يوم الجمعة بمسجد القرويين فسقط بالصف الثالث منه
قطعة من الجبص المبني به السقف تزن نحو ربع قنطار ففر الناس الذين كانوا بذلك الصف
فرآهم الذين من خلفهم ففروا لفرارهم فرآهم غيرهم ففعلوا مثلهم حتى تقوضت صفوف
المسجد كلها وخرجوا يتسابقون إلى الأبواب ووقع عليها ازدحام شديد وجاوزت مقدمتهم
سوق الشماعين وتركوا نعالهم ولبدهم وطيالسهم بل وقلانسهم وضاع من المصاحف والأجزاء
ودلائل الخيرات ما لا يحصى كل ذلك وهم لا يدرون ما وقع وما تراجعوا إلا بعد حين ثورة
إبراهيم يسمور اليزدكي بالصحراء
لما كانت أواسط إحدى وسبعين ومائتين وألف ظهر إبراهيم يسمور اليزدكي بصحراء
تافيلالت وكان السبب في ذلك أن برابرة الصحراء يومئذ كانوا حزيين حزب آيت عطة ولهم
العزة والكثرة بذلك القطر وحزب آيت يفلمان وهم دون ذلك وكانت آيت عطة تؤذي الأشراف
بتلك الناحية وتسيء جوارهم فقام إبراهيم هذا في آيت يفلمان وجنح إلى الأشراف وبالغ
في إكرامهم والإحسان إليهم وصار يأمر قومه بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويذكر
السلطان بخير ويحض قومه على طاعته حتى اشتهر بذلك القطر وكثر الثناء عليه واتفق أن
حدث في أثناء ذلك بينهم وبين آيت عطة شنآن فزحف إليهم إبراهيم وأوقع بهم وقعة بعد
العهد بمثلها فازداد قومه فيه محبة وغبطة وعلقت به آمال الأشراف وأحبوه لأن غلبة
آيت عطة يومئذ كانت من الأمر الغريب وانضم إلى ذلك بسط يده بالعطاء للبعيد والقريب
واتصل خبره بالسلطان وكان من طبعه رحمه الله محبة أهل الخير والجنوح لهم فأقبل
عليه
____________________
ورفع من قدره وولاه على تلك الناحية فاشتد أمره وطار ذكره وسرت فيه نخوة الرياسة
فأراد الاستبداد واستحال حاله إلى الفساد حتى صار يرد على السلطان أوامره ثم تدنى
قليلا قليلا من أطراف المملكة وقوي حسه بالمغرب فكتب إليه السلطان رحمه الله
الكتائب وبعث البعوث فقاتلوه برهة ثم قبض الله بعض قرابته فاغتاله واحتز رأسه وجاء
به متقربا إلى السلطان وهو يومئذ بمراكش فأمر السلطان بإعمال المفرحات واستدعى أهل
مراكش على طبقاتهم فأفاض عليهم النعم وغمرهم بالإحسان غمر الديم
نادرة كان ممن استدعاه السلطان رحمه الله في هذا الصنيع أهل المدارس من طلبة العلم
المتغربين بها فجلسوا ناحية من القوم ولما خرج الطعام من دار السلطان وفرق على
طبقات الناس اتفق تأخيره عن هؤلاء الطلبة واتفق أيضا أن سأل بعض الحاشية بعض
الأعوان القائمين على الطعام فقال له من الذي بقي بدون إطعام فقال لم يبق إلا
الطلبة والطحانون وكان كذلك فسمعه أحد الطلبة فقال لأصحابه ألا تسمعون إلى ما يقول
هذا فقالوا وما قال قال لهم قال إنه لم يبق إلا أنتم والطحانون فقد شوركتم معهم
بالعطف بالواو والله لا جلستم وقاموا مغضبين فتبعهم بعض حاشية السلطان واستعطفهم
فلم يرجعوا واتصل الخبر بالسلطان فقال دعهم فسنصلح شأنهم ومن الغد دعاهم إلى بستان
الوزير إبن إدريس داخل باب الرب من مراكش وأفاض عليهم من النعم ما غمرهم ثلاثة
أيام حتى رضوا ثم عمدوا إلى ثمار البستان فاستلبوها عن آخرها وهذه القصة تدل على
كرم طبع السلطان رحمه الله وسعة أخلاقه وتعظيمه للعلم وأهله وقد ذكرت بهذه النادرة
قول القائل
( إذا شوركت في أمر بدون ** فلا يك منك في هذا نفور )
( ففي الحيوان يجتمع اضطرارا ** أرسطاليس والكلب العقور )
وتحقيق مسألة هذا العطف مذكور في باب الفصل والوصل من علم المعاني وبستان ابن
إدريس هذا هو الذي يقول فيه أبو عبد الله أكنسوس رحمه الله
____________________
( ألمم بمغنى اليمن من ذا المجلس ** وأدر بساحته نجوم الأكؤس )
( واسعد فإن الدهر أسعد أهله ** وأحلهم فيه حلول المعرس )
( واشرب هنيء البال في جنباته ** يغنيك عن جيرون أهل المقدس )
( واصرف عن الزهراء ذكرك ساليا ** وعن الخورنق والرسوم الدرس )
( لو قلت ما نالت بدائع حسنه ** غرف البديع وحق مجدك لم تس )
( نصر تحف به المحاسن كلها ** وتحار في مرآه عين الأكيس )
( فإذا أردت إصابة الأغراض من ** كل المنى أو كل معنى أنفس )
( أرسل مهام اللفظ في أكنافه ** إن الحنايا الحدب فيه كالقس )
( لا شيء أهنى من تفيىء ظله ** المخضل أو من زهره المتنفس )
( تتمثل الأزهار في أنهاره ** مثل المجرة والنجوم النكس )
( وترى الجداول تلتوي بغصونه ** تحكي البرين عن الغواني الميس )
( طابت حسى الكاسات تحت ظلاله ** وتسابقوا اللذات نحو المحتس )
( يا منزلا قد خصصته سعادة ** واستبدلته أنعما من أبؤس )
( أصبحت مأوى للوزير محمد ** نجل الأدارسة الكرام المغرس )
( إنسان عين الكون من لبست به ** رتب العلى أبهى وأبهج ملبس )
( يا أيها البحر الذي من فيضه ** كل الأماني والغنى للمفلس )
( يهنيك ذا القصر الذي أنشأته ** بالسعد في عام انشراح الأنفس )
( قابل قدور الدوح في جنباته ** بالغيد ترفل في بهي السندس )
( ومتى شربت زلاله فامزج به ** راح المراشف من أغن ألعس )
( لا زلت تشرف من مطالع سعده ** كالبدر يظهر من خلال الحندس )
( والدهر يخدم جانبيك ويحتمي ** بجلالك العالي الأعز الأقعس )
وفي هذه السنة أعني سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف كان الوباء بالمغرب وهو إسهال
مفرط يعتري الشخص ويصحبه وجع حاد في البطن والساقين ويعقبه تشنج وبرودة واسوداد
لون فإذا تمادى بالشخص حتى جاوز أربعا وعشرين ساعة فالغالب السلامة وإلا فهو الحتف
وفي هذا الوباء مات
____________________
شيخ الطريقة أبا عبد الله سيدي محمد الحراق التطاوني وبموته أقلع الوباء من تلك
البلدة ومات به بسلا منتصف ذي القعدة من السنة مائة وعشرون نفسا وفي هذا اليوم
توفي عامل سلا أبو عبد الله محمد بن عبد الهادي زنيبر
وفي سنة اثنتين وسبعين ومائتين وألف التفت الخليفة سيدي محمد بن عبد الرحمن إلى
عرب الخلط فاستعملهم في الجندية بعد أن كانوا في عداد القبائل الغارمة من لدن
المنصور السعدي فاعتنى بهم الخليفة المذكور ونقلهم من بلاد سفيان وبني مالك وأحواز
العرائش وأنزلهم بزقوطة ووادي مكس من أعمال مكناسة وكساهم وأجرى عليهم الجرايات ثم
اختل أمرهم بعد سنتين أو ثلاث
وفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف ورد كتاب من السلطان رحمه الله يقول فيه بعد
الافتتاح ما نصه خديمنا الأرضى الطالب عبد العزيز محبوبة وفقك الله وسلام عليك
ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد فبوصول كتابنا هذا إليك عين عشرين من الولدان
النجباء لتعلم علم تاطبجيت وانظر لهم معلما ماهرا أو معلمين من طبجية البلد يعلمهم
ويشرعون في التعلم الآن فيبدؤون بمقدماته ثم يتدربون منها إلى الأخذ في تعلم رماية
المدفع والمهراس وهكذا حتى ينجبوا ويمهروا في الصنعة ويصيروا قادرين على الخدمة
ونطلب الله أن يعينهم ويفتح بصائرهم وهؤلاء العشرين يكونون زائدين على من هنالك من
الطبجية ونأمر الأمناء أن يرتبوا لهم إعانة على ذلك خمس عشرة أوقية في كل شهر
للواحد ثم من ظهرت نجابته منهم وفاق غيره فإنا نزيده في المرتب كما نأمرهم أن
يرتبوا لمعلمهم واحد أو أثنين ثلاثين أوقية للواحد في كل شهر زيادة على راتبهم
المعلوم واعتن بأمرهم غاية الاعتناء وقد كتبنا لغيركم من المراسي مثل هذا وسننظر
من تظهر ثمرته واعتناؤه والسلام في عشرين من ذي القعدة عام ثلاث وسبعين ومائتين
وألف اه نص الكتاب الشريف
____________________
وفي هذه السنة انعقدت الشروط بين السلطان وبين النجليز وهي قسمان قسم في أمور
التجارة وبيان الصاكة والأعشار وأن لا تعطى من أعيان السلع إلا إذا أراد التاجر
ذلك عن طيب نفسه وهي خمسة عشر شرطا وقسم في أمور الهدنة بشمول الأمن والاحترام
لرعيتي الجانبين في أي موضع كانوا وهي ثمانية وثلاثون شرطا وكان المباشر لعقدها
أبو عبد الله محمد الخطيب التطاوني بطنجة بعث السلطان المولى عبد الرحمن أولاده
إلى الحجاز وما اتفق لهم في ذلك
وفي سنة أربع وسبعين ومائتين وألف بعث السلطان رحمه الله أولاده إلى الحجاز بقصد
أداء فريضة الحج وهم المولى علي والمولى إبراهيم والمولى عبد الله والمولى جعفر
وابن عمهم المولى أبو بكر بن عبد الواحد بن محمد بن عبد الله وبالغ السلطان رحمه
الله في حسن تجهيزهم بما لم يتقدم مثله لإخوتهم الذين حجوا قبلهم لا من الأموال
ولا من الرجال ولا من الأدوات والمراكب الفارهة والمرافق العديدة وبعث معهم من
الأموال شيئا كثيرا لأشراف الحرمين ولخواص معينين من الفقهاء والمجاورين ووجه
أكابر التجار والأمناء العارفين بعوائد البلاد والأقاليم والأمم مثل الحاج محمد بن
الحاج أحمد الرزيني التطاوني والحاج محمد بن جنان البارودي التلمساني وبعث معهم
قاضي مكناسة الفقيه العلامة السيد المهدي بن الطالب بن سودة المري الفاسي وأخاه
الفقيه العلامة السيد أحمد بن سودة في جملة من الفقهاء يقرؤون عليهم
أخبرني الحاج عبد الكريم بن الحاج أحمد الرزيني وهو أخو الحاج محمد المذكور آنفا
أن السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله لما عزم على بعث أولاده إلى الحجاز استدعى
الأمين الحاج محمد المذكور فدخل عليه
____________________
فأوصاه بما تنبغي الوصاة به وأخبره أن المال الذي عينه للنفقة على الأولاد
المذكورين هي نفقة جمعت من حلال بعضها من أصول بتافيلالت وبعضها من غيرها مما هو
حلال وقال له احتفظ بذلك المال واجعل السخاء فيه بمنزلة الملح في الطعام اه ولما
عزم الأولاد المذكورين على الانفصال إلى وجهتهم أصحبهم السلطان رحمه الله وصية
كافية يقول فيها ما نصه الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
أولادنا عبد الله وإبراهيم وعليا وأبا بكر وجعفرا وفقنا الله وإياكم للعمل بطاعته
وحفظكم وأرشدكم وتولاكم وكان لكم في سائر أحوالكم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
وبعد فإنه لما كانت الأولاد قطع الأكباد وعماد الظهور وثمار القلوب وشفاء الصدور
وجب أن يكون لهم الآباء السماء الظليلة والسحابة المنيلة وخير الآباء للأبناء ما
لم تدعه المودة للتفريط في الحقوق وخير الأبناء للآباء ما لم يدعه التقصير إلى
المخالفة والعقوق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولاد من رياحين الجنة وقال
القائل
( وإنما أولادنا بيننا أكبادنا ** تمشي على الأرض )
( إن هبت الريح على بعضهم ** تمتنع العين من الغمض )
هذا وإن أولى ما زود به والد ولده وصية يتخذها في سفره إمامه ومعتمده فاعلموا أنا
وجهناكم لحج بيت الله الحرام وزيارة قبر نبيه عليه الصلاة والسلام واستودعناكم
الله الذي لا تضيع ودائعه فاقدروا قدر هذه الوجهة التي قصدتموها واعرفوا حق هذه
العبادة التي يممتموها فتوجهوا لها بحسن النية راجين من الله سبحانه بلوغ القصد
والأمنية وأوصيكم بتقوى الله في السر والعلانية فإن خير الزاد التقوى وبما أوصى به
إبراهيم بنيه { يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون }
البقرة 132 وبما قال لقمان لابنه وهو يعظه { يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم
عظيم } { يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر } لقمان 13 ، 17 الآية
واستوصوا بعضكم بعضا خيرا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة وأخوكم مولاي عبد الله
أكبركم فكونوا عند إشارته فإن للسن حقا في
____________________
التقدم وفي الحديث الشريف كبر كبر ومنذ نوينا توجيهكم لهذه الوجهة السعيدة ونحن
نجيل الفكر فيمن نوجهه معكم حتى وقع اختيارنا على خديمنا الحاج محمد الرزيني لكونه
نعم الرجل واجتمع فيه من الأوصاف المحمودة ما افترق في غيره فكونوا له بمنزلة
الأولاد البررة وليكن لكم بمنزلة الوالد الشفيق كما قال القائل
( وكان لها أبو حسن علي ** أبا برا ونحن له بنين )
وآزرناه بالحاج أبي جنان البارودي لمروءته وحسن هديه وسمته وكلاهما خير والحمد لله
وآثرناكم على أنفسنا بالفقيه الأوحد المشارك السيد المهدي ابن سودة وتوجه معه أخوه
وهو أيضا ممن يشفع بعلمه فأوفوا كل واحد منهم قسطه ومستحقه مما أرشد إليه الرسول
فهذب وأدب إذ قال ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه
وحافظوا على دينكم واشتغلوا بما يعنيكم واتركوا ما لا يعنيكم ففي الحديث الشريف من
حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه واعكفوا على قراءتكم ولا تضيعوا الأوقات في
البطالة خصوصا ما يتعلق بالعبادة التي أنتم بصددها فمن الآن اصرفوا كليتكم لقراءة
المناسك وابدؤوا بأسهلها وأقربها مناسك المرشد المعين ثم منها إلى ما هو أوسع
فروعا وأكثر مسائل وعلى الفقيه السيد المهدي المذكور أن لا يألو جهدا ونصيحة في
تعليمكم والقراءة معكم واجعلوا أيضا وقتا مع أخيه فإنه من طلبة الوقت المدرسين فلم
يبق لكم عذر في التقصير والبطالة وكل من توجه معكم من الأصحاب والأتباع والدايات
فهو في رعايتكم وفي الحديث كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فعلموهم أمر دينهم
ومناسك حجهم وخاطبوهم في ذلك على قدر ما يفهمون ليكون عملهم في صحيفتكم وفي الحديث
خيركم من تعلم وعلم وفيه أيضا لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه
الشمس وتحلوا بحلية أهل الفضل والكمال وكونوا على ما ينبغي من الأدب مع الخلق ومع
الخالق وهذبوا أخلاقكم وهشوا وبشوا لملاقاة الناس وعاملوا كل واحد بما يستحقه ولا
زال الناس يذكرون هنالك أخاكم مولاي سليمان
____________________
أصلحه الله ويدعون له في تلك الأماكن الشريفة لما رأوا من سعة أخلاقه وحسن بشره
وبشاشته مع الناس ونعهد إليكم أن لا تتركونا من الدعاء في أي موطن حللتموه من تلك
المواطن الشريفة خصوصا عند الملتزم والمقام وغيرهما من الأماكن التي ترجى إجابة
الدعاء عندها وتوبوا عنا في استلام الحجر الأسعد وفي زيارة قبر النبي صلى الله
عليه وسلم والتسليم عليه وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعليكم
بالاستقامة في جميع أموركم وسلوك سبيل الموافقة والائتلاف وترك المشاجرة والاختلاف
ومخالفة الهوى والنفس والشيطان فإن له مزيد تسلط بالشر في طرق الخير فكونوا في
جميعها على حذر قال تعالى { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا } فاطر 6 نسأل الله
لكم الحفظ والسلامة والأمن والعافية ذهابا وإيابا في أنفسكم ودينكم ودنياكم
ونستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتم عملكم فتوجهوا في حفظ الله على مهل حتى تصلوا
إلى القصر وأقيموا به في جوار أبي الحسن بن غالب نفعنا الله وإياكم ببركاته كما
فعل إخوانكم قبل فإن المقام بالقصر خير من المقام بطنجة حتى يقدم البابور ويكتب
لكم الخطيب بالإعلام وحينئذ توجهوا إليها راشدين وقد كتبنا بذلك للطالب محمد الخطيب
وطالعوا الحاج محمد الرزيني على كتابنا هذا حين تتلاقوا معه إن شاء الله واعلموا
أننا عينا عشرين ألف ريال بقصد أن يشتري بها حبس في سبيل الله عشرة آلاف ريال
يشتري بها ما يكون حبسا بمكة وعشرة آلاف ريال يشتري بها ما يكون حبسا في سبيل الله
بالمدينة المنورة وهي من جملة ما حاز الحاج محمد الرزيني ورفيقه فيما حازا من
الصائر رجاء أن يبقى أجر ذلك جاريا منتفعا به إن شاء الله والسلام في السادس من
رمضان المعظم عام أربعة وسبعين ومائتين وألف
قال أكنسوس وكان ركوبهم من طنجة في قرصان النجليز فلما بلغوا إلى الإسكندرية تلقاهم
صاحب مصر بغاية الفرح والسرور وفوق ما يوصف من الإكرام والبرور وأنزلهم في أعز
مساكنه وأبهاها وأبهجها وأشهاها وأعد فيها كل ما يحتاج إليه من أواني الفضة والذهب
وفرش الحرير
____________________
والديباج والنفائس الغريبة ورتب لهم الرواتب العالية من أنواع الأطعمة والأشربة
الفاخرة التي تناسب أقدارهم وأباح لهم الدخول إلى كل محل أرادوا رؤيته من الأبنية
والمصانع والرياض والبساتين الملوكية التي يتعجب من رؤيتها وتنقل أخبارها فشاهدوا
من ذلك ما لا يكشف حقيقته اللسان وما لا يظن أن تناله قدرة الإنسان ثم ركبوا في
بحر القلزم إلى جدة فقضوا مناسكهم وشفوا غلتهم من مباشرة شعائر الشريعة المطهرة من
الطواف والسعي والوقوف وزيارة المشاهد المباركة وتوجهوا إلى أعظم المقاصد وأسناها
التي هي لنفوس المؤمنين غاية منأها زيارة شفيع الأمم في الموقف الأعظم وكانوا
صادفوا بمكة وخما وفساد هواء مات منه كثير من الحجاج الأفاقين فمات من أصحابهم
جملة ومات من أولاد السلطان المولى إبراهيم والمولى جعفر الأول بمكة والثاني
بالمدينة وسلم الله الباقي وأكرمه وأعلى مقامه وعظمه وجمع له بين شرف الحياة وثواب
احتساب مصيبته لمن مات ولما فازوا بزيارة سيد الأرضين والسموات ووافقتهم السعادة
في ذلك المقام الذي تتضاءل دونه جميع المقامات وأدركوا ما أملوه من لثم تراب أشرف
البقاع وأكرم الحجر وانفجر عليهم من كرم الله ما انفجر ونال كل واحد ما كان يؤمله
ويرجوه فخرجوا من المدينة راجعين بكل خير وغسلوا بالدموع ما كانوا عفروه في تلك
الأماكن من الوجوه ولكن نالتهم مشقة فادحة من عتاة الأعراب في المسافة التي بين
المدينة وينبع لأنهم انفردوا عن الركب عند الرجوع ولولا لطف الله لاستؤصلوا عن
آخرهم ولقد كانت نجاتهم من تلك الشدة من أعجب العجاب وفي خلوصهم منها عبرة لأولي
الألباب فإنهم كمن بعث بعد مماته وإقباره وانقطاع أنفاسه وأخباره والحمد لله الذي
لا تخفر ذمته ولا تنتهك حرمته فلما بلغوا ينبع وجدوا المراكب التي تحملهم في
انتظارهم فركبوا قافلين ورياح السلامة تسوقهم وأرباح التجارة والسعادة قد تكفل بها
سوقهم فلما وردوا حضرة مراكش تحت ظلال السلامة وقد نشر عليهم القبول بنوده وأعلامه
باتوا بقنطرة تانسيفت وفي الغد ركبت الخيول والعساكر السلطانية لتلقيهم وخرج أهل
____________________
مراكش في زيهم وزينتهم وكان يوم لقائهم يوما مشهودا وموسما من المواسم المعظمة
معدودا اه
وفي سنة خمس وسبعين ومائتين وألف وذلك يوم الجمعة السابع عشر من محرم منها توفي
عالم فاس والمغرب والمجيد في صناعة التدريس والتحرير لا سيما مختصر الشيخ خليل
الفقيه العلامة الأوحد أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الفيلالي الفاسي وكان
المصاب به خصوصا عند طلبة العلم عظيما ولم يترك بعده في إجادة تحرير المسائل
الفقهية مثله رحمه الله ونفعنا به وفي ليلة السادس من شعبان منها بعد العشاء
الأخيرة زلزلت الأرض زلزالا يسيرا وفي رابع شوال من هذه السنة ورد المجاهد أبو
محمد عبد الله بن محمد بن العربي فنيش السلاوي من مدينة لوندرة إلى ثغر سلا ومعه
مركب موسوق فيه سبعة عشر مدفعا ومهراسان عظيمان من المعدن وأشياء أخر من آلة الحرب
وكان جلبه لذلك بأمر السلطان المولى عبد الرحمن لعمارة البستيون الجديد بسلا الذي
قدمنا ذكره قبل والله تعالى أعلم
وفي هذه السنة ظهر الكوكب ذو الذنب أيضا وهي المرة الثالثة في هذه المدة وفاة أمير
المؤمنين المولى عبد الرحمن بن هشام رحمه الله
كان أمير المؤمنين المولى عبد الرحمن رحمه الله قد قدم مراكش فاتح سنة سبعين
ومائتين وألف ولأول دخوله عزل الوزير أبا عبد الله الجامعي ورتب مكانه الفقيه أبا
عبد الله غريط أياما يسيرة ثم استوزر الفقيه أبا عبد الله الصفار التطاوني واستمر
السلطان مقيما بمراكش إلى آخر سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف فغزا زمور الشلح
واجتمع عليها هو والخليفة سيدي محمد على العادة ثم صار الخليفة إلى مراكش وانحدر
السلطان إلى مكناسة فاستمر مقيما بها يغزو زمور الشلح ويعود إليها وربما ذهب في
بعض
____________________
الأحيان إلى فاس إلى أن دخلت سنة ست وسبعين ومائتين وألف فمرض مرض موته وقد كان
ابتدأ به وهو منازل لزمور فنهض عنها إلى مكناسة وتمادى به مرضه إلى أن توفي يوم
الاثنين التاسع والعشرين من محرم فاتح سنة ست وسبعين ومائتين وألف ودفن بين
العشاءين أول ليلة من صفر بضريح السلطان الأعظم المولى إسماعيل رحم الله الجميع
بمنه وقد كنت رثيته بقصيدة شذت عني الآن وأولها
( أمن طيف ذات الخال قلبك هائم ** ودمعك هام واكتئابك دائم )
( وهل أذكرتك النائبات عشائرا ** عفت منهم بعد المعالي معالم )
ورثاه الفقيه أبو عبد الله أكنسوس بقوله
( هذي الحياة شبيهة الأحلام ** ما الناس إن حققت غير نيام )
( حسب الفتى إن كان يعقل أن يرى ** منه لآدام رؤية استعلام )
( فيرى بداية كل حي تنتهي ** أبدا وإن طال المدا لتمام )
( والنفس من حجب الهوى في غفلة ** عما يراد بها من الأحكام )
( أوليس يكفي ما يرى متعاقبا ** بين الورى من سطوة الأيام )
( من لم يصب في نفسه فمصابه ** بحبيبه حكما على إلزام )
( بعد الشبيبة شيبة يخشى لها ** ذو صحة أن يبتلى بسقام )
( دار أريد بها العبور لغيرها ** ويظنها المغرور دار مقام )
( منع البقاء بها تخالف حالها ** وتكرر الإشراق والإظلام )
( لو كان ينجو من رداها مالك ** في كثرة الأنصار والخدام )
( لنجا أمير المؤمنين ومن غدا ** أعلى ملوك الأرض نجل هشام )
( خير السلاطين الذين تقدموا ** في الغرب أوفي الشرق أو في الشام )
( سر الإله ورحمة منشورة ** كانت سرادق ملة الإسلام )
( قصدته عادية الحمام فما عدت ** إن هددت علما من الأعلام )
( لم تحجب الحجاب منها طارقا ** كلا ولا دفعت يد الأقوام )
( والملك في عز مهيب شامخ ** وإمامه في جرأة الضرغام )
____________________
( عجبا لها لم تخش من فتكاته ** والأسد تزأر حوله وتحامي )
( عجبا لها لم تستح من وجهه ** والوجه أبهج من بدور تمام )
( عجبا لها لم ترع طول قيامه ** متهجدا لله خير قيام )
( تبا لها لم تدر من فجعت به ** من معتق وأرامل الأيتام )
( أسفا على ذات الجلال وأنه ** لأجل من أسف وفرط هيام )
( يا مالكا كانت لنا أيامه ** ظلا ظليلا دائم الإنعام )
( لا ضير أنك قد رحلت ميمما ** دار الهناء وجنة الإكرام )
( في حضرة تغدو عليك بشائر ** من حورها بتحية وسلام )
( ضاجعت في تلك القصور كواعبا ** درية الألوان والأجسام )
( تسقيك صرف السلسبيل مروقا ** وتدير كأسا من مدام مدام )
( فلك الرضى فانعم بما أعطيته ** ولك الهناء بنيل كل مرام ) بقية أخبار أمير
المؤمنين المولى عبد الرحمن وسيرته ومآثره
يكفيك أيها الواقف على أخبار هذا الإمام الجليل السري النبيل من مناقبه خصلتان
إحداهما شهادة عمه السلطان المولى سليمان له بالتقوى والعدالة والمحافظة على خصال
الخير ونوافله حتى قدمه على بنيه حسبما مر ذلك كله مستوفى والثانية إقامته صلب هذه
الدولة الشريفة بعد إشرافها على الاختلال وردها إلى شبابها بعد أن حان منها الزوال
والارتحال كما رأيته أيضا فعلى التحقيق أن المولى عبد الرحمن رحمه الله هو المولى
إسماعيل الثاني وأما حزمه وضبطه وكمال عقله وتأنيه في الأمور ووضعه الأشياء
مواضعها وتبصره في مبادئها وعواقبها وإجراؤها على قوانينها فما أظنك تجهل منه شيئا
بعد أن قصصنا عليك ما مضى من أخباره رحمه الله وقد رأيت كيف نزلت به النوازل
وترادفت عليه الهزاهز من غير معين يذكر أو وزير يعتبر إلا في القليل النادر فقام
رحمه الله بأعباء ذلك كله وعالج حلوه ومره حتى رد النصاب الملكي
____________________
إلى أصله وأحل عزه في محله وأما ورعه وصبره وحياؤه وتوقفه في الدماء توقفا تاما
إلا إذا حصحص الحق وصرح الشرع فكل ذلك أمر معلوم يعلمه الخصوص والعموم وأما آثاره
بالمغرب فشيء كثير من ذلك ما افتتح به ولايته من بناء ما تهدم من مرسى طنجة وصير
عليه مالا عظيما حتى أعاده أحسن وأحصن مما كان ومن ذلك تجديد الحرم الإدريسي بفاس
وبناء مسجده وتوسعته وتنميقه حسبما مر ومن ذلك البرجان العظيمان بسلا وأشبار
الكبير المواجه للبحر منها والمارستان الكبير بضريح الشيخ ابن عاشر والمنار الشهير
بالمسجد الأعظم منها وخزين البارود بالقليعة وغير ذلك وأشبار الكبير برباط الفتح
وبنى بأعمالها لحفظها وتأمين طرقها قصبتين كبيرتين إحداهما الصخيرات والأخرى قصبة
أبي زنيقة فأمن الناس بهما وارتفقوا بالتردد إليهما وجدد ما تهدم من أبراج الصويرة
واعتنى بها وصير عليها أموالا ثقالا فجاءت في غاية الإتقان والحصانة ومن آثاره
بمراكش آجدال الشهير وتجديد جامع المنصور بالقصبة بعد أن لم يبق منه إلا الاسم
فأعاده إلى حالته الأولى على ضخامته وانفساحه وعلو بنائه وتجديد جامع الكتبيين
مرتين وإصلاح قبة الشيخ أبي العباس السبتي رضي الله عنه والزيادة في جامع الشيخ
أبي إسحاق البلفيقي بسوق الدقاقين منها وهدم جامع الوسطى وإعادته على شكل بديع
وهيئة حسنة وبناء جامع أبي حسون وإقامة الجمعة به كما كانت أولا وبناء جامع
القنارية والزيادة فيه ومن آثاره بحضرة فاس العليا تجديد بستان آمنة المرينية
قال أكنسوس وكان هذا البستان خرابا تألفه الوحوش مع أنه بباب دار السلطان وفي سرة
الحضرة وقد كان في الدول المرينية على هيئة بهية فيه ظهرت زينة تلك الدولة
وضخامتها وفيه مقاعدهم ومنازلهم العالية ومجالسهم المشرفة على بساتين المستقى إلى
أن قال وبالجملة فقد كانت تلك العرصة منية من زينة الحياة الدنيا وجنة حائزة من
البهجة المرتبة العليا ثم أخنت عليها الأيام بصروفها ومحت من تلك الرسوم جميع
حروفها فرآها
____________________
الملوك قبل مولانا المؤيد فلم يرقوا لحالها ولا أنقذوها من أوحالها مع أنها في
جوارهم وعقر ديارهم فعطف الله عليها هذا السلطان المبارك فأعاد بعد الممات محياها
وأبرز من ظلمات العدم جميل محياها الخبر عن دولة أمير المؤمنين سيدي محمد بن عبد
الرحمن رحمه الله
كان سيدي محمد بن عبد الرحمن بن هشام رحمه الله بعين الرضى من والده منذ نشأ وشب
وكان متميزا عن سائر إخوته بشدة البرور بأبيه ومتصفا بالسكينة والوقار والصلاح
والتقوى وسائر خصال الخير واستخلفه أبوه صغيرا فجرى على السنن الأقوم وحمدت سيرته
ولما رأى منه السلطان رحمه الله مخايل النجابة والصلاح فوض إليه وألقى بزمام
مملكته بيديه ولم يدخر عنه شيئا من أمور الملك ووظائفه فاستلحق في أيام أبيه
واستركب واتخذ العساكر وجند الأجناد وقدم وأخر وخفض ورفع وأعطى ومنع حتى كأنه ملك
مستقل وكانت العادة أنه إذا كان السلطان بمراكش كان سيدي محمد هذا بفاس أو بمكناسة
وبالعكس فلما مرض السلطان رحمه الله مرض موته بمكناسة كان سيدي محمد بمراكش فلم
يرعه إلا ورود الكتب عليه من أخيه المولى العباس ومن الوزير أبي عبد الله الصفار
أن السلطان قد أشرف ووقع اليأس منه فنهض سيدي محمد من مراكش منزعجا وجد السير لعله
يدرك حياة أبيه فلما كان ببلاد السراغنة على مرحلتين من مراكش اتصل به الخبر بوفاة
السلطان رحمه الله ثم قدمت عليه بيعة أهل الحضرتين فاس ومكناسة وجميع الجيش
البخاري وسائر أهل الحل والعقد من أعيان القبائل والبربر فاسترجع السلطان لمصابه
وشكر الله إذ أبقى أمر المسلمين في نصابه وكتب بالخبر إلى مراكش وبعث بالبيعة
الواردة عليه فاجتمع أهل مراكش على طبقاتهم بجامع الكتبيين وحضر عامل البلد يومئذ
أبو العباس أحمد بن عمر بن أبي ستة وقائد الجيش السوسي بالقصبة أبو إسحاق إبراهيم
بن سعيد
____________________
الجراوي وقواد الحوز من الرحامنة وغيرهم فقرىء كتاب السلطان سيدي محمد بن عبد
الرحمن بالأخبار بموت والده واجتماع الناس على بيعته فارتفعت الأصوات بالترحم على
السلطان الصائر إلى عالم الرضى والرحمة وبالنصر لهذا الذي اختاره الله لحماية
الأمة وكتب أهل مراكش بيعتهم من إنشاء أبي عبد الله أكنسوس وكذا الجيش السوسي وأهل
الحوز وقدموا على السلطان سيدي محمد بمكناسة مؤدين الطاعة داخلين فيما دخلت فيه
الجماعة فأكرم وفادتهم وأجل مقدمهم وأفاض عليهم من الإحسان ما غمرهم وكان مما قيل
في تهنئته بالملك قول أبي عبد الله أكنسوس
( وجوه الأماني حسنها متجدد ** ومنظرها يحكيه خد مورد )
( قضى الحب في كل القلوب بأنها ** مماليك أرباب الجمال وأعبد )
( وكم من عصي للهوى متعفف ** يفر من السود العيون ويبعد )
( تصيده ظبي على حين غفلة ** مهفهف مستن الوشاحين أغيد )
( فأصبح مفقود الفؤاد مخبلا ** وأي فؤاد عاشق ليس يفقد )
( ولله في أسر الغرام ونهره ** نفوس ضعاف ليلهن مسهد )
( إذا الليل أضواها تكنفها الهوى ** وليس لها غير الكواعب منجد )
( وذي ظمأ بين الضلوع يجنه ** إلى رشفات للصبابة تبرد )
( تراءى له من منحنى الجزع برقه ** فظن بأن الجزع ثغر منضد )
( وتذكره تلك البروق مباسما ** عليهن مرفض الجفان معقد )
( يراقب أسراب النجوم بمقلة ** تقسمها شطرين نسر وفرقد )
( ويهفو لأيام العقيق فتنثني ** مدامعه مثل العقيق تبدد )
( وهل يتناهى عهد من سكن اللوى ** إذا العيش غض والحبائب تسعد )
( وما زالت الأيام تغري بنا النوى ** وتنفي الذي نهواه عنا وتبعد )
( ولست أبالي للزمان صروفه ** وكهفي أمير المؤمنين محمد )
( خليفة رب العالمين بأرضه ** وصارمه الشاكي الشبات المهند )
( إمام تولى الله تشييد ملكه ** وناهيك ملكا بالإله يشيد )
( وصفوة هذا الخلق من آل هاشم ** وأعلى ذوي التيجان فخرا وأمجد )
____________________
( وأرحبهم في العز باعا وفي العلى ** وأكثرهم في الفضل حظا وأزيد )
( أتته عروس الملك عاشقة له ** وكم عاشق عنها يذاذ ويطرد )
( وألقت على شوق إليه زمامها ** فطاب لها منه الجناب الممهد )
( فأصبحت الأيام تزهو بعدله ** وتنعم في ظل الهناء وتسعد )
( ففي بابه مأوى المكارم والندى ** وفي بابه الخيرات تولي وتوجد )
( ودولته للعز والنصر مألف ** وحضرته للأمن واليمن موعد )
( تذل ملوك العالمين لبأسه ** وتركع مهما أبصرته وتسجد )
( له راحة في الجود ما الغيث عندها ** وما البحر والدر النفيس المقلد )
( له أنعم تأوي إلى ظلها المنى ** وتسحب أذيال السماح وترفد )
( وعزم على الخيرات ليس بسامع ** مقالة من في المكرمات يزهد )
( ورأي ينير الخطب عند اعتكاره ** ويفسخ ما أيدي النوائب تعقد )
( ووجه إذا ما لاح أيقنت أنه ** محيا له وقت السعادة مولد )
( حيي كثير الابتسام مبارك ** يكبر ربي إن بدا ويوحد )
( أهز بهذا المدح منه معاطفا ** تجر ذيول الفخر إن هو يحمد )
( له العسكر الجرار تبرق في الوغا ** صوارم منه والمدافع ترعد )
( يعد إلى الأعداء كل كتيبة ** من الرعد يحدوها الوشيح المسدد )
( وكل كمى كالغضنفر مغضبا ** وكل صقيل وهو ماض مجرد )
( يبد العدا قبل اللقاء مهابة ** فصارمه يفري الطلى وهو مغمد )
( هو الملك المشهور بالحلم والدها ** وبالعلم والشهب الدراري تشهد )
( تشد لإدراك الغنى عند بابه ** ركائب أنضاها الدؤب المشدد )
( يحدث عنه الوفد عند صدوره ** أحاديث من بحر إذا البحر يزيد )
( إلى مجده آمالنا قد تطاولت ** وليس لها إلا حماه المؤيد )
( فيا ملكا يحمي الرعية بأسه ** ويحييهم بالبذل والبذل أرغد )
( يدبر فيهم كل يوم مصالحا ** تعود بما يرضون والعود أحمد )
( ويشملهم بالعدل والفضل والندا ** ويصلح بالصمصام من هو مفسد )
( هنيئا لك الملك الجديد فإنه ** يدوم بحمد الله وهو مسرمد )
____________________
( هنيئا لنا نحن العبيد فإننا ** بسؤدد مولانا الإمام نسود )
( ودونك يا خير السلاطين كاعبا ** بديعة حسن للنهي تتودد )
( تدير كؤوس الراح دون تأثم ** إذا هي أثناء المحافل تنشد )
( فلا زلت ما بين الملوك مخيرا ** كما اختبر ما بين المعادن عسجد )
وفي هذه الأيام ظهر المولى عبد الرحمن بن سليمان بن محمد وقرب من فاس طالبا للملك
قيل إن بعض أبناء عمه بفاس ومكناسة لما توفي السلطان رحمه الله كاتبوه واستحثوه
للقدوم وواطأهم على ذلك بعض عبيد البخاري وبعض البربر الذين بأحواز مكناسة ولما
قرب من فاس كان الفقيه أبو عبد الله محمد العربي بن المختار الجامعي يومئذ يلي أمر
شراقة بها فقام في ذلك أحسن قيام وحمل الناس على الثبات والتمسك بطاعة أمير
المؤمنين سيدي محمد بن عبد الرحمن فكان ذلك سببا في سكون هذه الفتنة وانحسام
مادتها فرجع المولى عبد الرحمن بن سليمان عوده على بدئه وآيس من بلوغ قصده وأقام
بزاوية العياشي عند البربر إلى أن أضمحل أمره ولما قدم السلطان سيدي محمد رحمه
الله من مراكش إلى مكناسة اجتاز بمدينة سلا ونزل برأس الماء في الثالث والعشرين من
صفر سنة ست وسبعين ومائتين وألف وبعد الزوال دخل في جماعة من حاشيته وزار الشيخ
أبا محمد عبد الله بن حسون والشيخ أبا العباس أحمد بن عاشر رضي الله عنهما ودخل
البستيون الكبير ورأى مدافعه منصوبة على عجلات الحديد وكانت تغوص في الأرض إذا جرت
من شدة ثقل المدافع فأشار بأن يفرش لها بساط من العود الجيد المحكم الصنعة
والتركيب حتى يتأتى جريانها عليه بلا كلفة فصنعت لها كما أشار رحمه الله وقد كنت
مدحته بقصيدة لم يبق على ذكري الآن منها إلا بيتان وهما
( حوى العلويون المعالي كلها ** وما منهم إلا ذرى المجد صاعد )
( ولكن أمير المؤمنين محمد ** هو البدر في العلياء وهي الفراقد )
____________________
انتقاض الصلح مع الإصبنيول
واستيلاؤه على تطاوين ورجوعه عنها والسبب في ذلك
كان السبب في انتقاض الصلح مع جنس الإصبنيول أن العادة كانت جارية مع أهل سبتة من
النصارى وأهل اللانجرة من المسلمين أن يتخذ كل من الفريقين محلا للحراسة على
المحدة التي بينهما وكان النصارى يتخذون هنالك بيوتا صغارا من اللوح والمسلمون
يتخذون أخصاصا من البردى ونحوه فلما كان آخر دولة السلطان المولى عبد الرحمن رحمه
الله بنى نصارى سبتة على المحدة بيتا من حجر وطين وجعلوا فيه علامة طاغيتهم
المسماة عندهم بالكرونة فتقدم إليهم أهل اللانجرة وقالوا لهم لا بد أن تهدموا هذا
البيت الذي لم تجر العادة ببنائه وترجعوا إلى حالتكم الأولى من اتخاذ بيوت الخشب
فامتنع النصارى من ذلك فعمد أهل اللانجرة إلى ذلك البيت فهدموه وإلى تلك الكرونة
فنجسوها بالعذرة وقتلوا منهم أناسا وضيقوا على أهل سبتة بالغارات حتى كانوا يصلون
إلى السور فرفع أهل سبتة أمرهم إلى كبيرهم بطنجة فكلم كبيرهم نائب السلطان بها وهو
يومئذ أبو عبد الله محمد ابن الحاج عبد الله الخطيب التطاوني وشكا إليه ما نال أهل
سبتة من عيث اللانجرة فدافعه الخطيب فلم يندفع وقال لا بد من حضور اثني عشر رجلا
منهم بطنجة وسماهم بأسمائهم ولا بد من قتلهم جزاء على فعلهم فعظم الأمر على الخطيب
وربما كلم في ذلك باشدور النجليز فقال له أحضر هؤلاء المطلوبين على عين الأجناس
وإذا حضروا وظهر حق الإصبنيول فأنا ضامن أن لا يصيبهم شيء فأعجب الخطيب ذلك وعزم
عليه فاتصل الخبر بأهل اللانجرة وأن الخطيب عازم على أن يكتب إلى السلطان في شأن
اثني عشر رجلا منهم بأعيانهم فمشوا إلى الشريف سيدي الحاج عبد السلام بن العربي
الوزاني وقالوا له إن الخطيب لا ينصح السلطان ولا المسلمين وإن كل ما قاله النصارى
يساعدهم عليه حتى جسرهم علينا ونحن جئناك لتعلم السلطان بأمرنا وتسأله أن يمدنا
بالقبائل المجاورة لنا ونحن نكفيه
____________________
هذا المهم وفي أثناء هذه المدة توفي السلطان المولى عبد الرحمن رحمه الله وولي
ابنه سيدي محمد وقدم مكناسة واجتمعت كلمة أهل المغرب عليه فكتب له الشريف سيدي
الحاج عبد السلام بأمر أهل اللانجرة وقرر له مطلبهم فشاور السلطان في ذلك بعض
حاشيته فمال إلى الحرب وذلك كان الراجح عند السلطان لأنه عظم عليه أن يمكن العدو
من اثني عشرا من المسلمين وفق اقتراحه واختياره يقتلهم بمحضر الملأ من نواب
الأجناس ورأى رحمه الله أن لا يمكنه من مطلبه حتى يعذر فيه فاستخار الله تعالى
وبعث خديمه الحاج محمد بن الحاج الطاهر الزبدي الرباطي إلى الخطيب بطنجة وأمره أن
ينظر في القضية ويستكشف الحال وأن لا يجنح إلى الصلح إلا إذا لم يجد عنه محيصا
وكثر المتنصحون لدى السلطان وهونوا عليه أمر العدو جدا مع أنه ليس من السياسة
تهوين أمر العدو وتحقيره ولو كان هينا حقيرا فوصل الزبدي إلى طنجة واجتمع بالخطيب
وفاوضه في القضية فوجد الخطيب جانحا إلى السلم فأبى أن يساعده على ذلك وأظهر كتاب
السلطان بتفويض النظر إليه في النازلة فتأخر الخطيب عنها وترك الخوض والكلام فيها
وآخر الأمر أن الزبدي انفصل مع نائب الإصبنيول على الحرب وذهب إلى حال سبيله وأزال
الإصبنيول سنجقه من طنجة وركب إلى بلاده في الحين وكتب الزبدي إلى السلطان بالخبر
فكتب السلطان إلى الثغور يخبرهم بما عقده مع الإصبنيول من الحرب وأمرهم أن يكونوا
على حذر وأن يأخذوا أهبتهم للجهاد وفتح السلطان بيت المال وأبدأ وأعاد في تفريق
المال والسلاح والكسي وقدم أولا القائد المأمون الزراري إلى تطاوين في نحو مائة
فارس وخمسمائة من رماة العسكر فرابطوا خارج تطاوين إلى جهة سبتة ثم برز جيش الإصبنيول
من سبتة في نحو عشرين ألفا من العسكر في غاية الاستعداد وكمال الشوكة ونزل على طرف
المحدة داخل أرضه وكان خروجه يوم السبت أواسط ربيع الأول سنة ست وسبعين ومائتين
وألف فنهض إليه أهل اللانجرة ومن جاورهم من قبائل الجبل وتسامع الناس بذلك فقدموا
من كل جهة حتى اجتمع منهم نحو
____________________
الخمسة آلاف وزحفوا إلى العدو وقاتلوه نحو نصف شهر وكل يوم يقتل منه ضعف ما يقتل
من المسلمين لأن حربه كان زحفا بالصف وحربهم كان مطاردة بالكر والفر فلا بد أن
يهلك منه أكثر مما يهلك من المسلمين غير أنهم لم يتمكنوا من مخالطته في معسكره ولا
من هزيمته لأنه كان يحصن على نفسه بأشبارات والمتارزات بخناشى الرمل وغيرها غاية
التحصين ثم بعث السلطان رحمه الله أخاه الفقيه العلامة المولى العباس في كتيبة من
الخيل نحو الخمسمائة فارس فنزل بموضع يعرف بعين الدالية قرب طنجة ثم بعد أيام زحف
إلى العدو فنزل بمدشر يقال له البيوت باللانجرة واستمر القتال بين المسلمين
والنصارى على نحو ماسبق نحو العشرة أيام ثم انتقل المسلمون إلى موضع آخر يعرف بأبي
كدان خوفا من كرة العدو ودهمه إياهم فكان ذلك مما جرأ العدو عليهم وأظهر الفشل
فيهم وقاتلوا هنالك نحو الخمسة عشر يوما ثم إن العدو اجتمع يوما وتحمل بخيله ورجله
وزحف إلى المسلمين فصدمهم بجميع قوته وشوكته فصبروا له وصدقوه اللقاء فردوه على
عقبه ولما لم يستقم له ذلك جمع نفسه ذات ليلة من غير شعور من المسلمين وركب البحر
ونزل بمحل يعرف بالفنيدق لأنه كان هنالك فندق قديم وكان العدو في تنقلاته هذه لا
يفارق الساحل ليحمي ظهره بمراكبه البحرية وكان بين الفندق ومحلة المسلمين نحو ساعة
ونصف فأشار أهل الرأي على المولى العباس بأن يتأخر فليلا لكون العدو قد ضايقه
فتأخر المولى العباس بالجيش إلى موضع يعرف بمجاز الحصا فازداد طمع العدو في المسلمين
وظهر له ضعف رأيهم في مكائد الحرب وعدم ثباتهم لدى الطعن والضرب وكان قائد عسكر
الإصبنيول يسمى أردنيل ووزيره المشير عليه يسمى بريم ورينتهم يومئذ إيسابيلا
الثانية ثم عاد المسلمون إلى مطاردة العدو ومقاتلته على نحو ما أسلفنا فكانوا
يذهبون إليه وهو بالفنيدق فيقاتلونه من الصباح إلى المساء فكانوا ينالون منه وينال
منهم وفي أثناء هذه المدة وفد جماعة من أهل تطاوين على السلطان رحمه الله بمكناسة
فأعظموا أمر العدو
____________________
وتخوفوا معرته في مالهم وأولادهم لأنهم كانوا قد أحسوا بشدة شوكته فوعدهم السلطان
رحمه الله بأن يمدهم ويحامي عنهم ولا يدخر عنهم شيئا من العدد والعدد حتى يعذر
فيهم وفي غيرهم ثم إن العدو ارتحل من الفنيدق بعد نحو عشرة أيام وتقدم نحو تطاوين
وكان الناس قبل هذا لا يدرون أين هو قاصد ولما ارتحل من الفنيدق عرفوا أنه قاصد
تطاوين فنزل بموضع يقال له النيكرو فأقام هنالك نحو ثمانية أيام والقتال على حاله
المتقدم غير أن العدو كان في مادة قوية من البر والبحر يصل إليه من سبتة وغيرها كل
ما يحتاج إليه من طعام وعلف وأرز وشعير وبقسماط وغير ذلك حتى أنه كان إذا ارتحل
ترك من ذلك فضلة كثيرة يتعيش فيها ضعفاء أهل تلك الناحية وكان ذلك مكيدة مقصودة
عنده يظهر بها القوة والرفاهية وكان شذاذ المتطوعة من أهل البادية يهجمون على
معسكره بالليل ويجلبون منه البغال والنيران ويصبحون بها في تطاوين وغيرها وكان
ضعفاء العقول من العامة يستحسنون ذلك وينشطون له ويرون أنهم قد صنعوا شيئا مع أن
ذلك لا عبرة به في جنب ما كان يستولي عليه العدو من الأرض ويتقدم به في نحر
المسلمين وهم يتأخرون والحاصل أن المسلمين لم يكونوا يقاتلونه على ترتيب مخصوص
وهيئة منضبطة إنما كانوا يقاتلونه وهم متفرقون أيدي سبا فإذا حان المساء تفرقوا
إلى محالهم في غير وقت معلوم وعلى غير تعبية فكان قتالهم على هذا الوجه لا يجدي
شيئا وكان العدو يقاتل بالصف وعلى ترتيب محكم وكانت عنايته بما يستولي عليه من
الأرض ويرى تقدمه إلى أمام وتأخر المسلمين بين يديه إلى خلف هزيمة عليهم
وقد ذكر ابن خلدون في فصل الحروب قتال أهل المغرب الذي هو المطاردة بالكر والفر
وعابه فقال وصفة الحروب الواقعة بين أهل الخليفة منذ أول وجودهم على نوعين نوع
بالزحف صفوفا ونوع بالكر والفر أما الذي بالزحف فهو قتال العجم كلهم على تعاقب
أجيالهم وأما الذي بالكر والفر فهو قتال العرب والبربر من أهل المغرب وقتال الزحف
أوثق وأشد
____________________
من قتال الكر والفر وذلك لأن قتال الزحف ترتب فيه الصفوف وتسوى كما تسوى القداح أو
صفوف الصلاة ويمشون بصفوفهم إلى العدو قدما فلذلك تكون أثبت عند المصارع وأصدق في
القتال وأرهب للعدو لأنه كالحائط الممتد والقصر المشيد لا يطمع في إزالته
وفي التنزيل { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص } الصف 4
اه ولازال العدو هكذا يتنقل شيئا فشيئا حتى وصل إلى وادي يعرف بوادي آسمير وكان
يتحرى في تنقلاته يوم السبت معتمدا في ذلك حكما نجوميا على ما قيل فلما احتل
بآسمير صادف ريحا شرقية هاج من أجلها البحر حتى لم تقدر مراكبه أن تحاذيه قرب
الساحل فانقطعت عنه مادة البحر وطلع ماء البحر في وادي النيكرو من خلفه فأفعمه
وقطع عنه المادة من سبتة كما طلع أيضا في وادي آسمير من أمامه فحبسه عن العبور
وصار العدو متوسطا بين الوادين والبحر عن يساره وانقطعت عنه المواد حتى حكى بعض
عسكره بعد ذلك اليوم أن الكليطة وهي خبزة صغيرة تشبه البقسماط كانت أول النهار
تباع ببسيطة وفي آخره بيعت بريال ولا وجود لها وأيقنوا بالهلاك لو وجدوا من ينتهز
الفرصة فيهم ولكن أين اليد الباطشة وبقوا على تلك الحال يومين أو ثلاثة ثم سكن البحر
وانفش الواديان وجاءه المدد ولما رأى المسلمون أن العدو وصل إلى ذلك المحل تقهقروا
ونزلوا بمدشر القلالين بينه وبين تطاوين نحو نصف ساعة ثم إن العدو عبر الوادي من
آخر الليل وأصبح بموضع يقال له المضيق وكان متطوعة الأعراب في هذه المدة على قسمين
الحازمون وأهل الغيرة منهم يقولون لولا أنه بين الجبال ومتحصن بالمتارزات لفعلنا
وفعلنا والآخرون يقول أحدهم ما لي وللتقدم إلى هذه الشرشمة وإنما أهل تطاوين
يقاتلون عن تطاونهم وأما أنا فحتى يصل إلي بخيمتي في عبدة أو دكالة أو كلاما هذا
معناه كأنه يعتقد أنه لا تجب عليه نصرة المسلمين نعم الذين قاتلوا قتالا شديدا
وأحسنوا الدفاع وقاموا بالنصرة بنية خالصة وهمة صادقة هم طائفة من شبان أهل فاس
وطائفة من أهل زرهون والبعض من آيت يمور وخصوصا
____________________
الحسين المعروف بأبي ريالة منهم فإنه أبدأ وأعاد وأتى بما لم يسمع إلا في زمان الصحابة
رضي الله عنهم
حكى من حضر وتواتر عنه أنه كان معلما براية صفراء وكان يضمها إلى صدره ويسددها نحو
العدو ثم يحمل على صفهم فيخرقه حتى يأتي من خلفه ويفتك فيهم أشد الفتك ثم يعود
ويستلب خيل العدو ويقودها بأرسانها ويأتي بها حتى يدفعها لمن بإزائه وكان إذا تقدم
نحو العدو يقول لمن حوله تقدموا فأنا درقتكم وأنا سوركم تكرر ذلك منه المرة بعد
المرة ولما أصبح العدو بالمضيق فارق البحر وصمد إلى تطاوين فدخل بين جبلين وكان في
انتهاء ذلك المضيق الذي بين الجبلين من جهة تطاوين ويسمى فم العليق بعض أخبية أهل
فاس وغيرهم فصمد العدو نحوهم وبغتهم بالكور والضوبلي وهو يقرع طبوله حتى أعجل
البعض منهم عن حمل أثقاله ولما وصل إلى هذا الموضع حصل بتطاوين انزعاج كبير
واستأنف الناس الجد والاجتهاد والقتال وتذامر جيش المسلمين وكان اليوم شديد المطر
وقاتلوا قتالا شديدا وأبدأ أبو ريالة وأعاد في هذا اليوم هلك تحته فرسان وأرسل له
المولى العباس فرسه وكان يعتني به وينوه بقدره ويبعث الطبل يقرع على خبائه وأصابته
في هذا اليوم جراحة خفيفة وهلك من المسلمين والنصارى عدد كثير قيل هلك من أهل
تطاوين فقط نحو الخمسمائة وكان الظهور في ذلك اليوم للعدو ومن الغد ارتحل من فم
العليق وعدل يسارا إلى المرسى فنزل بها ليتمكن من مدد البحر واستولى على برج مرتيل
وما والاه كدار مرتيل التي هي الديوانة وبمجرد وصوله إليها حصنها بأشبارات الرمل
والمدافع وغير ذلك واتخذ بها دورا من اللوح وحوانيت منه وأقام مطمئنا وصارت
المراكب تتردد له في البحر بالأقوات والعدة والعسكر وجميع ما يحتاج إليه حتى
استراح ثلاثة عشر يوما ولم يكن في هذه المدة قتال ولا أنشبه العدو وفي هذه الأيام
ورد المولى أحمد بن عبد الرحمن في جيش بعث به السلطان من مكناسة ونزل بموضع يقال
له فم الجزيرة بالتصغير وكان المولى العباس نازلا بمدشر القلالين بمحل مرتفع يشرف
على ما حوله ولما استراح العدو
____________________
وصلحت أحوال جيشه أنشب القتال فكان يخرج فيحوم حول المحلتين فيقاتل ويرجع فكان
بريم دائما يكون في أول المقدمة على فرس أبيض مشهورا عندهم موصوفا بالشجاعة وجودة
الرأي ثم إن العدو عزم على مصادمة المسلمين والهجوم على تطاوين فارتحل يوم السبت
الحادي عشر من رجب سنة ست وسبعين ومائتين وألف وانكمش واجتمع وتقدم للقتال وأرسل
جناحا من الخيل طالعا مع الوادي إلى جهة المدينة وجناحا من العسكر الرجالة طالعا
من الغابة إلى جهتها أيضا وزحف بعسكره شيئا فشيئا وهو في ذلك يرمي الكور والضوبلي
والبغال تجر المدافع والجناحات ممتدان يكتنفان محلة المولى أحمد ولما قربا منها
وكاد ينطبقان عليها فر من كان بها وتركوا الأخبية والأثاث بيد العدو فاستولى عليها
ونزل هنالك بعسكره وحصن عليه وتقهقر المولى العباس بجيشه حتى نزل خلف تطاوين وبقيت
بينه وبين العدو وكان في تقهقره هذا قد دخل المدينة ومر في وسطها واضعا منديلا على
عينيه وهو يبكي أسفا على الدين وقلة ناصره ولما استقر بالمحلة مع العشي خرج إليه
أهل تطاوين وشكوا إليه ما نزل بهم من أمر العدو واستأذنوا في تحويل أثاثهم
وأمتعتهم وحريمهم إلى مداشر الجبل وحيث يأمنون على أنفسهم قبل حلول معرة العدو بهم
فأذن لهم وعذرهم وكان قبل ذلك قد منع الناس من نقل أمتعتهم وحريمهم لئلا يفتنوا
المسلمين ويجروا عليهم الهزيمة ولكي يقاتلوا عليها بالقلب والقالب فلما كان هذا
اليوم وشكوا إليه أمر العدو الذي قد أطل عليهم ولم يبق إلا أن يثب وثبة أخرى فيصير
بها في وسط البلد عذرهم وكان العدو حين نزل بفم الجزيرة عشية ذلك اليوم قد أرسل
أربع كورات على تطاوين فوقعت في وسط المدينة كأنه يعلمهم بأنه قد أشرف عليهم ولم
يبق دون أخذهم قليل ولا كثير ولما سمع الناس كلام المولى العباس انطلقوا مسرعين
إلى نقل أمتعتهم وقام الضجيج في المدينة واختلط المرعى بالهمل وامتدت أيدي الغوغاء
إلى النهب وخلع الناس جلباب الحياء وانهار من كان هنالك من أهل الجبل والأعراب
والأوباش ينقبون ويكسرون أبواب الدور والحوانيت والداخل للمدينة أكثر من الخارج
____________________
وباتوا ليلتهم كذلك إلى الصباح ولما طلع النهار وتراءت الوجوه انتقلوا من نهب
الأمتعة إلى المقاتلة عليها فهلك داخل المدينة نحو العشرين نفسا وعظمت الفتنة
وتخوف من بقي بتطاوين عاجزا عن الفرار فاجتمع جماعة منهم على الحاج أحمد بن علي
آبعير أصله من طنجة وسكن تطاوين وتشاوروا فيما نزل بهم فأجمع رأيهم على أن يكتبوا
كتابا إلى كبير محلة العدو أردنيل يطلبون منه أن يقدم عليهم لتحسم مادة الفتنة
التي هم فيها فكتبوا الكتاب ووجهوه مع جماعة منهم فما انفصلوا عن المدينة غير بعيد
حتى عثروا على طلائع العدو يطوفون حول المدينة ويحرسون محلتهم فتسابقوا إليهم
وهشوا وبشوا وسألوهم ما الذي أقدمكم فقالوا جئنا بكتاب إلى أردنيل فأبلغوهم إليه
فأظهر أيضا البشر والفرح وقدم إليهم طعاما من الحلواء وقال لهم في جملة كلامه إني
أفعل معكم ما لم يفعله الفرنسيس مع أهل الجزائر وتلمسان يعني من الإحسان وكذب خذله
الله فإن ذلك من حيله التي يستهوي بها الأغمار ويفسد بها الدين وإلا فأي إحسان
فعله الفرنسيس مع أهل الجزائر وتلمسان ألسنا نرى دينهم قد ذهب وأن الفساد قد عم
فيهم وغلب وأن ذراريهم قد نشؤوا على الزندقة والكفر إلا قليلا وعما قريب يلحق
التالي بالمقدم والله تعالى يحوط ملة الإسلام ويكسر بقوته شوكة الزنادقة وعبدة
الأصنام ولما عرضوا على العدو الدخول إلى بلدهم قال لهم أما اليوم فيوم الأحد وهو
عيد النصارى ولا يحل لي التحرك والانتقال وأما غدا فانظروني في الساعة العاشرة من
النهار فرجعوا إلى أهلهم وأصحابهم وأعلموهم بمقالة العدو والحال ما حال والقتال لا
زال وأبواب الحوانيت تكسر والدور تخرب والقوي يأكل الضعيف وباتوا ليلة الاثنين
كذلك وأصبحوا من الغد كذلك ثم إن العدو استعد وأخذ أهبته وتقدم إلى تطاوين بعد أن
فرق عسكره على جهتين فرقة مرت مع أردنيل على الجبانة قاصدة الباب الذي يفضي إليها
وفرقة ذهبت مستعلية إلى جهة القصبة والبرج ولما وصل أردنيل إلى الباب وصل الآخرون
إلى القصبة فأما أردنيل فوجد الباب مغلقا وكلمه المسلمون من داخل المدينة فأمرهم
____________________
بالفتح فقالوا إن المفاتيح قد ذهبت في الفتنة فقال اكسروا الأقفال فكسروها ودخل
ودخل معه كبراء عسكره فتوجه هو إلى دار المخزن فنزل بها وافترق كبراء العسكر في
المدينة بأيديهم ورقات مكتوب فيها أسماء الدور التي ينزلون بها كل واحد بداره
مكتوبة في ورقته فكان أحدهم يسأل عن دار الرزيني وآخر يسأل عن دار اللبادي وآخر
يسأل عن دار ابن المفتي وهكذا بحيث دخلوا على بصيرة بأمره البلد ودور كبارها
فاستقر كل واحد منهم في داره التي عينت له وأما الذين ذهبوا نحو القصبة فإنهم لما
وصلوا إلى السور أنشبوا فيه سلاليم من قمن غلاظ برؤوسها مخاطيف معوجة وتسلقوا فيها
بسرعة ولما صاروا في أعلى البرج رفعوا سنجقهم في أعلى الصاري وأخرجوا عليها مدفعا
ولما سمع المشتغلون بالنهب والقتل حس المدفع رفعوا رؤوسهم إلى البرج وبمجرد ما وقع
بصرهم على بنديرة العدو تلوح خرجوا على وجوههم فارين كالنعم الشارد فالأمر لله ولا
حول ولا قوة إلا بالله وا أسفي على الدين وأهله ولما استقر العدو بالبلد رتب
حكامها وكف اليد العادية عنها وولى على المسلمين الحاج أحمد آبعير المذكور آنفا
وكان دخوله إلى تطاوين واستيلاؤه عليها ضحوة يوم الإثنين الثالث عشر من رجب سنة ست
وسبعين ومائتين وألف ورثاها الأديب الشريف السيد الفضل أفيلال بقصيدة يقول فيها
( يا دهر قل لي على مه ** كسرت جمع السلامة )
( نصبته للدواهي ** ولم تخف من ملامة )
( خفضت قدر مقام ** للرفع كان علامه )
( ملكته لأعاد ** ليست تساوي قلامة )
( فالدين يبكي بدمع ** يحكيه صوب الغمامة )
( على مساجد أضحت ** تباع فيها المدامة )
( كم من ضريح ولي ** تلوح منه الكرامة )
( علق فيه رهيب ** صليبه ولجامه )
( ومنزل لشريف ** وعالم ذي استقامة )
____________________
( صار كنيفا لعلج ** ولم يراع احترامه )
( وكم وكم من أمور ** للدين فيها اهتضامه )
( تبكي عليها عيون ** كآبة وندامة )
( تطوان ما كنت إلا ** بين البلاد حمامة )
( أو كخطيب تردى ** من بعد لبس العمامة )
( بل كنت روضا بهيجا ** زهرك أبدى ابتسامه )
( أو كمحيا عروس ** علاه في الخد شامة )
( فقت بهاء وحسنا ** فاسا ومصر وشامه )
( رماك بالعين دهر ** ولا كزرق اليمامة )
( ففرق الأهل حتى ** لم يبق إلا ارتسامه )
( ما كان أحلى زمانا ** وما ألذ غرامه )
( مضى لنا مع بدور ** ذوي نهى وفخامه )
( ما بين إنشاد شعر ** وبين إنشا مقامه )
( وشملنا في التئام ** والبسيط يهوى التئامه )
( حن السرور إليه ** شوقا ورام التثامه )
( ساعده السعد حتى ** نال المنى ومرامه )
( يا حسنها من ليال ** لو لم تصر كالمنامة )
( تطوان يا دار أنس ** وخيس أهل الزعامة )
( هل للوصال سبيل ** فالهجر أكمل عامه )
( والقلب ذاب اشتياقا ** وحسرة واستهامة )
( والوجد أضعف جسما ** وكاد يبري عظامه )
( يا أهل تطوان صبرا ** فما لخطب أدامه )
( دوام حال محال ** وهل لظل إقامة )
( إن غاب نجم سعود ** ولاح نجم شآمة )
( فسوف يطلع بدر ** يمحو سناه ظلامه )
( فاعتصموا برجاء ** وارعوا بصدق ذمامه )
____________________
( وحسنوا الظن تنجوا ** دنيا ويوم القيامة )
( وفوضوا الأمر لله ** يكف عنا انتقامه )
( ما فاز إلا ذكي ** قدم خيرا أمامه )
( حيث أقامه يرضى ** ولو بقصر كتامة )
( ولا يزل ذا انتظار ** في كل وقت ختامه )
( يراقب الله سرا ** وجهرة باستدامه )
( يطلب حسن ختام ** وحل دار المقامة )
ثم إن أردنيل بعد أن رتب الحكام بتطاوين عاد إلى محلته وقسم عسكره قسمين وأنزله
مكتنفا للبلد شرقا وغربا واختار منه عشرة آلاف فأدخلها المدينة وبقي هو خارجا
بإحدى المحلتين قال إن جيشه كان يوم دخل تطاوين سبعين ألفا كلها مقاتلة في غاية
الاستعداد وكمال الشوكة ثم أمر بالنداء في البلد أن من أوقد نارا تلزمه العقوبة
الشديدة حذرا من أن تكون هنالك مينا للمسلمين أو ما أشبهها فبقي الناس على ذلك نحو
أربعة أيام لم يوقدوا فيها نارا ونادى أيضا بأن من فر من أهل البلد ولم يأت إلى
متاعه وأصله إلى سبعة أيام فلا شيء له بعد ولم يقدم شيئا على نقل البارود والمدفع
الذي كان للمسلمين بالمدينة فأما المدفع فحمله إلى أصبانيا وأما البارود فجعله
بضريح ولي الله تعالى سيدي السعيدي وكذا فعل بجميع آلات الجهاد ثم عمد إلى ضريح
سيدي عبد الله البقال فجعله كنيسة وجعل مسجد الباشا مختزنا للأرز والشعير ومسجد
القصبة مختزنا للكليط ثم سار في المسلمين بالتوقير والاحترام ولم يسمهم خسفا ولا
كلفهم شغلا ولا اقتضى منهم مغرما كان يتألفهم بذلك ومن باع منهم شيئا أضعف له في
الثمن وأربحه وكذا فعل مع أهل المداشر الذين حول البلد حتى اتخذ الناس سوقا بموضع
يعرف بكدية المدفع خارج تطاوين وشاع خبره في قبائل الجبل فانهاروا عليه من كل جانب
وربحت الناس فيه ثم كتب أردنيل كتبا وبعث بها إلى قبائل الجبل يعدهم ويمنيهم إن هم
قدموا عليه وخالطوه بالبيع والشراء ويتوعدهم إن لم يفعلوا فقدموا من كل أوب
وارتفعت الأسعار
____________________
فزادت ضعف ما كانت عليه وأكثر واستمرت كذلك فلم ترجع بعد ثم أخذ في ترتيب بناء
المدينة وتبديل شكلها حسبما جرت به عادة النصارى في مدنهم فهدم ما لم يوافق نظره
وفرز الدور من سور البلد وكل دار كانت ملتصقة بالسور فصلها عنه واستمر على هذا
الحال نحو العشرين يوما ثم دار الكلام بينه وبين المولى العباس في الصلح وتسامع
الناس به ففرح المسلمون والنصارى معا أما المسلمون فوجه فرحهم ظاهر وأما النصارى
فإنهم وإن كان لهم الظهور فهم لا يدركونه سهلا بل مع القتل العظيم والجرح الكثير
والمشقة الفادحة قال تعالى { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من
الله ما لا يرجون } النساء 104 هذا إلى مفارقة بلادهم التي ألفوها وعوائدهم التي
ربوا عليها لا سيما عامة جيشهم الذين الغلبة في ضمن هلاكهم فدماؤهم هي ثمنها كما
قيل بجبهة العير يفد حافر الفرس
حكى من حضر أن عسكر النصارى لما سمعوا بتناول الصلح حصل لهم من الفرح أضعاف ما حصل
للمسلمين وصاروا يترددون إليهم ويبحثونهم عما تجدد من الأخبار وكلما سمعوا بشيء من
أمر الصلح طاروا فرحا وذلك لأن قتال النصارى كله على الإكراه إذ لا يمكن عسكريا
منهم أن يفر من الزحف حال القتال لأن الخيالة والسيافة من ورائهم يذمرونهم إلى
الإمام ومهما رجع أحد منهم إلى خلف وترك في الصف فرجة ضربت عنقه في الحين فالموت
عندهم في الفرار محقق وفي التقدم مظنون فيختارون المظنون على المحقق اللهم إلا إذا
اشتدت الحرب وحمي الوطيس واختلط الرجال بالرجال أمكن الفرار حينئذ لاشتغال الرئيس
والمرؤوس كل بنفسه وبهذا الضبط لم تتفق لهم هزيمة منذ خرجوا من سبتة ومن عادة
العدو في الحرب أنه إذا نهض للقتال ارتحل بجميع ما في عسكره كأنه مسافر فترى
العسكري منهم إذا تقدم للقتال حاملا معه جميع ما يحتاج إليه من ماء وطعام وبارود
ورصاص حتى الموسى والمقص والمرآة والصابون وغير ذلك قد اتخذ لجميع ذلك أوعية لطافا
وعلقها عليه فلا يؤده حملها لأنه اقتصر من كل على
____________________
قدر الحاجة وأما الأخبية فيحمل كل ثلاثة رجال خباء ولا تلحقهم كلفة في حمله لأن
أخبيتهم في غاية اللطافة والصفافة وأعمدتها لطاف صلبة فهي مع كفايتها على الوجه
الأتم في غاية الخفة بحيث إذا لف الخباء بما فيه كان كلا شيء ولو أراد أن يحمله
واحد لفعل لكنه يقسمه ثلاثة أشخاص زيادة في الرفق ولئلا يحصل الضجر إذا طال السفر
وأما المدافع فقد اتخذوا لها عجلات أفرغت إفراغا وركبت عليها على وجه محكم واتخذوا
للعجلات بغالا خصية تجرها في غاية الفراهة والارتياض ويجعلون فوق تلك العجلات
صناديق الإقامة من بارود ورصاص وضوبلي وغير ذلك وتجلس الطبجية على تلك الصناديق
ويقوم آخرون حولهم قد أخذوا أهبتهم للقتال بكل ما يمكن ثم تندفع العساكر على هذا
الترتيب صفوفا صفوفا وتتقدم شيئا فشيئا يخلف بعضها بعضا كأنها أمواج البحر تبرق
الشمس على طموس رؤوسها وتلمع على عددها المصقولة وآلاتها وهو في هذه الحالة لا
يفتر من رمي الكور والضوبلي والشرشم على كل جهة هكذا قتاله أبدا وإذا أدركه المساء
أو وقعت محاجزة أثناء النهار وكان قصده الثبات ثبت بمحله ذلك ولا يتزحزح عنه بحال
إلا إذا فني كل عسكره أو جله فبمثل هذا الضبط كان له الاستيلاء والظهور وأما
مقاتلة المسلمين له فكانت غير منضبطة وإنما قاتله من قاتله منهم باختياره ومن قبل
نفسه وإن كان هنالك ضبط من أمير الجيش فكلا ضبط ومتى ظهر له أن يذهب ذهب مع أن
الله تعالى يقول { وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } النور 62
لكن المقاتل من المسلمين يأتي القتال وليس معه ما يأكل ولا ما يشرب فبالضرورة إذا
جاع أو عطش ذهب يبحث عما يقيم به صلبه ثم هم يقاتلون على غير صف ولا تعبية بل
يتفرقون في الشعاب ومخارم الأودية وحول الأشجار فيقاتلون من ورائها وإذا دفعوا في
نحر العدو دفعوا زرافات ووحدانا ثم إذا أدركهم المساء ووقعت المحاجزة ذهب كل إلى
خبائه الذي تركه وراءه بمسافة بعيدة
____________________
وهم في هذا كله ليس لهم وازع يحملهم على ما يراد منهم
فالحاصل أن جيش مغربنا إذا حضروا القتال وكانوا على ظهور خيولهم فهم في تلك الحال
مساوون في الاستبداد لأمير الجيش لا يملك من أمرهم شيئا وإنما يقاتلون هداية من
الله لهم وحياء من الأمير وقليل ما هم وقد جربنا ذلك فصح ففروا عن السلطان المولى
سليمان في وقعة ظيان أولا وفي وقعة الشراردة ثانيا وكان السلطان المولى عبد الرحمن
أهيب في نفوسهم منه فكانوا يلزمون غرزه لكنه لما بعثهم إلى تلمسان فعلوا فعلتهم
وسلكوا عادتهم ولما شهدوا مع الخليفة سيدي محمد بن عبد الرحمن وقعة إيسلي جاؤوا
بها شنعاء غريبة في القبح ولولا أنه قام بنفسه ليلة الحاج عبد القادر ومنع الناس من
الركوب لربما عادوا إلى فعلهم وأحسن ما كانت حالهم في هذا الحرب فإنهم قاوموا
العدو وفرقوا صفوفه غير مرة لكنهم أتوا من عدم الضبط الذي هو كضبطه فعدم ملاقاتهم
للعدو في الكيفية القتالية هو الذي أضر بهم وأوجب لعدوهم الظهور عليهم إذ الشيء
كما علمت إنما يقاوم بمثله والشر إنما يدفع بضده فالتنافي إنما يحصل بين الضدين أو
المثلين وحربنا وحرب الإصبنيول كان من باب الخلافين ولا تنافي بين الخلافين كما هو
مقرر في علم الحكمة والتوفيق إنما هو بيد الله
ولنرجع إلى الكلام على الصلح المتناول فنقول لما دار الكلام بين المولى العباس
رحمه الله وبين أردنيل في الصلح استعدوا للاجتماع في يوم معلوم بمكان سوي بين
المحلتين فلما كان ذلك اليوم ضرب بالمحل المعين خباء وجاء المولى العباس ومعه
جماعة من وجوه جيشه وفيهم أبو عبد الله الخطيب التطاوني وخرج أردنيل ومعه جماعة من
وجوه عسكره وخرج معه مقدم المسلمين بتطاوين الحاج أحمد آبعير رجاء أن يكون هو
الترجمان بين الأميرين فيفوز بذكر ذلك الجمع وفخره فأخفق رجاؤه لأنه لما توافى
الجمعان إلى الخباء بقي الناس كلهم قائمين على بعد منه ولم يدخله إلا المولى
العباس وأردنيل والخطيب لا رابع لهم فيما قيل وأبدى أردنيل من
____________________
الأدب والخضوع للمولى العباس ما جاوز الحد وتفاوضوا ساعة ثم انفض المجلس وتناقل
الناس أن حاصل ما دار بينهما أن أردنيل رغب في الصلح وتأكيد الوصلة بينهم وبين
المسلمين على شروط ذكرها وأن المولى العباس توقف فيها وأحال ذلك على مشورة أخيه
السلطان سيدي محمد وذهب كل إلى سبيله وبقي الناس ينتظرون الجواب بأي شيء يأتي من
عند السلطان وبعد أيام ورد الخبر بأن السلطان لم يقبل ذلك الصلح فاستمر الناس على
حالتهم الأولى من كون محلة العدو بتطاوين وبعضها خارجها شرقا وغربا ومحلة مولاي
العباس على بعد من البلد مقدار نصف يوم ثم إن المسلمين اجتمعوا ذات يوم وبيتوا
محلة العدو النازلة خارج البلد في ليلة معلومة فتقدموا إليها وذلك في أواخر شعبان
سنة ست وسبعين ومائتين وألف وهجموا عليها في ليلة مظلمة والنصارى غارون وفتكوا
فيهم فتكة بكرا باتوا يقتلونهم الليل كله ومن الغد كذلك إلى المساء وقاتل النصارى
ذلك اليوم أيضا ولكن الظهور كان للمسلمين ولولا قوة نفوس العدو باستنادهم إلى
البلد وتحصن كبيرهم بها لكانوا انكسروا كسرة شنيعة وكان عدد القتلى من النصارى في
هذه الوقعة نحو الخمسمائة والجرحى أكثر من ألف وأما المسلمون فكان القتل فيهم
ضعيفا ولما أصبح أردنيل ورأى ما حل بعسكره ساءت أخلاقه وقلب لأهل تطاوين ظهر المجن
وأبدل تلك الشفقة التي كان يعاملهم بها بالغلظة والبشاشة بالاكفهرار وعمد إلى مسجد
الشيخ أبي الحسن علي بركة رحمه الله فاتخذه مارستانا للجرحى فظلت الجرحى تنقل إليه
وفرض على أهل تطاوين اللحف والقطائف فجمع من ذلك شيئا كثيرا فرشه بالمسجد المذكور
لجرحاه وصار عامة عسكر النصارى بتطاوين كلما لقوا أحدا من المسلمين عيروه بالغدر
وقبحوه ثم إن أردنيل أقام بعد هذه الوقعة نحو عشرة أيام ريثما استجم جيشه وأبلت
جرحاه وخرج في تمام الشوكة وكمال الاستعداد يريد أن يضرب في محلة المسلمين فجعل
تطاوين
____________________
خلفه وتقدم حتى كان بوادي أبي صفيحة فلما شعر به الناس من أهل المداشر والمتطوعة
تسابقوا إليه من كل جانب ووافق ذلك اليوم قدوم عرب الحياينة جاؤوا في حرد كبير
وحنق شديد فقويت قلوب الناس بهم واشتد أزرهم وتقدموا إلى العدو فأنشبوا معه الحرب
بأبي صفيحة قبل أن يصل إلى محلة المسلمين وكثروه فأوقعوا به وقعة أنست ما قبلها
فقتلوا منه ما خرج عن الحصر وأما الجرحى فقل ما شئت وكست قتلاه الأرض ولما أعياه
الدفن جعل يجمع الجماعة من الثمانية إلى العشرة ويهيل عليها التراب ومع ذلك بقي
منه عدد كبير بلا دفن حتى أنتن موضع المعركة من شدة نتن الجيف ونال المسلمون من
عدوهم في هذا اليوم ما لم ينالوا قبله مثله ولا ما يقاربه وكان الذكر فيه لعرب
الحياينة ثم للمتطوعة غيرهم وأما محلة المولى العباس فكانت بعيدة عن المعركة بمسافة
كبيرة
وقد ذكر منويل خبر هذا اليوم فأقر بأنه أهرق منهم دم كثير وخسروا فيه عددا كبيرا
من نفوس العسكر والخيل ولما بلغ المولى العباس أن العدو قد برز من تطاوين وأن
المسلمين يقاتلونه الآن في أبي صفيحة قلب رأيه واستأنف النظر في عاقبة أمره ورأى
أن المسلمين وإن نالوا من العدو في هذه المرة وأبلغوا في نكايته لكن الثمرة ضعيفة
من جهة أن نكايتنا له إنما هي في القتل والجرح ونكايته في أخذ الأرض والاستيلاء
عليها كما قلنا غير مرة فجنح رحمه الله إلى الصلح واختاره على الحرب حتى تدور
للمسلمين سعود إن شاء الله
أخبرني صاحبنا القائد الأجل أبو عبد الله محمد بن إدريس بن حمان الجراري حفظه الله
قال لما طالت الحرب بين المسلمين والنصارى على تطاوين استدعاني السلطان وسيدي محمد
بن عبد الرحمن رحمه الله وأعطاني ستين ألف مثقال أذهب بها إلى جيش المسلمين
المرابط على تطاوين بقصد المؤنة والصائر وقال لي مع ذلك إذا وصلت إلى محلة
المسلمين فانظر
____________________
حالهم وتبصر في جميع أمورهم وما هم عليه في قتال عدوهم من الضبط وعدمه وهل هم
مكفيون في جميع ما تدعو الحاجة إليه أم لا واستوعب ذلك وائتنى بالأمر على وجهه قال
فذهبت فوصلت إلى المحلة يوم الخميس وفي صبيحة اليوم الذي يليه كان حرب أبي صفيحة
فجاء النذير إلى المولى العباس وأخبره بأن المسلمين الآن يقاتلون العدو قال فركبت
في جماعة من الناس وذهبت لأنظر حال المسلمين وحال عدوهم كما أمرني السلطان رحمه
الله فوصلت إلى مقاتلة المسلمين فإذا هم يرتادون موضعا ينزلون به أثقالهم ويضربون
به أخبيتهم ليتفرغوا لقتال عدوهم فإذا هم عزموا على النزول بوادي آكراز فأجهضهم
العدو عنه بالرمي بالكور والضوبلي وهو متقدم أمام لا يثنيه شيء فتأخروا عن ذلك
المحل ونزلوا بمحل أمنوا به على أخبيتهم وأثاثهم ثم تقدموا إليه وقاتلوه قتالا
شديدا حتى ردوه على عقبه بالموضع المعروف بآمصال مرتين أو ثلاثا وقتلوا منه ما
جاوز الحصر وفي ذلك اليوم استشهد عامل سفيان وبني مالك أبو محمد عبد السلام بن عبد
الكريم بن عودة الحارثي وبات العدو تلك الليلة بوادي آكراز الذي كان المسلمون
أرادوا أن ينزلوا به وباتت محلة المسلمين بالفنيديق وتفرق جل متطوعتها كل إلى حال
سبيله على عادتهم وكان الوقت وقت شتاء وبرد غاية
قال فلم يعجبني ذلك ومن الغد وهو يوم السبت أصبح العدو مقيما والمسلمون مقيمين
كذلك وكان الرأي أن يعاجلوه بوقعة أخرى ويلحوا عليه كي يكسروا شوكته ويهضموا ما
دام متألما ولا يتركوه حتى يجم ويستريح لكنهم لم يفعلوا ودار الكلام في ذلك اليوم
في الصلح فأذعن كل من الأميرين أمير المسلمين وأمير النصارى وجنحوا إليه لأنهم
كانوا معا قد سئموا الحرب وملوا القتال ثم من الغد وهو يوم الأحد تداعوا للاجتماع
بعد أن نهض العدو من محله الذي كان نازلا به واجتمع وانكمش وأظهر القوة بالتهييىء
للحرب والتعبئة للقتال حتى أنه إذا كان صلح فذاك وإلا فالقتال فعل ذلك مكيدة
والحاصل أن المولى العباس تقدم في جماعة من وجوه الجيش
____________________
وتدنى أردنيل في جماعة من أصحابه كذلك بعد أن أمربضرب خباء صغير يجتمعان به وتقدم
أردنيل على الخباء بكثير لملاقاة المولى العباس وإظهارا للأدب معه فتلاقى به وعادا
إلى الخباء وحضر معهم الترجمان ورجلان آخران وأبرموا الصلح وأعطى كل خط يده بذلك
وانفصلوا وذهب كل إلى محله وكان ذلك آخر حرب بين المسلمين والإصبنيول ولما وصل
الخبر بانعقاد الصلح إلى عسكر النصارى فرحوا فرحا لم يعهد مثله وجعلوا ينادون
الباص الباص أي الصلح الصلح ودخلوا تطاوين وهم رافعون بها أصواتهم وكلما لقوا
مسلما هشوا له كأنهم يهنئونه بالصلح وكان الصلح قد انعقد بين المسلمين والإصبنيول
على شروط منها أن يدفع السلطان إليهم عشرين مليونا من الريال ويخرجوا من تطاوين
وما استولوا عليه من الأرض التي بينها وبين سبتة إلا شيئا يسيرا يزاد لهم في
المحدة على سبيل التوسعة وكان انعقاد هذا الصلح في أواخر شعبان سنة ست وسبعين
ومائتين وألف وتراخى السلطان رحمه الله في دفع هذا المال فاستمر العدو مقيما
بتطاوين حتى يستوفيه وبعد سنة من يوم هذا الصلح استوفى عشرة ملايين منه وبقيت عشرة
وقع الاتفاق فيها على أن يقتضيها العدو من مستفاد مراسي المغرب فأقام أمناءه بها
لاقتضاء نصف داخل كل شهر منها وهم الآن بهذا الحال والله تعالى يكفي المسلمين شرهم
وشر كل شر وبعد ما وقع هذا الاتفاق أسلم النصارى تطاوين إلى المسلمين وكان خروجهم
منها ضحوة يوم الجمعة الثاني من ذي القعدة سنة ثمان وسبعين ومائتين وألف بعد أن
مكثوا فيها سنتين وثلاثة أشهر ونصفا ووقعة تطاوين هذه هي التي أزالت حجاب الهيبة
عن بلاد المغرب واستطال النصارى بها وانكسر المسلمون انكسارا لم يعهد لهم مثله
وكثرت الحمايات ونشأ عن ذلك ضرر كبير نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين
والدنيا والآخرة ولما فرغ السلطان رحمه الله من أمر تطاوين جد في جمع العسكر
المرتب على الترتيب المعهود اليوم وكان هذا السلطان أول من أحدثه من ملوك المغرب
وكان إحداثه إياه في دولة أبيه رحمه الله بعد رجوعه
____________________
من وقعة إيسلي مع الفرنسيس ثم جد فيه في هذه الأيام فجمع منه ما تيسر جمعه ثم رتب
المكوس على الأبواب والمبيعات وكتب في ذلك كتبا للآفاق فمما كتبه لأمناء مرسى
الدار البيضاء في ذلك ما نصه وبعد فإنا لما أخذنا في جمع النظام للمصلحة المتعينة
الواضحة البينة المقر أمرها لدى الخاص والعام واجتمع منه عدد يسير واختبرنا ما صير
عليه في شهر واحد فاجتمع فيه عدد كثير فكيف أن جمعنا منه عددا معتبرا يحصل به
المراد ويكون قذى في أعين أهل العناد اقتضى الحال ذكر ذلك لكبراء التجار لينظروا
فيما يستعان به على أمرهم إذ لا بد من كفايتهم وإلا انحل نظام جمعهم وفي ذلك ما لا
يجهله من له أدنى عقل ومحبة في الدين فأشاروا بفرض إعانة لا ضررفيها على الرعية
وسطروها في ورقة وهي كل شيء بالنسبة لما ارتكبه الملوك في مثل هذا للاستعانة به
على المصالح المرعية وللضرورة أحكام تخصها كما هو معلوم مقرر ومسطر في غير ما
ديوان محرر ثم اقتضى نظرنا أن نسند الأمر في ذلك لأهل العلم ليقرروا للناس حكمه
تقريرا تنشرح له الصدور ويعمل بمقتضاه في الورود والصدور وإن كان جلهم يعلم هذا إذ
من المعلوم أن الرعية لا يستقيم أمرها إلا بجند قوي بالله ولا جند إلا بمال وهو لا
يكون إلا من الرعية على وجه لا ضرر فيه وقد أخذ الناس هذه مدة بحضرتنا العالية
بالله وبمكناسة وتازا والعدوتين ومراكش في ذلك وسلكوا في ترتيبه أحسن المسالك ولا
نشك أن بركة ذلك تعود عليهم في أموالهم وأولادهم وأنفسهم فبوصول هذا إليكم قوموا
على ساق الجد في القبض من الناس بالباب على نحو ما في الورقة المشار إليها ولا دخل
للنصارى في ذلك والله أسال أن يبارك للمسلمين في مالهم ويعوضهم خلفا آمين والسلام
في الثاني والعشرين من رجب الفرد الحرام عام سبعة وسبعين ومائتين وألف وإذا انجر
بنا الكلام على اتخاذ العسكر وترتيبه فلا بد من تتميم الفائدة بذكر كلام نافع
____________________
القول في اتخاذ الجيش وترتيبه
وبعض آدابه
اعلم أنه واجب على الإمام حماية بيضة الإسلام وحياطة الرعية وكف اليد العادية عنها
والنصح لها والنظر فيما يصلحها ويعود عليها نفعه في الدين والدنيا ولا يمكنه ذلك
إلا بجند قوي وشوكة تامة بحيث تكون يده غالبة على الكافة وقاهرة لهم فاتخاذ الجند
إذا واجب وعليه فيندب له أن يتخذ لهم ديوانا يجمع أسماءهم ويحصي عددهم ليحصل الضبط
وينتفي اللبس وأول من اتخذ الديوان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر
عقيل بن أبي طالب ومخزمة بن نوفل وجبير بن مطعم وكانوا من كتاب قريش فكتبوا ديوان
العساكر الإسلامية على ترتيب الأنساب مبتدأ من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
فما بعدها الأقرب فالأقرب فهكذا ينبغي للإمام أن يرتب جنوده في ديوان يحفظها
ودستور يجمعها ثم ينبغي أن يكون عنده أولا ديوان كبير هو الأم يجمع أسماء العساكر
كلها الحاضرة والغائبة والخاصة والعامة ثم يجعل دواوين صغارا يشتمل كل واحد منها
على طائفة مخصوصة مثل عسكر الإمام الذي يلازمه حضرا وسفرا وعساكر الثغور والقلاع
ونحو ذلك وتكون هذه الدواوين الصغار بمنزلة الفروع للكبير تجدد كلما تجددت الطوائف
كما سيأتي وكل ديوان منها يشتمل على أرحاء مثلا وكل رحى على مئين وكل مائة بضباطها
وطبيبها وعالمها الذي يعلمها أمر دينها وغير ذلك
قال صاحب مصباح الساري ما ملخصه كانت الدولة العثمانية في أول أمرها إذا استخدمت
طائفة من الجند بقيت في الخدمة طول عمرها ولما كان هذا الأمر صعبا يعني وغير مقتض
للتسوية بين الرعية في هذا الحق العظيم اقتضى نظرهم أن يعملوا القرعة بين أبناء
الرعايا عند انتهاء كل خمس سنين فمن استكمل مدة خدمته وتبصر بما يلزمه من حرب عدوه
وقدر على المطالبة والمدافعة ذهب إلى حال سبيله لطلب معيشته فذو الحرفة يرجع إلى
حرفته
____________________
والتاجر إلى تجارته وهكذا ويؤتى بطائفة أخرى بدلها حتى تصير الرعية كلها جندا
قادرة على المطالبة والمدافعة متى احتاجت إلى ذلك ثم من استوفى مدة خدمته بقي
معدودا في صنف الرديف سبع سنين أخرى ومعنى الرديف أنهم يكونون عدة للدولة متى
احتاجت إليهم في نازلة عظيمة أو حرب عامة مثل ما يكون بين الأجناس فإذا انسلخت
السبع سنين فهو حر دائما وأبدا فلا يضرب عليه بعث ولا يكلف بغزو إلا أن يشاء فجملة
مدة الخدمة العسكرية بين أصلية ورديفية اثنتا عشرة سنة وشرط المستخدمين في العسكر
أن يكونوا في سن العشرين إلى خمس وعشرين سنة فمن زاد على ذلك أو نقص لا تقبله
الدولة لينضبط الأمر وإن اصطلح على أقل من ذلك أو أكثر فلا بأس فإذا أريد إعمال
القرعة بينهم وذلك عند رأس خمس سنين كما قلنا اجتمع كل من هو في ذلك السن من أهل
الناحية مثل مراكش وأعمالها وفاس وأعمالها والعدوتين وأعمالهما في يوم معلوم من
السنة لا يتقدم ولا يتأخر فيحضر نائب السلطان ويحضر القاضي والشهود وتكتب بطائق
على عدد رؤوس الحاضرين فلان بن فلان الفلاني سنة كذا فإذا اجتمع لنا من البطائق
مائة ونحن غرضنا استخدام خمسين مثلا أخذنا تلك البطائق واحدة واحدة حتى نستوفي
الخمسين ثم نفتحها فمن عثرنا عليه فيها فهو عسكري في تلك المدة ومن أخطأته القرعة
ذهب إلى حال سبيله لكنه إن جاوز سن العسكرية الذي هو خمس وعشرون سنة ولم تصبه
القرعة فهو في صنف الرديف إلى سبع سنين كما قلنا والذين أصابتهم القرعة وأثبتوا في
الديوان يرخص لهم في الذهاب إلى محالهم عشرين يوما لقضاء أوطارهم ثم يحضرون بعدها
إلى القشلة ومن تخلف عن حضور هذا الجمع بدون عذر مقبول يثبت في الديوان بلا قرعة ويسقط
من أصل العدد المطلوب ولا تقبل فيه شفاعة ولا فداء ومن ليس له إلا ابن واحد من رجل
كبير أو امرأة أرملة أو نحو ذلك ولا كافي له سواه فإنه يسرح له لئلا يضيع لكن بعد
حضور الجمع وإثبات ما ادعاه ومن له ولدان وأصابتهما معا القرعة فيمسك واحد ويسرح
له الآخر ومن له أربعة أو خمسة وأصابت القرعة منهم ثلاثة
____________________
فأكثر أمسك اثنان وسرح الباقي ويعفى عن كل من كان مفردا في بيته وعن كل أعور وأشل
وأعرج وأحدب وعن كل مبتلى بداء مزمن أو علة معدية أو ضعيف الجسم نحيف البنية لا
يقدر على الأعمال الجندية وغير سالم المزاج وهكذا ويعفى عن طلبة العلم لكن بعد
حضورهم وامتحانهم فمن ظهرت نجابته خلى سبيله لأنه قد قام بوظيف هو من أهم الوظائف
ومن كان قليل الفهم أو مقسم البال أو طائش الفكرة لا ترجى فائدته وإنما تستر بطلب
العلم دخل في القرعة وإذا كان لرجل ولدان وأصابت القرعة أحدهما وأراد إبداله
بالآخر فذلك له إذا توفرت فيه شروط الخدمة وإذا أراد أن يبدله بغير أخيه من عبد أو
أجير فلا بد من زيادة قدر معلوم من المال لا يجحف به ولا يؤدي إلى تعطيل تجارته
ولا بيع أصله ولهذا البدل شروط الأول أن يكون سالمامن الآفات المتقدمة الثاني أن
لا يكون ممن استوفى مدة الخدمة التي هي خمس سنين ودخل في صنف الرديف اللهم إلا إذا
لم تكن القرعة أصابته حتى جاوز السن المعلوم وصار في صنف الرديف فهذا يقبل الثالث
أن يكون من أهل تلك الناحية فلا يقبل مراكشي عن فاسي مثلا وبالعكس الرابع أن لا
يكون من العبيد السود اللهم إلا إذا كان في الجند صنف منهم فيقبل في صنفه ولا بأس
إذا كان مملوكا أبيض الخامس أن لا يكون من الذين استعملوا في الجندية وأخرجوا منها
لعارض خلقي أو خلقي مثل آفة بدنية أو فعل قبيح من سرقة ونحوها السادس أن لا يكون
البدل قد جيء به بعد ثلاثة أشهر ثم إذا فر البدل فينتظر مجيئه إلى شهر فإن جاء
وإلا أخذ به صاحبه الذي جاء به ثم إذا انتظم هذا الجمع العسكري فأول ما يعلمونهم
أمر دينهم مما لا بد منه على سبيل الاختصار بأن يلقنوا كيفية اللفظ بالشهادتين
وبين لهم معناها بوجه إجمالي فإن جل العوام سيما أهل البادية والقرى النائية لا
يفقهون ضروريات دينهم ويعلمون كيفية الوضوء والصلاة ويلزمون بالمحافظة عليها حتى
أن من لم يحضر منهم وقت النداء لها يعاقب عقابا شديدا وإلا فلم يحضر عند سماعه
الطرنبيطة ولا يحضر إذا سمع داعي الله فهذا أول ما يتعلمونه لتعود عليهم بركة
الدين وينجح سعيهم في حماية
____________________
المسلمين فإنا لم نرد بجمع هذا الجند إلا حفظ الدين فإذا كان الجند مضيعا له فكيف
يحفظه على غيره ويعود على المسلمين نفعه ثم بعد هذا يعلمون الأمور التي تدل على
كمال المروءة وعلو الهمة من الحياء والحشمة والإيثار وترك الكلام الفحش وتوفير
الكبير ورحمة الصغير ويلقنون أن من أفضل الخصال عند الله وعند العباد الغيرة على
الدين والوطن ومحبة السلطان ونصحه ويقال له مثلا إذا كان العجمي الزنديق يغضب
لدينه الباطل ووطنه فكيف لا يغضب العربي المؤمن لدينه ودولته ووطنه ولا بد من
ترتيب مجلس يومي يسمعون فيه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازيه ومغازي
الخلفاء الراشدين وسلف الأمة وأخبار رؤساء العرب وحكمائها وشعرائها ومحاسنهم
وسياساتهم وليتخير لهم من الكتب الموضوعة في ذلك أنفعها مثل كتاب الأكفاء لأبي
الربيع الكلاعي وكتاب ابن النحاس في الجهاد وكتاب سراج الملوك ونحوها فإن ذلك مما
يقوي إيمانهم ويحرك هممهم ويؤكد محبتهم في الدين وأهله وينبهون على التحافظ على
ثيابهم وأطرافهم من الأوساخ والأوضار التي تدل على دناءة الهمة ونقصان الإنسانية
وعدم النخوة ويلزمون بترك استعمال الدخان فإنه مناف لنظافة الدين ومذهب للمروءة
والمال بلا فائدة ثم إذا رسخت فيهم هذه الآداب في ستة أشهر أو عشرة أو أكثر أخذوا
في تعلم الثقافة وأمور الحرب ثم من أهم ما يعتنى به في شأنهم أن لا يتخلقوا بأخلاق
العجم ولا يسلكوا سبيلهم في اصطلاحاتهم ومحاوراتهم وكلامهم وسلامهم وغير ذلك فقد
عمت المصيبة في عسكر المسلمين بالتخلق بخلق العجم فيريدون تعلم الحرب ليحفظوا
الدين فيضيعون الدين في نفس ذلك التعلم فلا تمضي على أولاد المسلمين سنتان أو ثلاث
حتى يصيروا عجما متخلقين بأخلاقهم متأدبين بآدابهم حتى أنهم تركوا السلام المشروع
في القرآن وأبدلوه بوضع اليد خلف الأذن فيجب على معلمهم في حالة تعليمه إياهم أن
يعدل عن الاصطلاح العجمي إلى العربي ويعبر عن الألفاظ العجمية بالعربية وإن كان
أصل العمل مأخوذا عن العجم فليجتهد
____________________
المعلم الحاذق في تعريبه وليس ذلك بعسير على من وفقه الله إليه وليس فيه إلا إبدال
لفظ عجمي بلفظ عربي بأن يقول مثلا أمام خلف دائرة نصف دائرة وهكذا فإذا مرنوا عليه
شهرا أو شهرين كان أسهل شيء عليهم لأن تلك هي لغتهم التي فيها نشأوا وعليها ربوا
فالعمل عجمي والكلام الذي ينبهون به على ذلك العمل عربي فأي كلفة في هذا وبه يندفع
عنهم التشبه بالعجم المنهي عنه شرعا فإن التزيي بزيهم لا يأتي بخير أبدا وهو والله
من أفسد الأشياء للدين الذي نريد أن نحوطه بهم
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه من لم تصلحه السنة فلا أصلحه الله ثم عمود هذا
كله وصلبه العقيم له وروحه الذي به حياته هو الكفاية في المطعم والملبس وليختر لهم
من الأغذية أطيبها وأنفعها للبدن وليجعل لهم كسوتان كسوة الشتاء وكسوة الصيف
وليتخير لهم من المساكن والمنازل أطيبها وأصلحها هواء وأبعدها عن محل الوخم
وليلزمهم بالاعتناء بتنظيف مساكنهم وتبريدها وتطييبها حتى لا ينشأ عنها داء وإذا
تراخوا في مثل ذلك عوقبوا عليه لأنه دال على دناءة الهمة ودنيء الهمة لا يأتي منه
شيء وليرتب لهم الأطباء العارفون حتى إذا أصاب أحدا منهم مرض عالجه الطبيب في
الحال فإن هذا الجند هو سور الإسلام وسياج الدين فبحفظه يحفظ الدين وبسلامته يسلم
فإذا اتخذ الجند على هذه الكيفية التي ذكرنا سهل على الناس الدخول في الجندية
وتنافسوا فيها ومن كان عنده من الرعية درهم طابت نفسه بأن يقتسمه معهم ويكون الجند
حينئذ في مرتبة هي أشرف من مرتبة الرعية بكثير لأن الجند يحفظهم والرعية تكسب
وتبذل لهم ثم إذا ظهر من آحاد الجند نجابة أو شجاعة أو نصيحة في الخدمة السلطانية
رفع قدره ونوه باسمه ليغتبط هو بمنزلته ويزداد في خدمته ويغبطه غيره وينافسه في
خصاله التي أكسبته تلك المنزلة وليقس ما لم يقل والله الهادي إلى التوفيق بمنه
ولنرجع إلى التاريخ فنقول
وفي سنة سبع وسبعين ومائتين وألف وذلك في يوم الثلاثاء الثاني عشر
____________________
من ذي القعدة منها توفي والدنا الفقيه المرابط الأخير أبو البقاء خالد بن حماد بن
محمد الكبير الناصري بقبيلة سفيان ودفن بتربة الشيخ أبي سلهام رضي الله عنه وكان
رحمه الله من الورع والتحري في أكل الحلال على جانب عظيم بحيث فاق أكثر أهل زمانه
في ذلك وكان دينا وقورا كثيرالأوراد ذا صمت وجد وله إلمام بالفقه والسيرة النبوية
مرجو البركة عند العامة رحمنا الله وإياه والمسلمين ثورة الجيلاني الروكي ومقتله
كان الجيلاني الروكي من عرب سفيان رجلا خامل الذكر ساقط القدر حرفته رعي البهائم
ونحو ذلك من عمل أهل البادية فوكل به جني أو شيطان ففاه بالمخاريق وتبعته العامة
فثار ببلاد كورت وتقدم إلى دار القائد عبد الكريم بن عبد السلام بن عودة الحارثي
السفياني في أخلاط من الأوباش بالعصي والمقاليع فحاصر القائد المذكور في داره من
الظهر إلى الغروب ثم اقتحم العامة عليه داره فقتلوه وقتلوا جماعة من إخوته وبني
عمه ونهبوا ما وجدوا بداره وكان شيئا كثيرا من المال والأثاث وبقي أولئك القتلى
مصرعين بفناء الدار ثلاثة أيام لم يدفنوا وافتتنت العامة بهذا الروكي ونسبوا له
الخوارق والكرامات من غير استناد إلى دليل ووعدهم بأنه يستولي على الملك ويحكم
المتمسكين بدعوته في الأموال كيف شاؤوا وضاعت نفوس في تلك الفتنة ونهبت أموال
واختلط المرعى بالهمل وكنت حاضرا لهذا الخطب العظيم فكان من افتتان العامة بهذا
المعتوه واعتقادهم فيه وجهلهم المركب في أمره ما لا يكاد يصدق به إذا حكي وكان
السلطان سيدي محمد رحمه الله يومئذ برباط الفتح فاهتز لهذا الخطب لأن الشيطان كان
قد نفخ في أباطيل الروكي وشاعت في العالم حتى اهتز لها النصارى الذين كانوا
بتطاوين وحدثوا أنفسهم بالفرار ثم إن السلطان رحمه الله أغراه أخاه المولى الرشيد
فلما سمع الروكي بمجيئه وعد أوباشه بأنه سينصر عليه وأن خيل السلطان
____________________
تكون غنيمة له وقال لهم اتخذوا الشكائم أي الأرسان من الدوم وأعدوها لتقودوا بها
خيل السلطان فاتخذ جمع عظيم من العامة الحبال والأرسان وتوشحوا بها تحت الثياب
وجعلوا يتبعون الروكي أينما ذهب انتظارا لوعده ولما قرب المولى الرشيد منه أخذ
أمره في النقصان وناموسه في البطلان ولما كان المولى الرشيد قرب سوق الأربعاء من
بلاد سفيان جعل الشكائمية يقربون من المحلة ويتطوفون حولها مختفين بالأودية
والشعاب والكدى ينتظرون هزيمتها بخارق من خوارق دجالهم فأعلم المولى الرشيد
بمكانهم فبعث الخيل فالتقطوهم في ساعة واحدة ولم يفلت منهم إلا القليل وسيقوا إلى
رباط الفتح فسجنوا به مدة وأما الروكي فإنه قصد جبل زرهون ودخل روضة المولى إدريس
الأكبر رضي الله عنه فاجتمع عليه جماعة من الأشراف الأدارسة والعلويين وغلقوا
أبواب القبة وتقدم إليه شريف علوي ففتك فيه وأراح الناس من شره واحتزوا رأسه ويده
وحملوهما إلى السلطان فبعث بهما إلى مراكش فعلقا بجامع الفناء مدة وكان جهلة
العوام لا يصدقون بموته وبقوا ينتظرون رجعته سنتين أو ثلاثا { ومن يضلل الله فما
له من هاد } الرعد 33 وكان مقتل الروكي في أواسط شعبان سنة ثمان وسبعين ومائتين
وألف ولم تجاوز مدته أربعين يوما وكان مما كتبه السلطان في شأنه ما نصه وبعد فإن
فتانا من سفيان مرق من الدين وفتن بأمور شيطنته من اغتر به من المسلمين وجمع عليه
أوباشا من أمثاله وأضرابه وأشكاله وتقدم بهم لدار خديمنا ابن عودة فقتلوه ثم تقدم
بهم للشراردة فقاتلوه ثم تقدم بهم لزاوية مولانا إدريس فقاتله أهلها قتالا يرضي
الله ورسوله ولم يحصل لهم من قتاله ضجر ثم قبضوا عليه وقتلوه وعلقوا رأسه بباب
الزاوية المسمى بباب الحجر وأغلقوا الأبواب بعد ذلك على من دخل معه من أتباعه
وأنصاره وأشياعه فقبضوا عليهم وجعلوهم في السلاسل والأغلال ونحن على نية إقامة
الحد عليهم إن شاء الله جزاء وفاقا على ما ارتكبوه من الفساد وقبيح الأعمال ومن
كان منهم حينئذ خارجا عن الباب تخطفته الأيدي وجنوا ثمار ما سعوا فيه من البغي
والتعدي وقطع دابر جميعهم فالحمد لله حق حمده وما كل نعمة إلا
____________________
من عنده وأعلمناكم لتكونوا على بصيرة إذ ربما يبلغ المرجفون على عادتهم النازلة
على غير وجهها والسلام في ثامن عشر شعبان المعظم عام ثمانية وسبعين ومائتين وألف إيقاع
السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن رحمه الله بعرب الرحامنة
لما كان السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن رحمه الله ببلاد الغرب مشتغلا بأمر
الإصبنيول وحربه على تطاوين ثار عرب الرحامنة بالحوز وعمدوا إلى سوق الخميس بمراكش
فأغاروا عليه وانتهبوه وسلبوا المارة وأرباب الجنات وضايقوا أهل مراكش حتى منعوهم
من الارتفاق حول المدينة فانقطعت السبل وارتفعت الأسعار وقطع الرحامنة ما حول
الأسوار من الأشجار واحتطبوها وحصدوا الزروع في الفدن واغتصبوها واشتد الحصار
وتخاذلت الأنصار ودام الحال إلى أن فرغ السلطان رحمه الله من حرب الإصبنيول وفتنة
الروكي فوجه وجهته إلى مراكش فلما قرب منها تحزب الرحامنة وأجمعوا على حربه
فانحازوا إلى ناحية الرميلة والأودية وزاوية ابن ساسي ليحولوا بينه وبين الدخول
إلى مراكش فهجم عليهم وأوقع بهم وقعة سيقوا بها بعد ساعة إلى مراكش مقرنين في
الحبال حتى ضاقت بهم السجون ولولا أنه رحمه الله كف أيدي الجيش عنهم لاستأصلوهم ثم
عفا عنهم بعد أن انتزع منهم بلاد آيت سعادة وغواطم والأودية وهي من أخصب البلاد
وأزكاها وكتب السلطان في هذه الوقعة لأخيه المولى الرشيد بكتاب مختوم عليه بالخاتم
الكبير بن الافتتاح والخطاب وبداخل الخاتم محمد بن عبد الرحمن غفر الله له
وبدائرته
( ومن تكن برسول الله نصرته ** إن تلقه الأسد في آجامها تجم ) { وما توفيقي إلا
بالله عليه توكلت وإليه أنيب } هود 88 وبأركان الخاتم الله
____________________
محمد أبو بكر عمر عثمان علي
ونص الافتتاح الحمد لله الذي تدارك الأمة باللطف الكفيل بتمهيد أقطارها وتيسير
أوطارها وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الذين نصروا الدين بالصفاح والأسنة
وأوضحوا أحكام السنة أخانا الأعز الأرضى مولاي الرشيد أصلحك الله وأعانك وسلام
عليك ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد فإنه لما تواترت الأنباء المحققة بعد التباسها
وتواردت الأخبار التي يغني نصها عن قياسها بما ارتكبه ظالموا أنفسهم الرحامنة من
أنواع الفساد التي أذاعوها وأظهروها وأشاعوها وقد كانت في صدورهم كامنة صرفنا
الوجهة إليهم وطوينا المراحل من أجلهم ولما حللنا ببلادهم أرسلنا عليهم سيل العرم
من العساكر المنصورة والجيوش الموفورة فما كان غير بعيد حتى أتوا برؤوس منهم كثيرة
محمولة على أسنة الرماح وأسارى من مقاتلتهم مجردين من الثياب والسلاح ومن نجى منهم
رجع مجردا إلا من خيبة سعيه وما سقي إلا بكأس بغيه واستولت العساكر والأجناد على
جميع ما كان عند أهل الفساد ومن المعلوم أن من سل سيف البغي يعود إلى نحره ومن ركب
متن الشقاق يغرق في بحره وأن الفتنة نار تحرق من أوقدها والمخالفة صفقة تعود
بالخسارة على من عقدها ولما أردنا معادوتهم لقطع دابرهم وتشتيت ما بقي من رماد
أثرهم تعلقوا بالمرابطين من ذوي الوجاهات وأكثروا من الذبائح على المحال وتوجيه
العارات وقاموا بواجب السمع والطاعة في كل ما أمرناهم به جهد الاستطاعة فأبقينا
عليهم وإن عادت العقرب عدنا بحول الله لها وكانت النعل لها حاضرة فالحمد لله الذي
خيب آمالهم وأبطل أعمالهم وخذل أنصارهم وأركد أعمارهم لما اعمى أبصارهم وردهم
ناكصين على الأعقاب بعد سلب الأموال وقطع الرقاب { ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله
ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب } الأنفال 13 ونعوذ بالله من الآراء
المعكوسة والحظوظ المنكوسة وسوء الفعل الذي يورد المهالك والحرمان الذي يجعل
البصير كالأعمى في دجنة الليل الحالك هذا ويصلكم ما قطع من رؤوس قتلاهم لتتعلق
بباب المدينة ويعتبر بها المعتبرون ويتذكر بها
____________________
المتذكرون والله أسأل أن لا
يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك وأن يكون لنا وللمسلمين بما كان
لأوليائه وأحبائه وأصفيائه وأن يوفقنا وإياهم لما يحبه ويرضاه ويختم للجميع بخير
والسلام في ذي الحجة الحرام عام ثمانية وسبعين ومائتين وألف ومن تمامه وأن علقت
يوما واحدا فادفعها لحملتها ولا بد ليتوجهوا بها إلى مكناسة صح به ا هـ نص الكتاب
الشريف
وفي سنة تسع وسبعين ومائتين وألف سافر شيخنا الفقيه العلامة البارع أبو عبد الله
محمد بن عبد العزيز محبوبة السلاوي إلى الحجاز لأداء فريضة الحج فوافته منيته بمكة
المشرفة بعد الفراغ من الحج والعمرة ودفن بالمعلاة وكان رحمه الله واعية دراكة
نفاعة كثير الدرس والتقييد والنسخ للكتب المعتبرة فصيح العبارة حسن النغمة والصوت
عارفا بالحديث دؤوبا على سرده عارفا بالنحو والفقه وعلوم الآلة لازمناه وانتفعنا
به وعادت علينا بركاته رحمه الله ونفعنا به وكنت رثيته بقصيدة ذهبت في جملة ما ذهب
من شعري إذ لم يكن لي اعتناء بتقييده ومطلعها
( ملازمة التذكار تذهب باللب ** وتغري قديم الوجد بالهائم الصب )
وفي سنة ثمانين ومائتين وألف وذلك يوم السبت الرابع عشر من شعبان منها كانت هدة
البارود بمراكش وذلك أنه كان بجامع الفناء منها فندق في بعض بيوته نحو أربعمائة
قنطار من البارود وبه أيضا شيء من فحم الريش المتخذ للبارود فوقعت فيه نار وسرت
منه إلى البارود فنفض وقت الغروب من اليوم المذكور والناس كثيرون حول الفندق فطار
الفندق بما فيه وكانت حيطانه عادية وطار من كان حوله من الناس قيل نحو الثلاثمائة
فمنهم من لم يوجد أصلا ومنهم من وجد بعضه من يد أو رجل ونحو ذلك وتهدمت كل دار
كانت متلاشية بمراكش وانخلعت الأقفال من الأبواب وصرصرت السقوف والحيطان وكان
الحادث عظيما وفي هذه السنة ورد يهودي من اللوندرة على السلطان بمراكش يطلب منه
الحرية ليهود المغرب وذلك لأنه
____________________
لما كانت وقعة تطاوين ودهم
الناس ما دهمهم من أمر الحمايات وأكثر من تعلق بها اليهود لم يقتصروا على ذلك
وراموا الحرية تشبها بيهود مصر ونحوها فكتبوا إلى يهودي من كبار تجارهم باللوندرة
اسمه روشابيل وكان هذا اليهودي قارون زمانه وكانت له وجاهة كبيرة في دولة النجليز
لأنها كانت تحتاج إليه فيسلفها الأموال الطائلة وله في ذلك أخبار مشهورة فكتب يهود
المغرب إليه أو بعضهم يشكون إليه ما هم فيه من الذلة والصغار ويطلبون منه الوساطة لهم
عند السلطان رحمه الله في الإنعام عليهم بالحرية فعين هذا اليهودي صهرا له للوفادة
على السلطان رحمه الله في هذا الغرض وفي غيره وأصحبه هدايا نفيسة وسأل من دولة
النجليز أن يشفعوا له عند السلطان ويكتبوا له في قضاء غرضه ففعلوا وقدم على
السلطان بمراكش وقدم هداياه وسأل تنفيذ مطلبه فتجافى السلطان رحمه الله عن رده
مخفقا وأعطاه ظهيرا فتمسك به اليهودي يتضمن صريح الشرع وما أوجب الله لهم من حفظ
الذمة وعدم الظلم والعسف ولم يعطهم فيه حرية كحرية النصارى ونص الظهير المذكور
بالطابع الكبير
بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم نأمر من يقف على
كتابنا هذا أسماه الله وأعز أمره وأطلع في سماء المعالي شمسه المنيرة وبدره من
سائر خدامنا وعمالنا والقائمين بوظائف أعمالنا أن يعاملوا اليهود الذين بسائر
إيالتنا بما أوجبه الله تعالى من نصب ميزان الحق والتسوية بينهم وبين غيرهم في
الأحكام حتى لا يلحق أحدا منهم مثقال ذرة من الظلم ولا يضام ولا ينالهم مكروه ولا
اهتضام وأن لا يتعدوا هم ولا غيرهم على أحد منهم لا في أنفسهم ولا في أموالهم وأن
لا يستعلموا أهل الحرف منهم إلا عن طيب أنفسهم وعلى شرط توفيتهم بما يستحقونه على
عملهم لأن الظلم ظلمات يوم القيامة ونحن لا نوافق عليه لا في حقهم ولا في حق غيرهم
ولا نرضاه لأن الناس كلهم عندنا في الحق سواء ومن ظلم أحدا منهم أو تعدى عليه فإنا
نعاقبه بحول الله وهذا الأمر الذي قررناه وأوضحناه وبيناه كان مقررا ومعروفا محررا
لكن زدنا هذا المسطور تقريرا وتأكيدا
____________________
ووعيدا في حق من يريد ظلمهم
وتشديد ليزيد اليهود أمنا إلى أمنهم ومن يريد التعدي عليهم خوفا إلى خوفهم صدر به
أمرنا المعتز بالله في السادس والعشرين من شعبان المبارك عام ثمانين ومائتين وألف
ولما مكنهم السلطان من هذا الظهير أخذوا منه نسخا وفرقوها في جميع يهود المغرب
وظهر منهم تطاول وطيش وأرادوا أن يختصوا في الأحكام فيما بينهم لا سيما يهود
المراسي فإنهم تحالفوا وتعاهدوا على ذلك ثم أبطل الله كيدهم وخيب سعيهم على أن
السلطان رحمه الله لما أحس بطيش اليهود عقب ذلك الظهير بكتاب آخر بين فيه المراد
وأن ذلك الإيصاء إنما هو في حق أهل المروءة والمساكين منهم المشتغلين بما يعنيهم
وأما صعاليكهم المعروفون بالفجور والتطاول على الناس والخوض فيما لا يعني فيعاملون
بما يستحقونه من الأدب
واعلم أن هذه الحرية التي أحدثها الفرنج في هذه السنين هي من وضع الزنادقة قطعا
لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية رأسا أما إسقاطها
لحقوق الله فإن الله تعالى أوجب على تارك الصلاة والصوم وعلى شارب الخمر وعلى
الزاني طائعا حدودا معلومة والحرية تقتضي إسقاط ذلك كما لا يخفى وأما إسقاطها
لحقوق الوالدين فلأنهم خذلهم الله يقولون إن الولد الحدث إذا وصل إلى حد البلوغ
والبنت البكر إذا بلغت سن العشرين مثلا يفعلان بأنفسهما ما شاءا ولا كلام للوالدين
فضلا عن الأقارب فضلا عن الحاكم ونحن نعلم أن الأب يسخطه ما يرى من ولده أو بنته
من الأمور التي تهتك المروءة وتزري بالعرض سيما إذا كان من ذوي البيوتات فارتكاب
ذلك على عينه مع منعه من الكلام فيه موجب للعقوق ومسقط لحقه من البرور وأما
إسقاطها لحقوق الإنسانية فإن الله تعالى لما خلق الإنسان كرمه وشرفه بالعقل الذي
يعقله عن الوقوع في الرذائل ويبعثه على الاتصاف بالفضائل وبذلك تميز عما عداه من
الحيوان وضابط الحرية عندهم لا يوجب مراعاة هذه الأمور بل يبيح للإنسان أن يتعاطى
ما ينفر عنه الطبع وتأباه الغريزة الإنسانية من التظاهر بالفحش والزنى وغير ذلك إن
شاء لأنه مالك أمر نفسه فلا يلزم أن يتقيد بقيد ولا فرق بينه وبين البهيمة
____________________
المرسلة إلا في شيء واحد هو
إعطاء الحق لإنسان آخر مثله فلا يجوز له أن يظلمه وما عدا ذلك فلا سبيل لأحد على
إلزامه إياه وهذا واضح البطلان لأن الله تعالى حكيم وما ميز الإنسان بالعقل إلا
ليحمله هذه التكاليف الشرعية من معرفة خالقه وبارئه والخضوع له لتكون له بها
المنزلة عند الله في العقبى { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض } الأحزاب 72
الآية
واعلم أن الحرية الشرعية هي التي ذكرها الله في كتابه وبينها رسول الله صلى الله
عليه وسلم لأمته وحررها الفقهاء رضي الله عنهم في باب الحجر من كتبهم فراجع ذلك وتفهمه
ترشد وبالله التوفيق
وفي سنة إحدى وثمانين ومائتين وألف كمل بناء الدار الفيحاء التي أنشأها السلطان
سيدي محمد رحمه الله بآجدال من ظاهر رباط الفتح بجوار ضريح جده سيدي محمد بن عبد
الله وهي دار كبيرة حسنة البناء واسعة المقاعد والفناء يقال إنها من أخوات بديع
المنصور ولما كمل بناؤها أمر السلطان رحمه الله أن يختم فيها فقهاء رباط الفتح
صحيح البخاري أولا وفقهاء سلا ثانيا فدخلناها في جملتهم وتقصينا منازلها ومقاعدها
فرأينا ما ملأ أبصارنا حسنا وإتقانا وعجيب صنعة
وفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف حدثت فتنة بفاس وذلك أن الناس كانوا في صلاة
الجمعة بمسجد القرويين خامس ربيع الأول وكان فيهم التاجر الأمجد أبو عبد الله حبيب
بن هاشم بن جلون الفاسي فلما سجد مع الناس شدخ بعض اللصوص رأسه بحجر كبير من أحجار
التيمم التي تكون بالمسجد ثم انحنى عليه بخنجر كان بيده فقطع به صفاق بطنه وساوره
التاجر المذكور وما بالعير من قماص ولما وقعت الضجة قطع الناس صلاتهم وخرجوا فارين
من المسجد وتركوا ثيابهم ونعالهم ومصاحفهم وغير ذلك فقائل يقول إن الإمام المهدي
قد خرج وآخر يقول إن الناس يذبح بعضهم بعضا في الجامع واهتزت المدينة ثم تراجع
الناس بعد حين وأما اللص فإنه خرج شاهرا سلاحه حتى وصل إلى باب المسجد فكثره الناس
وقبضوا عليه وانتزعوا السلاح من يده وكشفوه فإذا به قد أدار حبالا كثيرة من تحت
الثياب
____________________
على بدنه وقاية له فقتلوه
هنالك وبقي التاجر ابن جلون يعالج جراحاته إلى أن مات من آخر الليل واتهم أولياؤه
ناسا من أعيان فاس بأنهم أغروا بقتله ولم يثبت ذلك
وفي هذه السنة أعني سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف وجه السلطان رحمه الله قائد
جيشه أبا عبد الله محمد بن عبد الكريم الشرقي وعامل سلا أبا عبد الله محمد بن سعيد
السلاوي باشدورين إلى دولة فرنسا بباريس وكان السبب في ذلك ما أخبرني به القائد
أبو عبد الله بن سعيد المذكور قال كان سيدنا أمير المؤمنين سيدي محمد بن عبد
الرحمن رحمه الله قد أصحبنا كتابا إلى طاغية الفرنسيس وأمرنا بالكلام معه في شأن
هؤلاء النواب الذين يبعثهم إلى المغرب وأن يكون ينتخبهم من بيوت الأعيان وممن يتصف
بالتأني وحسن السيرة والوقوف عند ما حد لهم ولما وصلنا إلى باريس شرحنا ذلك
للطاغية المذكور كتابة ففرح وقابلنا بمالا مزيد عليه من البرور الذي لا نقدر على
شرحه مع إن إكرامنا والحمد لله لهم يفوق ذلك في الصوائر وكنا توجهنا ومعنا خيول وغيرها
وأقمنا بباريس شهرا وكان مقامنا بدار كثيرة الفرش والأثاث من الفضة والمعدن ووكل
بنا أمين يصير علينا حسب نظرنا وقومة يباشرون فرش المنزل وتنظيفه وغير ذلك ومعنا
أصحابنا وطباخنا إلا أنهم منعزلون بمحل يخصهم وفي كل يوم تستدعينا الدولة للفرجة
بمحل يسمى التياترو فيه مواعظ وحكم لمن تبصر ومتعة للنفس لمن كان حظه النظر وقد
أكرمنا الطاغية بمنزله وأكرمنا الوزراء وعامل البلد والأعيان ليلا وكل واحد يجمع
علينا أعيان الدولة وأهل البلد نساء ورجالا وعادتهم عند دخولك المنزل أن تحيي
الزوجة ومن معها بالسلام أولا ثم بعد ذلك تحيي الرجل ورأينا من الطاغية ووزيره على
الأمور البرانية من البرور والبشاشة ما جاوز الحد وطلب منا هذا الطاغية أن نبحث له
في كتب التاريخ بالمغرب هل نعثر على تاريخ بناء رومة وفي أي وقت بنيت واسم بانيها
ونبعث به إليه ا هـ كلام العامل المذكور وهو حفظه الله من أمثل الناس
____________________
وأعدلهم وأتقاهم وله المنزلة
الكبيرة عند السلطان وعند الناس حرس الله مجادته وأدام بمنه عافيته وسلامته
ونص الكتاب الذي وجههم به السلطان رحمه الله مكتوبا فيه اسم السلطان بداخل الطابع
الشريف بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم من عبد
الله المتوكل على الله المفوض أمره إلى الله أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين ابن
أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين بالمغرب الأقصى وهو محمد بن عبد الرحمن وفقه الله
أدام الله نصره وزين بالخيرات عصره إلى المحب الذي حل من مراتب الرياسة أسناها
وحاز من خصال التقدم أقصاها وأدناها فأصبحت ألسن الرؤساء لهجة بذكره مفصحة بتسليم
نتائج فكره ملك الممالك الفرنساوية السلطان نابليون الثالث بونابارتي أما بعد
فموجب تحرير هذا المسطور إليكم إعلامكم بما تضمنه الفؤاد من خالص المحبة وحفظ
الوداد وإننا مسرورون بما يتجدد لدينا كل وقت من عقد أسبابها وما يظهر كل حين من
تشييد أركانها وفتح أبوابها فإن محبتنا معكم الشخصية زادت على ما كانت عليه في عهد
الأسلاف وذلك لما جبلتم عليه من صفاء الطوية وحسن الائتلاف فإن القلوب في الوداد
تتضاهى وما بني على أصل وثيق كان جديرا بأن يعظم ويتناهى وبموجب ذلك عينا للسفارة
إليكم خالنا الأرضى الأنجد القائد محمد بن عبد الكريم الشرقي وهو أحد باشات جيشنا
ومن كبراء رجال دولتنا مع ما تشرف به من قرابة الرحم لدينا ومعه خديمنا الأرضي
الأمين الحاج محمد بن سعيد قائد سلا وهو عندنا أيضا بالمكان المكين لما تخلق به من
الأدب والعقل الرصين والغرض من توجيههما تجديد العهد بكم والحرص على موالاة
المواصلة معكم لما في ذلك من تأكيد أسباب المحبة بين الدولتين وتمهيد طريق الخير
بين الإيالتين والظن بشيمتكم مقابلتهم بحسن القبول وتبليغهم في وجهتهم غاية
المأمول جريا على عادتكم القديمة وسلوكا على طريقتكم القويمة وقد حملناهم ما في
خاطرنا من أمور السياسة الجالبة لمصالح الجانبين ما يقررونه لديكم ويعرضونه عليكم
ففي أخبارهم كفاية وأوصيناهم بحسن الاستماع لما تلقونه
____________________
إليهم والأدب في تلقي ما
تعرضونه عليهم كما أننا نتحقق أنكم لحسن معاملتكم ومزيد محبتكم توصون نوابكم الذين
توجهونهم للخدمة بإيالتنا السعيدة بحسن المعاملة والتقصي في ترحيب الصدر والمجاملة
والوقوف عند الشروط والعمل بمقتضاها والتمام في الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة
اثنتين وثمانين ومائتين وألف ا هـ
واعلم أن هذا الكتاب بديع في بابه غريب في منواله قد اشتمل من التوريات والنكات
ومقتضيات الأحوال على ما يشهد لمنشئه بالمعرفة والمهارة والبصيرة والبصارة رحمه
الله وفي شوال من هذه السنة مرض السلطان رحمه الله مرضا شديدا أشرف منه على الهلاك
بل أشاع المرجفون أنه قد هلك واضطربت أحوال الرعية وعاد أعراب البادية إلى العيث
في الطرقات واستلاب الناس بها من المارة وغيرهم وحاصر عرب عامر مدينة سلا وعاثوا
في جناتها ومنعوا الداخل إليها والخارج منها وغلقت الأبواب واستمر ذلك إلى عيد
الأضحى ثم ورد الخبر اليقين بإبلال السلطان وإفاقته من علته وكانت علته الداء
المعروف بالخوانق بلغ به إلى حد اليأس والإشراف ثم تدارك الله المسلمين بلطفه ومن
على إمامهم بعافيته فأعملت المفرحات والولائم في جميع الأمصار
قال أبو عبد الله أكنسوس ما ملخصه لما أفاق السلطان رحمه الله من علته هذه كتب
حجاب الحضرة ووزراؤها لابنه الخليفة المنتصر بالله أبي علي المولى حسن بن محمد
يهنئونه بعافية السلطان فأمر هذا الخليفة أعزه الله بإخراج المدافع والأنفاض حتى
اهتزت الجبال ثم دعا أيده الله الناس الدعوة الحفلا فلم يتخلف ممن كان بمراكش أحد
من العقلاء فأمر أيده الله بتهيئة جنان رضوان ففتحت أبوابه وفرشت قصوره وقبابه
وفجرت أنهاره حتى تفتقت أزهاره وحضر وجوه الدولة وأعيانها ورؤساء القبائل وأقيالها
وكان ذلك بأثر عيد الأضحى قبل انفصال وفود العيد عن الحضرة ثم اندفع عليهم من
الدار المولوية من سيول موائد الطعام الفاخر ما عم الأول منهم والآخر هذا للعامة
المطلقة والأوزاع الملفقة وأما الخواص والوجوه
____________________
فلهم الحظ الأوفر من العناية
والخطاب بصريح الترحيب دون كناية بالقعود على الفرش الحريرية المذهبة والمقاعد
العالية المطنبة والرش بمياه الأزهار ومباخر الطيب وكل معنى لطيف ومنظر عجيب وقد
أحضر كل واحد ما شاء من آلات اللهو والفرح على حسب ما اشتهى واقترح فلا تكاد تسمع
في تلك المجالس والمغاني إلا أصوات المثالث والمثاني وضروب الألحان والأغاني
واستمر الناس في ذلك ثلاثة أيام والمولى الخليفة أعزه الله مع إخوته وبني عمه في
القبة المحمدية الصويرية المشرفة على مجاري الخيل وملاعبها ومطاردها ومتاعبها وكل
عشية يركب من بالحضرة من الوجوه والأكابر على عتاق الخيل والجياد الضوامر ويبدي ما
عنده من الثقافة والفروسية مع إظهار الشارة المخزنية والأبهة الملوكية ثم بعد هذا
شرع كبار الدولة ووجوهها ورؤساؤها وقوادها في انتخاب الصنائع والولائم كل على حسب
ما أداه إليه اختياره واعتناؤه ثم تتابع الناس في مزهاتهم وإظهار أبهاتهم وانتخاب
دواعي الأفراح ومقتضيات الازدهاء والانشراح فما يمر احد ببستان إلا ويجد به جماعة
زاهية وطائفة منبسطة لاهية ا هـ
وفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف كان بالمغرب جراد سد الأفق وذلك في ربيع الأول
الموافق لشهر مارس العجمي فأكل النجم والشجر ثم عقبه فرخه المعروف بآمرد فأكل كل
خضراء على وجه الأرض واستلب الأعواد من أوراقها وقشرها من لحائها وفاض في الأمصار
حتى دخل على الناس في بيوتهم
وفي سنة أربع وثمانين ومائتين وألف كان الغلاء المفرط بالمغرب الذي لم يتقدم مثله
بلغ فيه الربيع وهو ربع ثمن المد بسلا ورباط الفتح ستين أوقية وباع الناس أثاثهم
وحليهم بالبخس وكان الأمر شديدا على الضعفاء وفي ذي القعدة من هذه السنة توفي
القائد الأجل أبو محمد عبد الله بن عبد الملك بن بيهي الحاحي وكان من كبار قواد
المغرب وأهل البذل والإيثار والمعروف له في ذلك أخبار مذكورة رحمه الله
____________________
وفي سنة خمس وثمانين ومائتين وألف كان الوباء بالمغرب بالقيء والإسهال المفرطين
على نحو ما وصفناه في السنين الماضية وفي زوال يوم الأحد الحادي عشر من جمادى
الأولى من السنة المذكورة توفي قاضي سلا الفقيه العلامة الورع أبو عبد الله محمد
العربي بن أحمد بن منصور ودفن بالجبانة المتصلة بضريح الشيخ أبي العباس بن عاشر
رضي الله عنه وكانت لهذا القاضي سيرة حسنة وعدل في الأحكام وتأن فيها مع سمت
ومروءة وانقباض رحمه الله وبقيت سلا بلا قاض أربعين يوما حتى وقع اختيار السلطان
على شيخنا الفقيه العلامة القاضي سيدي أبي بكر ابن الفقيه العلامة القاضي سيدي
محمد عواد رحم الله الجميع
وفي هذه السنة أمر السلطان رحمه الله بضرب الدرهم الشرعي وحاول ضبط السكة به وحمل
الناس على أن لا يذكروا في معاملاتهم وأنكحتهم وسائر عقودهم إلا الدرهم الشرعي
وشدد في ذلك وكتب فيه إلى ولاة الأمصار يقول في كتابه ما نصه وبعد فإن أمر السكة
من الأمور الواجبة المتعين رد البال إليها والاهتمام بشأنها والنظر فيما يصدر
بسببها من النفع والضرر للمسلمين وبيت مالهم وقد كان أسلافنا رحمهم الله اعتنوا
كثيرا بشأنها وبضبط مصالحها ودفع مفاسدها وجعلوها على قدر شرعي معلوم لضبط أمرها
والتبرك بتلك النسبة إذ بذلك يعلم المسلم علم يقين كمال النصاب عنده فتجب عليه فيه
الزكاة التي هي من دعائم الإسلام أو عدم كماله فلا يكون مخاطبا في بشيء ولما رأينا
ما حدث فيها من التغير وعدم الضبط ونشأ عن ذلك من الضرر للمسلمين وبيت مالهم ما لم
يخف على أحد اقتضى نظرنا السديد ردها لأصلها الأصيل الذي أسسه أسلافنا الكرام سنة
ثمانين ومائة وألف أذلنا فيهم أسوة حسنة في الإجمال والتفصيل فرددنا الدرهم الكبير
المسلوك على وزن الدرهم الشرعي والمنهاج المرعي كما كان على عهد جدنا سيدي الكبير
قدسه الله وجدد عليه وابل رحماه بحيث تكون عشرة دراهم منه هي المثقال كما هو معلوم
إن عشرة دراهم من الدراهم التي كانت تروج قبل على عهد أسلاقنا رحمهم الله هي
المثقال وبهذا العدد
____________________
الذي هو عشرة منه في المثقال
تكون جميع المعاملات والمخالطات في البيع والابتياع وغيرهما بين جميع رعيتنا
السعيدة في كل البوادي والحواضر وبه أمرنا جميع العمال ومن هو مكلف بعمل من
الأعمال وإشاعته ليبلغ الشاهد الغائب وبه يقبل لجانب المال وأمرناهم بالعمل بهذا
الأمر الذي أصدرناه وأبرمناه بحول الله وأمضيناه وأن يعاقبوا كل من عثروا عليه
ارتكب خلاف ذلك وبأن يسلكوا به أضيق المسالك جزاء وفاقا على مخالفته وتعديه الحد
وافتياته نعم ما سلف من المعاملات بجميع أنواعها فيما تقدم قبل تاريخ هذا الكتاب
فحكمه حكم ما تقدم في السكة فلا يكلف أحد بزيادة ومن كان بذمته شيء فيما سلف يؤديه
بحساب ما كانت تروج به السكة في الريال والدرهم والعمل بهذا الذي أمرنا به هو من
الآن لما يستقبل إن شاء الله وبهذا يزول الإشكال فيما تقدم بين الناس في المعاملات
ونسأل الله أن يخلص العمل في سبيله ومرضاته ويجازي من فضله وكرمه على قصده وصلاح
نياته والسلام في ثامن شوال عام خمسة وثمانين ومائتين وألف ا هـ
وفي يوم الجمعة السادس عشر من شوال المذكور توفي البركة الخير المنتسب سيدي الحاج
محمد بن العربي الدلائي الرباطي بالدار البيضاء ودفن يوم الجمعة بالزاوية المنسوبة
إليه بها رحمه الله ونفعنا به وفي هذه السنة كان سوق دار البلار بباريس من أرض
افرانسا وذلك أن الطاغية نابليون الثالث لما بلغ من ضخامة الدولة ونفوذ الكلمة ما
قل اتفاقه لغيره من الأجناس حاول أن يتجاوز ذلك إلى أن يجلب إلى رعيته ودار ملكه
كل أمر غريب في العالم حتى يجتمع عنده ما افترق عند غيره فكتب إلى ملوك الآفاق
يقول إنه قد عزم على إقامة سوق بباريس في وقت معلوم وطلب منهم أن يبعثوا بتجارهم
لحضورها وجلب سلعهم وغرائبهم إليها وقصده بذلك عموم النفع وتعدي الصنائع والحرف من
أمة إلى أخرى فأجاب الملوك داعيه بمقتضى العرف الجاري بين الدول والعادة المقررة
من عهد الملوك الأول ولم يبق إلا من بعث تجاره ونفائسه وغرائبه من الجليل إلى
الحقير وكان السلطان سيدي محمد رحمه الله قد بعث تاجره الحاج محمد بن العربي
القباج الفاسي
____________________
المعروف بالفرنساوي وهذا الرجل
من العارفين باللسان الفرنجي البصيرين بعوائد ذلك الجيل ولذا لقب بالفرنساوي وبعث
معه السلطان رحمه الله كل شيء غريب مما اختص به قطر المغرب من سروج مذهبة ومناطق
مزخرفة وقطائف منمقة وغير ذلك من الأعلى إلى الأدنى حتى الزليج الفاسي والمعلمين
الذين يباشرون ترصيعه في محاله وحضر هذا السوق الملوك فمن دونهم من كل إقليم حتى
السلطان عبد العزيز العثماني رحمه الله فكان الحال كما قال أبو الطيب المتنبي
( تجمع فيه كل لسن وأمة ** فما تفهم الحداث إلا التراجم )
وأقامت عمارتها ثلاثة أشهر ثم انفض الناس إلى بلادهم ولما بلغ نابليون الثالث إلى
هذه الغاية فجئته وقعة البروس التي كسرت من شوكته وفلت من غربه وقبض عليه باليد
وحوصرت دار ملكه باريس مدة طويلة فبلغ فيها لحم الحمار أربعة ريالات افرنك لكل رطل
على ما قيل ولم تغب عنهم محنة ووقع الصلح على شروط منها ألف مليون من الريال
تدفعها دولة افرانسا لدول البروس
وفي سنة ست وثمانين ومائتين وألف وذلك عشية يوم الخميس الرابع عشر من شعبان منها
توفي الوزير أبو عبد الله محمد الطيب بن اليماني المدعو بأبي عشرين وكان سبب وفاته
أنه كان به داء الحصر فدخل الميضأة التي بمشور أبي الخصيصات من دار السلطان بحضرة
مراكش فيقال إن مثانته تمزقت فمات رحمه الله وحمل إلى داره وصلى عليه بعد الجمعة
بمسجد المواسين وحضر جنازته الجم الغفير ودفن بضريح الشيخ أبي محمد الغزواني من
حومة القصور وكان رحمه الله ذا جد في الأمور ونصح للسلطان وللمسلمين
وفي سنة سبع وثمانين ومائتين وألف وذلك ليلة الخميس الرابع عشر من ربيع الثاني
منها خسف القمر خسوفا كليا بعد الغروب إلى نصف الليل وفي فجر يوم الجمعة الثامن من
جمادى الأولى من السنة المذكورة توفي الولي الصالح الناسك السني أبو عبد الله محمد
الطيب ابن الشيخ الأشهر مولاي
____________________
العربي الدرقاوي ودفن بمحل
زاويته بآمجوط من بلاد بني زروال وكان من خيار عبد الله على غاية من التقوى والورع
والتواضع من الناس يركب الحمار ويلبس الجبة ولا يتميز عن أصحابه بشيء مع السكينة
والوقار وعدم الخوض فيما لا يعني والإعراض عن زهرة الدنيا وأهلها رحمه الله ونفعنا
به وفي التاسع والعشرين من رمضان من السنة المذكورة انكسفت الشمس وكان ابتداء
الكسوف على ما أعطاه التعديل بعد الزوال بنحو نصف ساعة وكاد يكون كليا حتى أظلم
الجو وبقي من الشمس حلقة نورانية يسيرة ولم يمكن تحقيق وقت التجلي لتراكم السحاب
وفي هذه الأيام ظهرت حمرة في السماء غريبة أرجوانية مع غاية الصحو وكان ظهورها
يكون فيما بين العشاءين معظمها في جهة الشمال ودامت كذلك نحو سبعة أيام وانقطعت
وفي ليلة السبت الثامن من شوال من السنة وذلك في الساعة الثالثة منها زلزلت الأرض
ولم يشعر بها كثير من الناس لكونهم نياما
وفي سنة تسع وثمانين ومائتين وألف غزا السلطان سيدي محمد رحمه الله قبائل تادلا
فمر على السماعلة منتصف رجب ثم منهم لبني زمور ثم لأبي الجعد ثم منه توجه لقصبة
تادلا وعبر القنطرة ونزل على بني عمير ثم زحف لبني موسى فأوقع بهم لأنهم كانوا
خارجين على عاملهم الغزواني ابن زيدوح فقطع منهم خمسين رأسا وقبض على أربعين
مسجونا وفي أثناء ذلك قدم عليه وفد أهل مراكش وكانوا قد ثاروا على عاملهم أحمد بن
داود لكونه كان يسير فيهم سيرة غير حميدة فقدموا على السلطان متنصلين مما فرط منهم
فأعرض السلطان عنهم ولم يسمع منهم كلاما ولا قبل لهم عذرا فرجعوا مخفقين ثم تقدم
السلطان رحمه الله إلى مراكش وهو غضبان على أهلها وكانوا مظلومين فيما قيل إلا أنه
لبس على السلطان في أمرهم فلما شارف المدينة خرجوا إليه بالعلماء والقراء وصبيان
المكاتب متشفعين فلم يقف لهم ولا التفت إليهم وكان ابنه وخليفته المولى الحسن
حاضرا يومئذ فتقدم إلى أهل مراكش ورق لهم وقال لهم قولا جميلا وكان هذا الحادث في
رمضان
____________________
من السنة المذكورة ثم لم يلبث
ابن داود بعد ذلك إلا مدة يسيرة حتى توفي وتخلصت قائبة من قوب وعفو الله بعد ذلك
مرقوب
وفي سنة تسعين ومائتين وألف كانت جائحة النار بكثير من بلاد المغرب أحرقت الزروع
والثمار وأجيحت الجنات وتراجع الناس في أثمان ما بيع منها بعد إثبات الموجبات
وكانت أيام السلطان سيدي محمد رحمه الله في أولها شديدة بسبب ظهور العدو على
المسلمين وما عقبه من الغلاء والموت ثم بعد ذلك اتسع الحال وحصل الأمن وانخضدت
شوكة قبائل العرب بالمغرب وأمنت الطرقات من عيثهم وازدهت الدنيا ورخصت الأسعار
رخصا يسيرا وكان الناس ممعشين في أيامه وغلت الدور والأملاك حتى كانت في بعض
السنين لا تسمسر ومن يشتري دارا إنما يشتريها بالتنقير عنها والطلب من ربها بالثمن
الجافي واتخذ الناس ذوو اليسار المراكب الفارهة والكسي الرفيعة والذخائر النفسية
وتأنقوا في البنيان بالزليج والرخام والنقش البديع لا سيما بفاس ورباط الفتح ولاحت
على الناس سمة الحضارة الأعجمية وكان للسلطان سيدي محمد رحمه الله في كل بلد عيون
يكتبون له بما يقع من الولاة فمن دونهم فكانت الرعية كأنها في كف يده وكان يختار
أولئك العيون من العوام فكانوا يكتبون له بالغث والسمين فيسمع ذلك كله فينتقي منه
الصحيح ويطرح السقيم فاستقامت أحوال الرعية بذلك وفاة أمير المؤمنين سيدي محمد بن
عبد الرحمن رحمه الله
كانت وفاة أمير المؤمنين سيدي محمد بن عبد الرحمن رحمه الله في زوال يوم الخميس
الثامن عشر من رجب الفرد الحرام سنة تسعين ومائتين وألف بداره بحضرة مراكش في
البستان المسمى بالنيل ولم يمرض إلا يوما أو بعض يوم قيل إنه شرب دواء مسهلا فكان
فيه أجله والله أعلم ودفن ليلا بضريح جده المولى علي الشريف قرب ضريح القاضي عياض
وكتب على رخامة قبره أبيات ليست من جيد الشعر وهي
____________________
( أمستعبرا حولي رويدك إنني ** ضريح سعيد حل فيه سعيد )
( هو العلوي الهاشمي محمد ** إمام له في الملك سعي حميد )
( أبوه أبو زيد وقدس ذكره ** فقد كان يبدي في العلى ويعيد )
( ترحم عليه واعتبر بمصابه ** فعقد نفيس قد أصيب فريد )
( ومن رام تاريخ الوفاة فقل له ** بشعرك أرخ ما عليه مزيد ) بقية أخبار السلطان
سيدي محمد بن عبد الرحمن رحمه الله ومآثره وسيرته
كان السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن رحمه الله متقيا لله تعالى بانيا أمره على
الشرع لا يشذ عنه طرفة عين حتى أنه لما عزم على بناء داره التي برباط الفتح قام
جماعة من أهل البلد يطلبون منه النصفة في جناتهم التي هنالك فأذعن رحمه الله
لإعمال الشرع معهم واستناب وكيلا عنه واستنابوا هم وكيلهم أيضا وتحاكموا لدى قاضي
سلا الفقيه أبي عبد الله محمد العربي بن أحمد بن منصور ثم انفصلت القضية عن ضرب من
الصلح بأن أعطاهم أثمان جناتهم أو بعضها وذهبوا بسلام وكان رحمه الله حازما في
أمره عالي الهمة راميا بها الغرض الأقصى إلا أن الزمان لم يساعده كل المساعدة فكانت
همته أجل من دهره وكان ذا سياسة وسكينة وتأن في الأمور وتبصر بالعواقب كثير الحياء
بعيد الغضب سريع الرضى مشفقا على الرعية متوقفا في الدماء لا يزايل خوف الله قلبه
رحمه الله ونفعنا به وبأسلافه وله آثار بالمغرب منها ما خلده أيام خلافته في حياة
والده ومنها ما فعله بعد ولايته
فمن آثاره في أيام أبيه كما قال أكنسوس إجراء الأنهار وتفجير العيون التي عجز
الملوك المتقدمون عنها وتكملة غرس آجدال بحضرة مراكش وكان في زمان الصيف يناله
الجدب من قلة الماء لأن بركه التي كان يختزن بها الماء كانت قد تعطلت بامتلائها
بالتراب والطين الذي
____________________
تجلبه السيول إليها وأعظمها
البركة الكبرى التي بدار الهناء وكان يقال لها البحر الأصغر وطولها اثنتا عشرة
مائة قدم وعرضها تسعمائة قدم حسبما أخبر من قاسها وكان تربيعها بمنزلة سور قصبة
فجاء من بني في وسطها قرية بدورها وأزقتها وأسواقها فجاء السلطان سيدي محمد رحمه
الله أيام خلافته فأمر بإخراج ما في تلك البرك والصهاريج كلها وتنقيتها من الطيون
المتحجرة فاجتمع على ذلك عالم من الناس فكنسوها وعادت إلى حالها الذي بنيت لأجله
وهو اختزان الماء لوقت المصيف وبذلك كمل المراد من آجدال وصار آمنا من العطش
والأمحال ومن ذلك أيضا إحياء عين أبي عكاز خارج باب الطبول من مراكش وكانت لها
بركة بائدة على الوصف الذي ذكرنا فعمد إليها سيدي محمد رحمه الله وفجر لها عينا
ثرة وماء غدقا وأجراه إلى البركة المذكورة بعد أن أمر بتنقيتها وإصلاحها فعاد ذلك
البسيط الذي حولها مزارع نفاعة تغني الزارعين وتبهج الناظرين وبنى رحمه الله حولها
قلعة يأوي إليها الأكرة والحراثون بأنعامهم ومواشيهم واتخذ هنالك من إناث الخيل
المعدة للنتاج عددا كثيرا ومن ذلك إحياء عين المنارة وبركتها العظمى التي تقرب من
البحر الأصغر بدار الهناء وكانت قد عطلت منذ زمان فقيض الله لها هذا السلطان فجمع
الأيدي عليها حتى أخرج ما في جوفها من جبال الطين وأصلح ما تشعث من حيطانها وأجرى
إليها العيون والأنهار وأمر بغرس ما حولها من الفضاء بأنواع الأشجار وضاهى بها جنة
آجدال ومن ذلك أيضا إجراء النهر المسمى بتاركي المستمد من وادي نفيس فإنه ضاهى به
النهر القديم الذي هناك وهذا النهر الجديد أنفع منه وأوسع أحيى الله به تلك
البسائط التي بين مراكش ووادي نفيس ومن ذلك أيضا إجراء النهر الذي جلبه من تاستاوت
إلى البسيط الذي بين بلاد زمران والرحامنة والسراغنة وهو المسمى بفيطوط فصار ذلك كله
رياضا مخضرة وبساتين
____________________
ذات أزهار مفترة وبنى رحمه
الله فيها قصبة عامرة يأوي إليها الوكلاء والفلاحون وصارت آهلة بعد أن كانت بائدة
غامرة
ومن آثاره بعد ولايته أمر المؤمنين داره الكبرى بآجدال رباط الفتح والسور الكبير
المحيط ببسيطها وجلب الماء إليها بعد أن صير عليها أموالا كثيرة وأحيى جامع السنة
قربها وكان بائدا يعشش فيه الصدى والبوم وأقام فيه الصلوات الخمس والخطبة كل جمعة
وأحيا المسجد الصغير هنالك المسمى بمسجد أهل فاس واعتنى به وزخرف سقوفه وانتهج
الطريق من الدار المذكورة إلى الوادي أسفل من حسان تسهيلا على المارة وتقريبا
عليهم ومنها أنه نقل طائفة من الجيش السوسي الذي بالمنشية وأوطنها حول الدار
المذكورة بآجدال فاستطابوا المقام هناك وحسنت حالهم وانعمرت بهم تلك الناحية وهم
الآن بهذا الحال ومنها بالدار البيضاء المسجد الجامع بالسوق وكان الصائر عليه من
أحباس المسجد القديم وإنما السلطان رحمه الله أذن في بنائه بإشارة عاملها يومئذ
أبي عبد الله محمد بن إدريس الجراري ومنها الحمام القديم الذي بها وكان الصائر
عليه من بيت المال وأصلح رحمه الله أسوار الجديدة وأبراجها واعتنى بشأن الثغور
وبعث من نوابه من يتفقد أحوالها ومنها بمراكش دار فابريكة السكر بآجدال منها صير
عليها أموالا طائلة وجاءت على عمل متقن وهيئة ضخمة إلا أنها اليوم معطلة لقلة
المادة ومنها دار فابريكة تزديج البارود بالمحل المعروف بالسجينة من مراكش أيضا
ومن ذلك برج الفنار الذي على ساحل البحر بأشقار قرب طنجة يسرج فيه ضوء كثير يظهر
للسيارة في البحر ليلا من مسافة بعيدة وصير عليه مالا له بال وكانت المراكب تنشب
بذلك الساحل كثيرا إذ لم يكن لها علامة تهتدي بها في البحر ولما اتخذ السلطان رحمه
الله هذا الفنار أمنت من تلك الآفة وله رحمه الله آثار كثيرة يطول ذكرها جعلها
الله في ميزان حسناته ورفع بها في عليين درجاته
____________________
الخبر عن دولة ملك الزمن أمير
المؤمنين المولى حسن بن محمد بن عبد الرحمن خلد الله ملكه
لما توفي السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن رحمه الله اجتمع أهل الحل والعقد من
كبار الدولة وقواد الجيش والقضاة والعلماء والأشراف وأعيان مراكش وأحوازها على
بيعة نجله أمير المؤمنين المولى أبي علي حسن بن محمد لما توفر فيه من شروط الإمامة
وتكامل فيه من النجدة والشهامة والزعامة ولما اتصف به من الفضل والدين وسائر خصال
الخير وأسباب اليقين ولأن والده رحمه الله كان استخلفه في حياته وألقى عليه بجميع
مهماته فنهض بأعبائها وتقلب من مغاني السعادة في ظلالها وأفيائها
قال أبو عبد الله أكنسوس لما استخلف المولى الحسن حفظه الله لم تشغله شؤون الخلافة
المترادفة آناء الليل وأطراف النهار ولا في قصوره السلطانية من الحدائق والأزهار
عن وظائف الدين وأسباب اليقين من نوافل الخير من صلاة وصيام وتلاوة كما حدثني بذلك
بعض بطائنه وأنه يجد لها في خلواته لذة وحلاوة فلما توفي السلطان كما قلنا كان
المولى حسن أيده الله غائبا عن الحضرة بأبي ريقي من بلاد حاجة فكتب إليه رؤساء
الدولة بما حدث من موت السلطان واجتماع الناس على بيعته فقدم مراكش في السابع
والعشرين من رجب سنة تسعين ومائتين وألف ولما دنا منها خرج للقائه الوزراء والقضاة
والأشراف والأعيان وسائر أهل مراكش برجالهم ونسائهم وصبيانهم فملؤوا تلك البطاح
وضاقت بهم الأرض وأخذوا يعزونه ويهنئونه وهو أيده الله يقف لكل جماعة منهم عل
حدتها حتى النساء والصبيان إشفاقا عليهم وتطييبا لنفوسهم وكان يوم دخوله لحضرة
مراكش يوما مشهودا وموسما من مواسم الخيرات معدودا ولما استقر بدار الملك قدمت
عليه الوفود من جميع الأمصار ونسلوا إليه من سائر النواحي والأقطار وكل وفد يأتي
ببيعته وهديته واغتبط الناس بولايته وتيمنوا بطلعته فقابل أيده الله كلا
____________________
بما يستحقه من الإكرام وأفاض
على الرعية جلائل الإنعام وشرع في تجهيز الجيوش وفتح بيوت الأموال فغمر الناس
بالعطاء وكسا وأركب ونهض من مراكش يوم الاثنين رابع رمضان من السنة المذكورة قاصدا
حضرة فاس والوقوف على الرعاية والنظر فيها بما يصلحها فمر على بلاد السراغنة وخرج
منها إلى البروج ومنها إلى كيسر من بلاد تامسنا فاتصل به هنالك خبر فتنة أهل فاس
وإيقاعهم بالأمين الحاج محمد بن المدني بنيس وكان السبب في ذلك على ما قيل أنه لما
وصل خبر وفاة السلطان إلى فاس وأن الناس اجتمعوا على بيعة أمير المؤمنين المولى
حسن أعزه الله واجتمع أهل فاس لعقد البيعة أيضا اشترط عامتهم لا سيما الدباغون أن
يزال عنهم المكس فيقال إن بعض من أراد جمع الكلمة من العلماء والأعيان تكفل لهم
بذلك عن السلطان ولما تمت البيعة أصبح الأمين بنيس غاديا على عمله من ترتيب وكلائه
لقبض الوظيف في الأسواق والأبواب وغيرها فكلمه بعض أعيان فاس في التأخر عن هذا
الأمر قليلا حتى تطمئن النفوس ويثبت الحق في نصابه وحينئذ يؤتى الأمر من بابه فأبى
وأصر على ما هو بصدده فثار به العامة وهدموا داره وانتهبوا أثاثه واستصفوا موجوده
وأرادوا قتله فاختفى ببعض الأماكن حتى سكنت الهيعة ثم تسرب إلى حرم المولى إدريس
رضي الله عنه فأقام به وأمن على نفسه وكانت فتنة عظيمة يطول شرحها واتصل بالسلطان
وهو بكيسر أيضا خبر فتنة أهل آزمور وقتلهم لنائب عاملهم وكان عاملهم يومئذ أبو
العباس أحمد بن عمر بن أبي ستة المراكشي ونائبه هو أحمد بن المؤذن الفرجي من سكان
آزمور وكان قتلهم له تاسع عشر رمضان من السنة ثم أن أهل فاس كتبوا إلى السلطان
أعزه الله وهو ببلاد تامسنا رسالة بليغة يتنصلون فيها من فعلة بنيس ويرمون بها
العامة والغوغاء ومن لا خلاق لهم ونصها
الحمد لله وحده الكريم الذي لا يعجل بعقوبة من ارتكب الذنب وتعمده والصلاة والسلام
على سيدنا محمد صاحب الشفاعة الكبرى والجاه العظيم المخاطب بقول مولانا في كتابه
الحكيم { وإنك لعلى خلق عظيم }
____________________
القلم 4 وعلى آله الذين أوجب
الله لهم مودة وحبا وأنزل فيهم { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى }
الشورى 23 وأصحابه الذين كانوا أشداء على الكفار رحماء بينهم فكانت الملائكة يوم
حنين نصرهم وعونهم هذا ونخص المقام الذي علا قدره واستنار ضوءه وفجره وجلله الفخار
والوقار وعلاه البهاء وكساه وألبسه الرسول من رداء الشرف يوم كان علي وفاطمة
والحسنان في داخل كساه من ارتقى وفاق وساد ومهد به للخلافة المهاد والوساد وتزينت
بمدائحه الطروس العاطلة وخجلت لسماحته الغيوث الهاطلة من ضربت المفاخر رواقها
بناديه ولم تزل المعالي تدعوه لنفسها وتناديه واتخذت بيعته جلبابا للأجياد
والاعناق وأغضت مهابته الجفون والأحداق عين أعيان الدولة الشريفة المولوية وصدر
المملكة العلوية الذين لم تزل سيرتهم في سجلات الآثار المحمودة مرسومة ومآثرهم في
الدواوين مرقومة وألقى إليه هذا القطر المغربي الرسن وحل منه محل الوسن السلطان
المؤيد مولانا الحسن سلالة القوم الذين زكت نفوسهم وأينعت في حدائق المزايا غروسهم
ويسير المجد تحت ألويتهم وتتعطر المجالس بطيب أفنيتهم لا زال السعد يراوحك ويغاديك
والعز نائما بواديك والطعن في عين حاسديك والقذى في عين أعاديك وجعلك الله من صروف
الزمان في أمان ولا قطع الله عن جماعة العلماء جميل عادتكم ولا سلب المسلمين ملابس
سعادتكم ورفع في بروج السعادة أعلامك ومكن من رقاب الأعداء حسامك وجعل الفتح أينما
توجهت قبالتك وأمامك وشريعة جدك مقلدك وأمامك في نعمة طويلة الأعمار وروضة حلوة
الثمار أما بعد أبعد الله عن ساحة سيدنا كل شر وقرب منها المحسن والبر وأبقاها
ملجأ للمحتاج والمضطر فإنه لما ورد علينا من حضرة سيدنا العظمى ومكانته الشما كتاب
سنى معظم الصفات والأسما بديع المعاني رائق المباني غمر ببلاغته البلغا ورقي
ببراعته أعلى المنابر فمن تكلم دونه فقد لغا بادرناه بالتقبيل وأحللناه محل التاج
والإكليل فقرىء على الجم الغفير وفرح بوروده الكبير والصغير واطمأنت بنشره النفوس
وارتفع به كل كدر وبوس وتشوق الحاضرون
____________________
لسماع ما فيه وأنصت لقراءته ذو
المروءة والسفيه والجامع غاص بأهله وكل حال بمحله فلما قرىء الكتاب تبين أن صدره
مدح وعجزه لوم وعتاب فاشتمل على بسط وجمال وقبض وجلال وجمع بين ترغيب وترهيب
فارتاب منه كل مريب فلما تم وختم وتقرر كل ما فيه وعلم تفرقت الجماعات أفواجا
وارتجت المدينة ارتجاجا وحصل للناس بذلك الجزع وعمهم الخوف والفزع والذي أوقع
الناس في ذلك ما في الكتاب من الأمر بتدارك ما وقع ففهموا أن ذلك برد ما ضاع وقد
تفرق في الآفاق وما اجتمع وذلك غير ممكن كما سيتبين والحق أوضح وأبين من أن يبين
على أن المقصود بذلك والمراد حسم مادة الفساد لينقطع من جماعة السفهاء عداؤها
ولئلا تتقد نار الفتنة فيتعذر إطفاؤها أما ما وقع في قضية الحاج محمد بنيس حتى
أفضى به الحال إلى الاحترام بمولانا إدريس وفعل بأمكنته الفعل الخسيس وليم بسببه
المرؤوس والرئيس حتى توجهت الحجة على مسموع الكلمات إذ هي متوجهة من جهات فقد
تندفع الحجة بشرح القضية على وجهها وإيرادها على مقتضى كنهها من غير قلب للحقيقة
ولا خروج عن متن الطريقة وفي كريم علم سيدنا أن للإنسان أعذارا يرتفع عنه بها
الملام ولا يعاتب معها ولا يلام وذلك أن ما وقع من النهب وقع بغتة في يوم يستعظم
شاهده وصفه ونعته والمدينة وقتئذ عامرة بالبادية والحاضرة ولا معرفة لنا بمن نهب
ولا بمن أتى ولا بمن ذهب أمر أبرزته القدرة لم يمكنا تلافيه ولم يفد فيه نهي سفيه
فلو صدر ذلك من آحاد معينين وأفراد مخصوصين لأمكن الانتصاف وانتزع منهم ما أخذوه
من غير اعتساف لكن الأمر برز وصدر من قوم مختلطين من بدو وحضر فيهم الأبيض والأسود
والأحمر وما منهم إلا من أستأسد وتنمر وليس في وجوههم من الحياء علامة ولا أثر لا
يقلبون موعظة إذ ليسوا من أهل الفكر فلا يمكن دفعهم إلا بجيش عظيم وعسكر يصاح فيهم
بالنهي وهم في طغيانهم يعمهون ولا يلتفتون إلى من نهاهم بل لا يشعرون ولا يسمع
الصم الدعاء إذا ما ينذرون ثم لما كان اليوم العاشر من شهر تاريخه وقع
____________________
بالحرم الإدريسي ما وصلكم ولا
أظنه إلا فصل لكم لكن عمتنا ألطاف الله ورحماته وحفظ الضريح ورحباته ولم تنتهك
حرماته وحمته حماته ورماته فأبوابه قد فتحت وزواره بمشاهدة أنواره قد منحت ومما في
الكتاب المذكور أن السفيه إذا لم ينته فهو مأمور ولعمرك أنه ليس منا علم بذلك ولا
شعور وكيف يأمر العاقل بالمحظور أم كيف يرضى مسلم بهتك حرمة الإسلام وأهله وما
يوجب افتراق الكلمة من قول أحد أو فعله وقد جاء الوعيد بما يلزم من سكت وحضر فكيف
بمن باشر أو أمر لكن باب التوبة والحمد لله مفتوح لمن يغدو عليه أو يروح فنسأل
الله أن يمن عليهم بالتوبة من ارتكاب هذه الحوبة وقد كتبنا لسيدنا بهذا الكتاب
والمدينة بحمد الله آمنة والنفوس مطمئنة ساكنة والأيدي على التعدي مكفوفة والطرق
مسلوكة غير مخوفة وذلك بعد معاناة في إخماد نار الفتنة ونصب وألطاف الله تتوارد وتصب
بعد أن كانت نار الفتنة توقدت وتأججت وبلغت القلوب الحناجر وبالأكدار قد مزجت وكل
من له مروءة ودين وعد من المهتدين بذل في صلاح المسلمين جهده وأبدى من الفعل
الجميل ما عنده ولقاضينا بارك الله فيه اليد الطولى فلم يقع منه تقصير في القضية
الثانية ولا الأولى هذا وكما في علمكم أن الملك من ملك هواه ولم يغتر بهذا العرض
الفاني وما أغواه وقهر نفسه عند الغضب وابتكر ما يوصله إلى الله واقتضب وأن الكريم
إذا حاسب مسامح وإذا قدر عفا ولو أبدى المسيء إساءته وهفا فليتفضل سيدنا بقبول
شفاعة من يضع اسمه في هذا الكتاب من العلماء والأشراف ومنهم بعدم صواب ما صدر من
السفهاء إقرار واعتراف ولا يستغرب صدور الخير من معدنه والفضل من موطنه وتتحاشى
أخلاقك الفاخرة وشيمك الطاهرة أن تكون شفاعتنا في هؤلاء العصاة مردودة وجماعتنا عن
ساحتكم مبعدة مطرودة ولحسن الظن بكم تحمل لجانبكم الزعيم والكفيل على أن لا نرى
منكم إلا الجميل فليمن سيدنا على هذه الحضرة الفاسية منا ولا يؤاخذنا بما فعل
السفهاء منا وكيف والحلم من داركم برز وخرج وفي أوصافكم الحسان اندرج فأحببنا أن
تكون هذه
____________________
المنقبة في أوصافكم تذكر وفي
صحيفتكم تكتب وتسطر فقابلوا بالصفح والإغضا عما سلف ومضى وكلنا من رعيتكم ومقتطفون
من ثمار روضتكم ومستمدون من مائدتكم والظن الأقوى بكم أنكم تقبلون الشفاعة منا
وتمنون على المستضعفين من رعيتكم منا وكأنا بكتابكم بضمن ذلك يتلى وكلماته أشهر من
العسل وأحلى والله يتولى أمر الائتلاف بمتعود إحسانه ويجمع قلوبنا على طاعته
وموجبات رضوانه حتى نكون في ذات الله إخوانا وعلى الدين أنصارا وأعوانا والقلوب
بيد من له الأمر والاختيار وربك يخلق ما يشاء ويختار وإذا تعارضت الحظوظ فما عند
الله خير للأبرار وخير العمل عمل قرب إلى الجنة وأبعد من النار فالواجب على كل
مسلم أن يدع ما يزري بالإسلام ويهينه ولا يلتفت لدواعي القطيعة فإنها تقوي الكفر
وتعينه أما علمنا أن من ورائنا عدوا يشتهي مواطىء أقدامنا وتنكيس أعلامنا تقضي
أخوة الإسلام ومناصرته ومعاضدته ومواصلته أن لا يكون لجميعنا طموح إلا إليه ولا
تمالؤ إلا عليه وفقنا الله لما فيه رضاه وجعل سعينا فيما يحبه ويرضاه آمين والسلام
في منتصف رمضان المعظم عام تسعين ومائتين وألف ا هـ
ثم دخل السلطان المولى الحسن أعزه الله رباط الفتح صبيحة يوم الخميس التاسع
والعشرين من رمضان المذكور وكان العيد يوم السبت فأقام السلطان أيده الله سنة
العيد برباط الفتح وختم به صحيح الإمام البخاري على العادة وكان فقيه المجلس
ومدرسه يومئذ الفقيه العلامة السيد المهدي بن الطالب ابن سودة الفاسي وحضر ذلك
المجلس وفود المغرب وقضاة العدوتين وعلماؤها وحضرنا في جملتهم ومدح السلطان بقصائد
بليغة واحتفل أعزه الله لهذا الختم بأنواع الأطعمة والأشربة والطيب وفرق الأموال
على من حضر ثم وصل أهل العدوتين من علمائهما وقرائهما ومؤذنيهما وطبجيتها
وبحريتهما على العادة وهناك قدم عليه أهل آزمور متنصلين مما صدر من عامتهم في حق
محمد بن المؤذن فقابلهم بالبشر والصفح إلى أن بحث عن رؤوس الفتنة بعد ذلك فعاملهم
بما يستحقونه وأقام السلطان أعزه
____________________
الله برباط الفتح إلى يوم
السبت الثاني والعشرين من شوال من السنة فنهض قاصدا مكناسة فعبر المجاز ومعه من
جنود الدولة وعساكر القبائل ما يجل عن الحصر وكان نهوضه عن إزعاج بسبب ما اتصل به
من خبر المولى عبد الكبير بن عبد الرحمن بن سليمان ولد الذي كان ثار لأول بيعة
السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن فسلك هذا الولد مسلك أبيه وأطمعه شياطين البربر
في الملك حتى أوردوه مورد الردى وحان وسقط العشي به على سرحان ولما كان السلطان
أعزه الله ببلاد بني حسن بلغه خبر القبض عليه فكتب كتابا إلى الأمصار يقول فيه ما
نصه وبعد فإن عبد الكبير بن عبد الرحمن الذي سولت له نفسه ما سولت من الرأي
المنكوس والحظ المعكوس كان تحزب بشياطين وأوباش من برابرة بني أمكليد وأتوا به
لآيت عياش قرب فاس فلما سمع بذلك خدامنا أهل فاس وأخوالنا شراقة وغيرهم من الجيش
السوسي وقبائل الصلاح قاموا على ساق في طرده وإبعاده ونفيه من ساحتهم وتشتيت رماده
وقابلوه بالنكاية والوبال ورأى منهم ما لم يخطر له ببال ورجع بخفي حنين ثم بعد
الطرد والإبعاد لم يبال بما هو عليه من سوء الحال ولا أقلع عما طمع فيه من المحال ولا
انتبه من نومته ولا أفاق من سكرته وبقي على دورانه عند البربر إلى أن ختم مطافه
بالوصول لآيت يوسي فحكم الله فيه هنالك وأتى به مقبوضا عليه وذهبت ريحه وسقط في
أيدي من كان آواه من البربر وحصلوا كلهم على الخسران والخزي والخذلان وها الفتان
متقف تحت يد أخينا الأرضى مولاي إسماعيل رعاه الله فالحمد لله حق حمده ولا نعمة
إلا من عنده وهو المسؤول بنبيه صلى الله عليه وسلم ومجد وعظم أن يؤدي عنا وعن
المسلمين شكر نعمته وأن يجزينا على ما عودنا من جزيل فضله ومنته هذا وقد كتبنا لكم
هذا بعد ما خيمنا بحول الله ببلاد الصفافعة من بني حسن ومحلتنا المظفرة بالله
محفوفة بالنصر والعز بحمد الله وأعلامنا المنصورة بالله رياح اليمن والسعادة
تسوقها والأرباح تكفل بها سوقها وقد أعلمناكم لتأخذوا حظكم من الفرح بما خول
مولانا جل وعلا من عظيم نعمه فلله الحمد وله المنة
____________________
والسلام في السادس والعشرين من
شوال عام تسعين ومائتين وألف ا هـ ثم تقدم السلطان أعزه الله إلى دار ابن العامري
فأوقع بأولاد يحيى فرقة من بني حسن وكانوا قد ثاروا بعاملهم عبد القادر بن أحمد
المحروقي فهدموا داره وانتهبوها وعاثوا في الطرقات وأخافوها فأوقع بهم السلطان المولى
الحسن أعزه الله وقعة كادت تستأصلهم وتأتي عليهم فتشفعوا إليه وتطارحوا عليه
وأظهروا التوبة والخضوع فقبل توبتهم وولى عليهم ثلاثة عمال ووظف عليهم مالا له بال
ونهض أعزه الله إلى مكناسة الزيتون ف 4 ي سابع ذي القعدة من السنة فدخلها مظفرا
منصورا ولما احتل بها كتب أيده الله إلى الأمصار بما نصه وبعد فأنا بإثر الفراغ من
أمر القبيلة اليحيوية وبناء أمرها على أساس الجد بحول الله وحصول المراد من كمال
استقامتها بحمد الله وجهنا الوجهة السعيدة لوطن أسلافنا الكرام قدسهم الله بمكناسة
الزيتون وتقدمنا في محلتنا السعيدة المنصورة التي أرخى اليمن والظفر عليها ستوره
فلقينا في طريقنا أهل هذا القطر المغربي من البرابرة وغيرهم على اختلاف شعوبهم
وقبائلهم مظهرين غاية الفرح بمقدمنا ومتبركين بيمن طلعتنا وقائمين بالسمع والطاعة
لعلي جانبنا وحللنا حضرتنا السعيدة بمكناسة الزيتون في يوم كان من الأيام السعيدة
المشهودة والأوقات المعدودة بل فاق ذلك اليوم السعيد بما وقع فيه من السرور كل
موسم وعيد فالحمد لله على ما خول وأولى من فضله العميم وخيره الجسيم وهو المسؤول
بنبيه صلى الله عليه وسلم ومجد وعظم أن يؤدي عنا وعن المسلمين شكر نعمته وأن
يجرينا على ما عودنا من جزيل فضله ومنته آمين والسلام في العشرين من ذي القعدة
الحرام عام تسعين ومائتين وألف ا هـ
وكان دخوله أعزه الله إلى مكناسة بعد زيارته تربة المولى إدريس الأكبر وصلاته
الجمعة بها وأطال أيده الله المقام بمكناسة وفي مدة مقامه بها أوقع ببني مطير ومن
لافهم من مجاط وبني مكيلد وآيت يوسي وغيرهم بعد أن طال قتاله لهم ثم اقتحم عليهم
معاقلهم وانتهى إلى الموضع المعروف بالحاجب بحبوحة قرارهم ومحل منعتهم وانتصارهم
بل تجاوزته عساكره
____________________
المنصورة وأعلامه المنشورة
بمسافة بعيدة إلى أن دخلت فم الخنيق الذي هو أول بني مكيلد فاستباحت هنالك حلاتهم
وطارت برؤوس عناتهم ومزقتهم في أعز مكانهم كل ممزق وقبضت منهم على عدد وافر من
الأسرى بعث به السلطان أعزه الله إلى الأمصار فكانت عبرة لأولي الأبصار وكان
إيقاعه ببني مطير منتصف محرم فاتح سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف واستمر مقيما
بمكناسة إلى فاتح ربيع الأول منها وفي يوم الاثنين ثالث الشهر المذكور نهض أيده
الله إلى فاس فدخلها يوم الخميس السادس منه بعد ما تلقاه أشرافها وأعلامها
وأعيانها وجميع رماتها حتى النساء والصبيان مع العامل والقاضي واجتمعت به مقدمتهم
بوادي النجاة فألان جانبه لهم وتنزل لملاقاتهم تطييبا لنفوسهم ولما وصل إلى البلد
لم يعرج على شيء دون قصد ضريح المولى إدريس رضي الله عنه وزيارته والتبرك به
وانهار عليه الضعفاء والنساء والصبيان يقبلون أطرافه ويتمسحون بأذياله وقدم
الذبائح للحرم الإدريسي وغيره وأفاض من العطايا على الضعفاء والمساكين ما جاوز
الحصر وكان يوم دخوله يوما مشهودا وموسما من مواسم الخيرات معدودا وعيد بفاس عيد
المولد الكريم وقدمت عليه الوفود من كل ناحية واجتمعت ببابه وجوه القبائل من كل
قاصية ودانية وازدان العصر وعم الفتح والنصر واستقامت الأمور ونادى منادي السرور
في الخاص والجمهور ولما فرغ السلطان أعزه الله من شأن العيد أمر أمينه أبا العباس
أحمد بن محمد ابن شقرون المراكشي أن يرتب الوظيف المجعول على أبواب فاس وأسواقها
على ما كان عليه في حياة السلطان سيدي محمد رحمه الله ففعل وكان ذلك أواخر الشهر
المذكور ولما جلست الأمناء كل بمحله واستقامت الأحوال وذهبت الأهوال ثقل ذلك على
الدباغين ومرضوا فيه وذهبوا إلى الشريف الفقيه المولى عبد الملك الضرير وقالوا له
أنت الذي أوقعتنا في هذا كله بضمانك إسقاط المكس أولا حتى صدر منا في حق بنيس ما
صدر والآن أخرجنا مما أوقعتنا فيه أما بإسقاط المكس وأما بإخراج بنيس من بين
أظهرنا لئلا تدول له دولة علينا والرجل قد صار عدوا لنا فقام الفقيه المذكور وقدم
على السلطان
____________________
أعزه الله وذكر له ما عزم عليه
السفلة من الدباغين فأعرض السلطان أيده الله عن ذلك وقابل بالجميل فقال الفقيه
المذكور إن لم يكن شيء مما ذكرت لسيدنا فالأولى بي أن أنتقل إلى تافيلالت ولا أبقى
بين أظهر هؤلاء القوم فأسعفه السلطان وبعث جملة من الحمارين لحمله وحمل أولاده
ولما رأى الدباغون ذلك نفخ الشيطان فيهم وعمدوا إلى الحمارين فطردوهم وارتجت فاس
وماجت الأسواق وقامت الفتنة على ساق واتصل الخبر بالسلطان أيده الله فاستدعى عامل
فاس إدريس بن عبد الرحمن السراج وكان متهما بالخوض في وقعة بنيس وما ترتب عليها
بعد فأظهر الطاعة والامتثال وركب بغلته يريد القدوم على السلطان بفاس الجديد فقام
الدباغون دونه ومنعوه من الذهاب إلى السلطان وتهددوه بالقتل إن فعل فقعد ووقع ذلك
منه الموقع لأنه كان متخوفا على نفسه ولما رأى السلطان أيده الله تمادي هؤلاء
الطغام ومحكهم ولجاجهم بعد أن بالغ في إلانة الجانب والمقابلة بالجميل ومن ذلك
إعراضه أعزه الله عن الكلام في أمر بنيس أمر بحصارهم والتضييق عليهم لعلهم يرجعون
ثم لم يكفهم عصيانهم حتى صعدوا على منار المدرسة العثمانية وعلى غيرها مما هو مطل
على فاس الجديد وأخذوا في الرمي بالرصاص حتى أصابوا بعض من كان بأبي الجلود ولما
انتهوا من سوء الأدب إلى هذه الغاية أمر السلطان أيده الله بمقابلتهم على قدر
جريمتهم فطافت بهم العساكر ورموهم بالكور من كل ناحية ثم اقتحمت طائفة من العسكر
سور فاس من جهة الطالعة وأخذوا في النهب والقتل وعظم الخطب واشتد الكرب وفي أثناء
ذلك بعث السلطان أعزه الله وزيره أبا عبد الله الصفار يعظهم ويعرض عليهم الأمان
بشرط التوبة والرجوع إلى الطاعة فأذعنوا وامتثلوا وانطفأت نار الفتنة وانحسمت
أسباب المحنة فعجل السلطان أيده الله بالكتابة لجميع الآفاق وتلطف واعتذر بأنهم
الذين بدؤوا بالحرب والبادي أظلم ومع ذلك فبمجرد ما أذعنوا إلى الطاعة كف عنهم
رحمة لهم وإبقاء عليهم وكان هذا الحادث يوم الثلاثاء رابع ربيع الثاني من السنة
____________________
ونص كتاب السلطان أعزه الله وبعد فبعد ما كتبنا لكم في شأن ما تلقانا به أهل فاس
من الفرح والسرور والاحتفال في جميع الأمور اختبرناهم وبلونا أحوالهم فألفينا
أحوالهم تصدق أقوالهم فأمرناهم حينئذ برد المستفادات لحالها المعتاد كما فعلنا
بمكناسة وغيرها من البلاد فامتثلوا طائعين وجدوا في دفعها مسارعين ومن جملة من
أمنا عليها ابن شقرون المراكشي الأمين فلم نشعر بالدباغين أصحاب فعلة بنيس إلا وقد
ملئوا رعبا وتخوفوا أن يركبوا في المؤاخذة بها مركبا صعبا فطلبوا إخراج بنيس من
بين أظهرهم وإبعاده وهم حينئذ عند السمع والطاعة المعتادة فلم نساعدهم فازدادوا
تخوفا وظهر منهم طيش أبان منهم تشوشا وتشوفا فتصدينا بحول الله وقوته لتربيتهم
وتأنينا كل التأني في مفاجأتهم وأحجمنا حياء من معاجلتهم تأدبا مع حرمهم الأكبر
سيدنا ومولانا إدريس الأزهر ومراعاة لجماعة أهل الله الأحياء والنائمة وإعذارا
وإنذارا لتكون الحجة عليهم شرعا وطبعا قائمة حتى ابتدؤونا وكسروا الحرم فقابلناهم
والبادي أظلم فما كان إلا كلمح البصر أو هو أقرب حتى ظهر نصر الله فهدمت دور
وصوامع وخربت فنادق ومصانع كانوا يضربون منها ويتترسون بها ونهبت حوانيت ودور
واستلبت أيدي الجيش أقواما منهم وأسرت أسرى وأخذوا نكالا للآخرة والأولى لكنا
بمجرد ظهور سطوة الله القاهرة فيهم والفتح أمرنا بالنداء في الحين بالعفو والصفح
وكف أيدي القتل والأسر عنهم إبقاء عليهم وشفقة لهم حتى يظهر مآل أمرهم ويصفوا كدر
غمرهم وفي عصر ذلك اليوم ورد العلماء والشرفاء والرؤساء والعرفاء ضارعين صارخين
شفعاء على شرط أداء الحقوق والتزام الشروط والبقاء على ما كانوا عليه قيد حياة
مولانا المقدس من اللوازم والمغارم فشفعناهم على الشروط المذكورة وقبلناهم على
التزام الحدود المحصورة وأعلمناكم لتفرحوا بنصر الله وتكونوا على بال من حقيقة
الواقع ولئلا تصيخوا للأخبار الكاذبة مسام المسامع أو تلتفتوا إلى أقاويل المرجفين
الذين لا يدينون الله بدين ولايريدون إلا فتنة المؤمنات والمؤمنين والسلام في رابع
ربيع الثاني سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف
____________________
ا هـ ثم إن السلطان أعزه الله
قبض على عامل فاس إدريس السراج وعلى ولده واثنين آخرين معه من رؤوس الفتنة وغربهم
إلى مراكش وولى على فاس القائد الجياني بن حمو البخاري أحد قواده واستقامت الأحوال
وكان مما قيل من الشعر في هذه الوقعة قول صاحبنا الفقيه الأديب أبي عبد الله محمد
بن ناصر حركات السلاوي حفظه الله
( لله ياتلك التي تأوي الفنا ** لا تنقضي ما كان صبري قد بنى )
( كلا وقد هيجت مني لوعة ** قد أوشكت في مهجتي أن تهدنا )
( وأتيت موطن مصرع العشاق ثم ** بكيت حتى كدت تبكي الموطنا )
( لو كانت الأجبال تعقل لانثنت ** تبكي لما بك رأفة وتحننا )
( فبأي رأي يا حميمة قد غدا ** منك البكا عوض الترنم والغنا )
( وبأي ذنب قد فجعت قلوبنا ** وسقيتنا كأس الأسى بدل الهنا )
( أو ما كفاك من المتيم مهجة ** ما شأنها إلا معاناة العنا )
( صب له في كل يوم عبرة ** وتلهف يقتده قد القنا )
( كيف اصطباري والحبيب مصارمي ** والدهر مغرا بالوشاية بيننا )
( دعني فعدلك للمتيم ضلة ** شر عليه من مقاساة الضنا )
( تالله لارقأت لعيني عبرة ** حتى ترى وجه المليك الأيمنا )
( اليد الشهم السري الأصيد الفخم ** النهي الباهي الهمام الصيدنا )
( الأعظم المستعظم العذب الحلي المستعذب ** الحسن الثنا المستحسنا )
( قد حاز في الأشراف كل فضيلة ** ملأ المسامع حسنها والأعينا )
( ومكارما ومحاسنا ومفاخرا ** لو ذاق لذتها الكفور لآمنا )
( فلذاك سيدنا المقدس خصه ** بمآثر ما تنتهي فتدونا )
( ورث الخلافة كابرا عن كابر ** لا كالذي يأتي إليها ضعيفنا )
( عشقته عشق ابن الملوح خذنه ** وصبت إليه صبا العيون إلى الرنا )
( وله وقد لبته قبل دعائه ** ألقت أزمتها وقالت ها أنا )
( ملك به الملك الأغر تشيدت ** أركانه في العز محكمة البنا )
( أضحى به يختال فخرا قائلا ** لسواك يا ركن الورى لن أركنا )
____________________
( والدهر سلم والحظوظ بواسم ** والنصر يقبل من هناك ومن هنا )
( والسعد قد ألقى عصا تسياره ** في قصره متاليا أن يقطنا )
( حسنت بطلعته الدنا فكأنها ** حلى به هذا الزمان تزينا )
( إن المزايا والعطايا والحجا ** أخلاق سيدنا تناء أودنا )
( لا لا تقس قيسا به في النبل أو ** في الفضل قعقاعا وأحنف في الأنا )
( أو في الشجاعة عامرا أو في الندى ** معنا وفي الإفصاح قس الألسنا )
( فهم لو اطلعوا على خصلاته ** لغدت ظنونهم بذاك تيقنا )
( فاستصغروا ما كان يصدر منهم ** وأتى جميعهم إليه مذعنا )
( ليت الملوك السالفين قد أحضروا ** فرأوا مليكا مالكا حسن الثنا )
( ولو أنهم علموا ضخامة ملكه ** قالوا لنا ملك ولكن قدونا )
( ولو أنهم سمعوا بعظم سماحه ** تاقوا وقالوا ليته في عصرنا )
( ولو أنهم قد أبصروا إقدامه ** بهتوا وقالوا ليس ذا في طوقنا )
( هذا الأمير ابن الأمير ابن الأمير ** ابن الأمير المالكي رسن الدنا )
( هاذ العصامي العظامي الذي ** وسع الأماكن فضله والأزمنا )
( ما زال يسمح بالجوائز واللها ** حتى لقد تخذ السماحة ديدنا )
( فخم نتيه تلذذا بحديثه ** حتى نظن الأرض قد مادت بنا )
( طبع الفؤاد على مودنه فما ** ندعو له بالنصر إلا هيمنا )
( يا أيها الملك السميذع والذي ** ما كان مشبهه مضى في غربنا )
( ما زلت تجتاب البلاد بسيرة ** عمرية تذر المعاصي مذعنا )
( وتبين للناس الرشاد وسبله ** وتريهم نهج السواء البينا )
( وتدمر العاتي بأبيض صارم ** وتقوم المعوج بالسمر القنا )
( لولا البغاة من الأنام وجورهم ** ما فارقت بيض السيوف الأجفنا )
( لكن بحلمك قد حقنت دماءهم ** ما أوشكت من بغيهم أن تحقنا )
( وأنمت في ظل الأمان جفونهم ** لولاك لم يك لامرىء أن يأمنا )
( ولقد تركتهم وكل قبيلة ** تثني عليك ثنا القلوب على المنا )
( حتى أتيت الحضرة الفاسية الغراء ** معتجرا بأثواب السنا )
____________________
( والملك من فرط السرور بك أزدهى ** وله فم بجميل ذكرك أعلنا )
( وأتاك أهلها قؤلا هل لنا ** يا ماجدا من عطفة تشفي الضنى )
( يا طالما اشتاقت إليك قلوبنا ** شوق الفقير إلى ملاقاة الغنى )
( فمنحتهم بعد الضراعة عزة ** وكسوتهم بعد الأسا ثوب الهنا )
( هذا وما صبحتهم بكريهة ** حتى جنى جهلا بفضلك من جنا )
( شربوا كؤوس الحتف لولا أنها ** أبقت عليهم رأفة وتحننا )
( وأتاك أرباب البصائر قولا ** يا لا تؤاخذنا بزلة غيرنا )
( فصفحت عنهم صفح مقتدر ولم ** تترك جيوشك فيهم أن تثخنا )
( وحبوتهم بعد الآسى بمسرة ** منعت قلوب الناس أن تتحزنا )
( فغدى ببغيته المصافي وانثنى ** بندامة الكسفى من قد شيطنا )
( لو كان في الإحسان شيء يتقى ** لنهاك طبع الجود أن لا تحسنا )
( إن الكريم إذا تمكن من أذى ** صاحت به أحلامه فتحننا )
( مثل الشجاع إذا سطى يوم الوغا ** أضحى بري طعم الردى حلو الجنا )
( لا كالجبان فلو تكلف نجدة ** صدته خشيته الحمام فأقبنا )
( وكذا اللئيم إذا أراد تفضلا ** جاءته أخلاق اللئام فأشقنا )
( لو أن جودك في الورى متفرق ** ما كان فيهم من برى متمسكنا )
( ولو أن بأسك قد تفرق بينهم ** ما كان يمكن لامرىء أن يجبنا )
( لو لم تكن مولى خميس أرعن ** لكفتك هيبتك الخميس الأرعنا )
( لو أن من أثنى على هرم رأى ** يوما علاك لقال غيرك ما عنا )
( شهد الأنام بأن مجدك باهر ** لم يجحدنه جاحد فنبرهنا )
( يدعونك الحسن الرضى طرا ولو ** شوركت في حسن دعوك الأحسنا )
( يا أيها الشهم السري ومن به ** أضحى على الأقطار يفخر قطرنا )
( إني امتدحتك والمحبة شافعي ** ومحبة الأشراف نعم المقتنى )
( وتحصني أبدا بعزة ركنكم ** ومعزز من بالكرام تحصنا )
( لا زالت أمداحي لأقعس مجدكم ** متواليات أو يصدني المنا )
( تالله لا قمنا بشكركم ولو ** أعضاؤنا كانت جميعا ألسنا )
____________________
( فلنمدحنك في الحياة وإن نمت ** قامت عظامتنا بمدحك بعدنا )
( خذها إليك خريدة فكرية ** طلعت بغيظ قلوب أبناء الزنى )
( بهرت قلوب ذوي النهي بمحاسن ** منعت خرائد فكرهم أن تحسنا )
( فاصرف إليها منة عين الرضى ** وامنع بفضلك حسنها أن يغبنا )
( دامت إليك من المهيمن نصرة ** تدع المعاند ضارعا مستهجنا )
( بمحمد المختار جدك خير من ** قد أوضح النهج القديم وبينا )
( صلى عليه الله ما جن الدجى ** وأمالت الريح الجنوب الأغصنا )
( والآل والصحب الصناديد الذرى ** والمانحي قصادهم نيل المنا )
ثم شرع السلطان أعزه الله بجمع العسكر وتنظيمه زيادة على ما كان في حياة والده
فألزم أهل فاس بخمسمائة وألزم أهل العدوتين بستمائة وألزم غيرهما من الثغور
بمائتين مائتين ولم يتخذ من مراكش ولا أعمالها شيئا فصعب على الناس ذلك وجمعوا منه
ما قدروا عليه واعتنى السلطان أعزه الله به فكان يباشر عرضه وترتيبه بنفسه وفي
أيام مقامه بفاس نبغ نابغ بأعمال وجدة يقال له أبو عزة الهبري من هبرة بطن من سويد
وسويد من عرب بني مالك بن زغبة الهلاليين وكان هذا الرجل فيما زعموا يخط في الرمل
ويتعاطى بعض السحريات فتبعه بعض الأوباش الذين لا شغل لهم وتأشبوا عليه ودنا من
أطراف الإيالة وقوي حسه وكان السلطان أعزه الله عازما على النهوض إلى تلك الناحية
وتمهيدها ونفي الدجاجلة عنها فاستعد غاية الاستعداد وجدد الفساطيط وكسى الجنود
فرسانها ورماتها قديمها وحديثها وعرضها كلها ثم نهض من فاس منتصف رجب سنة إحدى
وتسعين ومائتين وألف ولما بات في الليلة الثانية بآيت شغروسن أغار على المحلة ليلا
أبو عزة الهبري ومعه سعيد بن أحمد الشغروسني ويقال إنه إدريسي النسب فماجت المحلة
بعض الشيء ثم تراجع الناس وأخذوا مراكزهم وصوبوا المدافع وآلات الحرب نحو عدوهم
فشردوهم فكان ذلك آخر العهد بهم وقبض على عدد من أصحابه وقطعت رؤوس منهم وتقدم
السلطان أعزه الله
____________________
في جموع مؤلفة من الجيش السعيد
المظفر وأنجاد نظام العسكر وغزاة القبائل الغربية بربرية وعربية إلى بني سادان
وآيت شغروسن فأوقع بهم وقتل وأسر وانتسفت الجيوش زروعهم وبعثرت أرضهم وديارهم
فلجؤوا إلى بني وراين فأمر السلطان أيده الله بقتال الجميع ثم جاء بنو وراين
متنصلين متبرئين إلى السلطان منهم فقبلهم وولى عليهم رجلا من أعيانهم ثم جاء بنو
سادان وآيت شغروسن تائبين خاضعين فعفا عنهم ووظف عليهم مائة ألف مثقال وزيادة
أربعمائة من الخيل فأذعنوا لأدائها واستوفاها السلطان أعزه الله منهم في أوائل
شعبان من السنة ثم تقدم إلى تازا فدخلها في أوائل الشهر المذكور ولما احتل بها
قدمت عليه وفود قبائلها متمسكين بحبل الطاعة داخلين فيما دخلت فيه الجماعة فرحين
مغتبطين وبكل ما أمكنهم من الخدمة متقربين وجاءت عرب الأحلاف ومن جاورهم حاملين
هوادجهم المحلاة بأحسن حليهم وشاراتهم التي يستعملونها في مواسمهم وزيهم فقابل
السلطان أعزه الله كلا بما يجب من المجاملة وحسن المعاملة ما عدا ثلاث فرق من
غياثة المجاورين لتازا وهم بنو أبي قيطون وأهل الشقة وأهل الدولة فإنهم كانوا
يضرون بأهل تازا ويغيرون عليهم فألزمهم السلطان أيده الله بأداء ما تعلق لهم
بذمتهم فأدوه في الحال ثم وظف عليهم ثلاثين ألف ريال أخرى لبيت المال فأدوها أيضا
عن طيب أنفسهم ومن عداهم من أهل غياثة فإنما أدوا الزكوات والأعشار وأظهروا حسن
الطاعة والامتثال وفي هذه الأيام جيء إلى السلطان بالهبري أسيرا فإنه لما خرج
السلطان أعزه في طلبه وطلب غيره أبعد في الصحراء ولم تزل تلفظه البلاد وتتدافعه
الشعاب والوهاد إلى أن ساقته خاتمة النكال إلى قبيلة بني كلال وهم على أربع مراحل
من تازا فقبضوا عليه وجاؤوا به إلى السلطان أسيرا حتى أوقفوه بين يديه مصفدا كسيرا
فأظهر الهبري الجزع وتضرع وخضع فحقن السلطان أعزه الله دمه وأمر به فطيف في المحلة
على جمل ثم أمر ببعثه إلى فاس فسجن بها بعد أن طيف
____________________
به في أسواقها ثم مضى السلطان
أعزه الله لوجهه حتى بلغ قصبة سلوان على طرف الإيالة المغربية من جهة الشرق فوفدت
عليه قبائل تلك النواحي وأهدوا ومانوا وأظهروا غاية الفرح والسرور
حكى من حضر أنهم كانوا يزدحمون عليه لتقبيل يده وركابه ووضع ثيابه على أعينهم
تبركا به وفي أوائل رمضان من هذه السنة في ليلة الخامس أو السادس وقع تناثر في
الكواكب وتداخل واضطراب عظيم على هيئة مفزعة بعضها مشرق وبعضها مغرب وبعضها إلى
هيئة أخرى فكان الحال كما وصف الأعمى بقوله
( كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ** وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه )
دام ذلك إلى قرب السحر وأقام السلطان أعزه الله بهذه البلاد حتى عيد بها بعيد
الفطر وكان المشهد هنالك عظيما والموسم مخيما وحضر بنو يزناسن ومعهم كبيرهم الحاج
محمد بن البشير بن مسعود فأهدى هدية كبيرة وولاه السلطان على تلك القبائل من بني
يزناسن وغيرها وقفل أعزه الله راجعا فأدركه فصل الشتاء بتلك الجبال والفيافي فاشتد
البرد وقلت الأقوات وهلك بسبب ذلك عدد كثير من الجند ولحق الناس مشقة فادحة وأظهر
السلطان نصره الله يومئذ من الشفقة والبرور ما تناقله الناس وتحدثوا به فإنه كان
يسير بسير الضعيف ويقف على المرضى حتى يصلح من شأنهم ويأمر بدفن من يدفن وحمل من
يحمل وإذا سقط لأحد دابته أو رحله وقف عليه بنفسه حتى يعان عليه وهكذا إلى أن دخل
حضرة فاس بحيث أدرك به عيد الأضحى من السنة فعيد بها وتفرغ للنظر في أمر العسكر
يقوم عليه بنفسه ويعرضه على عينه ويتصفح قوائم مؤنه ورواتبه فاطلع أيده الله على
ما كان يدلسه القائمون على ذلك من الزيادة الباطلة فعزل من عزل وأدب من يستحق
التأديب ثم قبض على كبير العسكر السوسي وهو الحاج منو الحاحي وكانت فيه شجاعة
وإقدام إلا أنه كان مفرطا في التهور والإدلال على الدولة وكبرائها فأدى ذلك إلى
الانتقام منه بالضرب والسجن والاحتياط على ماله وضياعه
____________________
ولا زال مسجونا إلى الآن ثم
سرح من السجن واستوطن مراكش عام ألف وثلاثمائة وخمسة وفي هذه المدة شرع السلطان
أعزه الله في بناء داره العالية بالله العامرة المزرية بمصانع المعتمد وقباب
الزهرة وذلك في البستان المعروف ببستان آمنة داخل فاس الجديد عمد أعزه الله إلى
ناحية من ذلك البستان فقطع ما كان بها من الشجر وبنى فيها قبة فارهة فائقة الحسن
بديعة الجمال يقال إنه ضاهى بها بعض قباب المعتمد بن عباد بإشبيلية ثم بنى الدار
الكبرى بإزائها وهي من عجائب الدنيا حسبما بلغنا بالغ أيده الله في تنجيدها
وتنميقها وأودعها من النقش العجيب والترخيم البديع والزليج الرفيع المزري بخمائل
الزهر وقطائف الهند وبديع الطوس بحيث جزم كل من رأى ذلك بأن مثله لم يتقدم في دولة
من دول المغرب وجلب لقبابها الأبواب من بلاد الأروام يقال إن ثمن أحد الأبواب خمسة
عشر ألف ريال مسامره من الفضة المذهبة وعوده من أفضل أنواع العود لا تعرف له قيمة
وفيه من التخريم والنقش ما يدهش الفكر ويحير النظر وباقي الأبواب من البلور الصافي
المذهب المودع فيه كل نقش غريب وبها خوخات مركبة بهيئة بديعة كل ذلك قد عمه الذهب
النضار الذي يدهش الأبصار وجلب لذلك من الأثاث الرومي ما قيمته ألوف من الريال
وفيها من الفرش والحائطيات المزخرفة ما لا يدرى ثمنه ولا يعرف معدنه وموطنه إلى
غير ذلك من المقاعد الحسنة والمنازل المستحسنة الرائقة الطرف البديعة الصنعة
والرصف وفي مدة مقام السلطان أيده الله بفاس بلغه عن ولد البشير بن مسعود بعض
استبداد فاقتضى نظر السلطان أعزه الله أن يبعث من قبله عاملا لجباية تلك النواحي
فعقد لأخيه المولى علي على جيش وأضاف إليه القائد أبا زيد عبد الرحمن بن الشليح
الزراري بمنزلة الوزير والظهير وبعثهما إلى ناحية وجدة وكان ابن الشليح المذكور
يومئذ يتولى عمالة تازا وكان أهل وجدة وأعمالها يكرهون ولاية ولد البشير عليهم
ويحبون ولاية ابن الشليح إذ كان له ذكر وصيت في تلك الناحية وربما كاتبه عرب آنقاد
وكاتبهم ولما أحس ولد البشير بذلك انصبغت العداوة بينه وبين ابن الشليح فلم يكن
إلا كلا ولا حتى
____________________
وجه السلطان أيده الله ابن
الشليح المذكور واليا على وجدة وأعمالها وجابيا لأموالها وناظرا في شؤونها
وأحوالها فقامت قيامة ولد البشير وعلم أنه لا يصفو له عيش معه فعزم على أن يطرده
عن تلك البلاد ويرده من حيث جاء وكان ولد البشير هذا حسن الطاعة للسلطان إلا أنه
انفسد أمره بما ذكرناه ولما قرب ابن الشليح من أرضه خرج إليه في خيله ورجله ولما
التقت مقدمة الجيش بهم انتشبت الحرب بينهم وقامت الفتنة على ساق وكان غرض ولد
البشير أن يضم إليه أخا السلطان وجيشه ويقوم بخدمتهم ويطرد عنه عدوه فقط فلم يستقم
له ذلك وكان رأيه هذا خطأ إذ ليست هذه بطاعة كما لا يخفى ثم انهزم الجيش وعمدت بنو
يزناسن والعرب إلى المحلة فانتهبوها وعاد عبد الرحمن بن الشليح إلى السلطان أعزه
الله وهو بفاس فأخبره الخبر وبإثر ذلك كتب ابن البشير إلى السلطان يتنصل من أمر
ابن الشليح ومحلته وأنه لا زال على الطاعة لم يبدل ولم يغير وإنما الذي انتهب
المحلة هم السفهاء من غير إذن لهم ولا موافقة على ذلك وحتى الآن فكل ما ضاع من تلك
المحلة يؤديه بأكثر منه فطوى له السلطان أيده الله عليها وأرجأ أمره إلى وقت آخر
وكان قد اتصل به في ذلك الوقت خبر أبي عبد الله محمد الكنتافي صاحب جبل تينملل
وكان أصل هذا الرجل أنه كان من أشياخ قبيلته وكان المتولي عليهم هو قائد الجيش
السوسي أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد الجراوي وكان الكنتافي هذا أحذر من غراب وأمنع
من عقاب قد اتخذ حصنا في رأس جبل تينملل حيث كان ظهور مهدي الموحدين حسبما مر في
أخبارهم وتحصن به وصار يؤدي للقائد الجراوي كل ما يأمره به من غير توقف إلا أنه لا
ينزل إليه فلما توفي الجراوي المذكور وولى السلطان على الجيش السوسي وما أضيف له
وصيفه القائد أحمد بن مالك ضايق الكنتافي بعض الشيء وسار معه بغير سيرة الجراوي
قبله فأنف الكنتافي من ذلك وأعلن أنه في طاعة السلطان ومتقلد بيعته يموت عليها
ويبعث عليها ولا يقبل ولاية أحمد بن مالك ولو ألقي في النار فكتب أحمد بن مالك إلى
السلطان وهو بفاس يعلمه بأن الكنتافي قد خلع الطاعة وفارق الجماعة وأشاع
____________________
المرجفون بأنه يحاول الاستقلال
بالأمر التفاتا إلى ما كان لسلفه من أهل ذلك الجبل منذ سبعمائة سنة وربما حن هو
إلى ذلك أيضا وقد حكى ابن خلدون أن أهل ذلك الجبل كانوا في زمانه على هذا الاعتقاد
( تخرصا وأحاديثا ملفقة ** ليست بنبع إذا عدت ولا غرب )
واستأذن أحمد بن مالك السلطان أعزه الله في غزو هذا الكنتافي فأذن له فبعث إليه
كتيبة من الجند ففضها الكنتافي فازداد المرجفون تقولا وتخرصا ثم بعث إليه ابن مالك
جيشا آخر أعظم من الأول فهزمه الكنتافي أيضا وقبض على جماعة منهم باليد فمن كان من
جيش السلطان سرحه إظهارا للطاعة ومن كان من القبائل المجاورة له ضرب عنقه وكانوا
عددا وافرا فتفاحش أمر الكنتافي في الحوز وكاد يستحيل إلى فساد فبعث ولده إلى حضرة
السلطان بفاس وكتب له بشرح قضيته وأنه مظلوم من قبل أحمد بن مالك وما ارتكبه في حق
الجيش إنما هو مدافعة عن نفسه وأنه لم يقتل جنديا قط وبالغ في التنصل وتقديم
الشفاعات والذبائح والعارات فأرجأ السلطان أعزه الله أمره ونهض من فاس منتصف رمضان
سنة اثنتين وتسعين ومائتين وألف فوصل إلى رباط الفتح ليلة عيد الفطر فاتفق أن وقع
بها نادرة وهي أن جماعة من شهود اللفيف اثنى عشر جاؤوا إلى القاضي أبي عبد الله بن
إبراهيم رحمه الله ليلة التاسع والعشرين من رمضان وشهدوا عنده أنهم رأوا هلال شوال
بعد الغروب رؤية محققة لم يلحقهم فيها شك ولا ريبة فسمع القاضي شهادتهم وسجلها
وكتب للسلطان بذلك وهو بقرميم فارتحل السلطان في جوف الليل ودخل داره وأصبح من
الغد معيدا وعيد أهل العدوتين وأعمالهما والجم الغفير من أهل المغرب الذين حضروا
مع السلطان ولما كان ظهر ذلك اليوم وهو التاسع والعشرون من رمضان حقق الفلكيون من
أهل الدولة أن العيد لا يمكن في ذلك اليوم وتكلموا بذلك وفاهوا به فكثر الكلام
بذلك وكان جل الناس على شك أيضا ولما حان وقت الغروب ارتقب الناس الهلال والسماء
مصحية ليس فيها قزعة فلم يروا له أثرا فأمر السلطان أعزه الله بالنداء وأن الناس
يصبحون صياما لأن رمضان لا زال فصام الناس من الغد وبعد ذلك
____________________
ظهر الهلال ظهورا معتادا وتبين
كذب الشهود فسجنوا ثم سرحوا بعد حين ولما قضى السلطان أعزه الله سنة العيد نهض إلى
مراكش فلما قرب من زاوية ابن ساسي بين بلاد الرحامنة وزمران نزل هنالك على
الرحامنة وكانوا قد حصل منهم اعوجاج وتمرض فوظف عليهم من الأموال ما أثقل ظهورهم
وفرض عليهم من العسكر والخيل ما امتحنوا في أدائه ولم يقم عنهم حتى أدوا جميع ذلك
وحتى خرج الأشراف والمنتسبون من أهل مراكش إلى السلطان للشفاعة فيهم والرغبة إليه
في دخوله منزله فقبل السلطان أيده الله شفاعتهم وارتحل عنهم فدخل مراكش آخر ذي
القعدة من السنة وكانت مدة مقامه على الرحامنة ستة عشر يوما وكان يوم دخوله إلى
مراكش يوما مشهودا وفي رابع ذي الحجة بعده قبض على مائتين وثمانين شخصا من أعيان
أولاد أبي السباع وكانوا قد عاثوا في ذلك الحوز على عادتهم وعظم ضررهم واستطار
شررهم وخرجوا على عاملهم السيد عبد الله بن بلعيد وصالوا على القائد أبي حفص عمر
المتوكي وكان القتل بينهم وبين شيعة عاملهم ابن بلعيد المذكور ففر إلى السلطان
بفاس فأرخى أعزه الله لهم الحبل وأطال عليهم الرسن وولى عليهم القائد أبا عبد الله
محمد بن زروال الرحماني صورة حتى اطمأنوا بذلك وأنسوا ولما قدم أعزه الله مراكش
ضرب البعوث على قبائل الحوز فناب أولاد أبي السباع في ذلك ثلاثمائة فارس فقدمت
مراكش بخيلها وأسلحتها وكان السلطان أيده الله يومئذ قد أخذ في عرض بعوث القبائل
داخل مشور أبي الخصيصات فجاء أولاد أبي السباع للعرض فلما توسطوا المشور المذكور
أغلقت الأبواب وقبض عليهم وجردوا من السلاح وحملوا إلى السجن وكانوا مائتين
وثمانين كما قلنا ثم وجه السلطان أعزه الله إلى حلتهم القائد العربي الرحماني مع
كتيبة من الجيش فنزلوا عليهم وأغرمهم ستين ألف ريال فأدوها في الحال بعد بيع
ماشيتهم بأبخس ثمن وحينئذ بعث السلطان إلى عاملهم عبد الله بن بلعيد فاستدعاه من
فاس وقدم وولاه عليهم فاطمأنوا وأطاعوا وجد السلطان أيده الله في جمع العساكر
والاستعداد إلى أواخر صفر من سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف
____________________
فقدم عليه أبو عبد الله محمد
الكنتافي صاحب الجبل مستأمنا بالمرابط أبي علي الحسن بن تيمكيلشت فقابله السلطان
بالعفو والصفح وأكرم وفادته وولاه على إخوانه وانقلب إلى أهله مسرورا ولما حضر عيد
المولد الكريم احتفل السلطان أيده الله غاية الاحتفال على عادة أسلافه الكرام قدس
الله أرواحهم وجعل في عليين عدوهم ورواحهم وتشنفت الأسماع بالأمداح النبوية في
الليلة المباركة بالمسجد المعد لذلك وأنشدت قصائد لأدباء العصر وبعد العيد كسا
السلطان نصره الله جميع الجيش والعسكر والكتاب حتى الأمناء والطلبة وفي مهل ربيع
الثاني من السنة المذكورة خرج من مراكش يؤم بلاد الغرب فجعل طريقه على ثغر الجديدة
فأقام بها أياما بعد أن زار تربة بني آمغار برباط تيط وتفقد أحوال ثغر الجديدة
ووقف على أبراجها وأسوارها وباشر في الرماية بالمدفع وكان رميه صوابا بحيث أصاب
الغرض أعزه الله وأهدى له جميع تجارها من المسلمين والنصارى واليهود فقبل ذلك
وكافأ عليه وكان أعزه الله حين عزم على النهوض من مراكش قد كتب إلى عامله على
مدينة آنفى وهو القائد الأجل الأنصح أبو عبد الله الحاج محمد بن إدريس بن حمان
الجراري أن يتقدم إلى ثغر الجديدة ويقيم هنالك حتى يأمره بما يكون عليه عمله
فامتثل القائد المذكور ولما قدم السلطان أعزه الله إلى الثغر المذكور اجتمع به
القائد المذكور وطلب منه أن يجدد له ظهيرا بالتوقير والاحترام حسبما كان عليه هو
ووالده من قبله مع السلطان الأعظم المولى عبد الرحمن وابنه السلطان المرحوم سيدي
محمد رحمهما الله فأجابه أعزه الله إلى ذلك وكتب له ظهيرا يقول فيه ما نصه الحمد
لله وحده وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله كتابنا هذا أسماه الله وأعز أمره
وجعل في الصالحات طيه ونشره يستقر بيد ماسكه خديمنا الأرضى الطالب محمد بن إدريس
الجراري ويتعرف منه أننا بحول الله وقوته أنزلناه المنزلة التي كان بها هو ووالده
عند أسلافنا الكرام ولحظناه بعين الرعاية والبرور والاحترام هو وأولاده وإخوته فلا
يروا من جانبنا العالي بالله إلا الخير لأنهم خدام أبناء خدام ودارهم دار المحبة
والنصيحة فلا نسلمهم ولا نفوتهم ولا نضيع لهم
____________________
سالف خدمتهم ولا نكشف عنهم
جلباب حرمتهم بحول الله وقوته والسلام صدر به أمرنا المعتز بالله في تاسع ربيع
الثاني عام ثلاثة وتسعين ومائتين وألف ولما قضى السلطان أعزه الله أربه من ثغر
الجديدة نهض إلى آزمور فتلقاه أهلها بالفرح والسرور والبهجة والحبور فهش لهم
وقابلهم بما يناسب ودعا لهم بخير وزار ضريح الشيخ أبي شعيب وأبي عبد الله محمد
واعدود رضي الله عنهما وقدم لضريحهما ذبائح وطاف بأسوار البلد وأبراجه وأمر بتحصين
برج هنالك كان مقابلا للمرسى ثم خرج من آزمور بعد يوم أو يومين فانتهى إلى مدينة
آنفى فدخلها في الثالث والعشرين من ربيع الثاني المذكور وعزل عنها القائد أبا عبد
الله محمد بن إدريس الجراري وولى مكانه الحاج عبد الله بن قاسم حصار السلاوي ثم
كتب إلى أبي عبد الله الجراري المذكور بولايته على الجديدة وأعمالها ونص كتابه
إليه خديمنا الأرضى الطالب محمد بن إدريس الجراري وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله
تعالى وبركاته وبعد فإنا أعفيناك من ولاية الدار البيضاء ووليناك على الجديدة ولم
نعزلك عنها سخطا لسيرتك ولا هضما لجانب خدمتك وإنما اقتضت المصلحة ذلك تقديما
للأهم فالأهم وأنت منا وإلينا ودارك دار الخدمة والصلاح فلا نسلمكم ولا نفوتكم ولا
نهضم لكم جانبا والسلام في الثالث والعشرين من ربيع الثاني عام ثلاثة وتسعين
ومائتين وألف ا هـ
واعلم أن هذا العامل من أمثل عمال السلطان نصره الله وأعقلهم وأرجحهم وأنصحهم قد
استعمله الملوك الثلاثة المولى عبد الرحمن وابنه سيدي محمد وابنه المولى الحسن رضي
الله عنهم فظهرت كفايته ونصيحته وحمدت ولايته وسيرته وهو الآن بهذا الحال حفظنا
الله وإياه والمسلمين آمين ولما احتل السلطان أعزه الله بالدار البيضاء طاف في
أبراجها وأمر الطبجية بنصب الأغراض المسماة بالقريبيات في البحر ثم أمر برميها وهو
حاضر وربما باشر معهم ثم اجتاز بعد الفراغ على باب المرسى ومحل وضع السلعة للتجار
بها فوقف عليه وتأمله كما فعل بثغر الجديدة ووعد
____________________
بإصلاح المون على شاطىء البحر
لأن البحرية يتعبون فيه وقت إنزال السلع ووسقها وأقام بالدار البيضاء بالمحلة خارج
البلد يومين وأهدى إليه تجارها من النصارى واليهود والمسلمين وأظهر النصارى الفرح
وأكثروا من تعليق الصناجق وإيقاد الحراقيات بالليل وإرسالها في الجو فقابلهم
السلطان أعزه الله بالجميل وحمل النصارى منهم على خيل مكافأة لهم على هديتهم
فطاروا بذلك فرحا حتى أنهم كتبوا بذلك لأهل دولتهم ونشروه في كوازيطهم وأجوبتهم
وفي هذه المدة وجه السلطان أعزه الله خديمه الأنجد الفاضل أبا عبد الله الحاج محمد
بن الحاج الطاهر الزبدي الرباطي باشدورا وسفيرا عنه إلى دول الإفرنج مثل دولة
افرانسا ودولة النجليز ودولة الطاليان ودولة البلجيك واستصحب معه هدايا نفيسة
وأموالا طائلة صيرها في وجهته تلك ورافقه في سفارته هذه الأمين الأرضى السيد بناصر
ابن السيد الحاج أحمد غنام الرباطي برسم القيام بخطة الأمانة والقهرمانية وصاحبنا
الفقيه الأديب فلكي العصر وحاسبه الشريف أبو العلاء إدريس بن محمد الجعيدي السلاوي
برسم القيام بخطة الكتابة فوصلوا إلى أهل هذه الدول وقضوا الغرض على أكمل الوجوه
وأحسنها وعادوا مسرورين في أواخر شعبان من السنة وفي هذه الوجهة قيد صاحبنا أبو
العلاء المذكور رحلته البديعة المسماة بتحفة الأحبار بغرائب الأخبار قد اشتملت على
كل نادرة وغريبة وأفصحت عن صنائع الفرنج وحيلها العجيبة وعند قفوله وقدومه على
حضرة السلطان أيده الله مدحه بقصيدة جيدة مطلعها
( أسالم دهري في المرام وفي القصد ** فينقض ما أبرمت للصلح من عقد )
( وأسأله الرحمى فيبدي ازوراره ** ونفرته عني فيا عظم ما يبدي )
( وكم لي استرضيه وهو مغاضب ** ولا يرعوي عما جناه على عمد ) ومنها في آخرها
( وهذي بنات الفكر مني هدية ** إلى الملك المنصور ذي الجود والرفد )
____________________
( فإن أهملت عدلا فإني مهمل ** وإ ، صادفت وقت القبول فيا سعدي )
( وما كنت في باب القريض مبرزا ** شهيرا ولكني تعاطيته جهدي )
( لأجل امتحاني لذت فيه بربنا ** فأصبحت ذا وجد وقد كنت ذا فقد )
( فها أنا ضيف زائر لحماكم ** وحسبي رضاكم فهو نفس المنى عندي )
( ويا ربنا أعط الأمير مرامه ** وظفره بالمطلوب منك وبالقصد )
ثم إن السلطان أعزه الله نهض من الدار البيضاء ومعه الجند الوافر والعسكر المجر
والجم الغفير من قبائل الحوز وأهل دكالة وتامسنا فأوقع بعرب الزيايدة أهل تامسنا
وتقدم إلى رباط الفتح فدخله غرة جمادى الأولى من السنة فمكث به نحو سبعة أيام وعبر
إلى سلا فزار أولياءها ودخل مسجدها الأعظم وصلى الظهر به وأمه في صلاته يومئذ
صاحبنا الفقيه العلامة البارع أبو محمد عبد الله بن الهاشمي بن خضراء ودخل السلطان
أعزه الله خزانة الكتب العلمية بالمسجد المذكور وتأملها ومعه يومئذ شيخنا الفقيه
العلامة القاضي سيدي أبو بكر بن محمد عواد فطلب من السلطان أيده الله أن يزيد في
شراء الكتب للخزانة المذكورة فأذن له بأن يشتري من ذلك ما ثمنه نحو مائة ريال ففعل
وهي يومئذ بالخزانة المذكورة ووصل أيده الله علماء العدوتين ومجاهديها على العادة
وقد كنت أنشأت قصيدة في غرض من الأغراض فلما اتفق قدوم السلطان أيده الله هذه
المرة حولتها إلى مدحه ونصها
( قلب كواه من النوى مقباس ** فغدا به الوسواس والخناس )
( ونحول جسم يشتكي ألم الضنى ** وجوى به تتصاعد الأنفاس )
( والدمع في الوجنات محمرا غدا ** ولدى الوشاة به انتفى الإلباس )
( إن الألى يستعذبون ملامه ** ما أن لهم بعذابه إحساس )
( قدما عذلت ذوي الغرام سفاهة ** حتى غدوت بمنسميه أداس )
( وحسبته حلو الجنى فأساغني ** من بأسه ما لا يسيغ الباس )
( إن الذين علقتهم قد انجدوا ** بمها الخدور ودونها الحراس )
( أبدا أؤمل في حياتي وصلهم ** واليوم قد غلب الرجاء الياس )
____________________
( ما كنت أحسب قبل إلمامي بهم ** إن الظباء لها البيوت كناس )
( تحكى بدور التم يخفي ضوءها ** ضوء الشموس إذا بهن تقاس )
( من كل خود كاعب يهدي لنا ** نشر الخزامي عطفها المياس )
( تسبي بقد السمهري وباسم ** يرمي الشعاع كأنها النبراس )
( وكأن هاتيك الخدود وفاحما ** في ظلها ورد حواه الآس )
( لله ما عيش تقضي بيننا ** فكأنما أيامه الأعراس )
( طاب السرور لنا به وتأرجت ** آصاله وافترت الأغراس )
( أيام روض اللهو غض نوره ** ومنادمي فيه المنى والكاس )
( بالله يا قلب استفق ودع الهوى ** إن الهوى غول النهى الفراس )
( أو ما رأيت المخلدين إلى المنا ** سكنوا الثرى وعراهم الإفلاس )
( واعمل ليوم لا تخس شعيرة ** فيه إذا ما ينصب القسطاس )
( وابك الذنوب بكاء خندف بعلها ** لما جلا عن ربعها الياس )
( وإذا حوت كفاك فابن مبادرا ** مجدا تخلده لك الأنقاس )
( من غير تبذير لمالك لا تكن ** حلو الجنا فتلوكك الأضراس )
( كم من فتى جاز الحضيض إلى الذرى ** وبنى على لم تبله الأرماس )
( وإذا وعدت فكن لوعدك منجزا ** كيما ترى لك في الفخار غراس )
( فالمنع في جنب الوفاء صنيعة ** والتبر في جنب المطال نحاس )
( وإذا حصلت على الرياسة فاذكرن ** من كان يجمعه بك الإيناس )
( واحذر مناصبة الدنى فربما ** خان الحسام وطاشت الأقواس )
( كم يغن يوما عن كليب مجده ** لما حشاه بالقنا جساس )
( وإذا تصاحب فاصحبن مهذب ** راز النهى وله بهن مراس )
( فالمرء ويحك إنما يذري به ** ويزينه الأصحاب والجلاس )
( وإذا البذي جفاك يوما فاحتسب ** فالجهل بالطبع الكريم يساس )
( وإذا عرتك ملمة فاصبر ولا ** تكن الجزوع وهمك الإيجاس )
( واحفظ لسانك واله من عيب الورى ** كل امرىء بفعاله منقاس )
( وادأب على حفظ العلوم وكن بها ** ذا خبرة وملاذك الأطراس )
____________________
( فالعلم أنفع للفتى وأجله ** ما قد وعاه القلب لا القرطاس )
( وارو الحديث وكن به متأدبا ** والفقه حققه يطعك قياس )
( وأقم بعلم النحو لفظك ولتكن ** فيه المقدم إذ به الإيناس )
( كل العلوم إذا نظرت رأيتها ** والنحو مصباح لها وأساس )
( واكتب من الشعر المهذب نبذة ** فالشعر أفضل ما وعاه الراس )
( إن لم تقله فكن له مستحضرا ** إن رمت نطقا يرتضيه الناس )
( كم من وضيع قد علا بقريضه ** رتبا تشرفه وحسبك شاس )
( إذ خلصته من الأسار وقده ** أبيات علقمة الفتى القنعاس )
( وإذا قصدت أخا النوال بمدحة ** فاقصد فتى له في الندى آراس )
( مثل الإمام أبي علي الرضي ** حسن الذي هو في العلى نبراس )
( الماجد الملك الهمام المرتضى ** فخر الملوك سنامها والراس )
( شملت بلاد الغرب رأفته وقد ** بهج الزمان وعمت الأرغاس )
( وحبا الورى من نيله حتى لقد ** طاب السرور وطابت الأنفاس )
( سعدت بمقدمه سلا وتقدست ** مراكش الحمراء منه وفاس )
( أبدا سيوف العزم منه على العدا ** برق وغيث نواله بجاس )
( شهم بصير بالأمور مجرب ** يقظان من داء الضلالة ياس )
( حلب الزمان شطوره فمتى اعتصى ** داء الخطوب فرأيه النسطاس )
( يلقى الوفود بحشمة وطلاقة ** لا يختشى منه أذى وشماس )
( في الجود كعب والبسالة عامر ** والحلم قيس والذكاء إياس )
( فالله يحفظه ويحفظ ملكه ** حتى يصيب عداه منه عماس )
( ويشيد للإسلام من عزماته ** عزا تطأطىء دونه الأجناس )
( وينيله مجدا ينسى ذكره ** في عزة قعساء ليس نقاس )
( فليعل ملك بني على وليدم ** ما خلدت مروان والعباس )
وقد تبعني صاحبنا شاعر العصر الفقيه الأديب أبو عبد الله محمد بن ناصر حركات في
روي هذه القصيدة دون بحرها وهي من ميلادياته قال
____________________
( أدر كؤوسك فالسراء في الكأس ** واشرب على طرب بروضك الكاسي )
( وقم لتنظر وجه الدهر مبتهجا ** مستبشرا بعد تقطيب وتعباس )
( والأفق طلق وذا النسيم منطلق ** مسكي نشر خلال الجو جواس )
( والأرض تضحك من بكا الغمام كما ** يشكو الكئيب على مستهزىء قاسي )
( كأنها وهي بالربيع حالية ** عواطل قد تحلت يوم أعراس )
( والورق من ضحك الأزهار نائحة ** كنوح صب على أحبابه آسى )
( والدوح زاهية الأفنان زاهرة ** تهدي البهاء إلى البهار والآس )
( كأنما الزهر إذ تراه منتثرا ** على جداولها الحباب في الكاس )
( كأنما طيب نشره شمائل من ** قد ساد بالمكرمات سائر الناس )
( إمامنا الحسن المجلي بطلعته ** عن الورى كل أزمة وقسقاس )
( كسا الرعية أثواب المنى جددا ** من بعد ما اشتملت بكل إدراس )
( سبط الرسول وفرع من سلالته ** طيب الفروع ترى بطيب أغراس )
( خليفة الله من دانت لعزته ** شم الملوك برغم كل دمناس )
( أنداهم في الندى كفا وأشجعهم ** قلبا وأسطاهم بكل دعاس )
( من ذا ينازله عند الجلاد وهل ** يهول الليث يوما صوب ولاس )
( قد عمه النصر في ورد وفي صدر ** وحفه اليمن من ساق إلى راس )
( مولى تردى رداء المكرمات فقل ** ما شئت في شيم له واتواس )
( لم يمض مشبهه على الحقيقة في ** بني أمية أو أبناء عباس )
( من ذا يدانيه في حلم وفي كرم ** ومن يضاهيه في الإقدام والباس )
( يا كم به قوي الضعيف وامتلأت ** كف الفقير وأثرى رب إفلاس )
( سلا كمثل سلا الغرا وضرتها ** أو مثل مراكش وحضرتي فاس )
( فكم بها من مآثر له كرمت ** ليست تعد بأقلام وأنقاس )
( بل كل مصر وقرية له ديم ** تهمي لأهلهما بكل ارغاس )
( فدا الأمير أدام الله عزته ** طول المدى كل أنفس وأنفاس )
( إليكها أيها الجحجاح مائسة ** أزرت طلاوتها بكل مياس )
( خريدة من بنات الفكر غانية ** لرقمها يتمنى كل قرطاس )
____________________
( جاءتك تطلبك القبول عائذة ** بالله من شر وسواس وخناس )
( فليهنها أنها تشرفت بك إذ ** حوت معاني من مديحك الراسي )
( وأنها لك قد وافت مهنئة ** بليلة ذات أسفار وإهلاس )
( أكرم بها ليلة غراء قد فضلت ** بأفضل الرسل كل ذات إغباس )
( إذ أشرق الكون من أنوار مولده ** حتى كفاه سناها كل نبراس )
( والشرك في الهون قد أضحت طوائفه ** مستيقنين حلول البؤس والبأس )
( إذ هالهم أمر أحمد وأوقعهم ** في حيرة عبثت بهم وإبلاس )
( تيقنوا أنه ما كان يخبرهم ** بشأنه كل قسيس وشماس )
( وأصبحت جملة الأصنام ساقطة ** منكسات الرؤوس أي تنكاس )
( وفي انصداع البناء أصبحت عبر ** لهم كذا في خمود نار أفراس )
( والجن لا تصل السماء إذ منعت ** منها بشهب لرميها وحراس )
( ومن يرم منهم للسمع مسترقا ** ينحط محترقا منها بمقباس )
( محمد صفوة الباري وخيرته ** من خلقه الجن والأملاك والناس )
( جاءت شريعته البيضا مطهرة ** للدين من كل أدران وأدناس )
( ولم تزل أمد الأعصار رافعة ** عن الهدي كل شبهة وتدلاس )
( أصل الهدى والندى فليس يشبهه ** هطال غيث ولا تيار رجاس )
( فلا تقسه بشيء في مكارمه ** فما ترام خلاله بمقياس )
( فإنه البحر في فضل وفي كرم ** وفي الشجاعة ضيغم بأخياس )
( كانوا به يتقون في الوغا بدلا ** عن اتخاذ مغافر وأتراس )
( أسرى به الملك الأعلى لحضرته ** والروح مونسه أتم إيناس )
( والليل أحرس ليس فيه يسمع من ** صياح ديك ولا عواء لواس )
( حتى دنا فتدلى ثم كلمه ** وقد رأى ربه بمقة الراس )
( ونال من فضله عزت جلالته ** ما لا يسام بأوهام وأحداس )
( فآب والدين أسست قواعده ** على أصول حميدة وأساس )
( تراه كالقمر المنير في غسق ** من الدجى بين أصحاب وجلاس )
( غدا يحدث والملا يصدقه ** وليس يرتاب غير المائق الماس )
____________________
( دعا على المعتدي عتيبة فغدا ** يوما بدعوته قتيل هماس )
( ورد عين قتادة فصار بها ** بعد العمى ذا تمقل وإيناس )
( والماء من كفه السمحاء سال فكم ** من وارد عذبه الروي وكم حاسي )
( هو الرسول الذي جمت فضائله ** فليس تحصر أو تحصى بأطراس )
( مديم ذكر فإن تذهل لواحظه ** فالقلب ليس بذاهل ولا ناسي )
( فالأرض طاولت السماء قائلة ** لخير رسل ببطن خير ارماس )
( كل النبيين طرا لائذون به ** كمثل نوح ويونس والياس )
( كذاك موسى وعيسى والخليل به ** لدفع باس بيوم الحشر أباس )
( يا أكرم الخلق يا خير الورى شرفا ** يا من أتانا بتطهير وتقداس )
( أشكوك داء أساي فأسه كرما ** فما لداء الأسى سواك من آسى )
( قسا الزمان وفي قسم النوائب لم ** يعدل فيا ويحه من قاسم قاسي )
( لكن قصدتك والكريم قاصده ** ما أن يرد بخيبة ولا يأس )
( وقد توسلت للمولى بجاهك أن ** يشد بالشرعة البيضاء أمراسي )
( وأن يحسن أعمالي ومعتقدي ** فيه ويكشف بلبالي ووسواسي )
( وأن يعاملني بالعفو عن زللي ** وأن يبدل إقلالي بإقعاس )
( وأن يهيىء أسباب السعادة لي ** حتى أنيخ بذاك البيت عرماسي )
( إذ قلت من أم طيبتي ومات بها ** نال الشفاعة في أهل وفي ناس )
( صلى عليك إله العرش ما نفحت ** نوافح الزهر من دوح وأخياس )
( صلى عليك إله العرش ما اعتصمت ** بك الخلائق من عار ومن كاس )
( صلى عليك إله العرش ما رمقت ** بيض القراطيس يوما سود أنقاس )
( والآل ما قال نشوان بحبهم ** أدر كؤوسك فالسراء في الكاس )
ثم نهض السلطان أعزه الله من رباط الفتح في عاشر جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين
ومائتين وألف قاصدا مكناسة وجعل طريقه على زمور الشلح فخرجوا إليه متذللين خاضعين
متقربين إليه بالهدايا والضيافات فضرب عليهم الإتاوة والبعث فانقادوا ثم دخل أعزه
الله مكناسة ثامن عشر الشهر المذكور فمكث بها أياما يسيرة ثم نهض إلى فاس فمكث بها
أياما يسيرة كذلك ريثما
____________________
اجتمعت إليه الجنود وخرج قاصدا
بلاد وجدة وبني يزناسن وكبيرهم الحاج محمد بن البشير بن مسعود وكان خروجه من فاس
منتصف جمادى الثانية من السنة فاجتاز بتازا وأناخ على قبيلة غياثة جاعلا الهضبة
المعروفة بذراع اللوز أمامه قبلة ووظف عليهم المؤنة قيل إنه وظف عليهم مائة صحفة
من القمح والشعير فدفعوا شيئا يسيرا وعجزوا وتعللوا بأن هذا الذي جرت العادة أن
يدفعوا للملوك من قبل وكانت هذه القبيلة لم يهجها هيج منذ قديم لتحصنهم بجبالهم
وأوعارهم ولهم استطالة على أهل تازا يركبونهم كل خسف فظهر للسلطان أعزه الله
قتالهم فقاتلهم يوم الخميس أواخر الشهر المذكور واقتحم عليهم حصنهم المعروف بالشقة
وهو خندق بين جبلين فيه واد وعلى حافتيه بناءات ودور فحرق ذلك كله وهدمه وانتسف ما
فيه من قمح وشعير وأدام وغير ذلك وقطع منهم رؤوسا يسيرة ولما كان الغد وهو يوم
الجمعة السادس والعشرون من الشهر المذكور ركب السلطان أيده الله وركب معه أهل
المحلة إلا قليلا وقدم المدافع والمهاريس أمامه واقتحم الشقة فتبعه الناس ودخلوا
بلاد غياثة وتوسطوها وقاتلوا أهلها فهزموهم والسلطان أمام الجيش في موكبه فسار حتى
بلغ المداشر ورمى عليها من الكور والبنب شيئا يسيرا وكانت غياثة قد وضعت الكمائن
على الأنقاب وشحنوها بالرماة وتركوا منفذا واحدا يفضي إلى مهواة متلفة ذات شقوق
غامضة وأشجار شائكة وصخور متراكمة لا يدرك قعرها ولا يبصرها إلا من وقف عليها ولما
وغل الجيش في مزارعهم ومداشرهم خرجت الكمائن من خلفهم ورموهم عن يد واحدة بالرصاص
فدهش الناس وتذكروا فعلهم القديم من الانهزام عن الملوك بلا موجب إذ لم يكن في
شوكة غياثة هؤلاء وكثرتهم ما ينهزم منه ذلك الجيش اللهام ولو تلبثوا يسيرا
وقاوموهم لهزموهم في الحال كما هزموهم أول مرة ولكن العادة العادة فولوا مدبرين لا
يلوون على شيء وتكاثر الرصاص على موكب السلطان حتى سقط حامل الراية وجرح المولى
عرفة أخو السلطان وقتل سيدي محمد بن الحبيب نقيب الأشراف بالعدوتين وأما الجيش
وقواده فإنهم لما انهزموا صرفوا وجوههم إلى المهواة
____________________
التي ذكرنا وقصدوها على عمياء
وقد ارتفع دخان البارود وغبار الخيل فتهافتوا فيها تهافت الفراش في النار لا يعلم
اللاحق ما وقع بالسابق إلى أن امتلأت من الخيل والرجال والأثاث وما كادت وكان ذلك
قضاء من الله وتمحيصا منه فهلك من الناس والخيل ما لا يحصى وبقيت أشلاؤهم ناشبة في
تلك الأوعار تلوح مثل المجزرة وترجل السلطان أعزه الله عن فرسه حتى خلص من تلك
الشقوق ثم ركب واجتمع الناس عليه وراجعوا بصائرهم بعد الكائنة ثم انشمر غياثة بعدها
إلى رؤوس الجبال وتركوا المداشر والجنات فاقتحهما السلطان بعد يومين أو ثلاثة
عليهم فلم يقف أمامه منهم أحد فعاث فيها وحرقها وجعلها حصيدا كأن لم تغن بالأمس
وكتب أيده الله بذلك إلى الآفاق وذكر في كتابه أن الخيل والرماة قد انتسفوا بلادهم
انتسافا ودوخوها أماما وخلفا حتى أشرفوا على بلاد جيرانهم وأناخوا فيها بكلكلهم
وجرانهم ثم توجه السلطان نصره الله إلى نواحي وجدة فانتهى إليها أوائل شعبان من
السنة فتلقاه بنو يزناسن خاضعين تائبين فعفا عنهم لكونهم ثغرا من ثغور المسلمين
وعصبة تدخر لنصرة الدين إلا أنه عزل عنهم ولد البشير وبعث به مسجونا إلى فاس وولى
عليهم قوادا منهم من أهل الحزم والنجدة ووظف عليهم قدرا صالحا من المال فشرعوا في
دفعه في الحال والتزموا رد ما تعلق بذممهم من المظالم وصلحت أحوالهم واستقام أمر
تلك الناحية ولما قضى السلطان أعزه الله غرضه منها قفل راجعا إلى فاس فدخلها ليلة
السابع والعشرين من رمضان المعظم وكتب بذلك إلى الأمصار يقول هذا وقد كتبنا لكم
هذا بعد القفول من حركتنا السعيدة وحلولنا بحضرتنا العالية بالله بفاس بالفتوحات
الجديدة والإنعامات المزيدة حلول عز وظفر وإسعاد ونصر من لدنه لم يكن بحيلة ولا
استعداد وذلك بعد الفراغ من ترتيب تلك القبائل وتطهيرها مما تعلق بها من الرذائل
ونلنا بفضل الله في هذه الحركة من أثر الخير واليمن والبركة ما أثلج الصدور وحمدنا
غبه في الورود والصدور وتركنا أهل تلك النواحي وساكني جبالها والضواحي على أحسن ما
يكون صلاحا واطمئنانا وسلوكا للجادة المخزنية بالقلب والقالب سرا
____________________
وإعلانا وأبقينا طائفة من
جيشنا السعيد عند قبائل الريف زيادة في الاطمئنان والتأليف بقصد استيفاء ما بذممهم
من الواجب واستخلاص ما تعلق بهم من الحقوق التي ألزموها ضربة لازب وذلك كله من
تيسير الله ورفده وفضله على عبده فما النصر إلا من عنده فأما نحن فلا حول لنا ولا
قوة ولا أنصار مرجوة ولا نعتمد على عدة ولا عدد بل على فضله تعالى المعول والمعتمد
عرفنا الله حق النعمة وألهمنا شكرها وحمدها وأجرانا على عوائده الجميلة وفوائده
الجليلة التي لا يقدر قلم الواصف أن يدرك حصرها وحدها وقد اقتضى نظرنا العالي
بالله إعلامكم بذلك لتأخذوا حظكم من الفرح بتأييد الله ونصره وتخلصوا في حمد نعمه
الجزيلة وشكره والسلام في السادس والعشرين من رمضان عام ثلاثة وتسعين ومائتين وألف
اه استمر السلطان أعزه الله مقيما بفاس وجد في بناء مقاصيره ومنتزهاته ببستان آمنة
من فاس الجديد وكتب أيده الله إلى وصيفه أحمد بن مالك قائد الجيش السوسي بالمنشية
من حضرة مراكش أن بيني له على الباب المعروف بباب الرئيس من الدار الكبرى بالحضرة
المراكشية قبة فارهة ويبالغ في رفعها وتنجيدها وتنميقها فشرع فيها في شوال من السنة
المذكورة وكنا يومئذ نتولى إحصاء صائرها وصائر غيرها من البناءات المراكشية فكان
ما صير على القبة وحدها أكثر من مائة ألف مثقال وكذلك بنى بمكناسة القبة العظيمة
التي طاولت السماء ترفعا وذهبت في الجو صعدا بحيث أشرفت على ما حولها من بسيط سائس
وغيره حتى صارت مثلا في الطول والاشتهار وبنى أعزه الله قبة عظيمة حفيلة على ضريح
الشيخ العارف بالله تعالى أبي عبد الله سيدي محمد الصالح ابن المعطي الشرقاوي بأبي
الجعد فصير عليها أكثر من ثلاثين ألف مثقال تقبل الله منه
وفي عاشر شوال من هذه السنة أعني سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف توفي الفقيه
العلامة الناسك قاضي رباط الفتح أبو زيد عبد الرحمن ابن الفقيه العلامة السيد أحمد
بن التهامي البريبري ودفن بزاوية حنصالة من البلد المذكور وكان رحمه الله من أمثل
قضاة الوقت ومن المتحريين للعدل ولي
____________________
القضاء برباط الفتح أكثر من
عشرين سنة ثم تخلى عنه من غير عزل ودخل داره فلم يخرج بعد فاحتمل السلطان والناس
ذلك واعتقدوه واستمر حاله على ذلك إلى أن توفي في التاريخ المذكور رحمنا الله
وإياه والمسلمين
وفي سنة أربع وتسعين ومائتين وألف وذلك يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من محرم منها
توفي الفقيه العلامة الأديب شاعر العصر أبو عبد الله محمد بن أحمد أكنسوس المراكشي
ودفن قرب ضريح الإمام أبي القاسم السهيلي خارج باب الرب من مراكش وحضر جنازته الجم
الغفير من الناس وهو صاحب كتاب الجيش رحمه الله
وفي صبيحة يوم الاثنين السابع عشر من ربيع الأول من السنة المذكورة ولد لنا ولد
سميناه محمدا العربي وكان من عجيب صنع الله أنه ولد مختونا ولذا ذكرناه هنا وهو
الآن حي أصلحه الله وأنبته نباتا حسنا وجعله من عباد الله الصالحين ومن العلماء
العاملين آمين وفي جمادى الأولى من السنة أخذ السلطان أعزه الله في الاستعداد بالحضرة
الفاسية للحركة استعدادا لم يتقدم له مثله حتى أنه كتب إلى أخيه وخليفته بمراكش
المولى عثمان بن محمد أن يوجه إليه من العدة الرومية وهي مكاحل مركبة فيها توافلها
ما قدرها ألف وستمائة وعشرون مكحلة تخرج أبخاشها بالحبة الرومية وأن يوجه إليه
أربعمائة ألف وعشرة آلاف من الحبة المذكورة وعشرة قناطير من البارود ومائة قنطار
من ملحه ومدفعين وكتب أعزه الله إلى أمناء الصائر بأن يبعثوا إليه بثلاثمائة وستين
سرجا وستمائة كسوة من الملف للعسكر وخمسة عشر ألفا من البلغة ومثلها من النعالة
وبعث أعزه الله عمه المولى الأمين بن عبد الرحمن إلى رباط الفتح لجمع عساكر الثغور
وحشد قبائل دكالة وتامسنا والغرب وبني حسن وغيرهم ووجه أخاه المولى الحسن الصغير
لحشد قبائل الدير والجيش المتفرق بها ثم كان خروج السلطان من فاس إلى مكناسة أواخر
الشهر المذكور ولما سمعت قبائل البربر بخروجه ارتابت وحذرت وظنت كل قبيلة أنها
المقصودة ففرت مجاط وبنو مطير إلى رؤوس الجبال
____________________
وفرت عرب عامر من بني حسن إلى
زمور الشلح وكان الناس يظنون أن السلطان يغزو في هذه السنة برابرة الجبال والصحراء
فخرج الأمر بخلاف ذلك
وفي هذه المدة وفد على السلطان أيده الله عدة باشدورات للآجناس مثل باشدور
الفرنسيس والإصبنيول والبرتغال وتكلم الفرنسيس في شأن بابور البر والتلغراف
وإجرائهما بالمغرب كما هما بسائر بلاد المعمور وزعم أن في ذلك نفعا كبيرا للمسلمين
والنصارى وهو الله عين الضرر وإنما النصارى أجربوا سائر البلاد فأرادوا أن يجربوا
هذا القطر السعيد الذي طهره الله من دنسهم نسأله سبحانه أن يكتب كيدهم ويحفظ
المسلمين من شرهم ثم نهض السلطان نصره الله من مكناسة في أواسط رجب في جمع وافر
وعدة كاملة فاجتاز ببلاد زمور الشلح فأظهروا له غاية الطاعة والخضوع وقدمت عليه
وفودهم من كل جانب رافعين أعلامهم وشارتهم وزينتهم التي يستعملونها في مواسمهم
وأعيادهم وأدوا له من المال والمؤن والضيافات ما استكثر الناس ذلك وتحدثوا به ثم
زحف إلى عرب السهول من أعمال سلا فأوقع بهم وشرد بهم من خلفهم وكتب أعزه الله في
العشرين من رمضان إلى الآفاق يعلمهم بما أتاح الله له من الظهور والنصر والسعادة
وخضوع قبائل البربر له وتباريهم في طاعته وخدمته وبذلهم من الجباية ما لم يكونوا
يبذلون القليل منه لغيره وذكر في كتابه أن ذلك كله بمحض فضل الله ومجاري السعادة
وحسن السياسة من غير ضرب ولا طعن ولا سفك دم حتى أن قبيلة بني حكم قد أظهروا بعض
الاعوجاج فقام إليهم إخوانهم من زمور فقوموا اعوجاجهم حتى فاؤوا إلى أمر الله وكفى
الله السلطان أمرهم ثم ذكر في كتابه أعزه الله أمر السهول وأنه بعد أن أوقع بهم
أمر بجمع فلهم ورأى استصلاح كلهم تأمين جلهم لعمارة بلادهم بهم رجاء نفع ما تقدم
من أدبهم
وفي ليلة الجمعة الرابع عشر من شعبان من السنة خسف القمر خسوفا
____________________
كليا بحيث ذهب نوره واختفى
شخصه حتى لم ير منه شيء وبقي كذلك نحو ساعتين ثم أخذ في التجلي شيئا فشيئا إلى أن
عاد إلى امتلائه وفي هذه المدة قلت فلوس النحاس بمراكش وأعمالها حتى كادت تنعدم
وذلك بسبب غلاء الريال الإفرنجي بمراكش ورخصه بفاس فكان صرفه بمراكش يومئذ بثلاث
وستين أوقية وصرفه بفاس بثلاث وخمسين أوقية فصار التجار يجلبون فلوس النحاس من
مراكش إلى فاس ويصرفونها بالريال فيربحون في كل ريال نحو مثقال وتمالؤوا على ذلك
وتوفرت دواعيهم عليه حتى قلت الفلوس بمراكش وتقاعد الناس عليها لما فيها من الربح
وتعطل معاش الضعفاء بذلك ولحق الناس ضرر كثير فكان الرجل يطوف بالبسيطة والريال في
الأسواق فلا يجد من يصرفه له ولا يتأتى له أن يشتري من ضروريات معاشه ما قيمته أقل
من بسيطة واتصل الخبر بالسلطان أعزه الله فكتب في الآفاق يأمر الناس برد صرف
الريال إلى الثلاثة مثاقيل وربع مثقال فامتثل الناس ذلك ونودي به في الأسواق
فانعكس الحال على التجار وتقاعدوا على الريال والبسيطة وفاضت الفلوس في الأسواق
حتى صارت معاملة الناس ليست إلا بها وحصل للتجار من الضرر في رخص الريال ما كان
حصل للضعفاء في قلة الفلوس لأن التجار حينئذ صاروا يبيعون سلعهم التي بذلوا فيها
الريال الغالي بالقراريط النحاسية التي صار صرف الريال فيها على النصف فأمسك الناس
سلعهم وامتنعوا من بيعها وتعطلت المرافق أو كادت فكتب السلطان ثانيا برد أسعار
السلع والأقوات على النصف مما كانت حتى تحصل المساواة بين الأثمان والمثمنات فنشأ
بذلك هرج كبير وضرر للناس في معاشهم وأبى الله إلا أن تعود السكة إلى حالتها التي
كانت عليها وقد بينا العلة في ذلك قبل هذا وأن السكك والأسعار لا تزال في الزيادة
ما دامت المخالطة مع الفرنج تكثر بكثرتها وتقل بقلتها
وفي يوم الأربعاء ثالث رمضان من السنة توفي عالم المغرب السيد المهدي بن الطالب
ابن سودة الفاسي كان علامة متقنا فصيحا عارفا بصناعة الدرس حسن الإيراد فيه بحيث
فاق أهل زمانه يقال إن له تآليف لكن لم
____________________
نقف على شيء منها رحمه الله ثم
عيد السلطان عيد الفطر من هذه السنة بزبيدة من بلاد زعير ولم يدخل رباط الفتح على
قربه منها ووفدت عليه هنالك قبائل المغرب وأهل الأمصار فشهدوا العيد معه وأجازهم
وكساهم على العادة ولما فرغ من أمر العيد عين عامل رباط الفتح وهو القائد أبو محمد
عبد السلام بن محمد السوسي وعين الحاج عبد الكريم بن أحمد بريشاء التطاوني والحاج
محمد بن عبد الرزاق ابن شقرون الفاسي للذهاب إلى مادريد دار ملك الإصبنيول بقصد
السفارة عنه إلى دولتهم والمكافأة لهم على مجيء باشدورهم حسبما مر التنبيه عليه
ففعلوا وعادوا بحيث أدركوا عيد الأضحى من السنة مع السلطان أعزه الله بمراكش ثم
نهض السلطان بعد عيد الفطر من زبيدة يؤم البلاد المراكشية فاجتاز بتادلا وسكن
قبائلها وأوقع ببني عمير وقبض منهم على ما يناهز أربعمائة مسجون سيقت في السلاسل
والأغلال إلى السجن وفر بنو موسى إلى رؤوس الجبال حتى استنزلهم السلطان على الأمان
ودخلوا في الطاعة والتزموا الخدمة ثم نهض السلطان أيده الله إلى مراكش فدخلها في
عشر ذي الحجة من السنة فكان بها عيد لم يعهد الناس مثله منذ قديم وكتب إلى الآفاق
يعلم الناس بما من الله به من النصر والتأييد والفتح والعز المديد وأقام السلطان
بمراكش في هذه المرة مدة طويلة إلى أن كان من أمره ما نذكره
ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائتين وألف فكانت هذه السنة من أشد السنين على المسلمين
قد تعددت فيها المصائب والكروب وتلونت فيها النوائب والخطوب لا أعادها الله عليهم
فكان فيها أولا غلاء الأسعار وكان منشأه وابتداؤه من تثقيف السكة في آخر السنة
الماضية ثم عقب ذلك انحباس المطر لم تنزل من السماء قطرة وأجيحت الناس وهلكت
الدواب والأنعام وعقب ذلك الجوع ثم الوباء على ثلاثة أصناف كانت أولا بالإسهال
والقيء في أوساط الناس بادية وحاضرة ثم كان الموت بالجوع في أهل البادية خاصة هلك
منهم الجم الغفير وكان إخوانهم يحفرون على من دفن منهم ليلا ويستلبونهم من أكفانهم
عثر بسلا على عدد منهم وأمر
____________________
السلطان أعزه الله عمال
الأمصار وأمناءها أن يرتبوا للناس من الأقوات ما ينتعشون به ففعلوا وبعد هذا كله
حدث الوباء بالحمى في أعيان الناس وأماثلهم فهلك منهم عدد كثير وفي هذه المسغبة مد
النصارى أيديهم إلى الرقيق فاشتروه وكان ابتداء ذلك أنهم كانوا يعاملون ضعفاء
المسلمين وصبيانهم بالصدقات والإرفاقات ثم تجاوزوا ذلك إلى شراء الرقيق منهم
والأمر لله وحده يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائتين وألف فكان في أوائلها موت الناس بالحمى كما قلنا
فمات في المحرم منها الوزير الأعظم أبو عمران موسى بن أحمد وكان شعلة ذكاء وتمثال
فطنة ودهاء غفر الله لنا وله واستوزر السلطان مكانه الفقيه الأخير أبا عبد الله
محمد بن العربي بن المختار بن عبد الملك الجامعي من بيت الوزارة وأهل العراقة فيها
ويبلغنا عنه أنه يحب أهل الخير ويلين جانبه للضعفاء والمساكين ويحب السلطان وينصح
له ويغار على جانبه المعظم وحماه المحترم ويتجافى عن الطمع الذي هو أصل كل مفسدة
في الدين والدنيا سدده الله وفي ظهر يوم الأحد عاشر صفر من السنة المذكورة توفي
شيخنا الفقيه العلامة القاضي سيدي أبو بكر ابن الفقيه العلامة القاضي سيدي محمد
عواد كان رحمه الله من أهل المشاركة في العلم والاعتناء به كثير الدرس كثير
التقييد ختمنا عليه رحمه الله عدة كتب كبار جعلها الله في ميزان حسناته منها صحيح
البخاري نحو عشر مرات وصحيح مسلم ثلاث مرات وشفاء القاضي عياض مرارا وكتاب الاكتفا
لأبي الربيع الكلاعي مرة وأخرى إلى غزوة خيبر وشمائل الترمذي مرتين بشرح أبي عبد
الله محمد بن قاسم جسوس وإحياء الغزالي رضي الله عنه وعوارف المعارف للسهروردي
وتآليف غيرها من كتب النحو والفقه والبيان والكلام وغير ذلك مما يطول ذكره
وبالجملة فقد انتفعنا عليه واستفدنا منه رحمه الله ونفعنا به وولي القضاء بعده
الفقيه العالم أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الجريري عرف بابن الفقيه من بيت العلم
والدين والصون وهو رحمه الله يتحرى المعدلة في أحكامه وينتهج صريح الشرع في جميع
أموره سدده الله وكلاه وتولى
____________________
الخطابة بالمسجد بعد شيخنا
المذكور شقيقه الفقيه أبو الحسن علي بن محمد عواد وهو مجيد في الخطابة ومن أهل
المروءة والدين والعلم وفقنا الله وإياه والمسلمين لما يحبه ويرضاه وفي هذه الأيام
استدعى السلطان أيده الله خديمه الأمين الأرضى السيد محمد بن الحاج محمد التازي
الرباطي إلى حضرته العالية بالله بمراكش فقدم عليه الأمين المذكور وأجل السلطان
مقدمه وأسند إليه أمر خراج المغرب ومراسيه ومستفاداتها وما يتبع ذلك من صوائرها
وفوض إليه في ذلك تفويضا تاما لعلمه بنصحه وأمانته وضبطه وهذا الرجل من أمثل أهل
المغرب وأصدقهم وأنصحهم للسلطان وأشدهم غيرة على الدين والوطن حتى لو كان في
الدولة عشرة رجال على شاكلته ومذهبه لكان يظن أن يكون لها بذلك النجاح التام نسأل
الله تعالى أن يصلح أمرها ويشيد بمنه عزها وفخرها وفي ربيع الثاني من السنة ورد
أمر السلطان أعزه الله على ولاة العدوتين أن يوجهوا عددا من أمنائهم وعدولهم
للخدمة السلطانية بالمراسي المغربية فقدموا عليه بمراكش وكان في جملتهم أخونا في
الله الفقيه العلامة الحافظ أبو محمد عبد الله بن الهاشمي بن خضراء السلاوي فقال
قصيدة في مدح السلطان نصره الله نصها
( لبيك لبيك يا خير السلاطين ** أدامك الله في عز وتمكين )
( دعوت عبدك فاستجاب مبتدرا ** وقد اناخ على الطير الميامين )
( يهدي إليك تحية مباركة ** أذكى وأطيب من مسك ونسرين )
( ممرغا وجنتيه فارحا جذلا ** إذا فاز منك بتخصيص وتعيين )
( مؤملا راجيا بلوغ مقصده ** مستبشرا برضى بالنجح مقرون )
( يا نجح سعيي ويا بشراي قد سعدت ** حالي وفزت بتقريب وتأمين )
( من مبلغ معشري أني أويت إلى ** ظل مديد يظلني ويؤويني )
( ظل الإله على عباده وكفى ** به كفيلا وذخرا للمساكين )
( رب السماح فما معن بن زائدة ** وأين من راحتيه نهر سيحون )
( لله من ملك جلت مآثره ** عن أن يحيط بها حصر بتدوين )
( دعا المعالي فانقادت ملبية ** يضيق عن وصفها بطن الدواوين )
____________________
( له السعادة قد ألقت أزمتها ** والفتح رائده في كل ما حين )
( وبشر طلعته يسر ذا حزن ** وأين ما حل كان خير ميمون )
( حامي الشريعة والرحمن ناصره ** ماضي العزيمة لا يرضى بتوهين )
( في كل قطر ثناء عنه منتشر ** أي انتشار يفوق مسك دارين )
( ساس العباد بتدبير ومعدلة ** وأحسن الأمر في الدنيا وفي الدين )
( وليس يعبأ بالدنيا وزينتها ** لكنه بين مفروض ومسنون )
( وطبق الأرض عدله ونعمته ** مجاله بين تسكين وتحسين )
( بسعده الغرب قد بدت محاسنه ** فجر ذيلا على بغداد والصين )
( وتاه مزدريا بكل مملكة ** يميس في حلل ذوات تلوين )
( نعم الإمام الهمام المرتضى حسن ** فخر الملوك سلالة السلاطين )
( السيد الملك ابن السيد الملك ابن ** السيد الملك المعروف باللين )
( بحر خضم مغيث سيد بطل ** بد الليوث وفرسان الميادين )
( دانت بطاعته العدا بأجمعها ** مذ البست ملبس الصغار والهون )
( وفاق من قبله حلما ومكرمة ** وسطوة بهرت أهل الأواوين )
( لا غرو إن نال ما فات الألى غبروا ** وشاد ما عجزوا عنه بتحصين )
( قد يدرك الآخر الشأو الذي قصرت ** عنه الأوائل في ماضي الأحايين )
( تبارك الله ما أسمى مفاخره ** كسبا وارثا من الشم العرانين )
( ولا ترى الغرس قد زكت أرومنه ** إلا أتى الفرع منه في أفانين )
( يا خير من أمه الراجي وأكرم من ** يثني عليه بمعرب وملحون )
( ويا ابن خير الأنام من نبوته ** له وآدم بين الماء والطين )
( ويا ملاذ الورى يا من سما كرما ** يا نعمة عظمت يا كنز مسكين )
( يا منبع الجود يا تاج الفخار ويا ** مأوى العفاة ويا سلوان محزون )
( يا من روى عن أبيه رفع سؤدده ** يا من أوامره إليه تدعوني )
( وفدت ملتمسا رضاك يا سندي ** وليس شيء سوى رضاك يرضيني )
( فأمنن علي بعطفة تصاحبني ** مدى الدهور وللعلى ترقيني )
( بقيت ما شئت في عز ومقدرة ** ودمت في نعم بحق جبرين )
____________________
ولما وقف السلطان أعزه الله على هذه القصيدة هزت من عطفه وأمر أن يسأل منشئها عن
مطلبه فاقترح أن يؤذن له في الإفتاء وأن يعطى ظهيرا بالتوقير والاحترام وأن ينعم
عليه بما يقتضي الاعتناء به فأنعم عليه السلطان أعزه الله بالإذن في الإفتاء
وبظهير الاحترام ونفذ له راتبا من أحباس جامع ابن يوسف إعانة له على الدرس به ثم
كان نهوض السلطان أيده الله من مراكش قاصدا بلاد الغرب غرة جمادى الأولى سنة ست
وتسعين ومائتين وألف فاجتاز في طريقه بتادلا وأناخ على قبيلة آيت أعتاب فأوقع بهم
في أوعارهم وأعز معاقلهم وأوكارهم وقطع منهم واحدا وعشرين رأسا ثم زحف إلى بني
موسى فأدوا الطاعة وقاموا بواجبها ثم سار محفوفا بالنصر واليمن إلى أن دنا من
مكناسة الزيتون فزحف إلى بني مطير وكان شررهم قد استطار في تلك النواحي كل مطير
فإنه لما سافر السلطان نصره الله عن مكناسة سنة أربع وتسعين كما مر زحف بنو مطير
هؤلاء إلى عرب دخيسة وأولاد نصير الذين أنزلهم السلطان بسايس وبوأهم إياه عوض مجاط
وأوقعوا بهم وقعة شنعاء وقد صبرت العرب في ذلك اليوم صبرا جميلا حتى أن جماعة منهم
قد عقلوا أنفسهم في حومة الحرب لئلا يفروا وقاتل إخوانهم دونهم حتى كثرهم البربر
فقبضوا عليهم باليد وضربوا أعناقهم وقتلوا منهم نحو مائتين وهلك من البربر مثل ذلك
أو أكثر ولما انهزمت العرب عمد بنو مطير إلى مجاط فأنزلوهم بسائس على ما كانوا
عليه قبل ثم انطلقوا في الطرقات بالعيث والإفساد فيها والنهب للمارة ولم يدخروا
شيئا من الشيطنة ليوم آخر وكثرت الشكايات بهم على السلطان وهو بمراكش فلما قدم
أعزه الله قدمته هذه لم يقدم شيئا على تأديبهم فنهض إلى رأس بلادهم ومزرعة فسادهم
آكراي والحاجب وغيرهما وتقرى آثارهم في تلك الجهات حتى جاوزت عساكره الحاجب بمسايف
كثيرة وتوغلت البربر في قنن الجبال فأمر السلطان أدام الله علاه بني مكيلد أن
يزحفوا إليهم من ناحية قبلة آكراي فزحفوا وانبثوا على حدودهم إلى غابة افقفاق التي
هي الحد بين بني مكيلد وآيت شغروسن وآيت يوسي فحصروهم من تلك الجهات ثم نزل
بإزائهم
____________________
آيت يوسي وآيت شغروسن وآيت
عياش وآيت والان من جهة الشمال وامتدوا امتدوا إلى حدود وادي النجاة وربط حذوهم من
جهة الغرب وراء وادي النجاة القائد العربي بن محمد الشرقي المدعو بابا محمد ووصل
جناحه عليهم قبائل الغرب والحوز وصار بنو مطير في مثل أفحوص القطاة وضاق بهم رحب
الفضاء وأيقنوا بالهلاك والبوار ولفظتهم السهول والأوعار ونهبت الجنود زروعهم
القائم والحصيد واستخرجت من مخزونهم الكثير والعتيد ولما انتهى الحال بهم إلى هذه
الغاية تطارحوا على السلطان بالشفاعات وأكثروا من التوسل بالذبائح والعارات فرق
لهم وأقلع عنهم بعد أن ألزمهم إعطاء خمسمائة مرهون ووظف عليهم مائة وخمسين ألف
ريال بعد أداء الحقوق ورد المظالم وشرط عليهم إخراج قبيلة مجاط من بين أظهرهم
وضمنهم طريق مكناسة وفاس وجعل العهدة فيها عليهم جريا على عادتهم القديمة من جعلهم
النزائل بها والحراس فالتزموا ذلك كله وأدوه وبعد ذلك نهض السلطان عنهم إلى مكناسة
فدخلها أواخر رجب الفرد من السنة واستمر بها إلى أن دخلت سنة سبع وتسعين ومائتين
وألف فنهض إلى فاس ولما احتل بها فرق الجيوش في النواحي لجباية الزكوات والأعشار
والوظائف المخزنية فانتهت السرايا والبعوث إلى آيت يزدق من برابرة الصحراء فأذعنوا
وأدوا ما كلفوا به من الزكوات والأعشار وغيرها وإلى آيت يوسي وغيرهم فأطاعوا
وأذعنوا إلا آيت حلى وهم بطن من آيت يوسي فإنهم انحرفوا عن عاملهم وأبوا من أداء
ما وظف عليهم فأوقع بهم جيش السلطان وقطعوا منهم عددا من الرؤوس وساقوا مثلها من
المساجين فعلقت الرؤوس بأسوار فاس وبعد ذلك أذعن آيت حلى للطاعة فقبلهم السلطان
أيده الله وألزمهم ولاية عاملهم الذي كانوا منحرفين عنه وكان ذلك في أواخر صفر من
السنة المذكورة ثم كان عيد المولد الكريم فاحتفل له السلطان على العادة وبعث إلى
حضرته صاحبنا الفقيه أبو محمد عبد الله بن خضراء بقصيدة ميلادية يقول فيها
( أمل المديح محبرا يا منشد ** وأعده تطريبا فذلك أحمد )
( هذا أوان مسرة وسعادة ** هذي الليالي الغر هذا الموعد )
____________________
( أو ما ترى علم البشارة لائحة ** أو ما تشاهد نورها يتردد )
( هذا زمان ظهور طلعة أحمد ** في عالم الأجساد هذا المولد )
( طوبى لمن يروي غريب حديثه ** متأدبا ويعيده ويردد )
( طوبى لمن يقضي حقوق مديحه ** ويجيده نظما بديعا ينشد )
( فمديح خير الخلق أعظم قربة ** لكنه في ذا الأوان مؤكد )
( يا ليلة ما كان أعظم قدرها ** مع فجرها طلع النبي محمد )
( فاسرد شمائله الحسان وما له ** من معجزات بالنبوة تشهد )
( واذكر عجائب مولد قرت به ** عين المحب وضاق منه الأحقد )
( واجعل دعاءك للإمام المرتضى ** إن الدعاء له لحق أوكد )
( واملأ بدر مديحه أسماع من ** حضروا لديه وضمهم ذا المشهد )
( ساس الرعية صادقا فعنت له ** أمم وقد كانت قديما تشرد )
( من كفه فاضت مواهب جمة ** فالكف منه للعفاة المورد )
( طود أتآد شامخ ذو همة ** علياء يقصر عن علاها الفرقد )
( ما جود حاتم طيىء ما حلم أحنف ** إن ذا لهو الحليم الأجود )
( أزكى الملوك أرومة وأجلهم ** قدرا وأسبقهم لأمر يحمد )
( باهى به الغرب الممالك فاغتدى ** منه يغار قريبها والأبعد ) ومن آخرها
( مولاي يا تاج الملوك وفخرهم ** فليهنك العيد الأغر الأسعد )
( لله موسم مولد لك عائد ** بمسرة موصولة تتجدد )
( لا زلت ممنوحا جلائل أنعم ** ما اهتز في روض بهي أملد )
( لا زلت محروسا بعين عناية ** ما رنم الحادي وحبر منشد )
وفي ربيع الثاني من سنة سبع وتسعين ومائتين وألف ورد كتاب السلطان أعزه الله على
قاضي سلا بتعيين صاحبنا الشريف الأديب فلكي العصر أبي العلاء إدريس بن محمد
الجعيدي السلاوي للذهاب إلى مراكش برسم القيام على إحصاء صائر السلطان بها بدلا عن
الفقيه أبي محمد عبد الله بن
____________________
خضراء فامتثل الشريف المذكور
وسافر في التاريخ المذكور ومدح جناب السلطان أسماه الله بهذه القصيدة التي يقول
فيها
( لبيك يا منقذي من لجة العدم ** سعيا على الجفن لا مشيا على القدم )
( فذا أوان سعود كنت أرصده ** وذي مناي كما في سابق القدم )
( فهو المرام وكل العز يعقبه ** ولا يحال بأني أحقر الخدم )
( قصدت أعتاب ملك شامخ بهج ** يقري الضيوف ويغني صاحب العدم )
( أنزلت رحلي بها وعندها أملي ** وهل يخيب نزيل الجود والكرم )
( شمرت عن ساعدي والأذن واعية ** فهاب أهل الحسام سطوة القلم )
( أرضى بذاك الذي أضاء مغربنا ** بعدله فغدا يميس في نعم )
( أزكى الأئمة شيمة وأرفعهم ** قدرا وأسبقهم لكل مغتنم )
( أميرنا الحسن المحمود سيرته ** تروع صولته الأسود في الأجم )
( نجل السلاطين قد أحيا مآثرهم ** ونال ما عجزت عنه ذوو الهمم )
( قد شاد للدولة الغراء مفخرها ** فساد عند ملوك العرب والعجم )
( تاج الملوك وفخرهم وسيدهم ** وخير من قد مضى في غابر الأمم )
( قد لاحظته السعود وهي في شرف ** وكل نحس عداه وهو عنه عم )
( النصر سابقه والسعد قائده ** والفتح يخدمه من جملة الخدم )
( والجود سيرته والحلم حليته ** والجد عادته فاحذر من الندم )
( ليث إذا ما أحس الحي سطوته ** ألقوا سلاحهم مخافة النقم )
( غيث إذا الأرض يوما مسها عطش ** غوث توسل به لبارىء النسم )
( مدير عالم مفكر فطن ** ومفحم باهر بأفصح الكلم )
( كل الفهوم له ألقت أزمتها ** ونوره يهتدي به لدى الظلم )
( بها يقاوم من بغى ويدمغه ** بها يدافع أهل الريب والتهم )
( كم دبر الروم من كر ومن حيل ** توجو النجاح بها والنجح في عقم )
( يرى بنور حجاه كل عاقبة ** وعين تدبيره للأمر لم تنم )
( فصل الخطاب حباه الله مكرمة ** وحكمة عظمت من أبدع الحكم )
( فاطلب رضاه ودم على محبته ** مدا الدهور وجانب داعي السأم )
____________________
( فهو المنى لذوي الحجا وبغيتهم ** وسيب يمناه مثل الزاخر العرم )
( يدني الأصول إلى نيل الوصول ويحيينا ** بنعمته كالأرض بالديم )
( ما زال يحيى بها بلاد مغربنا ** فاقرع بصدقك باب الجود تغتنم )
( واسلك سبيل الصفا تنل به شرفا ** واقبل نصيحة من حباك واستقم )
( يا غاية القصد إني راغب طرب ** مستمسك بجوار منك لم يضم )
( مولاي يا من مزاياه وأنعمه ** في الناس أشهر من نار على علم )
( مولاي أنت الذي تغني الضعيف إذا ** ما الدهر أفضى به لقبضة الهرم )
( بشراك إن الفرنج سوف يدركها ** منكم صغار به تداس بالقدم )
( فأنت ذو مدد وهم ذوو نكد ** وأنت ذو جذل وهم ذوو غمم )
( مولاي جد برضاك لي وخذ بيدي ** واحرس جنابي به من سائر الألم )
( واجعل ثياب الرضى سترا علي ولا ** يرى به حبل عروتي بمنفصم )
( فها أنا ذاك عند باب سيدنا ** أرجو قبولا ووصلا غير منصرم )
( أبقاك ربك في عز ومكرمة ** بالله أمرك نافذ على الأمم )
( أدامك الله منصور اللواء على ** كل الأعادي ولا برحت في نعم )
وفي آخر هذه السنة ورد كتاب السلطان أيده الله باستدعاء صاحبنا أبي محمد بن خضراء
المذكور آنفا لتوليته خطة القضاء بحضرة مراكش فامتثل ووفد على أمير المؤمنين أدام
الله علاه بحضرته السعيدة من فاس المحروسة بالله فولاه القضاء بمراكش وسار إليها
وهو الآن بها محمود السيرة حسن السريرة سدده الله وكلاه وقال في وفادته على الحضرة
الشريفة قصيدة يمدح بها الجناب المولوي ونصها
( لبيك دمت مؤيدا ومظفرا ** ولك الكمال كما تشاء موفرا )
( وافى خديمك أمرك العالي الذي ** في ضمنه إسعاده بين الورى )
( إذ خص دونهم بأشرف دعوة ** يا سعد من أضحى بها مستبشرا )
( فأجاب مبتدرا إجابة صادق ** لم يلهه أهل ولا حب الذرى )
( وطوى المراحل كي يحل بحضرة ** يلقى بها وجه الأماني مسفرا )
____________________
( فبدت له الدار المنيفة يا لها ** دارا أعز حمى وأبهى منظرا )
( ونحا الجناب المستجار بظله ** وأناخ فيه خاضعا ومعفرا )
( يهدي إليك تحية مختارة ** أذكى من المسك الذكي وأعطرا )
( ويمد كفيه بصدق داعيا ** لك بالبقاء مهنئا ومبشرا )
( ويجيد شكر مواهب أوليتها ** كرما وحق لمثلها أن يشكرا )
( ويعيد ذكر محاسن أوتيتها ** ويصوغ مدحك صوغ تبر أحمرا )
( ويروم إقبالا عليه بالرضى ** يا فوزه إن بالرضى هو بشرا )
( إن ناله نجحت له آماله ** ودنت مناه وارتقى واستبشرا )
( يا من يؤمل رفعة وسعادة ** يمم حمى المولى الهمام لتظفرا )
( ملك عظيم القدر جل كماله ** عن أن تعد خصاله أو تحصرا )
( ملك كريم الطبع عز مثاله ** خلقا كريما لم يضاه ومفخرا )
( ملك جزيل الفضل عم نواله ** كل الأنام وفاق غيثا ممطرا )
( ملك أفاض على الرعية خيره ** وأنامهم في ظله متبصرا )
( ملك جميل سياسة وسريرة ** ويدل ظاهره على ما أضمرا )
( ملك ترقى في سماء مكارم ** فغدا به أفق المكرم مقعرا )
( ملك رحيم خاشع متواضع ** ويرى اكتساب الحمد أربح متجرا )
( قرت به عين الخلافة واغتدى ** من سعده ذا القطر أنعم أزهرا )
( من أهل بيت المصطفى أكرم به ** نسبا شريفا ما أجل وأطهرا )
( جمع المفاخر مكسبا ووراثة ** وحوى مآثر حقها أن تؤثرا )
( ماضي العزيمة في الأمور مسدد ** في رأيه الميمون ليس مقصرا )
( قل للمحاول شأوه في مجده ** أو رفده أو حلمه أطرق كرا )
( هذا همام لا يشق غباره ** هذا همام لن يجارى إن جرى )
( مولاي يا أزكى الأئمة شيمة ** وافيت بابك أبتغي منك القرا )
( لا أبتغي إلا الرضى وكفى به ** فأنلني الحظ الجزيل الأوفرا )
( مولاي ما عندي إليك هدية ** إلا مديحك هاك منه جوهرا )
( نظمته فكرة مخلص متودد ** خذه إليك منظما ومحبرا )
____________________
( لا زلت في نعم تدوم ونصرة ** وسعادة لا زلت أنت الأكبرا )
( لا زلت في حلل العناية رافلا ** لا زلت في ملك كبير أبهرا )
واعلم أن الأمداح في جناب هذا الملك الجليل الشريف الأصيل كثيرة والقصائد المفصحة
عن علو قدره وشموخ مجده وفخره شهيرة خطيرة لا سيما لأصحابنا السلاويين ممن ذكرناه
منهم وممن لم نذكره ولولا خوف الإطالة لأثبتنا من ذلك ما يزرى بالحبر ويفصح
بالذكرى والعبر وفيما ذكرناه كفاية والله يجزي كلا بنيته وخلوص طويته
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائتين وألف فيها تجددت الشروط بين السلطان أعزه الله
وبين أجناس الفرنج في سبيل تأكيد المهادنة وجلب نفع التجارة وكان من جملتها أن
النصارى وأهل حمايتهم يلزمون بغرامة الوظائف المخزنية المرتبة على الأبواب كسائر
رعية السلطان وقدر ذلك الوظيف ستة بلايين لكل حمل وفي هذه المدة التي هي أواسط
السنة المذكورة أخذ السلطان أعزه الله في التأهب للحركة والنهوض من مكناسة الزيتون
قاصدا حضرة مراكش الحمراء فاحتلها في آخر السنة المذكورة وعيد بها عيد الأضحى
ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائتين وألف فيها تحرك السلطان أعزه الله لغزو بلاد السوس
الأقصى فأخذ في التأهب والاستعداد لذلك وأمر قبائل دكالة وتامسنا بحمل القمح
والشعير والتبن إلى مرسى الجديدة ومرسى الدار البيضاء ليحمل منهما في المراكب إلى
ساحل السوس الأقصى بقصد إرفاق الجيش وإعانته وكان السبب في ذلك أن جنس الإصبنيول
كان متشوفا لتملك بعض المراسي السوسية منذ انعقاد الهدنة معه عقب حرب تطاوين
وكثيرا ما كانت مراكبه الحربية والتجارية تتردد إلى تلك النواحي فيستهوي أهلها
بأسباب التجارة ونيل الأرباح فربما سكنوا إليه وربما نفروا منه وتكلم السلطان أعزه
الله مع كبرائهم في ذلك فاحتجوا بأن صلح تطاوين كان منعقدا على فتح بعض المراسي
السوسية وأنهم الآن قد عزموا على الأخذ بشرطهم
____________________
المذكور وإلا أفضى الحال إلى
ما لا يليق فرأى السلطان أعزه الله أن من الواجب أن ينهض إلى تلك البلاد ليباشر
أمرها بنفسه لا سيما وكان أهلها قد بعد عهدهم بإجراء الأحكام السلطانية فيما بينهم
على مقتضياتها فنهض إليها في رمضان من السنة المذكورة فانتهى منها إلى قرب وادي
نول ومهد أقطارها وولى على أهلها القضاة والعمال واتخذ هناك مرسى للوسق والوضع
تسمى آساكا وكتب في ذلك كتابا لولاة المغرب يقول فيه بعد الافتتاح أما بعد فإنا
لما نهضنا من مراكش بحول الله وقوته وسطوته الباهرة وصولته وجيوش الله المظفرة
موفورة وجنوده سبحانه مقطورة وأعلامها منشورة منصورة نهضة معتمد على مولاه متقلد
لما قذف في قلبه فأبداه متمسك بعروته الوثقى التي من استمسك بها بلغ مناه وانتهينا
بمعونة الله لمبدأ هذه الأقطار السوسية وامتطينا صهوتها وهي ذلولا في ربوع اليمن
ساعيه وبنود الله خافقة على مفارق الظفر وبذرى المجد سامية تواردت على حضرتنا
العالية بالله الوفود متناسقة متتابعة وانتظمت في سلك السمع والطاعة والخدمة
الجامعة فتسارعوا إلى ما إليه دعوا وتلقوه تلقي الظمآن فنهلوا وكرعوا وأوقدوا
لوفود كبرائهم وأعيانهم وأشياخهم مصباحا واستضاؤوا بضياء نور الله غدوا ورواحا
ومدوا أعناق الإذعان وبسطوا أيدي المسالمة والإبقاء عليهم والامتنان بعد ما كانت
قد بلغت منهم القلوب الحناجر وارتعدت فرائصهم من هيبة الله ثم اطمأن البر وشرق
الفاجر وانتهبت أجفان المراسم المخزنية التي عفت بعد نومتها فانظر إلى أثر رحمة
الله كيف يحيي الأرض بعد موتها وصرفنا إليهم عنان الترتيب بعد أن وطأنا لهم كنف
الترحيب فبوأنا من توسمنا فيه الأهلية للتولية على إخوانه مهادا وقلدناه أمرهم
جمعا وفرادى وضربنا للكل فيها على مقتضى السياسة بمعونة الله بسهم مصيب وأرعيناه
من مربع خدمتنا الشريفة المرعى الخصيب حتى وقع التمكن من أزمتهم وأجلسنا خاصتهم
وعمالهم على أسرتهم فاتصلت بهم المخزنية اتصال الأرواح بالأجساد واستنارت هذه
الأرجاء بنور الله استنارة عمت الحاضر والباد فأدوا من الطرف والهدايا ما فيه غنية
لمن ركب متن المزايا
____________________
مع كون البلاد لم تنكح بالمخزن
مدة من السنين تنيف على عدد الستين ولو لم ننل من هذ الفتوح الباهرة بفضل الله إلا
عشرا لكان في جنب من قدم عهده بالمخزنية كثرا ولكان ما عودنا سبحانه إلا الجميل إذ
هو المتصرف الغني القاهر القوي الكفيل وهو حسبنا ونعم الوكيل ثم ولينا عليهم من
القضاة من فيهم الكفاية لإقامة شرائع الدين ولم نأل جهدا في انتخابهم من أمثل
المقلدين علما بأن الشرع عليه المبنى وبه يعمر المغنى ويغزر الحس والمعنى ثم تطارح
شرفاؤهم ومرابطوهم على أعلى جنابنا بإقرارهم على عوائدهم وإبقائهم على أعرافهم
ومحاتدهم التي عندهم عليها ظهائر أسلافنا المقدسين أئمة المسلمين وأمراء المؤمنين
وكذا ظهائر من غبر من الملوك المتقدمين رضوان الله عليهم أجمعين فانتهجنا نهجهم
وسمكنا بحول الله أوجهم وساعدناهم فأقررنا وجددنا لكل ظهيره وأجريناه على ما أسس
له من المجد وجعلناه نجيه وسميره وحيث كان القصد الأهم من هذه الوجهة المباركة هو
حماية ذمار هؤلاء المسلمين والدفاع عن بلادهم ورقابهم وأموالهم مما طمحت إليه نفوس
المؤملين وكان ملاك ذلك هو فتح المرسى بوادي نول بمحل يسمى آساكا بأرض قبيلتي تكنة
وآيت باعمران إذ بفتحها يستقيم أمر الدفاع ويسهل على أهل ذلك المحل البيع
والابتياع يقينا بأن سد أبواب الضرر من الأمر المحتوم وإرشاد الضال في الشرع من
المقرر المعلوم تسابق القبيلتان المذكورتان اللتان تلقيتا جنابنا العالي حين عبرنا
وادي والغاس وقصدنا بجيوش الله بلادهم قصد طبيب آس فتلقوا ركابنا السعيد بمحل يعرف
بآمصاو قرب مرسى تسمى باكلو إذ هو الطرف الموالي لآيت باعمران المسمى بالساحل
وإليه شدت هذه المراحل وبين آمصاو ومحل المرسى الذي أريد فتحه مرحلتان وبثلاث عشرة
ساعة ميقاتية مقدرتان فأتوا بشرفائهم وفقهائهم ومرابطيهم وأعيانهم وأشياخهم
المالكين لقيادهم فقوبلوا بما قوبل به أمثالهم وناسب أن يتصف به حالهم ثم ولينا
عليهم عدة من العمال جعلناهم بحول الله عدة في تلك الأعمال وحينئذ وقع الكلام معهم
في شأن المرسى فامتثلوا ما أمرناهم به من فتحها امتثال
____________________
من أضحى يتقلب في رضا الله
ورسوله وأمسى ثم وجهنا معهم سرية من أعيان الجيش معتبرة ومعهم من الفقهاء
والمهندسين من يعتد بهم في رسم تلك المرسى وتخطيطها على نهج القواعد المقررة
والأعمال المحررة اقتضى المقام والحال تسبيقها رفقا بعباد الله واعتبارا بأن الله
سبحانه قد قضى الغرض ووهبه وأسداه وما تشاؤون إلا أن يشاء الله قل إن الفضل بيد
الله وما بكم من نعمة فمن الله ثم أقمنا في المحل المذكور لانتظارهم في تشييد
منارهم فإن انقلبوا بالمقصود فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وإن لم يشفوا
الغليل شددنا بحول الله لذلك المرسى عزمات الرحيل وقطعنا تلك المفازات هذا وقد
نصبنا قائدا من قواد جيشنا السعيد مختارا من ذوي الرأي السديد وأقمناه بقصبة
تيزنيت محل المخزن في القديم بقصد أن يكون إعانة لسائر عمال القطر السوسي من وادي
والغاس إلى منتهى وادي نول وكليميم يتفاوضون معه فيما عسى أن يعرض لهم من المهمات
ولا سيما إذا كان المخزن بعيدا عن هذه الشرفات بعد ما عرفناهم بأنا أقمناه مشرفا
للتفاوض معه وبصيرة على ما قصدنا من فتح ذلك المرسى إيثارا للنعمى ودفعا للبؤسى
ففرحوا بذلك فرح الظمآن الوارد والضال الواجد ووقع الإشهاد عليهم بكل ما فصلناه
وأبرم عقده معهم على نحو ما رسمناه فكان ذلك تمام العمل الذي قصدناه والمورد الذي
أردناه وانتحيناه والله تعالى يخلص في ذاته العمل ويجعل هذه الوجهة المباركة بفضله
ومنته من الجهاد المتقبل إنه جواد كريم متفضل غني حليم والسلام في متم شعبان عام
تسعة وتسعين ومائتين وألف انتهى كتاب السلطان أيده الله
وفي أواخر صفر سنة اثنتين وثلاثمائة وألف قام نواب الإصبنيول من مراسي المغرب
الأقصى بعد أن أقاموا بها نيفا وعشرين سنة لاستيفاء ما وقع الصلح عليه في حرب
تطاوين وكان جملة المال المصالح عليه عشرين مليونا من الريال الكبير وكان السلطان
سيدي محمد بن عبد الرحمن رحمه الله قد دفع منه عشرة ملايين معجلة والعشرة الباقية
هي التي استوفاها الإصبنيول في المدة المذكورة أقام أمناءه مع أمناء السلطان
بمراسي المغرب
____________________
فكان كل فريق يستوفي نصف
الداخل حتى تم العمل وفي صبيحة يوم الاثنين ثاني ربيع الثاني من السنة المذكورة
توفي الشيخ المنور الذاكر الخاشع أبو عبد الله محمد الهاشمي الطالبي من صلحاء أهل
سلا وكانت وفاته فجأة تعشى تلك الليلة عشاء خفيفا على عادته وصلى العشاء وتلا
أوراده منفردا في بيته كما كان يفعل ثم أصبح ميتا من غير أن يحضره أحد وكان قد
ناهز الثمانين وشاخ وابيضت لحيته ورأسه وحضر جنازته الجم الغفير من أهل العدوتين
سلا والرباط وازدحموا على نعشه وتناوبوه تبركا به وصلى عليه بالمسجد الأعظم من سلا
عقب صلاة الظهر ودفن بالبيت القبلي من داره وتردد الطلبة إلى قبره مدة لقراءة
القرآن والبردة وغيرها من الأمداح وعظم مصاب الناس بموته وكيف لا وقد كان مصباح
العدوتين بل وغيرهما في زمانه مع ما اكرمه الله تعالى به من التواضع وحسن الخلق
ولين الجانب مع الناس بحيث لم يعهد ذلك ولم يرو إلا عن السلف الصالح ومن سلك
سبيلهم من أمثالهم رضي الله عنهم وكان مجلسه مجلس علم وحياء ووعظ وذكر للأولياء
والصالحين وسيرهم وأخبارهم لا يسمع في مجلسه لغو ولا خوض في دنيا إنما هو سرد
الأحاديث وأخبار الصالحين ونحو ذلك محافظا على الصلوات وقيام الليل والأذكار وبذل
المعروف والأمر به ما أمكن وبالجملة فقد كان في سيرته وأخلاقه على مقتضى السنة
النبوية وآثار السلف الصالح رضي الله عنهم ونفعنا بمحبتهم ومحبة أمثالهم آمين وبعد
غروب الشمس من ليلة الجمعة فاتح ذي الحجة من السنة المذكورة توفي الفقيه العلامة
البارع أبو عبد الله محمد بن المدني كنون عالم فاس والمغرب وصلى عليه عقب صلاة
الجمعة بجامع الأندلس من فاس حرسها الله ودفن بالموضع المعروف بالقباب وكان رحمه
الله فقيها عالما متضلعا قولا بالحق صادعا به لا يهاب في ذلك كبيرا ولا صغيرا ولقد
امتحن في ذلك من قبل السلطان فلم يفل ذلك من غربه ولم يوه من صرامته ولا حده وله
عدة تآليف من أحسنها اختصار حاشية الرهوني على مختصر الشيخ خليل جدد الله عليه
الرحمات آمين
____________________
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثمائة وألف ففي ليلة العشرين من صفر منها وقع في النجوم
تناثر كبير ورمي شديد تشريقا وتغريبا وغير ذلك على خلاف المعتاد حتى لقد أذكرت قول
بشار بن برد الأعمى في وصف الحرب
( كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ** وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه )
ودام ذلك من وقت الغروب إلى نصف الليل وفي هذه الأيام كانت بين جيوش الرجل المنصور
القائم ببلاد الحبشة والنوبة المتسمي بالمهدي وبين جيش النجليز حروب عظيمة بعد
العهد بمثلها وكان للمهدي المذكور على النجليز غاية النصر والظهور ولولا أن التعرض
لخبره ليس من موضوع الكتاب لشرحت ذلك فإن أمره عجيب جدا وفي أواسط ربيع الأول من
السنة المذكورة ورد أمر السلطان أيده الله بتسريح ما كان موظفا على أبواب المدن
والقرى مما كانت تؤديه العامة على أحمال السلع والتجارات من المكوس وكتب في ذلك
إلى عامل سلا وقته بما نصه بعد الافتتاح والطابع المشتمل على اسم السلطان أيده
الله خديمنا الأرضى الحاج محمد بن سعيد السلاوي وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله
وبعد فقد شرح الله صدرنا لرفع العطاء في سائر الأبواب بالمدن والمراسي عن كل ما يمر
به عليها داخلا وخارجا وأصدرنا أمرنا الشريف لأمين المستفادات بثغر سلا المحروس
بالله كغيره بإنهاض المشترين لأبوابه الجالسين للقبض بها والمتصرفين في شؤونها
لحال سبيلهم وإعمال الحساب مع مشتريها المذكورين على ما تصرفوا فيه إلى يوم
الإنهاض وتوجيه القائمة بذلك لحضرتنا العالية بالله وغير الأبواب من الأماكن
المعطى فيها وعليها تبقى على حالها حتى ننظر في أمرها بحول الله وأعلمناك لتكون
على بال والسلام في ثاني ربيع الأول عام ثلاثة وثلاثمائة وألف ولما ورد هذا الكتاب
فرح الناس به ودعوا للسلطان بالنصر والتأييد من خالص نياتهم نطلب الله تعالى أن
يتمم نعمته على المسلمين بتسريح ما بقي موظفا من مبيعات الأسواق ويريح الناس من
شؤمه فإنه لا شيء أشأم من هذه المكوس على الدول نسأل الله العافية وفي عاشر جمادى
الثانية من
____________________
السنة المذكورة خرج السلطان
مولاي الحسن أيده الله من حضرة مراكش غازيا بلاد السوس الأقصى وما وراءها من عرب
معقل وسائر قبائل الصحراء لما بلغه من اضطراب الرعايا بتلك البلاد وخروجهم على
ولاتهم وأن بعض تجار النجليز قد تسور على مرسى بتلك السواحل يسمى طرفاية ووصل يده
في البيع والشراء ببعض القبائل الذين هناك وأراد أن يبني بالمحل المذكور فنهض
السلطان أيده الله لحسم مادة هذا الفساد ولما توسط بلاد السوس وأصلح أحوالها وثقف
أطرافها كتب كتابا إلى ولاة المغرب يقول فيه بعد الافتتاح ما نصه وبعد فإنا بحول
الله القوي المعين الفاتح لما اغلق كما يشاء في الحين أو بعد حين المؤيد بعنايته
عبده في كل مصدر ومورد وتحريك وتسكين كتبنا إليكم هذا يوم حلولنا وسط خدامنا قبائل
آيت باعمران بحبوحة مجامع قبائل السوس الأقصى ومناخ الأعيان نعلمكم بما واجهنا
المولى سبحانه في هذه الحركة المباركة من تعاقب المنن والأيادي وابتسام ثغر الزمان
بما أملناه من العلي المنان في هذا النادي لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وبيده
مقاليد السموات والأرض وهو الولي والنصير والسميع والبصير فكان من أمر هذه القبائل
السوسية والقساملة الساحلية أن تلقوا ركابنا السعيد أفواجا أفواجا ناشرين أعلام
الفرح تجاه جيوش الله المظفرة سري وإدلاجا حاشدين جموعهم مصحوبة بأعيانهم ومن يعتد
به من فقهائهم وشرفائهم ومرابطيهم من غير أن يكون جمعهم خداجا مستنتجين للفوز
بخاطرنا الشريف مقدمات الامتثال والسمع والطاعة لله ولرسوله استنتاجا مقدمين بين
يديهم هداياهم متترسين بأبنائهم وإخوانهم وسراياهم مادين أعناق الامتثال عاضين
بالنواجذ على الخدمة وصالح الأعمال فأتوا بمؤنتهم على قدر الاستطاعة ومهدوا لسلوك
الجيش السعيد ما صعب من طرقهم حتى صارت مسلوكة مشاعة ونحن في كل ذلك نعاملهم
بالبرور ونبسط البشر إليهم ونقابلهم بما ارتسم فيهم من السرور وها نحن بحول الله
جادون في الخلوص إلى المقصد الذي لأجله نقلنا هذه الخطوات واستعملنا
____________________
فيه الفكر وأسهرنا أحداق
الاعتبارات من صرف النظر لفتح مرسى آساكا مركز ساحل وادي نول ومجمع القبائل
العربية والبربرية ومنتهى ذلك المسكون ولا سيما من جاءت بينهما كالام والعنصر وهما
كالتوأمين لها يستمدان منها ويرضعان خلاصة لبن ثديها وهما القبيلتان الباعمرانية
والتكنة ومن تراكم عليهما وارتدف من قبائل العرب والبربر أو كان على حكمهما فيما
ارتضع وارتشف هذا إن كانت تصلح لذلك وتعود منفعتها على المسلمين والإسلام بعد
الاستخارة مرارا في اختطاطها وتتحقق بصلاحيتها كشفا واستبصارا ونتوخى في الإقدام
على ذلك بحول الله الأسد من الأنظار والمنهاج القويم الجاري على اعتراف هاتيك
الأقطار ثم إن كانت موافقة للأصلح أقدمنا وإن لم يظهر وجه المصلحة أعرضنا عنها إلى
غيرها قال الله العظيم { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } البقرة
106 وما آل إليه الأمر نعلمكم به ونشنف آذانكم بما سنح من سره فإنه لكل عمل نتيجة
بعد العنوان والله المولى المستعان والهادي إلى سواء السبيل وهو نعم المولى ونعم
الوكيل والسلام في تاسع شعبان الأبرك عام ثلاثة وثلاثمائة وألف ثم تجاوز السلطان
أيده الله قطر السوس الأقصى إلى صحراء كليميم فوفدت عليه هناك أشياخ عرب معقل
وكبراؤها خاضعين مطيعين وفرحوا بمقدم السلطان ووطئه بلادهم غاية الفرح حتى لقد
اتخذوا موضع خبائه الذي كان مضروبا به مزارا يتبركون به إلى الآن إذ لم يكونوا هم
ولا آباؤهم من قبل رأوا سلطانا بأرضهم ولا سمعوا بوصوله إليها وأجروا خيولهم
وإبلهم بمحضره ولعبوا عليها بالبارود إذ عادة عرب الصحراء أن يسابقوا على الإبل
كما يسابقون على الخيل ومن هناك وجه السلطان أيده الله كتيبة من جيشه إلى مرسى
طرفاية فغيروا ما كان أحدثه أولئك التجار من النجليز بها وطمسوا أعلامه وفر من كان
بها من النصارى إلى بابوراتهم التي كانت على ذلك الساحل وأمر أيده الله ببناء مرسى
آساكا واتخاذها محلا للوسق والوضع هناك ورتب الحامية والعسات بتلك
____________________
السواحل من آكادير إلى كليميم
وكتب بذلك كله إلى ولاة المغرب وقفل راجعا فأوقع في رجوعه بقبيلة ذاوتنان من أهل
السوس الأقصى ثم كانت عاقبة القضية النجليزية أن قام فهيا أرباب دولتهم وقعدوا
وخبوا في التشغيب على عادتهم ووضعوا حتى وقع الصلح على مال دفعه السلطان إليهم
تسكينا للأمر ودفعا لما هو أعظم والأمر لله وحده
وفي عشية يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من جمادى الثانية من السنة المذكورة غيمت
السماء غيما كثيفا أسود وذلك بمراكش ونواحيها وهبت ريح سوداء مع رعد قاصف ثم نزل
برد مثل البيض وأعظم وتهدمت بمراكش دور كثيرة ومات تحت الهدم خلق كثير نيفوا فيما
قيل على المائة وفر الناس إلى أضرحة الأولياء بعد أن ودعوا عشائرهم وأحبتهم ولزموا
الاستغفار والتضرع إلى الله تعالى حتى انجلى الغيم بعد نحو ساعتين والحمد لله على
حلمه بعد علمه وعلى عفوه بعد قدرته
وفي هذه السنة اشتد حرص أجناس الفرنج على تنقيص صاكة الأعشار وطلبوا من السلطان
أيده الله أن يحط عنهم من صاكة السلع الموسوقة التي كانت مسرحة من قبل وأن يسرح
لهم ما كان مثقفا قبل ذلك وأبدؤوا في ذلك وأعادوا وقاموا فيه وقعدوا فلما رأى
السلطان أيده الله شدة حرصهم وتكالبهم كتب كتابا إلى الرعية يستشيرهم فيه ويقول
بعد الافتتاح أما بعد فقد كان طلب منا بعض نواب الأجناس بطنجة على وجه الخير
والمحبة فيما سلف من أعوام تجديد شروط التجارة بقصد تسريح الأشياء الممنوعة الوسق
كالحبوب مطلقا والأنعام والبهائم ونحو ذلك ونقصان صاكة الخارج ذاكرين أن تسريح ذلك
فهي النفع لبيت المال وللرعية وهذه مدة من خمسة أعوام ونحن ندافع ونسدد ونقارب بما
يقتضيه الوقت والحال عملا بقول سيد الوجود صلى الله عليه وسلم في وقائع وقضايا
سددوا وقاربوا لإبقاء ما كان على ما كان إذ لا أقل من ذلك سيما في هذا الزمان الذي
أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله يأتي على الناس زمان يمر فيه الحي على قبر
الميت فيقول ليتني مكانك وحاشى لله
____________________
أن نتسبب للمسلمين في غلاء أو
نوافق لهم على ضرر وكفى بالله شهيدا وكيف والله سبحانه قد استرعانا عليهم والنبي
صلى الله عليه وسلم يقول كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته والآن قد اشتد حرصهم على
ذلك وتمالؤوا فيه على كلمة واحدة وصمموا عليه ولما أفضى الحال إلى ما افضى إليه
مما لا ينبغي ولم يمكن إلا الإعلان بذلك والمشاورة فيه مع من يعتد به استشرنا فيه
جميع من يشار إليه بالخير والفضل والدين والعقل والذكاء والدهاء موثوقا بديانته
وأمانته فلم يشيروا فيه بخير واتفقوا على أن لا مصلحة في تسريح ذلك أصلا وبينوا ما
يترتب على الكل من المفاسد ففصل الحيوان أول ما يترتب على تسريحه من الضرر غلاؤه
على ضعفاء الرعية بل يؤدي إلى فقده بالكلية من هذه الإيالة وأشياء أخر لا يفي بها
التعبير هنا وفصل النقص من الصاكة يترتب عليه ضعف المدخول الذي منه يقوم المخزن
الجيش والعسكر ومصالح الرعية وأعظمها تضعيف الرعية بالقبض منهم كتضعيف المكوس وضرب
الخراج عليها تقوية لبيت المال والجيوش وما أبداه بعض نواب الأجناس الراغبون في
تسريح ذلك من المصالح المالية العائدة على رعيتنا السعيدة على مقتضى ما ظهر لهم
ردوه بما يطول شرحه ولا يفي به قرطاس ولما رأينا الأمر استحال إلى أسوأ حال أو كاد
تداركنا هذا الخرق بالرفء وجنحنا إلى السلم امتثالا لقوله تعالى { وإن جنحوا للسلم
فاجنح لها } الأنفال 61 الآية وارتكبنا أخف الضررين فاقتضى نظرنا الشريف أن ظهر
لكم درءا لتلك المفاسد المقدم على جلب المصالح أن يساعدوا على تسريح أشياء بقصد
الاختبار من تلك الأمور الممنوعة الوسق كالقمح والشعير وذكران البقر والغنم والمعز
والحمير ثلاث سنين فقط على شرط الاختبار في المنفعة التي ذكروها في تسريحه الكل
بأعشاره المعلومة في مثله على أن يكون تسريح ذلك في وقت غلته مع وجود الخصب مدة من
ثلاثة أشهر وبعد مضيها يثقف ولا يسمع كلام من أحد في تسريحه ولا يقبل منه عذر فيه
وفي العام المقبل إذا كان صالحا يسرح ثلاثة أشهر بقصد الاختبار أيضا وإذا كان
ناقصا لا يقع اختبار بتسريحه المدة
____________________
المحدودة ويبقى مثقفا على أن
ذلك ليس بشرط وإنما هو على سبيل الاختبار حتى يظهر ولتعلموا أنكم لن تزالوا في سعة
فإن ظهر لكم ذلك فالأمر يبقى بحاله وإن ظهر لكم ما هو أسد وأحوط في الدفاع عن
المسلمين فأعلمونا به إذ ما أنا إلا واحد من المسلمين وأعلمناكم بما كان امتثالا
لقوله تعالى { لهم وشاورهم في } آل عمران 159 وإلا فما { ما عند الله خير من اللهو
ومن التجارة والله خير الرازقين } الجمعه 11 والسلام في سابع رجب الفرد الحرام عام
ثلاثة وثلاثمائة وألف انتهى كتاب السلطان أعزه الله ولما قرىء هذا الكتاب على خاصة
الناس وعامتهم أجابوا كلهم بأن الرأي ما رآه السلطان وفقه الله إلا ما كان من بعض
العامة الأغمار الذين لم يجربوا الأمور ولا اهتدوا إلى النظر في العواقب فإنهم
قالوا ما نعطيهم إلا السيف لكن لم يلتفت إليهم
وقد كتبت في هذه المسألة جوابا مطولا رأيت إثباته هنا خشية ضياعه ونصه اعلموا
حفظكم الله أن النظر في هذه النازلة يكون من وجوه أحدها من جهة الفقه والحكم
الشرعي ثانيها من جهة الرأي والسياسة وهذا لا بد أن يجري على ضابط الفقه أيضا
ثالثها من جهة الفهم عن الله تعالى والنظر في تصرفاته سبحانه في هذا الوجود بعين
الاعتبار فأما الوجه الأول فاعلم أن الفقهاء رضوان الله عليهم قد نصوا على أنه لا
يجوز بيع آلة الحرب من السلاح والكراع والسروج والترسة ونحو ذلك من الكفار
الحربيين لما يخشى من تقويهم بذلك على المسلمين هذه علة المنع وهي تفيد أمرين
أحدهما أن كل ماهو في معنى السلاح مما يفيدهم تقوية حكمه حكم السلاح في المنع وهو
منصوص عليه فلا نحتاج إلى التطويل بجلبه ثانيهما إن ما لا يتقوون به ويجوز بيعه
منهم كيف ما كان وعدم التقوي يكون بأحد وجهين إما يكون ذلك المبيع ليس من شأنه
التقوي به في الحرب كبعض المأكولات والملبوسات وغير ذلك مما هو مسرح لهم اليوم
وقبله بزمان وإما بكونه من شأنه أن يتقوى به فيها ولكنه عديم الفائدة بالنسبة إلى
حالهم اليوم لما تقرر من أنهم صاروا من القوة والاستعداد والتفنن في أنواع الآلات
الحربية إلى
____________________
حيث صارت آلاتنا عندهم هي
والحطب سواء والدليل على ذلك أنهم يبيعوننا أنواعا من الآلات الحربية نقضي العجب
من جودتها وإتقانها ومع ذلك فينقل لنا عنهم أنهم لا يبيعوننا منها إلا ما انعدمت
فائدته عندهم لكونهم ترقوا عنها إلى ما هو أجود منها واستنبطوا ما هو أتقن وأنفع
إلا فيما قل وعلى هذا فتنبغي اليوم الفتوى بجواز بيع سلاحنا منهم فضلا عن غيره
لجزمنا بأن ذلك لا يفيدهم في معنى التقوي شيئا وإن كانت هناك فائدة فهي كلا فائدة
هذا إذا لم نتوقع ضررا منهم عند امتناعنا من البيع فأما إذا كنا نتوقعه منهم كما
هو حالنا اليوم فيرتقي الحكم عن الجواز إلى ما هو فوقه وللضرورة أحكام تخصها فإن
قلت فقد أقدمت بهذا الكلام على ما لم يقدم عليه أحد قبلك في استجازتك بيع السلاح
من الحربيين قلت إنما ذكرت السلاح توطئة لما الكلام فيه حتى يؤخذ حكمه بالأحرى ثم
إني ما أقدمت عليه إلا بالقاعدة الفقهية لا مجازفة كما أقدم من قبلي على إجازة
بناء الكنائس بأرض المسلمين لأجل الضرورة الداعية إلى ذلك فقد أفتى علماء الأندلس
في القرن الخامس بالإذن للنصارى في إحداث الكنائس بأرض العنوة وبما اختطه المسلمون
من الأمصار مع أن الموجود في كتب السلف هو المنع وما ذلك إلا لأن الأحكام المرتبة
على الأعراف تختلف باختلاف تلك الأعراف قال القرافي في كتاب الأحكام في الفرق بين
الفتاوى والأحكام في السؤال التاسع والثلاثين ما نصه إن قلت ما الصحيح في هذه
الأحكام الواقعة في مذهب مالك والشافعي وغيرهما المرتبة على العادة والعرف اللذين
كانا حاصلين حالة جزم العلماء بهذه الأحكام فهل إذا تغيرت تلك العوائد وصارت تدل
على ضد ما كانت تدل عليه أولا فهل تبطل هذه الفتاوى المسطورة في الكتب ونفتي بما
تقتضيه هذه العوائد المتجددة أو يقال نحن مقلدون وما لنا أحداث شرع لعدم أهليتنا
للاجتهاد فنفتي بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين فالجواب إن إجراء هذه الأحكام
التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين بل كل ما
هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة
____________________
المتجددة وليس ذلك تجديدا
للاجتهاد من المقلد حتى تشترط فيه أهلية الاجتهاد بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء
وأجمعوا عليها فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد ا هـ ونحوه له في كتاب
الفروق ونقله عنه الأئمة واعتمدوه فبان من هذا أنه لا معنى للإفتاء اليوم بمنع بيع
شيء من الكفار أيا كان إلا المصحف والمسلم وما في معناهما لأنهم بلغوا اليوم من
القوة إلى الحد الذي لم يكن لأحد في ظن ولا حساب إلا أن يريد الله كفايتنا إياهم
بأمر من عنده فهو سبحانه ولي ذلك والقادر عليه وذلك ظننا به تعالى فإن قلت ههنا
مضرة أخرى تمنع من بيع ما طلبوه وهي التضييق على المسلمين في معايشهم ومرافقهم
لأنهم إذا أكبوا على شراء هذه الأشياء فلا بد أن تغلو وترتفع أثمانها وفي ذلك من
الإضرار بالمسلمين ما لا يخفى ولذا أفتى الأئمة بمنع الحكرة في كل ما للناس به
حاجة من طعام وأدام وعروض فإن كان في الحال سعة ولم يضر الاحتكار بالناس جاز في
الطعام وغيره قلت والناس اليوم والحمد لله في سعة وأما حصول التضييق عليهم في
معايشهم ومرافقهم بسبب تسريح وسق هذه الأشياء للنصارى فمشكوك فيه قد يحصل وقد لا
يحصل والشك مطروح في نظر الشرع بخلاف المضرة المتوقعة منهم عند المنع والمحاربة
فمقطوع بها نظرا للقرائن القوية والعادة فإن قلت بل الغالب حصول التضييق لا أنه
مشكوك فقط قلت ليس بغالب فقد رأيناهم منذ أزمان وهم مكبون على وسق أشياء كثيرة مثل
القطاني وغيرها ومع ذلك لم يحصل فيها والحمد لله إلا الرخاء بل الحق إن هذا من علم
الغيب لا ينبغي لأحد أن يحكم عليه بغلبة ولا قلة لأن الحكم في ذلك بالتخمين من باب
التخرص على الله تعالى في غيبه وهو حرام على أن النصارى إذا اشتروا منا شيئا من
ذلك فإنما يشترونه بالثمن الذي له بال ويعشرونه بالصاكة التي لها بال فتحصل
الأرباح للرعية وللسلطان وهذه منفعة مقطوع بها وأما الغلاء فمشكوك كما قلنا
والحاصل أن الأبحاث والتفريعات في هذا الموضوع كثيرة وفي هذه النبذة كفاية لمن
استبصر والله الموفق وأما الوجه الثاني وهو النظر من جهة الرأي والسياسة ولا بد
فيه من
____________________
الفقه أيضا إذ كل سياسة لا
تستضيء بنور الشرع فهي ضلال فنقول لا يخفى أن النصارى اليوم على غاية من القوة
والاستعداد والمسلمون لم الله شعثهم وجبر كسرهم على غاية من الضعف والاختلال وإذا
كان كذلك فكيف يسوغ في الرأي والسياسة بل وفي الشرع أيضا أن ينابذ الضعيف القوي أو
يحارب الأعزل الشاكي السلاح وكيف يستجاز في الطبع أن يصارع المقعد القائم على
رجليه أو يعقل في النظر أن تناطح الشاة الجماء الشاة القرناء كما قال الشاعر
( أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ** وقد حيل بين العير والنزوان )
فالمحاربة على هذا الوجه مما لم تقل به سياسة ولا وردت به شريعة فهذا رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو خير الخلق عند ربه وأكرمهم لديه قد صالح المشركين يوم
الحديبية صلحا قال فيه بعض كبار الصحابة رضوان الله عليهم نحن المسلمون فكيف نعطي
الدنية في ديننا ورد أبا جندل رضي الله عنه إلى المشركين وهو يرسف في قيوده ويصرخ
بأعلى صوته يا معشر المسلمين كيف أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني والقصة مشهورة
لا حاجة إلى التطويل بها وقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب أن
يعطي عيينة بن حصن والحارث بن عوف وهما قائدا غطفان ثلث تمر المدينة على أن يرجعا
بمن معهما عنه وعن أصحابه حتى رده عن ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله
عنهما حين أحسوا من أنفسهم بمقاومة العدو وأين نحن منهم دينا ويقينا وبصيرة وثباتا
في الحرب وقد أفتى الفقهاء رضوان الله عليهم لأجل هذا الوارد عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم بجواز عقد الهدنة مع الكفار على إعطاء المال انظر المختصر وغيره
فإذا كان إعطاء المال مجانا جائزا عند الضرورة فكيف لايجوز إعطاء بعض المتمولات
بأثمانها التي لها بال وأيضا فهؤلاء الأجناس إنما دعونا في ظاهر الأمر إلى السلم
لا إلى الحرب وغاية مطلوبهم في هذه النازلة الاستكثار من ضروب المتاجرة التي ينشأ
عنها في الغالب كثرة المازجة بيننا وبينهم ولعمري أن في اختلاطهم بنا وممازجتهم
لنا لمضرة وأي مضرة وما يعقلها إلا العالمون ولكنها تستصغر بالنسبة إلى
____________________
مضرة المحاربة وليس من الرأي
والسياسة أن يدعوك خصمك إلى السلم فتدعوه إلى الحرب ما وجدت إلى السلم سبيلا وهذا
هو الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية فإنه قال لأصحابه لما
اغتاظوا من ذلك الصلح وقال بعضهم والله ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصد هدينا
بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية
ويرغبوا إليكم من الأمان إلى آخر ما قاله صلى الله عليه وسلم وإلى هذا ونحوه
الإشارة بقوله تعالى { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله } الأنفال 61 ذكر
تعالى ذلك عقب قوله { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } الأنفال 60
إشارة إلى أن الصلح يجوز ولو كان بالمسلمين قوة واستعداد كما نبه عليه بعض
المفسرين فكيف ولا قوة ولا استعداد إلا أن يتداركنا الله بلطف من عنده واختلف
المفسرون هل الآية منسوخة أم لا والصحيح كما في الكشاف وغيره إن الأمر موقوف على
مايرى فيه الإمام مصلحة للإسلام وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا أو
يجابوا إلى الهدنة أبدا ا هـ وهذ مذهبنا ومذهب غيرنا ولذلك جازت عندنا الهدنة وإن
على مال كما مر فدلت الآية الكريمة على أن السلم أولى من الحرب وهذا هو المعلوم
المسلم شرعا وطبعا أما الشرع فهذه الآية وقصة الحديبية وقوله تعالى { والصلح خير }
النساء 128 وقوله { والفتنة أشد من القتل } البقرة 191 وهاتان الآيتان وإن نزلتا
في شيء خاص لكن يجوز الاستشهاد بهما فيما نحن فيه وفي غيره إذ هما من الكلام
الجامع الجاري مجرى المثل والحكمة وعن علي رضي الله عنه ما دعوت إلى المبارزة قط
وما دعاني أحد إليها إلا أجبته فقيل له في ذلك فقال الداعي إلى الحرب باغ والباغي
مصروع وأما الطبع فلا يحتاج إلى شاهد لأن كل عاقل يعلم أن السلم خير من الحرب وقد
قال شريك لمعاوية رضي الله عنهما في مقاولة جرت بينهما إنك ابن حرب والسلم خير من
الحرب وقال الحصين بن نمير السكوني لابن الزبير رضي الله عنه يوم مات يزيد اذهب
معي إلى الشام لأدعو الناس إلى بيعتك فلا يتخلف عنك أحد فقال ابن
____________________
الزبير أما دون أن أقتل بكل
واحد من أهل الحجاز عشرة من أهل الشام فلا وجعل ابن الزبير يجهر بذلك فقال له
الحصين أكلمك سرا وتكلمني جهرا وأدعوك إلى السلم والخلافة وتدعوني إلى الحرب
والمناجزة كذب من زعم أنك داهية العرب ا هـ فقد عاب عليه ذلك من جهة الرأي كما ترى
وأنشد صاحب الكشاف وغيره لدى قوله تعالى { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } الأنفال 61
قول العباس بن مرداس رضي الله عنه
( السلم تأخذ منها ما رضيت به ** والحرب يكفيك من أنفاسها جرع )
وفي كتاب الفتن من صحيح البخاري ما نصه كان السلف يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات
عند الفتن
( الحرب أول ما تكون فتية ** تسعى بزينتها لكل جهول )
( حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ** ولت عجوزا غير ذات حليل )
( شمطاء ينكسر لونها وتغيرت ** مكروهة للشم والتقبيل )
قال القسطلاني المراد أنهم يتمثلون بهذه الأبيات ليستحضروا ما شاهدوه وسمعوه من
حال الفتنة فإنهم يتذكرون بإنشادها ذلك فيصدهم عن الدخول فيها حتى لا يغتروا بظاهر
أمرها أولا ا هـ ولا شك أن هذه حالة العامة الأغمار الذين لم تضرسهم الحروب ولا
حنكتهم التجارب تجدهم إذا ظهرت مخايل فتنة نسأل الله العافية استشرفوا إليها
وتمنوا خوضها وربما تألى بعضهم وقال والله لئن حضرتها لأفعلن وأفعلن وقد قال عليه
الصلاة والسلام لا تتمنوا لقاء العدو وحال هذا الغمر المتألي هو الذي أفصح عنه
المتنبي بقوله
( وإذا ما خلا الجبان بأرض ** طلب الطعن وحده والنزالا )
فهذا القطر المغربي تدارك الله رمقه على ما ترى من غاية الضعف وقلة الاستعداد فلا
تنبغي لأهله المسارعة إلى الحرب مع العدو الكافر مع ما هو عليه من غاية الشوكة
والقوة وقد تقرر في علم الحكمة أن المعاندة والمدافعة إنما تحصل بين المتضادين
والمتماثلين ولا تحصل بين المتخالفين وحالنا اليوم مع العدو ليس من باب التضاد ولا
من باب التماثل وإنما هو من
____________________
باب التخالف فافهم بل لو فرضنا
أن أهل المغرب اليوم مماثلون للعدو في القوة والاستعداد لما كان ينبغي لهم ذلك
لأنه ليست العدة وحدها كافية في الحرب ولا كثرة الرجال والمقاتلة وحدها بالذي يغني
فيها شيئا بل لا بد مع ذلك من اجتماع الكلمة وكون الناس فيها على قلب رجل واحد ولا
بد مع ذلك من ضابط بجمعهم وقانون يسوسهم حتى تكون الجماعة كالبدن الواحد يقوم
جميعا ويقعد جميعا وهذا معنى ما صح في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم المؤمن
للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا فإن لم يكن ضابط وقانون فلا بد من نفاذ
البصيرة في الدين وقوة اليقين والألفة فيما بين المسلمين والغيرة على الوطن
والحريم وجودة الرأي والتمرس بالحروب ومكايد المشركين وأهل المغرب اليوم إلا
القليل منسلخون من هذا كله أو جله فقد توالت عليهم الأجيال في السلم والهدنة وبعد
عهد أسلافهم فضلا عنهم بالحرب وشدائدها ومعاناة الأعداء ومكايدها وإنما همهم
مأكولهم ومشروبهم وملبوسهم كما لا يخفى حتى لم يبق من هذه الحيثية فرق بينهم وبين
نسائهم وليس الخبر كالعيان فكيف يحسن في الرأي المسارعة إلى عقد الحرب مع أجناس
الفرنج وما مثلنا ومثلهم إلا كمثل طائرين أحدهما ذو جناحين يطير بهما حيث شاء
والآخر مقصوصهما واقع على الأرض لا يستطيع طيرانا ولا يهتدي إليه سبيلا فهل ترى
لهذا المقصوص الجناحين الذي هو لحم على وضم أن يحارب ذلك الذي يطير حيث شاء وهل
يكون في ذلك إن كان إلا هلاك هذا وسلامة ذاك بل وغنيمته فإن ذاك ينقر هذا متى وجد
فيه فرصة للنقر ويبعد عنه ويطير إذا لم يجدها وهكذا يستمر حاله معه حتى يثبته أو
يملكه بالكلية وليس في طوق هذا إلا أن يدفعه عن نفسه في بعض الأحيان إذا تأتى له
ذلك ولكن إلى متى فهكذا حالنا مع عدونا فإنه بقراصينه الحربية ذو أجنحة كثيرة فهو
علينا بالخيار يهجم علينا في ثغورنا إذا شاء ويبعد عنا فلا ندركه متى شاء وقصارانا
معه الدفع عن أنفسنا إذا اتفقت كلمتنا ولم تشغلنا غوغاء الأعراب من خلفنا وهيهات
فقد جرب ذلك مرارا فصح والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين كما قال عليه السلام والكلام
في
____________________
هذا الفصل أيضا طويل وفيما
أشرنا إليه كفاية فإن قلت أراك قد صيرت الجهاد الذي حث عليه الشرع ووعد عليه
بالثواب العظيم محض فتنة وقد زهدت الناس فيه وقطعت آمالهم منه بهذا الكلام قلت
أعلمت يا أخي ما هو الجهاد الذي حث عليه الشرع ووعد عليه بالثواب العظيم اعلم أن
الجهاد المذكور هو قتال أهل الشرك والطغيان على إعلاء كلمة الرحمن لينساقوا بذلك
إلى الدخول في دين الله طوعا أو كرها ولتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي
السفلى مع نفاذ البصيرة وخلوص النية والغيرة على دين الله وكل ذلك بشرط القوة
المكافئة أو القريبة منها ومهما اختل ركن أو شرط مما ذكرنا كان إلى الفتنة أقرب
منه إلى الجهاد بل نقول إن الجهاد الشرعي قد تعذر منذ أحقاب فكيف تطلبه اليوم فإن
كنت تسارع إلى الحرب لتدركه جهلا منك بحقيقة الأمر فاعلم أنك إنما تسارع إلى إيقاد
نار الفتنة وايجاد العدو السبيل عليك وإمكانه من ثغرتك وتسليطه على السبي لحريمك
ومالك ودمك نسأل الله العافية اللهم إلا أن تكون ممن اختارهم الله وأهلهم لذلك
وكتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه كما نسمع اليوم عن أمة الحبشة والنوبة
الذين يقاتلون عساكر النجليز على تخوم صعيد مصر وغيرها فقد تواتر النقل وصح الخبر
أن دولة النجليز قد بارت حيلها مع هؤلاء القوم وأنها وجهت إليهم العساكر من الديار
المصرية بكل قوة وشوكة مرة بعد أخرى فمحقوهم محقا مع أنهم لايقاتلونهم في الغالب
إلا بالحراب على عادة السودان في ذلك والنصر بيد الله وأما الوجه الثالث وهو الفهم
عن الله تعالى والنظر في تصرفاته سبحانه في هذا الوجود بعين الاعتبار فهذا حق
الكلام فيه أن يكون من أرباب البصائر المتنورة والقلوب المطهرة لا من أمثالنا
الذين أصبحوا على أنفسهم مسرفين وفي أودية الشهوات منهمكين تداركنا الله بلطفه
لكنا نقول وإن كان القول من باب الفضول إذا نظرنا ما عامل الله تعالى به عبده أمير
المؤمنين مولانا الحسن أيده الله وجدناه والحمد لله مصنوعا له مصحوبا بالعناية
الإلهية مكلوء بعين الرعاية الربانية تصحبه السعادة أينما توجه ويختار له في جميع
ما يحاوله ولا تنجلي مهماته إلا عن
____________________
ما يسر الصديق ويسوء العدو
فالحمد لله على ذلك حمدا كثيرا وهو مع ذلك جميل الظن بربه حسن العقيدة في توكله
عليه مفردا وجهته إليه حريصا على استصلاح رعيته ذا غيرة تامة على الدين والوطن
بحيث فاق بذلك وغيره من خصال الخير كثيرا من ملوك عشيرته الذين تقدموه وإذا كان
كذلك فمن الرأي الذي لا رأي فوقه أن نفوض إليه في ذلك ونثق بحسن رأيه ويمن نقيبته
ونجاوبه في هذه النازلة بأن الأمر في ذلك إليه لا إلى غيره إذ هو الذي طوقه الله
أمرنا وكلفه النظر لنا والنصح لدينا وإن كان لا بد من المشورة فليست إلا مع أهل
الحل والعقد وقد قال العلماء أهل الحل والعقد هم أهل العلم والدين والبصر بهذا
الأمر الخاص لأنه يشترط في كل من ولي النظر في أمر ما من الأمور العلم به فما
اختاره أمير المؤمنين اخترناه وما انشرح له صدره وأمضاه أمضيناه وكيف لا وما عوده
الله إلا خيرا { وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم } الآية وعسى أن يكون فيما طلبه
هؤلاء الأجناس فساد أمرهم وصلاح أمرنا وذلك الظن به تعالى وما هو عليه بعزيز فيكون
تدميرهم في تدبيرهم وقد استروحنا والحمد لله نسيم الفرج مما كنا فيه قبل اليوم تمم
الله علينا نعمته آمين وأيضا ففي التفويض في هذه النازلة ضرب من التبري من الحول
والقوة فحيث ساقت الأقدار إلينا هذا الأمر فينبغي أن نتلقاه بالرضى والتسليم بخلاف
ما إذا استعملنا فيه حيلتنا ورأينا فيكون من باب الدخول في التدبير وشتان ما بين
التفويض والتدبير والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته قاله وكتبه أحمد بن خالد الناصري كان الله له في عاشر شعبان سنة ثلاث
وثلاثمائة وألف ا هـ ثم إن الله تعالى لطف في هذه النازلة بمنه اللطيف الجميل وكفى
مؤنتها من ذلك المطلوب بشيء قليل وذلك أن السلطان أيده الله سرح لهم وسق القمح
والشعير ثلاث سنين ووضع عنهم من صاكتهما نحو الربع لا غير ولم يحصل والحمد لله
للرعية ضرر قط
ثم دخلت سنة أربع وثلاثمائة وألف فيها كتب السلطان مولاي الحسن أيده الله إلى
علماء فاس كتابا يستفتيهم في حكم التجارة في الأعشاب المرقدة
____________________
والمفسدة ويستشيرهم في تسريحها
وإمساكها ونص ذلك الكتاب بعد الافتتاح أحباءنا فقهاء فاس الأجلة المرضيين وعلماءها
المرشدين سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد فطالما قدمنا رجلا وأخرنا أخرى
في تسريح الصاكة التي هي الأعشاب المرقدة والمفسدة ونحوها وكان تسريحها من أهم
الأمور لدينا وآكد من تسريح غيرها كالأبواب لما نجده في نفسنا لها من الاستقباح
ونستقذره من أمرها في الغدو والرواح مع مزيد ثقلها على فؤادنا وكونها أحرج في
روعنا وكان أسلافنا قدسهم الله اجتهدوا في قطعها وحسم مادتها بكل ما أمكنهم وأفضى
بهم الحال إلى إحراقها مرارا ولما رأوا تمالؤ الرعاع والسفهاء والمقلين والمعدمين
عليها ارتكبوا فيها ما يحصل به التضييق على مستعمليها وتمنع منهم فلا يلحقها إلا
من عنده ما يشريها به وهم في أولئك الرعاع قليل مع النظر لما يحصل لبيت المال من
النفع الكثير فحيزت لجانب المخزن لتحصيل المقصدين المذكورين وحيث قذف الله في
قلبنا تسريحها ورفض درن ما يحصل منها تعارض لدينا أمران وهما إبقاؤها بيد المخزن
وتسريحها أما الأول فهو الذي فررنا منه وبينا علله وأما الثاني وهو التسريح
فمقتضاه إغراء الرعاع والسفهاء على استعمالها ولا سيما مع انحطاط ثمنها فيتناولها
القوي والضعيف فيصير ذلك ذريعة إلى إباحة ما كانوا ممنوعين منه فيتجاهرون به ولا
يخشون رقيبا ويأتي منها من بر النصارى ما لا حصر له فيعشر كسائر المعشرات المباحة
وتنبني على ذلك مفاسد هي أعظم من كونها محوزة وأشكل الأمر فلتبينوا المخلص من ذلك
بما تقتضيه قواعد الشريعة المطهرة حتى نخرج من عهدة ذلك فإن الخطب عظيم والسلام في
الثالث والعشرين من المحرم عام أربعة وثلاثمائة وألف انتهى كتاب السلطان أيده الله
وأجاب عنه علماء فاس وفرهم الله بجواب طويل مرجعه إلى حرمة استعمال تلك الأعشاب
والتجارة فيها حسبما عليه الجمهور من الفقهاء والصوفية رضوان الله عليهم ولما كان
المقصود الأهم للسلطان أيده الله هو الإشارة بكيفية التخلص من ورطة تسريحها
والحصول على السلامة مما عسى أن ينشأ عنه من المفاسد المرموز إليها في الكتاب
الشريف كتب
____________________
إلى بعض الأحبة من فاس بقصد
المذاكرة في النازلة فأجبته عنها بما نصه اعلم حفظك الله أن ما أجاب به سادتنا
فقهاء فاس من حرمتها ووجوب تخلي المخزن عن بيعها هو الحق الذي لا محيد عنه لما
اشتملت عليه تلك الأعشاب من المفاسد العديدة التي كل واحدة منها كافية في الجزم
بحرمتها وقد بينا شيئا من ذلك في كتاب الاستقصاء عند الكلام على حدوثها ودخولها
لبلاد المغرب أيام المنصور السعدي فلينظره من أراده فإنه كاف في هذا الباب وأما ما
أشار إليه الكتاب الشريف من أن مصلحة احتياز المخزن لها واستبداده ببيعها هي
التضييق على مستعمليها حتى لا يتناولها منهم إلا الملي بثمنها دون الفقير الخ فهي
مصلحة موهوبة أو معدومة لجزمنا بأن الحامل لمتعاطيها على استعمالها إنما هو التبذل
وقلة المروءة ورقة الديانة وخسة النفس وسقوط الهمة كما أن الوازع لمن لم يتعاطاها
إنما هو كمال المروءة ومتانة الديانة وشرف النفس وعلو الهمة لا فقدان ذلك الثمن
التافه كيف لا وهي لا يتعاطاها في الغالب إلا الفقراء المقلون فمصلحة التضييق
عليهم في ثمنها مفقودة كما ترى وإذا كان كذلك فالواجب شرعا ومروءة هو تنزيه منصب
الإمامة الإسلامية والخلافة النبوية التي هي أهم الخطط الدينية والمناصب الشرعية
عن التجارة فيها وتطهير تلك الساحة الكريمة من التلوث بأقذارها إذ لا يناسب ذلك
حال مطلق المسلمين فكيف بجناب أمير المؤمنين وأيضا ففي تناول ذلك الجناب لها
بالتجارة والاستبداد بالربح تهييج للعامة عليها وإغراء لهم بتعاطيها كما قرره
علماء فاس حفظهم الله ولو نهوا عنها لما انتهوا بل ربما احتجوا بأنها لو كانت حراما
ما احتازها المخزن واستبد بربحها ومن العادة المقررة أنه لا يمتثل إلا قول الممتثل
ولا يؤتمر إلا بأمر المؤتمر ولما انبرم الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم
وبين قريش يوم الحديبية وأمر أصحابه أن ينحروا ويحلقوا أمسكوا ولم يفعلوا حتى قال
ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد قام صلى الله عليه وسلم فدخل على أم سلمة فذكر
لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة رضي الله عنها يا نبي الله اخرج ثم لا تكلم
منهم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيلحقك فخرج صلى الله عليه وسلم
____________________
ولم يكلم أحدا منهم حتى نحر
بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كادوا
يقتتلون ا هـ فكذلك نقول هنا إن العامة مهما رأوا الأمير تعاطى شيئا تعاطوه وإذا
رأوه نبذ أمرا نبذوه لأن العامة مولعون بالاقتداء بالأمير ومن في معناه من الكبراء
حسبما قرره ابن خلدون في كتاب طبيعة العمران من تاريخه وأما التخوف من الإتيان بها
من بر النصارى واشتغالهم بالتجارة فيها بأسواق المسلمين ونصب الدكاكين لبيعها وما
ينشأ عن ذلك من المفاسد فهو مأمون بمقتضى الشروط المنعقدة بيننا وبينهم حسبما
تضمنه الشرط الثاني والخامس والسابع من شروط التجارة المنعقدة مع النجليز خصوصا
وغيره عموما سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف فقد صرح في الشرط الثاني منها بأن هذه
الأعشاب ونحوها من جملة الممنوعات دخولا وخروجا ثم نبه على ذلك أيضا في الخامس
والسابع فلينظره من أراده وإنما يكون لهم بعد تخلي السلطان عن بيعها أن يجلبوا
منها ما يحتاجونه لأنفسهم فقط لا أكثر منه كالخمر ألا ترى أنهم اليوم إنما يجلبون
منها ما يشربونه ويتبايعونه فيما بينهم ولا سبيل لهم إلى التجارة بها في أسواق
المسلمين ونصب الدكاكين لبيعها فكذلك هذه الأعشاب حكمها حكم الخمر حذو النعل
بالنعل وإذا امتنع المخزن من التجارة فيها مع بقاء منع الرعية منها أيضا فلا حجة
للنصارى في ذلك ولا متكلم لهم فيه إذ ليس في امتناع المخزن حينئذ إلا تأكيد المنع
الذي كان قبل وإنما تكون لهم الحجة إذا بيعت لبعض الرعايا دون بعض لأن حاصل شروط
التجارة الخمسة عشر ومدارها على أن رعايا الأجناس يكون لها ما لرعية الإيالة
المغربية من التحجير والإطلاق والتخصيص والتعميم بحيث لا يستبد أحد من الفريقين
بنوع من أنواع التجارة دون الآخر إلا ما للمخزن فيه غرض ومصلحة في تثقيفه من أشياء
مخصوصة فإنه يثقفه بنظره إذا شاء ويسرحه كذلك متى شاء وإن اقتضى نظره أن يستبد
بأرباح شيء من ذلك دون رعايا الفريقين فله ذلك وإنما الممنوع أن يبيح لرعيته دون
رعايا غيره أو يبيح لبعض الأجناس دون بعض هذا هو الممنوع في الشروط أما هو في خاصة
نفسه ومصلحة ملكه فله أن
____________________
يستبد من تلك الممنوعات بما
شاء هذا حاصل تلك الشروط وإن طالت وامتدت إذا علمت هذا فكيف يتخوف عند امتناع
السلطان من بيع تلك الأعشاب مع استمرار منع الرعية منها أيضا الإتيان بها من بر
النصارى ومتاجرتهم بها في أسواق المسلمين ونصب الدكاكين لها الخ هذا لا يتوهم نعم
يتخوف من ذلك إذا امتنع السلطان من بيعها وأذن للناس فيه وأطلق لهم يد التصرف به
وليس هذا مراد السلطان أيده الله وإن أوهمه لفظ الكتاب الشريف حيث قال طالما قدمنا
رجلا وأخرنا أخرى في تسريح الصاكة الخ ولعل الكاتب أو المملي عليه لم يحرر مراد
السلطان أيده الله فنسج الكتاب على ذلك المنوال وأوهم أن أمير المؤمنين أعزه الله
يريد أن يمتنع من بيع تلك الأعشاب تقذرا لها وتأففا منها ويبيحها لرعيته من
المسلمين وغيرهم ومعاذ الله أن يكون هذا مراده كيف وهو أيده الله من أخشى الملوك
وأتقاهم لله وأحبهم لرعاياه وأحدبهم عليها وأحرصهم على جلب النفع لها ودفع الضر عنها
وأعلمهم بقول جده عليه الصلاة والسلام لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يحب لأخيه المؤمن
ما يحب لنفسه فقد بان لك من هذا التقرير أن الواجب شرعا ومروءة هو المبادرة إلى
رفض التجارة في تلك الأعشاب وتطهير ساحة الإمامة الإسلامية من قذرها قال الله
تعالى في وصف رسوله صلوات الله عليه { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث }
الأعراف 157 وكما يجب على أمير المؤمنين أيده الله تطهير ساحة الخلافة منها يجب
عليه السعي في تطهير ساحة المسلمين أيضا منها لما أسلفناه آنفا فإن قلت أما ما
ذكرته من المبادرة إلى تطهير ساحة الخلافة منها فسهل متيسر إن شاء الله وأما تطهير
ساحة المسلمين منها فيظهر أنه في غاية الصعوبة لأن العامة إذا حملوا على رفضها كرة
وألجئوا إلى ترك استعمالها بالمرة ضاق بهم المتسع وساءت أخلاقهم وحاصوا حيصة حمر
الوحش وربما صدر منهم ما لا ينبغي من الإعلان بالخلاف والمجاهرة بالعصيان
ومن وصايا أرسطوطاليس الحكيم لتلميذه الإسكندر يا إسكندر تغافل عن العامة ما أمكن
ولا تلجئها أن تقول فيك إلا خيرا فإن العامة إذا قدرت
____________________
أن تقول قدرت أن تفعل أو كلاما
هذا معناه والحاصل أن فطم العامة عما اعتادوه من بعض الجهالات وصرفهم عما مرنوا
عليه من بعض الضلالات في غاية الصعوبة ولا يتيسر ذلك إلا لمن هيأه الله له من نبي
مرسل أو ولي كامل أو إمام عادل وإذا كان صرف العامة عن هذه المفسدة التي اعتادوها
ونشؤوا عليها جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن يؤدي إلى الهرج والخلاف جزما أو ظنا
فالواجب هو تركهم على ما هم عليه لأن تغيير المنكر له شروط منها أن لا يؤدي إلى
منكر أعظم كما هو مقرر في الأصول والفروع
قلنا كل ما قررته في هذا السؤال حق لا محيد عنه ولكن نحن لا نقول إن أمير المؤمنين
أيده الله يحمل العامة على رفضها كرة ويلجئهم إلى تركها بالمرة بل يسلك معهم في
ذلك سبيل التدريج كما سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الخمر على العرب
فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم والعرب من أعشق الأمم للخمر وأشدهم
بها ولوعا وأكثرهم لها حبا حتى كانت شقيقة روحهم ومغناطيس أنسهم قد اتخذوا لها
المجالس الحفيلة واختاروا لها القينات الجميلة وضربوا عليها بالمعازف والدفوف
وحكموا لها على غيرها من مألوفاتها بغاية الشفوف حتى نسبوا بها في أشعارهم وتوجوا
بها بنات أفكارهم وبالجملة فلا يؤثر عن أمة من محبة الخمر ومدحها ما أثر عن العرب
فلذلك لما انصرفت عناية الشرع الكريم إلى تحريمها كان ذلك على سبيل التدريج كما هو
معلوم في الكتاب والسنة حتى تم مراد الله ورسوله من العرب فرفضوها بالكلية وسماها
الشارع أم الخبائث زيادة في التنفير منها وما حرمت آلات اللهو إلا من أجلها
ومبالغة في تحريمها إذ هي وسيلة إليها كما حققه الغزالي رحمه الله في كتاب السماع
من الإحياء وفي تفسير الخازن بعد سرده كيفية التحريم ما نصه والحكمة في وقوع
التحريم على هذا الترتيب أن الله تعالى علم أن القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر
وكان انتفاعهم بذلك كثيرا فعلم أنه لو منعهم من الخمر دفعة واحدة لشق عليهم فلا
جرم استعمل هذا التدريج وهذا الرفق قال أنس رضي الله عنه حرمت الخمر ولم يكن للعرب
يومئذ عيش أعجب منها وما
____________________
حرم عليهم شيء أشد عليهم من
الخمر ا هـ إذا علمت هذا فنقول كذلك ينبغي لأمير المؤمنين أيده الله أن يسعى في
تطهير رعيته من خبث هذه الأعشاب التي لا شيء أخبث منها كما أوضحته في كتاب
الاستقصاء ويسلك معهم فيها سبيل التدريج صارفا همته إليه ومستعينا بالله ومتوكلا
في ذلك عليه فإنه لا يصعب ذلك عليه إن شاء الله
( إذا كان عون الله للمرء ناصرا ** تهيأ له من كل صعب مراده )
وقال البوصيري لسيد الوجود صلى الله عليه وسلم أقول ولأمير المؤمنين من حال جده
قسط والحمد لله
( كل أمر تعنى به تغلب الأعيان ** فيه ويعجب البصراء )
وكيفية التدريج في ذلك أن يأمر أيده الله علماء المجالس وخطباء المنابر ووعاظ
الكراسي بالتواطىء على ذم تلك الأعشاب وتقبيحها في نفوس العامة وإبداء معايبها لهم
وشرح مفاسدها لديهم والتغليظ في ذلك بأبلغ ما يمكن ومن قدر على تأليف ألفه أو شعر
نظمه أو رسالة أنشأها ويستمرون على ذلك ثلاثة أشهر أو أربعة أو أكثر من ذلك فإن
ذلك لا بد أن يؤثر في نفوس العامة بعض التأثير فإن الهمم إذا تواطأت على شيء أثرت
فيه بعون الله لا سيما همم أهل الخير وفي الحديث يد الله مع الجماعة ثم بعد مضي
هذه المدة وتقرر قبحها في نفوس العامة يكتب أمير المؤمنين أيده الله إلى قضاته
ويأمرهم بتفقد الشهود وأئمة المساجد فمن عثروا عليه أنه يستعمل شيئا من تلك
الخبائث أسقطوا شهادته وحظروا إمامته وأن لا يقبلوه ولو في اللفيف ويوالي الكتابة
والاعتناء بذلك مدة مثل الأولى أو أكثر فيزداد قبحها في نفوس العامة وتعزف نفوس
كثير منهم عنها ثم بعد هذا كله يكتب لولاة الأمصار وعمال البوادي أن يتقدموا إلى
رعاياهم بمنع ازدراعها وادخار شيء منها أو التجارة فيه بوجه من الوجوه فإذا تم هذا
الغرض على هذا الوجه تخلى هو حينئذ عن بيعها وأمر بإحراق باقيها وسد حاناتها
المسماة في عرفنا بالقهاوي ويمنع الناس من استعمالها في المجامع العامة كالأسواق
ونحوها ويشدد في ذلك ويعلن بالنداء في جميع الإيالة المغربية بأن حكم هذه
____________________
الأعشاب حكم الخمر فكما لا
يتجاهر بالخمر في الأسواق ونحوها كذلك لا يتجاهر باستعمال هذه الأعشاب فيها ومن
فعل ذلك أدب أدبا يليق به ويرتدع به غيره فهذا أقصى ما يفعله السلطان والتوفيق بعد
ذلك بيد الله وإذا تم هذا العمل في نحو ثلاث سنين فهو قريب وإذا يسر الله ذلك كان
فيه بشرى للمسلمين وعنوانا لهم على تجديد دينهم ولعمري ما كان أمر الخمر في العرب
إلا أرسخ من أمر هذه الأعشاب في الناس اليوم بكثير وأن الشبهة كانت فيها أقوى منها
في هذه وذلك مظنة سهولة زوالها وتطهير البلاد والعباد منها وما ذلك على الله بعزيز
قاله وكتبه أحمد بن خالد الناصري لطف الله به في خامس عشر ربيع الثاني سنة أربع
وثلاثمائة وألف
ثم إن السلطان أيده الله رفض التجارة فيها وأحرق ما كان محوزا لجانب المخزن منها
ومنع تجار الأجناس من جلبها إلى قطر المغرب إلا القدر الذي يستعملونه في خاصة
أنفسهم منها بشرط تعشيره وقصر نزوله على مرسى طنجة دون سائر المراسي المغربية
والحال على ذلك لهذا العهد
ولما دخلت سنة خمس وثلاثمائة وألف غزا السلطان مولاي الحسن أيده الله آيت ومالو من
برابرة فازاز وهم بطن من صنهاجة يشتمل على أفخاذ كثيرة مثل ظيان وبني مكيلد
وشقيرين وآيت سخمان وآيت يسري وغيرهم أمم لا يحصيهم إلا خالقهم قد عمروا جبال
فازاز وملؤوا قننها وتحصنوا بأوعارها منذ تملك البربر المغرب قبل الإسلام بأعصار
طويلة فلما كانت السنة المذكورة خرج السلطان من مكناسة الزيتون عاشر رمضان منها
بقصد غزو هذه القبائل العاصية وتدويخ بلادها إذ لم تكن تبذل الطاعة إلا للواحد بعد
الواحد من ملوك دول المغرب في الأعصار المتراخية حسبما يعلم مما أسلفناه في هذا
الديوان من أخبارهم وأخبار غيرهم فانتهى السلطان إلى تلك الجبال ودوخها ثم إلى
قصبة آدخسان التي بناها المولى إسماعيل رحمه الله فوفد عليه هناك جل تلك القبائل
وبذلوا الطاعة وأظهروا الخضوع وبذلوا المؤن والأنزال للجيش والهدايا للسلطان إلا
ما كان من آيت سخمان فإنهم أظهروا الطاعة أولا كغيرهم وطلبوا من السلطان أن يبعث
معهم طائفة من
____________________
الجيش ليدفعوا لهم المؤن وما وظف عليهم من الهدايا والأنزال فأرسل معهم السلطان مائتي فارس وعقد عليهم لابن عمه الشريف الفاضل الناسك مولاي سرور بن إدريس بن سليمان وجده سليمان هذا هو أحد ملوك هذه الدولة العلوية حسبما تقدم فلما توسطوا حلة آيت سخمان مع العشي تناجوا فيما بينهم والشيطان لا يفارقهم فاتفقوا على الغدر بأصحاب السلطان وفرقوهم على مداشرهم وحللهم فلما كان وقت العشاء الأخيرة أظهروا علامة بينهم وسعت كل طائفة إلى من عندها من أصحاب السلطان فأوقعوا بهم فقتلوا منهم نحو العشرين على ما قيل وأفلت الباقون بجريعاء الذقن وكان فيمن قتل منهم كبيرهم الشريف مولاي سرور المذكور وكان من خيار عشيرته رحمة الله عليه رموه برصاصة وطعنوه بتفالة وكانت هذه الفعلة الشنعاء بإشارة كبيرهم علي بن المكي من بقية آل مهاوش الذين تقدم الخبر عنهم في دولة السلطان مولاي سليمان رحمه الله ثم أسروا من ليلتهم تلك فلم يصبحوا إلا بآيت حديدو وآيت مرغاد وغيرهما من قبائل البربر وتفرقوا شذر مذر وبقي منهم نفر يسير على ما قيل فقبض عليهم من الغد وضربت أعناقهم وقال بعض من حضر الوقعة إنهم لما فعلوا فعلتهم هربوا من تحت الليل وتركوا زروعهم وأمتعتهم في مداشرهم ولما انتهى الخبر إلى السلطان بعث في طلبهم طائفة من عسكره وضم إليهم خيل شقيرين إخوانهم وكانوا راكبين مع السلطان مظهرين للطاعة فانتهبوا أمتعتهم وانتسفوا رزوعهم وهدموا أبنيتهم وحرقوا بيوتهم وأبلغوا في النكاية وتحامت خيل شقيرين ذلك إب